تفسير سورة التين

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة التين من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٨.

تفسير سورة «التّين»
وهي مكّيّة
[سورة التين (٩٥) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)
قال ابن عبّاس وغيره: «التين والزيتون» المقْسَمُ بهما هُما المعروفانِ، وقال السهيلي:
أقْسَمَ تعالى بطور تينا، وطور زيتا، وهما جبلانِ عند بيتِ المقدس، وكذلك طور سيناء، ويقال: إن سيناءَ هي الحجارةُ، والطورُ عند أكثر الناسِ هو الجبلُ، وقال الماورديُّ: / ليس كلُّ جبلٍ يقال له: طورٌ إلا أنْ تكونَ فيه الأشجارُ والثمار، وإلا فهو جَبَلٌ فقط، انتهى، وَطُورِ سِينِينَ جبل بالشّام، والْبَلَدِ الْأَمِينِ مكةَ، والقَسَمُ واقع على قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [أي: في أحسن تقويم] «١» ينبغي لَه، وقال بعضُ العلماءِ بالعموم، أي: الإنسانُ أحسنُ المخلوقَاتِ تقويماً، ولَمْ يَرَ قومٌ الحِنْثَ على مَنْ حَلَفَ بالطلاقِ أنَّ زوجتَه أحسنُ من الشمس محتجين بهذهِ الآيةِ، وحسْنُ التقويمِ يشملُ جميعَ محاسنِ الإنسانِ الظاهرةِ والباطنةِ من حسن صورتهِ، وانتصابِ قامَتهِ، وكمالِ عقلهِ، وحسن تمييزِه، والإنسانُ هنا اسمُ جنسٍ، وتقديرُ الكلام: في تقويمِ أحسنَ تقويمٍ لأَن أَحْسَنِ صفةٌ لا بُدَّ أنْ تَجْرِي على موصوفٍ.
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ قال قتادةُ وغيره: معناه بالهَرَم وذهولِ العقلِ وهذهِ عِبْرة منصوبةٌ «٢»، وعبارةُ الثعلبيِّ: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ قيل: اعتدالهُ واستواءُ شبابهِ، وهو أَحْسَنُ ما يكونُ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ بالهَرَمِ كما قال: إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الحج: ٥]، والسافلونَ: الهَرْمَى والزَّمْنَى والذين حَبَسَهُم عذرُهم عن الجهادِ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل
(١) سقط في: د.
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٦٣٨)، (٣٧٦٢٤)، وذكره ابن عطية (٤/ ٥٠٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٦٢١)، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
606
اللَّه عُذرَهم وأخبرَهم أن لهم أجْرَهم الذي عَمِلُوا قبلَ أن تَذْهَبَ عقولهُم، انتهى، وفي البخاريّ عنه صلّى الله عليه وسلّم «إذا مَرِضَ العبدُ أو سَافرَ كتبَ اللَّه له مثلَ ما كانَ يعملُ مقيماً صحيحاً» وهكذا قال في الذين حَبَسَهُم العذرُ، انتهى، قال- ص-: إِلَّا الَّذِينَ قيلَ: منقطعٌ بناءً على أنَّ مَعْنَى أَسْفَلَ سافِلِينَ: بالهرَم وذهولِ العقْلِ، وقيل متصلٌ بِنَاءً عَلى أَنَّ معْناه في النارِ على كفرِه، انتهى، قال ع «١» : وفي حديثٍ/ عَنْ أنسٍ قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا بَلَغَ المؤْمِنُ خمسينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّه حِسَابَه، فإذَا بَلَغَ سِتِّينَ رَزَقَه الإنَابَة إلَيه، فإذَا بلغَ سبعين أحَبّه أهلُ السَّماءِ، فَإذَا بلغ ثمانين كُتِبَتْ حَسَنَاتُه وتَجاوزَ اللَّهُ عن سيئاتِه، فإذا بلغ تسعينَ غُفِرَتْ ذنُوبُه وشَفَعَ في أهْل بَيْتِه وكَانَ أسيرَ اللَّهِ في أرْضِه، فإذا بلغَ مائةً وَلَمْ يَعْمَل شيئاً كُتِبَ له مثلُ مَا كان يَعْملُ في صحَّتِه ولم تُكْتَبْ عليه سيئة» «٢»، وفي حديث: «إن المؤمنَ إذا رُدَّ إلى أرذل العمر كُتِبَ له خيرُ ما كانَ يعملُ في قوّتهِ» «٣». وذلكَ أجرٌ غير ممنون، ثم قال سبحانه إلزامًا للحُجَّةِ وتوبيخاً للكافرِ: فَما يُكَذِّبُكَ أيها الإنسانُ، أي: فما يَجْعَلُكَ أنْ تُكَذِّبَ بعدَ هذه الحجةِ بالدينِ، وقال قتادة: المعنَى: فمن يكذِّبُكَ يا محمد، فيما تُخْبِرُ به من الجزاءِ والحسابِ «٤»، وهو الدينُ، بَعْدَ هذه العبر، ويحتمل أن يريد بِالدِّينِ جميعَ دينه وشَرْعِه، ورُوِيَ عن قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كانَ إذا قَرَأَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ قَال: بَلَى وأنَا عَلى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، قالَ ابن العربي في «أحكامه» : رَوَى الترمذيُّ وغيره عن أبي هريرة، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «إذا قَرأَ أحدُكم أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فَلْيَقُلْ: بلى «٥» وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِين» ومِنْ رواية عبد اللَّه: «إذَا قرأَ أَحَدُكُمْ أَوْ سَمِعَ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [القيامة:
٤٠] فَلْيقُلْ: بلى»
«٦» انتهى، ت: وهذان الحديثانِ، وإنْ كَانَ قَدْ ضعَّفُهما ابنُ العربيِّ فهما مما ينبغي ذكرُهما في فضائل الأعمال، والله الموفق بفضله وكرمه.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٥٠٠).
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) تقدم.
(٤) ذكره ابن عطية (٥/ ٥٠٠).
(٥) تقدّم تخريجه.
(٦) تقدّم تخريجه.
607
Icon