تفسير سورة نوح

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة نوح من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿استغشوا﴾ غطوا غشَّاه أَي غطاه، والغشاء الغطاء ﴿مِّدْرَاراً﴾ غزيراً متتابعاً ﴿أَطْوَاراً﴾ أحوالاً مختلفة طوراً بعد طور قال الشاعر:
«والمرء يخلق طوراً بعد أطوار»... ﴿فِجَاجاً﴾ واسعات جمع فج وهو الطريق الواسعة ﴿كُبَّاراً﴾ كبيراً بالغ الغاية في الكبر ﴿دَيَّاراً﴾ أحداً يدور أو يتحرك على ظهر الأرض ﴿تَبَاراً﴾ هلاكاً ودماراً.
التفسِيْر: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ﴾ أي بعثنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام إِلى سكان جزيرة العرب قال الألوسي: واشتهر أنه عليه السلام كان يسكن أرض الكوفة وهناك أرسل ﴿أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي بأن خوف قومك وحذرهم إن لم يؤمنوا من عذاب شديد مؤلم، وهو عذاب الطوفان في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة ﴿قَالَ ياقوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي فدعاهم إلى الله وقال لهم: إني لكم منذر، موضح لحقيقة الأمر، أُنذركم وأُخوفكم عذاب الله، فأمري واضح ودعوتي ظاهرة قال المفسرون: نوح عليه السلام أول نبي أرسل، ويقال له: شيخ
426
المرسلين، لأنه أطولهم عمراً فقد مكث في قومه كما قص القرآن الكريم ﴿أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً﴾ [العنكبوت: ١٤] يدعوهم إلى الله، ومع طول هذه المدة لم يؤمن معه إلا قليل، وقد أفرد القرآن قصته في هذه السورة الكريمة التي تسمى «سورة نوح» من بدء الدعوة إِلى نهايتها، حيث أهلك الله قومه بالطوفان، وهو أحد الرسل الكبار من أولي العزم وهم خمسة «نوح، ابراهيم، موسى، عيسى، محمد» صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد شاع الكفر في زمانه وذاع، واشتهر قومه بعبادة الأوثان، واكثروا من البغي والظلم والعصيان، فبعث الله لهم نوحاً عليه اسلام وكان من خبرهم مع نبيهم ما قصه الله علينا في القرآن ﴿أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ﴾ أي فقال لهم: اعبدوا الله وحده، واتركوا محارمه، واجتنبوا مآثمه، وأطيعوني فيما أمرتكم به من طاعة الله، وترك عبادة الأوثان والأصنام ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ أي إنكم إن فعلتم ما أمرتكم به، يمحو الله عنكم ذنوبكم التي اقترفتموها، وإنما قال ﴿مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ أي بعض ذنوبكم التي حصلت قبل الإِسلام، لأن الإِيمان يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي ويمد في أعماركم إن أطعتم ربكم، إلى وقت مقدر ومقرر في علم الله تعالى، مع التمتع بالحياة السعيدة، والعيش الرغيد قال المفسرون: المراد بتأخير الأجل هو التأخير بلا عذاب، أي يمهلهم في الدنيا بدون عذاب إلى انتهاء آجالهم، وأما العمر فهو محدود لا يتقدم ولا يتأخر ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤] ولهذا قال بعده ﴿إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ﴾ أي إن عمر الإِنسان عند الله محدود، لا يزيد ولا ينقص، وإنما أضيف الأجل إلى الله سبحانه لأنه هو الذي كتبه وأثبته ﴿لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي لو كنتم تعلمون ذلك لسارعتم إلى الإِيمان ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ أي قال نوح بعد أن بذل غاية الجهد، وضاقت عليه الحيل: يا رب إِني دعوت قومي إلى الإِيمان والطاعة، في الليل والنهار، من غير فتور ولا توانٍ ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً﴾ أي فلم يزدهم دعائي لهم إلى الإِيمان إلا هرباً، وشروداً عن الحق، وإعراضاً عنه.
. ثم وصف نفورهم وصور إعراضهم أبلغ تصوير فقال ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾ أي ك لما دعوتهم إلى الإِقرار بوحدانية الله والعمل بطاعته، ليكون سبباً في مغفرة ذنوبهم قال في التسهيل: ذكر المغفرة التي هي سبب عن الإِيمان، والعمل بطاعته، ليكون سبباً في مغفرة ذنوبهم قال في التسهيل: ذكر المغفرة التي هي سبب عن الإِيمان، ليظهر قبح إعراضهم عنه، فإنهم أعرضوا عن سعادتهم ﴿جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ﴾ أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا دعوتي ﴿واستغشوا ثِيَابَهُمْ﴾ أي غطوا رؤوسهم ووجوههم بثابهم، لئلا يسمعوا كلامي أو يروني قال في البحر: والظاهر أن ذلك حقيقة، سدوا مسامعهم حتى لا يسمعوا ما دعاهم إِليه، وتغَطَّوا بثيابهم حتى لا ينظروا إليه، كراهة وبغضاً من سماع النصح ورؤية الناصح، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن المبالغة في إعراضهم عمَّا دعاهم إليه، فهم بمنزلة من سد سمعه، ومنع بصره {
427
وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا} أي واستمروا على الكفر والطغيان، واستكبروا عن الإِيماتن استكباراً عظيماً، وفيه إشارة إلى فرط عنادهم، وغلوهم في الضلال ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً﴾ أي دعوتهم علناً على رؤوس الأشهاد، مجاهراً يدعوتي لهم دون خوف أو تحفظ ﴿ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً﴾ أي أخبرتهم سراً وعلناً، خيفةً وجهراً، وسلكت معهم كل طريق في الدعوة إِليك قال المفسرون: والعطف بثُمَّ يشعر بأن الإِعلان والإِسرار الأخيرين، كانا طريقة ثالثة سلكها نوح في الدعوة، غير طريقة السر المحضة، وغير طريقة الجهر المحضة، فكان في الطريقة الثالثة يعلن لهم الدعوة مرة حيث يصلح الإِعلان، ويسرها لهم أخرى حيث يتوقع نفع الإِسرار، ثم وضح ما وعظهم به سراً وعلانية فقال ﴿فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً﴾ أم آمنوا بالله وتوبوا عن الكفر والمعاصي، فإن ربكم تواب رحيم، يغفر الذنب ويقبل التوب ﴿يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً﴾ أي ينزل المطر عليكم غزيراً متتابعاً، شديد الانسكاب ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ أي يكثر أموالكم وأولادكم ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً﴾ أي ويجعل لكم الحدائق الفسيحة، ذات الأشجار المظلمة المثمرة، ويجعل لكم الأنهار تجري خلالها.. أطمعهم نوح عليه السلام بالحصول على بركات السماء وبركات الأرض، إن هم آمنوا بالله الذي بيده مفاتح هذه الخزائن، وأتاهم من طريق القلب لتحريك العواطف، ولبيان أن ما هم في من انحباس الأمطار، وما حرموه من الرزق والذرية، إنما سببه كفرهم بالله الذي بيده وحده إرسال المطر، وإِغداق الرزق، والإِمداد بالأموال والبنين، وأنه لا ينبغي لهم أن يكفروا بهذا الإِله القادر، ويعبدوا آلهة أخرى اخترعوها، لا تضر ولا تنفع، ثم عاد فهزَّ نفوسهم هزاً، وعطفها نحو الإِيمان بأسلوب آخر من أساليب البيان فقال ﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ أي ما لكم أيها القوم لا تخافون عظمة الله وسلطانه، ولا ترهبون له جانباً! ﴿قال ابن عباس: اي ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته﴾ ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ أي وقد خلقكم في أطوار مختلفة، وأدوار متباينة، طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، إلى سائر الأحوال العجيبة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
. ثم نبههم إلى دلائل القدرة والوحدانية، منبثة في هذا الكون الفسيح فقال ﴿أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً﴾ أي ألم تشاهدوا يا معشر القوم عظمة الله وقدرته، وتنظروا نظر اعتبار، وتفكر وتدبر، كيف أن الله العظيم الجليل خلق سبع سموات سماء فوق سماء، متطابقة بعضها فوق بعض، وهي في غاية الإِبداع والإِتقان!! ﴿وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً﴾ أي وجعل القمر في السماء الدنيا، منوراً لوجه الأرض في ظلمة الليل قال الإِمام الفخر: القرم في السماء الدنيا وليس في السموات بأسرها، وهذا كما يقال: السلطان في العراق ليس المراد ان ذاته حاصلة في كل أنحائها، بل إن ذاته في حيز من جملة أنحاء العراق، فكذا ههنا وقال في البحر: والقمر في السماء الدنيا، وصح كون السموات ظرفاً للقمر لأنه لا يلزممن الظرف أن يملأ المظروف، تقول
428
زيد في المدينة وهو في جزء منها ﴿وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً﴾ أي وجعل الشمس مصباحاً مضيئاً يستضيء به أهل الدنيا كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم، ولما كان نور الشمس أشدّ، وأتم، وأكمل في الانتفاع من نور القمر، عبر عن الشمس بالسراج لأنه يضيء بنفسه، وعبر عن القمر بالنور لأنه يستمد نوره من غيره، ويؤيده ما تقرر في علم الفلك من أن نور الشمس ذاتي فيها، ونور القمر عرضي مكتسب من نورها، فسبحان من أحاط بكل شيء علماً ﴿والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ بعد أن ذكر دليل الآفاق، ذكر هنا دليل الأنفس، وذلك لأن في ذكر هذه الأمور، دلالة واضحة على عظمة الله، وقدرته وباهر مصنوعاته والمعنى خلقكم وأنشأكم من الأرض كما يخرج النبات، وسلَّكم من تراب الأرض كما يسل النبات منها قال المفسرون: لما كان إخراجهم وإِنشاؤهم إنما يتم بتناولهم عناصر الغذاء الحيوانية والنباتية المستمدة من الأرض، كانوا من هذه الجهة متشابهين للنباتات التي تنمو بامتصاص غذائها من الأرض، فلذا سمى خلقهم وإنشاءهم إنباتاً، أو يكون ذلك إشارة إلى خلق آدم حيث خلق من تراب الأرض، ثم جاءت منه ذريته، فصح نسبتهم إلى أنهم أنبتوا من الأرض ﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً﴾ أي يرجعكم إلى الأرض بعد موتكم فتدفنون فيها، ثم يخرجكم منها يوم البعث والحشر للحساب والجزاء، وأكده بالمصدر ﴿إِخْرَاجاً﴾ لبيان أن ذلك واقع لا محالة، وهذه الآية كقوله تعالى
﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى﴾ [طه: ٥٥] ﴿والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً﴾ أي جعلها فسيحة ممتدة ممهدة لكم، تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه قال في التسهيل: شبه الأرض بالبساط في امتدادها واستقرار الناس عليها، وأخذ بعضهم من الآية أنها غير كروية، وفي ذلك نظر وقال الألوسي: وليس الآية دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كروية، لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحاً، ثم إن اعتقاد الكرية أو عدمها ليس بلازم في الشريعة، لكن كريتها كالأمر اليقيني، ومعنى جعلها بساطاً أي تتقلبون عليها كالبساط ﴿لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً﴾ أي لتسلكوا في الأرض طرقاً واسعة في أسفاركم، وتنقُّلكم في أرجائها؟؟ ولما أصروا على العصيان، وقابلوه بأقبح الأقوال والأفعال، حكى عنهم ما قصه القرآن ﴿قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾ أي إنهم بالغوا في تكذيبي وعصيان أمري ﴿واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً﴾ أي واتَّبعوا اغنياءهم ورؤساءهم، الذين أبطرتهم الأموال والأولاد،
429
فهلكوا وخسروا سعادة الدارين، فصاروا أسوة لهم في الخسار ﴿وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً﴾ أي ومكر بهم الرؤساء مكراً عظيماً متناهياً في الكبر قال الألوسي: ﴿وكُبَّاراً﴾ مبالغة في الكبر أي كبيراً في الغاية، وذلك احتيالهم في الدين، وصدهم الناس عنه، وإغراؤهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام ﴿وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ أي لاتتركوا عبادة الأوثان والأصنام، وتعبدوا رب نوح ﴿وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً﴾ أي ولا تتركوا على جه الخصوص هذه الأصنام الخمسة وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً قال الصاوي: وهذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمهم عندهم، ولذا خصوها بالذكر، وهذا من شدة كفرهم، وفرط تعنتهم في المكر والاحتيال، فقد كانوا يلبسون ثوب المتنصح المخلص، ويسلكون في تثبيت الضعفاء على عبادة الآباء شتى الأساليب في المكر والخداع ﴿وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً﴾ أي وقد أضل كبراؤهم خلقاً وناساً كثيرين، بما زينوا لهم من طرق الغواية والضلال، ثم دعا عليهم بالضلال فقال ﴿وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً﴾ أي ولا تزدهم يا رب على طغيانهم وعدوانهم، إلا ضلالاً فوق ضلالهم قال المفسرون: دعا عليهم لما يئس من إيمانهم بإِخبار الله له بقوله ﴿لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦] فاستجاب الله دعاءه وأغرقهم، ولهذا قال تعالى ﴿مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ أي من أجل ذنوبهم وإجرامهم، وإصرارهم على الكفر والطغيان، أُغرقوا بالطوفان وأدخلوا النيران قال في التسهيل: وهاذ من كلام الله تعالى إخباراً عن أمرهم، و ﴿ما﴾ في ﴿مما﴾ زائدة للتأكيد، وإنما قدم هذا المجرور للتأكيد أيضاً، ليبين أن إغراقهم وإدخالهم النار إنما كان بسبب خطاياهم وهي الكفر وسائر المعاصي ﴿فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً﴾ أي لم يجدوا من ينصرهم أو يدفع عنهم عذاب الله قال أبو السعود: وفيه تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله تعالى، وأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكم بهم ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ أي لا تترك أحداً على وجه الأرض من الكافرين قال في التسهيل: و ﴿دَيَّاراً﴾ من الأسماء المستعملة في النفي العام يقال: ما في الدار ديار أي ما فيها أحد.
. ثم علل ذلك بقوله ﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ﴾ أي إنك إن أبقيت منهم أحداً، أضلوا عبادك عن طريق الهدى ﴿وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً﴾ أي ولا يأتي من أصلابهم إلا كل فاجر وكافر قال الإِمام الفخر: فإِن قيل: كيف عرف نوح ذلك؟ قلنا بالاستقراء، فإِنه لبث فيهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً، فعرف طباعهم وجربهم، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول: يا بني إحذر فإِنه كذاب، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، فلذلك قال ﴿وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً﴾.. ولما دعا على الكفار أعقبه بالدعاء للمؤمنين فقال ﴿رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات﴾ بدأ بنفسه ثم بأبويه، ثم عمَّم لجميع المؤمنين والمؤمنات، ليكون ذلك أبلغ وأجمع ﴿وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً﴾ أي ولا تزد يا رب من جحد بآياتك وكذب رسلك، إلا هلاكاً وخساراً في الدنيا والآخرة.
430
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين ﴿أَعْلَنْتُ.. وَأَسْرَرْتُ﴾ وبين ﴿جِهَاراً.. وإِسْرَاراً﴾ وبين ﴿لَيْلاً.. وَنَهَاراً﴾ وبين ﴿يُعِيدُكُمْ.. وَيُخْرِجُكُمْ﴾.
٢ - المجاز المرسل ﴿جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ﴾ المراد رؤوس الأصابع فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء.
٣ - الاستعارة التبعية ﴿والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ شبه إِنشاءهم وخلقهم في أدوار بالنبات الذي تخرجه الأرض، واشتق من لفظ البنات أنبتكم على طريق الاستعارة التعبية.
٤ - ذكر المصدر للتأكيد مثل ﴿وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً﴾ و ﴿أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً﴾ و ﴿استكبروا استكبارا﴾ ويسمى هذا في علم البديع بالإِطناب.
٥ - ذكر الخاص بعد العام ﴿وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً﴾ الآية وعكسه ذكر العام بعد الخاص ﴿رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات﴾ وكلاهما من باب الإِطناب، وهو من المحسنات البديعية.
٦ - السجع المرصع مراعاة لرؤوس الآيات مثل ﴿مِّدْرَاراً، أَنْهَاراً، وَقَاراً، أَطْوَاراً﴾ الخ.
فَائِدَة: استدل العلماء على عذاب القبر بقوله تعالى ﴿مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ قالوا: المراد بها نار القبر وعذابه، لأنه تعالى عطف بالفاء، والفاء تفيد الترتيب مع التعقيب، ونار الآخرة لم يذوقوها بعد، فدل على أن المراد عذاب القبر، وهو استدلال لطيف.
431
Icon