تفسير سورة فصّلت

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿فصِّلتْ﴾ بُيِّنت ووُضِّحت ﴿أَكِنَّةٍ﴾ جمع كنان وهو الغطاء ﴿وَقْرٌ﴾ صمم وثقل يمنع سماع الكلام ﴿مَمْنُونٍ﴾ مقطوع من مننْتُ الجبل إِذا قطعته قال الشاعر:
106
﴿صَرْصَر﴾ الصَّرْصر: الريح الباردة العاصفة مع الصوت الشديد ﴿نَّحِسَاتٍ﴾ مشئومات من النَّحس بمعنى الشؤم وهو ضدُّ السَّعد قال الشاعر: _
107
_سواءٌ عليه أيَّ حسنٍ أتيته _
107
_ أساعة نحسٍ تُتَّقى أم بأسعد_
107
_ ﴿أخزى﴾ أشد إهانةً وإِذلالاً من الخزي بمعنى الإِهانة ﴿الهون﴾ الإِهانة والذل.
التفسِير: ﴿حم﴾ الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن ﴿تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم﴾ أي هذا القرآن المجيد منزَّل من الرحمن الرحيم، أنزله جل وعلا رحمة بعباده، وإِنما خصَّ هذين الإِسمين ﴿الرحمن الرحيم﴾ إشارة إلى أن نزوله من أكبر النعم، ولا شك أن القرآن نعمة باقية إلى يوم القيامة ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ أي كتابٌ جامع للمصالح الدينية والدنيوية، بُيِّنت معانيه، ووُضِّحت أحكامه، بطريق القصص والمواعظ والأحكام والأمثال، في غاية البيان والكمال ﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ أي في حال كونه قرآناً عربياً، واضحاً جلياً نزل بلسان العرب ﴿لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي لقومٍ يفهمون تفاصيل آياته، ودلائل إعجازه، فإِنه في أعلى طبقات البلاغة، ولا يتذوق أسراره إلا من كان عالماً بلغة العرب ﴿بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراً للكافرين بعذاب الجحيم ﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ أي فأعرض أكثر المشركين عن تدبير آياته مع كونه نتزل بلغتهم، فهم لا يسمعون سماع تفكر وتأمل قال أبو حيان: المعنى أعرض أكثر أولئك القوم مع كونهم من أهل العلم، ولكن لم ينظروا النظر التام بل أعرضوا، فهم لإِعراضهم لا يسمعون ما احتوى عليه من الحجج والبراهين وقال القرطبي: السورةُ نزلت تقريعاً وتوبيخاً لقريش في إعجاز القرآن، فهم لا يسمعون سماعاً ينتفعون به، ثم أخبر تعالى عن عتوهم وضلالهم فقال ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ أي وقالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين دعاهم إلى الإِيمان: قلوبنا في أغطية متكاثفة، لا يصل إليها شيءٌ مما تدعونا إليه من التوحيد والإِيمان ﴿وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ﴾ أي وفي آذاننا صممٌ وثقلٌ يمنعنا من فهم ما تقول قال الصاوي: شبهوا أسماعهم بآذانٍ فيها صمَمٌ، من حيث إنها تمدُّ الحقَّ ولا تميل إلى استماعه ﴿وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ أي وبيننا وبينك يا محمد حاجز يمنع أن يصل إلينا شيء مما تقول، فنحن معذورون في عدم اتباعك، لوجود المانع من جهتنا وجهتك ﴿فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ أي اعملْ أنت على طريقتك، ونحن على طريقتنا، واستمرَّ على دينك فإنا مستمرون على ديننا ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ﴾ أي قل يا محمد لأولئك المشركين: لستُ إلا بشراً مثلكم خصّني الله بالرسالة والوحي، وأنا داعٍ لكم إلى توحيد خالقكم وموجودكم، الذي قامت الأدلة العقلية والشرعية على وحدانيته ووجوده، فلا داعي إلى تكذيبي ﴿فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه﴾ أي توجهوا إليه بالاستقامة على التوحيد والإِيمان، والإِخلاص في الأعمال، واسألوه المغفرة لسالف الذنوب ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة﴾ أي دمارٌ وهلاك للمشركين الذين لا يفعلون
107
الخير، ولا يتصدقون ولا ينفقون في طاعة الله قال القرطبي: قرَّعهم بالشح الذي يأنف منه الفضلاء، وفي الآية دلالة على أن الكافر يُعذَّب بمنع الزكاة مع عذابه على كفره وقال ابن عباس: المراد زكاة الأنفس والمعنى: لا يطهرون أنفهسم من الشرك بالتوحيد، ولا يقولون لا إله الله ﴿وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ﴾ أي كفروا بالبعث والنشور، وكذَّبوا بالحساب والجزاء قال الصاوي: وإنما خصَّ منع الزكاة وقرنه بالكفر بالآخرة، لأن المال شقيق الروح فإِذا بذله الإِنسان في سبيل الله كان دليلاً على قوته وثباته في الدين ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ لما ذكر حال الكفار ووعيدهم، أردفه بذكر حال المؤمنين وما لهم من الوعد الكريم والمعنى الذين صدَّقوا الله ورسوله، وجمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح، لهم في الآخةر أجرٌ غير مقطوع عند ربهم، بل هو دائم مستمر بدوام الجنة، ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتعجب أي كيف تكفرون بالله وهو الإِلهُ العليُّ الشأن، القادر على كل شيء، خالقُ الأرض في يومين؟ ﴿وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً﴾ أي تجعلون له شركاء وأمثالاً تعبدنها معه ﴿ذَلِكَ رَبُّ العالمين﴾ أي ذلك الخالق المبدع هو ربُّ العالمين كلهم، فكيف يجوز جعل الأصنام الخسيسة شركاء له في الإِلهية والمعبودية؟ قال الصاوي: الاستفهام ﴿أَإِنَّكُمْ﴾ للإِنكار والتشنيع عليهم المعنى: أنتم تعلمون أنه لا شريك له في العالم العلوي والسفلي، فكيف تجعلون له شريكاً؟ ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا﴾ أي جعل في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تميد بالبشر ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾ أي أكثر خيرها بما جعل فيها من المياه، والزروع، والضروع ﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا﴾ أي قدَّر أرزاق أهلها ومعاشهم قال مجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها ﴿في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ﴾ اي في تمام أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان، للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ﴾ أي عمد إلى خلقها وقصد إلى تسويتها وهي بهيئة الدخان قال ابن كثير: والمراد بالدخان بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ أي استجيبا لأمري طائعتين أو مكرهتين ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ أي قالت السموات والأرض أتينا أمرك طائعين قال الزمخشري: وهذا على التمثيل أي أنه تعالى أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إرا ورد عليه أمر الآمر المُطاع، والغرضُ تصوير أثر قدرته في المقدورات من غير أن يكون هناك خطاب وجواب، ومثله قول القائل: قال الحائطُ للمسمار لم تشقني؟ قل: سلْ من يدُقُّني، وروي عن ابن عباس قال قال الله تعالى
108
للسماء: أطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شققي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين «قالتا أتينا أمرك طائعتين» واختاره ابن جرير ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِي يَوْمَيْنِ﴾ أي صنعنَّ وأبدع خلقهن سبع سمواتٍ في وقت مقدَّر بيومين، فتمَّ خلق السموات والأرض في ستة أيام، ولو شاء لخلقهنَّ بلمح البصر، ولكنْ أراد أن يعلّم عباده الحلم والأناة ﴿وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا﴾ أي أوحى في كل سماء ما أراده، وما أمر به فيها قال ابن كثير: أي رتَّب في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو ﴿وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً﴾ أي وزينَّا السماءَ الأولى القريبة منكم، بالكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض، وحرساً من الشياطين أن تستمع إل الملأ الأعلى ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم﴾ أي ذلك المذكور من الخلق والإِيداع هو صنع الله، العزيز في ملكه، العليم بمصالح خلقه ﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ أي حين جاءتهم الرسلُ من كل جوانبهم، واجتهدوا في هدايتهم من كل جهة، وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتوَّ والإِعراض ﴿أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله﴾ أي بأن لا تعبدوا إلاّ اللهَ وحده ﴿قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً﴾ أي فإن أعرضوا عن الإيمان بعد هذا البيان، فقل لهم: إني أخوفكم عذاباً هائلاً مثل هلاك عاد وثمود، وعبَّر بالماضي إشارةً إلى تحققه وحصوله ﴿إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ أي ولو شاء ربُّنا إرسالَ رسولٍ لجعله ملكاً لا بشراً ﴿فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ إي فإنا كافرون برسالتكم، لا نتبعكم وأنتم بشرٌ مثلُنا، وفي قولهم ﴿بِمَآ أُرْسِلْتُمْ﴾ ضربٌ من التهكم والسخرية بهم ﴿فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ هذا تفصيلٌ لما حلَّ بعاد وثمود من استحقاقٍ للتعظم والاستعلاء ﴿وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ ؟ أي وقالوا اغتراراً بقوتهم لمّا خُوّفوا بالعذاب: لا أحد أقوى منا فنحن نستطيع أن ندفع العذاب عن أنفسنا بفضل قوتنا قال أبو السعود: كانوا ذوي أجسام طوال، وخلق عظيم، وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل فيقتلعها بيده ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ جملة اعتراضية للتعجيب من مقالتهم الشنيعة والمعننى أغفلوا عن قدرة الله ولم يعلموا أن الله العظيم الجليل الذي خلقهم وخلق الكائنات، وهو أعظم منهم قوةً وقدرة؟ ﴿وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ أي وكانوا بمعجزاتنا يجحدون قال الرازي: إنهم كانوا يعرفون أنها حقٌّ ولكنهم جحدوا كما يجحد المودعُ الوديعة ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً﴾ أي فأرسلنا على عاد ريحاً باردة شديدة البرد، وشديدة الصوت والهبوب، تُهلك بشدة صوتها وبردها ﴿في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾ أي في أيامٍ مشئومات غير مباركات ﴿لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا﴾ أي لكي نذيقهم العذاب المخزي المذل في الدنيا قال الرازي: ﴿عَذَابَ الخزي﴾ أي عذاب الهوان والذل، والسبب أنهم استكبروا عن الإِيمان،
109
فقالب الله ذلك الاستكبار بإيصال الذل والهوان إليهم ﴿وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ﴾ أي ولعذابهم في الآخرة أعظم وأشدُّ إهانةٌ وخزياً من عذاب الدنيا، وليس لهم ناصر يدفع عنهم ذلك العذاب ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾ أي وأمَّا ثمود فبينا لهم طريق الهدى، ودللناهم على سبيل السعادة، فاختاروا الضلالة على الهداية، والكفر على الإِيمان ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون﴾ أي فأخذتهم قارعة العذاب الموقع في الإِهانة والذل ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي بسبب إجرامهم وطغيانهم وتكذيبهم لنبيّ الله «صالح» قال ابن كثير: بعث الله عليهم صيحةً ورجفة وذلاً وهواناً، وعذاباً ونكالاً، بتكذيبهم صالح وعقرهم الناقة ﴿وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ﴾ أي ونجينا صالحاً ومن آمن به من ذلك العذاب.
110
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة عاد وثمود، وما أصابهم من العقوبة في الدنيا بطغيانهم وإجرامهم، ذكر هنا ما يصيب الكفار عامةً في الآخرة من العذاب والدمار، ليحصل منه تمام الاعتبار، في الزجر والتحذير عن ارتكاب المعاصي والكفر بنعم الله.
اللغَة: ﴿يُوزَعُونَ﴾ يُحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ﴿تَسْتَتِرُونَ﴾ تستخفون، من الاستتار بمعنى الاختفاء عن الأعين ﴿أَرْدَاكُمْ﴾ أهلككم وأوقعكم في المهالك ﴿يَسْتَعْتِبُواْ﴾ يطلبوا رضاء الله ﴿المعتبين﴾ جمع معتب وهو المقبول عتابه قال النابغة:
إني لعمرُك ما بابي بذي غلقٍ أساعة نحسٍ تُتَّقى أم بأسعد
فإِن أكُ مظلوماً فعبدُ ظلمته وإنْ تكُ ذا عتبى فمثلك يُعتب
﴿قَيَّضْنَا﴾ هيأنا ﴿نُزُلاً﴾ ضيافة وكرامةً ﴿يَسْأَمُونَ﴾ يملُّون.
سَبَبَُ النّزول: عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفرٍ: قريشان وثقفي، قليلٌ فقهُ قلوبهم، كثيرّ شحم بطونهم، فقال أحدهم: أترون أنَّ الله يسمع ما نقول؟ فقال أحدهم: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إن جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار﴾ أي واذكر يوم يُجمع أعداء الله المجرمون في أرض المحشر لسوقهم إلى النار ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ أي يُحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا قال ابن كثير: تجمع الزبانية أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ﴿حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا﴾ أي حتى إذا وقفوا للحساب ﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي نطقت جوارحهم وشهدت عليهم بما اقترفوه من إجرامٍ وآثام، وفي الحديث «فيُختم على فيه أي فمه ثم يُقال لجوارحه انطقي، فتنطٌ بأعماله، ثم يُخَّلى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكُنَّ وسُحقاً، فعنكنَّ كنت أناضل» ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا﴾ أي وقالوا لأعضائهم وجلودهم توبيخاً وتعجباً من هذا الأمر الغريب: لم أقررتم علينا وشهدتم بما فعلنا وإنما كنا نجادل وندافع عنكم؟ ﴿قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أي قالوا معتذرين: ليس الأمر بيدنا وإِنما أنطقنا الله بقدرته، الذي ينطق الجماد والإِنسان والحيوان، فشهدنا عليكم بما علمتم من القبائح ﴿وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أي هو أوجدكمم من العدم، وأحياكم بعد أن لم تكونوا شيئاً، فمن قدر على هذا قدر على إنطاقنا {وَإِلَيْهِ
111
تُرْجَعُونَ} أي وإِليه وحده تُردون بالبعث قال أبو السعود: المعنى ليس نطقنا بعجبٍ من قدرة الله، الذي أنطق كل حي، فإِن من قدر على خلقكم وإِنشائكم أولاً، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ثانياً، لا يُتعجب من إِنطاقه لجوارحكم ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ﴾ أي وما كنتم تستخفون من هؤلاء الشهود في الدنيا حين مباشرتكم الفواحش، لأنكم لم تظنوا أنها تشهد عليكم قال البيضاوي: أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضيحة، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم فمنا استخفيتم منها، وفيه تنبيهٌ على أن المؤمن ينبغي ألاَّ يمر عليه حالٌ إلا وعليه رقيب ﴿ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي ولكنْ ظننتم أن الله تعالى لا يعلم كثيراً من القبائح المخفية، ولذلك اجترأتم على المعاصي والآثام ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ﴾ أي وذلكم الظنُّ القبيح برب العالمين أنه لا يعلم كثيراً من الخفايا هو الذي أوقعكم في الهلاك والدمار فأوردكم النار ﴿فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين﴾ أي فخسرتم سعادتكم وأنفسكم وأهليكم، وهذا تمام الخسران والشقاء ﴿فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ﴾ أي فإِن يصبروا على العذاب فالنارُ مقامهم ومنزلهم، لا محيد ولا محيص لهم عنها ﴿وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين﴾ أي وإن يطلبوا إرضاء الله، فما هم من المرضي عليهم، قال القرطبي: والعُتبى: رجوعُ المعتوب عليه إلى ميُرضي العاتب، تقول: استَعتبتُه فأعْتبني أي استرضيتُه فأرضاني ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ﴾ أي هيأنا للمشركين ويسَّرنا لهم قرناء سوء من الشياطين، ومن غواة الإِنس ﴿فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي حسَّنوا لهم أعمالهم القبيحة، الحاضرة والمستقبلة قال ابن كثير: حسنوا لهم أعمالهم فلم يروا أنفسهم إلا محسنين ﴿وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾ أي ثبت وتحقق عليهم كلمة العذاب، وهو القضاء المحتَّم بشقائهم ﴿في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس﴾ أي في جملة أمم من الأشقياء المجرمين قد مضت من قبلهم، ممن فعلوا كفعلهم من الجنِّ والإِنس ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ﴾ تعليلٌ لاستحقاقهم العذاب أي لأنهم كانوا من الخاسرين في الدنيا والآخرة، فلذلك استحقوا العذاب الأبدي ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن﴾ لما أخبر تعالى عن كفر عاد وثمود وغيرهم، أخبر عن مشركي قريش وأنهم كذبوا القرآن والمعنى قال الكافرون بعضهم لبعض لا تستمعوا لمحمد إذا قرأ القرآن، وتشاغلوا عنه.
﴿والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ أي ارفعوا أصواتكم عند قراءته حتى لا يسمعه أحد لكي تغلبوه على دينه قال ابن عباس: قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً﴾ أي فوالله لنذيقنَّ هؤلاء المستهزئين عذاباً شديداً لا يخف ولا ينقطع ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ولنجازيهنم بشر أعمالهم، وسيء أفعالهم، أسوأُ وأقبح الجزاء ﴿ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار﴾ أي ذلك العذاب الشديد الذي هو أسوأُ الجزاء هو نار جهنم جزاء المجرمين، أعداء الله ورسوله ﴿لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ﴾ أي لهم في جهنم دار الإِقامة، لا يخرجون منها أبداً {جَزَآءً
112
بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} أي جزاءً له على كفرهم بالقرآن، واستهزائهم بآيات الرحمن قال الرازي: وسمَّى لغوهم بالقرآن جحوداً لأنهم لما علموا أن القرآن بالغٌ إلى حد الإِعجاز، خافوا إن سمعه الناس أن يؤمنوا به، فاخترعوا تلك الطريقة الفاسدة، وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً إلا أنه جحدوه حسداً ﴿وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس﴾ أي ويقول الكفار إذا دخلوا جهنم ربنا أرنا كل من إغوانا وأضلنا من الجن والإِنس، وإِنما جاء بلفظ الماضي «وقال» لتحققه ومعناه المستقبل قال أبو حيان: والظاهر أن المراد ب ﴿الَّذِينَ﴾ يراد بهما الجنس أي كل مغوٍ من هذه النوعين ﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا﴾ أن نطأْهما بأقدامنا انتقاماً وتشفياً ﴿لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين﴾ أي ليكونا في الدرك الأسفل من النار، وهي أشد عذاب جهنم لأنها درك المنافقين، ولما ذكر تعالى حال الأشقياء المجرمين، أردفه بذكر حال السعداء المؤمنين فقال ﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا﴾ أي آمنوا بالله إيماناً صادقاً وأخلصوا العمل له، ثم استقاموا على توحيد الله وطاعته، وثبتوا على ذلك حتى الممات، عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال على المنبر بنعد أن تلا الآية الكريمه: «استقاماو واللهِ على الطريقة لطاعته، ثم لم يروغوا روغان الثعالب» والغرضُ أنه استقاموا على شريعة الله، في سولكهم، وأخلاقهم وأقوالهم، وأفعالهم، فكانوا مؤمنين حقاً، مسلمين صدقاً، وقد سئل بعض العارفين على تعريف الكرامة فقال: الاستقامةُ عينُ الكرامة، وعن الحسن أنه كان يقول: اللهمَ أنت ربنا فارزقنا الاستقامة ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ﴾ أي تتنزل عليهم ملائكة الرحمة عند الموت بأن لا تخافوا ممَّا تقدمون عليه من أحوال القيامة، ولا تحزنوا على ما خلفتموه في الدنيا من أهلٍ ومالٍ وولد فنحن نخلفكم فيه ﴿وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ أي وأبشروا بجنة الخلد التي وعدكم الله بها على لسان الرسل قال شيخ زاده: إن الملائكة تتنزلُّ حين الاحتضار على المؤمنين بهذه البشارة أن لا تخافوا من هول الموت، ولا من هو القبر، وشدائد يوم القيامة، وإن المؤمن ينظر إلى حافظيه قائمين على رأسه يقولان لا تخف اليوم ولا تحزن، وأبشر بالجنة التي كنت توعد، وإنك سترى اليوم أموراً لم تر مثلها فلا تهولنك فإنما يراد بها غيرك ﴿نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة أي تقول لهم الملائكة: نحن أنصاركم وأعوانكم في الدنيا والآخرة، نرشدكم إلى مافيه خيركم وسعادتكم في الدارين {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ أي ولكم في الجنة ما تشتهيه نفوسكم، وتقرُّ به عيونُكم من أنواع اللذائذ والشهوات، ولكم فيها ما تطلبون وتتمنون ﴿نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ أي ضيافة وكرامة من ربٍ واسع المغفرة، عظيم الرحمة لعباده المتقين ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين﴾ أي دعا إلى توحيد الله وطاعته، بقوله وفعله وحاله، وفعل الصالحات، وجعل الإِسلام دينه ومذهبه قال ابن كثير: وهذه الآية معامة في كل من دعا إلى خير وهو نفسه مهتدٍ، وقال الزمخشري: والآية عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث: أن يكون مؤمنا معتقدا لدين الإِسلام، عاملا بالخير، داعيا إليه، وما هم إلا طبقة العلماء
113
العاملين ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة﴾ أي لا يتساوى فعل الحنسة مع فعل السيئة، بل بينهما فرقٌ عظيم في الجزاء وحسن العاقبة ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن، مثل أن تدفع الغضب بالصبر، والجهل بالحلم، والإِسارة بالعفو قال ابن عباس: ادفع بحلمك جهل من جهل عليك ﴿فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ أي فإذا فعلت ذلك صار عدوك كالصديق القريب، الخالص الصداقة في مودته ومحبته لك ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ﴾ أي وما ينال هذه المنزلة الرفيعة، والخصلة الحميدة، إلاّ من جاهد نفسه بكظم الغيظ واحتمال ُالأذى ﴿وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ أي وما يصل إليها وينالها إلا وينالها إلا ذو نصيب وافر من السعادة واحتمال والخير ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله﴾ أي وإن وسوس إليك الشيطان بترك ما أُمرت به من الدفع بالتي هي أحسن، وأراد أن يحملك على البطش والانتقام، فاستعذ بالله من كيده وشره ﴿إِنَّهُ هُوَ السميع العليم﴾ أي هو السميع لأقوال العباد، العليم بأفعالهم وأحوالهم، ثم ذكر تعالى دلائل قدرته الباهرة، وحكمته البالغة فقال ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر﴾ أي ومن علاماته الدالة على وحدانيته وقدرته تعاقب الليل والنهار، وتذليل الشمس والقمر، مسخَّرين لمصالح البشر ﴿لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ﴾ أي لا تسجدوا للمخلوق واسجدوا للخالق، الذي خلق هذه الأشياء وأبدعها ﴿إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي إن كنتم تفردونه بالعبادة فلا تسجدوا لأحدٍ سواه ﴿فَإِنِ استكبروا﴾ أي فإِن استكبر الكفار عن السجود لله ﴿فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار﴾ أي فالملائكة الأبرار يعبدونه بالليل والنهار ﴿وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ﴾ أي لا يملّون عبادته.
114
المنَاسَبَة: لما ذكر صفات المؤمنين الأبرار، وأردفها بذكر الدلائل الدالة على وجوده سبحانه ووحدانتيه، وكمال علمه وحكمته، ذكر هنا ما يدل على البعث والنشور، من صفحات هذا الكون المنظور، ثم أعقبه بذكر الملحدين في آياته، المكذبين برسله وأنبيائه، وختم السورة الكريمة بيان حال الأشقياء المجرمين، المنكرين للقرآن العظيم.
اللغَة: ﴿يُلْحِدُونَ﴾ يمليون عن الحق والاستقامة، والإِلحادُ: الميلُ والعدول يقال: ألحد في دين الله أي حاد عنه وعدل ﴿أعْجَمِيّاً﴾ بلغة العجم ﴿وَقْرٌ﴾ صممٌ مانع من سماعه ﴿أَكْمَامِهَا﴾ جمع كُمَّ وهو وعاء الثمرة بضم الكاف وكسرها (مَّحِيصٍ} فرار ومهرب من حاص يحيصُ حيصاً إذا هرب ﴿نأ﴾ تباعد وأعرض ﴿الآفاق﴾ أقطار السموات والأرض ﴿مِرْيَةٍ﴾ شك وارتياب عظيم.
التفسِير: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً﴾ أي ومن البراهين والعلاقات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته، أنك ترى الأرض يابسة جرداء لا نبات فيها، تشبه الرجل الخاضع الذليل ﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ﴾ أي فإِذا أنزلنا عليها المطر تحركت حركة شديدة وانتفحت وعلت بالنبات، وأخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار ﴿إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى﴾ أي إن الإِله الذي أحيا الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الأموات ويبعثهم من القبور ﴿إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي لا يعجزه جل وعلا شيءٌ، فكما أخرج الزروع والثمار من الأرض المجدبة، فإِنه قادر على إحياء الموتى.. ثم توعَّد تعالى من يلحد في آياته بعد ظهور الأَدلة والبراهين على وجوده فقال ﴿إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ﴾ أي إن الذين يطعنون في آياتنا، بالتحريف والتكذيب والإِنكار لها لا يغيب أمرهم عنا فنحن لهم بالمرصاد، وفيه وعيد وتهديد قال قتادة: الإِلحادُ الكفر والعناد وقال ابن عباس: هو تبديلُ الكلام ووضعه في غير موضعه ﴿أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة﴾ أي أفمن يُطرح في جهنم مع الخوف والفزع أفضل أم من يكون في الجنة آمناً من عذاب الله يوم
115
القيامة؟ قال الرازي: والغرضُ التنبيهُ على أن الملحدين في آيات الله يُلقون في النار، وأن المؤمنين بآيات الله يكونون آمنين يوم القيمة، وشتَّان ما بينهما ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ أي افعلوا ما تشاءون في هذه الحياة، وهو تهديدٌ لا إباحة ملفَّع بظل الوعيد، بدليل قوله تعالى ﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي هو تعالى مطّلع على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية، من أحوالكم، وسيجازيكم عليها ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ أي إن الذين كذبوا بالقرآن حين جاءهم من عند الله، وخبر «إنَّ» محذوفٌ لتهويل الأمر كأنه قيل: سيجازون يكفرهم جزاءً لا يكاد يوصف لشدة بشاعته وفظاعته ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾ أي وإِنه لكتاب غالب بقوة الحجة، لا نظير له لما احتوى عليه من الإِعجاز، يدفع كل جاحج، ويقمع كلَّ معاند ﴿لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ أي لا يتطرق إليه الباطل من جهةٍ من الجهات، ولا مجال للطعن فيه قال ابن كثير: أي ليس للبطلان إليه سبيل، لأنه منزَّل من رب العالمين ﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ أي هو تنزيلٌ من إله حكيم في تشريعه وأحواله وأفعاله، محمود من خلقه بسبب كثرة نعمه.
. ثم سلَّى تعالى نبيَّه على ما يصيبه من أذى الكفار فقال ﴿مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ﴾ أي ما يقول لك كفار قومك، إلاّ ما قد قال الكفار للرسل قبلهم من الكلام المؤذي، والطعن فيما أنزل الله قال القرطبي: يُعزّي نبيه ويُسلّيه من أذى وتكذيب قومه ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ إي إن ربك يا محمد لهو الغفور لذنوب المؤمنين، ذو العقاب الشديد للكافرين، ففوِّضْ أمرك إليه فإنه ينتقم من أعدائك، ثم ذكر تعالى تعنُّت الكافرين ومكابرتهم للحقِّ بعد سطوعه وظهوره فقال ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً﴾ أي لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم ﴿لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ أي لقال المشركون: هلاَّ بُيّنت آياته بلسانٍ نفهمه وهلاَّ نزل بلغتنا ﴿ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ ؟ استفهام إنكاري أي أقران أعجميٌ ونبيٌ عربي؟ قال الرازي: ذكروا أن الكفار كانوا يقولون لتعنتهم: هلاَّ نزول القرآن بلغة العجم؟ ﴿فأجيبوا بأن الأمر لو كان كما تقترحون لم تتركوا الاعتراض، ثم قال: والحقُّ عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحدٌ متعلق بعضُه ببعض، وقد حكى تعالى عنهم في أول السورة أهم قالوا {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ [فصلت: ٥] فردَّ تعالى عليهم هنا بأنه لو أنزل هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب} ﴿ولصحَّ لهم أن يقولوا {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ [فصلت: ٥] لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه} ! أما وقد نزل بلغة العرب، وهم من أهل هذه اللغة، فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك؟ فظهر أن الآية على أحسن وجوه النظم {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ
116
هُدًى وَشِفَآءٌ} أي قل لهم يا محمد: إن هذا القرآن هدى للمؤمنين من الضلالة، وشفاء لهم من الجهل والشك والريب ﴿والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ﴾ أي والذين لا يصدّقون بهذا القرآن، في آذانهم صممٌ عن سماعه، ولذلك تواصوا باللغو فيه ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ أي كما أن هذا القرآن رحمة للمؤمنين، هو شقاء وتعاسة على الكافرين كقوله تعالى ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً﴾ [الإِسراء: ٨٢] قال في حاشية البيضاوي: إن القرآن لوضوح آياته، وسطوع براهينه، هادٍإلى الحق، ومزيل للريب والشك، وشفاء من داء الجهل والكفر والارتياب، ومن ارتاب فيه ولم يؤمن به، فارتيابه إنما نشأ عن توغله في اتباع الشهوات، وتقاعده عن تفقد ما يُسعده وينجيه ﴿أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ أي أولئك الكافرون بالقرآن، كمن يُنادي من مكان بعيد، فإِنه لا يسمع ولا يفهم ما يُنادى به، وهذا على سبيل التمثيل قال ابن عباس: يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاءً ونداءً ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ﴾ أي والله لقد أعطينا موسى التوراة فاختلف فيها قومه ما بين مصدِّق لها ومكذِب، هكذا حال قومك بالنسبة للقرآن قال القرطبي: وهذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي لا يحزنك اختلاف قومك في كتابك، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم، فآمن به قوم وكذَّب به قوم ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أي ولولا أن الله حكم بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة لعذَّبهم وأهلكهم في الدنيا ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ أي وإن هؤلاء الكفار لفي شكٍ من القرآن، لتبلد عقولهم وعمى بصائرهم، موقع لهم في أشد الريبة والاضطراب ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾ أي من عمل شيئاً من الصالحات في هذه الدنيا فإِنما يعود نفع ذلك على نفسه، ومن أساء في الدنيا فإِنما يرجع وبال ذلك وضرره عليه ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ أي وليس الله منسوباً إلى الظلم حتى يعذِّب بغير إساءة، فهو تعالى لا يعاقب أحداً إلا بذنبه، ولا يعاقبه إلا بجرمه قال المفسرون: ليست صغية «ظلاَّم» هنا للمبالغة، وإِنما هي صيغة نسبة مثل عطَّار، ونجَّار، وتمَّار، ولو كانت للمبالغة لأوهم أنه تعالى ليس كثير الظلم ولكنه يظلم أحياناً، وهذا المعنى فاسد لأنه يستحيل عليه الظلم جل وعلا ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة﴾ أي إليه تعالى وحده علم وقت الساعة لا يعلمه غيره قال الإمام الفرخ: أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا اللهُ، ومناسبتُها لما قبلها أنه تعالى لما هدَّد الكفار بقوله ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾ ومعناه أن جزاء كل أحدٍ يصل إليه في يوم القيامة، فكألأن سائلاً قال: ومتى يكون ذلك اليوم؟ فبيَّن تعالى أن معرفة ذلك اليوم لا يعلمه إلا الله ﴿وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا﴾ أي وما تخرج ثمرةٌ من الثمرات من غلافها ووعائها ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ أي ولا تحمل أنثى جنيناً في بطنها، ولا تلده إلا ملتبساً بعلمه تعالى، لا يعزبُ عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء {
117
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي} ؟ أي ويوم القيامة ينادي الله المشركين أين شركائي الذين زعمتم أنهم آلهة؟ وفي تقريعٌ وتهكمٌ بهم ﴿قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ﴾ أي قال المشركون: أعلمناك وأخبرناك الآن بالحقيقة ما مّنا من يشهد اليوم بأنَّ لك شريكاً في المفسرون: لما عاينوا القيامة تبرءوا من الأصنام وتبرأت الأصنم منهم أي وأعلنوا إيمانهم وتوحيدهم في وقت لا ينفع فيه إِيمان ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ﴾ أي وغاب عنهم ما كنوا يعبدونه في الدنيا من الآلهة المزعومة ﴿وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ﴾ أي وأيقنوا أنه لا مهرب ولا مخلص لهم من عذاب الله ﴿لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير﴾ أي لا يملُّ الإِنسان من سؤاله ودعائه بالخير لنفسه، كالمال والصحة العز والسلطان ﴿وَإِن مَّسَّهُ الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ أي وإن أصابه فقر أو مرض فهو عظيم اليأس، قانطاٌ من ورح الله ورحمته ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ﴾ أي ولئن أعطيناه غنى وصحة من بعد شدة وبلاء ﴿لَيَقُولَنَّ هذا لِي﴾ أي ليقولنَّ هذا بسعْيي واجتهادي قال أبو حيان: سمَّى النعمة رحمة إذ هي من آثار رحمة الله ﴿وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً﴾ أي وما أعتقد أن القيامة ستكون ﴿وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى﴾ أي وعلى فرض أن القيامة حاصلة، فليحسننَّ إليَّ ربي كما أحسن إليَّ في هذه الدنيا قال ابن كثير: يتمنى على الله عَزَّ وَجَلَّ مع إساءته العمل وعدم اليقين ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ﴾ أي فواللهِ لنعلِمنَّ هؤلاء الكافرين بحقيقة أعمالهم، ولنبصرنَّهم بإِجرامهم ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ أي ولنعذبنَّهم أشد العذاب، وهو الخلود في نار جهنم ﴿وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ أي وإذا أنعمنا على الإِنسان أعرض عن شكر ربه، واستكبر عن الانقياد لأوامره، وشمخ بأنفه تكبراً وترفعاً ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ﴾ أي وإِذا أصابه المكروه فهو ذو دعاء كثير، يديم التضرع ويكثر من الابتهال، وهكذا طبيعة الإِنسان الجحود والنكران، يعرف ربه في البلاء وينساه في الرخاء قال الرازي: استعير العرض لكثرة الدعاء، كما استعير الغلظ لشدة العذاب ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ﴾ أي قل لهم يا محمد: أخبروني يا معشر المشركين، إن كان هذا القرآن من عند الله، وكفرتم به من غير تأمل ولا نظر، كيف يكون حالكم؟ ﴿مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أضلُ منكم لفرط شقاقكم وعداوتكم، قال أبو السعود: وضع الموصول «من أضلُّ» موضع الضمير «منكم» شرحاً لحالهم، وتعليلاً لمزيد ضلالهم ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا﴾ أي سنظهر لهؤلاء المشركين دلالاتنا وحجبنا عل أن القرآن حقٌ منزل من عند الله ﴿فِي الآفاق﴾ أي في أقطار السمواتِ والأرض من الشمس والقمر والنجوم، والأشجار والنبات وغير ذلك من العجائب العلوية والسفلية ﴿وفي أَنفُسِهِمْ﴾ أي وفي عجائب قدرة الله في خلقهم وتكوينهم قال القرطبي: المراد ما في أنفسهم من لطيف الصنعة، وبديع الحكمة، حتى سبيل الغائط والبول، فإِن الرجل يأكل ويشرب من مكان واحدٍ، ويتميز ذلك من مكانين، ومن بديع صنعة الله وحكمته في غينيه اللتين هما قطرة ماء، ينظر بهما من الأرض إلى
118
السماء، مسيرة خمسمائة عام، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة، وغير ذلك من بديع حكمة الله فيه ﴿حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق﴾ أي حتى يظهر لهم أن هذال القرآن حق ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ؟ أي أولم يكفهم رهاناً على صدقك أن ربك لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء؟ وأنه مطَّلع على كل شيء لا تخفى عليه خافية؟ ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ﴾ ألا استفتاحٌ لتنبيه السامع إلى ما يقال أي ألا فانتبهوا أيها القوم إن هؤلاء المشركين في شكٍ من الحساب والبعث والجزاء، ولهذا لا يتفكرون ولا يمنون ﴿أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ﴾ أي ألا فانتهوا فإنه تعالى قد أحاط علمه بكل الأشياء جملة وتفصيلاً، فهو يجازيهم على كفرهم.
البَلاَغة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين ﴿بَشِيراً.. وَنَذِيراً﴾ وبين ﴿طَوْعاً.. وكَرْهاً﴾ وبين ﴿مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.. وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ وبين ﴿الحسنة.. والسيئة﴾ وبين ﴿مَغْفِرَةٍ.. وعِقَابٍ﴾ وبين ﴿ءَاعْجَمِيٌّ.. وعَرَبِيٌّ﴾ وبين ﴿تَحْمِلُ.. وتَضَعُ﴾ وبين ﴿الخير.. والشر﴾.
٢ - طباق السلب ﴿لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ.. واسجدوا لِلَّهِ﴾ وكذلك ﴿آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
٣ - الالتفات ﴿فَإِنْ أَعْرَضُواْ﴾ [فصلت: ١٣] بعد قوله ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ﴾ [فصلت: ٩] وهو التفات من الخطاب إلى الغيبة، وناسب الإِعراض عن مخاطبتهم لكونهم أعرضوا عن الحق، وهو تناسب حسن.
٤ - الاستعارة التمثيلية ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ [فصلت: ١١] مثَّل تأثير قدرته تعالى في السموات والأرض بأمر السلطان لأحد رعيته أو عبيده بأمر من الأمور وامتثال الأمر سريعاً.
٥ - الاستعارة التصريحية ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ﴾ [فصلت: ٥] ليس هناك على الحقيقة شيء مما قالوه، وإِنما أخرجوا هذا الكلام مخرج الدلالة على استثقالهم ما يسمعونه من قوارع القرآن، وجوامع البيان، فكأنهم من شدة الكراهية له قد صُمَّت أسماعهم عن فهمه، وقلوبهم عن علمه.
٦ - الاستعارة أيضاً ﴿أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ شبّه حالهم في عدم قبول المواعظ، وإِعراضهم عن القرآن وما فيه بحال من يُنادى من مكان بعيد، فلا يسمع ولا يفهم ما يُنادى به، والجامع عدم الفهم في كلٍ.
٨ - الأمر التهديدي ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ خرج الأمر عن صيغته الأصلية إلى معنى الوعيد والتهديد.
٩ - التشبيه المرسل المجمل ﴿كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: ٣٤] ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه فهو مرسل مجمل.
١٠ - إن اللسان عاجز عن تصوير البلاغة في جمال الأسلوب القرآني، فتأمل الروعة البيانية في
119
قوله تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وتصور التناسق الفني في التعبير والأداء، وتأمل لفظ الخشوع والاهتزاز والانتفاخ للأرض الميتة يبعثها الله كما يبعث الموتى من القبور، إنه جو بعث وإِخراج وإِحياء، ويا له من تصوير رائع يأخذ بالألباب.
120
Icon