تفسير سورة فصّلت

التفسير المنير
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

قال: ورائي أني سمعت قولا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم».
القرآن الكريم وإعراض المشركين عنه وبشرية الرسول ص
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
الإعراب:
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ تَنْزِيلٌ: مبتدأ، ومِنَ الرَّحْمنِ: صفة له، وكِتابٌ: خبره، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هذا تنزيل.
قُرْآناً عَرَبِيًّا قُرْآناً: حال وعامله: فُصِّلَتْ أو منصوب بفصلت أو منصوب على المدح، أي أمدح قرآنا عربيا. ولِقَوْمٍ.. متعلق بفصلت.
183
بَشِيراً وَنَذِيراً حال من الآيات وعامله: فُصِّلَتْ أو حال من كِتابٌ لأنه قد وصف، وعامله «هذا» إذا قدرت، لما فيه من معنى التنبيه أو الإشارة، أي هذا كتاب فصلت آياته.
يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ.. إِنَّما: مرفوع بيوحى على أنه مفعول الفعل المبني للمجهول.
البلاغة:
بَشِيراً وَنَذِيراً بينهما طباق.
وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ استعارة تصريحية، شبّهوا إعراضهم عن القرآن ونفرتهم ومباعدتهم عنه وشدّة كراهيتهم بمن حجبت قلوبهم عن العلم، وأسماعهم عن الفهم والإدراك.
المفردات اللغوية:
حم للتنبيه على إعجاز القرآن وتحديه، وعلى خطر ما يذكر في السورة من أحكام.
فُصِّلَتْ بيّنت وميّزت أتمّ بيان وأوضح تفصيل للأحكام والقصص والمواعظ. قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغة العرب كله، وفيه امتنان بسهولة قراءته وفهمه. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لقوم يفهمون ذلك، وهم العرب.
بَشِيراً وَنَذِيراً صفة القرآن، فهو مبشّر للعاملين به، ومنذر للمخالفين له. فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبّره وقبوله. فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تأمل وطاعة وقبول، أي لا يقبلون ولا يطيعون. وَقالُوا للنبي ص قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أغطية، جمع كنان، كغطاء وأغطية، والكنان: جعبة (أو خريطة) السهام، والمراد أنها في أغطية سميكة متكاثفة. وَقْرٌ صمم أو ثقل سمع. حِجابٌ ستار أو ساتر يمنعنا عن التواصل، والمراد: خلاف في الدين، وقوله:
وَمِنْ بَيْنِنا.. للدلالة على أن الحجاب مبتدأ منهم ومنه، بحيث استوعب المسافة المتوسطة، ولم يبق فراغ. فَاعْمَلْ على دينك. إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا.
أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي لست ملكا أو جنّيا لا يمكنكم الالتقاء به. أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي إنما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل. فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ توجهوا إليه بالإيمان والطاعة.
وَاسْتَغْفِرُوهُ اطلبوا المغفرة مما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل. وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله، والويل: كلمة عذاب، وهو كلمة تهديد لهم، أو واد في جهنم.
لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ لبخلهم وعدم إشفاقهم على الخلق، وذلك من أعظم الرّذائل. وفيه دليل على
184
أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ هُمْ الثانية تأكيد، والجملة حالية مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا وإنكارهم للآخرة. غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع، ولا يمنّ به عليهم، من المنّ.
التفسير والبيان:
حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذه الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وللدلالة على خطر ما يتلى بعدها، هذا القرآن منزّل من الله تبارك وتعالى ذي الرحمة الواسعة لعباده، فهو المنعم بعظائم النّعم ودقائقها، إنه منزّل على عبده ونبيّه محمد ص. وتخصيص هذين الوصفين الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بالذّكر هنا للدلالة على أن هذا القرآن هو البلسم الشافي للأمم والأفراد والجماعات، وهو الرّحمة الكبرى للعالم، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٧].
ونظير الآية قوله تعالى: قُلْ: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل ١٦/ ١٠٢]، وقوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء ٢٦/ ١٩٢- ١٩٥].
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وهو كتاب بيّنت آياته بيانا شافيا، وأوضحت معانيه، وأحكمت أحكامه: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود ١١/ ١]، وقد أنزلناه بلغة العرب، ليسهل فهمه، فمعانيه مفصّلة، وألفاظه واضحة غير مشكلة، وإنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماء الراسخون الذين يعلمون أن القرآن منزل من عند الله، ويعلمون معانيه، لنزوله بلغتهم، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف ١٢/ ٢]، وقال سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم ١٤/ ٤].
185
بَشِيراً وَنَذِيراً، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي إن هذا القرآن يبشّر المؤمنين أولياء الله بالجنة لاتّباعهم له وعملهم به، وينذر الكافرين أعداء الله بالنار لمخالفتهم أحكامه، وإصرارهم على التكذيب به حتى الموت، ولكن أعرض أكثر الكفار المشركين عمّا اشتمل عليه من الإنذار، وعن الإصغاء إليه، فهم لا يسمعون آياته سماع تدبّر وانتفاع، ولم يقبلوه ولم يطيعوا أحكامه، لإعراضهم عنه، بالرغم من بيانه ووضوحه.
ثم صرّحوا بأسباب ثلاثة لنفرتهم ومباعدتهم عنه، كما حكى تعالى:
وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ أي وقال أولئك المشركون: قلوبنا في أغطية، فهي لا تفقه ما تقول، ولا يصل إليها قولك ودعوتك إلى الإيمان بالله وحده، وترك عبادة الآباء والأجداد، وفي آذاننا صمم وثقل سمع يمنعها من استماع قولك، ومن بيننا وبينك ساتر يستر عنا رؤيتك، ويمنعنا من إجابتك.
وهذه تمثيلات ثلاثة منهم لنبو قلوبهم عن إدراك الحق، ومجّ أسماعهم له، وامتناع المواصلة بينهم وبين رسول الله ص. قيل: إن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال: يا محمد بيننا وبينك حجاب، استهزاء منه.
فاعمل على دينك وطريقتك، إننا عاملون على ديننا وطريقتنا، لا نتابعك، واعمل في هلاكنا وإبطال أمرنا، فإنا عاملون في هلاكك وإبطال أمرك وفضّ الناس من حولك.
وأذكر هنا رواية أخرى لما ذكرت في فضل هذه السورة،
روي أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله ص ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه، وليقبح عليه فيما بينه وبينه، وليبعد ما جاء به، فلما تكلّم عتبة، قرأ رسول الله ص حم ومرّ في صدرها حتى انتهى إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ
186
صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ
فأرعد الشيخ، ووقف شعره، فأمسك على فم رسول الله ص بيده، وناشده بالرّحم أن يمسك وقال حين فارقه:
«والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي».
وبعد أن ذكروا أسباب إبائهم الإيمان بالله وحده، أجيبوا بأن محمدا مجرد بشر لا يقدر على جبرهم على الإيمان، فقال تعالى:
قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ أي قل أيها الرسول مجيبا قومك المكذبين المشركين عن شبهتهم:
ما أنا إلا بشر كواحد منكم لولا الوحي، وإني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرا وقهرا، فإني بشر مثلكم، لكني أبلغكم ما أوحي إليّ به، وخلاصة ذلك الوحي أمران: العلم والعمل، أما العلم فأساسه معرفة التوحيد، لأن الحق هو أن الله واحد، وليس معه شريك من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرّقين، وهو المراد بقوله: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ والحق يجب علينا أن نعترف به، والعمل أساسه: الاستقامة والاستغفار والتوبة من الذنوب، أي الطاعة وإخلاص العبادة، وطلب العفو عن الذنوب السالفة، ورأسها الشرك، لذا أعقبه بتهديد المشركين، فقال تعالى:
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي الهلاك والدمار والخسارة للمشركين الذين أشركوا مع الله إلها آخر، والذين تجرّدوا من حبّ الإنسانية والشفقة على خلق الله فلا يؤدون الزكاة، ويمنعونها عن الفقراء، ولا ينفقون في الطاعة، وهم جاحدون الآخرة، منكرون البعث والحساب والجزاء.
فالله تعالى أثبت الويل لمن اتّصف بصفات ثلاث:
187
أولها- أن يكون مشركا، وهو ضدّ التوحيد.
وثانيها- كونه ممتنعا من أداء الزكاة، وهو ضدّ الشفقة على خلق الله تعالى.
وثالثها- كونه منكرا للقيامة، مستغرقا في طلب الدنيا ولذاتها.
وإنما ذكر الله تعالى هذه الأوصاف، لأن الإيمان أساس العقيدة، والشرك هدم لها، ولأن الزكاة دليل الإيمان، لأنها اقتطاع جزء من أحب الأشياء إلى النفس وهو المال قرين الروح، لذا قيل: الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلّف عنها هلك. ومنع الزكاة قسوة على عباد الله، وبذلها دليل على صدق النّية.
وأما الإيمان بالآخرة: فهو خلاصة الإيمان وهدفه وتقرير للمصير. وإنكار البعث والقيامة: تدمير لكل الأعمال في الدنيا، وانصراف إليها وإعراض عن الآخرة.
وهذه الآية تهديد لمن يشرك بالله، ويمنع الزكاة التي تطهّر النّفس من داء الشّح والبخل، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة وينصرف إلى الدنيا ولذاتها. ونحو الآية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس ٩١/ ٩- ١٠].
ثم أعقب وعيد الكفار بوعد المؤمنين للجمع المألوف في القرآن بين الترهيب والتّرغيب، فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي إن الذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا بما أمر الله به وانتهوا عما نهى عنه، لهم عند ربّهم أجر وثواب غير مقطوع ولا ممنوع، ولا يمنّ عليهم به، لأن المنّة بالتّفضل، وأما
188
الأجر فحقّ أداؤه، كما قال تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود ١١/ ١٠٨]، وقال سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق ٨٤/ ٢٥]. قال السّدّي: نزلت في الزّمنى والمرضى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة، كتب لهم من الأجر كأصحّ ما كانوا يعملون فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- وصف الله تعالى القرآن في مطلع هذه السورة بصفات عشر: هي كونه تنزيلا، وكون ذلك التنزيل من الرحمن الرحيم، وكونه كتابا، وفصّلت آياته، وكونه قرآنا، وكونه عربيا، ولقوم يعلمون ليفهموا منه المراد، وبشيرا، ونذيرا، وكونهم معرضين عنه لا يسمعون ولا يلتفتون إليه.
٢- ذهب أكثر المتكلمين إلى أنه يجب على المكلّف تنزيل ألفاظ القرآن على المعاني التي هي موضوعة لها بحسب اللغة العربية، وحملها على معان أخر بغير هذا الطريق باطل قطعا.
٣- ليس في القرآن الكريم لفظ غير عربي، وهذا ردّ على من قال: اشتمل القرآن على سائر اللغات، مثل إِسْتَبْرَقٍ وسِجِّيلٍ من اللغة الفارسية، وكَمِشْكاةٍ من لغة الحبشة، وبِالْقِسْطاسِ
من لغة الروم.
٤- إن ألفاظ الإيمان والكفر والصلاة والزكاة والصوم والحج هي ألفاظ عربية لغوية، لا شرعية، وإنما خصصها الشرع ببعض أنواع مسمياتها، فالإيمان مثلا خصصه الشرع بنوع معين من التصديق، والصلاة خصصها الشرع بنوع معين من الدعاء، وهكذا البواقي، لقوله تعالى السابق: قُرْآناً عَرَبِيًّا وقوله المتقدم: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ.
189
٥- إن وصف القرآن بكونه عَرَبِيًّا في معرض المدح والتعظيم دليل على أن لغة العرب أفضل اللغات.
٦- دلّ قوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ على أنه لا يجوز أن يحصل في القرآن شيء غير معلوم، لأن المعنى: إنما جعلناه عربيا ليصير معلوما.
٧- دلّ قوله تعالى: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ على أن الهادي من هداه الله، وأن الضّال من أضلّه الله. وهذا بعد اختيار أصل الهداية وأصل الكفر والضّلال، فليس المعنى: هو الجبر على الهداية أو الجبر على الضّلالة، فإن المشركين أعرضوا عن القرآن بعد توافر موجبات ثلاثة للإيمان، وهي: كون القرآن نازلا من عند الله الرّحمن الرّحيم، وكونه عربيا، وكونه بشيرا ونذيرا.
٨- دلّت آية: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ.. الآية على أن الكفار كانوا في غاية النّفرة والمباعدة عن القرآن باختيارهم وتصريحهم.
٩- لا يختلف النّبيّ ص وغيره من الأنبياء عن سائر الناس إلا بإنزال الوحي عليهم، فهم بشر عاديون كسائر البشر، لكن اصطفاهم ربّهم للنّبوة والرسالة وتبليغ وحيه إلى الناس.
١٠- إن مناط السعادة تعظيم أمر الله، والشفقة على خلق الله، ولقد أخلّ المشركون بالأمرين معا، فكانوا أشقياء، فهم لم يعظموا الله بتوحيده، ولم يخلصوا العبادة والطاعة، ولم يبادروا إلى الاستغفار من الشرك، ولم يرحموا عباد الله بمنعهم الزكاة، ولم ينفقوا في الطاعة، ولم يستقيموا على أمر الله، وأنكروا البعث والحشر والحساب والجزاء. وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفره مع منع وجوب الزكاة عليه، فإنه تعالى ألحق الوعيد الشديد له على أمرين: كونه مشركا، وأنه لا يؤتي الزكاة، فدلّ على أن لعدم إيتاء الزكاة من المشرك تأثيرا عظيما في زيادة الوعيد.
190
١١- إن الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وأدّوا الفرائض والطاعات، واجتنبوا المنكرات والمحظورات، لهم عند ربّهم أجر وثواب لا ينقطع أبدا.
دليل وجود الله تعالى وكمال قدرته وحكمته
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٩ الى ١٢]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
الإعراب:
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً الواو: واو الحال من ضمير خَلَقَ وتقديره: قل: أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين مجعولا له أندادا.
سَواءً لِلسَّائِلِينَ سَواءً بالنصب على المصدر، بمعنى (استواء) وتقديره: استوت استواء. وقرئ بالرفع (سواء) لأنه خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره: هي سواء، وقرئ بالجر مجرورا على الوصف لأيام أو لأربعة والمشهور: النصب.
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً حال.
قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ جمعها جمع العقلاء، لأنه وصفها بالقول والطاعة، مثل: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ فقد وصفها بالسجود، وهو من صفات العقلاء، وجمعها جمع من يعقل.
191
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ سَبْعَ سَماواتٍ: في موضع نصب على البدل من هاء ونون فَقَضاهُنَّ.
البلاغة:
أَإِنَّكُمْ استفهام إنكاري، ولام لَتَكْفُرُونَ لتأكيد الإنكار، وتقديم الهمزة لصدارتها.
فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً استعارة تمثيلية، مثل تأثير قدرته في السموات والأرض بأمر السلطان أحد رعيته بتنفيذ شيء، وامتثال الأمر بسرعة.
طَوْعاً وكَرْهاً بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الكفر به: إلحادهم في ذاته وصفاته. فِي يَوْمَيْنِ في مقدار يومين أو بنوبتين، وخلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون. أَنْداداً شركاء، جمع ندّ، أي شريك. ذلِكَ الذي خلق الأرض في يومين. رَبُّ الْعالَمِينَ خالق جميع ما وجد من الممكنات ومالكها ومربّيها، والْعالَمِينَ: جمع عالم: وهو ما سوى الله، وجمع لاختلاف أنواعه تغليبا للعقلاء.
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت، وهو كلام مستأنف غير معطوف على خَلَقَ للفصل بما هو خارج عن صلة بِالَّذِي. مِنْ فَوْقِها مرتفعة عليها. وَبارَكَ فِيها أكثر خيرها، بأن خلق فيها أنواع النبات والحيوانات والمياه. وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها قسم فيها أقواتها للناس والبهائم. فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ في تمام أربعة أيام تمّ الجعل والتقدير، أي في تتمة أربعة أيام باليومين المتقدمين.
سَواءً لِلسَّائِلِينَ أي استوت الأربعة استواء لا تزيد ولا تنقص، أي إنها أربعة أيام كاملة لا زيادة فيها ولا نقصان، ولِلسَّائِلِينَ متعلق بمحذوف تقديره: هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، أو متعلق بقدر أي قدر فيها الأقوات للطالبين لها.
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قصد وعمد نحوها، أي تعلقت إرادته بها. وَهِيَ دُخانٌ أي مادة غازية مظلمة، تشبه الدخان في رأى العين. ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي ائتيا في الوجود، إذا كان الخلق السابق بمعنى التقدير، أو اخضعا لمرادي منكما من التأثير والتأثر، حال كونكما طائعتين أو مكرهتين. قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ منقادين بالذات، وفيه تغليب المذكر العاقل.
قال البيضاوي: والأظهر أن المراد تصوير تأثير قدرته فيها، وتأثرهما بالذات عنها، وتمثيلهما بأمر المطاع، وإجابة المطيع الطائع، كقوله: كُنْ فَيَكُونُ.
192
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ خلقهنّ خلقا إبداعيا وصيّرهنّ وأكملهنّ وفرغ منهنّ، والضمير يرجع إلى السماء، لأنها في معنى الجمع الآيلة إليه. فِي يَوْمَيْنِ فرغ منها في تمام يومين، وهذا موافق لآيات خلق السموات والأرض في ستة أيام.
وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها شأنها وما يتأتى منها من الطاعة والعبادة. بِمَصابِيحَ نجوم. وَحِفْظاً منصوب بفعل مقدر، أي حفظناها حفظا من استراق الشياطين السمع، بالشّهب، أو من الآفات. ذلِكَ الخلق. تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ تقدير البالغ التمام في القدرة والعلم، فهو القوي القادر في ملكه، العليم بخلقه.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بتوحيده في الألوهية والربوبية، أردفه بما يدلّ على وجوده: وهو الخلق والتقدير للسموات والأرض في مدة قليلة، وفي ذلك أيضا ما يدلّ على كمال قدرته وحكمته، فمن كانت هذه صفته، فكيف يسوغ جعل الأصنام والأوثان شركاء له في الألوهية والعبودية، وهي عاجزة عن الخلق والتقدير؟!
التفسير والبيان:
قُلْ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً؟ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ قل أيها الرسول لقومك المشركين توبيخا وتقريعا:
كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض في مقدار يومين، قيل: هما يوم الأحد ويوم الاثنين، أو في نوبتين نوبة جعلها جامدة بعد أن كانت كرة غازية، ونوبة جعلها طبقات بذخائرها المائية والمعدنية.
وتجعلون له أمثالا وأضدادا مساوين له في القدرة من الملائكة والجنّ والأصنام والأوثان، فذلك المتصف بالخلق والإبداع هو ربّ العالمين كلهم، أي مربّي الإنس والجنّ ومالكهم وخالقهم ومدبّرهم، فكيف تجعلون بعض مخلوقاته شركاء له في عبادته؟! ومن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة كيف يعقل الكفر به؟!
193
إنه تعالى خلق الأرض في يومين، وتمّم بقية مصالحها في يومين آخرين، وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين. والمراد باليوم: الوقت مطلقا، لا اليوم المعروف، لأنه لم يكن هذا النظام قد وجد بعد.
والخلاصة: إن الآية إنكار من الله تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره، وهو الخالق لكل شيء، القاهر لكل شيء، المقتدر على كل شيء.
ثم أتمّ تعالى ما يقتضيه حسن العيش في الأرض بإيجاد ثلاثة أنواع فيها، فقال:
١- وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها أي جعل في الأرض جبالا ثوابت مرتفعة عليها، فهي التي تحفظ الأرض من الاضطراب، وتخزن المياه والمعادن، وترشد إلى الطرق، وتحفظ الهواء والسحاب، وهذا كقوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ [المرسلات ٧٧/ ٢٧].
٢- وَبارَكَ فِيها أي جعل الأرض مباركة كثيرة الخير، بما خلق فيها من منافع العباد، إذ جعل تربتها مصدرا للخير والرزق بإنبات النباتات المختلفة فيها، وإيداعها الثروة المعدنية والنفطية والمائية.
٣- وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي قدّر فيها أرزاق أهلها، وما يصلح لمعاشهم من الأشجار والمنافع، وجعل في أقطارها ما يناسب سكانها من أطعمة ونباتات، وأوجد في كل أرض ما لا يصلح في غيرها.
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ أي إنه تعالى أتمّ معايش أهل الأرض في تتمة أيام أربعة باليومين المتقدّمين. وإنما ذكر هذه الأيام الأربعة للدلالة على أنها كانت مستغرقة بالأعمال من غير زيادة ولا نقصان، وذلك في يومي الثلاثاء والأربعاء، فهما مع اليومين السابقين أربعة.
194
فإتمام حوائج الأرض ومتطلباتها في أيام أربعة كاملة لأجل السائلين، أي الطالبين للأقوات المحتاجين إليها، أو جوابا على سؤال السائلين القائلين بطبيعتهم: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ وإنما قال: سَواءً للدلالة على أن تلك الأيام الأربعة كانت متساوية غير مختلفة. وتخصيص الأرض بالأنواع الثلاثة: الرواسي والبركة وتقدير الأقوات إشارة إلى الاعتناء بأمر المخاطبين، فكان الأجدر بهم ألا يحصل منهم كفر أو شرك.
ثم ذكر الله تعالى خلق السماء، فقال:
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ أي ثم عمد وقصد وتوجه توجّها كاملا إلى السماء حسبما تقتضي الحكمة، وهي كتلة غازية مظلمة تشبه الدخان أو السحاب أو السديم (وهو عالم السديم في اصطلاح العلماء) فأمر بأن تكون بشمسها وقمرها ونجومها، كما أمر بتكوين ما في الأرض من أنهار وثمار ونبات، فتمّ خلقهما، وأتت السماء والأرض منقادتين خاضعتين للأمر الإلهي طائعين أو مكرهين. وهذا هو المراد بقوله تعالى لتلك العوالم السماوية والأرضية: ائتيا طائعتين أو كارهتين، فأجابتا بقولهما: أتينا طائعين. قيل: إن خلق السموات وما فيها تمّ في يوم الخميس والجمعة. وفائدة قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ.. إظهار كمال القدرة والتقدير.
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ..: قال الله تبارك وتعالى للسموات: أطلعي شمسي وقمري ونجومي، وقال للأرض:
شققي أنهارك، وأخرجي ثمارك، قالتا: أتينا طائعين.
وبه يتبين أن قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.. هو كناية عن إيجاد السماء والأرض. وإنما
195
خصص الاستواء بالسماء دون الأرض مع توجهه توجها كاملا لخلقهما هو رعاية السماء في مقابل تقدير الأرض.
والتوفيق بين هذه الآية: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ.. وآية وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات ٧٩/ ٣٠]، المشعر بأن خلق الأرض حصل بعد خلق السماء: هو أن يقال- كما ذكر الرازي-: إنه تعالى خلق الأرض في يومين أولا، ثم خلق بعدها السماء، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض أي بسطها، فيزول التناقض «١». ثم ناقش الرازي هذا الجواب واستشكله من وجوه.
وقال أبو حيان: والمختار عندي أن يقال: خلق السماء مقدم على خلق الأرض، وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، بل الخلق عبارة عن التقدير، وهو في حقّه تعالى حكمه أن سيوجد، وقضاؤه بأن سيحدث كذا في مدة كذا: لا يقتضي حدوثه في ذلك الحال، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء «٢».
والمقصود بهذا أن المراد من خلق الأرض، وجعل الرواسي فيها، والمباركة فيها، وتقدير أقواتها فيها هو التقدير، أي قدر خلق الأرض والسماء، ويكون الإتيان طوعا أو كرها بيانا لكيفية التكوين إثر بيان كيفية التقدير. وعلى كل حال يمكن فهم قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ بأن الترتيب في الذكر فحسب، لا الترتيب في الواقع، فإن خلق السماء كان في رأي أبي حيان قبل خلق الأرض.
والسبب في ذكر السماء مع الأرض وأمرهما بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين: هو أن الله قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوة أي غير
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ١٠٤- ١٠٥
(٢) تفسير البحر المحيط: ٧/ ٤٨٧- ٤٨٨
196
منبسطة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات ٧٩/ ٣٠]، والمعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، ائت يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك، وائت يا سماء مقببة سقفا لهم، ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع.
ودحو الأرض وبسطها إنما هو بالنسبة لنظر الناظر وموقع الإنسان الذي يعيش عليها، والحقيقة أن الأرض كرة منذ أول حدوثها.
وإتيان الأرض طائعة يدلّ على حركتها المستمرة الطائعة على وفق قانون الجاذبية الأرضية، فهي مجذوبة إلى الشمس التي هي أصلها بحركة دورية دائمة طوعا لا قسرا، وإتيان الأرض والسماء دليل على حركتهما، فالأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، والشمس تدور حول نفسها وحول شموس أخرى أكبر منها.
وبعد أن ذكر الله تعالى تمام خلق الأرض، ذكر كيفية تكوين السموات السبع وبيان نظامها، فقال: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أي فأتمّ خلق السموات السبع وأحكمهنّ وفرغ منهن في مقدار يومين أو نوبتين سوى الأيام الأربعة التي خلق فيها الأرض، فأصبح خلق السموات والأرض في أيام ستة كما قال تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «١». قال مجاهد: ويوم من الأيام الستّة كألف سنة مما تعدّون.
وأوحى في كل سماء أمرها، أي جعل فيها النظام الذي تجري عليه الأمور فيها، قال قتادة: أي خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها (مداراتها) وما فيها من الملائكة والبحار والبرد والثلوج.
(١) [الأعراف: ٥٤، يونس: ٣، هود: ٧، الفرقان: ٥٩، السجدة: ٤، ق: ٣٨، الحديد:
٤].
197
وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي وزيّنّا سماء الدنيا بكواكب منيرة مضيئة مشرقة على أهل الأرض، متلألئة عليها كتلألئ المصابيح، وخلقنا المصابيح زينة وحفظا من الشياطين الذين يسترقون السمع، وحفظناها من الاضطراب في سيرها، ومن اصطدام بعضها ببعض، فهي تسير في نظام محكم وعلى منهج ثابت.
ذلك النظام البديع هو من ترتيب الله القادر على صنع كل شيء، والذي يعلم كل شيء، فهو القوي القاهر الذي غلب كل شيء وقهره، وهو العليم بمصالح العباد وبحركاتهم وسكناتهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- أمر الله تعالى بتوبيخ الكفار المشركين والتّعجب من فعلهم وكفرهم بالله الذي هو خالق السموات والأرض، واتّخاذهم الأضداد والشركاء من الأصنام وغيرها معبودات مع الله الذي خلقها وخلق جميع العوالم من الملائكة والإنس والجن وغيرهم، وخلق الأرض في يومي الأحد والاثنين.
٢- إن الخلق والتكوين والإبداع هو دليل قاطع على وجود الله وكمال قدرته وحكمته وعلمه الشامل.
٣- والله تعالى أيضا هو الذي جعل في الأرض جبالا ثوابت مرتفعة عليها، وبارك فيها بما خلق فيها من المنافع، وقدّر أرزاق أهلها ومصالحهم، وذلك في يومي الثلاثاء والأربعاء، فذلك تمام الأيام الأربعة مع اليومين المتقدمين في خلق الأرض، وهي أيام أربعة مستوية لا زيادة فيها ولا نقصان، للسائلين وغير السائلين، أي خلق الأرض وما فيها لمن سأل ولمن لم يسأل، ويعطي من سأل ومن لا يسأل.
198
٤- ثم عمد تعالى إلى السموات وهي في حالة دخان أي كتلة غازية مظلمة، فنقلها من صفة الدخان إلى حال الكثافة، وتمّ الأمر الإلهي للأرض والسماء بأن يجيئا بما خلق فيهما من المنافع والمصالح والخروج للخلق، فاستجابتا للأمر وانقادتا له.
٥- أكمل الله تعالى خلق السموات السبع وفرغ منهن في مقدار يومين هما يوما الخميس والجمعة، سوى الأيام الأربعة التي خلق فيها الأرض، فصار خلق السموات والأرض في أيام ستة، كما قال تعالى خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
٦- لم يكن خلق السموات خاليا من النظام، وإنما نظم تعالى أمرها، فخلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها، وأوجد في كل سماء ملائكة، وأودع فيها خزائن المطر، وجعل لها نظاما بديعا تسير عليه دون توقّف ولا تعثّر ولا تصادم مع غيرها، وجعل الكواكب مختصة بالسماء الدنيا، وحفظها من كل اضطراب ومن الشياطين الذين يسترقون السمع.
٧- ظاهر هذه الآية يدلّ على أن الأرض خلقت قبل السماء، وقال تعالى في آية أخرى: أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات ٧٩/ ٢٧- ٣٠]، وهذا يدلّ على خلق السماء أولا.
فقال ابن عباس: خلقت الأرض قبل السماء، فأما قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فالدّحو غير الخلق، فالله خلق الأرض، ثم خلق السموات، ثم دحا الأرض، أي مدّها وبسطها. وأيّده ابن كثير قائلا: ففصل ها هنا في هذه الآيات ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء، فذكر أنه خلق الأرض أولا، لأنها كالأساس، والأصل أن يبدأ بالأساس، ثم بعده بالسقف، كما قال عزّ وجلّ:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة ٢/ ٢٩].
199
وأما آية دحو الأرض فكان بعد خلق السماء، وأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنّص، كما ذكر ابن عباس رضي الله عنه «١». وهذا مفاد كلام الرازي المتقدم.
وقال مقاتل: خلق الله السموات قبل الأرض، وتأويل قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ: ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان، وقال لها قبل أن يخلق الأرض، فأضمر فيه (كان) كما قال تعالى: قالُوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف ١٢/ ٧٧]، معناه: إن يكن سرق. وردّ عليه الرّازي بأن كلمة (ثم) تقتضي التأخير «٢».
تهديد المشركين بمثل صاعقة عاد وثمود
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٣ الى ١٨]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٩٢
(٢) تفسير الرازي: ٢٧/ ١٠٥ [.....]
200
الإعراب:
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أَمَّا: حرف تفصيل فيه معنى الشرط، لذا جاءت الفاء في فَهَدَيْناهُمْ الذي هو خبر المبتدأ، الذي هو ثَمُودُ. والأصل في الفاء أن تكون مقدّمة على المبتدأ، إلا أنهم أخروها إلى الخبر، لئلا يلي حرف الشرط فاء الجواب، فهي في تقدير التقديم، لذا جاز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، مثل: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى ٩٣/ ٩- ١٠] فنصب اليتيم والسائل بما بعد الفاء، لأنها في تقدير التقديم.
ومن قرأ ثَمُودُ بالنصب، نصبه بفعل مقدر، يفسره هذا الظاهر، تقديره: مهما يكن من شيء، فهدينا ثمود فهديناهم. وقرئ «ثمود وثمود» بالصرف وترك الصرف، فمن صرفه «ثمود» جعله اسم الحي، ومن لم يصرفه «ثمود» جعله اسم القبيلة، فلم يصرفه للتعريف والتأنيث.
أَلَّا تَعْبُدُوا أن: مفسرة، لأن مجيء الرسل بالوحي فيه معنى القول، ولا: ناهية، أو مصدرية ولا: ناهية، أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن.
البلاغة:
فَإِنْ أَعْرَضُوا بعد قوله: قُلْ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ التفات من الخطاب إلى الغيبة، إظهارا لعدم المبالاة بهم والاستخفاف بشأنهم، ففي دعوتهم للإيمان خوطبوا اجتذابا لهم، وفي حال إعراضهم عن الإيمان بعد البيان، أهملوا.
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَإِنْ أَعْرَضُوا أي كفار مكة عن الإيمان بعد هذا البيان. أَنْذَرْتُكُمْ خوفتكم بنزول العذاب. صاعِقَةً عذابا شديدا يهلكهم كأنه صاعقة. مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي مثل العذاب الذي أهلكهم. والصاعقة في الأصل: صيحة الهلاك أو قطعة النار النازلة من السماء مع رعد شديد. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ إِذْ هنا: ظرف صاعِقَةً الثانية، لأنها بمعنى عذاب، أو حال منها لإضافتها، وقد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما، وبجميع الرسل ممن جاء.
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي من قبلهم ومن بعدهم، فكأن الرسل جميعا قد جاءوهم.
أَلَّا تَعْبُدُوا «أن» مفسرة بمعنى أي، أو أنها مخففة من الثقيلة، أصله: بأنه
201
لا تعبدوا، أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم: أَلَّا تَعْبُدُوا. لَوْ شاءَ رَبُّنا مفعول شاء محذوف، أي لو شاء ربنا إرسال الرسل. لَأَنْزَلَ علينا. فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي فإذا أنتم بشر، ولستم بملائكة، فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به. وقوله بِما أُرْسِلْتُمْ ليس إقرارا منهم بالإرسال، وإنما هو على حسب كلام الرسل، أي في زعمكم، وفيه تهكم، كما قال فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء ٢٦/ ٢٧] وقولهم: فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم.
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي فتعظموا فيها على أهلها بغير استحقاق.
مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أي لا أحد، وهذا اغترار بقوتهم وعزيمتهم، كان واحدهم يقلع الصخرة العظيمة من الجبل بيده، ثم يجعلها حيث يشاء. أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا. أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي قدرة، فإنه قادر بالذات، مقتدر على ما لا يتناهى، قوي على ما لا يقدر عليه غيره. وَكانُوا بِآياتِنا المعجزات. يَجْحَدُونَ ينكرونها مع معرفتهم بأنها حق، وَكانُوا معطوف على قوله: فَاسْتَكْبَرُوا.
رِيحاً صَرْصَراً شديدة البرد، تهلك بشدة بردها، مأخوذ من الصرّ: وهو البرد الذي يصرّ، أي يجمع، أو هي شديدة الصوت في هبوبها، من الصرير، فهي باردة شديدة الصوت بلا مطر. نَحِساتٍ مشؤومات عليهم. عَذابَ الْخِزْيِ عذاب الذل. أَخْزى أشد ذلا.
وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ بمنعه عنهم.
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أي بينا لهم طريق الهدى والحق، بإرسال الرسل وبيان الحجج والأدلة. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي فاختاروا الضلالة والكفر على الإيمان. فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ صاعقة من السماء فأهلكتهم، والهون: المهين أو الذل. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من اختيار الضلالة.
المناسبة:
بعد بيان إعراض عبدة الأوثان عن الإيمان بالله بالرغم من الأدلة الدالة على وجوده وتوحيده وقدرته من خلق السموات والأرض، أمر الله تعالى رسوله ص بأن ينذرهم بعذاب شديد مماثل للعذاب الذي نزل بعاد وثمود من قبلهم، مع بيان سبب العذاب النازل بكل قبيلة على حدة.
202
التفسير والبيان:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق: إن أعرضتم عن الإيمان بالله وبرسالتي، ولم تتدبروا وتتفكروا في هذه المخلوقات الكونية العظيمة، فإني أخوفكم بعذاب شديد قاتل في الحال مشابه لعذاب الأمم الماضية المكذبين بالرسل، كعاد وثمود ونحوهما ممن فعل فعلهما.
إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ عذبوا بعد أن جاءتهم الرسل المتقدمون الذين بلغتهم رسالاتهم وكلامهم والرسل المتأخرون الذين رأوهم بأنفسهم، وأمروهم بعبادة الله وحده، فكذبوهم وأدبروا عنهم، وتذرعوا بأن الرسل ملائكة لا بشر كما قال تعالى:
قالُوا: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً، فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي قالوا لرسلهم: لو شاء ربنا إرسال الرسل لأرسل إلينا ملائكة، ولم يرسل إلينا بشرا من جنسنا لا فضل لهم علينا، فإنا بما أرسلتم به أيها البشر- في زعمكم- كافرون منكرون، فلا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا.
ولا بأس من إعادة قصة عتبة هنا برواية أخرى مفيدة لمعرفة مدى تأثير القرآن وهذه الآيات بالذات في النفوس إذا تجردت عن الأهواء والعصبيات، أخرج البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: «قال أبو جهل والملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر، فكلّمه، ثم أتانا ببيان من أمره. فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى عليّ إن كان كذلك، فأتاه، فقال: يا محمد، أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم يجبه، قال: لم تشتم آلهتنا وتضللنا؟ إن كنت تريد
203
الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تك بك الباءة (الميل للنساء) زوجناك عشر نسوة تختارهن، أيّ بنات من شئت من قريش، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله ساكت، فلما فرغ،
قال ص: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا- إلى قوله- فَإِنْ أَعْرَضُوا، فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ
، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم، فرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: لا نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه، وقالوا: يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، ثم قال: والله لقد كلمته، فأجابني بشيء ما هو بشعر ولا سحر ولا كهانة، ولما بلغ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أمسكت بفيه، وناشدته الرحم، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب».
ثم بدأ الله تعالى بتفصيل ما حصل من قوم عاد وثمود، بعد الإجمال، فقال:
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أي فأما قوم عاد فتكبروا عن الإيمان بالله وتصديق رسله، واستعلوا على من في الأرض بغير استحقاق، وبغوا وعتوا وعصوا ربهم، وقالوا: لا أحد أقوى منا، حتى يقهرنا، وقد كانوا ذوي أجسام طوال وقوة شديدة، فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هود عليه السلام بالعذاب، ومرادهم بهذا القول أنهم قادرون على دفع ما ينزل بهم من العذاب.
فرد الله عليهم موبخا، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟ وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي أو لم يعلموا ويتفكروا فيمن يبارزون بالعداوة؟ فإنه العظيم الذي
204
خلق الأشياء وما فيها من القوى، وإن بطشه لشديد، فهو قادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء بقوله: كُنْ فَيَكُونُ وهم يعرفون مدى أحقية آياتنا وثبوتها، ولكنهم يجحدون بها ويعصون الرسل، وينكرون معجزاتهم والأدلة الدامغة التي هي حجة عليهم.
ثم ذكر الله تعالى نوع عقابهم، فقال:
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ، لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى، وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ أي فأرسلنا عليهم ريحا شديدة البرد وشديدة الصوت تحرق وتدمر ما أتت عليه في فترة أيام مشؤومات متتابعات، كما قال تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة ٦٩/ ٧].
وغاية ذلك العذاب أن نذيقهم عذاب الذل والهوان في الدنيا بسبب استكبارهم، وإن عذاب الآخرة أشد إهانة وإذلالا من عذاب الدنيا، وهم لا يجدون ناصرا ينصرهم ولا دافعا يدفع عنهم العذاب، لا في الآخرة ولا في الدنيا.
ثم فصل تعالى جناية ثمود، فقال:
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي وأما قبيلة ثمود، فبيّنا لهم طريق الحق والهدى والنجاة، بإرسال الرسل إليهم، وبيان الأدلة الكونية من مخلوقات الله على توحيدنا، فاختاروا الكفر على الإيمان، وآثروا العصيان على الطاعة، وكذبوا رسولهم، وعقروا ناقة الله التي هي دليل صدق نبيهم.
فكان عذابهم ما أخبر عنه تعالى:
فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي فبعثنا عليهم
205
صيحة ورجفة وعذابا مهينا بسبب كسبهم وهو التكذيب والجحود. وقوله:
صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي داهية العذاب الهوان.
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ أي وأنقذنا من العذاب صالحا عليه السلام ومن معه من المؤمنين برسالته، المتقين ربهم بإقامة فرائضه وترك معاصيه، لم يمسهم سوء، ولا نالهم من ذلك ضرر ولا مكروه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يأتي:
١- إن الإصرار على الكفر سبب لعذاب الدنيا والآخرة، فلما أصر كفار قريش على الكفر والجهل، لم يبق علاج في حقهم إلا إنزال العذاب عليهم، ولكن الله برحمته أراد إنذارهم أولا وتخويفكم هلاكا مثل هلاك عاد وثمود.
٢- لم يترك الله سبيلا لثني كفار عاد وثمود عن كفرهم، فأرسل إليهم كما أرسل إلى من قبلهم رسلا يدعونهم إلى عبادة الله وحده، فتذرعوا بأن الرسول ينبغي أن يكون من الملائكة، والله قادر على إنزال ملائكة بدل الرسل، وأضافوا بأنهم كافرون بما جاء به الرسل من الإنذار والتبشير.
٣- كان من جناية عاد أنهم تكبروا في الأرض على عباد الله: هود ومن آمن معه، بغير حق ولا موجب للتكبر، واغتروا بأجسامهم حين تهدّدهم هود عليه السلام بالعذاب. ولكنهم قوم حمقى فإن الله أقدر منهم وأقوى، فلم يتفكروا في ذلك، وكفروا بالمعجزات. وتضمن استكبارهم أمرين:
الأول- إظهار الكبر وعدم الالتفات إلى الغير.
والثاني- الاستعلاء على الغير.
٤- تدل الآية على إثبات القدرة والقوة لله تعالى، كما قال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ
206
الرَّزَّاقُ، ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
[الذاريات ٥١/ ٥٨] وقدرة العبد متناهية محدودة، وقدرة الله لا نهاية لها وغير محدودة. فقوله تعالى: أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ليس المراد به المفاضلة أو النسبة التفضيلية، وإنما هو على منوال قولنا: (الله أكبر) فلا يراد بالتفضيل معناه المعروف، فهو كما يقولون: ليس على بابه.
٥- عذّب الله في الدنيا قبيلة عاد بإرسال ريح باردة شديدة البرد، وشديدة الصوت والهبوب، في مدى سبعة أيام مشؤومات متتابعات، وسيكون عذابهم يوم القيامة في النار أشد وأعظم من عذاب الدنيا، ولا يجدون ناصرا ينصرهم من العذاب.
٦- لقد بيّن الحق تعالى لقبيلة ثمود الهدى والضلال، فاختاروا الكفر على الإيمان، والمعصية على الطاعة، والضلالة على الرشد، فأرسل الله عليهم قارعة صاعقة مدمرة محرقة هي الصيحة والرجفة والذل والهوان بسبب تكذيبهم صالحا عليه السلام وعقرهم الناقة.
٧- جرت سنة الله عدلا وفضلا ورحمة على إنجاء المؤمنين، فقد نجّى الله تعالى صالحا عليه السلام ومن آمن به، وميّزهم عن الكفار، فلم يحلّ بهم ما حلّ بالكفار، وهذا كعادة القرآن في قرن الوعد بالوعيد.
والعبرة من إيراد قصة عاد وثمود: العظة والعبرة والتخويف والتحذير، وتهديد مكذبي الرسل، والإخبار بأنه تعالى يفعل بمؤمني قوم النبي ص وكفارهم ما فعل بعاد وثمود، وكل ذلك بقصد التخويف للإقلاع عن موجبات العذاب.
أما في الواقع فإن مثل ذلك العذاب لا يقع في أمة محمد ص، لقوله تعالى:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال ٨/ ٣٣] وجاء في الأحاديث الصحيحة: أن الله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع من الآفات الشاملة.
207
كيفية عقوبة الكفار في الآخرة
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
الإعراب:
وَيَوْمَ يُحْشَرُ.. يَوْمَ: منصوب بفعل دل عليه. يُوزَعُونَ وتقديره: يساق الناس يوم يحشر، أو منصوب بتقدير: اذكر.
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أن وصلتها: في موضع نصب، بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: وما كنتم تستترون عن أن يشهد عليكم، فحذف «عن» فاتصل الفعل به.
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ ذلِكُمْ: مبتدأ، وظَنُّكُمُ: خبره، وأَرْداكُمْ: خبر ثان.
208
البلاغة:
ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أي واذكر حين يجمع، فعل مبني للمجهول أو للفاعل وهو الله تعالى، وقرئ: (نحشر أعداء). يُوزَعُونَ يساقون بعد أن يحبس أولهم ليلحق آخرهم لئلا يتفرقوا، من وزعته: كففته، والمراد: كثرة أهل النار. حَتَّى إِذا ما حَتَّى غاية لقوله:
يُوزَعُونَ وما صلة زائدة لتأكيد ارتباط المجيء بشهادة الأعضاء، واتصال الشهادة بالحضور. شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بأن ينطقها الله فعلا، أو تظهر عليها آثار تدل على ما اقترف بها، فتنطق بلسان الحال.
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ سؤال توبيخ أو تعجب، والجلود: الجلود المعروفة، وقيل: هي الجوارح أو الفروج. قالُوا: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي ما نطقنا باختيارنا، بل أنطقنا الله الذي أراد نطق كل شيء، ولو كان النطق مؤوّلا بدلالة الحال، بقي الشيء عاما في الموجودات الممكنة. وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يحتمل أن يكون من تمام كلام الجلود، وأن يكون استئنافا من كلام الله تعالى، كالذي بعده. والمعنى: إن القادر على إنشائكم ابتداء، وإعادتكم بعد الموت أحياء، قادر على إنطاق جلودكم وأعضائكم.
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ.. أي ما كنتم تتسترون وتستخفون عند ارتكاب الفواحش من أن تشهد عليكم أعضاؤكم، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم، لأنكم لم توقنوا بالبعث. وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يشعر في كل حال بوجود رقيب عليه. وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ظننتم ألا يعلم الله بكم، فلذلك اجترأتم على المعاصي.
ذلِكُمْ إشارة إلى ظنهم هذا. أَرْداكُمْ أهلككم. فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ إذ جعلتم ما هو سبب للسعادة سببا للشقاوة.
فَإِنْ يَصْبِرُوا على العذاب. فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ مأوى. وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا يطلبوا العتبى، أي الرضا. فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المرضيين المجابين إلى ما يطلبون، أي المقبولين عتابهم، يقال: استعتبته فأعتبني، أي استرضيته فأرضاني، وأعتبني فلان: إذا عاد إلى مسرتي راجعا عن الإساءة. وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ هيأنا لهم ويسرنا شياطين الإنس والجن، يستولون عليهم.
فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا واتباع الشهوات. وَما خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة، بقولهم: لا بعث ولا حساب. وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ثبت ووجب عليهم القول بالعذاب، وهو:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ.. الآية [هود ١١/ ١١٩] وهو القضاء المحتم. فِي أُمَمٍ في جملة أمم. قَدْ
209
خَلَتْ
هلكت. مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وهم الذين عملوا مثل عملهم. إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل لاستحقاقهم العذاب.
سبب النزول: نزول الآية (٢٢) :
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كنت مستترا بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفر:
قرشيّ وختناه «١»
ثقفيّان- أو ثقفيّ وختناه قرشيان- كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمعه كلّه- قال-: فذكرت ذلك للنبي ص، فأنزل الله عز وجل: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ إلى قوله: مِنَ الْخاسِرِينَ.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار الجاحدين في الدنيا، أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة، ليكون ذلك أتم في الزجر والتحذير. ثم ذكر تعالى بقوله: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ.. سبب بقائهم في الكفر. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت: معناه: أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين، والدليل عليه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف ٤٣/ ٣٦] «٢».
(١) الختن: الصهر، والثقفي: عبد ياليل، وختناه: ربيعة وصفوان بن أمية.
(٢) الكشاف: ٣/ ٧٠
210
التفسير والبيان:
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ، فَهُمْ يُوزَعُونَ أي واذكر أيها الرسول لقومك قريش حال الكفار يوم القيامة ليرتدعوا وينزجروا حين يساقون جميعا إلى النار بعنف، بعد إيقاف أولهم ليلحق بهم آخرهم كيلا يتفرقوا، وليتلاحقوا ويجتمعوا، فتجمع الزبانية أولهم على آخرهم، كما قال تعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم ١٩/ ٨٦].
وأعداء الله تعالى: كل من كذب رسله واستكبر عن عبادته. وفي الآية إشارة إلى جموع الكفار وكثرتهم وإهانتهم في سوقهم.
حَتَّى إِذا ما جاؤُها، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يوزعون إلى أن يصلوا إلى النار ويقفوا عليها، فيسألون عما أجرموا، فإذا أنكروا تشهد عليهم جوارحهم بما اقترفت من الشرك والمعاصي وما عملوا في الدنيا، بأن ينطقها الله بما كتمت الألسن كما أنطق الشجرة، بأن يخلق فيها كلاما، والجلود: هي جلودهم المعروفة، وقيل: المراد بالجلود: الجوارح (الأعضاء) وشهادة الجلود: بالملامسة للحرام وما أشبه ذلك مما يفضي إليها من المحرّمات. واقتصر من الحواس الخمس على ثلاث منها وهي السمع والبصر واللمس، فإن آلة اللمس: هي الجلد، باعتبارها وسائل قوية للعصيان. أما الذوق فهو داخل في اللمس، وأما الشم فهو حسّ ضعيف في الإنسان، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي. وقوله سَمْعُهُمْ مفرد مضاف فيعم، ويصبح نظير جمع الأبصار والجلود.
فيحدث التعجب من الإنسان، كما حكى تعالى:
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي يقول هؤلاء على جهة اللوم والمؤاخذة لأعضائهم وجلودهم حين شهدوا
211
عليهم: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ فتجيبهم الأعضاء معتذرين: لقد أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء من مخلوقاته، فإنه كما أنطق الألسن في الدنيا، فكذلك أنطقنا في الآخرة، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح، كما قال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ، وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يس ٣٦/ ٦٥].
وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي من قدر على خلقكم وإنشائكم في ابتداء الأمر، قدر على إعادتكم ورجوعكم إليه، فإليه المصير بعد الموت، فيحاسب ويجازي كل نفس بما كسبت. وهذا إما تتمة كلام الجلود، أو من كلام الله تعالى.
أخرج مسلم في صحيحة والبزار وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله ص، فضحك، فقال: هل تدرون ممّا أضحك؟
قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول- أي العبد لربه-: ألم تجرني من الظلم «١»
؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، قال: يقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه (فمه) فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل».
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ هذا إما من كلام الجلود أو من كلام الله سبحانه كسابقه أو من كلام الملائكة، أي ما كنتم تتسترون وتستخفون حين فعل الأعمال القبيحة ومباشرتكم الفواحش، حذرا أو مخافة من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم تجاهرون بالكفر والمعاصي.
(١) هذه رواية مسلم،
ورواية البزار: «يقول: أي ربي، أليس وعدتني ألا تظلمني» ؟.
212
ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية، كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية، خوفا من هذه الشهادة.
وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ أي ولكنكم ظننتم ظنا مخطئا أن الله حال ارتكابكم المعاصي لا يعلم كثيرا مما تعملون من المعاصي، فاجترأتم على فعلها.
وفي الآية إيماء إلى أنه ينبغي للمؤمن أن يفكر دائما بوجود رقيب عليه.
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ أي إن ظنكم بأن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، وهو ظن فاسد، جرّأكم على المعصية، فتسارعتم فيها، وذلك أهلككم وطرحكم في النار، فصرتم من الخاسرين، إذ جعلتم ما هو سبب للسعادة سببا للشقاوة.
أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:
قال رسول الله ص: «لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال الله تعالى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر، أو لم يصبروا، هم في النار، لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها، فهي مأواهم ومحل استقرارهم، وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارا عن ذنوبهم، فما لهم أعذار، ولا يقبل منهم الاعتذار والاسترضاء، لأنهم فارقوا الدنيا التي هي دار العمل والتكليف،
قال عليه الصلاة والسلام فيما ذكره ابن الأثير وغيره عن ابن عباس: «ولا بعد الموت من مستعتب»

أي ليس بعد الموت من معذرة أو استرضاء، لأن الآخرة دار جزاء، لا دار عمل.
ثم أبان الله تعالى سبب بقائهم في الكفر، فقال:
213
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي وسلّطنا عليهم قرناء من شياطين الإنس والجن، فحسّنوا لهم أعمالهم في الماضي والمستقبل، وزيّنوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا وشهواتها، وأغروهم بالمعاصي، وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة، فقالوا: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار، فلم يروا أنفسهم إلا محسنين، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٣٦- ٣٧].
وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ أي وثبت لهم العذاب في جملة أمم كافرة مضت على الكفر قبلهم، فعلوا كفعلهم من الجن والإنس، فوجب لهم العذاب نفسه، وإنهم كانوا وإياهم متساوين في الخسارة والدمار، بتكذيبهم وسوء أفعالهم، ولم يربحوا شيئا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية:
١- يجمع الكافرون جمعا واحدا يوم القيامة، فيحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، ثم يساقون ويدفعون جميعا إلى جهنم.
٢- إذا جاؤوا إلى النار شهدت عليهم جوارحهم وأسماعهم وأبصارهم وجلودهم، وهي الجلود المعروفة بأعيانها في قول أكثر المفسرين. وكيفية الشهادة: أنه تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها، فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه، وهذا هو الظاهر المناسب للآية بعدها، وقيل: أن يظهر على تلك الأعضاء أمارات وأحوال تدل على صدور تلك الأعمال من الإنسان.
٣- يتعجب الكفار من شهادة أعضائهم عليهم، فيسألونهم: لم شهدتم علينا، وإنما كنا نجادل عنكم؟ فيجيبون: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء،
214
فالذي قدر على إحيائكم في المرة الأولى في الدنيا ثم إعادتكم أحياء في الآخرة، قادر على أن ينطق الجلود وغيرها من الأعضاء.
٤- يجيبون أيضا: ما كنتم تستخفون من أنفسكم، حذرا من شهادة الجوارح عليكم، لأن الإنسان لا يمكنه أن يخفي من نفسه عمله، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية.
ولقد ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا من أعمالكم، فجادلتم على ذلك، حتى شهدت عليكم جوارحكم بأعمالكم. وكما تكون الشهادة بالشر والسوء تكون بالخير.
ذكر أبو نعيم الحافظ عن معقل بن يسار عن النبي ص قال: «ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادى فيه: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل غدا عليك شهيد، فاعمل فيّ خيرا أشهد لك به غدا، فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا، ويقول الليل مثل ذلك».
٥- وإن ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا من أعمالكم هو الذي أهلككم، فأرداكم النار، قال قتادة: «الظن هنا بمعنى العلم» والظن هنا قبيح فاسد. والظن الفاسد: هو أن يظن بالله تعالى أنه يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال.
وقال قتادة أيضا: الظن نوعان: ظن منج وظن مرد، فالمنجي: قوله:
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة ٦٩/ ٢٠] وقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة ٢/ ٤٦]. وأما الظن المردي: فهو قوله: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ.
وقال العلماء: الظن قسمان:
أ- حسن: وهو أن يظن بالله عز وجل الرحمة والفضل والإحسان، قال الله تعالى في الحديث القدسي فيما أخرجه مسلم والحاكم عن أنس: «أنا عند ظن عبدي بي».
215
ب- قبيح: وهو أن يظن أن الله لا يعلم بعض الأفعال.
وقال الحسن البصري: إن قوما ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وقد كذب، ولو أحسن الظن لأحسن العمل، وتلا قول الله: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
٦- سواء صبر الكفار على العذاب أم لم يصبروا، فالنار مثواهم ومأواهم ومستقرّهم، وإن أرادوا الاعتذار عن كفرهم واسترضاء ربهم، لم يجابوا إلى طلبهم.
٧- سلّط الله على الكفار قرناء من الجن والشياطين، ومن الإنس أيضا، فحسّنوا وزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروها على الآخرة، وزينوا وحسنوا لهم ما بعد مماتهم، ودعوهم إلى التكذيب بأمور الآخرة، ووجب عليهم من العذاب ما وجب على الأمم الذين من قبلهم الذين كفروا ككفرهم، وخسروا أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
وهذا يدل على أن الله تعالى يريد الكفر من الكافر، لكن لم يأمره به ولم يرضه له، وحذره منه ومن الإصرار عليه. والإرادة للدلالة على أنه لا يقع شيء في الكون من دون إرادة الله، وإلا كان وقوع الشيء قهرا وعجزا، والله لا يقهر ولا يغلب.
216
الصد عن سماع القرآن الكريم
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
الإعراب:
ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ ذلِكَ جَزاءُ: مبتدأ وخبر، والنَّارُ: إما بدل من جَزاءُ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو النار، وتكون هذه الجملة بيانا للجملة الأولى، أو مبتدأ وخبره: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ.
جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا جَزاءُ منصوب على المصدر بفعله، أي يجازون جزاء.
المفردات اللغوية:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إذا قرأ النبي ص القرآن. وَالْغَوْا فِيهِ عارضوه بالكلام اللغو الذي لا معنى له، وارفعوا أصواتكم بذلك في زمن قراءته لتشوشوا على القارئ. وقرئ بضم الغين والمعنى واحد، يقال: لغي يلغى، ولغا يلغو وألغى: إذا هذى. لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ تغلبونه على قراءته، فيسكت عن القراءة.
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً المراد بهم هؤلاء القائلون وعامة الكفار.
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي لنجازينهم بسيئات أعمالهم أو أعمالهم السيئة، أو المراد لنجازينهم بأقبح جزاء عملهم. ذلِكَ جَزاءُ.. أي ذلك العذاب الشديد وأسوأ الجزاء هو جزاء أعداء الله الذين كذبوا رسله واستكبروا عن عبادته. دارُ الْخُلْدِ دار الإقامة المستمرة التي لا انتقال فيها. بِآياتِنا القرآن. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي وهم في النار. رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أي إبليس وقابيل اللذان منّا الكفر والقتل. نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ندوسهما بالأقدام في النار انتقاما منهما. لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ الأذلين المهانين.
217
المناسبة:
بعد بيان الوعيد الشديد للكفار في الدنيا والآخرة، وبيان سببه الذي أوقعهم في الكفر وأبقاهم فيه، ذكر الله تعالى موقفا معاديا آخر لهم، وهو صد الناس عن سماع القرآن والتشويش عند قراءته، لينصرفوا عنه، وهم أنفسهم عند الوقوع في العذاب الشديد يطلبون الانتقام ممن صيّرهم إلى هذا المصير المشؤوم.
التفسير والبيان:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ، وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي وقال بعض الكفار لبعض: لا تنصتو لسماع هذا القرآن عند تلاوته أو لا تطيعوه ولا تنقادوا لأوامره، وعارضوه باللغو الذي لا معنى له، من إنشاد الأشعار، ورفع الأصوات والتصفيق والتصفير، والتخليط بالخرافات، حتى تشوشوا على القارئ، ولكي تغلبوه على قراءته، فيسكت.
وقد كان النبي ص وهو في مكة يجهر بتلاوة القرآن لإسماعه الكفار لعلهم يؤمنون به، فكانت قريش يوصي بعضهم بعضا بالتصفيق والتصفير وإنشاد الشعر. قال ابن عباس: قال أبو جهل إذا قرأ محمد، فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول. وهذا دليل على تكذيب مشركي قريش بالقرآن وكفرهم، مثل كفر قوم هود وصالح وغيرهم.
وبعد بيان ذلك هدّدهم الله تعالى بالعذاب الشديد، فقال:
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي فلنجازين جميع الكفار بعذاب شديد، ومنهم كفار قريش في مقابلة معاداتهم لسماع القرآن، ومحاولة صد الناس عن استماعه، ولنجازينهم في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وهو الشرك، ونهمل ما عملوا من
218
محاسن الأعمال، كصلة الرحم، وإكرام الضيف، لأن ذلك باطل لا أجر لهم فيه مع حالة الكفر.
وهذا وعيد شديد لجميع الكفار، وتعريض بمن لا يخشع ولا يتدبر حين سماع القرآن، فقد أمر الله عباده المؤمنين بالاستماع للقرآن والإنصات له، فقال:
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف ٧/ ٢٠٤].
ثم ذكر الله تعالى صفة ذلك العذاب قائلا:
ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ، لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ، جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي ذلك الجزاء لأقبح أعمال الكفار وهو دخول النار، هو جزاء أعداء الله الذين كذبوا رسله، واستكبروا عن عبادته، لهم في النار دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها، ويجزون ذلك جزاء بسبب جحدهم أن القرآن من عند الله تعالى، وإنكارهم صحة آياته وسلامتها.
ثم بيّن الله تعالى ما يطلبه الكفار من الانتقام ممن أضلوهم عند الوقوع في العذاب الشديد، فقال:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا، لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ أي طلب الكفار من ربهم أن يريهم من أضلهم من فريقي شياطين الجن والإنس الذين كانوا يزينون لهم الكفر والمعاصي، لكي يدوسوهم بأقدامهم، تشفيا وانتقاما منهم، وليكون الفريقان من الأذلين المهانين، في الدرك الأسفل من النار، أشد عذابا منهم، فأجابهم تعالى في موضع آخر: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف ٧/ ٣٨]. والشياطين:
إما جني وإنسي، قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام ٦/ ١١٢] وقال سبحانه: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس ١١٤/ ٦].
219
وقيل: هما إبليس وقابيل، لأنهما سنّا الكفر والقتل بغير حق، ويشهد لهذا القول
الحديث المرفوع عند الترمذي: «ما من مسلم يقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من ذنبه، لأنه أول من سنّ القتل»
وقال علي رضي الله عنه: هما ابن آدم الذي قتل أخاه، وإبليس
، أي لأنهما هما اللذان سنّا المعصية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- لم يترك كفار قريش سبيلا لمعارضة القرآن بالباطل، بعد أن عجزوا عن معارضته بالحق، فلجئوا إلى الغوغائية والتخليط في الكلام والتصفيق والتصفير عند سماع القرآن، وهذا شأن الجهلة والسفلة أمام صيحة الحق في كل زمان يستخدمون أسلوب اللغو في طمس الحقائق، واللغو: ما لا يعلم له حقيقة ولا تحصيل.
٢- كان جزاؤهم بسبب كفرهم وتكذيبهم رسول الله ص هو أن يذوقوا في الآخرة العذاب الشديد الذي يتوالى فلا ينقطع، ويحيط بهم في جميع أجزائهم، وأن يجزوا في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وأسوأ الأعمال:
الشرك.
٣- ذلك العذاب الشديد وهو النار هو جزاء جميع الكفار أعداء الله الذين كذبوا الرسل واستكبروا عن عبادة الله تعالى.
٤- طلب الكفار وهم في النار أن يريهم الله من أضلهم من الجن والإنس، ليدوسوهم تحت أقدامهم في جهنم، وليكونوا من الأذلين المهانين، وفي الدرك الأسفل من النار، تشفيا وانتقاما منهم، ومرادهم أن يضعّف الله عذاب من كان سبب ضلالتهم من الجن والإنس. وهذا مطابق لما قضى به الله من مضاعفة عذاب
220
الرؤساء الذين يدعون إلى الضلال، فيعطي كلا منهم ما يستحقه من العذاب والنكال، بحسب عمله وإفساده، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ، بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل ١٦/ ٨٨].
ما وعد الله به أهل الاستقامة
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)
الإعراب:
أَلَّا تَخافُوا إِنَّ: مفسرة بمعنى أي أو مخففة من الثقيلة، وأصله: بأنه لا تخافوا، والهاء: ضمير الشأن.
وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ
ما
: اسم موصول، وعائده محذوف تقديره: تدّعونه. ونُزُلًا: إما منصوب على المصدر، وإما منصوب على الحال من الكاف واللام في وَلَكُمْ
. وهو جمع «نازل» كشارف وشرف، وتقديره: ولكم فيها نازلين. والأظهر أن يكون نُزُلًا في هذه كقوله تعالى: هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة ٥٦/ ٥٦] لا جمع «نازل» أي ما أعدّ لهم من الجزاء، وهو حال من ما تَدَّعُونَ.
المفردات اللغوية:
قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ اعترافا بربوبيته وإقرارا بوحدانيته ثُمَّ اسْتَقامُوا ثبتوا وداوموا على الاستقامة في العمل الصالح والإقرار بالوحدانية ومقتضياته. وما روي عن الخلفاء الراشدين في معنى
221
الاستقامة من الثبات على الإيمان، وإخلاص العمل، وأداء الفرائض فجزئياتها. وقوله ثُمَّ للتراخي عن الإقرار بالربوبية في المرتبة والفضل، من حيث إن الإيمان مبدأ الاستقامة تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن، أو تتنزل بالبشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وإذا قاموا من قبورهم بألا تخافوا ولا تحزنوا، لا تخافوا من الموت وما بعده، ولا تحزنوا على ما خلّفتم من أهل وولد، ونحن نخلفكم فيه، والخوف:
غم يطرأ على النفس لتوقع مكروه في المستقبل، والحزن: غم يطرأ على النفس لفوات نفع في الماضي.
أَوْلِياؤُكُمْ
أعوانكم في شؤونكم، نحفظكم ونوفقكم لما فيه الخير، ونلهمكم الرشد والحق فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بدل ما يفعل الشيطان بالكفرة وَفِي الْآخِرَةِ
بالشفاعة والكرامة حتى تدخلوا الجنة، وحيثما تتعادى الكفرة وقرناؤهم وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
من اللذائذ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
تتمنون وتطلبون، مأخوذ من الدعاء بمعنى الطلب، وهو أعم من الأول نُزُلًا ما أعدّ لهم من الجزاء الحسن، وأصل النزل: الطعام المعدّ للضيف.
سبب النزول: نزول الآية (٣٠) :
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أن المشركين قالوا: ربنا الله، والملائكة بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا. وقال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له، ومحمد ص عبده ورسوله، فاستقام.
وأخرج الترمذي والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس بن مالك: أن رسول الله ص قرأ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا قال: «قد قال الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها، فهو ممن استقام».
المناسبة:
هذه الآية شروع في بيان أحوال المؤمنين ومصيرهم، بعد بيان أحوال المشركين وعاقبتهم، ليتبين الفرق بين المؤمن والكافر، وبين الطيب والخبيث.
222
فبعد أن أطنب الله تعالى في وعيد الكفار، أردفه بهذا الوعد الشريف للمؤمنين، كما هي سنة القرآن في إقران وإتباع أحدهما بالآخر، مثل نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر ١٥/ ٤٩- ٥٠].
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أي إن الذين أقروا بربوبية الله وتوحيده، فهو الله وحده لا شريك له، ثم داموا على التوحيد، فلم يلتفتوا إلى إله غير الله، واستقاموا وثبتوا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته، حتى ماتوا، وهذا يشمل التزام أحكام الشرع الحنيف في العقائد والعبادات والمعاملات والمحظورات قولا وفعلا، لأن الاستقامة لفظ عام. وقد ذكر في حديث بعض مظاهرها،
أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به، فقال: «قل: ربي الله، ثم استقم» قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تخاف علي؟! فأخذ رسول الله ص بطرف لسان نفسه ثم قال: «هذا».
وكذلك ورد عن الخلفاء الراشدين تفسير الاستقامة ببعض جزئياتها، فقال أبو بكر رضي الله عنه: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا. وقال أيضا: ثُمَّ اسْتَقامُوا: لم يشركوا بالله شيئا. وقال عمر رضي الله عنه وهو يخطب على المنبر: استقاموا والله على الطريقة لطاعته، ثم لم يروغوا روغان الثعالب. وقال عثمان رضي الله عنه: ثم أخلصوا العمل لله.
وقال علي رضي الله عنه: ثم أدّوا الفرائض.
وأقوال التابعين بمعنى ما ذكر.
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ
223
تُوعَدُونَ
أي تتنزل عليهم الملائكة بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم المخاوف والأحزان، كالبشارة بالنجاة في مواطن ثلاثة: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث، وإزالة الخوف من أمور الآخرة، وإذهاب الحزن عما فاتهم من أمور الدنيا من أهل ومال وولد. وإذا أزيلت مخاوف المستقبل وأحزان الماضي، فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية، وحدثت الطمأنينة والسعادة.
وتقول لهم الملائكة: أبشروا بدخول الجنة التي وعدتم بها في الدنيا على ألسنة الرسل، فإنكم واصلون إليها، مستقرون بها، خالدون في نعيمها.
ثم أخبر عما تقوله الملائكة للمؤمنين، فقال تعالى:
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
أي نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة، نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة، نؤنسكم من وحشة القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمّنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم. وهذا من قول الملائكة أو من قول الله تعالى، وهو في مقابلة ما ذكر سابقا في وعيد الكفار حيث قال تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ.
وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ
أي ولكم في الجنة من جميع ما تختارونه من صنوف اللذات وأنواع الطيبات، ومهما طلبتم وجدتم، وكل ما تتمنون حصلتم عليه، حال كونه معدا لكم ضيافة وعطاء وإنعاما، من غفور لذنوبكم، رحيم بكم، رؤف بأحوالكم، حيث غفر وستر، ورحم ولطف. وقد تقدم أن قوله: وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
أعم مما سبقه.
224
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت هذه الآيات دلالة قطعية على أن الجزاء منوط بالعمل، فمن أقر بالربوبية والوحدانية والألوهية لله عز وجل، واستقام على أوامر الله وطاعته، واجتنب معاصيه وسخطه وغضبه، له الجزاء المفضل في الدنيا والآخرة.
فتلهمه الملائكة ما تقرّ به نفسه وينشرح له صدره، ويزيل مخاوفه، ويبدد أحزانه، وتقول له الملائكة الذين تتنزل بالبشارة: نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، نحفظكم ونلهمكم الحق، وإذا كان يوم القيامة لا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة. وهذا إما من قول الملائكة، أو من قول الله تعالى، والله ولي المؤمنين ومولاهم، ومن كان الله وليه فاز بكل مطلب، ونجا من كل مخافة.
ولكم في الآخرة كل ما تشتهيه أنفسكم من الملاذ، ولكم كل ما تسألون وتتمنون، رزقا طيبا، وضيافة كريمة، ونعمة عظيمة، من الله الغفار الستّار لذنوب عباده التائبين، الرحيم الرحمن الرؤوف بعباده في جميع الأحوال.
وقد دلت هذه الآية على أن كل هذه الأشياء المذكورة جارية مجرى النزل، والكريم إذا أعطى النّزل، فلا بد وأن يحقق السعادة للمعطي، وتلك السعادة تحدث عند رؤية الله عز وجل والتجلي والكشف التام.
225
الدعوة إلى الله تعالى وآداب الدعاة
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
الإعراب:
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ الَّذِي: مبتدأ، وكَأَنَّهُ: الخبر، وإذا الفجائية: ظرف مكان لمعنى التشبيه، والفاء للسببية. وَإِمَّا أدغمت نون «إن» الشرطية في «ما» الزائدة.
البلاغة:
الْحَسَنَةُ والسَّيِّئَةُ بينهما طباق.
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ تشبيه مرسل مجمل أي ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه.
المفردات اللغوية:
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا أي لا أحد أحسن قولا دَعا إِلَى اللَّهِ أي دعا إلى توحيده وعبادته وَعَمِلَ صالِحاً فيما بينه وبين ربه من إقامة الفرائض واجتناب المنكرات وَقالَ: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال ذلك اعتزازا وتفاخرا باتخاذ الإسلام دينا ومذهبا، وصرح أنه من المستسلمين لأمر الله، المنقادين له، قال أبو حيان: والظاهر العموم في كل داع إلى الله، أي فهي عامة لمن استجمع تلك الصفات، وقيل: نزلت في النبي ص، وقيل: في المؤذنين.
226
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ لا تستويان في الجزاء وحسن العاقبة، ولا الثانية:
مزيدة لتأكيد النفي، والْحَسَنَةُ ما ترضي الله ويتقبلها، والسَّيِّئَةُ ما يكرهها الله ويعاقب عليها ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع وردّ السيئة حيث اعترضتك بالخصلة التي هي أحسن منها وهي الحسنة، كمقابلة الغضب بالصبر، والجهل بالحلم، والإساءة بالعفو، والمراد بالأحسن: الزائد مطلقا، فيكون القصد منه: الحسنة التي وضع الأحسن موضعها.
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ إذا فعلت ذلك صار عدوك كالصديق القريب في محبته، فالحميم: الصديق وَما يُلَقَّاها ما يؤتى هذه السجية ويحتملها وهي مقابلة الإساءة بالإحسان إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا لأن الصبر يحبس النفس عن الانتقام وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي ما يؤتاها ويتقبلها إلا صاحب الحظ العظيم من الخير وكمال النفس.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ أي إن يصرفك وسواس من الشيطان عن الخصلة الخيّرة فاستعذ، وأصل النزغ: النخس، شبه وسوسة الشيطان بالنخس، لأنها بعث على ما لا ينبغي فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ التجئ إليه من شره ولا تطعه، وجواب الأمر محذوف: أي يدفعه عنك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاستعاذتك أو قولك الْعَلِيمُ بنيتك وفعلك.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٣) :
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا..: قال ابن عباس: هو رسول الله ص، دعا إلى الإسلام، وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نحلة: وقال أيضا: هم أصحاب رسول الله ص. وقالت عائشة وعكرمة ومجاهد: نزلت في المؤذنين.
قال أبو حيان: وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم- أي المؤذنون- داخلون في الآية، وإلا فالسورة بكاملها مكية بلا خلاف، ولم يكن الأذان بمكة، إنما شرع بالمدينة، والدعاء إلى الله يكون بالدعاء إلى الإسلام وبجهاد الكفار وكف الظلمة.
227
نزول الآية (٣٤) :
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ..: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وكان عدوّا مؤذيا لرسول الله ص، فصار وليا مصافيا.
وروي أيضا أنها نزلت في أبي جهل، كان يؤذي النبي ص، فأمر ص بالعفو عنه، وقيل له: فَإِذَا الَّذِي.. «١».
المناسبة:
بعد بيان ما يفعله قرناء السوء من الدعوة إلى المعاصي، ذكر الله تعالى حال أضدادهم الذين يدعون الناس إلى توحيد ربهم وطاعته، وأبان آدابهم وأوصافهم من مقابلة السيئة بالحسنة، والاستعاذة من شر الشيطان واللجوء إلى الله إذا حاول الشيطان صرف الإنسان عن حكم شرعه الله تعالى.
التفسير والبيان:
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ، وَعَمِلَ صالِحاً، وَقالَ: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي لا أحد أحسن ممن اتصف بالخصال الثلاث التالية:
١- الدعوة إلى توحيد الله وطاعته وعبادته، فذلك خير ما يقوله إنسان لإنسان. وهذا نص عام يشمل كل داعية مخلص إلى الله، سواء الداعية الأول وهو رسول الله ص، والمؤذنون، والقائمون بالدعوة إلى الإسلام في كل زمان ومكان بالقول أو الخطابة أو الكتابة.
(١) أحكام القران لابن العربي: ٤/ ١٦٥١
228
٢- العمل الصالح: وهو تأدية ما فرض الله على الإنسان، مع اجتناب ما حرّمه عليه.
٣- اتخاذ الإسلام دينا ومنهجا ومذهبا، فلا شيء أحسن منه قولا، ولا أصح منه عقيدة، ولا أوضح منه طريقة، ولا أكثر من عمله ثوابا.
وبعد بيان أصول الدعوة إلى الله وتوثيق العلاقة بين العبد وربه، ذكر الله تعالى آداب الدعاة وتحسين العلاقة بين العباد بعضهم ببعض، فقال:
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي لا تساوي بين الفعلة الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها، وبين الفعلة السيئة التي يكرهها الله ويعاقب عليها، والمداراة من الحسنة، والغلظة من السيئة. ادفع أيها الداعية من أساء إليك بالإحسان إليه، من الكلام الطيب ومقابلة الإساءة بالإحسان، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر، والإغضاء عن الهفوات، واحتمال المكروهات.
قال عمر رضي الله عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
ثم أبان الله تعالى نتيجة الإحسان وأثره البعيد، فقال:
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أي إنك إن فعلت ذلك، فقابلت الإساءة بالإحسان، صار العدو كالصديق. وما أحسن هذه النتيجة أن يتحول الناس الأعداء أو الحساد إلى أصدقاء أو كالأقارب يستعان بهم عند المحنة، بسبب الشفقة والإحسان.
وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها، ويؤتى القدرة على هذه الخصلة وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ، واحتمال المكروه، والصبر شاقّ
229
على النفوس، وما يتقبلها ويحتملها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة، وذو حظ في الثواب والخير.
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم، كأنه ولي حميم.
ثم ذكر الله تعالى طريق علاج الوساوس والأهواء ونزعات الشيطان، فقال:
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي إن وسوس إليك الشيطان، وحاول صرفك عن الدفع بالتي هي أحسن، وزيّن لك أن تقابل السيئة بمثلها، فاستعذ بالله من شره، والتجئ إلى الله لكفه عنك ورد كيده، فالله هو السميع لاستعاذتك منه، والتجائك إليه، العليم بوساوس الشيطان وبما يعزم عليه الإنسان وبصدق الطلب والرجاء.
وقد كان رسول الله ص إذا قام إلى الصلاة يقول فيما رواه أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه».
ونظير الآية قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا، فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف ٧/ ١٩٩- ٢٠١].
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يأتي:
١- لا كلام أحسن من القرآن، والدعوة إلى توحيد الله وطاعته أحسن من
230
كل ما سواها، والنبي ص هو الأنموذج الأول للدعاة، والقدوة الحسنة لهم، كان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول: هذا رسول الله، هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحبّ أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه «١».
وقالت عائشة رضي الله عنها وعكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد: نزلت في المؤذنين.
والحق أن هذه الآية كما تقدم وكما قال الحسن: عامة في كل من دعا إلى الله، نزلت في كل مؤمن. والدعوة إلى الله: بإقامة الأدلة والبراهين القطعية على صحة العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية.
٢- لا بد من أن يجمع الداعية بين العمل الصالح (وهو اجتناب المحارم، وكثرة المندوبات، وأداء الفرائض) وبين التصريح بالاعتقاد بالله في ذلك كله، وإخلاص العمل لوجه الله تعالى.
وقوله تعالى: وَقالَ: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ رد على من يقول: أنا مسلم إن شاء الله «٢».
٣- هناك فرق عظيم بين الحسنة والسيئة وأثر كل منهما، والحسنة: دعوة الرسول ص إلى دين الحق، والصبر على جهالة الكفار، وترك الانتقام، وترك الالتفات إليهم. والسيئة: ما أظهره المشركون من الجلافة في قولهم المتقدم أوائل السورة: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وأمثلة الحسنة: قول لا إله إلا الله، والطاعة لله تعالى ورسوله ص، والمداراة، والعفو، والعلم، وحبّ
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٤/ ١٦٥٠
(٢) المرجع والمكان السابق.
231
آل الرسول ص ونحو ذلك. وأمثلة السيئة أضداد ذلك كالشرك، والغلظة، والانتقام، والفحش، وبغض آل الرسول ص.
٤- الحكمة والسياسة في الأخلاق الاجتماعية: دفع السيئة بالإحسان، كالكلمة الطيبة والمصافحة،
جاء في الأثر الذي رواه ابن عدي عن ابن عمر، وهو ضعيف: «تصافحوا يذهب الغلّ»
فإذا أحسنت إلى من أساء إليك، قادته تلك الحسنة إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك حتى يصير كأنه ولي حميم، أي قريب إليك، من الشفقة عليك، والإحسان إليك. قال ابن عباس- كما تقدم-: أمره (أمر نبيه) الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم.
وقيل: كان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم نسخ به، والظاهر دوام العمل بهذه الآية، فهي تقرر أمرا خلقيا محمودا وفضيلة سامية، بدليل قوله بعدها:
وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا.. الآية.
٥- لا يتخلق بهذه الفضيلة إلا من صبر على الإساءة بكظم الغيظ واحتمال الأذى، وذو النصيب الوافر من الخير، فهذا أسلوب دفع الغضب والانتقام وترك الخصومة.
ويضم إليه أسلوب آخر في الوقاية من الشر قبل حدوثه: وهو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والالتجاء إلى الله من كيده وشره ووساوسه، والله حتما سميع للاستعاذة، عليم بصير بالأفعال والأقوال.
232
الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده وقدرته وحكمته
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
الإعراب:
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ.. اللَّيْلُ: مبتدأ، وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ: عطف عليه. وَمِنْ آياتِهِ: الخبر. وقوله: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ الهاء والنون في خَلَقَهُنَّ تعود على الآيات، ولا تعود على الشمس والقمر والليل والنهار، لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلّب جانب المذكر على جانب المؤنث.
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً..: أن وما عملت فيه: في موضع رفع بالظرف، على مذهب سيبويه والأخفش، لأن «أن» المصدرية إذا وقعت بعد الظرف ارتفعت به، كما يرفع الظرف إذا وقع خبرا لمبتدأ، أو صفة لموصوف، أو صلة لموصول، أو حالا لذي حال، أو معتمد على همزة الاستفهام أو حرف النفي، فالخبر مثل فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ فجزاء: مرفوع بالظرف، والصفة مثل: مررت برجل في الدار أبوه، والصلة مثل: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد ١٣/ ٤٣] والحال مثل وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ [المائدة ٥/ ٤٦] فهدى: مرفوع بالظرف، لأنه حال من الإنجيل، والمعتمد على همزة الاستفهام مثل أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم ١٤/ ١٠] وحرف النفي مثل: ما في الدار أحد. وخاشِعَةً: حال من الْأَرْضَ لأن تَرَى من رؤية العين. وَرَبَتْ: أصله ربوت، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وحذفت الألف لسكونها وسكون تاء التأنيث. وقرئ: «ربأت» أي ارتفعت.
233
البلاغة:
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً.. هذه الآية في قمة البلاغة والبيان وجمال الأسلوب والتناسق الفني في التعبير والأداء، فكأن الحركة ولمس معالم القدرة الإلهية وبعث الحياة تتمثل في جنباتها.
المفردات اللغوية:
وَمِنْ آياتِهِ جمع آية: وهي البرهان والحجة الدالة على وحدانية الله وقدرته الَّذِي خَلَقَهُنَّ أي خلق الآيات الأربع وسواها إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أمر بالسجود ثم ذكر العبادة، لأن السجود أخص العبادات، وهو موضع سجدة التلاوة عند الشافعية، لاقتران الأمر به، وعند أبي حنيفة: آخر الآية الأخرى، لأنه تمام المعنى.
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عن الامتثال أو السجود لله وحده فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ يصلون له دائما، لقوله تعالى: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ لا يملّون.
خاشِعَةً جامدة يابسة لا نبات فيها، وأصل الخشوع: التذلل، أستعير لحال الأرض الجدبة اليابسة اهْتَزَّتْ تحركت وَرَبَتْ انتفخت وعلت بالنبات إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الإحياء والإماتة.
المناسبة:
بعد بيان أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى، ذكر الله تعالى الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته، كمادة للدعوة إلى الله، وتنبيها على أن الدعوة إليه تعالى هي تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته. وقد ذكر هنا الدلائل الكونية الفلكية الأربعة وهي الليل والنهار والشمس والقمر، ثم أتبعها بآية أرضية في مرأى العين، وهي إنبات النباتات بالمطر في الأرض.
234
التفسير والبيان:
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أي ومن العلامات الدالة على قدرة الله وعظمته وحكمته وجود الليل والنهار وتعاقبهما، وخلق الشمس المضيئة والقمر المنير، وتقدير منازلهما في فلكيهما، واختلاف سيرهما في مداريهما في السماء، ليعرف بذلك مقادير الليل والنهار والأسابيع والشهور والأعوام، وتعرف أوقات العبادة وآجال الحقوق والديون والمعاملات.
ولما كانت الشمس والقمر أنفع وأحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي، نبّه الله تعالى إلى أنهما مخلوقان خاضعان لسلطان الله وتسخيره، فلا يعظمان وإنما يعظم خالقهما، فقال تعالى:
لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي إياكم من السجود للشمس والقمر، لأنهما مخلوقان من مخلوقات الله، فلا يصح أن تكونا شريكين له في ربوبيته، ولا تصح عبادتهما فهي لا تنفع مع عبادة الله، وتكون عبادتهما شركا.
وإنما الواجب السجود لمن خلق هذه الآيات الأربع وغيرها، إن كنتم تريدون العبادة الصحيحة الخالصة لله تعالى.
وآخر الآية رد على الصابئة الذين عبدوا الكواكب، وعبدة الشمس في عصرنا، الذين زعموا أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن ذلك وأمروا ألا يسجدوا إلا لله الذي خلق هذه الأشياء.
وموضع سجود التلاوة في مذهب الشافعي رضي الله عنه كما تقدم هو قوله:
تَعْبُدُونَ لأن قوله: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ متصل به. وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو قوله: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ الآتي، لأن الكلام إنما يتم عنده.
235
وبعد أن أمر الله تعالى بالسجود له، قال بعده:
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ أي فإن تكبر هؤلاء المشركون عبدة الكواكب عن الامتثال وإفراد العبادة لله، وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره، فلا يهم أمرهم، فالملائكة عند ربك الذين هم خير منهم- عندية مكان لا قرب مكان- لا يستكبرون عن عبادته تعالى، بل يواظبون على تسبيح الله سبحانه بالليل والنهار، وهم لا يملون ولا يفترون، كقوله عز وجل: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ، فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام ٦/ ٨٩]. وهذه الآية: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا.. تدل على أن الملائكة أفضل من البشر.
وبعد ذكر الدلائل الفلكية، ذكر تعالى الدلائل الأرضية، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي ومن دلائل قدرته تعالى على البعث وإعادة الموتى أحياء أنك ترى الأرض هامدة لا نبات فيها، بل هي ميتة، فإذا أنزل الله عليها المطر تحركت بالنبات، وانتفخت وعلت، وأخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار.
إن الذي أحيا هذه الأرض الجدبة بالنبات والزرع، قادر على أن يحيي الأموات، فإنه الرب القدير الذي لا يعجزه شيء كائنا ما كان.
وقوله تعالى: أَنَّكَ تَرَى الخطاب لكل عاقل.
وهذا دليل حسي متكرر في القرآن يقرب للأذهان صورة الإحياء بعد الإماتة، والمعول عليه هو قدرة الله الخالق ابتداء وانتهاء وكل وقت.
236
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- من الآيات الواضحة والعلامات الظاهرة على وحدانية الله وقدرته خلق الليل والنهار والشمس والقمر.
٢- هذه المخلوقات ذات المنافع الكثيرة لا تستحق العبادة مع الله، وإنما المستحق للعبادة هو موجدها، لأنه تعالى هو الخالق، ولو شاء لأعدم الشمس والقمر، أو طمس نورهما، فهما مخلوقان يدلان على وجود الإله، والسجدة التي هي نهاية التعظيم لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات.
٣- إن الله غني عن عباده، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، وإذا أحجم الناس عن عبادته، وأعرض الكفار عن السجود لله، فهناك خلق آخر وهم الملائكة مواظبون على التسبيح، لا ينفكون عنه لحظة واحدة، ولا يملّون عبادته، ولا يشتغلون بأمر آخر سوى العبادة.
٤- لا خلاف في أن آية لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ.. آية سجدة، وإنما الخلاف كما تقدم في موضع السجود، فقال لجمهور: موضعه: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لأنه متصل بالأمر: اسْجُدُوا. وقال أبو حنيفة:
موضعه: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال.
٥- تضمنت هذه الآية صلاة كسوف القمر والشمس، لأن العرب كانت تقول: إن الشمس والقمر لا يكسفان إلا لموت عظيم، فصلى النبي ص صلاة الكسوف، وهي ثابتة في صحاح البخاري ومسلم وغيرهما.
٦- ومن الآيات الدالة على قدرة الله وإحياء الموتى والبعث: إحياء الأرض
237
اليابسة التي لا زرع فيها ولا نبات بنزول الغيث عليها، فإن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها.
وقد تكرر هذا الدليل مرارا في القرآن، والدليل الأصلي هو قوله: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وتقديره كما ذكر الرازي: أي عودة التأليف والتركيب إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته، وعود الحياة والعقل والقدرة إلى تلك الأجزاء بعد اجتماعها أيضا أمر ممكن لذاته، والله تعالى قادر على الممكنات، فوجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب والتأليف والحياة والقدرة والعقل والفهم إلى تلك الأجزاء، مما يدل دلالة واضحة على أن حشر الأجساد ممكن لا امتناع فيه «١».
تهديد الملحدين في آيات الله تعالى وتنزيه القرآن العظيم عن الطعن فيه
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ١٣٠
238
الإعراب:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ.. خبر إِنَّ فيه وجهان: إما أنه محذوف، وتقديره: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يعذبون أو نجازيهم. وإما قوله تعالى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الآية: ٤٤] قال الرازي: والأول أصوب. وجملة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: بدل من قوله:
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ...
ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ.. ما قَدْ قِيلَ: في تأويل مصدر، نائب فاعل ل يُقالُ.
البلاغة:
أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ بينهما مقابلة، والمراد بالهمزة هنا التي هي للاستفهام: الإقرار بأن الملحدين يلقون في النار، وأن المؤمنين يأتون آمنين.
اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أمر يراد به التهديد والوعيد..
مَغْفِرَةٍ وعِقابٍ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
يُلْحِدُونَ يميلون عن الحق والاستقامة، أي يؤولون الآيات تأويلا باطلا، ويطعنون فيها ويحرّفونها عن مواضعها فِي آياتِنا آيات القرآن والدلائل الدالة على قدرة الله وحكمته لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أي فنجازيهم على إلحادهم أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً؟ قابل الإلقاء في النار بالإتيان آمنا، مبالغة في الإشادة بحال المؤمنين اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ تهديد شديد إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وعيد بالمجازاة.
بِالذِّكْرِ القرآن وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ منيع لا يتأتى إبطاله وتحريفه لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ لا يتطرق إليه الباطل من جميع جهاته سواء الأخبار الماضية أو الأحكام التشريعية حَكِيمٍ في جميع أفعاله، يضع الأمور في نصابها الصحيح حَمِيدٍ يحمده جميع خلقه بما أنعم من النعم الكثيرة عليهم.
ما يُقالُ لَكَ أي ما يقول لك كفار قومك من تكذيب إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ
239
قَبْلِكَ
أي إلا مثل ما قال لهم كفار قومهم لَذُو مَغْفِرَةٍ للمؤمنين وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ مؤلم للكافرين أعداء الله والمؤمنين.
سبب النزول: نزول الآية (٤٠) :
أَفَمَنْ يُلْقى..: أخرج ابن المنذر عن بشير بن فتح قال: نزلت هذه الآية في أبي جهل وعمار بن ياسر: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟
المناسبة:
بعد الأمر بالدعوة إلى دين الله تعالى، وبيان أسلوب الدعوة بذكر دلائل التوحيد والعدل وصحة البعث والقيامة، هدد الله تعالى من ينازع في تلك الآيات والدلائل، ويحاول إلقاء الشبهات فيها. ثم نوّه بوصف القرآن، وسلّى نبيه ص على آلامه من تكذيب قومه، وأمره بأن يصبر على أذاهم، وألا يضيق قلبه بإعراضهم عن رسالته، فتلك عادة الأمم مع الأنبياء والرسل.
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أي إن الذين يميلون عن الحق، فيضعون الكلام في غير موضعه، ويحرّفون كلام الله تعالى وآياته الدالة على قدرته وحكمته، لا يخفون علينا، بل نحن نعلمهم، فنجازيهم بما يعملون بالعقوبة والنكال.
وفي هذا تهديد شديد ووعيد أكيد، يقتضي الحذر والخوف.
240
ونوع الجزاء هو:
أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ أي هل يستوي من يلقى في النار قسرا وقهرا لإلحاده بالآيات وتكذيبه للرسول ص، ومن يكون آمنا يوم القيامة من العذاب؟ وهذا استفهام بمعنى التقرير، والمراد أن الملحدين في الآيات يلقون في النار، وأن المؤمنين بها يأتون يوم القيامة، فاحكموا أيها العقلاء أيّ الحالين أفضل؟! ثم أكد التهديد للكفرة بقوله تعالى:
اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اعملوا أي شيء تريدون فعله من خير أو شر، فإن الله عالم بكم، وبصير بأعمالكم، ومجازيكم بحسب ما تعملون، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا وعيد وتهديد، صرف فيه الأمر إلى التهديد، قال الزجاج: لفظ اعْمَلُوا لفظ الأمر، ومعناه الوعيد.
ثم أبان صفة أولئك الملحدين وجزاءهم فقال وهو أيضا تهديد:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ أي إن الذين كفروا بالقرآن لما جاءهم، وكذبوا به، معذبون هالكون يجازون بكفرهم.
ثم أشاد بأوصاف ثلاثة للقرآن تنبيها للأنظار والعقول، فقال:
وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أي وإن القرآن الذي يلحدون فيه عزيز عن المعارضة أو الطعن، منيع عن كل عيب، لا يتأتى لأحد أن يأتي بمثله، وليس لأحد أن يبطله من جميع جوانبه، ولا يكذبه كتاب سابق قبله، ولا لاحق بعده، محفوظ من النقص والزيادة، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر ١٥/ ٩]، وإنه تنزيل من حكيم في أقواله وأفعاله، محمود في
241
جميع ما يأمر به وينهى عنه، مشكور من جميع خلقه على كثرة نعمه وأفضاله، وأجلها بحق: تنزيل هذا الكتاب، فهو النعمة العظمى والرحمة الكبرى، الذي بيّن للناس طريق الهداية، وعرفهم محذرا سبيل الغواية والضلالة.
ثم سلّى الله تعالى رسوله ص على ما يناله من أذى المشركين وطعنهم في كتابه وتكذيبهم لرسالته، وأمره بالصبر والثبات على دعوته، فقال:
ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ أي ما يقال لك من هؤلاء الكفار المشركين من وصفك بالسحر والكذب والجنون إلا مثل ما قيل للرسل من قبلك، فإن قومهم كانوا يقولون لهم مثلما يقول لك هؤلاء، فكما كذبت كذّبوا، وكما صبروا على أذى قومهم لهم، فاصبر أنت على أذى قومك لك، وإن ربك لغفار لمن تاب إليه، ومعاقب بعقاب مؤلم لمن استمر على كفره، وأصر على طغيانه وعناده، ومات كافرا ولم يتب.
ونظير الآية كثير مثل: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات ٥١/ ٣٩].
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيّب قال: لما نزلت هذه الآية:
إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
قال رسول الله ص: «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنا أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- أورد تعالى تهديدات أربعة متعاقبة في هذه الآيات، فقال: إِنَّ
242
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا..
أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ.. اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ...
٢- هدد الله تعالى أولا الملحد في آيات القرآن، وهو المنحرف عن الحق إلى الباطل فقال: ليس القرآن من عند الله، أو هو شعر أو سحر، وحاول الصد عن سماعه بالتصفيق والتصفير واللغو والغناء، وبدّل الكلام ووضعه في غير موضعه.
موضعه.
٣- الغرض من قوله: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ.. التنبيه على أن الذين يلحدون في آيات الله، يلقون في النار، والذين يؤمنون بآيات الله يأتون آمنين يوم القيامة. وهذا هو التهديد الثاني.
٤- والتهديد الثالث: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أي بعد ما علمتم أن الملحد الكافر والمؤمن لا يستويان، فلا بد لكم من الجزاء، فمن اختار لنفسه طريق الكفر عوقب بالنار، ومن اختار منهج الإيمان جوزي بالجنة.
٥- والتهديد الرابع: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ.. أي إن الذين جحدوا بالقرآن وكونه منزلا من عند الله تعالى يجازون بكفرهم، لأن القرآن اشتمل على جميع ما يحتاج إليه الناس من العقائد الصحيحة، والشرائع المحكمة، والأحكام الصالحة لكل زمان ومكان.
٦- ذكر الله تعالى هنا للقرآن الكريم أوصافا ثلاثة هي:
أولا- إنه كتاب عزيز منيع الجانب، لا نظير له، ولا يطعن فيه، ولا يعارضه أحد، كريم على الله تعالى، محفوظ من الله سبحانه.
ثانيا- لا يكذبه شيء مما أنزل الله من قبل من الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل والزبور، ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه، ولا يستطيع أحد أن يزيد
243
فيه أو ينقص منه، ولا باطل فيما أخبر عنه في الماضي والمستقبل، وما حكم بكونه حقا لا يصير باطلا، وما حكم بكونه باطلا لا يصير حقا.
ثالثا- تنزيل من حكيم في جميع أحواله وأفعاله، حميد أي محمود على ما أسدى لجميع خلقه بسبب كثرة نعمه.
٧- ما يتعرض له الرسول ص من الأذى والتكذيب، تعرض له الأنبياء والرسل السابقون عليه، فلا بد من الصبر على الأذى، وألا يضيق القلب بسبب الإعراض عن رسالته.
٨- إن الله تعالى تام العدل، فهو ذو مغفرة للمؤمنين التائبين، وذو عقاب مؤلم وجيع لأعدائه الكفار الذين كذبوا رسله.
التأكيد على عروبة القرآن الكريم
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوافُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
244
الإعراب:
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ الَّذِينَ: اسم موصول مبتدأ، وصلته لا يُؤْمِنُونَ وخبره جملة: فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ووَقْرٌ: مبتدأ، وفِي آذانِهِمْ خبره، والجملة من المبتدأ والخبر خبر المبتدأ الأول.
البلاغة:
ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ بينهما طباق. والاستفهام: استفهام إنكار.
أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ استعارة، شبّه حالهم في إعراضهم عن سماع القرآن وقبوله بحال من ينادى من مكان بعيد، بجامع عدم السماع وعدم الفهم في كل منهما.
المفردات اللغوية:
وَلَوْ جَعَلْناهُ أي القرآن- الذّكر. أَعْجَمِيًّا أي كلاما لا يفهم، سواء بلغة العرب أو العجم. هلا. فُصِّلَتْ آياتُهُ بينت آياته بلغتنا، حتى نفهمها. ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أكلام أعجمي ومخاطب عربي؟ والمقصود: الدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت في الآيات كيف جاءت. هُدىً من الضلالة إلى الحق. وَشِفاءٌ من الجهل والشك والشبهة. وَقْرٌ ثقل، فلا يسمعون. وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى معمّى فلا يفهمونه، لتعاميهم عما يريهم من الآيات.
أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هذا تمثيل لحالهم في عدم قبولهم واستماعهم له بحال من يصيح بهم من مسافة بعيدة، أي فهم كالمنادى من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم ما ينادى به.
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة. فَاخْتُلِفَ فِيهِ بالتصديق والتكذيب كما اختلف في القرآن. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة.
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا فيما اختلفوا فيه. وَإِنَّهُمْ أي وإن المكذبين به وهم اليهود أو الذين لا يؤمنون. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من التوراة والقرآن. مُرِيبٍ موجب للاضطراب موقع في الريبة.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ أي يعود نفع عمله لنفسه. وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي يعود ضرر إساءته على نفسه. وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي بذي ظلم، فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء ٤/ ٤٠].
245
سبب النزول: نزول الآية (٤٤) :
لَقالُوا: فُصِّلَتْ آياتُهُ: أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا؟ فأنزل الله:
لَقالُوا: فُصِّلَتْ آياتُهُ الآية. والمراد أن نزول هذه الآية بسبب تعنت الكفار.
المناسبة:
الواقع أن سبب النزول هذا لا يقبل، لأنه- كما ذكر الرازي- يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض، مما قد يؤدي إلى الطعن في عدم انتظام القرآن، فضلا عن ادعاء كونه معجزا. والحق أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد، على ما حكى الله تعالى عنهم من قولهم: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وهذا الكلام متعلق به، وجواب له.
والتقدير: أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم، لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب؟ ويصح لهم أن يقولوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أي من هذا الكلام. وَفِي آذانِنا وَقْرٌ منه، لأنا لا نفهم ولا نحيط بمعناه.
والمراد تأكيد عروبة القرآن، إذ لو فرض نزوله بلغة أعجمية لحق للعرب أن يقولوا: لا نفهم، أما وإنه نزل بلغتهم وبألفاظهم، فلم يبق لهم عذر في الإعراض عنه، وقولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ من هذه اللغة. وَفِي آذانِنا وَقْرٌ من تلك اللغة «١»
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ١٣٣
246
التفسير والبيان
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا: فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ أي لو فرض أن جعلنا هذا القرآن بغير لغة العرب أي بلغة العجم، لقال كفار قريش: هلا بينت آياته بلغتنا حتى نفهمه، فإنا عرب لا نفهم لغة العجم؟
وقالوا أيضا: أكلام أعجمي ومرسل إليه عربي؟
والمقصود أن القرآن عربي فلم لا يفهمونه ولا يعملون به؟! ولو نزل بلسان أعجمي لأنكروا ذلك، وقالوا: هلا بينت آياته باللغة التي نفهمها؟ وقالوا أيضا: أكلام أعجمي والمرسل إليهم عرب؟ أي كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه؟! ولما كان جميع القرآن عربيا في لفظه ومعناه، ومع هذا لم يؤمن به المشركون، دل على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت، كما قال عز وجل: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [الشعراء ٢٦/ ١٩٨].
ثم أبان الله تعالى هدف القرآن الكريم وغايته، فقال:
قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ: إن هذا القرآن هداية لقلب من آمن به، وشفاء لما في الصدور من الشكوك والرّيب، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء ١٧/ ٨٢].
ثم أوضح موقف المشركين من القرآن الكريم، فقال:
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أي والذين لا يصدقون بالله ورسوله ورسالته: في آذانهم صمم عن سماعه وفهم معانيه، فهم
247
لا يفهمون ما فيه، ولهذا تواصوا باللغو فيه، وهو عليهم معمّى، لا يهتدون إلى ما فيه من البيان، ولا يبصرون ما اشتمل عليه من براهين ومواعظ. وهذا كقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة ٢/ ١٧١].
ثم أكد الله تعالى عدم استعدادهم لفهم القرآن، فقال:
أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي إن حالهم كحال من ينادى من مسافة بعيدة، يسمع صوت من يناديه منها، ولا يفهم أو لا يفقه ما يقال له، لأنهم أعرضوا ولم يريدوا سماع القرآن.
ثم أوضح تعالى أن التكذيب بكتاب الله عادة قديمة في الأمم، فقال:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي لا تستغرب يا محمد، فتلك عادة الأمم مع أنبيائهم، فإنهم يختلفون في الكتب المنزلة عليهم، والمثال على ذلك: أننا أرسلنا موسى وآتيناه التوراة، فاختلفوا فيها بين مصدّق ومكذب، وكذّب موسى وأوذي، فلا تأس على فعل قومك، واصبر على الأذى، واستعن بالله ولا تعجز، كما قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف ٤٦/ ٣٥].
ثم بيّن الله تعالى سبب تأخير العذاب عنهم فقال:
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي ولولا ما سبق من حكم الله بتأخير العذاب والحساب عن المكذبين من أمتك إلى يوم المعاد، لعجل لهم العذاب، كما فعل بالأمم المكذبة، وكما قال تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف ١٨/ ٥٨] وقال سبحانه: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا، ما تَرَكَ عَلى
248
ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى..
[فاطر ٣٥/ ٤٥].
ووردت آيات أخرى في تأخير العذاب مثل: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [القمر ٥٤/ ٤٦] ومثل: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [النحل ١٦/ ٦١].
وموجب الهلاك قائم فيهم، فقال تعالى:
وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي وإن كفار قومك لفي شك من القرآن، موقع في الريبة والقلق، فما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا:
بل كانوا شاكين فيما قالوه، غير متحققين لشيء كانوا فيه.
ثم حدد الله تعالى قانون الجزاء، فقال:
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي من عمل عملا صالحا في الدنيا، فائتمر بأمر الله، وانتهى عما نهى الله عنه، فإنما يعود نفع ذلك على نفسه، ويجازى على وفق عمله، ومن أساء فعصى الله، فإنما يرجع وبال ذلك عليه، ويعاقب على جرمه، كما قال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم ٥٣/ ٣٩]. وعليه، فإن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم.
والجزاء للفريقين حق وعدل مطلق، فلا ينقص المحسن شيئا من ثوابه، ولا يعاقب أحدا من الناس إلا بذنبه، ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه.
249
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن القرآن عربي، نزل بلغة العرب، وليس أعجميا، فإذا ترجم إلى لغة أخرى، لم يكن قرآنا.
٢- إن نزول القرآن بلغة العرب كان بقصد التحدي ليتقرر به الإعجاز، إذ العرب هم أعلم الناس بأنواع الكلام نظما ونثرا، وإذا عجزوا عن معارضته، كان من أدل الأدلة على أنه من عند الله تعالى، ولو كان بلسان العجم لقالوا: لا علم لنا بهذا اللسان، وإذا كان كلامه بلسانهم ولغتهم، لا بلغة أجنبية، فلا يعذرون بعدم الإيمان به، ولا يصح لهم أن يقولوا: إن قلوبنا في أكنة منه، بسبب جهلنا بهذه اللغة.
٣- وهذا أمر منطقي، لأن فهم الخطاب التشريعي أساس التكليف، ولا يعقل كما قال تعالى. ءَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ أن يكون القرآن أعجميا، والأمة المخاطبة به عربية. والعجمي: الذي ليس من العرب، كان فصيحا أو غير فصيح. والأعجمي: الذي لا يفصح، كان من العرب أو من العجم.
٤- إن القرآن هدى للناس من الضلالة، وشفاء لكل من آمن به من الشك والريب والأوجاع، وكونه هدى، لأنه دليل على الخيرات، مرشد إلى كل السعادات، وكونه شفاء، لأنه إذا حصل الاهتداء تحقق الشفاء من مرض الكفر والجهل.
٥- لكن غير المؤمنين بالقرآن في آذانهم صمم عن سماع القرآن، ولهذا تواصوا باللغو فيه، وهو عليهم عمى لا يفهمونه ولا يدركون مقاصده، فهم أو كل واحد منهم كالمنادى له من موضع بعيد، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه، فلا خير فيه.
250
٦- إن تكذيب الأمم للرسل عادة قديمة غير جديدة في عهد النبي ص، فلقد أنزل الله التوراة على موسى عليه السلام، وسمع نخبة من قومه كلام الله له، فمنهم من آمن به، ومنهم من كذب به، فلا يحزنك يا محمد اختلاف قومك في كتابك، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم.
وقبل بعضهم هذا الكتاب، وهم أصحابك، ورده الآخرون، وهم يقولون:
قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ.
٧- لولا قضاء الله القديم المحكم، وحكمه المبرم في إمهال الكفار وتأخير عذاب الاستئصال عنهم إلى يوم القيامة، لقضي بينهم بتعجيل العذاب، لأنهم في شك من القرآن شديد الريبة. قال الكلبي في هذه الآية: لولا أن الله أخر عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة، لأتاهم العذاب كما فعل بغيرهم من الأمم.
٨- إن الجزاء من جنس العمل، فمن أطاع الله فالثواب له، والله عز وجل مستغن عن طاعة العباد، ومن أساء فالعقاب عليه.
٩- نفى الله تعالى الظلم عن نفسه، قليله وكثيره، فقال هنا: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [يونس ١٠/ ٤٤]
وجاء في الحديث القدسي الثابت الذي أخرجه مسلم عن أبي ذر الغفاري: «يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّما، فلا تظالموا».
وأيضا فالله تعالى هو الحكيم المالك، وما يفعله المالك في ملكه لا اعتراض عليه، إذ له التصرف في ملكه بما يريد.
آمنت بالله
251

[الجزء الخامس والعشرون]

[تتمة سورة فصلت]
اختصاص علم الساعة بالله تعالى وانتهاء أسطورة الشرك فيها
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)
الإعراب:
آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ما: نافية علّقت الفعل آذَنَّاكَ أي أعلمناك عن العمل. وكذلك:
وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ما: علقت الفعل ظَنُّوا عن العمل. وكأنه إذا وقع النفي بعد الظن جرى مجرى القسم، فيكون حكمه حكم القسم.
البلاغة:
تَحْمِلُ تَضَعُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى الله وحده يرجع علم الساعة، متى تكون، لا يعلمها إلّا هو، والساعة: يوم القيامة. مِنْ ثَمَراتٍ جمع لاختلاف الأنواع، وقرئ: من ثمرة. أَكْمامِها أوعيتها، جمع كمّ- بكسر الكاف: وهو وعاء الثمرة، وقد يطلق على كل ظرف لمال أو غيره، وما في قوله: وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ نافية، ومن: مزيدة للاستغراق، أي لا تخرج ثمرة إلا بعلمه تعالى. وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ما أيضا: نافية، أي إلا مقرونا بعلمه. أَيْنَ شُرَكائِي؟ بزعمكم. آذَنَّاكَ أعلمناك وأخبرناك. ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي من أحد يشهد لهم بالشركة إذا تبرأنا منهم لما عاينا الحال، فيكون السؤال عنهم للتوبيخ.
وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب عنهم فلا ينفعهم أو لا يرونه. يَدْعُونَ يعبدون. مِنْ قَبْلُ
5
في الدنيا من الأصنام. وَظَنُّوا أيقنوا. ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب من العذاب، وما نافية علقت الفعل. ظَنُّوا عن العمل، وجملة النفي سدّت مسد المفعولين.
المناسبة:
بعد تهديد الكفار بأن جزاء كل أحد يصل إليه يوم القيامة في قوله تعالى:
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أوضح الله تعالى بأن علم هذا اليوم مختص به سبحانه، فلا يعلمه إلا هو، كما لا يعلم الإنسان بأمور أخرى. ثم ذكر انتهاء أسطورة الشرك في ذلك اليوم، إذ يتيقن الناس أن الله واحد لا شريك له، وتتبدد كل الآمال بأن الأصنام والأنداد تنفعهم.
التفسير والبيان:
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي إن علم يوم القيامة مرده إلى الله، لا إلى غيره، وهذا جواب سؤال، فكأن سائلا قال: ومتى يكون ذلك اليوم؟
ونحو الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها [النازعات ٧٩/ ٤٢- ٤٤] وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف ٧/ ١٨٧] وقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان ٣١/ ٢٤].
ولذا
أجاب النبي صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام في حديث البخاري ومسلم عن عمر بقوله حينما سأله عن الساعة: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل».
ثم ذكر تعالى أنه مختص أيضا بغيب المستقبل، فقال:
وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أي ويعلم سبحانه كل ثمرة تخرج من وعائها، ووقت ظهورها تماما، ويعلم كل
6
ما تحمله الحامل وما تضعه، وزمن الحمل والوضع بدقة، فإليه يردّ علم الساعة، كما يرد إليه علم هذه الأمور.
ونظير مقدمة الآية: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الأنعام ٦/ ٥٩] ونظير القسم الثاني: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ، وَما تَزْدادُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [الرعد ١٣/ ٨- ٩] وقوله سبحانه: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ، وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر ٣٥/ ١١].
ثم يبين الله تعالى انتهاء أسطورة الشرك، فيقول للرد على المشركين الذين دعاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى التوحيد والتبرؤ من عبادة الأصنام والأوثان في بدء السورة.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي؟ قالُوا: آذَنَّاكَ، ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي واذكر أيها الرسول يوم ينادي الله سبحانه المشركين في يوم القيامة متسائلا على سبيل التهكم والتوبيخ: أين شركائي الذين كنتم تزعمون من الأصنام وغيرها، فادعوهم الآن فليشفعوا لكم، أو يدفعوا عنكم العذاب؟ فيجيبون: لقد أعلمناك أو أسمعناك أن ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك شريكا. ونفي الشهادة يراد به التبرؤ من الشركاء، كما قال تعالى عنهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام ٦/ ٢٣].
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ، وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي ذهبت عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، من الأصنام وغيرها، فلم تنفعهم، وتيقنوا وعلموا ألا مهرب لهم ولا ملجأ من عذاب الله كقوله تعالى:
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف ١٨/ ٥٣].
وهذا وعيد وتهديد للمشركين.
7
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- استأثر الله تعالى بعلم الغيب مطلقا علما قطعيا يقينيا جازما، فهو وحده العالم بوقت يوم القيامة، وبزمان خروج الثمرة من أوعيتها أي تحول الزهرة إلى ثمرة ومعرفة نوعها، وبلحظة حمل الأنثى ووضعها، ونوع الحمل وخصائصه وصفاته.
أما علم المنجمين فهو علم محدود جدا، ومن الحدس والتخمين والظن، لا من باب العلم واليقين، فإن العلم الذي هو الجزم واليقين مختص بالله تعالى، وعلم هؤلاء قد يصادف الواقع، والغالب أنه لا يتفق مع الواقع. وكذلك علم الأطباء بنوع الحمل أو تاريخ الوضع هو علم ظني، وليس في دقة علم الله، وليس شاملا شمول علم الله، فالله هو المنفرد بعلم خصائص الحمل والمولود.
٢- انتهاء أسطورة الشرك والتعلق بشفاعة الأصنام والأوثان في يوم القيامة، ففي هذا اليوم يعلن المشركون أن الله واحد لا شريك له، وأنّه لا أمل بنفع الشركاء وشفاعتهم، وألا محيد ولا مهرب ولا فرار من عذاب النار.
لقد بدؤوا بنفي الشرك لما عاينوا القيامة، وتبرؤوا من الأصنام وتبرأت الأصنام منهم، ثم أدركوا ألا نفع منها، ثم تيقنوا وعلموا أنهم واقعون حتما في عذاب النار دون إمكان الفرار أو الهرب.
وهذا منسجم مع الموضوع الأساسي للسورة وهو إثبات التوحيد، ونبذ عبادة الأصنام، والإقرار بيوم البعث، فقد دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك كله، كما جاء في بدء السورة: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ولكن المشركين أعرضوا عن دعوته في الدنيا، وقالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه...
8
تبدل أحوال الإنسان وتغير أطواره
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
الإعراب:
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ دُعاءِ الْخَيْرِ: مضاف ومضاف إليه، والتقدير:
لا يسأم الإنسان من دعائه الله بالخير، فحذف الفاعل والمفعول به الأول، والياء من المفعول الثاني، وأضاف المصدر إلى المفعول الثاني. اللام في ولئن الأولى، ولئن الثانية، فَلَنُنَبِّئَنَّ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ لام القسم.
البلاغة:
الْخَيْرِ والشَّرُّ بينهما طباق.
وَنَأى بِجانِبِهِ مجاز عن النفس.
عَذابٍ غَلِيظٍ استعارة، استعار الغلظ لشدة العذاب.
فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ استعارة، شبه الدعاء بماله عرض متسع، للإشعار بكثرته واستمراره.
المفردات اللغوية:
لا يَسْأَمُ لا يملّ ولا يفتر مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ طلب السعة في النعمة من المال والصحة وغيرهما وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ الضيق من فقر وشدة ومرض ونحوها فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ من فضل الله ورحمته. واليأس: انقطاع الرجاء من حصول الخير، والقنوط: ظهور أثر اليأس على الإنسان من الذل والانكسار، والقنوط: من اتصف بالقنوط، وهو كثير اليأس من روح الله.
9
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ آتيناه، واللام: لام القسم رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ سعة بعد شدة، والرحمة هنا: سعة العيش والصحة، والضراء ضيق العيش والمرض ونحوهما هذا لِي بعملي أي هذا ما أستحقه لما لي من العمل والجهد الحسنى الجنة والكرامة فَلَنُنَبِّئَنَّ لنخبرن غَلِيظٍ شديد لا يمكنهم التخلص منه.
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ جنس الإنسان أَعْرَضَ عن الشكر وَنَأى بِجانِبِهِ تكبر وانحرف وتباعد، والجانب: مجاز عن النفس كالجنب في قوله تعالى: فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر ٣٩/ ٥٦]. فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير مستمر، وهو أبلغ من الطويل، إذ الطول قد يشمل الشيء الدقيق.
سبب النزول:
هذه الآيات نزلت في كفار، قيل: في الوليد بن المغيرة، وقيل: في عتبة بن ربيعة، وكثير من المسلمين وغيرهم يتصفون بوصف أولها من دعاء الخير.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى تبدل أحوال الكفار بين الدنيا والآخرة، الذين كانوا في الدنيا مصرّين على إثبات الشركاء والأضداد لله، ثم تبرؤوا عن تلك الشركاء في الآخرة، أردفه ببيان أحوال الإنسان في جميع الأوقات، وتغير أطواره ومناهجه، فإن جاءه خير تعاظم، وإن تعرض لبلاء ومحنة تصاغر وذبل، وهذا دليل الطيش، والحرص على جمع المال، والجهل، وضعف الإيمان.
التفسير والبيان:
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ، وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ أي لا يملّ الإنسان من دعاء ربه بالخير، كالمال والصحة والسلطان والرفعة ونحوها، وإن أصابه الشر من بلاء وشدة أو فقر أو مرض، كان شديد اليأس من
10
روح الله، بالغ القنوط من رحمة الله، حتى يظن أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير، أو يظن عدم زوال ما به من المكروه.
والآية تصوّر طبع الإنسان، وإن ظهر ذلك كثيرا في الكافر، كما قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف ١٢/ ٨٧] وقد جعل بعض المفسرين الآية خاصة بالكافر، وقال: هذه صفة الكافر، بدليل الآية المتقدمة: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ.... والظاهر إرادة الجنس، فكثير من المسلمين يصدر منهم هذا التغير والتبدل، كما تقدم بيانه.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً، ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ، إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود ١١/ ٩- ١١].
ثم ذكر الله تعالى خصالا ثلاثا أقبح مما سبق، فقال:
١- وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ: هذا لِي أي ولئن آتيناه خيرا بتفريج كربه من بعد شدة أصابته، كغنى بعد فقر، وصحة أو عافية بعد مرض، وجاه بعد ذل، ليقولن: هذا شيء أستحقه على الله لرضاه بعملي وجهدي وخبرتي، متناسبا فضل الله وإحسانه، جاهلا أن الله يبتلي عباده بالخير والشر، ليتبين له الشاكر من الجاحد، والصابر من الجزع. وهذا دليل على أن ذلك اليائس القانط لو عاودته النعمة، لعاد إلى الجحود والكفر.
٢- وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي وما أعتقد أن القيامة ستقوم، كما يخبرنا به الأنبياء، فلا رجعة ولا حساب ولا عقاب على ذنب في الدنيا. ولأجل أنه رزق نعمة يبطر ويفخر ويكفر، كما قال تعالى: كَلَّا، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق ٩٦/ ٦- ٧].
11
والشك في البعث لا يكون إلا من الكافرين أو المنافقين المظهرين الإسلام المبطنين الكفر.
٣- وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي ولئن كان ثمّ معاد على فرض صدق الأنبياء بما أخبروا به من حصول البعث والنشور، فليحسنن إلى ربي كما أحسن إلي في هذه الدار، والحسنى الكرامة والجنة. واللام فيها للتأكيد. والآية تدل على تيقن الكافر بوصول الثواب إليه من وجوه خمسة:
الأول- كلمة إن تفيد التأكيد، الثاني- تقديم كلمة لي يفيد التأكيد، الثالث- قوله عِنْدَهُ يدل على أن الخيرات حاضرة مهيأة عنده، الرابع- لام لَلْحُسْنى للتأكيد، الخامس- لَلْحُسْنى تفيد الكمال في الحسنى.
والمعنى: لقد ظن أنه استحق خير الآخرة بما أوتيه من خير الدنيا، وتمنى على الله عز وجل، مع إساءته العمل وعدم اليقين، وهذا غالب على الكافر.
فأجيب بمفاجأة نقيض ما يظن، فقال الله تعالى مهددا من كان هذا اعتقاده: فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي فلنخبرن هؤلاء يوم القيامة بما عملوا من المعاصي، ولنجازينهم بعذاب شديد كثير لا يمكنهم التخلص منه وهو عذاب جهنم.
ثم أكد الله تعالى تردد الإنسان فعلا كتردده قولا في آية لا يَسْأَمُ فقال:
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي وإذا رزقنا الإنسان- من حيث هو إنسان- رزقا حسنا، وأمددناه بنعمة من النعم كالصحة والولد والمال، أعرض عن الشكر والطاعة، واستكبر عن الانقياد لأوامر الله عز وجل، وإذا تبدل الحال وأصيب بشر، أي بلاء وجهد أو فقر أو مرض، أطال السؤال والدعاء، والتضرع إلى الله والاستغاثة به أن يكشف ما به من شدة.
12
وهذا دليل الانتهازية وحب المصلحة أو المنفعة، إذ يتعرف الإنسان على الله وقت الشدة، وينساه حال الرخاء، ويستغيث به عند النقمة، ويتركه عند النعمة، وهذا يشبه تماما حال المشركين، وهو صنيع الكافرين والمترددين في الإسلام.
ونظير الآية قوله سبحانه: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ، دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [يونس ١٠/ ١٢] وقوله عز وجل: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزّمر ٣٩/ ٤٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
لقد وصف الله الإنسان بأوصاف تبين حقيقته وطبعه، وهي:
١- الطمع واليأس: فلا يمل الإنسان من طلب الخير والزيادة، والخير هنا: المال والصحة والسلطان والعز، وهذا دليل على حبه المال والدنيا والمادة، وإذا أصيب بشرّ كالفقر والمرض، يئس من روح الله، وقنط من رحمته، وهذا برهان على عدم الإيمان بالله والكفر به، فاليأس والإيمان لا يجتمعان في قلب واحد.
٢- فساد الاعتقاد والقول: إذا عادت النعمة والعزة لليائس القنوط، أتى بالأباطيل الموقعة في الكفر والبعد عن الله، وهي ثلاثة أنواع:
الأول- ادعاؤه أحقية النعمة، وأنها أتته بجهده وعمله، لا بفضل الله وإحسانه.
الثاني- إنكاره الساعة أي يوم القيامة والبعث والنشور.
13
الثالث- تمني الأماني بلا عمل، فيحسب أن له الجنة والكرامة مع سوء وضعه.
٣- استحقاق العذاب: أقسم الله قسما غليظا لا حنث فيه أنه سيجزي الكافرين بما عملوا من المعاصي، وأنه سيذيقهم العذاب الشديد.
٤- سوء الأفعال: ترى الإنسان حال النعمة يترفع عن الانقياد إلى الحق، ويتكبر على أنبياء الله، وإذا أصيب بمكروه، أكثر في الدعاء، وهذا يدل على أن الكافر يعرف ربه في البلاء، ولا يعرفه في الرخاء.
ضرورة التأمل في الآيات والأنفس:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
الإعراب:
مَنْ أَضَلُّ من: استفهامية في موضع رفع بالابتداء، وأَضَلُّ: الخبر، والجملة منهما سدّت مسدّ مفعولي أَرَأَيْتُمْ. وقرئ «أريتم» بحذف الهمزة الثانية للتخفيف.
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَنَّهُ الْحَقُّ: في موضع رفع فاعل يَتَبَيَّنَ. وهاء أَنَّهُ إما لله تعالى، أو للقرآن، أن للنبي صلّى الله عليه وسلّم. والظاهر الثاني.
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ الباء زائدة ولا تزاد في الفاعل إلّا مع كفى، ومفعول يَكْفِ محذوف تقديره: أو لم يكفك ربّك. وأَنَّهُ إما في موضع جر على البدل من ربك على اللفظ، أو في موضع رفع على البدل من ربك على الموضع، أو في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي لأنه على كل شيء شهيد.
14
البلاغة:
أَرَأَيْتُمْ فيها مجازان: مجاز استعمال رأى بمعنى أبصر في الإخبار، لأن الرؤية طريق للعلم بالشيء، والعلم به طريق إلى الإخبار عنه، فاستعملت صيغة طلب الرؤية في طلب الإخبار بجامع مطلق الطلب. ومجاز استعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ من غير نظر واتباع دليل مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي لا أحد أضل منكم أي أكثر ضلالا ممن هو في خلاف كبير بعيد عن الحق. وقد أوقع هذه الجملة: مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ موقع (منكم) لبيان حالهم، وتوضيح مزيد ضلالهم. والمعنى: إذا كفرتم بالقرآن فليس هناك في الدنيا أكثر ضلالا منكم يا قريش بسبب مخالفتكم الشديدة المغرقة في البعد عن الحق.
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ سنطلعهم على عظمة آياتنا وصدقها في أقطار السماء والأرض، وسيتبين لهم في المستقبل واقع ما أخبرناهم بهم من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية، وما يحققه المسلمون من فتوحات في أرجاء الدنيا على وجه خارق للعادة. والْآفاقِ نواحي الأرض والسموات وَفِي أَنْفُسِهِمْ من إبداع الصنع وعظمة التركيب وما حل بأهل مكة حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ حتى يظهر لهم أن القرآن هو الحق الثابت المنزّل من الله المشتمل على نظام الدنيا الأصلح، ومعرفة حقائق الآخرة من البعث والحساب والعقاب أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أي أولم تحصل الكفاية بربك، أو أو لم يكفهم في أنه حق وفي صدقك أن ربك على كل شيء شهيد، أي لا يغيب عنه شيء ما. والمعنى: إن هذا الموعود به من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه، فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل من المطّلع المهيمن على كل شيء، حاضره وغائبه، فيكفيهم ذلك دليلا على أنه حق وأنه من عند الله. وقوله: شَهِيدٌ أي شاهد على كل ما يفعله الخلق.
مِرْيَةٍ شك مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي من البعث بعد الموت أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أي إنه تعالى عالم بكل الأشياء مجملها وتفصيلها، وعالم بمقدارها، فيجازيهم بكفرهم.
15
المناسبة:
بعد بيان وعيد المشركين، على الشرك، ورجوعهم عنه في يوم القيامة، وإظهار تبدل أحوال الإنسان، بالتعاظم عند القوة، والتصاغر والذل عند الضعف، أوجب الله تعالى التأمل والتفكر في آيات الله وفي الأنفس، ليعلموا أن القرآن حق منزّل من عند الله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها.
التفسير والبيان:
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ، مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن: أخبروني عن حالكم ماذا أنتم فاعلون، إن كان هذا القرآن من عند الله حقا، ثم كذبتم به ولم تقبلوه ولا عملتم بما فيه، أفلا تكونون أعداء للحق والصواب؟ بل لا أحد أضلّ منكم لشدة عداوتكم، وإمعانكم في الكفر والعناد ومجانبة الحق ومخالفته.
ثم دعاهم إلى التأمل والتفكر في الآيات والأنفس، فقال:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أي سنظهر لهم دلالات صدق القرآن، وعلامات كونه من عند الله في أقطار السموات والأرض المشتملة على خلق الشمس والقمر والنجوم، وتعاقب الليل والنهار، وأحداث الكون الرهيبة من الأعاصير والبراكين والصواعق، وعظمة الجبال والبحار، وإبداع صنع النباتات والأشجار، وما يحدث في الأرض من فتوحات كبري على أيدي المسلمين في أرجاء الأرض المحيطة بمكة والجزيرة العربية. وهذا الإخبار عن الغيب معجزة.
وسنظهر صدق القرآن وأنه منزل من عند الله أيضا في خلق أنفس البشر، وما فيها من إبداع الصنعة، وعظمة التركيب: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ
16
[الذاريات ٥١/ ٢١]، وفي مصائر الناس وتبدل أحوال أهل مكة العتاة من سادة متكبرين إلى أذلة صاغرين.
كل ذلك ليعرفوا من هذه الوقائع والأحداث والخلائق ويتبينوا بجلاء أن القرآن ومنزله ومن أنزل عليه حق وصدق لا شك فيه.
وإذا لم ينظروا ويتأملوا، فتكفي شهادة الله بأن القرآن حق، فقال تعالى:
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟ أي كفى بالله شاهدا على أفعال عباده وأقوالهم، من الكفار وغيرهم، وكفى به شاهدا على أن القرآن منزل من عنده.
ثم أوضح الله تعالى سبب عنادهم وإصرارهم على كفرهم، فقال:
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ. ألا أيها المخاطب، إن كفار قريش وأمثالهم في شك من البعث والحساب والثواب والعقاب، ألا أيها الإنسان، إن الله قد أحاط علمه بجميع المعلومات، وأحاطت قدرته بجميع المقدورات، فهو محيط بكل شيء علما وقدرة، والمخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته، وفي مرصد علمه، وهو المتصرف فيها كلها بحكمة، وسيجازي الكفار وغيرهم على أعمالهم، فما لهم يشكون في البعث والنشور، وقد علموا أن الله خلقهم أول مرة؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- بما أن القرآن نزل بلغة العرب، وهم أدرى الناس به وبصحته، فلا أحد أضل منهم في الإعراض عنه، لفرط الشقاق والعداوة.
17
٢- أقام الله تعالى أدلة وعلامات كثيرة على وحدانيته وقدرته، منها آيات الآفاق والأنفس، وآيات الآفاق: هي الآيات الفلكية والكوكبية، وآيات الليل والنهار، وآيات الأضواء والظلمات، وآيات عالم العناصر الأربعة (الماء والتراب والهواء والنار) وكذا فتح البلاد المحيطة بمكة.
وآيات الأنفس: كيفية تكون الأجنة في ظلمات الأرحام، وتخلق الأعضاء العجيبة، والتركيبات والخواص الغريبة، وكذا فتح مقر الشرك مكة.
فإبداع الكون سمائه وأرضه، وإبداع خلق الإنسان وما يطرأ على البلاد من تغيرات الفتوح والممالك والسلاطين، وعلى الناس من تبدل من عزة إلى ذلة وبالعكس، دليل على وجود الله المتصرف في مخلوقاته، المهيمن على عباده، المدبر لكل شيء يحدث في الوجود.
٣- كفى بالله شاهدا على أنه خلق الدلائل على الأشياء، وعلى أفعال وأقوال عباده، وكفى به شاهدا على أن القرآن من عند الله، كما قال تعالى: قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ [الأنعام ٦/ ١٩] وقال سبحانه: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء ٤/ ١٦٦].
والمقصود: ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله تعالى وقررها في هذه السورة وغيرها من سور القرآن الدالة على التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة؟! ٤- إن مشركي مكة وأمثالهم في شك عظيم وشبهة شديدة من البعث والقيامة، ولكن الله تعالى عالم بكل شيء، فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم، ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
18
والخلاصة: أن سبب الكفر والشرك هو إنكار يوم القيامة، وحجب الأنظار عن التأمل في آيات الكون والأنفس، ولكن الزمن كفيل ببيان صدق الآيات، وأن الكفار مخطئون فيما اعتقدوا.
19

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الشورى
مكيّة، وهي ثلاث وخمسون آية.
تسميّتها:
سميت (سورة الشورى) لوصف المؤمنين فيها بالتشاور في أمورهم:
وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [٣٨] ولأن الشورى في الإسلام قاعدة النظام السياسي والاجتماعي بل والخاص في الحياة، لما لها من مكانة، وأهمية بالغة في تحقيق المصلحة والغاية الناجحة، ولأن الاستبداد يؤدي دائما إلى أوخم العواقب:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به على الدوام ورأي الفرد يشقيها «١»
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها فيما يلي:
١- وصف الكتاب العزيز، وتأكيد نزول الوحي به على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإثبات الساعة (يوم القيامة).
٢- مناقشة عقائد الكفار وتهديدهم ووعيدهم، وإثبات وجود الله ووحدانيته وحكمته وقدرته بالأدلة الكونية المشاهدة، وبالمخلوقات الأرضية الصناعية وغيرها.
(١) للشاعر المرحوم حافظ إبراهيم.
20
٣- ترغيب المؤمنين بالاستقامة المؤدية إلى الجنة ونعيمها، وتحذير الكافرين من الانحراف أو الإعراض عن هداية الله المؤدي إلى النار وأهوالها.
٤- تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من أذى قومه ومطاعنهم.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية مختص بالعقيدة القائمة على الإيمان بوحدانية الله، وصحة الرسالة النبوية، والتصديق بالبعث والجزاء، ومحورها الأساسي الكلام عن ظاهرة الوحي.
لذا ابتدأت بالحديث عن الوحي الذي أنزله الله على جميع الأنبياء والمرسلين الذين اصطفاهم الله لتبليغ رسالته إلى الناس.
ثم عرضت لما لله من هيبة وجلال تكاد السموات تتفطر منهما، وأن الملائكة تستغرق في تسبيحه وتمجيده، وأنه الرقيب على أعمال المشركين، ثم انتقلت إلى بيان كون القرآن عربيا، وأن الإيمان بالله اختياري لا قسري.
ثم أبانت أسباب الاختلاف في الأمة المسلمة وطريق علاجها بتحكيم كتاب الله، وأوضحت ضرورة اختلاف الشرائع الإلهية الموحى بها في الجزئيات حسبما يتفق مع مصلحة البشر، مع اتفاقها في الأصول الاعتقادية والإصلاحية والعبادات، ثم نددت بالمختلفين في الأديان وجعلت خلافهم بغيا وعدوانا وظلما، فالدين واحد في أصله، ورسالات الأنبياء تكمل بعضها بعضا، وبينها قدر مشترك هو الإسلام، أي الانقياد والخضوع لله عز وجل: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ... الآية [١٣].
ثم فنّدت حجة المنكرين لرسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد أن تبين صدقها وصحتها، وهددت باقتراب الساعة التي يستعجل بها المشركون ويشفق منها
21
المؤمنون، وقرنت التفنيد والتهديد بتهويل العذاب الشديد المنتظر يوم القيامة، وبوصف نعيم الجنان وروضاتها لتبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات.
وتحدثت عن مبدأين ضروريّي المعرفة لكل إنسان في الدنيا: وهما أن الرزق بيد الله ينزله بحسب المصلحة، وأن العامل للدنيا وحدها يحرم خير الآخرة، والعامل للآخرة يمنح خير الدنيا معها.
ثم أقامت الأدلة على وجود الله من خلق السموات والأرض وما فيهما والتصرف بهما والقدرة عليهما، وإجراء السفن في البحار، فكل ذلك أثر صنع الله.
وأعقبت ذلك بالإشادة بمن يعمل للآخرة، ويجتنب الفواحش، ويعفو عند المقدرة، ويستحب لربه، ويقيم الصلاة، ويستشير أهل الخبرة والمعرفة، وينتصر من أهل البغي والعدوان، ويؤثّر العفو والصفح والصلح، ويقتصر على الجزاء بالمثل، ويصبر في المحنة.
وأردفت ذلك ببيان أهوال النار وخسارة أهلها، وفقدانها النصر، وتمنيهم العودة إلى الدنيا حين رؤية العذاب، وهم أذلة صاغرون. وناسب هذا دعوة الناس جميعا إلى الاستجابة لدعوة الله والانقياد لحكمه وشرعه قبل المفاجأة بيوم القيامة الذي لا شك فيه ولا مرد له: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ... [٤٧].
والاستجابة تكون تلقائية اختيارية لا قهر فيها، وما على الرسول إلا البلاغ.
ثم ختمت السورة أولا بتأكيد كون ملك السموات والأرض لله، يهب الأولاد أو لا يهب بحسب المشيئة، وثانيا ببيان أقسام الوحي، وعظمة القرآن خاتم
22
Icon