تفسير سورة البلد

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة البلد من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٢٠.

تفسير سورة «البلد»
وهي مكّيّة في قول الجمهور وقيل مدنيّة
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢)
قوله تعالى: لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ الكلامُ في لا تقدم في لاَ أُقْسِمُ [القيامة: ١] والبَلَدُ هو: «مكة».
وقوله تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ قال ابن عباس وجماعة: معناه وأنت حَلاَلٌ بهذا البلد، يحلُّ لك فيه قَتْلُ من شئتَ، وكان هذا يومُ فَتْحِ مكة، وعلى هذا يتركبُ قولُ مَنْ قال:
السورة مدنية نَزَلَتْ عَامَ الفتح «١»، وقال آخرون: المعنى وأنْتَ حال ساكن بهذا البلد.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ٣ الى ١٠]
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)
وقوله تعالى: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قال مجاهد: هو آدم وجميع ولدهِ «٢»، وقال ابن عباس: ما معناه أنّ الوالدَ والولدَ هنا على العمُومِ فهي أسماء جِنْسٍ يَدْخل فيها جميعُ الحيوانِ «٣»، والقَسَمُ واقع على قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال الجمهور: الإنْسَانُ اسم جنسٍ والكَبَدُ المشقةُ والمكَابَدَةُ، أي: يُكَابِد أمرَ الدنيا والآخرة، ورُوِيَ: أَن سببَ نزولِ هذه الآية رَجُلٌ من قريشٍ يقال له أبو الأَشَدِّ، وقيل نزلتْ في عمرو بن عبد ود،
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٥٨٥)، (٣٧٢٣١)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٨٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٥١١)، والسيوطي في «الدر المنثور»، وعزاه للحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عبّاس بنحوه.
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٥٨٦)، (٣٧٢٤٨)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٨٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٥١١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٩٣)، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٥٨٦)، (٣٧٢٤٧)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٨٣). [.....]
590
وقال: مقاتل: نَزَلَتْ في الحارثِ بن عامر بن نوفل أذنب فاستفتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فَأَمَرَهُ بِالكَفَّارَةِ، فَقَالَ: لَقَدْ أَهْلَكْتُ مَالاً في الكفارات وَالنفَقَاتِ، مُذْ تَبِعْتُ مُحَمَّداً، وَكَانَ كُلُّ واحد منهم قد ادعى أَنَّهُ أَنْفَقَ مَالاً كَثِيراً على إفْسَادِ أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَوْ في الكَفَّارَاتِ على مَا تَقَدَّمَ.
وقوله: أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً أي: أنفقْتُ مالاً كثيراً، ومن قال: أَن المرادَ اسمُ الجِنْسِ غيرُ معينٍ، جَعَلَ قولَه: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ بمعنى: أيظُنُّ الإنسانُ أن لَيس عليه حفظةٌ يرون أعمالَه ويُحْصونَها إلى يوم الجزاء، قال السهيلي: وهذه الآيةُ وإن نزلتْ في أبي الأشد فإن الألفَ واللامَ في الإنسان للجنسِ، فيشتركُ مَعَهُ في الخِطابِ كلّ من ظن ظنه وفعل مثلَ فِعْلِه/ وعلى هذا أكثرُ القُرْآنَ، يَنْزِل في السَّبَبِ الخاصِّ بلفظِ عامٍ يتناولُ المَعْنَى العام انتهى، وخرَّج مسلم عن أبي برزة قَال: قال رسولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: لاَ تَزُولُ قَدَمَا العَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِه فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ به، وَعَنْ مَالِهِ، مِنْ أَيْنَ اكتسبه وَفِيمَ أَنْفَقَهُ» «١»، وخرَّجه أيضاً الترمذيُّ وقال فيه: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ «٢»، انتهى، وقرأ الجمهور «٣» : لُبَداً أي: كثيراً متلبِّداً بعضُه فوقَ بعضٍ، ثم عدَّدَ تعالى علَى الإنسانِ نَعَمَه في جوارِحه، والنَّجْدَيْنِ: قال ابن عباس والناسُ: هما طريقَا الخَيْرِ والشرِّ، أي: عَرَضْنَا عليه طريقَهما، وليستِ الهداية هنا بمعنى الإرْشَادِ «٤»، وقال الضحاكُ: النَّجْدَانِ ثَدْيَا الأمّ، وهذا مثال، والنجد: الطريق المرتفع «٥».
(١) أخرجه الدارمي في «سننه» (١/ ١٣٥)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢/ ٢٨٦) (١٧٨٥).
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٣٤٩) : رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجال الطبراني رجال «الصحيح» غير صامت بن معاذ، وعدي بن عدي الكندي وهما ثقتان.
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ٦١٢)، كتاب «صفة القيامة» باب: في القيامة (٢٤١٦)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢/ ٢٧٦)، (١٧٨٤)، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعف في الحديث من قبل حفظه.
وفي الباب عن أبي برزة رضي الله عنه: أخرجه الترمذي (٤/ ٦١٢)، كتاب «صفة القيامة» باب: في القيامة (٢٤١٧)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (١٠/ ٢٣٢)، وأبو يعلى (١٣/ ٤٢٨)، (٧٤٣٤).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٨٤)، و «البحر المحيط» (٨/ ٤٧٠)، و «الدر المصون» (٦/ ٥٢٥).
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٥٩١)، (٣٧٢٩٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٨٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٥١٢) بنحوه.
(٥) أخرجه الطبري (١٢/ ٥٩١) (٣٧٣٠٧)، وذكره البغوي (٤/ ٤٨٩)، وابن عطية (٥/ ٤٨٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٩٥)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عبّاس رضي الله عنه.
591

[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١١ الى ١٦]

فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦)
وقوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الآية، قولهُ «فَلاَ» هو عند الجمهورِ تحضيضٌ بمعنى: ألا اقتحم، والعقبةُ في هذه الآيةِ عَلى عُرْفِ كلامِ العَرَبِ استعارةٌ لهذا العمل الشاقِّ على النفسِ، من حيثُ هو بِذَلُ مالٍ، تشبيهٌ بعقبة الجبل، واقْتَحَمَ: معناه: دَخَلَهَا وجَاوَزَها بسرعةٍ وضَغْط وشدة، ثم عَظَّم تعالى أمر العقبةِ في النفوس بقولهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ثمَّ فَسَر اقتحَامَ العقبةِ بقوله: فَكُّ رَقَبَةٍ الآية، وهذا على قراءةِ مَنْ قرأ: فَكُّ رَقَبَةٍ بالرفعِ على المَصْدَرِ وأما من قرأ: «فَكَّ رَقَبَةً أوْ أطْعَمَ» عَلَى الفعلِ، ونَصَبَ الرقبةَ، وهي قراءةُ أبي عمرِو «١»، فليسَ يحتاجُ أن يُقَدَّرَ: وما أدرَاكَ ما اقتحامٌ بلْ يكونُ التعظيمُ للعقَبةِ نَفْسِها ويجيءُ فَكُّ بَدَلاً من اقْتَحَمَ ومبيَّناً لَه، وفَكُّ الرقَبةِ هو عَتْقُها من رِبْقَةِ الأسرِ أو الرِّقِّ، وفي الحديث/ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ أعْتَقَ نَسَمَةً مؤمِنَةً أعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ» «٢»، والمسْغَبَةُ: الجماعة، والساغب: الجائع وذا مَقْرَبَةٍ:
معناه: ذَا قَرَابَةٍ لتجتمعَ الصدقةُ والصلة، وذا مَتْرَبَةٍ: معناه: مُدْقَعاً قَدْ لَصِقَ بالترابِ وهذا ينْحو إلى أنّ المسكينَ أشَدَّ فاقةً مِنَ الفقيرِ، قال سفيانُ: هم المَطْرُوحُونَ على ظهرِ الطريقِ قُعُوداً على الترابِ لا بُيُوتَ لهم «٣»، وقال ابن عباس: هو الذي يَخْرُجُ من بيته ثم يَقْلِبُ وجهَه إلى بيته مستيقناً أنه ليس فيه إلا التراب «٤».
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
وقوله تعالى: ثُمَّ كانَ معطوفٌ على قوله: اقْتَحَمَ والمعنى: ثم كان وقتَ اقتحامِه العقبةَ من الذين آمنوا.
(١) وهي قراءة ابن كثير والكسائيّ.
ينظر: «السبعة» (٦٨٦)، و «الحجة» (٦/ ٤١٣)، و «معاني القراءات» (٣/ ١٤٧)، و «شرح الطيبة» (٦/ ١١٤)، و «العنوان» (٢١٠)، و «حجة القراءات» (٧٦)، و «شرح شعلة» (٦٢٤)، و «إتحاف» (٢/ ٦١٠).
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٥٩٦)، (٣٧٣٤٤) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٨٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٩٧)، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٥٩٦)، (٣٧٣٤٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٨٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٩٨)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
592
وقوله تعالى: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ معناه: على طاعةِ الله وبلائه وقضائه وعن الشهوات والمعاصي، وبِالْمَرْحَمَةِ قال ابن عباس: كلُّ ما يؤَدِّي إلى رحمةِ اللَّهِ تعالى «١»، وقال آخرون: هو التراحمُ والتعاطُفُ بينَ الناسِ، وفي ذلك قِوَامُ الناس ولو لم يتراحموا جملة لهلكوا، والْمَيْمَنَةِ، فيما رُوِيَ عن يمينِ العرشِ وهو موضِع الجنّة، ومكان المرحومين من الناس، والْمَشْأَمَةِ: الجانب الأشْأَمُ وهُو الأَيْسَرُ وفيه جهنَّم وهو طريق المعذبين، ومُؤْصَدَةٌ معناه: مطبقة مغلقة.
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٨٦).
593
Icon