ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (١- ٨) [سورة فصلت (٤١) : الآيات ١ الى ٨]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤)وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
التفسير:
«حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «حم» مبتدأ، وخبره «تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».. أي أن «حم» هذه، تنزيل من الرحمن الرحيم، أي هى من كلمات الله وآياته.. وفى هذا ردّ على
وهذا الزعم، باطل من وجوه:
فأولا: أنه إن أخذ به، لا يحقق الغاية التي قيل إنه جاء من أجلها، وهو ضبط عدد آيات السورة.. وذلك أنه ليس كل سور القرآن المكي بدئت هذا البدء بالحروف المقطعة، حتى يمكن حصر كل سورة فى العدد الذي تدل عليه هذه الحروف القائمة على رأس كل سورة.. وعلى هذا يمكن إذا سقطت آية أو آيات من السورة التي ضبط عددها أن يستجلب لها ما سقط منها من سورة أخرى من السور التي لم يضبط عددها.. وإذن يكون هذا التدبير، غير محقق للغرض الذي قصد منه..
وثانيا: لو صحّ هذا الزعم بأن تلك الحروف كانت لضبط عدد آيات السور فى القرآن المكي- لكان من تمام التدبير أن يشمل ذلك القرآن المكي كله، بل كان أولى به، تلك السور التي كانت أول القرآن نزولا، وهذا غير وارد فى القرآن..
وثالثا: إذا صح هذا الزعم أيضا، بالنسبة للقرآن المكي الذي قيل
قوله تعالى:
«كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»..
هو بدل من قوله تعالى: «تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بدل كل من كل.. أي هذا الذي نزل من الرحمن الرحيم، هو كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون..
وفى قوله تعالى: «مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» إشارة إلى أن منزل هذا القرآن هو الله سبحانه وتعالى، تجلى به سبحانه على العباد، رحمة لهم، وإحسانا إليهم..
وفى قوله تعالى: «كتاب» - إشارة إلى أن هذه الرحمة المنزلة من عند الله كتاب، يقرأ، ويدرس، وتتلقّى منه الحكمة والمعرفة، فهو من حظ العقول والقلوب والأرواح، وليس متاعا كالأنعام ونحوها، مما هو من حظ الأبدان، والجوارح، والبطون!.
وفى قوله تعالى: «فُصِّلَتْ آياتُهُ» - إشارة ثالثة، إلى أن هذا الكتاب ليس ذا موضوع واحد، شأن الكتب المعروفة، فهو ليس كتاب فلك، أو حساب، أو قصص، أو تاريخ، أو نحو هذا مما هو موضوع كل كتاب.. وإنما هو كتاب الوجود كله، يحمل بين دفتيه كل علم، وكل فن، حيث هو جامعة العلوم والمعارف كلها، لمن آتاه الله عقلا مبصرا، وبصيرة مشرقة، وقلبا سليما، وروحا صافية.. ففى هذا الكتاب قطوف دانية من
ويقول الرسول الكريم: «القرآن مأدبة الله.. فتعلموا من مأدبته»..
إنه مأدبة سماوية، لا ينفد عطاؤها، ولا ينقص ما عليها، مهما كثرت الأيدى المتناولة منها..
وقوله تعالى: «قُرْآناً عَرَبِيًّا» - حال من الكتاب، وهى حال واصفة لهذا الكتاب، وهو أنه قرآن عربى، أي يقرأ بلسان عربى..
وفى هذا امتنان من الله سبحانه وتعالى على الأمة العربية، وتنويه بها، ورحمة من الله اختصّت بها، إذ كانت هذه المأدبة ممدودة للعرب فى ساحتهم، وكانوا هم أهلها، والداعين إليها..
وفى قوله تعالى: «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» - حثّ للأمة العربية، أصحاب هذه المأدبة، أن يأخذوا نصيبهم الأوفى منها، وإنه لا سبيل إلى الإفادة من خيرها الممدود، إلا بالعلم، فمن كان على علم ومعرفة، كان حظه من هذا القرآن أوفى وأعظم.. ومن حرم العلم والمعرفة، فلا نصيب له منه..
قوله تعالى:
«بَشِيراً وَنَذِيراً»..
حال أخرى، من هذا الكتاب، تكشف عن موضوعه، بعد أن كشفت الحال الأولى: «قُرْآناً عَرَبِيًّا» عن صفته.. فهو بشير، ونذير، بشير لأهل الإيمان والتقوى، بالفوز برضوان الله، والخلود فى جنات النعيم،
وقوله تعالى:
«فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ»..
بيان لما تكشّفت عنه الحال من أمر هؤلاء الذين أنزل الله سبحانه عليهم هذه الرحمة، ومدّ مائدتها بين أيديهم.. «فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ» عنها، وأبى أن يمد يده إليها.. «فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» إذ قد أصموا آذانهم عن دعوة الداعي، فلم يلتفتوا إلى ما يدعون إليه من خير، وما يمدّ لهم من إحسان..
قوله تعالى:
«وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ».
الأكنّة: جمع كن، وهو ما يستكنّ فيه ويستتر عن الأعين، والوقر: الصمم.
ومن ضلال هؤلاء الضالين المعرضين عن دعوة الخير التي يدعوهم هذا القرآن إليها، على لسان النبي الكريم- أنهم أحكموا إغلاق الطرق والنوافذ، بينهم وبين هذا الرسول، فلم يدعوا منفذا تنفذ منه كلماته إليهم..
ولقد أحكموا إغلاق قلوبهم حتى إذا سمعت آذانهم شيئا من هذا القرآن- عرضا من غير قصد- لم تنفذ إلى قلوبهم، التي هى موطن الوعى
وقد يبدو- فى ظاهر الأمر- أن النظم الذي جاء عليه القرآن فى ترتيب هذه المغالق- أنه قد جاء بها على غير الترتيب الطبيعي، الذي يألفه الناس، فى التدبير لما يحرصون عليه، ويعملون على صيانته وحراسته، من الآفات، والعوارض التي تعرض له.. حيث يتجه الإنسان أول ما يتجه إلى إقامة سور حول بيته، ثم يتخير فى داخل هذا السور المكان الذي يقيم فيه البيت، ثم يتخير من هذا البيت المكان الأمين الذي يحفظ فيه الغالي الثمين، مما يحرص عليه من مال ومتاع..! هكذا يبدو وجه التدبير فى مثل هذه الحال..
ولكن القرآن الكريم، بدأ- كما نرى- من حيث انتهى التدبير البشرى.. فتحدث عن القوم بأنهم أحكموا إغلاق ما بداخلهم، قبل أن يحكموا إغلاق المنافذ الخارجية التي يمكن الوصول منها إلى هذا الذي فى الداخل:
«وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» فما سر هذا؟
السر فى هذا- والله أعلم- هو أن القوم لم يكونوا مع القرآن الكريم فى سعة من أمرهم، وفى فسحة من الوقت للاختيار، والتدبير..
فلقد كان لهم مع القرآن الكريم لقاء من قبل أن يحكموا أمرهم معه، ويلقوه بالتدبير الذي يرونه.. وكانت الكلمات التي سمعوها من القرآن الكريم ذات قوة نفاذة هزت قلوبهم من أقطارها، وكادت تستولى
هذا أول ما ينبغى أن يكون من القوم، فى دفع هذا الخطر الذي دهمهم.. وهذا هو أول ما يكون ممن يدهمه خطر يتهدد وجوده أو يتهدد الشيء الذي يحرص عليه.. إن همه الأول هو الدفاع عن هذا الذي يتهدده الخطر منه، سواء أكانت حياته، أو كان متاعه! حتى إذا استشعر النجاة من هذا الخطر، كان له بعد ذلك أن ينظر فى المنافذ الأخرى التي يهبّ عليه الخطر منها، فيبدأ بالقريب منها أولا، ثم بالذي يليه، وهكذا..
ومن هنا كان نظرهم بعد هذا إلى أقرب شىء يجىء منه الخطر إلى قلوبهم، وهى آذانهم، فأحكموا إغلاقها، ووضعوا عليها سدّا يحول بين الكلمات، وبين النفاذ منها إلى القلوب: «وَفِي آذانِنا وَقْرٌ».. ثم كان التدبير بعد هذا، أن يبعدوا بأنفسهم- وما معهم من آذان وقلوب- عن مواطن الخطر جملة.. «وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ».. فذلك هو الذي يقطع كل صلة بينهم وبين موطن الخطر..!
«وبيننا وبينك حجاب» لما أدّى هذا المعنى، ولكان مفهوم الحجاب هنا أنه مجرد ستر بينهم وبين النبي!.
واقرأ الآية مرة أخرى، وانظر إليها نظرة مجدّدة، على ضوء هذا الفهم الذي فهمناها عليه.. وإنك لتجد لتلك الآية فى هذا الترتيب إعجازا من إعجاز القرآن الكريم، وآية من الآيات التي تشهد له، بأنه من تنزيل من حكيم حميد..
«وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ.. وَفِي آذانِنا وَقْرٌ.. وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» ! فسبحان من هذا كلامه، وتلك آياته!.
وقوله تعالى: «فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ»..
لقد أمن القوم، أو هكذا خيّل إليهم أنهم قد أمنوا.. إذ قد فرّوا من وجه هذا النهار، ودفنوا رءوسهم فى الرمال!.
«فاعمل» ما تشاء، واقرأ من قرآنك ما تقرأ.. فلن تجد لما تقرأ أذنا تسمع، أو قلبا يقع فيه شىء مما تقرأ «إننا عاملون».. ولقد عملنا ما ترى، من إقامة هذه الحواجز بيننا وبينك.. فافعل ما شئت!.
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ».
وفى قوله تعالى: «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» - إشارة إلى خطأ ما يظنه المشركون فى النبي، وأنه إنما يستعلى عليهم بما فى يديه من هدى، وما يتلوه عليهم من آيات ربه.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- بشر مثلهم قبل كل شىء، وأن هذا الذي آتاه الله من فضله لن يخرجه عن بشريته.. إن الإنسان هو إنسان قبل كل شىء، وما يؤتاه من الله سبحانه، من بسطة فى فى الجسم، أو سعة فى الرزق، أو روعة فى الجمال والحسن، أو نفاذ فى البصيرة والإدراك- لن يخرجه ذلك عن أن يكون إنسانا.. وفى هذا عزاء للناس الذين لم يكن لهم حظ موفور، من هذا الذي مع غيرهم، من ماديات الحياة ومعنوياتها، إذ أنهم- لو عقلوا- لعلموا أنهم شركاء فى هذا الذي يرون أنفسهم أنهم حرموا منه وهو البشرية.. إنه ملك الإنسانية كلها، يضاف إلى رصيدها، مما هو مرغوب فيه عندها.. كما أن ما فى بعض الناس من نقص وعيب، هو مما يحسب على الإنسانية كلها، ومما تخفّ به موازينها..
وإذن، فإن الذي ينبغى أن يأخذ به الإنسان نفسه، ليكون عضوا فى هذه الشركة العامة، هو أن يدخل فيها برصيد طيب، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، حتى يأخذ بمقدار ما يعطى.. وإلا كان معتديا ظالما..
والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- هو بشر مثلهم، وقد أكرمه الله بهذا الرزق السماوي العظيم، الذي بين يديه من كتاب الله، والذي يدعو إليه الناس جميعا، ليشاركوه فيه، وليأخذوا ما استطاعوا حمله منه.. وإن الشقي من حرم نفسه من هذا الغذاء الذي هو حياة الأرواح، وغذاء العقول والقلوب.
وقوله تعالى: «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» هو تعقيب على هذه الحقيقة التي جاءت بها رسالة الرسول، ونزلت بها آيات الله، وحيا إليه من ربه.. «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ» أي اتجهوا إلى إلهكم الواحد دون أن تلتفتوا إلى وراء، أو يمين، أو شمال، نحو ما تعبدون من آلهة.. بل اجعلوا وجوهكم إلى الله وحده، واسعوا إليه فى استقامة وجدّ «واستغفروه» لما كان منكم من ضلال عنه، وشرك به.
وقوله تعالى: «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» وعيد للمشركين الذين يمسكون بشركهم، ولا يتحولون عنه إلى الإيمان بالله وحده.. وهو معطوف على محذوف، تقديره: فإن استقمتم واستغفرتم ربكم، غفر لكم ونجاكم من عذابه، والويل للمشركين الذين لا يتحولون عن شركهم.
قوله تعالى:
«الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» هو وصف لهؤلاء المشركين، الذين تهددهم الله سبحانه وتعالى بالويل، وسوء المصير..
وفى اختيار عدم إتيان المشركين الزكاة، وجعلها الصفة البارزة فيهم- ما يسأل عنه، وهو: كيف تكون الزكاة المعلم الأول للإيمان بالله، حتى
والجواب- والله أعلم- من وجوه:
فأولا: ليس المراد بالزكاة، هو الزكاة المفروضة، وإنما المراد بها الإنفاق فى سبيل الله، وفى وجوه الخير ابتغاء وجه الله.. فكل ما ينفق فى سبيل الله وابتغاء وجه الله، هو زكاة، وطهرة للمنفق..
وثانيا: أن الزكاة بهذا المعنى لم تجىء صفة أصلية، وإنما جاءت حالا من أحوال الذين لا يؤمنون بالآخرة.. «الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ».. فهذه الحال- وهى عدم إيمان المشركين بالآخرة- هى التي جعلتهم لا يؤتون الزكاة.. فلو أنهم كانوا يؤمنون بالآخرة، لأعدوا لها عدتها ولسخت أيديهم بالإنفاق فى وجوه الخير، ليكون لهم من ذلك زادا ما يتزودون به لهذا اليوم..
وثالثا: أن الإتيان للزكاة، يشمل الإتيان لكل طيب، ولكل ما يتطهر به الإنسان، ويزكو، ولا طهر ولا زكاة، مع الشرك.. فيكون من المعاني التي يشير إليها قوله تعالى: «الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» أي الذين لا يؤمنون بالله..
ويكون «الإتيان» هنا بمعنى التسليم، وإعطاء الولاء لله ولرسول الله.. ويروى عن ابن عباس فى هذا: «أنهم لا يقولون: لا إله إلا الله».
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ»
الآيات: (٩- ١٢) [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٩ الى ١٢]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ.. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ».
بعد أن تهددت الآيات السابقة المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآية»..
تهديد لهؤلاء المشركين، الذين يكفرون بالله، ويعبدون هذى الدّمى الجاثمة على التراب! والاستفهام إنكارى.. أي ما كان لكم أن تكفروا يمن هذه قدرته، وتلك آثاره..
وفى قوله تعالى: «خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» قلنا فى أكثر من موضع فى تفسيرنا للآيات التي تشير إلى زمن محدّد لما خلق الله من مخلوقات، مثل قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» (٥٤: الأعراف) - قلنا إن هذا الزّمن إنما هو منظور فيه إلى طبيعة المخلوق لا إلى قدرة الخالق.. وإلى أن هذا الزمن، هو الذي قدّره الخالق سبحانه وتعالى لينضج فيه المخلوق، ويستوفى فيه تمام خلقه، كالجنين فى الرحم، حيث يتم تكوينه فى تسعة أشهر، فى عالم الإنسان، وفى زمن أقل أو أكثر فى العوالم الأخرى من الأحياء.. فالزمن جزء من وجود كلّ موجود، وفى تطوره من حال إلى حال.. سواء فى هذا، الحيوان، والنبات، والجماد..
فقوله تعالى: «خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ.. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها
.. إشارة إلى الزمن الذي نضجت فيه الأرض، وتمّ تكوينها، وتهيأت لاستقبال الحياة فيها..
والأيام هنا هى أيام الله.. أي الأيام التي يحويها فلك هذا الوجود، فكل فلك له زمن معلوم، تتم فيه دورته، وتلك الدورة هى يوم، كيوم عالمنا الأرضى.. ففى يومين من أيام الله.. ولا يعلم قدر هذا اليوم إلا الله- ثمّ تكوين جرم الأرض، فكانت أشبه بالعلقة فى رحم الأم..
ثم بعد ذلك بدأت تظهر عليها الجبال، وتجرى فيها الأنهار، وتتحدد عليها كميات الهواء، والحرارة، إلى أن أصبحت صالحة لأن تلد الكائنات الحيّة، وأن تمدّها بالغذاء الذي يحفظ عليها حياتها.. وذلك فى مدى يومين آخرين من أيام الله.. فكانت حضانة الأرض فى كيان الكون أربعة أيام، من أيام الله، قبل أن تتهيأ لاستقبال الحياة، وظهور الكائنات الحية على ظهرها..
وقوله تعالى: «وَبارَكَ فِيها» إشارة إلى توالد الأحياء على الأرض، وتكاثرها بما توالد فيها من عوالم النبات والحيوان والإنسان».. فهذا من بركة الله سبحانه وتعالى على هذه الأرض! وقوله تعالى: «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها».. أي وقدّر على هذه الأرض الأقوات التي تضمن الحياة لهذه المواليد المتكاثرة فيها.. وذلك بما أودع فيها من هواء، وماء، وطعام..
وقوله تعالى: «سَواءً لِلسَّائِلِينَ» هو حال من الأقوات، أي أن هذه الأقوات مقدّرة بقدر معلوم، وموزونة بميزان دقيق.. فالهواء مثلا، لو زادت نسبة الأوكسجين فيه عن قدر معلوم لاحترق الأحياء، ولو نقصت تلك النسبة عن قدر معلوم كذلك لاختنق الناس والحيوان والنبات.. وهكذا كلّ ما فى هذه
وفى التعبير بالسائلين، إشارة إلى أن هذه المخلوقات- ومنها الإنسان- إنما تقف جميعها سائلة من فضل الله وإحسانه، الذي بثّه فى هذه الأرض..
هذا، وقد رأى بعض المفسرين أن مدة خلق الأرض هى ستة أيام، أخذا بما ذكر فى هذه الآية، من اليومين، والأربعة الأيام.. ولما كانت مدة خلق السموات يومين، فتكون مدة خلق السموات والأرض، هى ثمانية أيام.. والقرآن الكريم صريح الدلالة فى أن خلق السموات والأرض كان فى ستة أيام، وذلك بما نطق به فى أكثر من موضع منه..
ولا يمكن أن يقع هذا الاختلاف فى كتاب الله.. «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً»..
والذي ينظر فى قوله تعالى: «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» - الذي ينظر فى هاتين الآيتين، يرى أن مدة خلق الأرض هى أربعة الأيام، وهى التي ذكرت فى الآية الثانية، ويدخل فيهما اليومان اللذان ذكرا فى الآية الأولى.. ولهذا عطف قوله تعالى: «وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ» على قوله تعالى: «خَلَقَ الْأَرْضَ».. أي خلقها وجعل فيها رواسى من فوقها
فخلق الأرض، كان له زمن تمّ فيه هذا الخلق.. ثم كان لتلك الإضافات التي دخلت على الأرض بعد خلقها، زمن آخر، ومجموع هذا وذاك هو أربعة أيام من أيام الله.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» (١٥: الأحقاف) وقوله فى آية أخرى: «وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» (١٤: لقمان).
قوله تعالى:
«ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ».
استوى إلى السماء، أي نظر إلى السماء، نظر تمكن واستعلاء..
وهى دخان: أي بخار.
أي أنه بعد أن تمّ خلق الأرض، وتهيأت لاستقبال الحياة، بعد هذا نظر سبحانه وتعالى إلى السماء، نظرة تمكن واستعلاء، وكانت دخانا، أي بخارا غير متماسك، «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» - أي دعا الأرض والسماء أن يأتياه، أي يستجيبا له، ويخضعا لمشيئته، ويستقيما على ما أراد منهما، إما طائعتين أو مكروهتين أي أن تأتيا إما مستسلمتين بلا إرادة، أو مكرهتين، فتكون إرادتهما تبعا لإرادة الله سبحانه وتعالى: «قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» أي مستسلمين، دون أن نخرج على النظام الذي أقمتنا عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
أما الإنسان، فهو وحده الذي حمل الأمانة، وهو الذي يأتى ما أراد الله منه سواء أكان طائعا أو عاصيا، لأن إرادة الله تعلو إرادته، وكل ما يفعله الإنسان وإن كان بإرادته، هو من إرادة الله له، ومشيئته فيه..
فهو مكره فى صورة مريد!.
قوله تعالى:
«فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ».
أي فدبّر أمرهن وقضى فيهن بما شاءت إرادته، فكنّ سبع سموات..
والضمير فى «قضاهن» هو للسبع السموات، وقد قدم الضمير هنا للدلالة على أن التدبير والقضاء قد وقع عليهن بعد أن خلقن، وكنّ سموات سبعا.. فالضمير يعود إلى وجود قائم، وإن لم يجر له ذكر، وذلك أدل على وجوده وتحققه.. وسبع سموات بدل من هذا الضمير، كما تقول:
أكرمته عليا، وأكلته عنبا..
وقوله تعالى: «وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها» أي أوحى، وأنزل فى كل سماء ما أمرها به، وما قدره لها من نظام تجرى عليه.
والمصابيح، هى الشمس، والقمر، والنجوم، التي تظهر ليلا، فتبدو وكأنها معالم زينة فى هذا السقف المطلّ على العالم الأرضى..
وقوله تعالى: «وَحِفْظاً» معطوف على محذوف، هو مفعول لأجله، وتقديره «زينة» أي زينا السماء الدنيا بمصابيح للزينة والحفظ، أو زينة، وحفظا..
والحفظ، هو ما تقوم به النجوم من حراسة السماء من الشياطين، إذا أرادوا التسمع لما فى الملأ الأعلى، كما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» (٥: الملك) وقوله تعالى: «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» أي هذا النظام الذي قام عليه الوجود فى أرضه وسماواته، هو من تدبير «العزيز»، أي ذى العزة والقوة «العليم» الذي يحيط علمه بكل شىء.. فلا يقضى بأمر إلا عن علم كاشف لكل أمر..
الآيات: (١٣- ١٨) [سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٣ الى ١٨]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
قوله تعالى:
«فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ».
أي فإن أعرض هؤلاء المشركون، بعد أن عرضت عليهم هذه الآيات، ونصبت لهم تلك المعالم الدالة على قدرة الله، وعلى تفرده- سبحانه- بالملك والسلطان- إن أعرضوا فقل لهم منذرا: إنى أتوعدكم بعذاب الله، وأن يحلّ بكم ما حل بعاد وثمود من قبلكم، وقد رماهم الله بالصواعق فأهلكوا، فلم تبق منهم باقية.
روى أن قريشا- وقد ضاقت بالنبي، وبدعوته- جاءت إلى النبي تعده وتمنّيه، وتعرض عليه ما قدّرت أنه يطلبه من هذه الدعوة القائم عليها، من مال وسلطان، فانتدبت لذلك عتبة بن ربيعة، فجاء عتبة إلى النبي، يقول له: إنك قد أحدثت فى قومك ما ترى من فرقة وشقاق، فإن كنت تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا ما تشاء حتى تكون أكثر
فقرأ عليه النبي- صلوات الله وسلامه عليه-: «حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»... حتى إذا بلغ النبي قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» فزع عتبة واضطرب، وقام فوضع يده على فم الرسول الكريم، خوفا من أن يقع هذا النذير به وبقومه..!
إن القوم كانوا يعرفون صدق النبي، ولكنهم كانوا يكابرون ويعاندون، ويأبى عليهم كبرهم وعنادهم أن يذعنوا للحق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (٣٣: الأنعام).
قوله تعالى:
«إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ».
«إذ» ظرف، هو قيد للوقت الذي وقعت فيه الواقعة بعاد وثمود..
فالصواعق التي رموا بها إنما كانت بعد أن جاءتهم رسلهم بالبينات، فكذبوهم، وأعرضوا عنهم..
وقوله تعالى: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» أي أن رسلهم التقوا بهم من كل وجه بهذه الدعوة، يعرضونها عليهم، ويقيمون لهم الحجج عليها، وهى ألا يعبدوا إلا الله..
وقوله تعالى: «قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ»..
هو بيان لما استقبل به القوم دعوة الرسل، وهو أنهم ردوهم، وكذبوهم، وقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا، تريدون أن تتفضلوا علينا، ولو شاء ربنا أن يبعث رسلا لبعث ملائكة من عنده، فهم أولى بهذا الأمر منكم، وهم أهل لأن نقبل منهم، وتصدق أنهم رسل من عند الله، وإذن فنحن بما أرسلتم به كافرون.. لا نقبل منكم ما جئتم به، ولا نصدقه..
قوله تعالى:
«فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ»..
هو بيان كاشف لما كان عليه القوم من ضلال، حتى عمّيت عليهم السبل إلى الله، واستبد بهم منطق سفيه..
فهؤلاء عاد.. استكبروا فى الأرض، وتطاولوا على العباد، بغير الحق، إذ لم يكونوا أهلا لما رأوا فى أنفسهم من هذا الرأى الفاسد، وهم
إنها القوة الجسدية وحدها، هى التي يملكونها.. فماذا عندهم من تلك القوة؟
أو لم يروا أنهم مخلوقون من هذا التراب؟ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، إن كانوا لا يرون فى مخلوقات الله، من هو أشد منهم قوة؟ إنهم لو نظروا لوجدوا أن قوتهم تلك لا وزن لها بين تلك القوى الهائلة التي يرونها فى مخلوقات الله.. فكيف بقوة الله سبحانه وتعالى؟
وفى قوله تعالى: «وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» هو معطوف على قوله تعالى: «وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً».. ويصح أن يكون معطوفا على محذوف هو جواب لهذا الاستفهام الإنكارى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً» ؟ أي لم يروا هذا ولم ينظروا فيه «وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ»..
قوله تعالى:
«فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ».
هذا مصير عاد، وتلك عاقبة تكذيبهم لرسلهم وكفرهم بآيات الله» لقد أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم ريحا صرصرا، أي شديدة عاتبة، ذات صرير وزئير.. «فى أيام نحسات» أي فى أيام طلعت عليهم بالشؤم، والبلاء، على حين طلعت على غيرهم بالعافية والخير.. وذلك «لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» حين يعصف بهم هذا البلاء، وتقهرهم الريح، التي كانت تهب عليهم نسيما عليلا، وتصفعهم هذه الصفعة
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر:
«وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (٥- ٨: الحاقة)..
«وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى» أي والعذاب الذي ينتظرهم فى الآخرة أشد خزيا لهم، وأوقع نكاية بهم من هذا العذاب الدنيوي.. إن هذا العذاب الدنيوي ما هو إلا جرعة يتجرعونها قبل أن يعبوا عبّا من عذاب يوم القيامة «وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» بقوتهم تلك التي طغووا بها، ولا بأية قوة أخرى يستنصرون بها..
«وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»..
وهذه ثمود.. هداهم الله، أي دعاهم إلى الهدى، ونصب لهم معالمه بما بعث فيهم من رسول كريم، يحمل بين يديه أقباس الهدى والنور، فأغمضوا أعينهم، واستحبوا العمى على الهدى، ومضوا فى ظلمات يتخبطون..
«فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» أي رماهم الله بصاعقة من عذاب، أذلّهم بها، وجعلهم عبرة ومثلا للظالمين المكذبين، جزاء ما كسبوا من سيئات، وما لجوا فيه من ضلال..
قوله تعالى:
«وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ».
الآيات: (١٩- ٢٤) [سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ».
الواو للاستئناف، وانتقال من حال إلى حال.. فالحال الماضية هى حال عاد وثمود.. وهذه حال أعداء الله جميعا فى الآخرة..
وفى وصفهم بالأعداء تهديد لهم ووعيد من الله سبحانه الذي يقف منه هؤلاء موقف الأعداء المحاربين.. فليأذنوا بحرب من الله ورسوله، وسيرون ما يطلع عليهم من هذه الحرب، من خزى وهوان، وما ينتهى إليه أمرهم من هلاك ودمار، ثم من عذاب أليم فى جهنم خالدين فيها..
فقوله تعالى: «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ»..
عرض لما يلقى أعداء الله من عذاب الله يوم البعث، يوم يحشرون إلى النار حشرا، ويساقون إليها سوق الأنعام «فَهُمْ يُوزَعُونَ» أي يزجرون، فلا يشرد منهم شارد إلا زجر زجرا عنيفا، ليأخذ مكانه بين هذا القطيع المتدافع، الذي يركب بعضه بعضا..
قوله تعالى:
«حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ».
«حتى» غاية إلى ما يحشر إليه أعداء الله، وهى النار.. أي أنهم يساقون هذا السوق العنيف إلى النار، حتى إذا ما جاءوها، وبلغوا مشارفها، نصبت لهم موازين الحساب، وعرضت عليهم أعمالهم فى كتاب يلقاه كل واحد منهم منشورا.. ثم قام من كيان كل منهم شهود يشهدون عليه بما كان منه من منكر وضلال.. وكلّ شىء فيهم ينطق شاهدا عليهم إلا ألسنتهم التي لم تنطق فى دنياهم غير الكفر والشرك.. فهذه الألسنة تخرس عن أن تقول شيئا، كما يقول تعالى «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (٦٥. يس).
وفى قوله تعالى: «شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ».. بيان لشهود آخرين، غير الأيدى والأرجل، يقومون من كيان الإنسان نفسه، ليؤدوا شهادة الحق عليه.. فهناك السّمع، وهو يشهد بما سمع من آيات الله، فلم يجد لها عند صاحبه مجيبا، وما سمع من منكر القول وضلال الحديث، فوجد السامع المستجيب! وهناك البصر.. الذي رأى ما رأى من آيات الله الكونية، فلم يجد عند صاحبه الوعاء السليم الذي يحفظ فيه ما رأى، بل إنه كان يرى ما يرى، فيلقى بما رأى فى إناء مخروق لا يمسك شيئا، ولا يحتفظ بشىء.. على حين كان هذا البصر إذا علق بشىء من الباطل، وجد من صاحبه المشاعر التي تجسد هذا الباطل، وتقيمه تمثالا يعبده من دون الله! ثم هناك «الجلد» وهو هذا الثوب الذي يكسو الإنسان، ويحوى كيانه كله، وهو موضع الإحساس فيه، ويمثل حاسة اللمس، إلى جوانب الحواس الأخرى، من السّمع، والبصر، والذوق، والشم، التي يحويها كلها الوعاء الجلدى..
وقد فسر بعض العلماء «الجلد» بالفرج، وهو تأويل بعيد، لا تساعد عليه اللغة، وإن كانت الفروج من الجوارح التي تهدد الناس بأقدح الأخطار وأشنعها.. فكان حمل الجلود عليها منظورا فيه إلى إقامة أفصح الشهود
فلما جاء يوم الحساب، ولم يكن للإنسان سلطان عليها فى هذا اليوم، لأن إرادته قد تعطلت- تمثلت هذه الجوارح شخوصا، تقف من صاحبها موقف الخصومة، وتنطق بما ارتكب بها صاحبها من منكرات، ليقتص لها الله سبحانه من صاحبها، المعتدى عليها..
والجلود هنا هى- كما قلنا- الثوب الذي يكسو الكيان الإنسانى كله، ويحوى فى داخله هذا الهيكل البشرىّ، وما حوى من مشاعر، وأحاسيس ووجدانات.. فشهادة الجلد، شهادة شاملة لكل ما شهدت به هذه الجوارح من الألسنة، والأيدى، والأرجل، تستدرك ما فات هذه الجوارح أن تشهد عليه، مما لم يكن داخلا فى نطاق وظيفتها.. ولهذا فإنهم- أي أهل الضلال- يتجهون إلى جلودهم وحدها بالاستنكار عليها أن تؤدّى هذه
«وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
والجلود قد أنطقها الله سبحانه الذي أنطق كل شىء.. فكل شىء ناطق لله سبحانه وتعالى، كما أن كل شىء مسبح بحمده، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (٤٤: الإسراء).. فليس المراد بالنطق، هنا، نطق اللسان، وإنما المراد هو إفصاح الموجود عن وجوده، والإبانة عن ولائه لخالقه، بأية صورة من الصور، ومن هذه الصور انتظام الموجود فى نظام الوجود، وجريانه على ما أقيم عليه..
وقوله تعالى: «وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ».. يجوز أن يكون هذا من قول الله سبحانه وتعالى لهم، تعقيبا على مقول الجلود لهم، وتقريرا لهذا القول.
ويجوز أن يكون ذلك من مقول الجلود، ويكون ذلك من شهادتها على أصحابها، الذين لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، بل غفلوا عنها، فلم يؤمنوا بأن لهم خالفا واحدا هو الذي خلقهم، وخلق كل شىء.. إذ لو عرفوا هذه الحقيقة، لآمنوا بالله وحده، ولما عبدوا هذه الآلهة التي عبدوها من دونه، ولما صاروا إلى هذا المصير المشئوم الذي ألقى بهم فى جهنم..
والمراد بالخلق أول مرة، هو الخلق الذي كان عليه الإنسان، قبل الموت، وهو ميلاده فى الحياة الدنيا.. وفى هذه إشارة إلى خلق آخر، وهو البعث..
فالبعث، وهو نشر الموتى من القبور، هو خلق جديد، كما يبدو للأنظار وخاصة أنظار الذين ينكرون البعث، ويظنون أن الموت هو رحلة فى محيط الفناء الأبدىّ، ولهذا كانوا يقولون فى أسلوب إنكارى ما حكاه القرآن
وفى قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».. إشارة إلى هذا الخلق الآخر، وهو البعث بعد الموت..
قوله تعالى:
«وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ».. يجوز أن يكون هذا من قول الله سبحانه وتعالى، كما يجوز أن يكون من قول الجلود لأصحابها، على نحو ما أشرنا إليه فى قوله تعالى: «وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
وقوله تعالى: «أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ»..
هو فى تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، أي لشهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم وهو تعليل لنفى استتارهم، أي ما كنتم تستترون عن الله بأفعالكم المنكرة حتى استدعى هؤلاء الشهود منكم ليشهدوا عليكم، «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» فأراكم الله سبحانه وتعالى من هؤلاء الشهود بعض مظاهر علمه وقدرته وأن له سبحانه وتعالى جنودا فى كلّ ذرّة فيكم، هى ألسنة تنطق بكل ما تعملون من صغيرة وكبيرة..
وفى قوله تعالى: «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ»..
هو إشارة إلى سوء ظنهم بالله، وأنهم كانوا يظنون أن الله سبحانه لو كان يعلم ما يعملون فى جهر، فإنه لا يعلم ما يسرّون من أقوال، وأعمال.. ولهذا استتروا وهم يأتون المنكرات من أعمالهم وأقوالهم، ظنّا منهم بأن الله سبحانه
ولهذا أراهم الله سبحانه كذب هذا الظن وبطلانه، فأنطق سبحانه وتعالى جلودهم التي لا يبدو منها أي عمل، فكانت ألسنة فصيحة، تنطق بكل ما كان منهم من مشاعر وأحاسيس، وخلجات..
فإنطاق الجلود هنا، هو فى مواجهة هؤلاء الذين يظنون بالله سبحانه وتعالى هذا الظنّ، الذي يقوم عندهم بأن الله يعلم جهرهم ولا يعلم سرّهم، وهذا ما يشير إليه سبحانه فى موضع آخر: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (١٣: الملك).. ولهذا لم يجر ذكر للألسنة هنا، وهى من الجوارح التي تشهد على أصحابها، كما يقول الله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (٢٤: النور)..
إذ كانوا- حسب ظنهم هذا- يظنون أن الله يعلم ما ينطقون به.. وهو ظنّ لا يبلغ مرتبة اليقين عندهم..
هذا، ويجوز أن يكون المعنى، وما كنتم لتستتروا لو أنكم علمتم أن معكم شهودا يشهدون عليكم، وهى أقرب شىء إليكم، بحيث لا يفوتها همسة خاطر، أو قشعريرة جلد، أو ذوق لسان، أو حركة يد أو رجل..
ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، فلذلك اجتراؤكم على اقتراف المنكرات سرّا، وما دريتم أن لله جنودا قائمين عليكم يسكنون بين العظم والجلد منكم! قوله تعالى:
«وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ»..
قوله تعالى:
«فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» أي فإن يصبر هؤلاء المشركون على هذا البلاء الذي هم فيه من ظنهم بالله هذا الظنّ السيّء، فالنّار هى موعدهم، وهى مأواهم الذي يأوون إليه..
وإن يستعتبوا أي يطلبوا العتبى فى طلب الصفح وإصلاح ما أفسدوا، فلن يعتبوا، ولن يقبل منهم تصحيح معتقدهم، بعد أن فات الوقت، وأفلتت الفرصة من أيديهم وهم فى الدنيا. أما اليوم- يوم الحساب- فلا يقبل عمل، ولا تنفع معذرة! كما يقول الله سبحانه: «لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ.. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٧: التحريم
الآيات: (٢٥- ٢٩) [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
«قوله تعالى:
«وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ».
قيضنا: أي هيأنا، ويسرنا، وسلطنا..
قرناء: جمع قرين، وهو الصاحب الملازم، كأنه وصاحبه فى مقود واحد أي أن الله سبحانه وتعالى، جمع هؤلاء الضالين، بأهل الضلال، فالتقوا بهم على طريق الضلالة، فلم يجدوا منهم ناصحا، بل وجدوهم دعاة سوء يدعونهم إلى المنكر، ويزينونه لهم، ويغرونهم به.: وهذا من خذلان الله.. نعوذ بالله منه.. إذ لو أراد الله سبحانه بهم خيرا لجمعهم بأهل الاستقامة والصلاح، فانتفعوا باستقامتهم وصلاحههم، وأفادوا من هديهم وإيمانهم.
وقوله تعالى: «فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» أي أن هؤلاء القرناء قد زيّنوا، وحبّبوا إلى هؤلاء الضالين الوافدين عليهم «ما بين أيديهم» أي ما هم فيه من ضلال «وما خلفهم» أي ما كان عليه آباؤهم من منكرات وضلالات ورثوها عنهم حتى لقد كادت تكون طبيعة لازمة لهم.
وقوله تعالى: «فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» متعلق بمحذوف هو حال من هؤلاء الضالين.. أي حالة كونهم داخلين فى أمم الضالين الذين خلوا ومضوا من قبل، من الجنّ والإنس.. ويجوز أن يكون «فى» بمعنى مع، أي حق عليهم العذاب مع أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس، وفى تعدية الفعل بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية- إشارة إلى أنهم وأهل النار جميعا مظروفون فى ظرف واحد يحتويهم جميعا..
وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» - الضمير فى «إنهم» يعود إلى هؤلاء الضالين، بمعنى أن الله سبحانه قد أضلهم، وقيض لهم هؤلاء القرناء الضالين، لأنهم كانوا خاسرين، أي لا يقبلون إيمانا، ولا يطلبون هدى.. ويجوز أن يكون الضمير للضالين جميعا.. من سابقين ولاحقين، من جن وإنس.
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ»..
أي أن هؤلاء الضالين من المشركين، وقد اجتمع بعضهم إلى بعض، وتلاقوا على طريق الضلال- تشكل منهم هذا الكيد الذي أجمعوا أمرهم عليه، ليكيدوا به للنبى الكريم، وللقرآن الذي يتلوه عليهم، وهو أن
قوله تعالى:
«فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ»..
هو تهديد، ووعيد لهؤلاء الذين يكبدون لآيات الله، ويلقونها هازئين ساخرين.. وفى إقامة الظاهر مقام المضمر فى قوله تعالى «الَّذِينَ كَفَرُوا» بدلا من قوله تعالى: «فَلَنُذِيقَنَّ» - إشارة إلى سوقهم مع جريمتهم، وهى الكفر، إلى جهنم، وفى هذا مضاعفة لآلامهم، حيث يرون وجه جريمتهم يصحبهم فى كل مكان.. إنهم أشبه بالقاتل الذي يحمل جثة قتيله وهو مسوق إلى ساحة الإعدام..
وقوله تعالى: «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» - إشارة إلى أن أعمالهم سيئة كلها، وأنها درجات متفاوتة فى السوء، وأن الكبائر منها تجمع الصغائر فى كيانها، وأن الكفر وهو رأس الخطايا كلها هو الذي يدانون به، ويلقون أشد العذاب عليه، فإنه ليس بعد الكفر ذنب، ولا وراء عذاب الكافر عذاب.. ولهذا سيقوا إلى جهنم بجريمة الكفر، «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً» !.
«ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ».
والكافرون هم أعداء الله، بل هم أعدى أعدائه، وليس لهم جزاء عند الله إلا النار، حيث تكون دار خلود لهم، لا يخرجون منها..
إذ كانوا يجحدون بآيات الله، ويكذبون رسله، ويكفرون بربهم..
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ».
هو عرض لمشهد من مشاهد القيامة لأهل الضلالة جميعا، من تابعين ومتبوعين.. وفى هذا المشهد، حيث النار وقد احتوتهم جميعا، وأوصدت عليهم أبوابها- لا يرى التابعون سبيلا للانتقام من الذين اتبعوهم، إلا أن يدعوا الله سبحانه أن يريهم إياهم، ويجمعهم بهم، ويمكنهم منهم، ليجعلوهم تحت أقدامهم! وفى هذا شفاء لما فى صدورهم من موجدة ونقمة عليهم.. وإن كان ذلك لا يخفف عنهم من العذاب شيئا!.
الآيات: (٣٠- ٣٥) [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٠ الى ٣٥]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)
وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ».
هو عرض للوجه الآخر، من وجوه الإنسانية، وهو وجه المؤمنين بالله، المستقيمين على طريق الهدى، بعد أن عرضت الآيات السابقة أهل الضلالة والكفر، وما أعد الله لهم من عذاب أليم.
فالذين قالوا ربنا الله، وحده، لا شريك له، ولا نعبد إلها غيره، ولا نتخذ معه شركاء، ثم إنهم مع إيمانهم هذا، قد عملوا بمقتضى هذا الإيمان فاستقاموا على ما يدعو إليه الإيمان بالله، من امتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه- هؤلاء المؤمنون تتنزل عليهم الملائكة بالرحمات والبركات من ربهم، فيلقونهم عند كل مطلع من مطالع القيامة، وعند كل شدة من شدائدها، بما يملأ قلوبهم أمنا وسكينة ورضا، قائلين لهم:
ألّا تخافوا مما أنتم مقدمون عليه من حساب وجزاء، ولا تحزنوا على فائت فاتكم فى الدنيا، فقد أخذتم خير ما فيها، وهو الإيمان بالله، والعمل
قوله تعالى:
ى: «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ».
وإنه لكى يأنس المؤمنون بالملائكة الذين يلقونهم لأول مرة، يكشف لهم الملائكة عن تلك العلاقة التي كانت بينهم فى الدنيا، إذ كان الملائكة- من غير أن يشعر المؤمنون- أولياء لهم، تجمع بينهم جامعة الولاء لله، والطاعة له.. فهم والملائكة كانوا إخوانا فى الله، ومن هنا كانوا يستغفرون للمؤمنين، كما يقول الله سبحانه: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» (٧: غافر).
ثم إن الملائكة كانوا فى الدنيا جندا من جنود الله، يقاتلون فى سبيل الله مع المقاتلين فى سبيله من المؤمنين، كما يقول سبحانه: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» (١٢: الأنفال)..
قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ».
الضمير فى «فيها» للجنة التي جاء ذكرها فى قوله تعالى: «وَأَبْشِرُوا
.. أي أبشروا بهذه الجنة التي لكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، أي ما تتمنون، مما يطوف بخيالكم، ويقع فى عالم الأمانى، فكل ما تتمنونه تجدونه حاضرا بين أيديكم..
وإنه ليس أهنأ للإنسان، ولا أسعد لقلبه، من أن يجد كل ما يتمناه حاضرا بين يديه، فتلك هى السعادة المطلقة، الخالية من كل شائبة من شوائب الحرمان، الكلّى أو الجزئى..
قوله تعالى:
«نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» أي منزلا من غفور رحيم، قد أعده الله لكم وقد غفر لكم ذنوبكم، وأنزلكم منزل رحمته.. ومن نزل هذا المنزل فهو فى ضيافة رب كريم، ينال من فضل الله ما يشاء..
وفى هاتين الصفتين الكريمتين من صفات الله سبحانه- إشارة إلى أن المغفرة والرحمة، هما اللتان أنزلتا المؤمنين هذا المنزل الكريم.. أما الإيمان والأعمال الصالحة، فهى وسائل يتوسل بها المؤمنون إلى مرضاة الله.. وفى الحديث «لا يدخل أحد الجنة بعمله» قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال:
«ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته».. فاللهم تغمدنا برحمتك يا أرحم الراحمين..
قوله تعالى:
«وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ»..
الاستفهام هنا مراد به الخبر، أي أنه لا أحد أحسن فى الناس قولا ممن دعا إلى الله، وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين..
والمراد بالدعاء إلى الله، الانجاه إلى الله، بأن يدعو الإنسان نفسه إلى ربه، وأن يخلص بها من مواقف الضلال، ومجتمع الضلالة، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم: «وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» (٩٩: الصافات).
وفى عطف العمل الصالح، على الدعاء إلى الله: «دعا إلى الله وعمل صالحا» إشارة إلى أن الدعاء إلى الله، وهو الإيمان به، لا يؤتى ثمره الطيب، إلا بالعمل الصالح.. فإذا اجتمع الإيمان بالله، والعمل الصالح، فقد أمسك المؤمن بالخير من طرفيه، واستمسك بالعروة الوثقى من صميمها، وفى هذا يقول الرسول الكريم لمن جاءه يسأله عن طريق النجاة: «قل ربى الله.. ثم استقم»..
وفى قوله تعالى: «وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» - إشارة إلى أن ثمرة الإيمان بالله والعمل الصالح، إنما تظهر آثارها فى المجتمع الإنسانى، وفى العطاء والأخذ بين الناس.. فالإيمان والعمل الصالح إذا أمسك بهما إنسان ثم عاش بهما فى نفسه، منعزلا عن الناس، منقطعا عن الحياة، فذلك إنسان قد عطل الخير الكثير الذي معه، وأمسك به عن أن ينمو ويزدهر فى مزرعة الحياة، وخير منه ذلك الإنسان الذي يعيش بإيمانه وبعمله الصالح مع الناس، فيتبادل معهم الخير، الذي يخصب وينمو بهذا التبادل! وهذا ما تشير إليه الآية التالية:
«وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ».
فهذه الآية تشير إلى التطبيق العملي للإيمان والعمل الصالح، حيث يحتسب الإنسان نفسه واحدا من جماعة المسلمين، فيعيش معهم، ويلقاهم بإيمانه وبعمله الصالح، فلا يجزى السيئة بالسيئة، بل يلقى السيئة بالحسنة..
إذ لا تستوى الحسنة ولا السيئة.. ومن شأن المؤمن أن يأخذ بالأحسن دائما..
وقوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» أي ردّ السيئة بالتي هى أحسن، وهى الإحسان فى مقابل الإساءة.. فإن من حقّ الإنسان إذا أسىء إليه أن يردّ السّيئة بالسيئة، كما يقول الله تعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» ثم يعقب ذلك بقوله: «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».. فردّ السيئة بمثلها، ليس حسنا ولا سيّئا، والعفو عن السيئة حسن، وأحسن من هذا الحسن أن تردّ السيئة بالحسنة.. فهذه درجات ثلاث، والمؤمن بالخيار فيها.. وخير المؤمنين من أخذ بالدرجة الثالثة، وهى دفع السيئة بالحسنة..
وقوله تعالى: «فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» بيان للأثر الطيب، الذي يجىء من هذا العمل الطيب، وهو دفع السيئة بالحسنة، وهو أنه بالإحسان إلى المسيء، تنطفىء نار الفتنة التي كان يمكن أن تشتعل من احتكاك السيئة بالسيئة.. ثم إن هذا المسيء الذي كان يتوقع الإساءة ممن أساء إليه- حين يرى أن اليد التي مدّها بالإساءة قد عادت إليه ملأى بالإحسان ممن أساء إليه، يستخزى من نفسه وتخفّ موازينه حين ينظر إلى فعله، وفعل المحسن إليه، فيذلّ، وينقاد.. إن لم يكن عاجلا فآجلا.
ثم بحسبنا أن نذكر موقفه يوم الفتح، وقد أصبح المشركون فى قبضته، وفيهم كثيرون ممن آذوه بالقول وبالعمل، بل إن فيهم «وحشيّا» قاتل عمّه حمزة..
وقد لقى الرسول الكريم هؤلاء المشركين جميعا بالصفح الجميل، وقال لهم قولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
قوله تعالى:
«وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ».
فى الآية الكريمة إشارة إلى أن هذا العمل، وهو دفع السيئة بالحسنة، ليس بالأمر الهيّن الذي تستطيع كل النفوس احتماله، وإنما هو من صنيع النفوس الكبيرة، التي آتاها الله قوة على الصبر والاحتمال، فلا يعكّر صفوها هذا المكروه الذي ورد عليها..
ما يضير البحر أمسى زاخرا | أن رمى فيه غلام بحجر! |
والجواب على هذا، من وجهين:
أولا: أن القرآن الكريم حين دعا إلى دفع السيئة بالحسنة، إنما خاطب بذلك مؤمنا فى جماعة المسلمين، وليس فى جماعة المؤمنين، وذلك فى قوله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ».. فالمسلمون أعمّ من المؤمنين، وقد يكون الإسلام باللسان دون القلب، وقد يكون باللسان والقلب وليس معه عمل، أما الايمان، فهو قول باللسان، واستيقان بالقلب، وتصديق بالعمل.. وعلى هذا يكون كل مؤمن مسلما، وليس كلّ مسلم مؤمنا..
فقوله تعالى: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» - وإن كان دعوة عامة للمسلمين جميعا، إلّا أنه منظور فيه إلى القمة العالية فيهم، وهم الذين أشار إليهم قوله تعالى: «وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ».
وثانيا: أن المؤمنين ليسوا درجة واحدة فى مقام الكمال والإحسان..
ففى بعضهم من يسىء ابتداء، وفى بعضهم الآخر من يردّ الإساءة بالإساءة، وفيهم من يردّ الإساءة بالعفو، وفيهم من يردّ الإساءة بالإحسان، وهذا أعلى درجات الإيمان..
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»..
النزغ: المسّ والنخس، ويراد به ما يكون من لمّة يدخل بها الشيطان على الإنسان ليعد به عن سواء السبيل..
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ».
هو معطوف على قوله تعالى: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».. أي وإن من آيات الله السميع العليم، الليل والنهار والشمس والقمر..
فهذه العوالم، هى بعض الآيات التي تشهد بجلال الله، وقدرته، وأن المستعيذ بالله إنما يستعيذ بمالك الملك، ربّ الأرباب، فلا يصل إليه أذّى، ولا يناله مكروه..
و «من» هنا للتبعيض.. أي ومن بعض آيات الله الليل والنهار والشمس والقمر.. وهناك آيات كثيرة لا تحصى، وإنما خصت هذه الآيات بالذكر لأنها تجمع الناس جميعا تحت لوائها، وكل إنسان داخل تحت سلطانها طوعا أو كرها..
وقوله تعالى: «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ» نهى عن عبادة هذين
فهما بهذا السلطان، قد فتنا كثيرا من الناس، حتى لقد اتخذهما بعض الشعوب آلهة يعبدونها من دون الله، فى صور وأشكال شتّى من المراسم والطقوس.
وقوله تعالى: «وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ» أمر بعبادة الإله المستحق للعبادة، وهو الخالق، لا المخلوق.. فالشمس والقمر مما خلق الله، وعبادتهما ضلال..
وفى عود الضمير على الشمس والقمر جمعا للمؤنث العاقل فى قوله تعالى:
«الَّذِي خَلَقَهُنَّ» - فى هذا أكثر من إشارة:
فأولا: الإشارة ضمنا إلى النهى عن عبادة الليل والنهار، لأن النهى عن عبادة الشمس والقمر، يتضمن- من باب أولى- النهى عن عبادة الليل والنهار، إذ كان الليل والنهار من مواليد الشمس، فهذا أشبه بالمخلوقين التابعين لهما، فإذا وقع النهى على عبادتهما، شمل ذلك النهى عن عبادة توابعهما، ولهذا جاء الضمير جمعا: «الَّذِي خَلَقَهُنَّ».
وثانيا: الإشارة إلى أن هذه المخلوقات الليل والنهار والشمس والقمر، وإن بدت جمادا صامتا فى نظر الإنسان، فإنها عند الله سبحانه وتعالى تسمع، وتبصر، وتعقل، وتتلقى أمر الله سبحانه وتستجيب له فى ولاء مطلق.. ولهذا جاء الضمير للعقلاء.
وثالثا: الإشارة إلى أن هذه العوالم من ليل ونهار، وشمس، وقمر، وإن بدت ذات سلطان قائم على الناس، إلا أنها إلى جانب قدرة الله مستسلمة
قوله تعالى:
«فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ» أي إن استكبر هؤلاء المشركون عن عبادة الله، وأبوا أن يعطوا ولاءهم خالصا مطلقا له، فالله سبحانه وتعالى فى غنى عنهم، وإن استكبارهم هذا سيوقعهم تحت غضب الله، الذي لا يرجون له وقارا، ولا يخشون له بأسا.. وهذا ضلال مبين منهم، باستخفافهم بقدرة الله وبأس الله.. فالملائكة الذين هم أقرب خلق الله إليه سبحانه- وهم الملائكة المقربون- لم يكن لهم من هذا القرب ما يخليهم من خوف الله وخشيته لحظة واحدة، بل لقد كان خوفهم من الله وخشيتهم لله على قدر قربهم منه.. فكلما ازدادوا قربا من الله ازدادوا خوفا وخشية، لأنهم يرون من جلال الله، ويشهدون من عظمته وقدرته مالا يشهده غيرهم.. وإنه على قدر المعرفة والشهود، تكون الخشية ويكون الولاء، ولهذا فهم يسبحون الليل والنهار، فى صورة متصلة دائمة، «لا يسأمون» من هذا التسبيح، ولا يملّون، بل يزدادون مع دوام التسبيح نشاطا وقوة، لما يجدون من
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» هو معطوف على قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» أي ومن آيات الله الدّالة على بسطة سلطانه، وكمال قدرته، ما تراه العين من هذه الحياة التي تلبس الأرض الميتة.. فبينما تقع العين على عالم فسيح من الأرض الجديب، والأصقاع الموات الهامدة، إذا هى- وقد أصابها الغيث، وجرى على وجهها الماء- حياة تموج فى أعصابها، ودماء تتدفق فى شرايينها، وإذا هى جنّات وزروع ونخيل وأعناب.
وقوله تعالى: «تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً» - إشارة إلى ضراعة الأرض، فى جدبها، ومواتها، وما تكون عليه من شحوب الفقر والمسغبة. إنها أشبه بالكائن الحىّ حين تنقطع عنه موارد حياته، فيضرع ويخشع، ويذل..!
وقوله تعالى: «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ» - إشارة إلى تلك التفاعلات العجيبة، التي يحدثها التقاء الماء بالأرض الميتة.. فهذا الاهتزاز هو فرحة الحياة التي تسرى فى هذا الجسد الهامد، وهذا الرباء والنماء هو من فعل تلك الحرارة التي تملأ كيان هذا الجسد المنكمش المقرور..
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى.. إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» - هو تعقيب على هذه الحقيقة التي يشهدها الناس من أمر الأرض الميتة، وما يلبسها من حياة دافقة، وشباب ناضر.. وإن هذه المقدرة التي أحيت تلك الأرض الميتة، لا يعجزها أن تعيد الأجسام الميتة الهامدة إلى الحياة مرة أخرى.. فهذا
«إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» هو تهديد لأولئك الذين أشار إليهم سبحانه فى قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ».. وقد هدّدوا من قبل بعذاب الله، فى قوله سبحانه: «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ».. ثم ها هم أولاء يتهددهم عذاب الله مرة أخرى بعد أن تليت عليهم آيات الله، وفيها معارض كثيرة لقدرة الله سبحانه، وما تملك هذه القدرة من اقتدار على البعث الذي ينكرونه، ولا يعملون له حسابا..
«إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا» أي الذين يستخفون بها، ويسخرون منها ويتعابثون عند الاستماع إليها- هؤلاء: «لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا» بل إن علم الله سبحانه محيط بكل ما يسرون وما يعلنون، لا تخفى على الله منهم خافية.. ثم إنهم لمحاسبون، ومجزيون بأسوأ ما كانوا يعملون..
«أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ» - أي أفهذا العذاب وهذا البلاء، الذي يلقاه هؤلاء المجرمون- خير، أم جنات الخلد التي وعد المتقون؟ لا يستويان أبدا؟
وفى النظم الذي جاء عليه القرآن هنا من الاختلاف بين المتعادلين، ما يجعل هذا النظم على إيجازه يتسع للكثير من المعاني، حيث يرى فى المعادل
وقوله تعالى: «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» - هو تهديد بعد تهديد لهؤلاء المشركين، الذين لا يريدون أن يتحولوا أبدا عن هذا الموقف الضال من آيات الله، ومن رسول الله.. فليعملوا ما شاءوا.. إن الله بما يعملون بصير.. وإنهم لمحاسبون على ما يعملون، ومجزيّون بأسوأ الذي كانوا يعملون.
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» الذكر: هو القرآن الكريم: وسمى ذكرا، لأنه يذكّر بالله، ويكشف طريق الهدى إليه.
وخبر «إن» محذوف، وفى حذفه إشارة إلى أن يفسح المكان لكل وارد من واردات العذاب، والبلاء، ولكل صورة من صور الانتقام والنكال فيمكن أن يقال: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ» سيحشرون على وجوههم إلى جهنم.. لهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق- ويمكن أن يقال هنا، كلّ ما جاء فى القرآن من صور العذاب والنكال لأهل الكفر، والإلحاد..
قوله تعالى:
«ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ.. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» أي أنك أيها النبي لست بدعا من الرسل، وإنما أنت رسول الله إلى عباد الله، تحمل دعوة الحق إليهم، أن يؤمنوا بالله وحده، وألا يشركوا به شيئا..
فهذا هو مجمل رسالة رسل الله جميعا، وهو مجمل رسالتك، وعنوانها، وصميمها.. فالقول هنا بمعنى الوحى: أي ما يوحى إليك إلا ما أوحى إلى الرسل من قبلك، كما يقول الله سبحانه: «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٣- ١٦٤: النساء) ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: «ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» أي ما يقال ذلك من هؤلاء المشركين من قومك، من تكذيب لك
وفى هذا عزاء للنبى صلوات الله وسلامه عليه.. ودعوة له إلى الصبر على ما يكره من قومه، كما صبر الرسل على ما رماهم به أقوامهم من سوء..
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» - هو تعقيب على هذا الخبر، وهو أن الرسول ليس بدعا من الرسل، وأنه إنما يدعو بما دعا به رسل الله من قبله، من الإيمان بالله وحده، من غير شريك له.. وفى هذا التعقيب دعوة إلى المشركين إلى الإيمان بالله، وأنهم إذا آمنوا، وتابوا إلى الله، ونفضوا أيديهم مما يعبدون من آلهة، وما يفعلون من منكرات، تقبل الله توبتهم، وغفر لهم ما كان منهم.. وفى هذا التعقيب مع هذه الدعوة إلى الإيمان، والإغراء بالمغفرة تهديد بالعذاب الأليم، والعقاب الشديد، لمن لم يستجب لدعوة الإيمان، ولم يرجع إلى الله منيبا، تائبا..
ويجوز أن يكون قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» هو مقول القول لله سبحانه وتعالى: «ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» أي ما يقال لك إلا هذا القول، وهو: «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» وهو ما قيل لكل رسول من قبل.. فهذا هو الإله الذي يدعو إلى الإيمان به كل رسول من رسل الله.. إنه ذو مغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا، وذو عقاب أليم لمن صد عن سبيل الله، وكفر به، وسعى فى الأرض فسادا..
الآيات: (٤٤- ٤٦) [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
قوله تعالى:
«وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ؟ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت القرآن الكريم، ونوهت به، وأشارت إلى علو متنزله، وأنه عزيز من عزيز حكيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتوعدت الذين كفروا به، وألحدوا فيه، فناسب ذلك أن يذكر عن المشركين الذين كفروا بهذا الذكر بعض إلحادهم فيه، وتعلّاتهم عليه، مما كان سببا فى صدهم عنه، ومجافاتهم له..
فمن ضلالاتهم أنهم كانوا ينكرون أن يكون الرسول الذي يرسل من عند الله إليهم رجلا منهم، يتكلم باللسان الذي يتكلمون به.. إن ذلك ممكن أن يدعيه كل واحد منهم، فما يحدثهم به الرسول على أنه كلام الله هو من جنس ما يتكلمون به..
فهل كلام الله من جنس كلامهم؟ أهذا مما يعقل؟ وما الدليل على أن هذا كلام الله؟ ثم ما الدليل على أن هذا الإنسان هو رسول الله؟ وما الجديد الذي جاءهم به؟ إن بضاعته كلها كلام من كلامهم! فإذا كان
ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الضالين، لو استمعوا إلى آيات الله، وعقلوها، ووزنوا كلامهم على ميزانها لوجدوا أن كلامهم بالنسبة إليها أشبه بلكنة الأعاجم ورطاناتهم..
إن الشبهة قائمة عندهم، لا تزول، لو جاءهم القرآن باللسان الأعجمى، كما أنها قائمة عندهم كذلك لو كان الرسول إليهم ملكا لا بشرا.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» (٩: الأنعام)..
فلو جاءهم القرآن الكريم بلسان أعجمى لكانت علّتهم عليه، أنه ليس بلسانهم، وأنهم لا يفهمون هذه الرطانة، ولقالوا: «لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ» أي هلا وضحت آياته، واستبانت مغالق كلماته، حتى نعلم منطوقها
فإما أن يكون الكلام بغير العربية التي لا يحسنونها، أو بالعربية التي هى لسانهم.. أما أن يكون الكلام غير عربى، ثم ينطق بما يفهمه العربي فهذا ما لا تحتمله طبيعة اللغة، أي لغة..!
وقوله تعالى: «أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ» استفهام إنكارى لهذا المقترح الذي يقترحونه على النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وهو أن يكون اللسان الذي يخاطبهم به لسانا أعجميا عربيا معا!. أي بلغة غير لغتهم، ثم تكون تلك اللغة مفهومة لهم!! قوله تعالى: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ» أي هذا القرآن هو هدى وشفاء للذين آمنوا، يجدون فى آياته وكلماته ما يهديهم إلى الحق والخير، وما يذهب بما فى عقولهم وقلوبهم من زيغ وضلال..
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» أي أن الذين لا يقبلون الإيمان، ولا تستجيب طبيعتهم له- هؤلاء لا حظ لهم من القرآن، إلا الصمم فى آذانهم، وإلا العمى فى أعينهم، فلا يسمعون ما يتلى عليهم منه، ولا تستضىء أبصارهم بما فيه من هدى..
فقوله تعالى: «فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ» متعلق بمحذوف، هو خبر الذين لا يؤمنون.. أي والذين لا يؤمنون يقع فى آذانهم صمم عند سماع القرآن..
وقوله تعالى: «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» أي ويرد عليهم من القرآن عمى يصيبهم فى أبصارهم وبصائرهم..
وقوله تعالى: «أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ»..
الإشارة هنا إلى هؤلاء الذين لا يؤمنون.. وفى الإشارة إليهم مناداة
وقوله تعالى: «يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» - إشارة إلى أن هؤلاء الذين لا يؤمنون، لا تتقبل طبيعتهم الإيمان ولا تستجيب له.. إذا تلى عليهم القرآن لم يقع لآذانهم التي أصموها عنه إلا كما يقع الصوت الوارد من مكان بعيد، خافتا ضعيفا، غير واضح الدلالة، فلا يتبين السامع شيئا لما سمع.
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ».
هو عزاء للنبى، وتسرية لهمومه التي يعالجها، من خلاف قومه عليه، وإعراضهم عما يتلو عليهم من آيات ربهم.. فهذه ليست حال هؤلاء القوم وحدهم، بل هى حال كثيرين من أهل الضلال، فى كل أمة وكل جيل مع رسل الله وآيات الله.. وأقرب مثل لهذا مالقى موسى من قومه هؤلاء الذين يراهم المشركون بينهم من اليهود..
فلقد آتى الله موسى الكتاب، أي التوراة، فيها هدى ونور، «فَاخْتُلِفَ فِيهِ» أي فاختلف القوم فى هذا الكتاب، ولم يستقيموا على طريق واحد معه، بل تفرقت بهم السبل، فسلك كل فريق شعبة من شعب الضلال، وإذا هم ثلاث وتسعون فرقة، كما جاء فى الحديث الشريف..
وفى هذا يقول الله تعالى: «وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» (٤: البينة) ويقول سبحانه: «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» (١٩: آل عمران)..
وإذن فلا يحزن الرسول الكريم إذا رأى خلاف قومه على هذا الكتاب الذي بين يديه، فكان منهم المؤمنون، وكان منهم الكافرون فتلك هى سنة الله فى خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى
(٣٥: الأنعام).. ثم لا يحزن النبي إذا وقع الخلاف بين المؤمنين، فكانوا فرقا فيما بعد..
فتلك هى سنة الله فى خلقه..
قوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» تلك الكلمة هى ما وعد الله تعالى به النبي ﷺ ألا يعذب قومه وهو فيهم، كما يقول الله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (٣٣: الأنفال).
وقوله تعالى: «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» أي لولا هذه الكلمة لأخذهم الله بعاجل عذابه، ولأوقع بالظالمين المكذبين بأسه الذي حلّ بالمكذبين من قبلهم.
وقوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» أي أن هؤلاء المشركين فى شك وارتياب من أمر هذا القرآن، فلم تقع آياته وكلماته موقع اليقين منهم، لأنهم لم يفتحوا آذانهم له، ولم يوجهوا عقولهم وقلوبهم إليه، فلم يستمعوا إليه إلا بآذان صماء، ولم يلقوه إلا بقلوب مريضة، وعقول سقيمة، فكان حكمهم عليه هذا الحكم الفاسد، الذي ملأ قلوبهم شكا وارتيابا..
قوله تعالى:
«مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»..
هو عزاء بعد عزاء من الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، ودعوة إليه من ربه سبحانه أن يتخفف من هذا الحزن الذي يجده فى نفسه من خلاف قومه عليه، ومن تهافتهم على موارد الهلاك وهو يمسك بحجزهم، ويشدهم إليه، ليأخذ بهم إلى طريق النجاة، وهم يتفلتون منه، ويلقون بأنفسهم بالنار، ويتساقطون فيها تساقط الفراش.. فلا على النبي من بأس، إذا هو بلّغ دعوته فلم يستجب لها هؤلاء المشركون.. «مَنْ عَمِلَ صالِحاً
- فإنهم لو آمنوا وعملوا الصالحات فإنما ذلك لخيرهم، وسعادتهم، وإن هم أمسكوا بكفرهم وضلالهم فذلك لشؤمهم وشقائهم.. فكل إنسان مجزى بما عمل «لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى».
وقوله تعالى: «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» أي أنه سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة، كما يقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» (٤٠: النساء) كما أنه سبحانه لا يأخذ المطيع بذنب العاصي.. «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» (٥٢: الأنعام).
وفى التعبير بصيغة المبالغة فى قوله تعالى: «بظلام» - إشارة إلى أمور..
أولا: أن كثرة الناس هلكى، وقليل منهم هم الناجون.. هكذا قضت مشيئة الله فى عباده، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ».. فلو نظر ناظر إلى كثرة الواردين على جهنم، لداخله شعور بأن هؤلاء الناس واقعون تحت سلطان مستبدّ قاهر- فجاء قوله تعالى: «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ» ليدفع ذلك الشعور الخاطئ..
وثانيا: أن العذاب الواقع بأهل الضلال، عذاب شديد، لم يقع فى تصور إنسان، فإذا اطلع مطلع على ما يلقى أهل النار من بلاء، خيل إليه أن لا ذنب يستحق هذه العقوبة التي لا يعرفها أحد.. فجاء قوله تعالى «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ» ليدفع هذا التصور الخاطئ كذلك..
وثالثا: أن الله سبحانه وتعالى يملك التصرف المطلق فى عباده، وأنه قادر على أن يضاعف عقاب المذنبين أضعافا كثيرة، وأن يجزى السيئة بعشر أمثالها، كما يجزى الحسنة بعشر أمثالها، ولو فعل ذلك لما كان ظالما، ولا ظلاما، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. فإن
ورابعا: تقرر فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم أن الله لا يظلم مثقال ذرة.
كما فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها» (٤٠: النساء) وكما يقول جلّ شأنه: «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (١٦٠ الأنعام)..
فالظلم منفىّ قطعا عن الله سبحانه وتعالى، لأن الذي يظلم إنما يكون فى حاجة إلى مزيد مما هو فى يد غيره.. والله سبحانه وتعالى مالك كل شىء، وبيده كل شىء.. فإلى من يتجه بالظلم وكل شىء ملكه وصنعة يده؟..
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ»..
الموضوع الصفحة. داود.. ما خطيئته؟ ١٠٦٥. سليمان والشمس.. والجسد الملقى على كرسيه ١٠٧٩. بين النفس.. والروح.. والجسد ١١٦١. مؤمن آل فرعون.. أنبيّ هو؟ ١١٢٥ ثم الجزءان: الثالث والعشرون والرابع والعشرون، ويليه الجزءان:
الخامس والعشرون والسادس والعشرون.. إن شاء الله، والله الموفق والمعين.
[الجزء الثالث عشر]
[تتمة سورة القمر]الآيات: (٤٧- ٥٤) [سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٧ الى ٥٤]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ».
فكانت هذه الآية جوابا عن سؤال يدور فى رءوسهم، منكرا هذا اليوم..
وقد جاء الجواب على سبيل القصر، وجعل علم السّاعة من أمر الله وحده، لا يعلمها إلا هو، كما يقول الله تعالى: «قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي.. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» (٨٧: الأعراف)..
فقوله تعالى: «إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ» حكم قاطع بأن علم الساعة، وتحديد وقتها، هو من أمر الله وحده، لا يعلمها إلا هو..
وقوله تعالى: «وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ» هو توكيد لعلم الله الشامل الذي يقع فى محيطه كلّ شىء فى هذا الوجود، لا علم الساعة وحده..
فهذه الثمرات التي تخرجها الأرض، هى فى علم الله.. ثمرة ثمرة، بل قبل أن تكون ثمرة.. فهو سبحانه الذي أخرج نبتها من الأرض، وهو سبحانه الذي أطلع من النّبتة هذا الزّهر، وهو سبحانه الذي أخرج من هذا الزهر، الثمر، وأنضجه..
والأكمام جمع كمّ، وهو كأس الزهرة قبل أن تتفتح..
هذا فى عالم النبات، وكذلك الشأن فى عالم الحيوان والإنسان.. فما حملت أنثى حملا، ولا وضعته، إلا والله سبحانه وتعالى عالم بما تحمل كل أنثى، وما تضع من حمل، كما يقول سبحانه فى آية أخرى: «اللَّهُ
(٨: الرعد).
وعلم الله بما تحمل كل أنثى وما تضع من حمل، لا يمنع من أن يعلم الناس من هذا العلم، ما يقع لحواسهم، من حمل الحوامل من إنسان وحيوان..
فعلم الله سبحانه علم قديم، واقع قبل أن يقع الحمل وبعده، وهو علم شامل لكل ذات حمل، ووضع.. على خلاف علم العلماء، فإنه علم حادث بعد أن يقع الحمل، ثم هو علم محدود، لا يقع إلا على ما يكون تحت حواسهم، وهو قليل قليل إلى ما يقع لحواسهم، مما فى عالم البحار، والطير، والوحش، والهوامّ والحشرات.. وغيرها كثير كثير.. فالعلم الشامل الكامل، هو علم الله وحده.
قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي؟ قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» أي ويوم القيامة ينادى الحقّ سبحانه وتعالى هؤلاء المشركين الضالين: أين شركائى الذين كنتم تعبدون من دونى؟ فيخرسون عن الجواب، ويقوم شركاؤهم الذين عبدوهم من دون الله، فينطقون عنهم قائلين: «آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» أي تبرأنا إليك يا الله منهم، من قبل أي فى الدنيا، وليس الآن منّا من شهيد يشهد معهم موقفهم هذا، ويقف إلى جوارهم.. وهذا هو بعض السر فى التعبير بالفعل الماضي:
«قالُوا» بدلا من يقولون، الذي يعبّر به عما يتوقّع..
يقال: آذنه بكذا.. أي أعلمه وأخبره.
قوله تعالى:
«وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ».
أي وغاب عنهم، أي عن هؤلاء العابدين الضالين، ما كانوا يعبدون
والظّنّ هنا بمعنى العلم واليقين.
والمحيص: المفرّ، والخلاص من هذا المأزق.
قوله تعالى:
«لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ».
تشرح هذه الآية والآيات التي بعدها، النفس الإنسانية، وتكشف عن داء الطمع والشّره، وحب الاستكثار من المال والمتاع، المتمكن منها، دون أن يقف بها الأمر عند حدّ القناعة، أو الشبع.. بل إنها كلّما كثر لديها ما تشتهى من مال ومتاع، ازدادت جوعا وطلبا..
كالحوت لا يكفيه شىء يلقمه | يصبح ظمآن وفى البحر فمه |
وسميت هذه المطالب خيرا، لأنها فى أصلها من نعم الله، وهى فى ذاتها خير، ولكنها حين تصبح غاية لا وسيلة، تكون فتنة وبلاء.
والمراد بدعاء الخير، هو طلبه واستدعاؤه، والسّعى الجادّ لتحصيله، لأنّ هذه الأشياء إنما يطلبها الإنسان، لأنها غائبة عنه، فهو يستدعيها إليه، ويهتف بها من أعماقه أن تجيبه، وتدنو منه.
فهذا موقف من لا يؤمن بالله، ولا يحسن الظن به، ولا يعلّق الأمل والرجاء فيه.. إنه يقيس الأمور ويقدّرها، حسب مجرياتها بالنسبة له، وحسب الأسباب التي بين يديه منها، غير ناظر إلى قدرة الله، وإلى تعلق مصائر الأمور بمشيئته..
أما للؤمن الذي يعمر الإيمان بالله قلبه، فإنه إذ يسعى سعيه فى الحياة، يتقبّل فى رضى واستسلام، كلّ ما يقع له من خير أو شر.. فهو مع الخير قانع، راض، شاكر، ومع الضّر صابر، مترقب مواقع رحمة ربه من قريب، لا يبيت فى كل شدة إلا مع أمل، فى رحمة من ربه تكشف هذا الضرّ الذي نزل به.. «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (٨٧: يوسف).
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ».
أي أن هذا الإنسان الذي مسه الضر، فبات يائسا قانطا من رحمة الله- إذا أذاقه الله سبحانه رحمة منه، وكشف عنه الضر الذي مسه، لم يجعل هذا إلى الله سبحانه، ولم يضفه إلى فضله وإلى فضله وإحسانه، بل يزيّن
ثم إذا به بعد أن ألقى بذور الشك فى يوم القيامة، وغرسها فى مشاعره، يعود فيروى هذه البذور بالآمال الكاذبة، والأمانىّ الباطلة، حتى يخيل إليه منها أنها قد استوت على سوقها، ثم أزهرت وأثمرت.. فيحدّث نفسه بهذا الحديث الكاذب: «وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» ! هكذا ينتقل به الضلال، من وهم إلى وهم، ومن خداع إلى خداع، حتى يرد موارد الهلاك!.
«وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» !.
إنه مجرد ظنّ! يحتمل أن تقوم الساعة، أو لا تقوم!.
وماذا لو قامت الساعة!.
إنه لا خوف عليه منها! وماذا يخيفه؟ إن له عند الله فى الآخرة- إن كانت هناك آخرة- مثل ما كان له فى الدنيا أو أكثر!!..
وهكذا يزين الضلال لأهله! وقد أبطل الله سبحانه هذه الأمانى الباطلة، وردّها على أهلها حسرة وندامة،
قوله تعالى:
«وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ».
وهذه صورة من صور الإنسان، ومكره بنعم ربه.. وكفره بإحسانه إليه..
فهذا الإنسان- وله فى الإنسانية أشباه كثيرون- إذا أنعم الله عليه نعمة منه، شغل بالحياة مع هذه النعمة عن الله، ونسى ما لله من حقوق عليه، بل ربما ذهب إلى أبعد من هذا، فاتخذ من هذه النعمة سلاحا يحارب به الله سبحانه، ليفسد فى الأرض، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل..
فإذا مسّ هذا الإنسان ضرّ، عاد إلى الله، يدعوه لجنبه أو قاعدا أو قائما، ويقطع على نفسه العهود والمواثيق، لئن أنجاه الله من هذا البلاء، وكشف عنه هذا الضرّ، ليكونن من المؤمنين الشاكرين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» أي يستكثر من الدعاء والتضرع إلى الله، والإنابة إليه..
إنه لا يذكر الله ولا يعرفه إلّا فى الشدّة.. أما فى الرخاء. فهو معرض عن الله، أو محارب لله..
قوله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ».
وهنا فى هذه الآية يكشف الله سبحانه وتعالى للمشركين عن موقفهم من رسول الله، ومن كتاب الله الذي بين يديه.. فهم فى شك من رسول الله، وفى حيرة من أمرهم فيه، بين التصديق والتكذيب، أشبه بهذه الظنون التي تدور فى رءوس المشركين عن يوم البعث، وقد جاءهم القرآن، وهم على هذا الشعور، يحاسبهم به، ويسفّه منطقهم فيه.
فهم قد وقفوا من الرسول موقف الشك والارتياب، بين التصديق والتكذيب، كما كان ذلك شأنهم مع اليوم الآخر.. فليكن هذا.!
ولكن لماذا يرجّحون جانب التكذيب على جانب التصديق؟ هذا هو الذي لا يقبله منطق! فهل يقبلون مثلا إذا جاءهم من يخبرهم أنه رأى جيشا مغيرا وراء هذا الجبل، يريد الهجوم عليهم- هل يقبلون أن يقيموا أمرهم على الشك، فى هذا الخبر، ولو كان كاذبا من كاذب؟ وهل يقبلون أن يخلو شعورهم من كل حذر وحيطة؟ إن منطق الحياة يدعوهم إلى الأخذ بالأحوط، وإلى أن يعدّوا العدّة كاملة للقاء هذا العدو.. فإن كان هناك عدو، كانوا قد أعدوا العدة للقائه، فلم يبغتهم بخيله ورجله.. وإن لم يكن هناك عدوّ، فلا خسران عليهم فيما فعلوا..
وهنا، إنسان يقول لهم: إنه رسول الله، وإنه يحمل إليهم كتابا من ربهم
وهذا الرسول، إما أن يكون صادقا، أو كاذبا.
فإن هم أقاموا أمرهم معه على أنه صادق، وآمنوا بالله وباليوم الآخر، وأعدّوا العدة للقاء هذا اليوم، فإن كان صادقا حقّا فقد نجوا، وخلصوا بأنفسهم من عذاب هذا اليوم.. وإن كان كاذبا، فما خسروا شيئا.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله جل شأنه، على لسان مؤمن آل فرعون: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» (٢٨: غافر).
وفى هذا المعنى يقول أبو العلاء المعرى.
قال المنجّم والطبيب كلاهما | لا تبعث الأجساد قلت إليكما |
إن صحّ قولكما فلست بخاسر | أو صحّ قولى فالخسار عليكما |
الاسم الموصول «مِنْ» مفعول به لقوله تعالى: «أَرَأَيْتُمْ» أي أعلمتم من أضل منكم، إن كان هذا الرسول من عند الله، ثم كفرتم به؟ ويكون قوله تعالى: «إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ» جملة اعتراضية شرطية، وجواب الشرط محذوف، دلّ عليه السياق.
وقد جىء بهم مع ضمير الغائب بدلا من ضمير المخاطب فى قوله تعالى: «مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» ليروا بأعينهم العبرة فى هذا الذي يعرض عليهم من أهل الشقاق، وهو صورة منتزعة منهم.. وفى هذا ما يدعوهم إلى أن ينظروا فى وجه هذا الغريب. وأن يطيلوا النظر إليه، والحال أنهم إنما ينظرون إلى أنفسهم فى شخصه.
«سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ..»
أي أن هؤلاء المشركين، الذين شكّوا فى رسول الله، وفى آيات الله التي بين يديه- سيريهم الله آياته فى الآفاق البعيدة عنهم، وفى ذات أنفسهم، وستكشف لهم هذه الآيات التي يرونها، أن هذا الرسول حق، وأن الكتاب الذي بين يديه حقّ.
والآيات التي رآها المشركون فى الآفاق وفى أنفسهم كثيرة.. منها هذا المجتمع الجديد الذي قام لدعوة الإسلام فى المدينة، واجتمع فيه المهاجرون والأنصار.. ومنها ازدياد قوة الإسلام، وشوكة المسلمين، يوما بعد يوم.. ومنها انتصار المسلمين يوم بدر وهم قلة، وانتصارهم يوم الخندق بغير حرب.. ومنها جلاء اليهود عن المدينة، وإنزالهم من صياصيهم.. ومنها فتح خيبر.. ثم منها فتح مكة.. ففى هذه الآيات رأى كثير من المشركين أن هذا الدين هو دين الله، وأن الرسول رسول الله، وأن الكتاب كتاب الله، فجاءوا من كل فج يطلبون الإسلام، ويدخلون فى دين الله أفواجا.
وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»
قوله تعالى:
«أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ».
بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وفيها كشف عن الداء الذي يخامر المشركين، ويفسد عليهم رأيهم فى رسول الله، وفيما يدعوهم إليه، وهذا الداء هو إنكارهم للبعث، واستبعادهم إعادة الأجساد بعد أن تصير عظاما ورفاتا..
وفى قوله تعالى: «أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ» إخبار من الله سبحانه وتعالى بما فى نفوس هؤلاء المشركين من أمر البعث من شك وريبة فهم لهذا فى شك من لقاء ربّهم، ومن محاسبتهم ومجازاتهم على ما يعملون فى دنياهم..
وقوله تعالى: «أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ».. تهديد لهؤلاء المشركين بما يلقاهم من شكّهم فى لقاء ربّهم يوم القيامة، حيث يرون أعمالهم، وقد أحصاها الله عليهم، وحاسبهم على كل صغيرة وكبيرة منها.. فالله سبحانه وتعالى محيط بكل شىء علما.
نزولها: مكية.. بإجماع.
عدد آياتها: ثلاث وخمسون آية.
عدد كلماتها: ثمانمائة وست وستون كلمة..
عدد حروفها: ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمان وثمانون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
تكاد سور الحواميم تكون سورة واحدة فى نظمها وفى مضمونها..
فهى جميعها مكية النزول، وقد خلت من القصص، ومن التشريع، وجاءت مساقاتها كلّها فى مواجهة المشركين بشركهم وضلالهم، وتكذيبهم لرسول الله، وشكّهم فى البعث، وفى لقاء ربهم.. ولقد لقيهم القرآن الكريم فى هذه السّور بكل طريق، ودخل على مشاعرهم وتصوراتهم من كل باب، فلم يدع خاطرة تدور فى رءوسهم من خواطر الشكّ والارتياب إلّا كشف لهم عنها، وأراهم باطلها وضلالها.. ثم نصب لهم معالم الهدى، ودعاهم إلى أخذ الطريق القاصد إليه.. وإلا فالنار موعدهم..
وهذه السورة- سورة الشورى- تتصل بسورة فصلت التي سبقتها اتصالا وثيقا، فتعيد على أسماع المشركين عرض تلك القضايا التي عرضتها السورة السابقة من شركهم بالله، وتكذيبهم لرسول الله، وارتيابهم فى البعث، والحساب والجزاء.. وفى هذا العرض المتجدّد، يرى المشركون تلك القضايا، وقد طلعت عليهم بمعاول جديدة، تهدم تلك الجدر المتداعية من بناء معتقداتهم الفاسدة، حتى لتكاد تسقط عليهم، وتدفنهم تحت أنقاضها..