تفسير سورة البلد

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة البلد من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

هذا قسم من الله تبارك وتعالى بمكة ( أُم القرى ) في حال كون الساكن فيها حلالاً، لينبّه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها، قال مجاهد :﴿ لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد ﴾ لا، رد عليهم، أقسم بهذا البلد، وقال ابن عباس :﴿ لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد ﴾ يعني مكة ﴿ وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد ﴾ قال : أنت يا محمد يحل لك أن تقاتل به، وقال مجاهد : ما أصبت فيه فهو حلال لك، وقال الحسن البصري : أحلها الله له ساعة من نهار، وهذا المعنى قد ورد به الحديث المتفق على صحته :« إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب » وفي لفظ آخر :« فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم »، وقوله تعالى :﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾ قال ابن عباس : الوالد الذي يلد ﴿ وَمَا وَلَدَ ﴾ العاقر الذي لا يولد له، وقال مجاهد وقتادة والضحّاك : يعني بالوالد آدم ﴿ وَمَا وَلَدَ ﴾ ولده، وهذا الذي ذهب إليه مجاهد وأصحابه حسن قوي، لأنه تعالى لما أقسم بأُم القرى وهي المساكن، أقسم بعده بالساكن، وهو ( آدم ) أبو البشر وولده، واختار ابن جرير أنه عام في كل ولد وولده وهو محتمل أيضاً، وقوله تعالى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ ﴾ روي عن ابن مسعود وابن عباس : يعني منتصباً، زاد ابن عباس : منتصباً في بطن أمه، والكبد : الاستواء والاستقامة، ومعنى هذا القول : لقد خلقناه سوياً مستقيماً، كقوله تعالى :﴿ الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ ﴾ [ الانفطار : ٧-٨ ]، وكقوله تعالى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [ التين : ٤ ] وقال ابن عباس :﴿ فِي كَبَدٍ ﴾ في شدة خلق، ألم ترى إليه وذكر مولده ونبات أسنانه، وقال مجاهد :﴿ فِي كَبَدٍ ﴾ نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، يكبد في الخلق، وهو كقوله تعالى :﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ﴾ [ الأحقاف : ١٥ ] فهو يكابد ذلك، وقال سعيد بن جبير :﴿ فِي كَبَدٍ ﴾ في شدة وطلب معيشة، وقال قتادة : في مشقة، وقال الحسن : يكابد أمر الدنيا وأمر من الآخرة، وفي رواية : يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة، واختبار ابن جرير أن المراد بذلك مكابدة الأمور ومشاقها.
وقال تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾ قال الحسن البصري : يعني يأخذ ماله، وقال قتادة : يظن أن لن يسأل عن هذا المال من أين اكتسبه وأين أنفقه، وقال السدي :﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾ قال : الله عزَّ وجلَّ يظن أن لن يقدر عليه ربه، وقوله تعالى :﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً ﴾ أي يقول ابن آدم : أنفقت ﴿ مَالاً لُّبَداً ﴾ أي كثيراً قاله مجاهد والحسن، ﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾ قال مجاهد : أي أيحسب أن لم يره الله عزَّ وجلَّ، وكذا قال غيره من السلف، وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ﴾ أي يبصر بهما ﴿ وَلِسَاناً ﴾ أي ينطق به فيعبر عما في ضميره ﴿ وَشَفَتَيْنِ ﴾ يستعين بهما على الكلام، وأكل الطعام، وجمالاً لوجهه وفمه.
2706
وقد روى الحافظ ابن عساكر عن مكحول قال : قال النبي ﷺ :« يقول الله تعالى : يا ابن آدم، قد أنعمت عليك نعماً عظاماً، لا تحصي عددها ولا تطيق شكرها، وإن مما أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما، وجعلت لهما غطاء، فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك، وإن رأيت ما حرمت عليك، فأطبق عليهما غطاءهما، وجعلت لك لساناً وجعلت له غلافاً، فانطق بما أمرتك، وأحللت لك فإن عرض عليك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك، وجعلت لك فرجاً وجعلت لك ستراً، فأصب بفرجك ما احللت لك، فإن عرض عليك ما حرمت عليك فأرخ عليك سترك، يا ابن آدم إنك لا تحمل سخطي ولا تطيق انتقامي »، ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾ : الطريقين، قال ابن مسعود : الخير والشر، وعن أبي رجاء قال :« سمعت الحسن يقول :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾ قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله علي وسلم كان يقول :» يا أيها الناس إنهما النجدان : نجد الخير، ونجد الشر، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير «، وقال ابن عباس :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾ قال : الثديين، قال ابن جرير : والصواب القول الأول، نظير هذه الآية قوله تعالى :﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٣ ].
2707
روى ابن جرير عن ابن عمر في قوله تعالى :﴿ فَلاَ اقتحم ﴾ أي دخل ﴿ العقبة ﴾ قال : جبل في جهنم، وقال كعب الأحبار، هو سبعون درجة في جهنم، وقال الحسن البصري : عقبة في جهنم، وقال قتادة : إنها عقبة قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة ﴾ ؟ ثم أخبر تعالى عن اقتحامها فقال :﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ ﴾، وقال ابن زيد :﴿ فَلاَ اقتحم العقبة ﴾ أي أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير، ثم بينها فقال تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة * فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾، عن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« » من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب - إو عضو - منها إرباً منه من النار حتى إنه ليعتق باليد اليد، وبالرجل الرجل، وبالفرج الفرج «، فقال علي بن الحسين : أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال : سعيد : نعم، فقال علي بن الحسين لغلام له أفره غلمانه، ادع مطرفاً، فلما قام بين يديه، قال : اذهب فأنت حر لوجه الله » وعند مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين بن زيد العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم، وعن عمرو بن عبسة أن النبي ﷺ قال :« من بنى مسجداً ليذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة، ومن أعتق نفساً مسلمة كانت فديته من جهنم، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة » وفي الحديث :« من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ به العدو أصاب أو أخطأ كان له عتق رقبة، ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار، و من أعتق زوجين في سبيل الله فإن للجنة ثمانية أبواب يدخله الله من أي باب شاء منها » وهذه أسانيد جيدة قوية ولله الحمد.
وقوله تعالى :﴿ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴾ قال ابن عباس : ذي مجاعة، والسغب : هو الجوع، وقال النخعي : في يوم الطعامُ فيه عزيز، وقال قتادة : في يوم مشتهى فيه الطعام، وقوله تعالى :﴿ يَتِيماً ﴾ أي أطعم في مثل هذا اليوم يتيماً ﴿ ذَا مَقْرَبَةٍ ﴾ أي ذا قرابة منه، ما جاء في الحديث الصحيح :« الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان، صدقة وصلة » وقوله تعالى :﴿ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ أي فقيراً مدقعاً لا صقاً بالتراب، وهو الدقعاء أيضاً، قال ابن عباس : ذا متربة هو المطروح في الطريق، الذي لا بيبت له ولا شيء يقيه من التراب، وفي رواية : هو الذي لصق بالدقعاء من الفقر والحاجة ليس له شيء، وقال عكرمة : هو الفقير المدين المحتاج، وقال سعيد بن جبير : هو الذي لا أحد له، وقال قتادة : هو ذو العيال، وكل هذه قريبة المعنى، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ ﴾ أي ثم هو من هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة مؤمن بقلبه، محتسب ثواب ذلك عند الله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى :
2708
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ﴾ [ الإسراء : ١٩ ]، وقال تعالى :﴿ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة ﴾ أي كان من المؤمنين العاملين صالحاً، « المتواصين بالصبر على أذى الناس، وعلى الرحمة بهم »، كما جاء في الحديث :« الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء » وعن عبد الله بن عمرو يرويه قال :« من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا »، وقوله تعالى :﴿ أولئك أَصْحَابُ الميمنة ﴾ أي المتصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين، ثم قال :﴿ والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة ﴾ أي أصحاب الشمال، ﴿ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ﴾ أي مطقبة عليهم فلا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها، قال أبو هريرة ﴿ مُّؤْصَدَةٌ ﴾ أي مطبقة، وقال ابن عباس : مغلقة الأبواب، وقال مجاهد : أصد الباب أي أغلق، وقال الضحّاك ﴿ مُّؤْصَدَةٌ ﴾ حيط بلا باب له، وقال قتادة :﴿ مُّؤْصَدَةٌ ﴾ مطبقة فلا ضوء فيها ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد، وقال أبو عمران الجوني : إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان، وكل من كان يخاف الناس في الدنيا شره، فأوثوا بالحديد، ثم أمر بهم إلى جهنم ثم أوصدوها عليهم أي أطبقوها، قال : فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبداً، ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبداً، ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبداً.
2709
Icon