تفسير سورة فصّلت

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٥٤.

تفسير سورة فصلت
وهي مكّيّة
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩)
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)
رُوِيَ أَنَّ عُتْبَةَ بْنُ رَبِيعَةَ ذَهَبَ إلَى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليحْتَجَّ عَلَيْهِ، وَيُبَيِّنَ لَهُ أَمْرُ مُخَالَفَتِهِ لِقَوْمِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ عُتْبَةُ مِنْ كَلاَمِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ» :
حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [السجدة: ١٣] فَأُرْعِدَ الشَّيْخُ، وقَفَّ شَعْرُهُ، وأَمْسَكَ على فَمِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وَنَاشَدَهُ بِالرَّحِمِ أنْ يُمْسِكَ «١»، وقَالَ حِينَ فَارَقَهُ: وَاللَّهِ، لَقَدْ سَمِعْتُ شَيْئاً مَا هُوَ بالشِّعْرِ، وَلاَ هُوَ بِالكَهَانَةِ، وَلاَ هُوَ بِالسِّحْرِ، ولَقَدْ ظننت أنّ صاعقة العذاب على رأسي، والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: صِفَتَا رَجَاءٍ ورحمةٍ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وفُصِّلَتْ معناه بيّنت آياتُهُ أي: فُسِّرَتْ معانيه، / فَفُصِّلَ بين حلاله وحرامه، ووَعْدِهِ ووَعِيدِهِ، وقيل: فُصِّلَتْ في التنزيلِ، أي: نزل نجوماً، ولم ينزلْ مرةً واحدةً، وقيل: فُصِّلَتْ بالمواقف وأنواعٍ أَوَاخِرِ الآيِ، ولم يكن يرجعُ إلى قافية ونَحْوِها كالسَّجْعِ والشِّعْرِ.
وقوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قالت فرقة: يعلمون الأشياء، ويعقلون الدلائل، فكأنَّ القرآن فُصِّلَتْ آياته لهؤلاء إذ هم أهل الانتفاع بها، فَخُصُّوا بالذكر تشريفا، وقالت فرقة:
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٧٣)، وعزاه إلى ابن إسحاق، وابن المنذر، والبيهقي في «الدلائل»، وابن عساكر.
125
يَعْلَمُونَ: متعلِّقٌ في المعنى بقوله: عَرَبِيًّا: أي: لقوم يعلمون ألفاظه، ويتحقَّقون أنَّها لم يخرجْ شيْءٌ منها عن كلام العرب، وَكأَنَّ الآيَةَ على هذا التأْويلِ رَادَّةٌ على مَنْ زَعَمَ أنَّ في كتابِ اللَّهِ ما لَيْسَ في كلامِ العَرَبِ، والتأويلُ الأوَّلُ أَبْيَنُ وأَشْرَفُ مَعْنًى وبَيِّنٌ أنَّه ليس في القرآن إلاَّ ما هو مِنْ كَلاَمِ العَرَبِ، إمَّا مِنْ أصْلِ لغتِها، وإمَّا مِمَّا عرَّبته من لغة غيرها، ثم ذُكِرَ في القرآن وهو مُعَرَّبٌ مُسْتَعْمَلٌ.
وقوله تعالى: فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ نفي لسماعهم النافِعِ الذي يُعْتَدُّ به، ثم حكى عنهم مقالتهم التي باعدوا فيها كُلَّ المباعدة، وأرادوا أن يُؤْيِسُوهُ من قبولهم ما جاء به، وهي:
قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وأكِنَّةً: جمع كِنَانٍ، والوَقْر: الثِّقْلُ في الأذن الذي يمنع السمع.
وقوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ... الآية: قال الحسن:
المراد بالزكاة: زكاة المال «١»، وقال ابن عباس والجمهور: الزكاة في هذه الآية: لاَ إله إلاَّ اللَّهُ التَّوْحِيدُ «٢» كما قال موسى لفرعَوْنَ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: ١٨] ويُرَجِّحُ هذا التأويل أَنَّ الآية مَكِّيَّةٌ، وزكاة المال إنما نزلَتْ بالمدينة وإنَّما هذه زكاة القلب والبدن، أي: تطهيره من المعاصي وقاله مجاهد والربيع «٣»، وقال الضَّحَّاكُ ومقاتلُ: معنى الزكاة هنا: النفقة في الطاعة «٤»، وغَيْرُ مَمْنُونٍ قال ابن عباس: معناه: غَيْر منقوصٍ «٥»، وقالت فرقة: معناه: غَيْر مَقْطُوعٍ يقال: مَنَنْتُ الحَبْلَ: إذا قَطَعْتَهُ، وقال مجاهد: معناه:
غير محسوب «٦»، قال ع «٧» : ويظهر في الآية أَنَّهُ وصفه بعدم المَنِّ والأذى من حيثُ هو من جهة اللَّه تعالى، فهو شرِيفٌ لا مَنَّ فيه، وأُعْطِيَاتُ البشر هي التي يدخلها المَنُّ، والأنداد: الأشباهُ والأَمثَالُ، وهي إشارةٌ إلى كلّ ما عبد من دون الله.
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٨٦) برقم: (٣٠٤٢٤) عن قتادة، وذكره البغوي (٤/ ١٠٧) آية رقم: (٧)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٨٦) برقم: (٣٠٤٢٢)، وذكره البغوي (٤/ ١٠٧)، وابن عطية (٥/ ٥)، وابن كثير (٤/ ٩٢) ط الحلبي، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٧٥)، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات».
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٥).
(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٠٨)، وابن عطية (٥/ ٥).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٨٦) برقم: (٣٠٤٢٧)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٠٨)، وابن عطية (٥/ ٥).
(٦) أخرجه الطبري (١١/ ٨٦) برقم: (٣٠٤٢٨)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٠٨) آية رقم: (٨)، وابن عطية (٥/ ٥).
(٧) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٥).
126
وقوله تعالى: وَبارَكَ فِيها أي: جعلها منبتَّةً للطَّيِّبات والأطعمة، وجعلها طهوراً إلى غير ذلك من وجوه البركة، وفي قراءةِ ابن مسعود: «وَقَسَّمَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا» «١» واخْتُلِفَ في معنى قوله: أَقْواتَها فقال السُّدِّيُّ: هي أقواتُ البَشَرِ وأرزاقُهُمْ، وأضافها إلى الأرض، من حيثُ هي فيها وَعَنْهَا «٢»، وقال قتادة: هي أقواتُ الأرض: من الجبال، والأنهار، والأشجار، والصُّخُور، والمعادن، والأشياءِ التي بها قِوَامُ الأَرْضِ ومَصَالِحُها «٣»، وروى ابنُ عباس في هذا حديثاً مرفوعاً، فشبَّهها بالقُوتِ الذي به قِوَامُ الحيوان، وقال مجاهَدٌ أراد أقواتَهَا من المَطَرِ والمياه، وقال الضَّحَّاكُ وغيره: أراد بقوله: أَقْواتَها: خصائصها التي قَسَّمها في البلاد من المَلْبُوسِ والمطعومِ «٤»، فجعل في بَلَدٍ وفي قُطْرٍ ما ليس في الآخِرِ، لِيَحْتَاجَ بعضُهم إلى بعضٍ، ويُتَقوَّت مِنْ هذه في هذه، وهذا قريبٌ من الأَوَّلِ.
وقوله تعالى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يريد: باليومين الأولين، وقرأ الجمهور: «سَوَاءً» بالنصب على الحال «٥»، أي: سَوَاءً هي وما انقضى فيها، وقرأ أبو جعفر بن القَعْقَاعِ:
«سَوَاءٌ» «٦» - بالرفع-، أي: هِيَ سَوَاءٌ، وقرأ الحسن «٧» :«سَوَاءٍ» بالخفض على نعت الأيَّامِ، واخْتُلِفَ في معنى: «للسائلين» : فقال قتادة معناه: سواءٌ لِمَنْ سَأَلَ واستفهم/ عن الأمْرِ وحقيقةِ وُقُوعِهِ، وأراد العِبْرَةَ فيه، فإنَّه يجده «٨»، كما قال تعالى، وقال ابن زيد وجماعة:
معناه: مستوٍ مُهَيَّأٌ أمر هذه المخلوقات ونَفْعُهَا للمحتاجِينَ إلَيْهَا من البشر، فعبّر عنهم ب السَّائِلِينَ بمعنى «الطالبين» لأَّنَّهُ من شَأْنهم، ولاَ بُدَّ طَلَبَ ما ينتفعون به، فهم في حُكْمِ مَنْ سَأَلَ هذه الأشياء، إذ هُمْ أهل حاجة إليها، ولفظة «سواء» تجري مَجْرَى عَدْل وزَوْر، في أنْ تَرِدَ على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث.
(١) ينظر: «الكشاف» (٤/ ١٨٨)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ٦).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٨٩) برقم: (٣٠٤٣٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ٦).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٨٩) برقم: (٣٠٤٣٨- ٣٠٤٣٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ٦).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٩٠) برقم: (٣٠٤٤٦)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٠٨) آية رقم: (١٠)، وابن عطية (٥/ ٦). [.....]
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٦)، و «البحر المحيط» (٧/ ٤٦٥)، و «الدر المصون» (٦/ ٥٧).
(٦) وذكرت عن يعقوب.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٣٤)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ٦)، و «البحر المحيط» (٧/ ٤٦٥).
(٧) وقرأ بها عيسى، وابن أبي إسحاق، وعمرو بن عبيد، وزيد بن علي، ويعقوب.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٦)، و «البحر المحيط» (٧/ ٤٦٥)، و «الدر المصون» (٦/ ٧٥).
(٨) أخرجه الطبري (١١/ ٩١) برقم: (٣٠٤٤٨- ٣٠٤٤٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٧٧)، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد.
127
وقوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ معناه: بقدرته واختراعه إلى خلق السماء وإيجادها.
وقوله تعالى: وَهِيَ دُخانٌ رُوِيَ: أنَّها كانت جسماً رخْواً كالدُّخَانِ أوِ البُخَارِ، ورُوِيَ: أَنَّه ممَّا أَمَرَهُ اللَّه تعالى أنْ يَصْعَدَ مِنَ الماء، وهنا محذوفٌ، تقديرهُ: فأوجَدَهَا، وأتقنها، وأكمل أمْرهَا، وحينئذٍ قال لها وللأرْضِ أئتيا بمعنى ائتيا أمري وإرادتي فيكما، وقرأ ابن عباس: «آتِيَا» «١» بمعنى: أعطيا مِنْ أنْفُسِكُمَا من الطاعة ما أردتُهُ منكما «٢»، والإشارةُ بهذا كلِّه إلى تسخيرهما وما قَدَّرَهُ اللَّه من أعمالهما.
وقوله: أَوْ كَرْهاً فيه محذوف تقديره ائتيا طَوْعاً وإلاَّ أتيتما كرهاً.
وقوله سبحانه: قالَتا أراد الفرقتَيْنِ جعل السمواتِ سماءً والأرضِينَ أرْضاً، واختلف في هذه المقالةِ مِنَ السموات والأرضِ، هَلْ هُوَ نُطْقٌ حقيقةٌ أو هو مجازٌ؟ لما ظهر عليها من التذلُّل والخضوعِ والانقيادِ الذي يتنزل منزلة النطق، قال- عليه السلام «٣» : والقول الأَوَّل: أَنَّه نُطْقٌ حقيقة- أَحْسَنُ لأَنه لا شَيْءَ يدفعه-، وأَنَّ العبرة به أَتَمُّ والقدرة فيه أظهر.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٢ الى ١٥]
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥)
وقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ معناه: فَصَنَعَهُنَّ وأَوْجَدَهُنَّ، ومنه قول أبي ذُؤَيْبٍ:
[الكامل]
وَعَلَيْهِمَا/ مسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا داوود أو صنع السّوابغ تبّع «٤»
(١) وقرأ بها سعيد بن جبير، ومجاهد.
ينظر: «المحتسب» (٢/ ٢٤٥)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ٧)، و «البحر المحيط» (٧/ ٤٦٦)، و «الدر المصون» (٦/ ٥٨).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٩٢) برقم: (٣٠٤٥٢)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٠٩) آية رقم (١١)، وابن عطية (٥/ ٧).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٧).
(٤) وهو لأبي ذؤيب «في سرّ صناعة الإعراب» (٢/ ٧٦٠)، و «شرح أشعار الهذليين» (١/ ٣٩)، و «شرح المفصل» (٣/ ٥٩)، و «لسان العرب» (٨/ ٣١) (تبع)، (٨/ ٢٠٩) (صنع)، (١٥/ ١٨٦) (قضى)، و «المعاني الكبير» ص: (١٠٣٩)، وبلا نسبة في «شرح المفصل» (٣/ ٥٨).
128
وقوله تعالى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قال مجاهد وقتادة: أوحى إلى سُكَّانِها وَعَمَرَتِها من الملائكة وإليها هي في نَفْسِهَا- ما شاء الله تعالى- مِنَ الأَمُورِ التي بها قوامها وصلاحها «١».
وقوله: ذلِكَ إشارة إلَى جَمِيعِ ما ذكر، أي: أوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ، وأحكمه بِعِلْمِهِ.
وقوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا يعني: قريشاً، والعرب الذين دَعَوتَهُم إلى عبادة اللَّه تعالى عن هذه الآيات البَيِّنَات فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وقرأ النّخعي وغيره: صعقة فيهما «٢»، وهذه قراءة بَيِّنَةُ المعنى لأنَّ الصعقة الهلاكُ الوَحيُّ، وأمَّا الأولى فهي تشبيهٌ بالصاعقةِ، وهي الوقعة الشديدة من صوت الرعد، فشُبِّهَتْ هنا وقعةُ العذاب بها لأنَّ عاداً لم تُعَذَّبْ إلاَّ بِرِيحٍ، وإنَّما هذا تشبيهٌ واستعارة، وعبارةُ الثعلبيِّ:
صاعِقَةً أي: واقعةٌ وعقوبةٌ مِثْلُ صاعقةِ عَادٍ وثَمُودَ، انتهى، قال ع «٣» : وَخَصَّ عاداً وثَمُودَ بالذِّكْر لوقوفِ قُرَيْشٍ على بلادها في اليمن وفي الحِجْرِ في طريق الشام، قال الثعلبيّ: ومِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني: قبلهم وبعدهم، وقامت الحُجَّةُ عليهم في أَنَّ الرسالة والنذارة عمتهم خبراً ومباشرة، وقال ع «٤» قوله: وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي:
جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم وبعد تَقَدُّمِ وجودهم في الزَّمَنِ، فلذلك قال: وَمِنْ خَلْفِهِمْ ولا يتوجه أنْ يجعل وَمِنْ خَلْفِهِمْ عبارة عَمَّا أتى بعدهم لأنَّ ذلك لا يلحقهم منه تقصير.
ت: وما تقدم للثعلبيِّ وغيره أَحْسَنُ لأَنَّ مقصد الآية اتصال النذارة بهم وبمن قبلهم وبمن بعدهم إذ ما من أُمَّةٍ إلاَّ وفيها نذير، وكما قال تعالى: رُسُلَنا تَتْرا...
[المؤمنون: ٤٤] وأيضاً فإنَّه جمع في اللفظ عاداً وثمود وبالضرورة أَنَّ/ الرسولَ الذي أُرْسِلَ إلى ثمودَ هو بَعْدَ عادٍ، فليس لِرَدِّ ع: وَجْهٌ فتأمله.
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٩٢- ٩٣) برقم: (٣٠٤٥٥- ٣٠٤٥٦)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥/ ٧)، وذكره ابن كثير (٤/ ٩٣) ولم يعزه لأحد، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٧٨)، وعزاه إلى عبد بن حميد، والفريابي عن مجاهد، وعبد بن حميد عن قتادة.
(٢) وقرأ بها: ابن الزبير، والسلمي، وابن محيصن.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٣٤)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ٨)، و «البحر المحيط» (٧/ ٤٦٨)، و «الدر المصون» (٦/ ٥٩).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٨).
(٤) ينظر: المصدر السابق.
129

[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٦ الى ٢١]

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠)
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)
وقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً... الآية، تقدَّم قَصَصُ هؤلاء، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن كثير: نَحِساتٍ- بسكون الحاء «١» -، وهي جمعُ «نَحْس» وقرأ الباقون: نَحِساتٍ- بكسر الحاء- جمع «نَحِسٍ» على وزن حَذِرٍ، والمعنى في هذه اللفظة: مشائيم من النَّحْسِ المعروفِ، قاله مجاهد وغيره «٢»، وقال ابن عبَّاس: نَحِساتٍ معناه مُتَتَابِعَاتٍ «٣»، وقيل: معناه: شديدة، أي: شديدة البَرْدِ.
وقوله تعالى: فَهَدَيْناهُمْ معناه: بَيَّنَّا لهم قاله ابن عَبَّاس وغيره، وهذا كما هي الآن شريعةُ الإسلامُ مُبَيَّنَةٌ لليهودِ والنصارَى المُخْتَلِطِينَ بنا، ولكِّنهم يعرضون ويشتغلون بالضّدّ، فذلك استحباب العمى على الهدى، والْعَذابِ الْهُونِ هو الذي معه هَوَانٌ وإذلالٌ قال أبو حَيَّان «٤» :«الهون» مصْدَرٌ بمعنى «الهَوَانِ»، وُصِفَ به العذاب، انتهى، وأَعْداءُ اللَّهِ هم الكفار المخالفون لأمر اللَّه سبحانه، ويُوزَعُونَ معناه: يُكَفُّ أَوَّلُهُمْ حَبْساً على آخرهم قاله قتادة، والسُّدِّيُّ «٥»، وأهل اللغة، وهذا وصف حال من أحوال الكفرة في بعض أوقات القيامة، وذلك عند وصولهم إلى جَهَنَّمَ، فإنَّه سبحانه يستقرهم عند ذلك على أنفسهم، ويسألون سؤالَ توبيخ عن كُفْرهم فيجحدُونَ، ويحسبون أَنْ لا شاهد
(١) ينظر: «السبعة» (٥٧٦)، و «الحجة» (٦/ ١١٦)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٧٥)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٣٥١)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٢١٠)، و «العنوان» (١٦٩)، و «حجة القراءات» (٦٣٥)، و «شرح شعلة» (٥٧٢)، و «إتحاف» (٢/ ٤٤٢).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٩٦) برقم: (٣٠٤٦٨)، (٣٠٤٧٠) عن مجاهد، (٣٠٤٧١) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥/ ٩). [.....]
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٩٥) برقم: (٣٠٤٦٧)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥/ ٩)، وابن كثير (٤/ ٩٥) ولم يعزه لأحد.
(٤) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٤٧١).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٩٨- ٩٩) برقم: (٣٠٤٨٣- ٣٠٤٨٤)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١١٢) آية رقم (١٩)، وابن عطية (٥/ ١٠).
عليهِم، ويطلبون شهيداً عليهم من أنفسهم، وفي الحديث الصحيح: «إنَّ الْعَبْدَ- يَعْنِي الكَافِرَ- يَقُولُ: يَا رَبِّ، أَلَيْسَ وَعَدْتَنِي أَلاَّ تَظْلِمَنِي؟ قَالَ: فَإنَّ ذَلِكَ لَكَ، قَالَ: فَإنِّي لاَ أَقْبَلُ عَلَيَّ شَاهِداً إلاَّ مِنْ نَفْسِي، قَالَ فَيُخْتَمُ على فِيهِ، وَتَتَكلَّمُ أَرْكَانُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، قَالَ: فَيَقُولُ لَهُنَّ: بُعْداً لَكُنَّ، وَسُحْقاً، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أَدَافِعُ» «١» الحديثَ، قال أبو حَيَّان «٢» : حَتَّى إِذا ما جاؤُها: «ما» بعد «إذا» زائدة للتوكيد، انتهى.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٢ الى ٢٥]
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
وقوله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ يحتمل أنْ يكون من كلام الجلود، ويحتمل أنْ يكون من كلام الله عز وجل، وجمهور الناس على أَنَّ المراد بالجلود الجلودُ المعروفةُ، وأمَّا معنى الآية فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يريد وما كنتم تَتَصَاونُونَ وتَحْجِزُونَ أَنْفُسَكُمْ عن المعاصي والكُفْر خوفَ أَنْ يشهد، أو لأَجْلِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ... الآية، وهذا هو منحى مجاهد «٣»، والمعنى الثاني أنْ يريد: وما يمكنكم ولاَ يسَعُكُمْ الاخْتفاءُ عن أَعْضَائِكُمْ، والاستتارُ عنها بكُفْرِكُمْ ومعاصيكم، وهذا هو مَنْحَى السُّدِّيِّ «٤»، وعن ابن مسعود قال: «إِنِّي لمستترٌ بأستارِ الكعبةِ، إذْ دَخَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ: قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وقُرَشِيٌّ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلوبِهِمْ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، فَتَحَدَّثُوا بِحَدِيثٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَترَى اللَّهَ يَسْمَعُ مَا قُلْنَا؟
فَقَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إذَا رفَعْنَا، وَلا يَسْمَعُ إذَا أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الآخَرُ: إنْ كَانَ يَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئاً فإنّه يسمعه كلّه، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ، وقرأ حتى بلغ: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ»
«٥».
(١) ينظر: «الدر المنثور» (٥/ ٣٥).
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٤٧١).
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥/ ١١).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ١٠٠) برقم: (٣٠٤٩٣)، وابن عطية (٥/ ١١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٨٠).
(٥) أخرجه البخاري مختصرا (٨/ ٤٢٤) كتاب «التفسير» باب: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤٨١٦)، (٨/ ٤٢٤- ٤٢٥) -
131
قال الشيخ أبو محمَّدِ بْنُ أبي زَيْدٍ في آخر: «مُخْتَصَرِ المُدَوَّنَةِ» له: واعلم أنَّ [الأجساد التي أطاعت أو عصت، هي التي تُبْعَثُ يومَ القيامة لتجازى، والجلودُ التي كانَتْ في الدنيا، والألسنةُ] «١»، والأيْدِي، والأرجُلُ هي التي تشهد عليهم يوم القيامة على مَنْ تشهَدُ، انتهى.
قال القرطبيُّ في «تذكرته» «٢» : واعلم أَنَّ عند أهل السنة أَنَّ تلك الأجسادَ الدُّنْيَوِيَّةَ تُعَادُ بأعيانها وأعراضِهَا بلا خلافٍ بينهم في ذلك، انتهى، ومعنى أَرْداكُمْ: أهلككم، والرَّدَى: الهَلاَكُ وفي صحيحُ «البخاريِّ» و «مسلم» عن جابر قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ قبل وفاته بثلاثٍ: «لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» «٣» وذكره ابن أبي الدنيا في «كتابٍ حَسَنِ الظنّ بالله عز وجلّ»، وزاد فيه: «فَإنَّ قَوْماً قَدْ أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ انتهى، ونقله أيضاً صاحب «التذكرة».
وقوله تعالى: فَإِنْ يَصْبِرُوا مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمعنى: فإنْ يصبروا أوْ لا يَصْبِرُوا، واقتصر لدلالة الظاهِرِ على ما ترك.
وقوله تعالى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا معناه: وإنْ طَلَبُوا العتبى، وهي الرضَا فما هم مِمَّنْ يُعْطَاها ويَسْتَوْجِبُهَا قال أبو حَيَّان «٤» : قراءة الجمهور: «وَإنْ يَسْتَعْتِبُوا» مبنيًّا للفاعل «٥»، و:
مِنَ الْمُعْتَبِينَ مبنيًّا للمفعول، أي: وإِنْ يعتذروا فما هم من المَعْذُورِينَ، انتهى.
- كتاب «التفسير» باب: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٨١٧)، (١٣/ ٥٠٤) كتاب «التوحيد» باب: قول الله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٧٥٢١)، ومسلم (٤/ ٢١٤١) كتاب «صفات المنافقين وأحكامهم» باب: (٥/ ٢٧٧٥)، وابن حبان (٢/ ١١٦) كتاب «البر والإحسان» باب: الإخلاص وأعمال السر (٣٩٠)، والحميدي (١/ ٤٧) (٨٧)، والترمذي (٥/ ٣٧٥) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة حم السجدة، (٣٢٤٨- ٣٢٤٩)، وأحمد (١/ ٣٨١، ٤٠٨، ٤٢٦، ٤٤٢، ٤٤٣).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(١) سقط من: د.
(٢) ينظر: «التذكرة» (١/ ٢٢٧).
(٣) أخرجه مسلم (٤/ ٢٢٠٤) كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، حديث (٨١/ ٢٨٧٧) من حديث جابر.
(٤) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٤٧٢).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٢)، و «البحر المحيط» (٧/ ٤٧٢)، و «الدر المصون» (٦/ ٦٤). [.....]
132
ثم وصف تعالى حالهم في الدنيا وما أصابهم به حِينَ أعرضوا، فَحْتَّمَ عليهم، فقال:
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ، أي: يَسَّرْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ سَوْءٍ من الشياطين وغُوَاةِ الإنْسِ.
وقوله: فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي: عَلَّمُوهم، وقَرَّروا لهم في نفوسهم معتقداتِ سوءٍ في الأمور التي تقدَّمتهم من أمر الرسُلِ والنُبُوَّاتِ، ومَدْحِ عبادةِ الأصنامِ، واتباع فعل الآباء، إلى غير ذلك مِمَّا يُقَالُ: إنَّه بين أيدِيهِمْ، وذلك كلُّ ما تقدَّمهم في الزَّمَنِ، واتصل إليهم أثره أو خَبَرُهُ، وكذلك أعطُوهُمْ معتقداتِ سوءٍ فيما خَلْفهم، وهو كلُّ ما يأتي بَعْدَهُمْ من القيامة والبعث ونَحْوِ ذلك وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: سبق عليهم القضاءُ الحَتْمُ، وأَمَرَ اللَّهُ بتَعْذِيبِهِمْ في جملةِ أُمَمٍ مُعَذِّبِينَ، كُفَّارٍ من الجنِّ والإنس.
وقالت فرقة: «في» بمعنى «مع»، أي: مع أمم، قال ع «١» : والمعنى/ يتأدى بالحرفين، ولا نحتاج أنْ نجعل حرفاً بمعنى حَرْفٍ، إذ قد أبى ذلك رؤساءُ البصريّين.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ... الآية: حكاية لما فعله بعض كفار قريش، كأبي جَهْلٍ وغيره، لما خافوا استمالَةَ القُلُوبِ بالقُرْآنِ، قالوا: متى قرأَ محمد فالغطوا بالصَّفِيرِ والصِّيَاحِ وإنشادِ الشِّعْرِ حتى يخفى صَوْتُهُ، فهذا الفعلُ منهم هو اللغو، وقال أبو العالية: أرادوا: قَعُوا فيه وعَيِّبوه، وقولهم: لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي:
تطمسون أمر محمد، وتُمِيتُون ذكره، وتَصْرِفُون عنه القلوبَ، فهذه الغاية التي تمنوها، ويأبى اللَّه إلاَّ أنْ يتم نوره ولو كره الكافرون.
وقوله تعالى: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً... الآية، قوله: فَلَنُذِيقَنَّ:
الفاء دخلَتْ على لام القسم، وهي آيةُ وعيدٍ لقريشٍ، والعذابُ الشديدُ: هو عذابُ الدنيا في بَدْرٍ وغيرها، والجزاء بأسوإ أعمالهم هو عذابُ الآخرة.
ت: حَدَّثَ أبو عُمَرَ في «كتاب التمهيد» قال: حدَّثنا أحمد بن قَاسِمٍ، قال:
حدَّثنا محمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بْنُ موسَى بن جميل، قال: حدّثنا
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٢).
133
عبد اللَّه بن محمَّد بن أبي الدنيا، قال: حدثنا العَتَكِيُّ. قال: حدثنا خالد أبو يزيد الرَّقِّيُّ عن يحيى المَدَنِيِّ، عن سالمِ بنِ عبد اللَّهِ عَنْ أبيه قال: خرجْتُ مرةً، فمررْتُ بِقَبْرٍ مِنْ قُبُورِ الجاهِلِيَّةِ، فإذا رجلٌ قد خرج من القَبْرِ، يَتَأَجَّجُ ناراً، في عُنُقِهِ سلسلةٌ، ومعي إدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ، فَلَمَّا رآني قال: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اسقني، قال: فَقُلْتُ: عَرِّفْنِي، فَدَعَانِي باسمي، أو كلمة تقولها العَرَبُ: يِا عَبْدِ اللَّهِ، إذْ خَرَجَ على أَثَرِهِ رَجُلٌ من القَبْرِ، فقال: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَسْقِهِ، فَإنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ أَخَذَ السِّلْسِلَةَ فاجتذبه، فَأَدْخَلَهُ القَبْرَ، قال: ثم أَضَافَنِي اللَّيْلَ إلى بَيْتِ عَجُوزٍ، إلى جَانِبِهَا قَبْرٌ، فسمعْتُ مِنَ القَبْرِ صَوْتاً يَقُولُ: / بَوْلٌ وَمَا بَوْلٌ، شَنٌّ وَمَا شَنٌّ، فقلتُ للعَجُوزِ:
ما هذا؟ قالَتْ: كَانَ زَوْجاً لِي، وكان إذَا بَالَ لَمْ يَتَّقِ البَوْلَ، وكُنْتُ أَقُولُ لَهُ: وَيْحَك! إنَّ الجَمَلَ إذَا بَالَ تَفَاجّ، وكان يأبى، فهو يُنَادِي من يَوْم مَاتَ: بَوْلٌ وَمَا بَوْلٌ، قلتُ: فما الشَّنُّ؟ قالت: جاء رجل عطشان فقال: اسقني! فقال: دُونَكَ الشَّنَّ، فإذا لَيْسَ فيه شَيْءٌ فخَرَّ الرَّجُلُ مَيِّتاً، فهُو ينادي مُنْذُ ماتَ: شَنٌّ وَمَا شنٌّ، فلما قَدِمْتُ على رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرتُهُ، فنهى: أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ. قال أبو عمر: هذا الحديث في إسناده مجهولُونَ، ولم نُورِدْهُ لِلاحتجاجِ به ولكنْ لِلاعتبار، وما لم يكنْ حكم، فقد تسامح الناسُ في روايته عن الضعفاء، انتهى من ترجمة عبد الرحمن بن حَرْمَلَةَ، وكلامه على قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«الشَّيْطَانُ يَهُمُّ بِالْوَاحِدِ وَالاِثْنَيْنِ، فَإذَا كَانُوا ثَلاَثَةً لَمْ يَهُمَّ بِهِمْ» «١» وقد ذكرنا الحكاية الأولى عن الوَائِليِّ في سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ بغير هذا السند، وأَنَّ الرجُلَ الأَوَّلَ هو أبو جَهْلٍ، انتهى، ثم ذكر تعالى مقالة كُفَّارِ يومِ القيامة إذا دَخَلُوا النار فإنَّهم يَرَوْنَ عظيمَ ما حَلَّ بِهِمْ وسُوء مُنْقَلَبِهِمْ، فَتَجُولُ أَفكارهم فيمن كان سبب غوايتهم ومبادي ضلالتهم، فيعظم غيظهم وَحَنَقُهُمْ عليه، وَيَوَدُّونَ أنْ يَحْصُلَ في أشدِّ عذابٍ، فحينئذٍ يقولُونَ: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا وظاهر اللفظ يقتضِي أَنَّ الذي في قولهم: الَّذِينَ إنما هو لِلْجِنْسِ، أي: أَرنا كلَّ مُغْوٍ من الجنِّ والإنْسِ، وهذا قول جماعة من المفسرين.
وقيل: طلبوا ولد آدم الذي سَنَّ القَتْلَ والمعصية من البَشَرِ، وإبليسَ الأبالسة من الجِنِّ، وهذا قولٌ لا يخفى ضعفه، والأَوَّلُ هو/ القويُّ، وقولهم: نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا يريدون في أسفل طبقة في النار وهي أشدُّ عذابا.
(١) أخرجه مالك (٢/ ٩٧٨) كتاب «الاستئذان» باب: ما جاء في الوحدة في السفر للرجال والنساء (٣٦)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٣/ ٢١٨).
قال الهيثمي: رواه البزار وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف.
134

[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا قال سفيان بن عبد اللَّه الثَّقَفِيُّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: «قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ استقم» «١».
ت: هذا الحديث خَرَّجه مسلم في «صحيحه»، قال صاحب «المُفْهِمِ» : جوابه صلّى الله عليه وسلّم من جوامع الكَلِم، وكأَنَّهُ مُنْتَزَعٌ من قول اللَّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا... الآية، وتلخيصه: اعْتَدَلُوا على طاعته قولاً وفعلاً وعقداً، انتهى من «شرح الأربعين حديثاً» لاِبْنِ الفَاكِهَانِيِّ، قال ع «٢» : واخْتَلَفَ النَّاسُ في مقتضى قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا فذهب الحَسَنُ وجماعةٌ إلى أَنَّ معناه: استقاموا بالطاعاتِ واجتناب المعاصِي، وتلا عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- هذه الآيةُ على المِنْبَرِ، ثم قال: استقاموا- واللَّهِ- بطاعتهِ، ولم يروغوا روِغانَ الثَّعَالِبِ، قال ع «٣» : فذهب- رحمه اللَّه- إلى حَمْلِ الناس على الأَتَمِّ الأفْضَلِ، وإلاَّ فيلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب أَلاَّ تتنزل الملائكةُ عِنْدَ الموت على غير مستقيمٍ على الطاعَةِ، وذهب أبو بكْرٍ- رضي اللَّه عنه- وجماعةٌ معه إلى أَنَّ المعنى:
ثم: استقاموا على قولهم: رَبُّنَا اللَّهُ، فلم يختلَّ توحيدُهُمْ، ولا اضطرب إيمانهم، قال ع «٤» : وفي الحديث الصحيح: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّه، دخل الجنّة» «٥»
(١) أخرجه مسلم (١/ ٢٢٢) - الأبي كتاب «الإيمان» باب: جامع أوصاف الإسلام (٦٢/ ٣٨)، والترمذي (٤/ ٦٠٧) كتاب «الزهد» باب: ما جاء في حفظ اللسان (٢٤١٠)، وابن ماجه (٢/ ١٣١٤) كتاب «الفتن» باب: كف اللسان في الفتنة (٣٩٧٢)، والدارمي (٢/ ٢٩٨) كتاب «الرقاق» باب: في حفظ اللسان، وابن حبان (٨/ ٢٣٧) - الموارد (٢٥٤٣)، وأخرجه الحاكم (٤/ ٣١٣)، والطبراني (٧/ ٧٨) (٦٣٩٦)، وأبو نعيم في «الحلية» (١/ ٦٥)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٩/ ٢٣٤) (٤٨٧٧).
وأخرجه ابن حبان (٣/ ٢٢١- ٢٢٢) كتاب «الرقائق» باب الأدعية: ذكر ما يجب على المرء من سؤال الباري تعالى الثبات والاستقامة على ما يقربه إليه بفضل الله علينا بذلك (٩٤٢)، بلفظ: «قل آمنت بالله... » الحديث، وأحمد (٣/ ٤١٣).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٤).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٤).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٤).
(٥) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (١/ ٣٥١، ٥٠٠)، وأبو داود (٢/ ٢٠٧) كتاب «الجنائز» باب: في التلقين برقم: (٣١١٦)، وأحمد (٥/ ٢٣٣، ٢٤٧) من حديث معاذ بن جبل. -
135
وهذا هو الْمُعْتَقَدُ إن شاء اللَّه، وذلك أَنَّ العصاة من أُمَّةِ محمَّد وغيرها فرقتان: فأَمَّا مَنْ غفر اللَّه له، وترك تعذيبه، فلا محالة أَنَّه مِمَّن/ تتنزَّل عليهم الملائكة بالبشارة، وهو إنَّما استقام على توحيده فَقَطْ، وأَمَّا مَنْ قَضَى اللَّهُ بِتَعْذِيبِهِ مُدَّةً، ثم [يأمر] بإدخاله الجَنَّةَ، فلا محالة أَنَّه يلقى جميعَ ذلك عند مَوْتِهِ وَيَعْلَمُهُ، وليس يَصِحُّ أنْ تكون حاله كحالة الكافر واليائِسِ مِنْ رحمة اللَّه، وإذا كان هذا فقَدْ حَصَلَتْ له بشارة بأَلاَّ يخافَ الخُلُودَ، ولا يحزنَ منه، ويدخل فيمن يقال لهم: أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ومع هذا كله فلا يختلف في أَنَّ المُوَحِّدَ المستقيمَ عَلَى الطَّاعَةِ أَتَمُّ حالاً وأَكمل بشارةً، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر- رضي اللَّه عنه-، وبالجملة، فكُلَّما كان المرءُ أشَدَّ استعدادا، كان أسْرَعَ فوزاً بفَضْلِ اللَّه تعالى قال الثعلبيُّ: قوله تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أي: عند الموت أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا قال وَكِيعٌ: والبشرى في ثلاثة مَوَاطِنَ: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث، وفي البخاريّ: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أي: عند الموت «١»، انتهى، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «٢» : تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ
قال المُفَسِّرُونَ: عند الموت، وأنا أقول: كُلَّ يَوْم، وأَوْكَدُ الأيام: يومُ الموت، وحينَ القَبْرِ، ويَوْمُ الفزع الأكبر، وفي ذلك آثار بَيَّنَّاها في موضعها، انتهى، قال ع «٣» : قوله تعالى: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا: أَمَنَةٌ عامَّةٌ في كُلِّ هَمِّ مستأنفٍ، وتسليةٌ تَامَّةٌ عن كُلِّ فَائِتٍ مَاضٍ، وقال مجاهدٌ: المعنى: لا تخافُونَ ما تَقْدُمُونَ عليه، ولا تحزنوا على ما خلّفتم من دنياكم.
- قال الحاكم (١/ ٣٥١) : هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقد كنت أمليت حكاية أبي زرعة وآخر كلامه كان سياقه هذا الحديث.
قال ابن حجر في «تلخيص الحبير» (٢/ ٢١١) كتاب «الجنائز»، أعله ابن القطان بصالح بن أبي عريب، وأنه لا يعرف، وتعقب بأنه روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في «الثقات».
وفي الباب من حديث أبي هريرة: أخرجه ابن حبان (٢/ ٤٦٣) - الموارد (٩١٧) نحوه، وابن حبان (٧/ ٢٧٢) كتاب «الجنائز» باب: فصل في المحتضر، ذكر العلة التي من أجلها أمر بهذا الأمر (٣٠٠٤)، وعبد الرزاق في «المصنف» (٣/ ٣٨٧) كتاب «الجنائز» باب: تلقنة المريض (٦٠٤٥) نحوه.
وأخرجه مختصرا: مسلم (٢/ ٦٣١) كتاب «الجنائز» باب: تلقين الموتى لا إله إلّا الله (٢/ ٩١٧)، وأبو يعلى (١١/ ٤٤) (٣٤٤/ ٦١٨٤)، وابن ماجه (١/ ٤٦٤) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء في تلقين الميت لا إله إلّا الله (١٤٤٤)، والبيهقي (٣/ ٣٨٣) كتاب «الجنائز» باب: ما يستحب من تلقين الميت إذا حضر، وابن الجارود في «المنتقى» (١٣٦)، (٥١٣).
(١) ينظر: «صحيح البخاري» (٨/ ٤١٨) كتاب «التفسير» باب: سورة حم السجدة.
(٢) ينظر: «الأحكام» (٤/ ١٦٦١).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٥).
136
ت: وذكر أبو نُعَيْمٍ عن ثابتٍ البُنَانيِّ أَنَّه قرأ: حم السجدةِ حَتَّى بلغ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ/ الْمَلائِكَةُ، فوقف، وقال: بلغنا أنَّ العَبْدَ المؤمن حين يُبْعَثُ من قبره يتلقَّاه المَلَكَانِ اللَّذانِ كانا معه في الدنيا، فيقولانِ له: لاَ تَخَفْ، ولا تَحْزَنْ، وأبشر بالجنة التي كنت تُوْعَدُ، قال: فَأَمَّنَ اللَّه خوفَه، وأَقَرَّ عينه، الحديث «١». انتهى. قال ابن المبارك في «رقائقه» : سمعتُ سفيانَ يَقُولُ في قوله تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ:
أي عند الموت أَلَّا تَخافُوا: ما أمامكم وَلا تَحْزَنُوا: على ما خلفتم من ضَيْعَاتِكُمْ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ قال: يُبَشَّرُ «٢» بثلاث بشاراتٍ: عند الموت، وإذا خرج من القبر، وإذا فَزِعَ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
قال: كانوا معهم، قال ابن المبارك: وأخبرنا رَجُلٌ عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قوله تعالى: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
قال: قُرَنَاؤُهُمْ يلقونهم يوم القيامة، فيقولون: لا نفارقكم حتّى تدخلوا الجنة، ا. هـ.
وقوله تعالى: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
المتكلم ب نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
هم الملائكة القائلون: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا أي: يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق: نحن كُنَّا أولياءَكُمْ في الدنيا، ونحن هُمْ أولياؤكم في الآخرة قال السُّدِّيُّ: المعنى: نحن حَفَظَتُكُم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة «٣»، والضمير في قوله: فِيها
عائد على الآخرة، وتَدَّعُونَ
معناه: تَطْلُبُونَ قال الفَخْرُ «٤» : ومعنى كونِهِمْ أولياءَ للمؤمنين، إشارةٌ إلى أَنَّ للملائكة تأثيراتٍ في الأرواح [البشريّة، بالإلهامات والمكاشفات اليقينيّة والمناجاة الخفيَّةِ كما أَنَّ للشياطينِ تَأْثيراتٍ في الأرواحِ] «٥» بإلقاء الوسَاوِسِ، وبالجملة، فَكَوْنُ الملائكةِ أولياءَ للأرواح الطَّيِّبَةِ الطاهرةِ، حاصِلٌ من جهاتٍ كثيرةٍ معلومةٍ لأربابِ المكاشفاتِ والمشاهَدَاتِ، فَهُمْ يَقُولُونَ: كما أَنَّ تلك الولاياتِ حاصلةٌ في الدنيا، فهي تكونُ باقيةً في الآخرة فإنَّ تلك العلائِقَ ذاتِيَّةٌ/ لازمة، غير مائلة إلى الزوال بل تصير بعد الموت أقوى وأبقى وذلك لأَنَّ جوهر النفْسِ من جنس الملائكة، وهي كالشُّعْلَةِ بالنسبة إلى الشمس والقطرة بالنسبة إلى البحر، وإنَّما التّعلّقات الجسدانيّة
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٨٣)، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) في د: يبشرهم.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ١٠٩) برقم: (٣٠٥٣٨)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١١٤)، وابن عطية (٥/ ١٥). [.....]
(٤) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (١٤/ ١٠٦).
(٥) سقط في: د.
137
والتدبيراتُ البدنيَّةُ هي الحائلة بَيْنَهَا وبين الملائكة، فإذا زالَتْ تلك العلائِقُ، فقد زَالَ الْغِطَاءُ، واتَّصَلَ الأثر بالمؤثر، والقطرةُ بالبَحْرِ، والشعلةُ بالشمْسِ، انتهى.
ت: وقد نقل الثعلبيُّ من كلام أرباب المعاني هنا كلاماً كثيراً حَسَناً جِدًّا، موقظاً لأربابِ الهِمَمِ، فانظره إنْ شِئْتَ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إذَا فَنِيَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنْ هَذَا الْعَبْدِ المُؤْمِنِ، بَعَثَ اللَّهُ إلى نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا، قَالَ: فَقَالَ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عمله: إنّ هذا قد كان لَنَا أَخاً وَصَاحِباً، وَقَدْ حَانَ الْيَوْمَ مِنْهُ فِرَاقٌ، فَأْذَنُوا لَنَا، أَوْ قَالَ: دَعُونَا نُثْنِ على أَخِينَا، فَيُقَالُ: أَثْنِيَا عَلَيْهِ، فَيَقُولاَنِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً، وَرَضِيَ عَنْكَ، وَغَفَرَ لَكَ، وأَدْخَلَكَ الجَنَّةَ فَنِعْمَ الأَخُ كُنْتَ والصَّاحِبُ مَا كَانَ أَيْسَرَ مُؤْنَتَكَ، وَأَحْسَنَ مَعُونَتَكَ على نَفْسِكَ، مَا كَانَتْ خَطَايَاكَ تَمنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلى رَبِّنَا، فَنُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ، وَنُقَدِّسَ لَهُ، وَنَسْجُدَ لَهُ، وَيَقُولُ الَّذِي يتوفى نَفْسَهُ: اخرج أَيُّهَا الرُّوْحُ الطَّيِّبُ إلى خَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ، فَنِعْمَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، اخرج إلَى الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَجَنَّاتِ النعيم وربّ عليك غير غضبان، وفنيت أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ، بَعَثَ اللَّهُ إلى نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا، فَيَقُولُ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ كَانَا يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ: إنَّ هَذَا قَدْ كَانَ لَنَا صَاحِباً، وَقَدْ حَانَ مِنْهُ فِرَاقٌ/، فَأْذَنُوا لَنَا، وَدَعُونَا نُثْنِ على صَاحِبِنَا، فَيُقَالُ: أَثْنِيَا عَلَيْهِ فَيَقُولاَن: لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ غَفَرَ لَهُ، وَأَدْخَلَهُ النَّارَ فَبِئْسَ الصَّاحِبُ ما كان أشدّ مؤنته، ونقدّس ما كَانَ يُعِينُ على نَفْسِهِ إنْ كَانَتْ خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ لَتَمْنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلى رَبِّنَا فَنُسَبِّحَ لَهُ، وَنُقَدِّسَ لَهُ، وَنَسْجُدَ لَهُ، وَيَقُولُ الَّذِي يتوفى نَفْسَهُ: اخرج أَيُّهَا الرُّوحُ الخَبِيثُ إلى شَرِّ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ، فَبِئْسَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، اخرج إلَى الحَمِيمِ وَتَصْلِيَةِ الجَحِيمِ وَرَبٍّ عليك غضبان» «١»، انتهى.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)
وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ... الآية ابتداء توصية لنبيّه ع، وهو لفظ يَعُمُّ كلَّ مَنْ دعا قديماً وحديثاً إلى اللَّه عزَّ وجلَّ من الأنبياء والمؤمنين، والمعنى: لا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ هذه حاله، وإلى العموم ذهب الحسن
(١) أخرجه نعيم بن حماد في «زوائد الزهد» (٤٠- ٤١) باب: ما يبشر به الميت عند الموت، وثناء الملكين عليه.
ومقاتلٌ وجماعةٌ «١»، وقيل: إنَّ الآية نزلَتْ في المُؤَذِّنينَ، وهذا ضعيفٌ لأَنَّ الآية مَكِّيَّةٌ، والأذانُ شُرِعَ بالمدينةِ، قال أبو حَيّان «٢» : وَلَا السَّيِّئَةُ «لا» زائدة للتوكيدِ، انتهى.
وقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ آية جَمَعَتْ مكارمَ الأخلاقِ وأنواعَ الحِلْمِ، والمعنى: ادفع ما يعرض لك مع الناس في مخالطتهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أَحْسَنُ، قال ابن عبَّاس: أمره اللَّه تعالى في هذه الآية بالصَّبْر عند الغَضَبِ، وَالحِلْمِ عند الجَهْل، والعَفْوِ عِنْدَ الإسَاءَةِ، فإذا فعل المؤمنُونَ ذلك، عَصَمَهُمُ اللَّه من الشيطان، وخضع لهم عَدُوُّهم، كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «٣» البخاريُّ: «وليُّ حميم» أي: قريب، انتهى، ، وفسَّر مجاهدٌ وعطاءٌ هذه الآية بالسَّلاَمِ عند اللِّقاء «٤»، قال ع «٥» : ولا شَكَّ أنَّ السلام هو مبدأُ الدَّفْعِ بالتي هي أحسن، وهو جزء منه، والضمير في قوله: يُلَقَّاها عائد على هذه الخُلُقِ التي يقتضيها قوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وقالت فرقة: / المراد: وما يُلَقَّى «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ»، وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ.
وقوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا: مدح بليغ للصابرين، وذلك بَيِّنٌ للمتأَمِّلِ لأنَّ الصَّبْرَ على الطاعات وعنِ الشهوات جامع لخصَالِ الْخَيْر كلِّها، والحظُّ العظيمُ: يَحْتَمِلُ أن يريد من العقل والفضلِ فتكونَ الآية مدحاً لِلْمُتَّصِفِ بذلك، ويحتمل أن يريد: ذو حظ عظيم من الجنة وثواب الآخرة، فتكونَ الآية وعداً، وبالجنة فسر قتادة الحظّ هنا «٦».
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
(١) أخرجه الطبري (١١/ ١٠٩- ١١٠) برقم: (٣٠٥٣٩) عن الحسن، و (٣٠٥٤٠) عن قتادة بنحوه، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١١٤) عن الحسن، وابن عطية (٥/ ١٥).
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٤٧٦).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ١١١) برقم: (٣٠٥٤٤)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١١٥)، وابن عطية في «تفسيره» (٥/ ١٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٨٥)، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ١١١) برقم: (٣٠٥٤٥- ٣٠٥٤٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٨٥)، وعزاه إلى عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٦).
(٦) أخرجه الطبري (١١/ ١١٢) برقم: (٣٠٥٤٩)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١١٥)، وابن عطية (٥/ ١٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٨٥)، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد.
139
وقوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «إِمَّا» : شرطٌ وجوابُ الشرطِ قوله: فَاسْتَعِذْ والنَّزْغُ: فِعْلُ الشيطانِ في قَلْبٍ أو يدٍ من إلقاءِ غَضَبٍ، أو حقدٍ، أو بطشٍ في اليد.
فمن الغضب هذه الآية، ومن الحقد قوله: نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف: ١٠٠]، ومن البطش قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يُشِرْ أَحَدُكُمْ عَلَى أخِيهِ بالسِّلاَح لاَ يَنْزَغُ الشَّيْطَانُ في يَدِهِ فَيُلْقِيَهُ في حُفْرَةٍ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» «١». ومن دعاء الشيخِ الوليِّ العارف باللَّه سبحانه، محمَّد بن مَسَرَّة القُرْطُبِيِّ: اللَّهُمَّ، لاَ تَجْعَلْ صدري للشيطان مَرَاغاً، ولا تُصَيِّرْ قلبي له مجالاً، ولا تَجْعَلْنِي، مِمَّنِ استفزَّهُ بصوته، وأجلب عليه بخيله ورَجْلِهِ، وكُنْ لي من حبائله مُنْجِياً، ومن مصائده مُنْقِذاً، ومن غَوَايَتِهِ مُبْعِداً، اللهم إنَّه وَسْوَسَ في القلب، وألقى في النَّفْس ما لا يطيقُ اللِسانُ ذِكْرَهُ، ولا تستطيعُ النَّفْس نشره مِمَّا نَزَّهَك عنه عُلُوُّ عِزِّكَ، وسُمُوُّ مجدك، فَأَزِلْ يا سيِّدِي ما سَطَرَ، وامح ما زَوَّرَ بوَابِلِ من سحائِبِ عَظَمَتِكَ وطُوفَانٍ مِنْ بِحَارِ نُصْرَتِكَ، واسلل عليه سيفَ إبعادك، وارشقه بسهام إقصائِكَ، وأحْرِقْهُ بنار/ انتقامك، واجعل خَلاَصِي منه زائداً في حُزْنِهِ، وَمُؤَكِّداً لأسفه، ثم قال رحمه اللَّه: اعلم أَنَّه ربما كان العبد في خَلْوَتِهِ مشتغلاً بتلاوته، ويجدُ في نفسه من الوسوسة ما يحولُ بينه وبين رَبِّه، حتى لا يَجِدَ لطعمِ الذِّكْرِ حلاوةً، ويجدَ في قلبه قساوةً، وربما اعتراه ذلك مع الاجتهاد في قراءته وعِلَّةُ ذلك أَنَّ الذِّكْرَ ذِكْرَانِ: ذكرُ خَوْفٍ ورهبةٍ، وذكْرُ أَمْنٍ وغفلةٍ، فإذا كان [الذِّكْرُ بالخَوْفِ والرهبة، خَنَسَ الشيطانُ، ولم يحتملِ الحَمْلَةَ، وأذهب الوسوسة لأنَّ الذكر إذا كان] «٢» باجتماع القلب وصِدْقِ النية، لم يكُنْ للشيطانِ قُوَّةٌ عند ذلك، وانقطعَتْ علائقُ حِيَلِهِ وإنَّما قُوَّتُهُ ووسوستُهُ مع الغَفْلَة، وإذا كان [الذِّكْرُ بالأَمْنِ والغَفْلَةِ لَمْ تفارقْهُ الوَسْوَسَةُ، وإنِ استدام العَبْدُ الذِّكْرَ والقراءةَ لأَنَّ على قلب الغافلِ غشاوةً ولا يجد] «٣» صاحبها لطعم الذكْرِ حلاوةً، فَتَحَفَّظْ على دينك من هذا العدوّ، وليس لك أن تزيله عن
(١) أخرجه البخاري (١٣/ ٢٦) كتاب «الفتن» باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (٧٠٧٢)، ومسلم (٤/ ٢٠٢٠) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم (١٦/ ٢٦١٧)، وأحمد (٢/ ٣١٧).
(٢) سقط في: د.
(٣) سقط في: د.
140
مرتبته، ولا أَنْ تزيحَهُ عن وطنه، وإنما أُبِيحَ لك مجاهدته، فاستعنْ باللَّه يُعِنْك، وثِقْ باللَّه فإنَّهُ لا يَخْذُلُكَ قال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: ٦٩]، انتهى من تصنيفه- رحمه اللَّه-.
وندب سبحانه في الآية المتقدمة إلى الأخذ بمكارم الأخلاق، ووعد على ذلك، وعَلِمَ سبحانه أَنَّ خِلْقَةَ البشر تغلب أحياناً وتَثُورُ بِهِمْ سَوْرَةُ الغضب ونَزْغُ الشيطان فَدَلَّهُمْ في هذه الآية على ما يُذْهِبُ ذلك، وهي الاستعاذة به عزَّ وجلَّ، ثم عَدَّدَ سبحانه آياته ليعتبر فيها، فقال: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، ثم قال تعالى: لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ: وإِنْ كانت لكم فيهما منافع لأَنَّ النفع منهما إنَّما هو بتسخير اللَّهِ إيَّاهما، فهو الذي ينبغي أَنْ يُسْجَدَ له، والضمير في خَلَقَهُنَّ قيل: هو عائد على الآيات المتقدم ذكرُهَا، وقيل: عائد على الشمس والقمر، والاثنان جمع، وأيضاً جمع ما لاَ يَعْقِلُ يُؤنَّثُ/، فلذلك قال: خَلَقَهُنَّ ومن حيث يقال: شُمُوسٌ وأقمار لاِختلافهما بالأَيَّامِ ساغ أنْ يعود الضميرُ مجموعاً، وقيل: هو عائد على الأربعة المذكورة.
ت: ومن كتاب «المستغيثين باللَّه» لأبي القاسم بن بَشْكَوَال حَدَّثَ بسنده إلى أَنس بن مالك، قال: تقرأ «حم السجدة»، وتَسْجُدُ عند السجدة، وتَدْعُو فإنَّه يُسْتَجَابُ لك، قال الراوي: وَجَرَّبْتُهُ فوجدته مُسْتَجاباً، انتهى، ، ثم خاطب جل وعلا نَبِيَّهُ- عليه السلام- بما يتضمَّن وعيدهم وحقارَة أمرهم، وأَنَّهُ سبحانه غَنِيٌّ عن عبادتهم بقوله: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا... الآية، وقوله: فَالَّذِينَ يعني بهم الملائكة هم صَافُّونَ يسبحون، وعِنْدَ هنا ليست بظرف مكان وإِنَّما هي بمعنى المنزلة والقربةِ [كما تقول: زَيْدٌ عنْدَ الْمَلِكِ جليلٌ، ويروى أَنَّ تَسبيحَ الملائكة قد صار لهم كالنّفس لبني آدم، وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ معناه: لا] «١» يَملُّون، ثم ذكر تعالى آيةً منصوبةً ليعتبر بها في أمر البعث من القبور، ويستدِلَّ بما شُوهِدَ من هذه على ما لم يشاهد، فقال: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً... الآية، وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشَعَثٍ بالجَدْبِ، فهي عابسةٌ كما الخاشِعُ عَابِسٌ يكاد يَبْكِي، واهتزاز الأرض: هو تَخَلْخُلُ أجْزَائِهَا وَتَشَقُّقُهَا للنبات، ورُبُوُّهَا: هو انتفاخها بالماء وعُلُوُّ سطحِها به، وعبارة البخاريِّ: اهتزت بالنبات، ورَبَت:
ارتفعَت اهـ، ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أنْ يُقَاسَ على هذه الآية، والعبرة، وذلك إحياء الموتى، فقال: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ والشيء في اللغة: الموجود.
(١) سقط في: د.
141

[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) مَّا يُقالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنا... الآية، آيةُ وعيدٍ، والإلحاد: المَيْلُ، وهو هنا ميل عن الحَقِّ/ ومنه لَحْدُ المَيِّتِ لأنَّه في جانب، يقال: لَحَدَ الرَّجُلُ، وألحد بمَعْنًى.
واختلف في إلحادهم هذا: ما هو؟ فقال قتادة وغيره: هو إلحاد بالتكذيب «١»، وقال مجاهد وغيره «٢» : هو بالمُكَاءِ والصفير واللغو الذي ذهبوا إليه، وقال ابن عباس: إلحادهم:
وَضْعُهُمْ للكَلاَمِ غَيْرَ موضعه، ولفظة «٣» الإلحاد تَعُمُّ هذا كُلَّه، وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقوله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ وعيدٌ في صيغة الأمر بإجماع من أهل العلم.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ... الآية: يريد ب الَّذِينَ كَفَرُوا قريشا، والذكر: القرآن بإجماع.
واختُلِفَ في الخبر عنهم: أين هو؟ فقالت فرقة: هو في قوله: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: ٤٤]، ورُدَّ بكثرة الحائل، وأنَّ هنالك قوماً قد ذكروا بحسن رد قوله: «أولئك ينادون عليهم»، وقالت فرقة: الخبر مُضمَرٌ، تقديره: إنَّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم، هَلَكُوا أو ضَلُّوا، وقيل: الخبر في قوله: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ وهذا ضعيف لا يتجه، وقال عمرو بن عُبَيْدٍ: معناه في التفسير: إنَّ الذين كفروا بالذِّكْرِ لما جاءهم كفروا به، وإنه لكتاب عزيز قال ع «٤» : والذي يَحْسُنُ في هذا هو إضمار الخبر، ولكِنَّهُ عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدَّره هؤلاء فيه وإنَّمَا هو بعد حَكِيمٍ حَمِيدٍ، وهو أشدّ
(١) أخرجه الطبري (١١/ ١١٥) برقم: (٣٠٥٦٢)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١١٦)، وابن عطية (٥/ ١٨)، وابن كثير (٤/ ١٠٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٨٨)، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد. [.....]
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ١١٥) برقم: (٣٠٥٦١)، والبغوي في «تفسيره» (٤/ ١١٦)، وابن عطية (٥/ ١٨).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ١١٥) برقم: (٣٠٥٦٥)، وابن عطية (٥/ ١٨)، وابن كثير (٤/ ١٠٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٨٧)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٧/ ١٩).
إظهاراً لِمَذَمَّةِ الكُفَّارِ به وذلك لأَنَّ قوله: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ داخل في صفة الذكر المُكَذَّبِ بهِ فلم يتم ذكر المُخْبَر عنه إلاَّ بعد استيفاء وصفِهِ، ووصفَ اللَّه تعالى الكتابَ بالعِزَّةِ لأنه بصحة معانيه مُمْتَنِعٌ الطَّعْنُ فيه والإزراء عليه، وهو محفوظ من اللَّه تعالى قال ابن عباس:
معناه: كريمٌ على اللَّه تعالى «١».
وقوله تعالى: لاَّ يَأْتِيهِ/ الْباطِلُ قال قتادة والسُّدِّيُّ: يريد: الشيطان «٢»، وظاهر اللفظَ يَعُمُّ الشيطان، وأنْ يجيء أمْرٌ يُبْطِلُ منه شَيْئاً.
وقوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ معناه: ليس فيما تقدم من الكتب ما يُبْطِلُ شَيْئاً منه.
وقوله: وَلا مِنْ خَلْفِهِ أي: ليس يأتي بعده من نَظَرِ ناظر وفِكْرَةِ عاقل ما يبطل شيئا منه، والمراد باللفظة على الجملة: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات.
وقوله: تَنْزِيلٌ خبر مبتدإٍ، أي: هو تنزيلٌ.
وقوله تعالى: مَّا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ: يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون تسلية للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن مقالات، قومه وما يلقَاهُ من المكروه منهم.
والثاني: أنْ يكون المعنى: ما يقال لك من الوحي، وتُخَاطَبُ به من جهة اللَّه تعالى إلاَّ ما قد قيل للرُّسُلِ من قبلك.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا... الآية، الأَعْجَمِيُّ: هو الذي لا يفصح، عربيًّا كان أو غير عربيٍّ، والعَجَمِيُّ: الذي ليس من العرب، فصيحاً كان أو غيرَ فصيحٍ، والمعنى: ولو جعلنا هذا القرآن أعجمِيّاً، لا يبين لقالوا واعترضوا: لولا بينت
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١١٦)، وابن عطية (٥/ ١٩).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ١١٧) برقم: (٣٠٥٧١- ٣٠٥٧٢)، وذكره البغوي (٤/ ١١٦)، وابن عطية (٥/ ١٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٨٩)، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن الضريس.
143
آياته، وهذه الآية نزلت بسبب تخليطٍ كان من قريش في أقوالهم من أجل حروف وقعت في القرآن، وهي مِمَّا عُرِّبَ من كلام العجم كسِجِّينٍ وإسْتَبْرَق ونحوه، وقرأ الجمهور:
ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف، وقَرَأَ حمزةُ والكسائيُّ وحَفْصٌ: «أَأَعْجَمِيٌّ» بهمزتين «١»، وكأنهم يُنْكِرُونَ ذلك، ويقولون: أأعجمي وعربي مُخْتَلِطٌ؟ هذا لا يحسن [ثم قال تعالى] «٢» : قُلْ هُوَ يعني القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ واختلف الناس في قوله: وَهُوَ عَلَيْهِمْ/ عَمًى فقالت فرقة: يريد ب «هو» القرآن، وقالت فرقة يريد ب «هو» الوَقْرَ، وهذه كلُّها استعاراتٌ، والمعنى: أَنَّهم كالأعمى وصاحب الوقر وهو الثِّقْلُ في الأذن، المانِعُ من السمع وكذلك قوله تعالى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يحتمل معنيين، وكلاهما مَقُولٌ للمفسِّرين:
أحدهما: أنَّها استعارة لِقِلَّة فِهمهم، شَبَّهَهُمْ بالرجل ينادى على بُعْدٍ، يَسْمَعُ منه الصوت، ولا يفهمُ تفاصيلَهُ ولا معانيه، وهذا تأويلُ مجاهد «٣».
والآخر: أنَّ الكلام على الحقيقة، وأَنَّ معناه: أَنَّهم يوم القيامة يُنَادَوْنَ بكفرهم وقبيحِ أعمالهم من بعد حتى يَسْمَعَ ذلك أهلُ الموقف ليُفْضَحُوا على رؤوس الخلائق، ويكونَ أعظمَ لتوبيخهم وهذا تأويل الضَّحَّاكِ «٤».
قال أبو حَيَّان «٥» : عَمًى- بفتح الميم- مصدر عَمِيَ، انتهى.
ثم ضرب الله تعالى أمر موسى مثلا للنبي ع ولقريش، أي: فَعَلَ أولئك كأفعال هؤلاء، حين جاءهم مِثْلُ ما جاء هؤلاءِ، والكلمةُ السابقةُ هي حَتْمُ اللَّهِ تعالى بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، والضمير في قوله: لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يحتمل أنْ يعودَ على موسى، أو على كتابه.
وقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ... الآية: نصيحةٌ بليغةٌ لِلْعَالَمِ، وتحذيرٌ وترجيَةٌ.
(١) بل قراءة عاصم بالهمزتين، إنما هي من رواية أبي بكر عنه، لا من رواية حفص، وقرأ الأخير بالمد كقراءة الباقين.
ينظر: «السبعة» (٥٧٦)، و «الحجة» (٦/ ١١٩)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٧٨)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٥٢)، و «العنوان» (١٦٩)، و «حجة القراءات» (٦٣٧)، و «إتحاف» (٢/ ٤٤٤).
(٢) سقط في: د.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ١٢٠) برقم: (٣٠٥٨٧)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢١)، وابن كثير (٤/ ١٠٣).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ١٢٠) برقم: (٣٠٥٩٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢١).
(٥) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٤٨١).
144

[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠)
وقوله تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ... الآية، المعنى: إنَّ علم الساعة ووقتَ مجيئها يَرُدُّهُ كلّ مؤمن متكلّم فيه إلى الله عز وجل.
وقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي... الآية، التقدير: واذكر يوم يناديهم، والضمير في يُنادِيهِمْ الأظهر والأسبق فيه للفهم: أنَّه يريد الكفارَ عَبَدَةَ الأوثان، ويحتمل أنْ يريد كلَّ مَنْ عُبِدَ من دون اللَّه من إنسانٍ وغَيْرِهِ، وفي هذا ضَعْفٌ، وأَمَّا الضمير/ في قوله: وَضَلَّ عَنْهُمْ فلا احتمال لِعَوْدَتِهِ إلاَّ على الكفار، وآذَنَّاكَ قال ابن عباس وغيره: معناه: أعلمناك ما مِنَّا مَنْ يشهدُ، ولا مَنْ شَهِدَ بأنَّ لك شريكاً وَضَلَّ عَنْهُمْ أي:
نَسُوا ما كانوا يقولُونَ في الدنيا، ويَدْعُونَ من الآلهة والأصنام، ويحتمل أن يريد: وضَلَّ عنهم الأصنام، أي: تلفت، فلم يجدوا منها نَصْراً، وتلاشى لهم أمْرُهَا.
وقوله: وَظَنُّوا يحتمل أنْ يكونَ متَّصِلاً بما قبله، ويكون الوقْفُ عليه، ويكون قوله: مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ استئنافاً، نفَى أنْ يكُونَ لهم مَلْجَأً أو موضِعَ رَوَغَانٍ، تقول:
حَاصَ الرَّجُلُ: إذَا رَاغَ لِطَلَبِ النجاةِ مِنْ شَيْءٍ ومنه الحديثُ: «فَحاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إلَى الأَبْوَابِ» «١»، ويكونَ الظَّنُّ على هذا التأويل على بابه، أي: ظَنُّوا أَنَّ هذه المقالة مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ مَنْجَاةٌ لهم، أو أمر يموِّهون به، ويحتمل أنْ يكون الوقف في قوله: مِنْ قَبْلُ، ويكون وَظَنُّوا متصلاً بقوله: مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي: ظنوا ذلك، ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين، وقد تقدَّم البحثُ في إطلاق الظن على اليقين.
ت: وهذا التأويلُ هو الظاهرُ، والأوَّلُ بعيدٌ جدًّا.
وقوله تعالى: لاَّ يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ هذه آياتٌ نزلَتْ في كفّار، قيل: في
(١) أخرجه البخاري (١/ ٤٢- ٤٣- ٤٤) كتاب «بدء الوحي» باب: (٦) (٧)، (٨/ ٦٢- ٦٣)، كتاب «التفسير» باب: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ (٤٥٥٣).
الوليد بن المُغِيرَةِ، وقيل: في عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وجُلُّ الآية يُعْطِي أَنَّها نزلَتْ في كُفَّارٍ، وإنْ كان أَوَّلُها يتضمن خُلُقاً ربما شارك فيها بعض المؤمنين.
ودُعاءِ الْخَيْرِ إضافته إضافة المصدر إلى المفعول، وفي مصحف ابن مسعود «١» :
«مِنْ دُعَاءٍ بالْخَيْرِ» والخيرُ في هذه الآية المالُ والصحَّةُ، وبذلك تليق الآية بالكفَّار.
وقوله تعالى: لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي: بعملي وبما سعيت/ ولا يرى أَنَّ النِّعَمَ إنَّما هي فَضْلٌ من اللَّهِ تعالى قال- ص-: لَيَقُولَنَّ قال أبو البقاءِ: هو جَوَابُ الشَّرْطِ، والفاء محذوفةٌ، وقيل: هو جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، قال- ص-: قُلْتُ: هذا هو الحَقُّ، والأَوَّلُ غلَطٌ لأَنَّ القَسَمَ قد تقدَّم في قوله: وَلَئِنْ فالجواب له، ولأَنَّ حذف الفاء في الجواب لا يجوزُ، انتهى، وفي تغليط الصَّفَاقُسِيِّ لأبي البقاء نظر.
وقوله: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً قولٌ بَيِّنٌ فيه الجَحْدُ والكُفْر، ثم يقول هذا الكافر:
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي: كما تقولُونَ: «إن لي عنده للحسنى» أي: حالاً ترضيني من مال، وبنين، وغيرِ ذلك، قال ع «٢» : والأمانيُّ على اللَّه تعالى، وتركُ الجِدِّ في الطاعةِ مذمومٌ لكُلِّ أحد فقد قال عليه السلام: «الكَيِّسُ مَنْ دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتمنى عَلَى الله» «٣».
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
وقوله تعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ... الآية، ذَكَرَ سبحانه الخُلُقَ الذميمة من الإنسان جملةً، وهي في الكافر بَيِّنَةٌ متمكِّنة، وأَمَّا المُؤْمِنُ، ففي الأغلب يَشْكُرُ على النعمة، وكثيرا ما يصبر عند الشدة، ونَأى معناه: بَعُدَ ولم يَمِلْ إلى شُكْر ولا طَاعَةٍ.
وقوله: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي: وطويلٍ أيضا، وعبارة الثعلبيّ: عَرِيضٍ أي:
(١) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٣٥)، و «الكشاف» (٤/ ٢٠٥)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٢)، و «البحر المحيط» (٧/ ٤٨٢)، و «الدر المصون» (٦/ ٧١).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٢).
(٣) تقدم. [.....]
146
كثير، والعربُ تستعملُ الطُّولَ والعَرْضَ كليهما في الكَثرة من الكلام، انتهى.
ثم أمر تعالى نبيَّهُ أنْ يوقِّف قريشاً على هذا الاحتجاج، وموضع تغريرهم بأنفسهم، فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وخالفتموه ألستم على هلكة؟ فمن أَضَلَّ مِمَّنْ يبقى على مِثْلِ هذا الغَرَرِ مَعَ اللَّهِ وهذا هو الشقاق ثم وعد تعالى/ نبيّه ع بأَنَّهُ سَيُرِي الكُفَّارَ آياته، واختلف في معنى قوله سبحانه: فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ فقال المِنْهَالُ والسُّدِّيُّ وجماعةٌ: هو وَعْدٌ بما يفتحه اللَّه على رسوله من الأقطارِ حَوْلَ مَكَّةَ، وفي غيرِ ذَلِكَ مِنَ الأَرْضِ كخَيْبَرَ ونحوها وَفِي أَنْفُسِهِمْ: أراد به فَتْحَ مَكَّةَ «١» قال ع «٢» : وهذا تأويلٌ حَسَنٌ، يتضمَّن الإعلام بِغَيْبٍ ظَهَرَ بَعْدَ ذلك، وقال قتادةُ والضَّحَّاكُ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ: هو ما أصاب الأُمَمَ المُكَذِّبَةَ في أقطار الأرض قديماً «٣»، وَفِي أَنْفُسِهِمْ: يوم بدر، والتأويلُ الأَوَّلُ أرْجَحُ، واللَّه أعلم، والضمير في قوله تعالى: أَنَّهُ الْحَقُّ عائد على الشرع والقرآن فبإظهار اللَّهِ نَبِيَّهُ وفتحِ البلاد عليه يتبيَّن لهم أَنَّه الحَقُّ.
وقوله: بِرَبِّكَ قال أبو حَيَّان «٤» : الباء زائدة، وهو فاعل يَكْفِ أي: أو لَمْ يَكْفِهِمْ رَبُّكَ، انتهى، وباقي الآية بيّن.
(١) أخرجه الطبري (١١/ ١٢٥) برقم: (٣٠٦٠٤) عن السدي، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٣)، وابن كثير (٤/ ١٠٥).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٣).
(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١١٨) عن مجاهد، والحسن، والسدي، والكلبي، وابن عطية (٥/ ١١٨).
(٤) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٤٨٣).
147
Icon