تفسير سورة فصّلت

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
تسمى ﴿ حم السجدة ﴾ بإضافة ﴿ حم ﴾ إلى ﴿ السجدة ﴾ كما قدمناه في أول سورة المؤمن، وبذلك ترجمت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي لأنها تميزت عن السور المفتتحة بحروف ﴿ حم ﴾ بأن فيها سجدة القرآن. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن خليل بن مرة١ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ : تبارك، وحم السجدة٢.
وسميت هذه السورة في كثير من التفاسير ﴿ سورة السجدة ﴾، وهو اختصار قولهم ﴿ حم السجدة ﴾ وليس تمييزا لها بذات السجدة.
وسميت هذه السور في كثير من التفاسير ﴿ سورة فصلت ﴾.
واشتهرت تسميتها في تونس والمغرب ﴿ سورة فصلت ﴾ لوقوع كلمة ﴿ فصلت آياته ﴾ في أولها فعرفت بها تمييزا لها من السور المفتتحة بحروف ﴿ حم ﴾. كما تميزت ﴿ سورة المؤمن ﴾ باسم ﴿ سورة غافر ﴾ عن بقية السور المفتتحة بحروف ﴿ حم ﴾.
وقال الكواشي : وتسمى ﴿ سورة المصابيح ﴾ لقوله تعالى فيها ﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ﴾، وتسمى ﴿ سورة الأقوات ﴾ لقوله تعالى ﴿ وقدر فيها أقواتها ﴾.
وقال الكواشي في التبصيرة : تسمى ﴿ سجدة المؤمن ﴾ ووجه هذه التسمية قصد تمييزها عن سورة ﴿ الم السجدة ﴾ المسماة ﴿ سورة المضاجع ﴾ فأضافوا هذه إلى السورة التي قبلها وهي ﴿ سورة المؤمن ﴾، كما ميزوا ﴿ سورة المضاجع ﴾ باسم ﴿ سجدة لقمان ﴾ لأنها واقعة بعد ﴿ سورة لقمان ﴾.
وهي مكية بالاتفاق نزلت بعد ﴿ سورة غافر ﴾ وقبل ﴿ سورة الزخرف ﴾، وعدت الحادية والستين في ترتيب نزول السور.
وعدت آيها عند المدينة وأهل مكة ثلاثا وخمسين، وعند أهل الشام والبصرة اثنتين وخمسين، وعند أهل الكوفة أربع وخمسين.
أغراضها
التنويه بالقرآن والإشارة إلى عجزهم عن معارضته.
وذكر هديه، وأنه معصوم من أن يتطرقه الباطل، وتأييده بما أنول إلى الرسل من قبل الإسلام.
وتلقى المشركين له بالإعراض وصم الآذان.
وإبطال مطاعن المشركين فيه وتذكيرهم بأن القرآن نزل بلغتهم فلا عذر لهم أصلا في عدم انتفاعهم بهديه.
وزجر المشركين وتوبيخهم على كفرهم بخالق السماوات والأرض مع بيان ما في خلقها من الدلائل على تفرده بالإلهية.
وإنذارهم بما حل بالأمم المكذبة من عذاب الدنيا.
ووعيدهم بعذاب الآخرة وشهادة سمعهم وأبصارهم وأجسادهم عليهم.
وتحذيرهم من القرناء المزينين لهم الكفر من الشياطين والناس وأنهم سيندمون يوم القيامة على اتباعهم في الدنيا.
وقوبل ذلك بما للموحدين من الكرامة عند الله.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفعهم بالتي هي أحسن وبالصبر على جفوتهم وأن يستعيذ بالله من الشيطان.
وذكرت دلائل تفرد الله بخلق المخلوقات العظيمة كالشمس والقمر.
ودلائل إمكان البعث وأنه واقع لا محالة ولا يعلم وقته إلا الله تعالى.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بتأييد الله إياهم بتنزل الملائكة بالوحي، وبالبشارة للمؤمنين.
وتخلل ذلك أمثال مختلفة في ابتداء خلق العوالم وعبر في تقلبات أهل الشرك. والتنويه بإيتاء الزكاة.
١ - هو خليل بن مرة الضبعي ( بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة) البصري الرقي، روى عن عطاء وقتادة، وروى عنه الليث وابن وهب وأحمد بن حنبل. قال البخاري: هو منكر الحديث توفي سنة ستين ومائة..
٢ - المعروف هو حديث الترمذي عن جابر: " كان رسول الله لا ينام حتى يقرأ: آلم تنزيلـ وتبارك الذي بيده الملك" ولا منافاة بين الحديثين..

وَقُوبِلَ ذَلِكَ بِمَا لِلْمُوَحِّدِينَ مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ.
وَأمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَفْعِهِمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَبِالصَّبْرِ عَلَى جَفْوَتِهِمْ وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَذَكَرَتْ دَلَائِلَ تَفَرُّدِ اللَّهَ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَدَلَائِلَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وتثبيت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِتَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ بِالْوَحْيِ، وَبِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ أَمْثَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ وَعِبَرٌ فِي تَقَلُّبَاتِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّنْوِيهُ بإيتاء الزَّكَاة.
[١]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١)
الْقَوْلُ فِي الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فَاتِحَةَ هَذِهِ السُّورَةِ كَالْقَوْلِ فِي الم.
[٢- ٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٢ إِلَى ٤]
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤)
افْتُتِحَ الْكَلَامُ بِاسْمٍ نَكِرَةٍ لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلٌ
مُبْتَدَأٌ سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فَكَانَتْ بِذَلِكَ كَالْمَوْصُوفَةِ وَقَوْلُهُ:
مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: كِتابٌ بَدَلٌ مِنْ تَنْزِيلٌ فَحَصَلَ مِنَ الْمَعْنَى:
أَنَّ التَّنْزِيلَ مِنَ اللَّهِ كِتَابٌ، وَأَنَّ صِفَتَهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ، مَوْسُومًا بِكَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْقُرْآنَ منزّل من الرحمان الرَّحِيمِ مُفَصَّلًا عَرَبِيًّا.
229
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْمُبْتَدَأِ وَتَجْعَلَ قَوْلَهُ: كِتابٌ خَبَرَ الْمُبْتَدَأ، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ هُوَ أُسْلُوبٌ فَخْمٌ وَقَدْ مَضَى مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: ١، ٢].
وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ مُنَزَّلٌ، فَالْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشُّعَرَاء: ١٩٢، ١٩٣] وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ فَعَلَ اللَّهُ تَنْزِيلَهُ، تَحْقِيقًا لِكَوْنِهِ مُوحًى بِهِ وَلَيْسَ مَنْقُولًا مِنْ صُحُفِ الْأَوَّلِينَ. وَتَنْكِيرُ تَنْزِيلٌ وكِتابٌ لِإِفَادَةِ التَّعْظِيمِ.
وَالْكِتَابُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ حُرُوفٍ دَالَّةٍ عَلَى أَلْفَاظٍ مُفِيدَةٍ وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ كِتَابًا لِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى بِأَلْفَاظِهِ وَأمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكْتُبَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ اتخذ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتَّابًا يَكْتُبُونَ لَهُ كُلَّ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَإِيثَارُ الصِّفَتَيْنِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّنْزِيلَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ لِيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: ١٥٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٧] وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:
٥١].
وَالْجَمْعُ بَيْنَ صِفَتَيِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مُتَعَلِّقَهَا مُنْتَشِرٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَالْبَسْمَلَةِ. وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى اسْتِحْمَاقِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَذَا الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ رَحْمَةٍ، وَأَنَّ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ هُمْ أَهْلُ الْمَرْحَمَةِ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت: ٤٤].
وَمَعْنَى: فُصِّلَتْ آياتُهُ بُيِّنَتْ، وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ وَالْإِخْلَاءُ مِنَ الِالْتِبَاسِ.
230
وَالْمُرَادُ:
أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَاضِحَةُ الْأَغْرَاضِ لَا تَلْتَبِسُ إِلَّا عَلَى مُكَابِرٍ فِي دَلَالَةِ كُلِّ آيَةٍ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَفِي مَوَاقِعِهَا وَتَمْيِيزِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ فُنُونِ الْمَعَانِي الَّتِي تَشْتَمِلُ
عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي طَالِعَةِ سُورَةِ هُودٍ.
وَمِنْ كَمَالِ تَفْصِيلِهِ أَنَّهُ كَانَ بِلُغَةٍ كَثِيرَةِ الْمَعَانِي، وَاسِعَةِ الْأَفْنَانِ، فَصِيحَةِ الْأَلْفَاظِ، فَكَانَتْ سَالِمَةً مِنَ الْتِبَاسِ الدَّلَالَةِ، وَانْغِلَاقِ الْأَلْفَاظِ، مَعَ وَفْرَةِ الْمَعَانِي غَيْرِ الْمُتَنَافِيَةِ فِي قِلَّةِ التَّرَاكِيبِ، فَكَانَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالتَّفْصِيلِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَقَوْلِهِ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ١٩٥] وَلِهَذَا فُرِّعَ عَلَيْهِ ذَمُّ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِ هُنَا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَوْلُهُ هُنَالِكَ: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [الشُّعَرَاء:
٢٠٠، ٢٠١].
وَالْقُرْآنُ: الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ الْمَتْلُوُّ. وَكَوْنُهُ قُرْآنًا مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ سَهْلُ الْحِفْظِ، سَهْلُ التِّلَاوَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَر: ٢٢] وَلِذَلِكَ كَانَ شَأْن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِفْظَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَكَانَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْهِمَمِ وَالْمُكْنَاتِ، وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ إِلَى تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَكَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يُقَدِّمُ فِي لَحْدِ شُهَدَائِهِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلِ حِفْظِ الْقُرْآنِ زِيَادَةً عَلَى فَضْلِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ.
وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى النَّعْتِ الْمَقْطُوعِ لِلِاخْتِصَاصِ بِالْمَدْحِ وَإِلَّا لَكَانَ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَالِثٌ أَوْ صِفَةٌ لِلْخَبَرِ الثَّانِي، فَقَوْلُهُ: قُرْآناً مَقْصُودٌ بِالذِّكْرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ عَرَبِيٌّ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٩٥] بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ.
وَقَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ صِفَةٌ لِ قُرْآناً ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، أَيْ كَائِنًا لِقَوْمٍ
231
يَعْلَمُونَ بِاعْتِبَارِ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: قُرْآناً عَرَبِيًّا مِنْ مَعْنَى وُضُوحِ الدَّلَالَةِ وَسُطُوعِ الْحُجَّةِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بِقَوْلِهِ: تَنْزِيلٌ أَوْ بِقَوْلِهِ: فُصِّلَتْ آياتُهُ على معنى أَن فَوَائِدِ تَنْزِيلِهِ وَتَفْصِيلِهِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُنْزَلْ إِلَّا لَهُمْ، أَيْ فَلَا بِدْعَ إِذَا أَعْرَضَ عَنْ فَهْمِهِ الْمُعَانِدُونَ فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: ١٠١] وَقَوْلُهُ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يُوسُف: ٢] وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: ٤٩].
وَالْبَشِيرُ: اسْمٌ لِلْمُبَشِّرِ وَهُوَ الْمُخْبِرُ بِخَبَرٍ يَسُرُّ الْمُخْبَرَ. وَالنَّذِيرُ: الْمُخْبِرُ بِأَمْرٍ مُخَوِّفٍ، شَبَّهَ الْقُرْآنَ بِالْبَشِيرِ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَشِّرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَبِالنَّذِيرِ فِيمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لِلْكَافِرِينَ وَأَهْلِ الْمَعَاصِي، فَالْكَلَامُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَلَيْسَ: بَشِيراً أَوْ نَذِيراً اسْمَيْ فَاعِلٍ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ: مُبَشِّرًا وَمُنْذِرًا.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ: بَشِيراً ونَذِيراً مِنْ قَبِيلِ محسن الطّباق. وانتصب بَشِيراً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ كِتابٌ أَوْ صِفَةٌ لِ قُرْآناً، وَصِفَةُ الْحَالِ فِي مَعْنَى الْحَالِ، فَالْأَوْلَى كَوْنُهُ حَالًا ثَانِيَةً.
وَجِيءَ بِقَوْلِهِ: نَذِيراً مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ مَوْقِعِ كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ فَهُوَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَنَذِيرٌ لِآخَرِينَ، وَهُمُ الْمُعْرِضُونَ عَنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ جَامِعًا بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ لِطَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْوَاوُ هُنَا كَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيم: ٥] بَعْدَ قَوْلِهِ: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ [التَّحْرِيم: ٥].
وَتَفْرِيعُ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ. وَضَمِيرُ أَكْثَرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَالْمَعْنَى:
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ عَمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهُدَى فَلَمْ يَهْتَدُوا، وَمِنَ الْبِشَارَةِ فَلَمْ يُعْنَوْا بِهَا، وَمِنَ النِّذَارَةِ فَلَمْ يَحْذَرُوهَا، فَكَانُوا فِي أَشَدِّ الْحَمَاقَةِ، إِذْ لَمْ
232
يُعْنَوْا بِخَيْرٍ، وَلَا حَذِرُوا الشَّرَّ، فَلَمْ يَأْخُذُوا بِالْحِيطَةِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَيْسَ عَائِدًا لقوم يَعْلَمُونَ لِأَنَّ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ لَا يُعْرِضُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى الْإِعْرَاضِ، أَيْ فَهُمْ لَا يُلْقُونَ أَسْمَاعَهُمْ لِلْقُرْآنِ فَضْلًا عَنْ تَدَبُّرِهِ، وَهَذَا إِجْمَالٌ لِإِعْرَاضِهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَلَا يَسْمَعُونَ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الحكم وتأكيده.
[٥]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٥]
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥)
عَطْفُ وَقالُوا على فَأَعْرَضَ [فصلت: ٤] أَوْ حَالٌ من أَكْثَرُهُمْ [فصلت:
٤] أَوْ عَطْفٌ عَلَى لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: ٤]، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا مُصَرِّحِينَ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ وَبِالِانْتِصَابِ لِلْجَفَاءِ وَالْعَدَاءِ. وَهَذَا تَفْصِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ عَمَّا
وُصِفَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُقَرِّبَهُمْ إِلَى تَلَقِّيهِ لَا أَنْ يَبْعُدُوا وَيُعْرِضُوا وَقَدْ جَاءَ بِالتَّفْصِيلِ بِأَقْوَالِهِمُ الَّتِي حَرَمَتْهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ وَاحِدًا وَاحِدًا كَمَا سَتَعْلَمُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْقُلُوبِ: الْعُقُولُ، حُكِيَ بِمُصْطَلَحِ كَلَامِهِمْ قَوْلُهُمْ إِذْ يُطْلِقُونَ الْقَلْبَ عَلَى الْعَقْلِ.
وَالْأَكِنَّةُ: جَمْعُ كِنَانٍ مِثْلُ: غِطَاءٍ وَأَغْطِيَةٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، أُثْبِتَتْ لِقُلُوبِهِمْ أَغْطِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ، وَشُبِّهَتِ الْقُلُوبُ بِالْأَشْيَاءِ الْمُغَطَّاةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ حَيْلُولَةُ وَصُولِ الدَّعْوَةِ إِلَى عُقُولِهِمْ كَمَا يَحُولُ الْغِطَاءُ وَالْغِلَافُ دُونَ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَهُ.
وَمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَعُمُّ كُلَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْمَدْلُولَاتِ وَأَدِلَّتِهَا، وَمِنْهَا دَلَالَةُ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ دَلَالَةِ أُميَّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: ٤٨].
233
وَجُعِلَتِ الْقُلُوبُ فِي أَكِنَّةٍ لِإِفَادَةِ حَرْفٍ فِي مَعْنَى إِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ.
وَكَذَلِكَ جُعِلَ الْوَقْرُ فِي الْقُلُوبِ لِإِفَادَةِ تَغَلْغُلِهِ فِي إدراكهم.
و (من) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ بِمَعْنَى (عَنْ) مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: ٢٢] وَقَوْلِهِ: قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [الْأَنْبِيَاء: ٩٧]، وَالْمَعْنَى: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ فَهِيَ بَعِيدَةٌ عَمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهَا.
وَالْوَقْرُ بِفَتْحِ الْوَاوِ: ثِقَلُ السَّمْعِ وَهُوَ الصَّمَمُ، وَكَأَنَّ اللُّغَةَ أَخَذَتْهُ مِنَ الْوِقْرِ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْحِمْلُ لِأَنَّهُ يُثْقِلُ الدَّابَّةَ عَنِ التَّحَرُّكِ، فَأَطْلَقُوهُ عَلَى عَدَمِ تَحَرُّكِ السَّمْعِ عِنْدَ قَرْعِ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ فَفَتَحُوا لَهُ الْوَاوَ تَفْرِقَةً بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْعَضِّ الْحَقِيقِيِّ وَعَظِّ الدَّهْرِ بِأَنْ صَيَّرُوا ضَادَهُ ظَاءً. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَكِنَّةِ وَالْوَقْرِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فِي الْأَنْعَامِ [٢٥] وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٦].
وَالْحِجَابُ: السَّاتِرُ لِلْمَرْئِيِّ مِنْ حَائِطٍ أَوْ ثَوْبٍ. أَطْلَقُوا اسْمَ الْحِجَابِ عَلَى مَا يَمْنَعُ نُفُوسَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِالدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرَاهِيَةِ دِينِهِ وَتَجَافِي تَقَلُّدِهِ بِجَامِعِ أَنَّ الْحِجَابَ يَحُولُ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ فَلَا يَنْظُرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَمُرَادُهُمُ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ. مَثَّلَ نُبُوَّ قُلُوبِهِمْ عَنْ تَقَبُّلِ الْإِسْلَامِ وَاعْتِقَادِهِ بِحَالِ مَا هُوَ فِي أَكِنَّةٍ، وَعَدَمَ تَأَثُّرِ أَسْمَاعِهِمْ بِدَعْوَتِهِ بِصُمِّ الْآذَانِ، وَعَدَمَ التَّقَارُبِ بَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ بِالْحِجَابِ
الْمَمْدُودِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلَا تَلَاقِيَ وَلَا تَرَائِيَ.
وَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ فِي التَّمْثِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
وَاجْتِلَابُ حَرْفِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ لِتَقْوِيَةِ مَعْنَى الْحِجَابِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَتَمَكُّنِ لَازِمِهِ الَّذِي هُوَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ لِأَنَّ مِنْ هَذِهِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ.
234
وَضَمِيرُ بَيْنِنا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضمير أَكْثَرُهُمْ [فصلت: ٤].
وَعَطْفُ وَبَيْنِكَ تَأْكِيدٌ لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ مُغْنِيَةٌ عَنْهُ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ (بَيْنَ) أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ مِثْلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: ٣٨].
وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ (مِنْ) الدَّاخِلَةَ عَلَى (قَبْلُ) وَ (بَعْدُ) زَائِدَةً فَيَكُونُ (بَيْنَ) مَقِيسًا عَلَى (قَبْلُ) وَ (بَعْدُ) لِأَنَّ الْجَمِيعَ ظُرُوفٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِ قالُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ حَكَاهُ عَنْهُمْ بِالْمَعْنَى، فَجَمَعَ الْقُرْآنُ بِإِيجَازِهِ وَبَلَاغَتِهِ مَا أَطَالُوا بِهِ الْجِدَالَ وَأَطْنَبُوا فِي اللَّجَاجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَكَاهُ بِلَفْظِهِمْ فَيَكُونُ مِمَّا قَالَه أحد بلغائهم فِي مَجَامِعِهِمُ الَّتِي جَمَعَتْ بَيْنَهُمْ وَبَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَا فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ قَالُوهُ اسْتِهْزَاءً وَأَنَّ اللَّهَ حَكَاهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا تَلَقَّفُوهُ مِمَّا سَمِعُوهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَصْفِ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَتَبَاعُدِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٦]، فَإِنَّ سُورَةَ الْإِسْرَاءِ مَعْدُودَةٌ فِي النُّزُولِ قَبْلَ سُورَةِ فُصِّلَتْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٥] أَيْضًا، فَجَمَعُوا ذَلِكَ وَجَادَلُوا بِهِ الرَّسُولَ. فَيَكُونُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ قَدِ اقْتَبَسُوهُ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى. قِيلَ: إِنَّ قَائِلَهُ أَبُو جَهْلٍ فِي مَجْمَعٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلِذَلِكَ أَسْنَدَ الْقَوْلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُمْ مُشَائِعُونَ لَهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ مَا فِيهِ تَفْصِيلُ مَا يُقَابِلُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ وَهِيَ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [فصلت: ٢، ٣]، فَإِنَّ كَوْنَهُ تَنْزِيلا من الرحمان الرَّحِيمِ يَسْتَدْعِي تَفَهُّمَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِمَا فِيهِ، فَقُوبِلَ بِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَكَوْنُهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ يَسْتَدْعِي تَلَقِّيَهَا وَالِاسْتِمَاعَ إِلَيْهَا فَقُوبِلَ بِقَوْلِهِمْ:
فِي آذانِنا وَقْرٌ، أَيْ فَلَا نَسْمَعُ تَفْصِيلَهُ، وَكَوْنُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا أَشَدُّ إِلْزَامًا لَهُمْ بِفَهْمِهِ فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الْحُجَّةَ
235
وَهُوَ مِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ أَيْ فَلَا يَصِلُ كَلَامُهُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَتَطَرَّقُ جَانِبَهُمْ، فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُمْ: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى تَأْيِيسِهِمُ الرَّسُولَ مِنْ قَبُولِهِمْ دَعْوَتَهُ وَجَعَلَ قَوْلَهُمْ هَذَا مُقَابِلَ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ لِظُهُورِ أَنَّهُ تَعَيَّنَ كَوْنُهُ نَذِيرًا لَهُمْ بِعَذَابٍ عَظِيمٍ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا فَحُكِيَ مَا فِيهِ تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّهُم لَا يعبأون بِنِذَارَتِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَذًى فَلْيُؤْذِهِمْ بِهِ وَهَذَا كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ».
وَحَذَفَ مَفْعُولَا (اعْمَلْ) وعامِلُونَ لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ كُلٌّ مَعَ الْآخَرِ مَا يُنَاسِبُهُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْمَلْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْوِيَة كَقَوْلِه عَنْتَرَةَ بْنِ الْأَخْرَسِ الْمَعْنِيِّ:
أَطِلْ حَمْلَ الشَّنَاءَةِ لِي وَبُغْضِي وَعِشْ مَا شِئْتَ فَانْظُرْ مَنْ تُضِيرُ
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت: ٤٠].
وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّنا عامِلُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ.
[٦، ٧]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٦ الى ٧]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧)
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ هُوَ تلقين الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ قَوْلَهُمْ: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: ٥] الْمُفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: ٥] إِلَى آخِرِهِ جَوَابُ الْمُتَبَرِّئِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَوْلٌ وَقُوَّةٌ لِيَعْمَلَ فِي إِلْجَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ لِمَا أَبَوْهُ إِذْ مَا هُوَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ لَا حَوْلَ لَهُ عَلَى تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ الضَّالَّةِ، إِلَى الْهُدَى، وَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ. وَهَذَا الْخَبَرُ يُفِيدُ كِنَايَةً عَنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ فِي الْعَمَلِ
236
بِجَزَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَمَاذَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعْمَلَ مَعَكُمْ فَإِنِّي رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ فَحِسَابُكُمْ عَلَى اللَّهِ.
فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تُفِيدُ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ أَنَا مَقْصُورٌ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ دُونَ التَّصَرُّفِ فِي قُلُوبِ النَّاس. وبيّن مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَتَلَقَّفُوا قَوْلَهُ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَلَقُّفَ مَنْ حَصَلَ عَلَى اعْتِرَافِ خَصْمِهِ بِنُهُوضِ حُجَّتِهِ بِمَا يُثْبِتُ الْفَارِقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَهُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ يُوحى إِلَيَّ وَذَلِكَ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ إِبْطَالَ زَعْمِهِمُ الْمَشْهُورِ الْمُكَرَّرِ أَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا مَانِعٌ مِنْ إِرْسَالِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لقَولهم:
مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً
[الْفرْقَان: ٧]، وَنَحْوَهُ مِمَّا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ. وَمِثْلُ هَذَا الِاحْتِرَاسِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لِرُسُلِهِمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: ١٠، ١١].
وَحِرْصًا عَلَى إِبْلَاغِ الْإِرْشَادِ إِلَيْهِمْ بَيَّنَ لَهُ مَا يُوحَى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إِعَادَةً لِمَا أَبْلَغَهُمْ إِيَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، شَأْنَ الْقَائِمِ بِهَدْيِ النَّاسِ أَنْ لَا يُغَادِرَ فُرْصَةً لِإِبْلَاغِهِمُ الْحَقَّ إِلَّا انْتَهَزَهَا. وَنَظِيرُهُ مَا جَاءَ فِي مُحَاوَرَةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٣- ٢٨].
وإِنَّما مَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ أُخْتُ إِنَّما الْمَكْسُورَةِ وَإِنَّمَا تُفْتَحُ هَمْزَتُهَا إِذَا وَقَعَتْ مَعْمُولَةً لِمَا قَبْلَهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا تُفْتَحُ هَمْزَةُ (أَنَّ) وَتُكْسَرُ هَمْزَةُ (إِنَّ) لِأَنَّ إِنَّمَا أَوْ (أَنَّمَا) مُرَكَّبَانِ مِنْ (إِنَّ) أَوْ (أَنَّ) مَعَ (مَا) الْكَافَّةِ الزَّائِدَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى (مَا) وَ (إِلَّا) حَتَّى ذَهَبَ وَهَلُ بَعْضِهِمْ أَنَّ (مَا) الَّتِي مَعَهَا هِيَ النَّافِيَةُ اغْتِرَارًا بِأَنَّ مَعْنَى الْقَصْرِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ لِلْمَذْكُورِ وَنَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ مِثْلَ (مَا) وَ (إِلَّا) وَلَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي كَوْنِ أَنَّمَا الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ مُفِيدَةً الْقَصْرَ
237
مِثْلَ أُخْتِهَا الْمَكْسُورَةِ الْهُمَزَةِ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا رَدَّهُ أَبُو حَيَّانَ عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ مُجَازَفَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [١٠٨].
فَقَوْلُهُ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إِدْمَاجٌ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ فِي خِلَالِ الْجَوَابِ حِرْصًا عَلَى الْهَدْيِ.
وَكَذَلِكَ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ فَإِنَّهُ إِتْمَامٌ لِذَلِكَ الْإِدْمَاجِ بِتَفْرِيعِ فَائِدَتِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ إِثْبَاتَ أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ إِنَّمَا يَقْصِدُ مِنْهُ إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ وَنَبْذَ الشِّرْكِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَوْجِيهِ ارْتِبَاطِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ بِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: ٥] إِلَخْ.
وَمَوْقِعُ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلِ يُوحى إِلَيَّ، أَيْ يُوحَى إِلَيَّ مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَهُوَ حَصْرُ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنَّهُ وَاحِدٌ، أَيْ دُونَ شَرِيكٍ.
وَمُمَاثَلَتُهُ لَهُمْ: الْمُمَاثَلَةُ فِي الْبَشَرِيَّةِ فَتُفِيدُ تَأْكِيدَ كَوْنِهِ بَشَرًا.
وَالِاسْتِقَامَةُ: كَوْنُ الشَّيْءِ قَوِيمًا، أَيْ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ وَتُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا خَالِصًا لَيْسَتْ فِيهِ شَائِبَةُ تَمْوِيهٍ وَلَا بَاطِلٍ. وَعَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ صَادِقًا فِي مُعَامَلَتِهِ أَوْ عَهْدِهِ غَيْرَ خَالِطٍ بِهِ شَيْئًا مِنَ الْحِيلَةِ أَوِ الْخِيَانَةِ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ رَجُلٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ صَادِقُ الْخُلُقِ، وَإِنْ أُرِيدَ صِدْقُهُ مَعَ غَيْرِهِ يُقَالُ: اسْتَقَامَ لَهُ، أَيِ اسْتَقَامَ لِأَجْلِهِ، أَيْ لِأَجْلِ مُعَامَلَتِهِ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التَّوْبَة: ٧] وَالِاسْتِقَامَةُ هُنَا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) لِأَنَّهَا كَثِيرًا مَا تُعَاقِبُ اللَّامَ، يُقَالُ: ذَهَبَتْ لَهُ وَذَهَبَتْ إِلَيْهِ، وَالْأَحْسَنُ أَنَّ إِيثَارَ (إِلَى) هُنَا لِتَضْمِينِ (اسْتَقِيمُوا) مَعْنَى: تَوَجَّهُوا، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ تَوَجُّهٌ، أَيْ صَرْفُ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ٧٩]، أَوْ ضُمِّنَ (اسْتَقِيمُوا) مَعْنَى: أَنِيبُوا، أَيْ تُوبُوا مِنَ الشِّرْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَطْفُ وَاسْتَغْفِرُوهُ.
238
وَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ الْعَفْوِ عَمَّا فَرَطَ مِنْ ذَنْبٍ أَوْ عِصْيَانٍ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْغَفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ.
وَالْمَعْنَى: فَأَخْلِصُوا إِلَى اللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ غَيْرَهُ وَاسْأَلُوا مِنْهُ الصَّفْحَ عَمَّا فَرَطَ مِنْكُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ.
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) وَعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِسُوءِ الْحَالِ وَالشَّقَاءِ فِي الْآخِرَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُعْتَرِضًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ وَجُمْلَة قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ [فصلت: ٩] أَيْ أَجِبْهُمْ بِقَوْلِكَ: أَنا بشر مثلك يُوحَى إِلَيَّ وَنَحْنُ أَعْتَدْنَا لَهُمُ الْوَيْلَ وَالشَّقَاءَ إِنْ لَمْ يَقْبَلُوا مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَيُسْتَفَادُ تَعْلِيقُ الْوَعِيدِ عَلَى اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْوَيْلِ بِكَوْنِهِ ثَابِتًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمَوْصُوفِينَ بِالَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَبِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِالْبَعْثِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ يُؤْذِنُ بِعَلِيَّةِ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ، وَلِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُؤْذِنُ بِالْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. فَأَمَّا كَوْنُ الشِّرْكِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ مُوجِبَيْنِ لِلْوَيْلِ
فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُ عَدَمِ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ مُوجِبًا لِلْوَيْلِ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ مَا قَارَنَ الْإِشْرَاكَ وَإِنْكَارَ الْبَعْثِ مِنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ، فَذِكْرُ ذَلِكَ هُنَا لِتَشْوِيهِ كُفْرِهِمْ وَتَفْظِيعِ شِرْكِهِمْ وَكُفْرَانِهِمْ بِالْبَعْثِ بِأَنَّهُمَا يَدْعُوَانِهِمْ إِلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ، أَيْ إِلَى الْقَسْوَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الضُّعَفَاءِ وَإِلَى الشُّحِّ بِالْمَالِ وَكَفَى بِذَلِكَ تَشْوِيهًا فِي حُكْمِ الْأَخْلَاقِ وَحُكْمِ الْعُرْفِ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ يَتَعَيَّرُونَ بِاللُّؤْمِ، وَلَكِنَّهُمْ يَبْذُلُونَ الْمَالَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ وَيَحْرِمُونَ مِنْهُ مُسْتَحِقِّيهِ.
239
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْوَيْلِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الْمُشْرِكُونَ لِمَنْعِهِمُ الزَّكَاةَ فِي ضِمْنِ شِرْكِهِمْ، وَلِذَلِكَ رَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ، وَوَافَقَهُ جَمِيعُ أَصْحَاب رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ف الزَّكاةَ فِي الْآيَةِ هِيَ الصَّدَقَةُ لِوُقُوعِهَا مَفْعُولَ يُؤْتُونَ، وَلَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ زَكَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ الصَّدَقَةِ دُونَ تَعْيِينِ نُصُبِ وَلَا أَصْنَافِ الْأَرْزَاقِ الْمُزَكَّاةِ، وَكَانَتِ الصَّدَقَةُ مَفْرُوضَةً عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلِبَعْضِ الصَّدَقَةِ مِيقَاتٌ وَهِيَ الصَّدَقَةُ قَبْلَ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:
١٢].
وَجُمْلَةُ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُؤْتُونَ وَإِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ. وَضَمِيرُ هُمْ كافِرُونَ ضَمِيرُ فَصْلٍ لَا يُفِيدُ هُنَا إِلَّا تَوْكِيدَ الْحُكْمِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُنَا تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لَا ضَمِيرَ فَصْلٍ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٣٧]، وَقَوْلُهُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ فِي سُورَةِ طه [١٤].
وَتَقْدِيمُ بِالْآخِرَةِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ كافِرُونَ لإِفَادَة الاهتمام.
[٨]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنِ الْوَعِيدِ الَّذِي تُوُعِّدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِالِاسْتِقَامَةِ إِلَى اللَّهِ وَاسْتِغْفَارِهِ عَمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ، كَأَنَّ سَائِلًا يَقُولُ: فَإِنِ اتَّعَظُوا وَارْتَدَعُوا فَمَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ، فَأُفِيدَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَكُونُونَ مِنْ زُمْرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَتَقْدِيمُ لَهُمْ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ.
وَالْأَجْرُ: الْجَزَاءُ النَّافِعُ، عَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، أَوْ هُوَ مَا يُعْطَوْنَهُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ.
وَالْمَمْنُونُ: مَفْعُولٌ مِنَ الْمَنِّ، وَهُوَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِهَا، وَالتَّقْدِيرُ غَيْرُ مَمْنُونٍ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ أُعْطُوهُ شُكْرًا لَهُمْ عَلَى مَا أَسْلَفُوهُ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ، يَعْنِي: أَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ تُرَافِقُهُ الْكَرَامَةُ وَالثَّنَاءُ فَلَا يُحِسُّونَ بِخَجَلِ الْعَطَاءِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: ٢٦٤]، فَأَجْرُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ لَهُمُ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُمْ أَحَدٌ وَذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
غُضْفٌ كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا أَيْ تَأْخُذُ طَعَامَهَا بِأَنْفُسِهَا فَلَا مِنَّةَ لأحد عَلَيْهَا.
[٩]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٩]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩)
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُ بَشَرٌ يُوحَى إِلَيْهِ فَمَا يَمْلِكُ إِلْجَاءَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَمَرَهُ عَقِبَ ذَلِكَ بِمُعَاوَدَةِ إِرْشَادِهِمْ إِلَى الْحَقِّ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، مُدْمِجًا فِي ذَلِكَ تَذْكِيرَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ، بِطَرِيقَةِ التَّوْبِيخِ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِهِ فِي حِينِ وُضُوحِ الدَّلَائِلِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَاتِّصَافِهِ بِتَمَامِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ.
فَجُمْلَةُ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ ثَانٍ هُوَ جَوَابٌ ثَانٍ عَنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: ٥].
وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْمُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّوْبِيخِ فَقَوْلُهُ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ.
وَفِي الِافْتِتَاحِ بِالِاسْتِفْهَامِ وَحَرْفَيِ التَّوْكِيدِ تَشْوِيقٌ لِتَلَقِّي مَا بَعْدَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ
241
عَلَى أَنَّ أَمْرًا مُهِمًّا سَيُلْقَى إِلَيْهِمْ، وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ أَوِ التَّعْجِيبِيِّ اسْتِعْمَالٌ وَارِدٌ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، لِيَكُونَ الْإِنْكَارُ لِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ، وَهُوَ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وَعَلَى تَجَاهُلِهِمُ الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ وَبَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْإِفْرَادِ بِالْعِبَادَةِ فَأُعْلِمُوا بِتَوْكِيدِ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ، وَبِتَوْبِيخِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَالتَّوْبِيخُ الْمُفَادُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ مُسَلَّطٌ عَلَى تَحْقِيقِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْبَلَاغَةِ بِالْمَكَانَةِ الْعُلْيَا، وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيدُ مُسَلَّطًا عَلَى التَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ قَلْبٌ لِنِظَامِ الْكَلَامِ.
وَمَجِيءُ فِعْلِ «تَكْفُرُونَ» بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ أَنَّ تَجَدُّدَ كُفْرِهِمْ يَوْمًا فَيَوْمًا مَعَ سُطُوعِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِقْلَاعَ عَنْهُ أَمْرٌ أَحَقُّ بِالتَّوْبِيخِ. وَمَعْنَى الْكُفْرِ بِهِ الْكُفْرُ بِانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلَمَّا أَشْرَكُوا مَعَهُ آلِهَةً كَانُوا وَاقِعِينَ فِي إِبْطَالِ إِلَهِيَّتِهِ لِأَنَّ التَّعَدُّدَ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَهُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا صِفَاتِ ذَاتِهِ فَقَدْ تَصَوَّرُوهُ عَلَى غَيْرِ كُنْهِهِ.
وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال بَيَان ابْتِدَاء خَلْقِ هَذِهِ الْعَوَالِمِ، فَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهَا فَهُوَ إِدْمَاجٌ.
والْأَرْضَ: هِيَ الْكُرَةُ الْأَرْضِيَّةُ بِمَا فِيهَا مِنْ يَابِسٍ وَبِحَارٍ، أَيْ خَلْقُ جِرْمِهَا.
وَالْيَوْمَانِ: تَثْنِيَةُ يَوْمٍ، وَهُوَ الْحِصَّةُ الَّتِي بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَطُلُوعِهَا ثَانِيَةً.
وَالْمُرَادُ: فِي مُدَّةِ تَسَاوِي يَوْمَيْنِ مِمَّا عَرَفَهُ النَّاسُ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّ النُّور والظلمة اللَّذَان يُقَدَّرُ الْيَوْمُ بِظُهُورِهِمَا عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَظْهَرَا إِلَّا بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ بِذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّ آثَارَهُ أَظْهَرُ لِلْعِيَانِ وَهِيَ فِي مُتَنَاوَلِ الْإِنْسَانِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ الْأَرْضِ أَسْبَقَ نُهُوضًا. وَلِأَنَّ النِّعْمَةَ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْأَرْضُ أَقْوَى وَأَعَمُّ فَيَظْهَرُ قُبْحُ الْكُفْرَانِ بِخَالِقِهَا أَوْضَحَ وَأَشْنَعَ.
وَعَطْفُ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً عَلَى لَتَكْفُرُونَ تَفْسِيرٌ لِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ. وَكَانَ
242
مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنَّ فِي التَّفْسِيرِ لَا يُعْطَفُ فَعَدَلَ إِلَى عَطْفِهِ لِيَكُونَ مَضْمُونُهُ مُسْتَقِلًّا بِذَاتِهِ.
وَالْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ الْمِثْلُ. وَالْمُرَادُ: أَنْدَادٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِالْمَوْصُولِ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَعْلِيلِ التَّوْبِيخِ، لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ إِلَى «الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» وَفِي الْإِشَارَةِ نِدَاءٌ عَلَى بَلَادَةِ رَأْيِهِمْ إِذْ لَمْ يَتَفَطَّنُوا إِلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا، وَلَا إِلَى أَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ تَقْتَضِي انْتِفَاءَ النِّدِّ وَالشَّرِيكِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ رَبُّ مَا دُونُ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي هِيَ أَحَطُّ مِنَ الْعُقَلَاءِ كَالْحِجَارَةِ وَالْأَخْشَابِ الَّتِي مِنْهَا صُنِعَ أَصْنَامُهُمْ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفَاتِ على الصِّلَة.
[١٠]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١٠]
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠)
عَطْفٌ عَلَى فِعْلِ الصِّلَةِ لَا عَلَى مَعْمُولِ الْفِعْلِ، فَجُمْلَةُ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ إِلَخْ صِلَةٌ ثَانِيَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِفِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ فِعْلِ (خَلَقَ) لِأَنَّ هَذَا الْجَعْلَ تَكْوِينٌ آخَرُ حَصَلَ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَهُوَ خَلْقُ أَجْزَاءٍ تَتَّصِلُ بِهَا إِمَّا مِنْ جِنْسِهَا كَالْجِبَالِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا كَالْأَقْوَاتِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:
٩].
وَالرَّوَاسِي: الثَّوَابِتُ، وَهُوَ صِفَةٌ لِلْجِبَالِ لِأَنَّ الْجِبَالَ حِجَارَةٌ لَا تَنْتَقِلُ بِخِلَافِ الرِّمَالِ وَالْكُثْبَانِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. وَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ لِدَلَالَةِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى: ٣٢] أَيِ السُّفُنُ الْجَوَارِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ
243
وَوَصْفُ الرَّوَاسِي بِ مِنْ فَوْقِها لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الرَّائِعَةِ لِمَنَاظِرِ الْجِبَالِ، فَمِنْهَا الْجَمِيلُ الْمَنْظَرِ الْمُجَلَّلُ بِالْخُضْرَةِ أَوِ الْمَكْسُوُّ بِالثُّلُوجِ، وَمِنْهَا الرَّهِيبُ الْمَرْأَى مِثْلَ جِبَالِ النَّارِ (الْبَرَاكِينِ)، وَالْجِبَالِ الْمَعْدِنِيَّةِ السُّودِ.
وبارَكَ فِيها جَعَلَ فِيهَا الْبَرَكَةَ. وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ النَّافِعُ، وَفِي الْأَرْضِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا رِزْقُ الْإِنْسَانِ وَمَاشِيَتِهِ، وَفِيهَا التُّرَابُ وَالْحِجَارَةُ وَالْمَعَادِنُ، وَكُلُّهَا بَرَكَاتٌ. وقَدَّرَ جَعَلَ قَدْرًا، أَيْ مِقْدَارًا، قَالَ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطَّلَاق: ٣].
وَالْمِقْدَارُ: النِّصَابُ الْمَحْدُودُ بالنوع أَو بالكمية، فَمَعْنَى قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أَنَّهُ خَلَقَ فِي الْأَرْضِ الْقُوَى الَّتِي تَنْشَأُ مِنْهَا الْأَقْوَاتُ وَخَلَقَ أُصُولَ أَجْنَاسِ الْأَقْوَاتِ وَأَنْوَاعَهَا مِنَ الْحَبِّ لِلْحُبُوبِ، وَالْكَلَأِ وَالْكَمْأَةِ، وَالنَّوَى لِلثِّمَارِ، وَالْحَرَارَةِ الَّتِي يَتَأَثَّرُ بِهَا تَوَلُّدُ الْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْحِيتَانُ وَدَوَابُّ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ.
وَمِنَ التَّقْدِيرِ: تَقْدِيرُ كُلِّ نَوْعٍ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْأَوْقَاتِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوِ اعْتِدَالٍ.
وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْل: ٨١] وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً [النَّحْل: ٨٠] الْآيَةَ.
وَجَمْعُ الْأَقْوَاتِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْأَرْضِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ جَمِيعُ أَقْوَاتِهَا وَعُمُومُهُ
بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمُقْتَاتِينَ، فَلِلدَّوَابِّ أَقْوَاتٌ، وَلِلطَّيْرِ أَقْوَاتٌ، وَلِلْوُحُوشِ أَقْوَاتٌ، وَلِلزَّوَاحِفِ أَقْوَاتٌ، وَلِلْحَشَرَاتِ أَقْوَاتٌ، وَجُعِلَ لِلْإِنْسَانِ جَمِيعُ تِلْكَ الْأَقْوَاتِ مِمَّا اسْتَطَابَ مِنْهَا كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩].
وَقَوْلُهُ: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَذْلَكَةٌ لِمَجْمُوعِ مُدَّةِ خَلْقِ الْأَرْضِ جِرْمِهَا، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ رَوَاسِيَ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْقُوَى، فَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ الْيَوْمَانِ اللَّذَانِ فِي قَوْلِهِ: فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَتِلْكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، فَقَوْلُهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَذْلَكَةٌ، وَعُدِلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَا فِي نَسْجِ الْآيَةِ لِقَصْدِ الْإِيجَازِ
244
وَاعْتِمَادًا عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ١٢]، فَلَوْ كَانَ الْيَوْمَانِ اللَّذَانِ قَضَى فِيهِمَا خَلْقَ السَّمَاوَاتِ زَائِدَيْنِ عَلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ انْقَضَتْ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا لَصَارَ مَجْمُوعُ الْأَيَّامِ ثَمَانِيَةً، وَذَلِكَ يُنَافِي الْإِشَارَةَ إِلَى عِدَّةِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، فَإِنَّ الْيَوْمَ السَّابِعَ يَوْمُ فَرَاغٍ مِنَ التَّكْوِينِ. وَحِكْمَةُ التَّمْدِيدِ لِلْخَلْقِ أَنْ يَقَعَ عَلَى صِفَةٍ كَامِلَةٍ مُتَنَاسِبَةٍ.
وسَواءً قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ أَيَّامٍ أَيْ كَامِلَةً لَا نَقْصَ فِيهَا وَلَا زِيَادَةَ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ بِتَقْدِيرِ: هِيَ سَوَاءٌ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ مَجْرُورًا على الْوَصْف ل أَيَّامٍ.
ولِلسَّائِلِينَ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ أَفْعَالِ جَعَلَ وبارَكَ وقَدَّرَ فَيَكُونُ لِلسَّائِلِينَ جَمْعُ سَائِلٍ بِمَعْنَى الطَّالِبِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ بَيَّنَّا ذَلِكَ لِلسَّائِلِينَ وَيَجُوزُ أَن يكون ل السَّائِلِينَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّائِلِينَ الطالبين للقوت.
[١١]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١١]
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)
ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَهَمُّ مَرْتَبَةً مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَعَوَالِمُهَا أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ، فَجِيءَ بِحَرْفِ التَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ حَقُّ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ حَتَّى يُوَفَّى الْمُقْتَضِيَانِ حَقَّهُمَا. وَلَيْسَ هَذَا بِمُقْتَضٍ أَنَّ الْإِرَادَةَ تَعَلَّقَتْ بِخَلْقِ السَّمَاءِ بَعْدَ تَمَامِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَلَا مُقْتَضِيًا أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ وَقَعَ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَالِاسْتِوَاءُ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ تَوًّا لَا يَعْتَرِضُهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِتَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِيجَادِ السَّمَاوَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩]. وَرُبَّمَا كَانَ فِي قَوْلِهِ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُ لِخَلْقِ
245
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَوَجُّهًا وَاحِدًا ثُمَّ اخْتَلَفَ زَمَنُ الْإِرَادَةِ التَّنْجِيزِيُّ بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ فَتَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ تَنْجِيزًا بِخَلْقِ السَّمَاءِ ثُمَّ بِخَلْقِ الْأَرْضِ، فَعَبَّرَ عَنْ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ تَنْجِيزًا لِخَلْقِ السَّمَاءِ بِتَوَجُّهِ الْإِرَادَةِ إِلَى السَّمَاءِ، وَذَلِكَ التَّوَجُّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالِاسْتِوَاءِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَفِعْلُ ائْتِيا أَمْرٌ لِلتَّكْوِينِ.
وَالدُّخَانُ: مَا يَتَصَاعَدُ مِنَ الْوَقُودِ عِنْدَ الْتِهَابِ النَّارِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَهِيَ دُخانٌ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ وَهِيَ مِثْلُ الدُّخَانِ، وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهَا كَانَتْ عَمَاءَ»
. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالدُّخَانِ هُنَا شَيْئًا مُظْلِمًا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» مِنْ قَوْلِهَا: «وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ» وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْوُجُودِ مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الْعَمَاءُ، وَالْعَمَاءُ: سَحَابٌ رَقِيقٌ، أَيْ رُطُوبَةٌ دَقِيقَةٌ وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِلْعُنْصُرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ الْمَوْجُودَاتِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ كَوْنَ السَّمَاءِ مَخْلُوقَةً قَبْلَ الْأَرْضِ.
وَمَعْنَى: وَهِيَ دُخانٌ أَنَّ أَصْلَ السَّمَاءِ هُوَ ذَلِكَ الْكَائِنُ الْمُشَبَّهُ بِالدُّخَانِ، أَيْ أَنَّ السَّمَاءَ كُوِّنَتْ مِنْ ذَلِكَ الدُّخَانِ كَمَا تَقُولُ: عَمَدْتُ إِلَى هَاتِهِ النَّخْلَةِ، وَهِيَ نَوَاةٌ، فَاخْتَرْتُ لَهَا أَخْصَبَ تُرْبَةٍ، فَتَكُونُ مَادَّةُ السَّمَاءِ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِ الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ تَفْرِيعٌ عَلَى فِعْلِ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ مُوَجَّهًا إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حِينَئِذٍ، أَيْ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ لَا مَحَالَةَ وَقَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَوْلَ لَهَا مُقَارِنًا الْقَوْلَ لِلسَّمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ تَكْوِينٍ. أَيْ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ بِمَادَّةِ تَكْوِينِهِمَا وَهِيَ الدُّخَانُ لِأَنَّ السَّمَاءَ تَكَوَّنَتْ مِنَ الْعَمَاءِ بِجُمُودِ شَيْءٍ مِنْهُ سُمِّيَ جِلْدًا فَكَانَتْ مِنْهُ السَّمَاءُ وَتَكَوَّنَ مَعَ السَّمَاءِ الْمَاءُ وَتَكَوَّنَتِ الْأَرْضُ بِيُبْسٍ ظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ كَمَا جَاءَ الْإِصْحَاحُ الْأَوَّلُ مِنْ «سِفْرِ التَّكْوِينِ» مِنَ التَّوْرَاةِ.
وَالْإِتْيَانُ فِي قَوْلِهِ: ائْتِيا أَصْلُهُ: الْمَجِيءُ وَالْإِقْبَالُ وَلَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ غَيْرَ
246
مُرَادٍ لِأَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَأْتِيَا، وَلَا يُتَصَوَّرَ مِنْهُمَا طَوَاعِيَةٌ أَوْ كَرَاهِيَةٌ إِذْ لَيْسَتَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالْإِدْرَاكَاتِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ اللَّهَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي خُرُوجَهُمَا عَن قدرته بادىء ذِي بَدْءٍ تَعَيَّنَ الصَّرْفُ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ لَهُمَا مِنَ
الْبَلَاغَةِ الْمَكَانَةُ الْعُلْيَا:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ مُسْتَعَارًا لِقَبُولِ التَّكْوِينِ كَمَا اسْتُعِيرَ لِلْعِصْيَانِ الْإِدْبَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [النازعات: ٢٢]،
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَيْلِمَةَ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فِي وَفْدِ قَوْمِهِ بَنِي حَنِيفَةَ «لَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ»
، وَكَمَا يُسْتَعَارُ النُّفُورُ وَالْفِرَارُ لِلْعِصْيَانِ. فَمَعْنَى ائْتِيا امْتَثِلَا أَمْرَ التَّكْوِينِ. وَهَذَا الِامْتِثَالُ مُسْتَعَارٌ لِلْقَبُولِ وَهُوَ مِنْ بِنَاءِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَجَازِ وَلَهُ مَكَانَةٌ فِي الْبَلَاغَةِ، وَالْقَوْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعَارٌ لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢].
وَقَوْلُهُ: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْبُدِّ مِنْ قَبُولِ الْأَمْرِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِتَمَكُّنِ الْقُدْرَةِ مِنْ إِيجَادِهِمَا عَلَى وَفْقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَلِمَةُ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَمْثَالِ. وطَوْعاً أَوْ كَرْهاً مَصْدَرَانِ وَقَعَا حَالَيْنِ مِنْ ضَمِيرِ ائْتِيا أَيْ طَائِعَيْنِ أَوْ كَارِهَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً مُسْتَعْمَلَةً تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَكْوِينِ السَّمَاءِ وَالْأَرْض لِعَظَمَة خلقهما بِهَيْئَةِ صُدُورِ الْأَمْرِ مِنْ آمِرٍ مُطَاعٍ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالْحُضُورِ لِعَمَلٍ شَاقٍّ أَنْ يَقُولَ لَهُ: ائْتِ لِهَذَا الْعَمَلِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، لِتَوَقُّعِ إِبَائِهِ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَهَذَا مِنْ دُونِ مُرَاعَاةِ مُشَابَهَةِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِأَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَلَا قَوْلَ وَلَا مَقُولَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ، وَيَكُونُ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً عَلَى هَذَا مِنْ تَمام الْهَيْئَة الْمُشبه بهَا وَلَيْسَ لَهُ مُقَابل فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ.
وَالْمَقْصُودُ عَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَنُفُوذِهَا فِي الْمَقْدُورَاتِ دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ.
247
وَأَمَّا قَوْلُهُ: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُسْتَعَارًا لِدَلَالَةِ سُرْعَةِ تَكَوُّنِهِمَا لِشِبْهِهِمَا بِسُرْعَةِ امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ عَنْ طَوَاعِيَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَدَّدُ وَلَا يَتَلَكَّأُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ وَالتَّخْيِيلِ مِنْ بَابِ قَوْلِ الرَّاجِزِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ تَعْيِينُهُ:
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي وَهُوَ كَثِيرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ تَكَوُّنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَكْوِينِهِمَا بِهَيْئَةِ الْمَأْمُورِ بِعَمَل تقبله سَرِيعا عَنْ طَوَاعِيَةٍ. وَهُمَا اعْتِبَارَانِ مُتَقَارِبَانِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ، وَالْإِتْيَانَ، وَالطَّوْعَ، عَلَى الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ تَكُونُ مَجَازَاتٍ، وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي
تَكُونُ حَقَائِقَ وَإِنَّمَا الْمَجَازُ فِي التَّرْكِيبِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَجَازِ الْمُفْرَدِ وَالْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ فِي فَنِّ الْبَيَانِ.
وَإِنَّمَا جَاءَ قَوْلُهُ: طائِعِينَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِأَنَّ لَفْظَ السَّمَاءِ يَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعِ سَمَاوَاتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِثْرَ هَذَا فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: ١٢] فَالِامْتِثَالُ صَادِرٌ عَنْ جَمْعٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فَلِأَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لَيْسَ لَهُمَا تَأْنِيثٌ حَقِيقِيٌّ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فَذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلْمَكْنِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يُوسُف: ٤].
[١٢]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١٢]
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ.
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا [فصلت: ١١].
وَالْقَضَاءُ: الْإِيجَادُ الْإِبْدَاعِيُّ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِتْمَامِ وَالْحُكْمِ، فَهُوَ يَقْتَضِي الِابْتِكَارَ وَالْإِسْرَاعَ، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
وَضَمِيرُ فَقَضاهُنَّ عَائِدٌ إِلَى السَّمَاوَاتِ عَلَى اعْتِبَارِ تَأْنِيثِ لَفْظِهَا، وَهَذَا تَفَنُّنٌ.
248
وَانْتَصَبَ سَبْعَ سَماواتٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ «قَضَّاهُنَّ» أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ «قَضَاهُنَّ» لِتَضْمِينِ «قَضَاهُنَّ» مَعْنَى صَيَّرَهُنَّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩] فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ.
وَكَانَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ فِي يَوْمَيْنِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوَاعِدِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا كَانَتْ مُدَّةُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ أَقْصَرَ مِنْ مُدَّةِ خَلْقِ الْأَرْضِ مَعَ أَنَّ عَوَالِمَ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِكَيْفِيَّةٍ أَسْرَعَ فَلَعَلَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ كَانَ بِانْفِصَالِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ وَتَفَرْقَعَ أَحْجَامُهَا بَعْضُهَا عَنْ خُرُوجِ بَعْضٍ آخَرَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي قَرَّبَهُ حُكَمَاءُ الْيُونَانِ الْأَقْدَمُونَ بِمَا سَمَّوْهُ صُدُورَ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَكَانَتْ سُرْعَةُ انْبِثَاقِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ
مَعْلُولَةً لِأَحْوَالٍ مُنَاسِبَةٍ لِمَا تَرَكَّبَتْ بِهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ. وَأَمَّا خَلْقُ الْأَرْضِ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ بِطَرِيقَةِ التَّوَلُّدِ الْمُبْطِئِ لِأَنَّهَا تَكَوَّنَتْ مِنَ الْعَنَاصِرِ الطَّبِيعِيَّةِ فَكَانَ تُوَلُّدُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ أَيْضًا وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: ٣١].
وَهَذِهِ الْأَيَّامُ كَانَتْ هِيَ مَبْدَأَ الِاصْطِلَاحِ عَلَى تَرْتِيبِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَقَدْ خَاضَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ مَبْدَأِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَأَمَّا كُتُبُ الْيَهُودِ فَفِيهَا أَنَّ مَبْدَأَ هَذِهِ الْأَيَّامِ هُوَ الْأَحَدُ وَأَنَّ سَادِسَهَا هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَأَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ جَعَلَهُ اللَّهُ خِلْوًا مِنَ الْخَلْقِ لِيُوَافِقَ طُقُوسَ دِينِهِمُ الْجَاعِلَةَ يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمَ رَاحَةٍ لِلنَّاسِ وَدَوَابِّهِمُ اقْتِدَاءً بِإِنْهَاءِ خَلْقِ الْعَالَمِينَ. وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ جَرَى الْعَرَبُ فِي تَسْمِيَةِ الْأَيَّامِ ابْتِدَاءً مِنَ الْأَحَدِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَوَّلٌ أَوْ وَاحِدٌ، وَاسْمُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ (أَوَّلٌ) وَذَلِكَ سَرَى إِلَيْهِمْ مِنْ تَعَالِيمِ الْيَهُودِ أَوْ مِنْ تَعَالِيمَ أَسْبَقَ كَانَتْ هِيَ الْأَصْلَ الْأَصِيلَ لِاصْطِلَاحِ الْأُمَّتَيْنِ. وَالَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْأَخْبَارُ مِنَ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَة وَأَنه آخر أَيَّام الْأُسْبُوع، وَأَنَّهُ خَيْرُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَأَفْضَلِهَا، وَأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اخْتَلَفُوا فِي
249
تَعْيِينِ الْيَوْمِ الْأَفْضَلِ مِنَ الْأُسْبُوعِ، وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَهَذَا الْيَوْمُ (أَيِ الْجُمُعَةُ) هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ»
. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ بَعْدَ تَمَامِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ خَلْقِهِ هُوَ الْيَوْمَ السَّابِعَ. وَقَدْ
رَوَى مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ السَّبْتِ»
. وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ بِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ حَدَّثَ بِهِ أَبَا هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ رُوَاةِ سَنَدِهِ فَظَنَّهُ مَرْفُوعًا.
وَلِهَذِهِ تَفْصِيلَاتٌ لَيْسَ وَرَاءَهَا طَائِلٌ وَإِنَّمَا ألممنا بهَا هُنَا لِئَلَّا يَعْرُوَ التَّفْسِيرُ عَنْهَا فَيَقَعَ مَنْ يَرَاهَا فِي غَيْرِهِ فِي حَيْرَةٍ وَإِنَّمَا مَقْصِدُ الْقُرْآنِ الْعِبْرَةُ.
وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً.
وَأَوْحى عَطْفٌ عَلَى فَقَضاهُنَّ.
وَالْوَحْيُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ، وَيُطْلَقُ الْوَحْيُ عَلَى حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ فِي نَفْسِ مَنْ يُرَادُ حُصُولُهَا عِنْدَهُ دُونَ قَوْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّاءَ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ [مَرْيَم: ١١] أَيْ أَوْمَأَ إِلَيْهِم بِمَا يدل عَلَى مَعْنَى: سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وَقَول أبي دؤاد:
يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطُّوَالِ وَتَارَةً وَحْيَ الْمَلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ
ثُمَّ يُتَوَسَّعُ فِيهِ فَيُطْلَقُ عَلَى إِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَخْلُوقَاتِ لِمَا تَتَطَلَّبُهُ مِمَّا فِيهِ صَلَاحُهَا كَقَوْلِهِ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النَّحْل: ٦٨] أَيْ جَبَلِهَا عَلَى إِدْرَاكِ ذَلِكَ وَتَطَلُّبِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ لِقَبُولِ أَثَرِ قُدْرَتِهِ كَقَوْلِهِ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: ١] إِلَى قَوْلِهِ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: ٥].
وَالْوَحْيُ فِي السَّمَاءِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازَاتِهِ، فَهُوَ أَوْحَى فِي السَّمَاوَاتِ بِتَقَادِيرِ نُظُمِ جَاذِبِيَّتِهَا، وَتَقَادِيرِ سَيْرِ
250
كَوَاكِبِهَا، وَأَوْحَى فِيهَا بِخَلْقِ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا، وَأَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِمَا يَعْمَلُونَ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٧] وَقَالَ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٠].
وأَمْرَها بِمَعْنَى شَأْنِهَا، وَهُوَ يَصْدُقُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ مُلَابَسَاتِهَا مِنْ سُكَّانِهَا وَكَوَاكِبِهَا وَتَمَاسُكِ جِرْمِهَا وَالْجَاذِبِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا يُجَاوِرُهَا. وَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فصلت: ١٠]. وَانْتَصَبَ أَمْرَها عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِأَمْرِهَا أَوْ عَلَى تَضْمِينِ أَوْحَى مَعْنَى قَدَّرَ أَوْ أَوْدَعَ.
وَوَقَعَ الِالْتِفَاتُ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقِ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِينَ لِطُولِ اسْتِعْمَالِ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ ابْتِدَاءً من قَوْله: بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] مَعَ إِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِتَخْصِيصِ هَذَا الصُّنْعِ الَّذِي يَنْفَعُ النَّاسَ دِينًا وَدُنْيَا وَهُوَ خَلْقُ النُّجُومِ الدَّقِيقَةِ وَالشُّهُبِ بِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، فَمَا السَّمَاءُ الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ السَّمَاوَاتِ، وَمَا النُّجُومُ وَالشُّهُبُ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ أَمْرِهَا.
وَالْمَصَابِيحُ: جَمْعُ مِصْبَاحٍ، وَهُوَ مَا يُوقَدُ بِالنَّارِ فِي الزَّيْتِ لِلْإِضَاءَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّبَاحِ لِأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَجْعَلُوهُ خَلَفًا عَنِ الصَّبَاحِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَصَابِيحِ: النُّجُومُ، اسْتُعِيرَ لَهَا الْمَصَابِيحُ لِمَا يَبْدُو مِنْ نُورِهَا.
وَانْتَصَبَ حِفْظاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ زَيَّنَّا.
وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَاهَا حِفْظًا. وَالْمُرَادُ: حِفْظًا لِلسَّمَاءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها [فصلت: ١٠] إِلَى قَوْلِهِ: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً.
251
وَالتَّقْدِيرُ: وَضْعُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ يس. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ إِيثَارِ وَصْفَيِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ بِالذِّكْرِ.
[١٣، ١٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ١٣ الى ١٤]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.
بَعْدَ أَنْ قَرَعَتْهُمُ الْحُجَّةُ الَّتِي لَا تَتْرُكُ لِلشَّكِّ مَسْرَبًا إِلَى النُّفُوسِ بَعْدَهَا فِي أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِإِيجَادِ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا. وَكَانَ ثُبُوتُ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزِيلَ الرِّيبَةَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ مَا كَفَرُوا بِهِ إِلَّا لِأَجْلِ إِعْلَانِهِ بِنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا اسْتَبَانَ ذَلِكَ كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَفِيئُوا إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَأَنْ يُقْلِعُوا عَنْ إِعْرَاضِهِمُ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: ٤] إِلَخْ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ بَعْدَ تِلْكَ الْحُجَجِ أَمْرًا مَفْرُوضًا كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ، فَجِيءَ فِي جَانِبِهِ بِحَرْفِ (إِنَّ) الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَوْقِعِ الَّذِي لَا جَزْمَ فِيهِ بِحُصُولِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥] فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنْ).
فَمَعْنَى فَإِنْ أَعْرَضُوا إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى إِعْرَاضِهِمْ بَعْدَ مَا هَدَيْتُهُمْ بِالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ وَكَابَرُوا فِيهَا، فَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِمْرَارِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦].
وَالْإِنْذَارُ: التَّخْوِيفُ، وَهُوَ هُنَا تَخْوِيفٌ بِتَوَقُّعِ عُقَابٍ مِثْلِ عِقَابِ الَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ خَشْيَةَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنْ تَجْرِيَ أَفْعَالُ اللَّهِ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ هُوَ وَعِيدًا لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تُصِبْهُمْ صَاعِقَةٌ مِثْلُ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَاوَوْهُمَا فِي التَّكْذِيبِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرُّسُلِ وَفِي التَّعَلُّلَاتِ الَّتِي تَعَلَّلُوا بِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤] وَأَمْهَلَ اللَّهُ قُرَيْشًا حَتَّى آمَنَ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ وَاسْتَأْصَلَ كُفَّارَهُمْ بِعَذَابٍ خَاصٍّ.
252
وَحَقِيقَةُ الصَّاعِقَةِ: نَارٌ تَخْرُجُ مَعَ الْبَرْقِ تُحْرِقُ مَا تُصِيبُهُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩]. وَتُطْلَقُ عَلَى الْحَادِثَةِ الْمُبِيرَةِ السَّرِيعَةِ الْإِهْلَاكِ، وَلَمَّا أُضِيفَتْ صَاعِقَةٌ هُنَا إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ، وَعَادٌ لَمْ تُهْلِكْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَإِنَّمَا أَهْلَكَهُمُ الرِّيحُ وَثَمُودُ أُهْلِكُوا بِالصَّاعِقَةِ فَقَدِ اسْتَعْمَلَ الصَّاعِقَةَ هُنَا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، أَوْ هُوَ مِنْ عُمُومِ الْمُجَاوِزِ وَالْمُقْتَضِي لِذَلِكَ عَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ قَصْدَ الْإِيجَازِ، وَلِيَقَعَ الْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا عادٌ [فصلت: ١٥] إِلَى قَوْلِهِ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [فصلت: ١٧].
وإِذْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي، وَالْمَعْنَى مِثْلُ صَاعِقَتِهِمْ حِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ كلم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ فَتَلَا عَلَيْهِم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حَتَّى بَلَغَ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: ١- ١٣] الْآيَةَ، فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فَم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ:
«نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ»
. وَضَمِيرُ جاءَتْهُمُ عَائِدٌ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمَا. وَجَمْعُ الرُّسُلِ هُنَا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم:
٤]، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ غَيْرُ عَزِيزٍ، وَإِنَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولَانِ هُودٌ وَصَالِحٌ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ تَمْثِيلٌ لِحِرْصِ رَسُولِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى هُدَاهُمْ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ وَسِيلَةً يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى إِبْلَاغِهِمُ الدِّينَ إِلَّا تَوَسَّلَ بِهَا. فَمُثِّلَ ذَلِكَ بِالْمَجِيءِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ تَارَةً مِنْ أَمَامِهِ وَتَارَةً مِنْ خَلْفِهِ لَا يَتْرُكُ لَهُ جِهَةً، كَمَا يَفْعَلُ الْحَرِيصُ عَلَى تَحْصِيلِ أَمْرٍ أَنْ يَتَطَلَّبَهُ وَيُعِيدَ تَطَلُّبَهُ وَيَسْتَوْعِبَ مَظَانَّ وُجُودِهِ أَوْ مَظَانَّ سَمَاعِهِ، وَهَذَا التَّمْثِيلُ نَظِيرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٧].
وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جِهَتَيْنِ وَلَمْ تُسْتَوْعَبِ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ كَمَا مُثِّلَ حَالُ الشَّيْطَانِ فِي وَسْوَسَتِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا تَمْثِيلُ الْحِرْصِ فَقَطْ وَقَدْ حَصَلَ، وَالْمَقْصُودُ
253
فِي الْحِكَايَةِ عَنِ الشَّيْطَانِ تَمْثِيلُ الْحِرْصِ مَعَ التَّلَهُّفِ تَحْذِيرًا مِنْهُ وَإِثَارَةً لِبُغْضِهِ فِي نُفُوسِ النَّاس.
وأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ تَفْسِيرٌ لِجُمْلَةِ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ لِتَضَمُّنِ الْمَجِيءِ مَعْنَى الْإِبْلَاغِ بِقَرِينَةِ كَوْنِ فَاعِلِ الْمَجِيءِ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُمْ رُسُلٌ، فَتَكُونُ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً لِ جاءَتْهُمُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ
كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِنْ تَحْمِلَا حَاجَةً لِي خِفٌ مَحْمِلُهَا تَسْتَوْجِبَا مِنَّةً عِنْدِي بِهَا ويدا
أَن تقرءان عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا مِنِّي السَّلَامَ وَأَنْ لَا تُشْعِرَا أَحَدًا
إِذْ فَسَّرَ الْحَاجَةَ بِأَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى أَسْمَاءَ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَاجَةِ الرِّسَالَةَ، وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى رَأْيِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ تَقَدُّمِ جُمْلَةٍ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ بَلِ الِاكْتِفَاءُ بِتَقَدُّمِ مَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْقَوْلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جُمْلَةً خِلَافًا لِمَا أَطَالَ بِهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» مِنْ أَبْحَاثٍ لَا يَرْضَاهَا الْأَرِيبُ، أَوْ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ عُنْوَانُ الرُّسُلُ مِنْ إِبْلَاغِ رِسَالَةٍ.
قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ حِكَايَةُ جَوَابِ عَادٍ وَثَمُودَ لِرَسُولَيْهِمْ فَقَدْ كَانَ جَوَابًا متماثلا لِأَنَّهُ ناشىء عَنْ تَفْكِيرٍ مُتَمَاثِلٍ وَهُوَ أَنَّ تَفْكِيرَ الْأَذْهَانِ الْقَاصِرَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبْنَى عَلَى تَصَوُّرَاتٍ وَهْمِيَّةٍ وَأَقْيِسَةٍ تَخْيِيلِيَّةٍ وَسُفِسْطَائِيَّةٍ، فَإِنَّهُمْ يَتَصَوَّرُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالَهُ عَلَى غَيْرِ كُنْهِهَا وَيَقِيسُونَهَا عَلَى أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِذَلِكَ يَتَمَاثَلُ فِي هَذَا حَالُ أَهْلِ الْجَهَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٢، ٥٣]، أَيْ بَلْ هُمْ مُتَمَاثِلُونَ فِي الطُّغْيَانِ، أَيِ الْكُفْرِ الشَّدِيدِ فَتُمْلِي عَلَيْهِمْ أَوْهَامُهُمْ قَضَايَا مُتَمَاثِلَةً.
وَلِكَوْنِ جَوَابِهِمْ جَرَى فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ أَتَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ بِأُسْلُوبِ الْمُقَاوَلَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠]
254
فَإِنَّ قَوْلَ الرُّسُلِ لَهُمْ: لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَدْ حُكِيَ بِفِعْلٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْقَوْلِ، وَهُوَ فِعْلُ جاءَتْهُمُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
فَقَوْلُهُمْ: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ رِسَالَةِ الْبَشَرِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَفْعُولُ شاءَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ لَوْ شَاءَ رَبُّنَا أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مِنَ السَّمَاءِ مُرْسَلِينَ إِلَيْنَا، وَهَذَا حَذْفٌ خَاصٌّ هُوَ غَيْرُ حَذْفِ مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الشَّائِعِ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِجَوَابِ لَوْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الْأَنْعَام: ١٤٩]، وَنُكْتَتُهُ الْإِبْهَامُ ثُمَّ الْبَيَانُ، وَأَمَّا الْحَذْفُ فِي الْآيَةِ فَهُوَ لِلِاعْتِمَادِ عَلَى قَرِينَةِ السِّيَاقِ وَالْإِيجَازِ وَهُوَ حَذْفٌ عَزِيزٌ لِمَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ، وَنَظِيرُهُ
قَوْلُ الْمَعَرِّيِّ:
وَإِنْ شِئْتَ فَازْعُمْ أَنَّ مَنْ فَوْقَ ظَهْرِهَا عَبِيدُكَ وَاسْتَشْهِدْ إِلَهَكَ يَشْهَدِ
وَتَضَمَّنَ كَلَامُهُمْ قِيَاسًا اسْتِثْنَائِيًّا تَرْكِيبُهُ: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا لَأَرْسَلَ مَلَائِكَةً يُنْزِلُهُمْ مِنَ السَّمَاءِ لَكِنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ إِلَيْنَا مَلَائِكَةً فَهُوَ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْنَا رَسُولًا. وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَلِهَذَا فَرَّعُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ: فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أَيْ جَاحِدُونَ رِسَالَتَكُمْ وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَن التَّكْذِيب.
[١٥، ١٦]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)
بَعْدَ أَنْ حَكَى عَنْ عَادٍ وَثَمُودَ مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الأمتان من الكابرة وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ فَصَّلَ هُنَا بَعْضَ مَا اخْتَصَّتْ بِهِ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا مِنْ صُورَةِ الْكُفْرِ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَهُ مُنَاسَبَةٌ لِمَا حَلَّ بِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْعَذَابِ.
255
وَالْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: ١٤] الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّهُمْ رَفَضُوا دَعْوَةَ رَسُولَيْهِمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا إِرْشَادَهُمَا وَاسْتِدْلَالَهُمَا.
وَأَمَّا حَرْفُ شَرْطٍ وَتَفْصِيلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦]. وَالْمَعْنَى: فَأَمَّا عَادٌ فَمَنَعَهُمْ مِنْ قَبُولِ الْهُدَى اسْتِكْبَارُهُمْ.
وَالِاسْتِكْبَارُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْكِبْرِ، أَيِ التَّعَاظُمُ وَاحْتِقَارُ النَّاسِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ، أَيْ أَرْضُهُمُ الْمَعْهُودَةُ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ مِنْ مَسَاوِيهِمُ الِاسْتِكْبَارُ لِأَنَّ تكبرهم هُوَ الَّذين صَرَفَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِمْ وَعَنْ تَوَقُّعِ عِقَابِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ لِاسْتِكْبَارِهِمْ، فَإِنَّ الِاسْتِكْبَارَ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ إِذْ لَا مُبَرِّرَ لِلْكِبْرِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْمُغْرِيَاتِ بِالْكِبْرِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالسُّلْطَانِ وَالْقُوَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تُبْلِغُ الْإِنْسَانَ مَبْلَغَ الْخُلُوِّ عَنِ النَّقْصِ وَلَيْسَ لِلضَّعِيفِ النَّاقِصِ حَقٌّ فِي
الْكِبْرِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْكِبْرُ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُمْ قَدِ اغْتَرُّوا بِقُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَعَزَّةِ أُمَّتِهِمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ لَا يَغْلِبُهُمْ أَحَدٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً فَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ اسْتِكْبَارِهِمْ لِأَنَّهُ أَوْرَثَهُمُ الِاسْتِخْفَافَ بِمَنْ عَدَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ هُودٌ بِإِنْكَارِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالطُّغْيَانِ عَظُمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا الْعُجْبَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ فَكَذَّبُوا رَسُولَهُمْ.
فَلَمَّا كَانَ اغْتِرَارُهُمْ بِقُوَّتِهِمْ هُوَ بَاعِثَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَكَانَ قَوْلُهُمْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً دَلِيلًا عَلَيْهِ خُصَّ بِالذِّكْرِ. وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْوَاوِ مَعَ أَنَّهُ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ إِشَارَةً إِلَى اسْتِقْلَالِهِ بِكَوْنِهِ مُوجِبَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ هُوَ بِمُفْرَدِهِ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ فَذُكِرَ بِالْعَطْفِ عَلَى فِعْلِ «اسْتَكْبَرُوا» لِأَنَّ شَأْنَ الْعَطْفِ أَنْ يَقْتَضِيَ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيُعْلِمَ أَنَّهُ بَاعِثُهُمْ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ بِالسِّيَاقِ.
256
وَجُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً حَيْثُ أَعرضُوا عَن رِسَالَة رَسُولِ رَبِّهِمْ وَعَنْ إِنْذَارِهِ إِيَّاهُمْ إِعْرَاضَ مَنْ لَا يَكْتَرِثُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ لَوْ حَسَبُوا لِذَلِكَ حِسَابَهُ لَتَوَقَّعُوا عَذَابَهُ فلأقبلوا على النّظر فِي دَلَائِل صدق رسولهم. وَإِجْرَاءُ وَصْفِ الَّذِي خَلَقَهُمْ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ لِجَهْلِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَقْوَى مِنْهُمْ فَإِنَّ كَوْنَهُمْ مَخْلُوقِينَ مَعْلُومٌ لَهُمْ بِالضَّرُورَةِ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَحْسِبُوا لِغَضَبِهِ حِسَابَهُ فَيَنْظُرُوا فِي أَدِلَّةِ صِدْقِ رَسُولِهِ إِلَيْهِمْ.
وَضَمِيرُ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَهُوَ مُفِيدٌ تَقْوِيَةَ الْحُكْمِ بِمَعْنَى وُضُوحِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُحَقَّقًا كَانَ عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِمُقْتَضَاهُ أَشْنَعَ وَعُذْرُهُمْ فِي جَهْلِهِ مُنْتَفِيًا.
وَالْقُوَّةُ حَقِيقَتُهَا: حَالَةٌ فِي الْجِسْمِ يَتَأَتَّى بِهَا أَنْ يَعْمَلَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، وَتُطْلَقُ عَلَى لَازِمِ ذَلِكَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَوَسَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ إِطْلَاقِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٥]، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيُّ وَالْكِنَائِيُّ وَالْمَجَازِيُّ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ تَصْرِيحًا وَكِنَايَةً، وَمَجَازُهُ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ تَذْلِيلِ صِعَابِ الْأُمُورِ لِقُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَقُوَّةِ عُقُولِهِمْ. وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِعَادٍ فِي أَصَالَةِ آرَائِهِمْ فَيَقُولُونَ:
أَحْلَامُ عَادٍ، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَحْلَامُ عَادٍ وَأَجْسَامٌ مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْمَعَقَّةِ وَالْآفَاتِ وَالْإِثَمِ
وَيَقُولُونَ فِي وَصْفِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَقِلُّ صُنْعُ أَمْثَالِهَا: عَادِيَّةٌ يَقُولُونَ: بِئْرٌ عَادِيَّةٌ، وَبِنَاءٌ عَادِيٌّ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْقُوَّةُ تَسْتَلْزِمُ سِعَةَ الْقُدْرَةِ أَسْنَدَ الْقُوَّةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى لَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهَا شَيْءٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْمُرَادُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أَيْ هُوَ أَوْسَعُ قُدْرَةً مِنْ قُدْرَتِهِمْ فَإِطْلَاقُ الْقُوَّةِ
257
عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، أَيْ عُمُومُ تَأْثِيرِهَا وَتَعَلُّقِهَا بِالْمُمْكِنَاتِ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ لَا يَسْتَعْصِي عَلَى تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ شَيْءٌ مُمْكِنٌ، وَكَمَالُ غِنَاهُ عَنِ التَّأَثُّرِ لِلْغَيْرِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٥٢].
وَجُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ، وَالْوَاوُ فِيهَا اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ مُعْجِزَاتُ رَسُولِهِمْ هُودٍ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا وَأَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ لِهُودٍ آيَاتٍ سِوَى أَنَّهُ أَنْذَرَهُمْ عَذَابًا يَأْتِيهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: ٢٤] فَذَلِكَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِأَوَائِلِ الْآيَاتِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي فِي دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ وَتَذْكِيرُهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الْأَعْرَاف: ٦٩]، وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشُّعَرَاء: ١٣٢، ١٣٤].
وَدَلَّ فِعْلُ كانُوا عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ بِالْآيَاتِ مُتَأَصِّلٌ فِيهِمْ. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَجْحَدُونَ أَنَّ الْجَحْدَ مُتَكَرِّرٌ فِيهِمْ مُتَجَدِّدٌ. وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ وَصْفَ عِقَابِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَشَارَتِ الْفَاءُ إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ كَانَ مُسَبَّبًا عَلَى حَالَةِ كُفْرِهِمْ بِصِفَتِهَا فَإِنَّ بَاعِثَ كُفْرِهِمْ كَانَ اغْتِرَارَهُمْ بِقُوَّتِهِمْ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِمَا لَا يَتَرَقَّبُ النَّاسُ الْهَلَاكَ بِهِ فَإِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُؤْبَهُ بِهِ: هُوَ رِيحٌ، لِيُرِيَهُمْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْقُوَّةِ وَأَنَّهُ يَضَعُ الْقُوَّةَ فِي الشَّيْءِ الْهَيِّنِ مِثْلِ الرِّيحِ لِيَكُونَ عَذَابًا وَخِزْيًا، أَيْ تَحْقِيرًا كَمَا قَالَ: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَأَيُّ خِزْيٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ تَتَرَامَاهُمُ الرِّيحُ فِي الْجَوِّ كَالرِّيشِ، وَأَنْ تُلْقِيَهُمْ هَلْكَى عَلَى التُّرَابِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ فَيُشَاهِدُهُمُ الْمَارُّونَ
258
بِدِيَارِهِمْ جُثَثًا صَرْعَى قَدْ
تَقَلَّصَتْ جُلُودُهُمْ وَبَلِيَتْ أَجْسَامُهُمْ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٌ.
وَالرِّيحُ: تَمَوُّجٌ فِي الْهَوَاءِ يَحْدُثُ مِنْ تَعَاكُسِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَتَنْتَقِلُ مَوْجَاتُهُ كَمَا تَنْتَقِلُ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ وَالرِّيحُ الَّذِي أَصَابَ عَادًا هُوَ الرِّيحُ الدَّبُورُ، وَهُوَ الَّذِي يَهُبُّ مِنْ جِهَةِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، سُمِّيَتْ دَبُورًا بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ لِأَنَّهَا تَهُبُّ مِنْ جِهَةِ دُبُرِ الْكَعْبَةِ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ»
. وَإِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ الَّتِي أَصَابَتْ عَادًا بِهَذِهِ الْقُوَّةِ بِسَبَبِ قُوَّةِ انْضِغَاطٍ فِي الْهَوَاءِ غَيْرِ مُعْتَادٍ فَإِنَّ الِانْضِغَاطَ يُصَيِّرُ الشَّيْءَ الضَّعِيفَ قَوِيًّا، كَمَا شُوهِدَ فِي عَصْرِنَا أَنَّ الْأَجْسَامَ الدَّقِيقَةَ مِنْ أَجْزَاءٍ كِيمْيَاوِيَّةٍ تُسَمَّى الذَّرَّةَ تَصِيرُ بِالِانْضِغَاطِ قَادِرَةً عَلَى نَسْفِ مَدِينَةٍ كَامِلَةٍ، وَتُسَمَّى الطَّاقَةَ الذَّرِّيَّةَ، وَقَدْ نُسِفَ بِهَا جُزْءٌ عَظِيمٌ مِنْ بِلَادِ الْيَابَانِ فِي الْحَرْبِ الْعَامَّةِ.
وَالصَّرْصَرُ: الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ الَّتِي يَكُونُ لَهَا صَرْصَرَةٌ، أَيْ دَوِيٌّ فِي هُبُوبِهَا مِنْ شِدَّةِ سُرْعَةِ تَنَقُّلِهَا. وَتَضْعِيفُ عَيْنِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّتِهَا بَيْنَ أَفْرَادِ نَوْعِهَا كَتَضْعِيفِ كُبْكِبَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَبَّ. وَأَصْلُهُ صَرَّ، أَيْ صَاحَ، وَهُوَ وَصْفٌ لَا يُؤَنَّثُ لَفْظُهُ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي إِلَّا عَلَى الرِّيحِ وَهِيَ مُقَدَّرَةُ التَّأْنِيثِ.
وَالنَّحِسَاتُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْحَاءِ: جَمْعُ نَحِسٍ بِدُونِ تَأْنِيثٍ لِأَنَّهُ مصدر أَو اسْم مَصْدَرٌ لِفِعْلِ نَحِسَ كَعَلِمَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [الْقَمَر: ١٩].
وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِسِكُونِ الْحَاءِ. وَيَجُوزُ كَسْرُ الْحَاءِ وَبِهِ قَرَأَ الْبَقِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ (نَحْسٍ) إِذَا أَصَابَهُ النَّحْسُ إِصَابَةَ سُوءٍ أَوْ ضُرٍّ شَدِيدٍ. وَضِدُّهُ الْبَخْتُ فِي أَوْهَامِ الْعَامَّةِ، وَلَا حَقِيقَةَ لِلنَّحْسِ وَلَا لِلْبَخْتِ وَلَكِنَّهُمَا عَارِضَانِ لِلْإِنْسَانِ، فَالنَّحْسُ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ مزاجه أَوْ مِنْ تَفْرِيطِهِ أَوْ مِنْ فَسَادِ بِيئَتِهِ أَوْ قَوْمِهِ، وَالْبَخْتُ يَعْرِضُ مِنْ جَرَّاءِ عَكْسِ ذَلِكَ. وَبَعْضُ النَّوْعَيْنِ أُمُورٌ اتِّفَاقِيَّةٌ وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهَا جَزَاءً مِنَ اللَّهِ عَلَى عَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مِنْ عِبَادِهِ أَوْ فِي دِينِهِ
259
كَمَا حَلَّ بِعَادٍ وَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَعَامَّةُ الْأُمَمِ يَتَوَهَّمُونَ النَّحْسَ وَالْبَخْتَ مِنْ نَوْعِ الطِّيَرَةِ وَمِنَ التَّشَاؤُمِ وَالتَّيَمُّنِ، وَمِنْهُ الزَّجْرُ وَالْعِيَافَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمِنْهُ تَطَلُّعُ الْحَدَثَانِ مِنْ طَوَالِعِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَيَّامِ عِنْدَ مُعْظَمِ الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ أَوِ الْمُخْتَلَّةِ الْعَقِيدَةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ أَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ، أَيْ كَشَفَ بُطْلَانَهُ، بِمَا لَمْ يَسْبِقْهُ تَعْلِيمٌ مِنَ الْأَدْيَانِ الَّتِي ظَهَرَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
فَمَعْنَى وَصْفِ الْأَيَّامِ بِالنَّحِسَاتِ: أَنَّهَا أَيَّامُ سُوءٍ شَدِيدٍ أَصَابَهُمْ وَهُوَ عَذَابُ الرِّيحِ،
وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: ٧]، فَالْمُرَادُ: أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِخُصُوصِهَا كَانَتْ نَحْسًا وَأَنَّ نَحْسَهَا عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لِأَنَّ عَادًا هُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالْعَذَابِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ مِنْ كُلِّ عَامٍ هِيَ أَيَّامُ نَحْسٍ عَلَى الْبَشَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ لِاقْتِضَائِهِ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْأُمَمِ حَلَّ بِهَا سُوءٌ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ. وَوُصِفَتْ تِلْكَ الْأَيَّامُ بِأَنَّهَا نَحِساتٍ لِأَنَّهَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا إِلَّا السُّوءُ لَهُمْ مِنْ إِصَابَةِ آلَامِ الْهَشْمِ الْمُحَقَّقِ إِفْضَاؤُهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَمُشَاهَدَةِ الْأَمْوَاتِ مِنْ ذَوِيِهِمْ، وَمَوْتِ أَنْعَامِهِمْ، وَاقْتِلَاعِ نَخِيلِهِمْ.
وَقَدِ اخْتَرَعَ أَهْلُ الْقِصَصِ تَسْمِيَةَ أَيَّامٍ ثَمَانِيَةٍ نِصْفُهَا آخِرُ شَهْرِ (شَبَاطَ) وَنِصْفُهَا شَهْرُ (آذَارَ) تَكْثُرُ فِيهَا الرِّيَاحُ غَالِبًا دَعَوْهَا أَيَّامَ الْحُسُومِ ثُمَّ رَكَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا الْمَوْصُوفَةُ بِحُسُومٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [٧] سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَزَعَمُوا أَنَّهَا الْأَيَّامُ الْمُوَافِقَةُ لِأَيَّامِ الرِّيحِ الَّتِي أَصَابَتْ عَادًا، ثُمَّ رَكَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَيَّامُ نَحْسٍ مِنْ كُلِّ عَامٍ وَكَذَبُوا عَلَى بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَكَاذِيبَ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَالَةٍ، وَتَفَنُّنٌ فِي أَوْهَامِ الضَّلَالَةِ.
وَجُمِعَ نَحِساتٍ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِجَمْعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَهُوَ أَيَّامٍ.
وَاللَّامُ فِي لِنُذِيقَهُمْ لِلتَّعْلِيلِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ (أَرْسَلْنَا). وَالْإِذَاقَةُ تَخْيِيلٌ لِمَكْنِيَّةٍ، شُبِّهَ الْعَذَاب بِطَعَام هيّيء لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ كَمَا سَمَّى عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ الْغَارَةَ قِرًى فِي قَوْلِهِ:
260
قَرِينَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونًا
وَالْإِذَاقَةُ: تَخْيِيلٌ مِنْ مُلَائِمَاتِ الطَّعَامِ الْمُشَبَّهِ بِهِ.
وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ. وَإِضَافَةُ عَذابَ إِلَى الْخِزْيِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى، أَيْ أَشَدُّ إِخْزَاءً مِنْ إِخْزَاءِ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْخِزْيَ وَصْفٌ لِلْعَذَابِ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ أَوِ اسْمِ الْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْعَذَابِ مُخْزِيًا لِلَّذِي يُعَذَّبُ بِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْعَذَابِ مُخْزِيًا: أَنَّهُ سَبَبُ خِزْيٍ فَوَصْفُ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ خِزْيٌ بِمَعْنَى مُخْزٍ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَيُقَدَّرُ قَبْلَ الْإِضَافَةِ: لِنُذِيقَهُمْ عَذَابًا خِزْيًا، أَيْ مُخْزِيًا، فَلَمَّا أُرِيدَتْ إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ قِيلَ:
عَذابَ الْخِزْيِ، لِلْمُبَالَغَةِ أَيْضًا لِأَنَّ إِضَافَةَ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مُبَالَغَةٌ فِي الِاتِّصَافِ حَتَّى جُعِلَتِ الصِّفَةُ بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ آخَرَ يُضَافُ إِلَيْهِ الْمَوْصُوفُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مُحَسِّنِ التَّجْرِيدِ
فَحَصَلَتْ مُبَالَغَتَانِ فِي قَوْلِهِ: عَذابَ الْخِزْيِ مُبَالَغَةُ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَمُبَالَغَةُ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ.
وَجُمْلَةُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يَحْسَبَ السَّامِعُونَ أَنَّ حَظَّ أُولَئِكَ مِنَ الْعِقَابِ هُوَ عَذَابُ الْإِهْلَاكِ بِالرِّيحِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَخْزَى، أَيْ لَهُمْ وَلِكُلِّ مَنْ عُذِّبَ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا لِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَأَخْزَى: اسْمُ تَفْضِيلٍ جَرَى عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقِيَاسُهُ أَنْ يُقَالَ: أَشَدُّ إِخْزَاءً، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: خَزَاهُ، بِمَعْنَى أَخْزَاهُ، أَيْ أَهَانَهُ، وَمِثْلُ هَذَا فِي صَوْغِ اسْمِ التَّفْضِيلِ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ تَذْيِيلٌ، أَيْ لَا يَنْصُرُهُمْ مَنْ يَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ، وَلَا مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ، وَلَا مَنْ يُخْرِجُهُمْ مِنْهُ بعد مهلة.
261

[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١٧]

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)
بَقِيَّةُ التَّفْصِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا [فصلت: ١٥].
وَلَمَّا كَانَ حَالُ الْأُمَّتَيْنِ وَاحِدًا فِي عَدَمِ قَبُولِ الْإِرْشَادِ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: ١٤] كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ ثَمُودَ بِأَنَّ اللَّهَ هَدَاهُمْ مُقْتَضِيًا أَنَّهُ هَدَى عَادًا مِثْلَ مَا هَدَى ثَمُودَ وَأَنَّ عَادًا اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى مِثْلَ مَا اسْتَحَبَّتْ ثَمُودُ. وَالْمَعْنَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ هِدَايَةَ إِرْشَادٍ بِرَسُولِنَا إِلَيْهِمْ وَتَأْيِيدِهِ بِآيَةِ النَّاقَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
فَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا: الْإِرْشَادُ التَّكْلِيفِيُّ، وَهِيَ غَيْرُ مَا فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر: ٣٧] فَإِنَّ تِلْكَ الْهِدَايَةَ التَّكْوِينِيَّةَ لِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [غَافِر: ٣٣].
وَاسْتَحَبُّوا الْعَمى مَعْنَاهُ: أَحَبُّوا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُهُمَا فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [فصلت: ١٥]، أَيْ كَانَ الْعَمَى مَحْبُوبًا لَهُمْ. وَالْعَمَى: هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلضَّلَالِ فِي الرَّأْيِ، أَيِ اخْتَارُوا الضَّلَالَ بِكَسْبِهِمْ. وَضُمِّنَ (اسْتَحَبُّوا) مَعْنَى:
فَضَلُّوا، وَهَيَّأَ لِهَذَا التَّضْمِينِ اقْتِرَانُهُ بِالسِّينِ وَالتَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَحَبَّةِ تَسْتَلْزِمُ التَّفْضِيلَ عَلَى بَقِيَّةِ الْمَحْبُوبَاتِ فَلِذَلِكَ عُدِّيَ (اسْتَحَبُّوا) بِحَرْفِ عَلَى، أَيْ رَجَّحُوا
بِاخْتِيَارِهِمْ. وَتَعْلِيقُ عَلَى الْهُدى بِفِعْلِ (اسْتَحَبُّوا) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: فَضَّلُوا وَآثَرُوا.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ، وَكَانَ الْعِقَابُ مُنَاسِبًا لِلْجُرْمِ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَ الَّذِي هُوَ مِثْلُ الْعَمَى، فَمَنْ يَسْتَحِبُّهُ فَشَأْنُهُ أَنْ يُحِبَّ الْعَمَى، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ بِالصَّاعِقَةِ لِأَنَّهَا تُعْمِي أَبْصَارَهُمْ فِي حِينِ تُهْلِكُهُمْ قَالَ تَعَالَى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٠].
وَالْأَخْذُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِصَابَةِ الْمُهْلِكَةِ لِأَنَّهَا اتِّصَالٌ بِالْمُهْلَكِ يُزِيلُهُ مِنَ الْحَيَاةِ فَكَأَنَّهُ أَخْذٌ بِالْيَدِ.
وَالصَّاعِقَةُ: الصَّيْحَةُ الَّتِي تَنْشَأُ فِي كَهْرَبَائِيَّةِ السَّحَابِ الْحَامِلِ لِلْمَاءِ فَتَنْقَدِحُ مِنْهَا نَارٌ تُهْلِكُ مَا تُصِيبُهُ. وَإِضَافَةُ صاعِقَةُ إِلَى الْعَذابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا صَاعِقَةٌ تُعَرَّفُ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ إِذْ لَا يُعَرَّفُ بِهَا إِلَّا مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، أَيْ صَاعِقَةٌ خَارِقَةٌ لِمُعْتَادِ الصَّوَاعِقِ، فَهِيَ صَاعِقَةٌ مُسَخَّرَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعَذَابِ ثَمُودَ، فَإِنَّ أَصْلَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ أَنَّهَا بِتَقْدِيرِ لَامِ الِاخْتِصَاصِ فَتَعْرِيفُ الْمُضَافِ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَّا بَيَانَ اخْتِصَاصِهِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ.
والْعَذابِ هُوَ: الْإِهْلَاكُ بِالصَّعْقِ، وَوُصِفَ بِ الْهُونِ كَمَا وُصِفَ الْعَذَابُ بِالْخِزْيِ فِي قَوْلِهِ: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ [فصلت: ١٦]، أَيِ الْعَذَابَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهُونِ. والْهُونِ: الْهَوَانُ وَهُوَ الذُّلُّ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ هَوَانًا أَنَّهُ إِهْلَاكٌ فِيهِ مَذَلَّةٌ إِذِ اسْتُؤْصِلُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ وَتُرِكُوا صَرْعَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَهْلِكِ عَادٍ. أَيْ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ فِي اخْتِيَارِهِمُ الْبَقَاءَ عَلَى الضَّلَالِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ وَعَنْ دَلَالَةِ آيَاتِهِ.
وَيُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ فِي شَأْنِ عَادٍ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى [فصلت: ١٦] أَنَّ لِثَمُودَ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْأُمَّتَيْنِ تَمَاثَلَتَا فِي الْكُفْرِ فَلَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ هُنَا اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا مُحَسِّنُ الِاكْتِفَاءِ، وَهُوَ مُحَسِّنٌ يَرْجِعُ إِلَى الإيجاز.
[١٨]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١٨]
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى التَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا [فصلت: ١٥] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: ١٧] لِأَنَّ مَوْقِعَ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ إِنْجَاءَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ عَذَابُ عَادٍ وَعَذَابُ ثَمُودَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى إِنْجَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قَوْمِ عَادٍ وَقَوْمِ ثَمُودَ، فَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِيهِ مَعْنَى اسْتِثْنَاءٍ
مِنْ عُمُومِ أُمَّتَيْ عَادٍ وَثَمُودَ فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاقِبَةٍ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِهَا
فَإِنَّ جُمْلَتَيِ التَّفْصِيلِ هُمَا الْمَقْصُودُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: ٥٨] وَقَالَ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ هُودٍ كَيْفَ أَنْجَى اللَّهُ هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَصَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.
وَقَوْلُهُ: (وَكانُوا يَتَّقُونَ)، أَيْ كَانَ سُنَّتُهُمُ اتِّقَاءَ اللَّهِ وَالنَّظَرَ فِيمَا يُنْجِي مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَالْمُتَّقِينَ.
[١٩- ٢١]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ١٩ الى ٢١]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا مَا جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا مَا جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَمَّا فَرَغَ مِنْ مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ بِحَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ بِعَذَابٍ يَحِلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا حَلَّ بِأُولَئِكَ لِيَكُونَ لَهُمْ ذَلِكَ عِبْرَةً فَإِنَّ لِاسْتِحْضَارِ الْمُثُلِ وَالنَّظَائِرِ أَثَرًا فِي النَّفْسِ تَعْتَبِرُ بِهِ مَا لَا تَعْتَبِرُ بِتَوَصُّفِ الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ، انْتَقَلَ إِلَى إِنْذَارِهِمْ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَجُمْلَةُ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ الْآيَاتِ، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: ١٣] الْآيَاتِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ نَحْشُرُ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمُقَدَّرِ قَوْلُهُ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً إِلَخْ، أَيْ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ عِقَابِ الْآخِرَةِ.
وَأَعْدَاءُ اللَّهِ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ أَعدَاء رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ:
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة: ١]، وَلِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ كِتَابِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمْ بتهيّؤ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَزْوِ مَكَّةَ وَلِقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ [فصلت: ٢٨] بَعْدَ قَوْلِهِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦].
264
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ أَعْداءُ اللَّهِ جَمِيعُ الْكُفَّارِ مِنَ الْأُمَمِ بِحَيْثُ يَدْخُلُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ دُخُولَ الْبَعْضِ فِي الْعُمُومِ لِأَنَّ ذَلِكَ
الْمَحْمِلَ لَا يَكُونُ لَهُ مَوْقِعٌ رَشِيقٌ فِي الْمَقَامِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَنْ ذِكْرِ مَا أَصَابَ عَادًا وَثَمُودَ هُوَ تَهْدِيدُ مُشْرِكِي مَكَّةَ بِحُلُولِ عَذَابٍ مِثْلِهِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوهُ وَرَأَوْا آثَارَهُ فَلِلتَّهْدِيدِ بِمِثْلِهِ مَوْقِعٌ لَا يَسَعُهُمُ التَّغَافُلُ عَنْهُ، وَأَمَّا عَذَابُ عَادٍ وَثَمُودَ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَوْعُودٌ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُجْعَلَ مَوْعِظَةً لِقُرَيْشٍ بَلِ الْأَجْدَرُ أَنْ يَقَعَ إِنْذَارُ قُرَيْشٍ رَأْسًا بِعَذَابٍ يُعَذَّبُونَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ أُطِيلَ وَصْفُهُ لِتَهْوِيلِهِ مَا لَمْ يُطَلْ بِمِثْلِهِ حِينَ التَّعَرُّضِ لِعَذَابِ عَادٍ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى [فصلت: ١٦] الْمُكْتَفَى بِهِ عَنْ ذِكْرِ عَذَابِ ثَمُودَ. وَلِهَذَا فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: أَعْداءُ اللَّهِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مِنْ ضَمِيرِ عَادٍ وَثَمُودَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ (وَاذْكُرْ) مَحْذُوفًا مِثْلَ نَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ. وَالْحَشْرُ: جَمْعُ النَّاسِ فِي مَكَانٍ لِمَقْصِدٍ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: إِلَى النَّارِ بِ نَحْشُرُ لِتَضْمِينِ نَحْشُرُ مَعْنَى: نُرْسِلُ، أَيْ نُرْسِلُهُمْ إِلَى النَّارِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ يُوزَعُونَ عَطْفٌ وَتَفْرِيعٌ عَلَى نَحْشُرُ لِأَنَّ الْحَشْرَ يَقْتَضِي الْوَزْعَ إِذْ هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ عُرْفًا، إِذِ الْحَشْرُ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ عَدَدِ الْمَحْشُورِينَ وَكَثْرَةُ الْعَدَدِ تَسْتَلْزِمُ الِاخْتِلَاطَ وَتَدَاخُلَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ فَلَا غِنَى لَهُمْ عَنِ الْوَزْعِ لِتَصْفِيفِهِمْ وَرَدِّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ. وَالْوَزْعُ: كَفُّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ وَمَنْعُهُمْ مِنَ الْفَوْضَى، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [١٧]، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْمَحْشُورِينَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ نَحْشُرُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ أَعْداءُ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَائِبِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَهِيَ مُفِيدَةٌ لِمَعْنَى الْغَايَةِ فَهِيَ حِرَفُ انْتِهَاءٍ فِي الْمَعْنَى وَحَرْفُ
265
ابْتِدَاءٍ فِي اللَّفْظِ، أَيْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وإِذا ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِجَوَابِهِ، وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ بَعْدَ إِذا تُفِيدُ تَوْكِيدَ مَعْنَى إِذا مِنَ الِارْتِبَاطِ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ إِذا سَوَاءٌ كَانَتْ شَرْطِيَّةً كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ كَانَتْ لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: ٣٧]. وَيَظْهَرُ أَنَّ وُرُودَ مَا بَعْدَ إِذا يُقَوِّي مَعْنَى الشَّرْطِ فِي إِذا، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ مَعْنَى الشَّرْطِ حِينَئِذٍ نَصًّا احْتِمَالًا.
وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ الْغَائِب فِي جاؤُها عَائِدٌ إِلَى النَّارِ، أَيْ إِذَا وَصَلُوا إِلَى جَهَنَّمَ.
وَجُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ إِلَخْ يَقْتَضِي كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا جَوَابُ إِذا، فَاقْتَضَى الِارْتِبَاطُ بَيْنَ شَرْطِهَا وَجَوَابِهَا وَتَعْلِيقِهَا بِفِعْلِ الْجَوَابِ. وَاسْتَشْعَرُوا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمْ تَكُونُ قَبْلَ أَنْ يُوَجَّهُوا إِلَى النَّارِ، فَقَدَّرُوا فِعْلًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَسُئِلُوا عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَ فَأَنْكَرُوا فَشَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، يَعْنِي: سَأَلَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ.
وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ جَوَابَ إِذا مَحْذُوفٌ لِلتَّهْوِيلِ وَحَذْفُ مِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَيَكُونُ جُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ إِلَى آخِرِهَا مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ مَفَادِ حَتَّى مِنَ الْغَايَةِ لِأَنَّ السَّائِلَ يَتَطَلَّبُ مَاذَا حَصَلَ بَيْنَ حَشْرِهِمْ إِلَى النَّارِ وَبَيْنَ حُضُورِهِمْ عِنْدَ النَّارِ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ حُوسِبُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَنْكَرُوهَا فَشَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ. أَوْ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إِذا قَوْلَهُ: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت:
٢٤] إِلَخْ.
وَجُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. وَشَهَادَةُ جَوَارِحِهِمْ وَجُلُودِهِمْ عَلَيْهِمْ: شَهَادَةُ تَكْذِيبٍ وَافْتِضَاحٍ لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ شَهَادَةً يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا النَّارَ اعْتَذَرُوا بِإِنْكَارِ بَعْضِ ذُنُوبِهِمْ طَمَعًا فِي تَخْفِيفِ
266
الْعَذَابِ وَإِلَّا فَقَدَ عَلِمَ اللَّهُ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَشَهِدَتْ بِهِ الْحفظَة وقرىء عَلَيْهِمْ كِتَابُهُمْ، وَمَا أُحْضِرُوا لِلنَّارِ إِلَّا وَقَدْ تَحَقَّقَتْ إِدَانَتُهُمْ، فَمَا كَانَتْ شَهَادَةُ جَوَارِحِهِمْ إِلَّا زِيَادَةَ خِزْيٍ لَهُمْ وَتَحْسِيرًا وَتَنْدِيمًا عَلَى سُوءِ اعْتِقَادِهِمْ فِي سِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ.
وَتَخْصِيصُ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْجُلُودِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ دُونَ بَقِيَّةِ الْجَوَارِحِ لِأَنَّ لِلسَّمْعِ اخْتِصَاصًا بِتَلَقِّي دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَقِّي آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَسَمْعُهُمْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْرِفُونَهُ عَنْ سَمَاعِ ذَلِكَ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت:
٥]، وَلِأَنَّ لِلْأَبْصَارِ اخْتِصَاصًا بِمُشَاهَدَةِ دَلَائِلِ الْمَصْنُوعَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَذَلِكَ دَلِيلُ وَحْدَانِيَّتِهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَشَهَادَةِ الْجُلُودِ لِأَنَّ الْجِلْدَ يَحْوِي جَمِيعَ الْجَسَدِ لِتَكُونَ شَهَادَةُ الْجُلُودِ عَلَيْهِمْ شَهَادَةً عَلَى أَنْفُسِهَا فَيَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُهَا لِلْحَرْقِ بِالنَّارِ لِبَقِيَّةِ الْأَجْسَادِ دُونَ اقْتِصَارٍ عَلَى حَرْقِ مَوْضِعِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ. وَلِذَلِكَ اقْتَصَرُوا فِي تَوْجِيهِ الْمَلَامَةِ عَلَى جُلُودِهِمْ لِأَنَّهَا حَاوِيَةٌ لِجَمِيعِ الْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى شَهَادَةِ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْجُلُودِ هُنَا بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ [٢٤] يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ آيَةَ النُّورِ تَصِفُ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ وَهُمُ الَّذِينَ اخْتَلَقُوا تُهْمَةَ الْإِفْكِ وَمَشَوْا فِي الْمَجَامِعِ يُشِيعُونَهَا بَيْنَ النَّاسِ وَيُشِيرُونَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى مَنِ اتَّهَمُوهُ إِفْكًا.
وَإِنَّمَا قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا دُونَ أَنْ يَقُولُوهُ لِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لِأَنَّ الْجُلُودَ مُوَاجِهَةٌ لَهُمْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا بِالْمَلَامَةِ. وَإِجْرَاءُ ضَمَائِرِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْجُلُودِ بِصِيغَتَيْ ضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّ التَّحَاوُرَ مَعَهَا صَيَّرَهَا بِحَالَةِ الْعُقَلَاءِ يَوْمَئِذٍ. وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ قَوْلُ مَنْ زَعَمُوا أَنَّ الْجُلُودَ أُرِيدَ بِهَا الْفُرُوجُ وَنُسِبَ هَذَا لِلسُّدِّيِّ وَالْفَرَّاءِ، وَهُوَ تَعَنُّتٌ فِي مَحْمِلِ الْآيَةِ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ بَنَى أَحْمَدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِ «كِنَايَاتِ الْأُدَبَاءِ» فَعَدَّ الْجُلُودَ مِنَ الْكِنَايَاتِ عَنِ الْفُرُوجِ وَعَزَاهُ لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ فَجَازَفَ فِي التَّعْبِيرِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَلَامَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ
267
جُلُودَهُمْ لِكَوْنِهَا جُزْءًا مِنْهُمْ لَا يحِق لَهَا شَهَادَتُهَا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا تَجُرُّ الْعَذَابَ إِلَيْهَا. وَاسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْعِلَّةِ فِي مَعْرِضِ التَّوْبِيخِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمرَان: ٦٦].
وَقَوْلُ الْجُلُودِ أَنْطَقَنَا اللَّهُ اعْتِذَارٌ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ جَرَتْ مِنْهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَهَذَا النُّطْقُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ. وَقَوْلُهُمُ: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ تَمْجِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا عِلَاقَةَ لَهُ بِالِاعْتِذَارِ، وَالْمَعْنَى: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ نُطْقٌ مِنَ الْحَيَوَانِ وَاخْتِلَافُ دَلَالَةِ أَصْوَاتِهَا عَلَى وِجْدَانِهَا، فَعُمُومُ كُلَّ شَيْءٍ مَخْصُوصٌ بِالْعُرْفِ.
وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْهَا مِنْ تَمَامِ مَا أَنْطَقَ اللَّهُ بِهِ جُلُودَهُمْ قُتُفِّيَ عَلَى مَقَالَتِهَا تَشْهِيرًا بِخَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ لِزِيَادَةِ التَّنْدِيمِ وَالتَّحْسِيرِ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَوْنِ الْوَاوِ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ وَاوَ الْعَطْفِ فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِاسْتِحْضَارِ حَالَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَاعَتَئِذٍ فِي قَبْضَةِ تَصَرُّفِ اللَّهِ مُبَاشَرَةً. وَأَمَّا رُجُوعُهُمْ بِمَعْنَى الْبَعْثِ فَإِنَّهُ قَدْ مَضَى بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ إِحْضَارِهِمْ عِنْدَ جَهَنَّمَ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ الرُّجُوعَ إِلَى مَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ وَجُمْلَةِ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت: ٢٤] مُوَجَّهًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ
تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ لِتَذْكِيرِهِمْ بِالْبَعْثِ عَقِبَ ذِكْرِ حَالِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ انْتِهَازًا لِفُرْصَةِ الْمَوْعِظَةِ السَّابِقَةِ عِنْدَ تَأَثُّرِهِمْ بِسَمَاعِهَا.
وَيَكُونُ فِعْلُ تُرْجَعُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاسْتِقْبَالِ عَلَى أَصْلِهِ، وَالْكَلَامُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ.
268
قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: ١٥]. وَتَقْدِيمُ مُتَعَلِّقِ تُرْجَعُونَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ ورعاية الفاصلة.
[٢٢، ٢٣]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
قَلَّ مَنْ تَصَدَّى مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِبَيَانِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ بِمَا قَبْلَهَا، وَمَنْ تَصَدَّى مِنْهُمْ لِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ، وَأَوْلَى كَلَامٍ فِي ذَلِكَ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَلَكِنَّهُ وَجِيزٌ وَغَيْرُ مُحَرَّرٍ وَهُوَ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا سَبَبًا لِنُزُولِهَا فَزَادُوا بِذَلِكَ إِشْكَالًا وَمَا أَبَانُوا انْفِصَالًا.
وَلْنَبْدَأْ بِمَا يَقْتَضِيهِ نَظْمُ الْكَلَامِ، ثُمَّ نَأْتِي عَلَى مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا بِمَا لَا يُفْضِي إِلَى الِانْفِصَامِ.
فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ بِتَمَامِهَا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [فصلت: ٢١] إِلَخْ فَتَكُونَ مَشْمُولَةً لِلِاعْتِرَاضِ مُتَّصِلَةً بِالَّتِي قَبْلَهَا عَلَى كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً عَنْهَا: إِمَّا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: ١٩] الْآيَاتِ، وَإِمَّا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَجُمْلَةِ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت: ٢٤]، وَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، وَمُنَاسَبَةُ الِاعْتِرَاضِ مَا جَرَى مِنْ ذِكْرِ شَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَجُلُودِهِمْ عَلَيْهِمْ. فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِلْمُشْرِكِينَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ فَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تخفون شرككم وتستترون مِنْهُ بَلْ كُنْتُمْ تَجْهَرُونَ بِهِ وَتَفْخَرُونَ بِاتِّبَاعِهِ فَمَاذَا لَوْمُكُمْ عَلَى جَوَارِحِكُمْ وَأَجْسَادِكُمْ أَنْ شَهِدَتْ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا فَالِاسْتِتَارُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِخْبَارِ مَجَازًا
269
لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِتَارِ إِخْفَاءُ الذَّوَاتِ وَالَّذِي شَهِدَتْ بِهِ جَوَارِحُهُمْ هُوَ اعْتِقَادُ الشِّرْكِ وَالْأَقْوَالِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ. وَحَرْفُ مَا نَفْيٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ إِلَخْ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ
يَتَعَدَّى بِهِ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ وَهُوَ مَحْذُوفٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنَّ). وَتَقْدِيرُهُ: بِحَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَهُوَ هُنَا يُقَدَّرُ حَرْفُ مِنْ، أَيْ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ مِنْ شَهَادَةِ سَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَجُلُودِكُمْ، أَيْ مَا كُنْتُم تستترون مِنْ تِلْكَ الشُّهُودِ، وَمَا كُنْتُمْ تَتَّقُونَ شَهَادَتَهَا، إِذْ لَا تَحْسَبُونَ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ضَائِرٌ إِذْ أَنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِوُقُوعِ يَوْمِ الْحِسَابِ.
فَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ فَهُوَ
حَدِيث «الصَّحِيحَيْنِ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» بِأَسَانِيدَ يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٍّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ (١) قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ، فَقَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَهُوَ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِك للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ
. وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ نَفَرٌ مُعَيَّنٌ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ مَعَ الصَّلَاحِيَةِ لِشُمُولِ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ صَدَرَ مِنْهُمْ مِثْلُ هَذَا الْعَمَلِ لِلتَّسَاوِي فِي التَّفْكِيرِ. وَيُجْعَلُ مَوْقِعُهَا بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا غَرِيبًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا صَادَفَ الْوَقْتَ الْمُوَالِيَ لِنُزُولِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَأَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِهَا فِي مَوْضِعِهَا هَذَا لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ شَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ.
_________
(١) الشَّك من أبي معمر رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن مَسْعُود وَجزم وهب بن ربيعَة رَاوِيه عَن ابْن مَسْعُود بقوله: ثقفي وقريشيان، وَعَن الثَّعْلَبِيّ: أَن الثَّقَفِيّ عبد ياليل بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ والقرشيين ربيعَة بن أُميَّة وَصَفوَان بن أُميَّة. وهما ختنان لعبد ياليل. [.....]
270
وَمَعَ هَذَا فَهِيَ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ إِذْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَالْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَيُشْبِهُ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ مُتَمَثِّلًا بِهَا عِنْدَ إِخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ اهـ. وَفِي كَلَامِهِ الْأَوَّلِ مُخَالَفَةٌ لِمَا جَزَمَ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَكَيْفَ يَصِحُّ كَلَامُهُ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ النَّفَرَ الثَّلَاثَةَ هُمْ: عَبْدُ يَالِيلَ الثَّقَفِيُّ وَصَفْوَانُ وَرَبِيعَةُ ابْنَا أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَأَمَّا عَبْدُ يَالِيلَ فَأَسْلَمَ وَلَهُ صُحْبَةٌ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٍ، وَكَذَلِكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَأَمَّا رَبِيعَةُ بْنُ أُمَيَّةَ فَلَا يُعْرَفُ لَهُ إِسْلَامٌ فَلَا يُلَاقِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَأَحْسَنُ مَا فِي كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ
طَرَفُهُ الثَّانِي وَهُوَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ مُتَمَثِّلًا بِهَا فَإِن ذَلِك يؤوّل قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ، وَيُبَيِّنُ وَجْهَ قِرَاءَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا عِنْد مَا أَخْبَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ قَرَأَهَا تَحْقِيقًا لِمِثَالٍ مِنْ صُوَرِ مَعْنَى الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا النَّفَرِ مِمَّنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، وَذَلِكَ قَاضٍ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، وَالْآيَةُ تَحِقُّ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ كَافِرًا مِثْلَ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ.
وَعَلَى بَعْضِ احْتِمَالَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ أَيْ تَسْتَتِرُونَ بِأَعْمَالِكُمْ عَنْ سَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَجُلُودِكُمْ، وَذَلِكَ تَوْبِيخٌ كِنَايَةً عَنْ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَرَوْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَبِيحًا حَتَّى يَسْتَتِرُوا مِنْهُ وَعَلَى بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ فِيمَا ذُكِرَ يَكُونُ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَلَا يَعُوزُكَ تَوْزِيعُ أَصْنَافِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَات: أَن بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ فِي كُلِّ تَقْدِيرٍ تَفْرِضُهُ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ: أَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا إِنْ جَهَرْتُمْ أَوْ سَتَرْتُمْ وَلَيْسَ اللَّهُ بِحَاجَةٍ إِلَى شَهَادَةِ جِوَارِحِكُمْ عَلَيْكُمْ وَمَا أَوْقَعَكُمْ فِي هَذَا الضُّرِّ إِلَّا سُوءُ ظَنِّكُمْ بِجَلَالِ اللَّهِ.
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الْإِشَارَةُ إِلَى الظَّنِّ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ تَمْيِيزُهُ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ وَتَشْهِيرُ شَنَاعَتِهِ لِلنِّدَاءِ عَلَى ضَلَالِهِمْ.
271
وَأَتْبَعَ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِالْبَدَلِ بِقَوْلِهِ: ظَنُّكُمُ لِزِيَادَةِ بَيَانِهِ لِيَتَمَكَّنَ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ هُوَ فِعْلُ أَرْداكُمْ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ.
والَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ صِفَةٌ لِ ظَنُّكُمُ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَرْداكُمْ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ، أَيْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ظَنًّا بَاطِلًا. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ اللَّهِ الْعَلَمِ إِلَى بِرَبِّكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ضَلَالِ ظَنِّهِمْ، إِذْ ظَنُّوا خَفَاءَ بَعْضِ أَعْمَالِهِمْ عَنْ عِلْمِهِ مَعَ أَنه رَبهم وخالقهم فَكَيْفَ يَخْلُقُهُمْ وَتَخْفَى عَنْهُ أَعْمَالُهُمْ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الْملك: ١٤]، فَفِي وَصْفِ بِرَبِّكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنى.
والإرداء: الْإِهْلَاكُ، يُقَالُ: رَدِيَ كَرَضِيَ، إِذَا هَلَكَ، أَيْ مَاتَ، وَالْإِرْدَاءُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِيقَاعِ فِي سُوءِ الْحَالَةِ بِحَيْثُ أَصَارَهُمْ مِثْلَ الْأَمْوَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْصَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي سُوءِ الْحَالَةِ وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا إِفَادَةُ قَصْرٍ، أَيْ مَا أَرْدَاكُمْ إِلَّا ظَنُّكُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَمْ تُرْدِكُمْ شَهَادَةُ جَوَارِحِكُمْ حَتَّى تَلُومُوهَا بَلْ أَرْدَاكُمْ ظَنُّكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ فَلَمْ تَحْذَرُوا عِقَابَهُ.
وَقَوْلُهُ: فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ إِذْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَحِقُّ أَنْ يعرفوه من شؤون اللَّهِ وَوَثِقُوا مِنْ تَحْصِيلِ سَعَادَتِهِمْ، وَهُمْ مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فَعَامَلُوا اللَّهَ بِمَا لَا يَرْضَاهُ فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا النَّجَاةَ، فَشَبَّهَ حَالَهَمْ بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي اسْتَعَدَّ لِلرِّبْحِ فَوَقَعَ فِي الْخَسَارَةِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ نُعِيَ عَلَيْهِمْ سُوءُ اسْتِدْلَالِهِمْ وَفَسَادُ قِيَاسِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ، وَقِيَاسِهِمُ الْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ، تِلْكَ الْأُصُولُ الَّتِي اسْتَدْرَجَتْهُمْ فِي الضَّلَالَةِ فَأَحَالُوا رِسَالَةَ الْبَشَرِ عَنِ اللَّهِ وَنَفَوُا الْبَعْثَ، ثُمَّ أَثْبَتُوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَتَفَرَّعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَطْعُ نَظَرِهِمْ عَمَّا وَرَاءَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَمْنُهُمْ مِنَ التَّبِعَاتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَذَلِكَ جِمَاعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
272
وَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الضَّلَالِ فِي الْعَقَائِدِ كُلِّهَا إِنَّمَا تَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ فَسَادِ التَّأَمُّلِ وَسُرْعَةِ الْإِيقَانِ وَعَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الصَّائِبَةِ وَالدَّلَائِلِ الْمُشَابِهَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْوَهْمِ الْمُعَبَّرِ عَنهُ بِالظَّنِّ السيّء، أَوِ الْبَاطِلِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ مِثْلَهُ فِي الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّ ظَنَّهُمْ هُوَ ظَنُّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمرَان: ١٥٤]، فَلْيَحْذَرِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَوْهَامِ فَيَبُوءُوا بِبَعْضِ مَا نُعِيَ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ.
وَقَدْ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»
يُرِيد الظَّن الَّذين لَا دَلِيل عَلَيْهِ. و (أَصْبَحْتُم) بِمَعْنَى: صِرْتُمْ، لِأَنَّ أَصْبَحَ يَكْثُرُ أَنْ تَأْتِيَ بِمَعْنى: صَار.
[٢٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٤]
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَاب إِذا [فصلت: ٢٠] عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، أَوْ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فصلت: ٢١]، أَوْ هُوَ جَوَابُ إِذا، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ عَلَى حَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْوُجُوهَ الْمُتَقَدِّمَةَ. وَالْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ: أَنَّ حَاصِلَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ زُجَّ بِهِمْ فِي النَّارِ فَإِنْ صَبَرُوا وَاسْتَسْلَمُوا فَهُمْ بَاقُونَ فِي النَّارِ، وَإِنِ اعْتَذَرُوا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْعُذْرُ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ تَنَصُّلٌ.
وَقَوْلُهُ: فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّ كَوْنَ النَّارِ مَثْوًى لَهُمْ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَلَى حُصُولِ صَبْرِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: إِنْ قَبِلَ ذَلِكَ فَذَاكَ، أَيْ فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الصَّبْرُ لِأَنَّ النَّارَ مَثْوًى لَهُمْ.
وَمَعْنَى وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا إِنْ يَسْأَلُوا الْعُتْبَى (بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورًا اسْمُ مَصْدَرِ الْإِعْتَابِ) وَهِيَ رُجُوعُ الْمَعْتُوبِ عَلَيْهِ إِلَى مَا يُرْضِي الْعَاتِبَ.
وَفِي الْمَثَلِ «مَا مُسِيءٌ مَنْ أَعْتَبَ» أَيْ مَنْ رَجَعَ عَمَّا أَسَاءَ بِهِ فَكَأَنَّهُ لم يسىء. وَقَلَّمَا اسْتَعْمَلُوا الْمَصْدَرَ الْأَصْلِيَّ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْعُتْبَى. وَالْعَاتِبُ هُوَ اللَّائِمُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلطَّلَبِ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُعَاتِبَهُ وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ تَرْكَ الْمُعَاتَبَةِ، أَيْ يَسْأَلُهُ الصَّفْحَ عَنْهُ فَإِذَا قَبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ قِيلَ: أَعْتَبَهُ أَيْضًا، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ تَصَارِيفِ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي اللُّغَةِ وَلِهَذَا كَادُوا أَنْ يُمِيتُوا مَصْدَرَ: أَعْتَبَ بِمَعْنَى رَجَعَ وَأَبْقَوْهُ فِي مَعْنَى قَبِلَ الْعُتْبَى، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْتِبُهُمْ، أَيْ لَا يقبل مِنْهُم.
[٢٥]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٥]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ [فصلت: ١٩]، وَذَلِكَ أَنَّهُ حُكِيَ قَوْلُهُمُ الْمُقْتَضِي إِعْرَاضَهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَعْوَةِ الْإِيمَانِ ثمَّ ذكر كفر هم بِخَالِقِ الْأَكْوَانِ بقوله قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] ثُمَّ ذُكِرَ مَصِيرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ سَبَبِ ضَلَالِهِمُ الَّذِي نَشَأَتْ عَنْهُ أَحْوَالُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ. وَتَخَلَّلَ بَيْنَ مَا هُنَالِكَ وَمَا هُنَا أَفَانِينُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالدَّلَائِلِ وَالْمِنَنِ وَالتَّعَالِيمِ وَالْقَوَارِعِ وَالْإِيقَاظِ.
وَقَيَّضَ: أَتَاحَ وَهَيَّأَ شَيْئًا لِلْعَمَلِ فِي شَيْءٍ. وَالْقُرَنَاءُ جَمْعُ: قَرِينٍ، وَهُوَ الصَّاحِبُ الْمُلَازِمُ، وَالْقُرَنَاءُ هُنَا: هُمُ الْمُلَازِمُونَ لَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ: إِمَّا فِي الظَّاهِرِ مِثْلَ دُعَاةِ الْكُفْرِ وَأَيمَّتِهِ، وَإِمَّا فِي بَاطِنِ النُّفُوسِ مِثْلَ شَيَاطِينِ الْوَسْوَاسِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَيَأْتِي فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٣٦]. وَمَعْنَى تَقْيِيضِهِمْ لَهُمْ: تَقْدِيرُهُمْ لَهُمْ، أَيْ خَلْقُ الْمُنَاسَبَاتِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَلَيْهَا
274
تَقَارُنُ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ لِتَنَاسُبِ أَفْكَارِ الدُّعَاةِ وَالْقَابِلِينَ كَمَا يَقُولُ الْحُكَمَاءُ «اسْتِفَادَةُ الْقَابِلِ مِنَ الْمَبْدَأِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا». فَالتَّقْيِيضُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ عِبَارَةٌ جَامِعَةٌ لِمُخْتَلِفِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَالتَّجَمُّعَاتِ الَّتِي تُوجِبُ التَّآلُفَ وَالتَّحَابَّ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ، وَلِمُخْتَلِفِ الطَّبَائِعِ الْمُكَوَّنَةِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ فَيَقْتَضِي بَعْضُهَا جَاذِبِيَّةَ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهَا وَحُدُوثَ الْخَوَاطِرِ السَّيِّئَةِ فِيهَا. وَلِلْإِحَاطَةِ بِهَذَا الْمَقْصُودِ أُوثِرَ التَّعْبِيرُ هُنَا بِ قَيَّضْنا دُونَ غَيره من نَحْو: بَعَثْنَا، وَأَرْسَلْنَا.
وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُزَيَّنَ غَيْرُ حَسَنٍ فِي ذَاتِهِ. وَمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يُسْتَعَارُ لِلْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ، وَمَا خَلْفَهُمْ يُسْتَعَارُ لِلْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أُمُورُ الدُّنْيَا، أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ مَا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَسَادِ مِثْلَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ بِلَا حَقٍّ، وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ، وَالْعُدُولِ عَلَى النَّاسِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، وَالْمَيْسِرِ، وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، وَالْوَأْدِ. فَعَوَّدُوهُمْ بِاسْتِحْسَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الشَّهَوَاتِ وَالرَّغَبَاتِ الْعَارِضَةِ الْقَصِيرَةِ الْمَدَى، وَصَرَفُوهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يُحِيطُ بِأَفْعَالِهِمْ تِلْكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الذَّاتِيَّةِ الدَّائِمَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا خَلْفَهُمْ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ عَنِ الْحِسِّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِثْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَنِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَظَنِّهِمْ أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ مَسْتُورُ أَعْمَالِهِمْ، وَإِحَالَتِهِمْ بِعْثَةَ الرُّسُلِ، وَإِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ. وَمَعْنَى تَزْيِينِهِمْ هَذَا لَهُمْ تَلْقِينُهُمْ تِلْكَ الْعَقَائِدَ بِالْأَدِلَّةِ السُّفُسْطَائِيَّةِ مِثْلَ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَنَفْيِ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُدْرَكَاتِ الْحِسِّيَّةِ كَقَوْلِهِم: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الصافات: ١٦، ١٧].
وحَقَّ عَلَيْهِمُ أَيْ تَحَقَّقَ فِيهِمُ الْقَوْلُ وَهُوَ وَعِيدُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّارِ عَلَى الْكُفْرِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ لِلْعَهْدِ. وَفِي هَذَا الْعَهْدِ إِجْمَالٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُعْهَدُ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ١٩] وَقَوْلِهِ:
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [الصافات: ٣١]، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا تَكُونَ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ قَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْآيَةَ.
275
وَقَوْلُهُ: فِي أُمَمٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْهِمُ، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ حَالَةَ كَوْنِهِمْ فِي أُمَمٍ أَمْثَالِهِمْ قَدْ سَبَقُوهُمْ. وَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا مَجَازِيَّةٌ، وَهِيَ بِمَعْنَى التَّبْعِيضِ، أَيْ هُمْ مِنْ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ أُذَيْنَةَ:
إِنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ مَأْفُو كَا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا
أَيْ فَأَنْتَ مِنْ جُمْلَةِ آخَرِينَ قَدْ صُرِفُوا عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بَيَانِيَّةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِ أُمَمٍ، أَيْ مِنْ أُمَمٍ مِنَ الْبَشَرِ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٤، ٨٥]، وَقَوْلِهِ: قالَ ادْخُلُوا فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ
[الْأَعْرَاف: ٣٨] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِ قُرَناءَ أَيْ مُلَازِمِينَ لَهُمْ مُلَازَمَةً خَفِيَّةً وَهِيَ مُلَازَمَةُ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ وَمُلَازَمَةُ أَيِمَّةِ الْكُفْرِ لَهُمْ بِالتَّشْرِيعِ لَهُمْ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِلْقَوْلِ مِثْلَ نَظِيرَتِهَا فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٣١]، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جُمْلَةِ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ والمعنيان متقاربان.
[٢٦]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٦]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: ٥] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَمُنَاسَبَةُ التَّخَلُّصِ إِلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّا يَنْشَأُ عَنْ تَزْيِينِ قُرَنَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ، أَوْ هُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَزَيَّنُوا لَهُمْ [فصلت: ٢٥]. وَهَذَا حِكَايَةٌ لِحَالٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ إِعْرَاضَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمُ انْتَقَلَ إِلَى وَصْفِ تَلْقِينِهِمُ النَّاسَ أَسَالِيبَ
276
الْإِعْرَاضِ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا هُمْ أَيِمَّةُ الْكُفْرِ يَقُولُونَ لِعَامَّتِهِمْ:
لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ هُوَ أَكْمَلُ الْكَلَامِ شَرِيفَ مُعَانٍ وَبَلَاغَةَ تَرَاكِيبَ وَفَصَاحَةَ أَلْفَاظٍ، وَأَيْقَنُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُهُ وَتُدَاخِلُ نَفْسَهُ جَزَالَةُ أَلْفَاظِهِ وَسُمُوُّ أَغْرَاضِهِ قَضَى لَهُ فَهْمُهُ أَنَّهُ حَقٌّ اتِّبَاعُهُ، وَقَدْ أَدْرَكُوا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ غَالَبَتْهُمْ مَحَبَّةُ الدَّوَامِ عَلَى سيادة قَومهمْ فتمالؤوا وَدَبَّرُوا تَدْبِيرًا لِمَنْعِ النَّاسِ مِنِ اسْتِمَاعِهِ، وَذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ أَنْ تَرِقَّ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَصَرَفُوهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ.
وَهَذَا مِنْ شَأْنِ دُعَاةِ الضَّلَالِ وَالْبَاطِلِ أَنْ يَكُمُّوا أَفْوَاهَ النَّاطِقِينَ بِالْحَقِّ وَالْحُجَّةِ، بِمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ تَخْوِيفٍ وَتَسْوِيلٍ، وَتَرْهِيبٍ وَتَرْغِيبٍ وَلَا يَدَعُوا النَّاسَ يَتَجَادَلُونَ بِالْحُجَّةِ وَيَتَرَاجَعُونَ بِالْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُمْ يُوقِنُونَ أَنَّ حُجَّةَ خُصُومِهِمْ أَنْهَضُ، فَهُمْ يَسْتُرُونَهَا وَيُدَافِعُونَهَا لَا بِمِثْلِهَا وَلَكِنْ بِأَسَالِيبَ مِنَ الْبُهْتَانِ وَالتَّضْلِيلِ، فَإِذَا أَعْيَتْهُمُ الْحِيَلُ وَرَأَوْا بِوَارِقَ الْحَقِّ تَخْفُقُ خَشَوْا أَنْ يَعُمَّ نُورُهَا النَّاسَ الَّذِينَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ خَيْرٍ وَرُشْدٍ عَدَلُوا إِلَى لَغْوِ الْكَلَامِ وَنَفَخُوا فِي أَبْوَاقِ اللَّغْوِ وَالْجَعْجَعَةِ لَعَلَّهُمْ يَغْلِبُونَ بِذَلِكَ عَلَى حُجَجِ الْحَقِّ وَيَغْمُرُونَ الْكَلَامَ الْقَوْلَ الصَّالِحَ بِاللَّغْوِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ هَؤُلَاءِ.
فَقَوْلُهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ تَحْذِيرًا وَاسْتِهْزَاءً بِالْقُرْآنِ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ كَمَا فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣٦].
وَتَسْمِيَتُهُمْ إِيَّاهُ بِالْقُرْآنِ حِكَايَةٌ لِمَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ تَسْمَعُوا بِاللَّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: تَطْمَئِنُوا أَوْ تَرْكَنُوا.
وَاللَّغْوُ: الْقَوْلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَيُسَمَّى الْكَلَامُ الَّذِي لَا جَدْوَى لَهُ لَغْوًا، وَهُوَ وَاوِيُّ اللَّامِ، فَأصل وَالْغَوْا: وَالْغَوْا اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْوَاوِ فَحُذِفَتْ وَالْتَقَى سَاكِنَانِ فَحُذِفَ أَوَّلُهُمَا وَسَكَنَتِ الْوَاوُ الثَّانِيَةُ سُكُونًا حَيًّا، وَالْوَاوُ عَلَامَةُ الْجَمْعِ. وَهَذَا الْجَارِي عَلَى ظَاهِرِ كَلَام «الصِّحَاح» و «الْقَامُوس» فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يُقَالُ: لَغِيَ يَلْغَى، كَمَا يُقَالُ: لَغَا يَلْغُو فَهُوَ إِذَنْ وَاوِيٌّ وَيَائِيٌّ. فَمَعْنَى وَالْغَوْا فِيهِ قُولُوا أَقْوَالًا لَا مَعْنَى لَهَا أَوْ تَكَلَّمُوا كَلَامًا غَيْرَ مُرَادٍ مِنْهُ إِفَادَةٌ
277
أَوِ الْمَقْصُودُ إِحْدَاثُ أَصْوَاتٍ تَغْمُرُ صَوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِتَخَلُّلِ أَصْوَاتِهِمْ صَوْتَ الْقَارِئِ حَتَّى لَا يَفْقَهَهُ السَّامِعُونَ عُدِّيَ اللَّغْوُ بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ إِيقَاعِ لَغْوِهِمْ فِي خِلَالِ صَوْتِ الْقَارِئِ وُقُوعَ الْمَظْرُوفِ فِي الظَّرْفِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَأُدْخِلَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ عَلَى اسْمِ الْقُرْآنِ دُونَ اسْمِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ مِثْلَ صَوْتٍ أَوْ كَلَامٍ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا يُخْفِي أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ أَوْ يُشَكِّكُ فِي مَعَانِيهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَهَذَا نَظْمٌ لَهُ مَكَانَةٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَكَانَ أَبُو جَهْلٍ وَغَيْرُهُ يَطْرُدُونَ النَّاسَ عَنْهُ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لَهُ وَالْغَوْا فِيهِ، فَكَانُوا يَأْتُونَ بِالْمُكَاءِ وَالصَّفِيرِ وَالصِّيَاحِ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ وَالْأَرَاجِيزِ وَمَا يَحْضُرُهُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَصْخَبُونَ بِهَا»
. وَقَدْ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» «أَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا اسْتَمَعُوا إِلَى قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ رَقِيقَ الْقِرَاءَةِ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا».
وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ رَجَاءَ أَنْ تَغْلِبُوا مُحَمَّدًا بِصَرْفِ مَنْ يُتَوَقَّعُ أَنْ يَتْبَعَهُ إِذَا سَمِعَ قِرَاءَتَهُ. وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ الْقُرْآنَ غَالِبَهُمْ إِذْ كَانَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَهُ يُدَاخِلُ قُلُوبَهُمْ فَيُؤْمِنُونَ، أَيْ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَهُوَ غالبكم.
[٢٧، ٢٨]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨)
دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُفَرَّعٌ عَمَّا قَبْلَهَا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: ٢٦] الْآيَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ
[فصلت: ٥] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا [فصلت: ١٣] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: ١٩] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فصلت: ٢٥] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا [فصلت: ٢٦] إِلَخْ.
278
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا: الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ الْكَلَام عَنْهُم.
ف الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ إِذَاقَةِ الْعَذَابِ، أَيْ لِكُفْرِهِمُ الْمَحْكِيِّ بَعْضُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَاقَةُ الْعَذَابِ: تَعْذِيبُهُمْ، اسْتُعِيرَ لَهُ الْإِذَاقَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ وَالتَّخْيِيلَةِ. وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ فَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا.
وَعَطْفُ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْآخِرَةِ. وأَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
وَالتَّقْدِيرُ: عَلَى أَسْوَأِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ تَقْدِيرُهُ: جَزَاءً مُمَاثِلًا أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ.
وَأَسْوَأُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ السَّيِّئُ، فَصِيغَ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي سُوئِهِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ إِضَافَةِ الْبَعْضِ إِلَى الْكُلِّ وَلَيْسَ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ إِلَى الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْجَزَاءُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ عَلَى أَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ. وَأَعْدَاءُ اللَّهِ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ [فصلت: ١٩].
وَالنَّارُ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ.
ودارُ الْخُلْدِ: النَّارُ. فَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَاءَ بِالظَّرْفِيَّةِ بِتَنْزِيلِ النَّارِ مَنْزِلَةَ ظَرْفٍ لِدَارِ الْخُلْدِ وَمَا دَارُ الْخُلْدِ إِلَّا عَيْنُ النَّارِ. وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ التَّجْرِيدِ لِيُفِيدَ مُبَالَغَةَ مَعْنَى الْخُلْدِ فِي النَّارِ. وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَاب: ٢١] وَقَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْعَتَّابِيِّ:
279
وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي
أَيْ وَالرَّحْمَنُ كَافٍ لِلضُّعَفَاءِ.
والْخُلْدِ: طُولُ الْبَقَاءِ، وَأُطْلِقَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ عَلَى الْبَقَاءِ الْمُؤَبَّدِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَانْتَصَبَ جَزاءُ عَلَى الْحَالِ مِنْ دارُ الْخُلْدِ. وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة. و (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ جَزَاءٌ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِنَا.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَجْحَدُونَ دَالَّةٌ عَلَى تَجَدُّدِ الْجُحُودِ حِينًا فَحِينًا وَتَكَرُّرِهِ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ يَجْحَدُونَ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: يَكْذِبُونَ. وَتَقْدِيمُ بِآياتِنا لِلِاهْتِمَامِ وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٢٩]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
عطف على جملَة لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: ٢٨]، أَيْ وَيَقُولُونَ فِي جَهَنَّمَ، فَعَدَلَ عَنْ صِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى صِيغَةِ الْمُضِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الْأَعْرَاف: ٣٨]، فَالْقَائِلُونَ رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا: هُمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله: الَّذَيْنِ أَضَلَّانا وَمَعْنَى أَرِنَا عَيِّنْ لَنَا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِرَادَةِ انْتِقَامِهِمْ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ جَزَمَ نَجْعَلْهُما فِي جَوَابِ الطَّلَبِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِنْ تُرِنَاهُمَا نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا.
وَالْجَعْلُ تَحْتَ الْأَقْدَامِ: الْوَطْءُ بِالْأَقْدَامِ وَالرَّفْسُ، أَيْ نَجْعَلُ آحَادَهُمْ تَحْتَ أَقْدَامِ آحَادِ جَمَاعَتِنَا، فَإِنَّ الدَّهْمَاءَ أَكْثَرُ مِنَ الْقَادَةِ فَلَا يَعُوزُهُمُ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ. وَكَانَ الْوَطْءُ بِالْأَرْجُلِ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الِانْتِقَامِ وَالِامْتِهَانِ، قَالَ ابْنُ وَعْلَةَ الْجَرْمِيُّ:
وَإِنَّمَا طَلَبُوا أَنْ يَرَوْهُمَا لِأَنَّ الْمُضِلِّينَ كَانُوا فِي دَرَكَاتٍ مِنَ النَّارِ أَسْفَلَ مِنْ دَرَكَاتِ أَتْبَاعِهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْرِفُوا أَيْنَ هُمْ.
وَالتَّعْلِيلُ لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ تَوْطِئَةٌ لِاسْتِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ أَنْ يَرِيَهُمُوهُمَا لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ أَشَدُّ غَضَبًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ الْمُضِلَّيْنِ فَتَوَسَّلُوا بِعَزْمِهِمْ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ إِلَى تَيْسِيرِ تَمْكِينِهِمْ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. وَالْأَسْفَلُونَ: الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ حَقَارَةً مِنْ
حَقَارَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ لِيَكُونُوا أَحْقَرَ مِنَّا جَزَاءً لَهُمْ، فَالسَّفَالَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِهَانَةِ وَالْحَقَارَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَرِنَا بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالسُّوسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ بِسُكُونِ الرَّاءِ لِلتَّخْفِيفِ مِنْ ثِقَلِ الْكَسْرَةِ، كَمَا قَالُوا:
فَخْذٌ فِي فَخِذٍ. وَعَنِ الْخَلِيلِ إِذَا قُلْتَ: أَرِنِي ثَوْبَكَ بِكَسْرِ الرَّاء، فَالْمَعْنى: بصّرنيه، وَإِذَا قُلْتَهُ بِسُكُونِ الرَّاءِ فَهُوَ اسْتِعْطَاءٌ، مَعْنَاهُ: أَعْطِنِيهِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَمَنْ وَافَقَهُمَا: مكّنا من الَّذين أَضَلَّانَا كَيْ نَجْعَلَهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا، أَيِ ائْذَنْ لَنَا بِإِهَانَتِهِمَا وَخِزْيِهِمَا. وَقَرَأَ ابْن كثير الَّذِينَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ مِنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فِي سُورَة النِّسَاء [١٦].
[٣٠- ٣٢]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٣٠ إِلَى ٣٢]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)
بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ مِمَّا فِيهِ عِبْرَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كذبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
281
بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ، ثُمَّ أُنْذِرُوا بِالتَّصْرِيحِ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَوَصْفِ بَعْضِ أَهْوَالِهِ، تَشَوَّفَ السَّامِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَظِّ الْمُؤْمِنِينَ وَوَصْفِ حَالِهِمْ فَجَاءَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ إِلَخْ، بَيَانًا لِلْمُتَرَقِّبِ وَبُشْرَى لِلْمُتَطَلِّبِ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله: وَيَوْم نحْشر أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: ١٩] إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت: ٢٩].
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ، فَفِي تَوْكِيدِ الْخَبَرِ زِيَادَةُ قَمْعٍ لَهُمْ. وَمَعْنَى قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ أَنَّهُمْ صَدَعُوا بِذَلِكَ وَلَمْ يَخْشَوْا أَحَدًا بِإِعْلَانِهِمُ التَّوْحِيدَ، فَقَوْلُهُمْ تَصْرِيحٌ بِمَا فِي اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ قَالُوا ذَلِكَ عَنِ اعْتِقَادٍ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الصِّدْقُ وَهُوَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ الْوَاقِعِ وَمَا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ.
وَقَوْلُهُ: رَبُّنَا اللَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ بِتَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ، أَيْ لَا رَبَّ لَنَا إِلَّا اللَّهُ، وَذَلِكَ جَامِعٌ لِأَصْلِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالتَّوْحِيدِ يُزِيلُ الْمَانِعَ مِنْ تَصْدِيق
الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ إِذْ لَمْ يَصُدَّ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِنَبْذِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ التَّكْذِيبَ بِالْبَعْثِ تَلَقَّوْهُ مِنْ دُعَاةِ الشِّرْكِ.
وَالِاسْتِقَامَةُ حَقِيقَتُهَا: عَدَمُ الِاعْوِجَاجِ وَالْمَيْلِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّقَوُّمِ، فَحَقِيقَةُ اسْتَقَامَ: اسْتَقَلَّ غَيْرَ مَائِلٍ وَلَا مُنْحَنٍ. وَتُطْلَقُ الِاسْتِقَامَةُ بِوَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ عَلَى مَا يَجْمَعُ مَعْنَى حُسْنِ الْعَمَلِ وَالسِّيرَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالصِّدْقِ قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت: ٦] وَقَالَ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢]، وَيُقَالُ: اسْتَقَامَتِ الْبِلَادُ لِلْمَلِكِ، أَيْ أَطَاعَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التَّوْبَة:
٧]. فَ اسْتَقامُوا هُنَا يَشْمَلُ مَعْنَى الْوَفَاءِ بِمَا كُلِّفُوا بِهِ وَأَوَّلُ مَا يَشْمَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى أَصْلِ التَّوْحِيدِ، أَيْ لَا يُغَيِّرُوا وَلَا يَرْجِعُوا عَنْهُ.
وَمِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَا
رُوِيَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ قَالَ:
282
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ. قَالَ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ»
. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ اسْتَقامُوا: لَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا. وَعَنْ عُمَرَ: اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لِطَاعَتِهِ ثُمَّ لَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ. وَقَالَ عُثْمَانُ: ثُمَّ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: ثُمَّ أَدَّوُا الْفَرَائِضَ
. فَقَدْ تَوَلَّى تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِقَامَةِ فِي الْإِيمَانِ وَآثَارِهِ، وَعِنَايَةُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَقْطَابِ الْإِسْلَامِ بِبَيَانِ الِاسْتِقَامَةِ مُشِيرٌ إِلَى أَهَمِّيَّتِهَا فِي الدَّين.
وتعريب الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوَهُ لِمَا فِي الصِّلَة من الْإِيمَاء إِلَى أَنَّهَا سَبَبُ ثُبُوتِ الْمُسْنَدِ لِلْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَيُفِيدُ أَنَّ تَنَزُّلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ مُسَبَّبٌ عَلَى قَوْلِهِمْ: رَبُّنَا اللَّهُ وَاسْتِقَامَتِهِمْ فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ هُمَا سَبَبُ الْفَوْزِ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ زَائِدَةٌ فِي الْمَرْتَبَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّهَا تَشْمَلُهُ وَتَشْمَلُ الثَّبَاتَ عَلَيْهِ وَالْعَمَلَ بِمَا يَسْتَدْعِيهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ:
رَبُّنَا اللَّهُ كَانَ قَوْلًا مُنْبَعِثًا عَنِ اعْتِقَادِ الضَّمِيرِ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَقِيقَيَّةِ.
وَجَمَعَ قَوْلُهُ: قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أَصْلَيِ الْكَمَالِ الْإِسْلَامِيِّ، فَقَوْلُهُ: قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ مُشِيرٌ إِلَى الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَمَعْرِفَةُ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، فَالْكَمَالُ عِلْمٌ يَقِينِيٌّ وَعَمَلٌ صَالِحٌ، فَمَعْرِفَةُ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ هِيَ أَسَاسُ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ.
وَأَشَارَ قَوْلُهُ: اسْتَقامُوا إِلَى أَسَاسِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الْحَقِّ، أَيْ أَنْ
يَكُونَ وَسَطًا غَيْرَ مَائِلٍ إِلَى طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ قَالَ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦] وَقَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣] عَلَى أَنَّ كَمَالَ الِاعْتِقَادِ رَاجِعٌ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ، فَالِاعْتِقَادُ الْحَقُّ أَنْ لَا يَتَوَغَّلَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى التَّعْطِيلِ، وَلَا يَتَوَغَّلَ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ بَلْ يَمْشِي عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ الْفَاصِلِ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ،
283
وَيَسْتَمِرُّ كَذَلِكَ فَاصِلًا بَيْنَ الْجَبْرِيِّ وَالْقَدَرِيِّ، وَبَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْقُنُوطِ، وَفِي الْأَعْمَالِ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّفْرِيطِ.
وَتَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ الْحَشْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمُ:
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، وَكَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُمْ لَهُمْ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْخَطَّابِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، فَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْله: وَيَوْم نحْشر أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت: ١٩]، فَأُولَئِكَ تُلَاقِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْوَزْعِ، وَالْمُؤْمِنُونَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْأَمْنِ. وَذِكْرُ التَّنَزُّلِ هُنَا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ مِنْ عُلْوِيَّاتِهِمْ لِأَجْلِهِمْ فَأَمَّا أَعْدَاءُ اللَّهِ فَهُمْ يَجِدُونَ الْمَلَائِكَةَ حُضَّرًا فِي الْمَحْشَرِ يَزَعُونَهُمْ وَلَيْسُوا يَتَنَزَّلُونَ لِأَجْلِهِمْ فَثَبَتَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا كَرَامَةٌ كَكَرَامَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ إِذْ يُنَزِّلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مَلَكَانِ هُمَا الْحَافِظَانِ اللَّذَانِ كَانَا يَكْتُبَانِ أَعْمَالَهُ فِي الدُّنْيَا. وَلِتَضَمُّنِ تَتَنَزَّلُ مَعْنَى الْقَوْلِ وَرَدَتْ بَعْدَهُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةُ وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ تَنَزُّلٌ خَفِيٌّ يُعْرَفُ بِحُصُولِ آثَارِهِ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَكُونَ الْخِطَابُ بِ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا بِمَعْنَى إِلْقَائِهِمْ فِي رُوعِهِمْ عَكْسَ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ الْقُرَنَاءِ بِالتَّزْيِينِ، أَيْ يُلْقُونَ فِي أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ مَا يَصْرِفُهُمْ عَنِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَيُذَكِّرُهُمْ بِالْجَنَّةِ فَتَحِلُّ فِيهِمُ السَّكِينَةُ فَتَنْشَرِحُ صُدُورُهُمْ بِالثِّقَةِ بِحُلُولِهَا، وَيُلْقُونَ فِي نُفُوسِهِمْ نَبْذَ وِلَايَةِ مَنْ لَيْسُوا مِنْ حِزْبِ اللَّهِ، فَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فصلت: ٢٥] الْآيَةَ فَإِنَّهُ تَقْيِيضٌ فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ لَا يَخَافُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ، وَيُوقِنُونَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، وَهُمْ فَرِحُونَ بِمَا يَتَرَقَّبُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَوْلُهُ: الَّتِي كُنْتُمْ تُعْتَبَرُ (كَانَ) فِيهِ مَزِيدَةً لِلتَّأْكِيدِ، وَيَكُونُ الْمُضَارِعُ فِي تُوعَدُونَ عَلَى أَصْلِ اسْتِعْمَالِهِ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
تَأْيِيدًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَوَعْدًا بِنَفْعِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
284
وَلَا نَاهِيَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ: النَّهْيُ عَنْ سَبَبِهِ، وَهُوَ تَوَقُّعُ الضُّرِّ، أَيْ لَا تَحْسَبُوا أَنَّ اللَّهَ مُعَاقِبُكُمْ، فَالنَّهْيُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّأْمِينِ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ إِذَا
تَحَقَّقُوا الْأَمْنَ زَالَ خَوْفُهُمْ، وَهَذَا تَطْمِينٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْخَوْفُ: غَمٌّ فِي النَّفْسِ يَنْشَأُ عَنْ ظَنِّ حُصُولِ مَكْرُوهٍ شَدِيدٍ. وَالْحُزْنُ: غَمٌّ فِي النَّفْسِ يَنْشَأُ عَنْ وُقُوعِ مَكْرُوهٍ بِفَوَاتِ نَفْعٍ أَوْ حُصُولِ ضُرٍّ.
وَأَلْحَقُوا بِتَأْمِينِهِمْ بِشَارَتَهُمْ، لِأَنَّ وَقْعَ النَّعِيمِ فِي النَّفْسِ مَوْقِعَ الْمَسَرَّةِ إِذَا لَمْ يُخَالِطْهُ تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ.
وَوَصْفُ الْجَنَّةِ بِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي وُعِدُوا عَلَيْهَا بِالْجَنَّةِ، وَتَعْجِيلٌ لَهُمْ بِمَسَرَّةِ الْفَوْزِ بِرِضَى اللَّهِ، وَتَحْقِيقُ وَعْدِهِ، أَيِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَهَا فِي الدُّنْيَا.
وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْكَوْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَأَصِّلُونَ فِي الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ وَذَلِكَ مِنْ سَابِقِ إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ.
وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْمُضَارِعِ فِي تُوعَدُونَ إِفَادَةُ أَنَّهُمْ قَدْ تَكَرَّرَ وَعْدُهُمْ بِهَا، وَذَلِكَ بِتَكَرُّرِ الْأَعْمَالِ الْمَوْعُودِ لِأَجْلِهَا وَبِتَكَرُّرِ الْوَعْدِ فِي مَوَاقِعِ التَّذْكِيرِ وَالتَّبْشِيرِ.
وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
تَعْرِيفٌ بِأَنْفُسِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ تَأْنِيسًا لَهُمْ.
فَإِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْمُتَلَقِّيَ صَاحِبٌ قَدِيمٌ يَزِيدُ نَفْسَ الْقَادِمِ انْشِرَاحًا وَأُنْسًا وَيُزِيلُ عَنْهُ دَهْشَةَ الْقُدُومِ، يُخَفِّفُ عَنْهُ مِنْ حِشْمَةِ الضِّيَافَةِ، وَيُزِيلُ عَنْهُ وَحْشَةَ الِاغْتِرَابِ، أَي نَحن الَّذين كُنَّا فِي صُحْبَتِكُمْ فِي الدُّنْيَا، إِذْ كَانُوا يَكْتُبُونَ حَسَنَاتِهِمْ وَيَشْهَدُونَ عِنْدَ اللَّهِ بِصَلَاتِهِمْ كَمَا
فِي حَدِيثِ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»
. وَقَدْ حَفِظُوا الْعَهْدَ فَكَانُوا أَوْلِيَاءَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ جِيءَ بِهَذَا الْقَوْلِ مُعْتَرِضًا بَيْنَ صِفَاتِ الْجَنَّةِ
285
لِيَتَحَقَّقَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ بِشَارَتَهُمْ بِالْجَنَّةِ بِشَارَةُ مُحِبٍّ يَفْرَحُ لِحَبِيبِهِ بِالْخَيْرِ وَيَسْعَى لِيَزِيدَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
إِشَارَةٌ إِلَى مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فصلت: ٢٥] فَكَمَا قيّض للْكَافِرِ قُرَنَاءَ فِي الدُّنْيَا قَيَّضَ للْمُؤْمِنين مَلَائِكَة يكونُونَ قرناءهم فِي الدُّنْيَا، وكما أنطق أتباعهم باللائمة عَلَيْهِم أنطق الْمَلَائِكَة بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ خَاصٌّ بِرُفْقَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَلَائِهِمْ وَلَا حَظَّ لِلْكَافِرِينَ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْحَفَظَةُ مِنْ خَصَائِصِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ نَاجِي فِي «شَرْحِ الرِّسَالَةِ» فَمَعْنَى وِلَايَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْحَفَظَةُ مُوَكَّلِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ
كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: ٩- ١٢] فَهَذَا صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِحِفْظِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَهُمْ غَيْرُ الْحَفَظَةِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُعَقِّبَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١١].
وَقَدْ دَلَّتْ عِدَّةُ آثَارٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي الْقَبُولِ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ لَهُمْ عَلَاقَةٌ بِالنَّاسِ عُمُومًا أَوْ بِالْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ.
وَعَنْ عُثْمَانَ «أَنَّهُ سَأَلَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمْ مِنْ مَلَكٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَذَكَرَ لَهُ عِشْرِينَ مَلَكًا»
. وَلَعَلَّ وَصْفَ الْمَلَائِكَةِ الْمُتَنَزِّلِينَ بِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ يَقْتَضِي أَنَّ عَمَلَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِ عَمَلُ صَلَاحٍ وَتَأْيِيدٍ مِثْلَ إِلْهَامِ الطَّاعَاتِ وَمُحَارَبَةِ الشَّيَاطِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ تَتِمُّ مُقَابَلَةُ تَنَزُّلِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ تَقْيِيضِ الْقُرَنَاءِ لِلْكَافِرِينَ، وَهَذَا أَحْسَنُ.
وَجُمْلَةُ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
عَطْفٌ عَلَى الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وَمَا بَينهمَا جملَة مُعْتَرضَة كَمَا بَيَّنْتُهُ آنِفًا.
وَمَعْنَى مَا تَدَّعُونَ
: مَا تَتَمَنَّوْنَ. يُقَالُ: ادَّعَى، أَيْ تَمَنَّى، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ فِي سُورَةِ يس
286
وَالْمَعْنَى: لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهُونَهُ مِمَّا يَقَعُ تَحْتَ الْحِسِّ وَمَا تَتَمَنَّوْنَهُ فِي نُفُوسِكُمْ مِنْ كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ مِمَّا يَجُولُ فِي الْخَيَالِ، فَمَا يَدَّعُونَ غَيْرَ مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ.
وَلِهَذِهِ الْمُغَايَرَةِ أُعِيدَ لَكُمْ
لِيُؤْذِنَ بِاسْتِقْلَالِ هَذَا الْوَعْدِ عَنْ سَابِقِهِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعَطْفَ عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوْ عَطْفٌ عَامٌّ عَلَى خَاصٍّ.
وَالنُّزُلُ بِضَمِّ النُّونِ وَضَمِّ الزَّايِ: مَا يُهَيَّأُ لِلضَّيْفِ مِنَ الْقِرَى، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النُّزُولِ لِأَنَّهُ كَرَامَةُ النَّزِيلِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَا يُعْطُونَهُ مِنَ الرَّغَائِبِ سَوَاءٌ كَانَتْ رِزْقًا أَمْ غَيْرَهُ.
وَوَجْهُ الشَّبَهِ سُرْعَةُ إِحْضَارِهِ كَأَنَّهُ مُهَيَّأٌ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَشْتَهُوهُ أَوْ يَتَمَنَّوْهُ.
ومِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ صِفَةُ نُزُلًا، ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَانْتَصَبَ نُزُلًا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
. وَمَا تَدَّعُونَ
حَالَ كَوْنِهِ كَالنُّزُلِ الْمُهَيَّأِ لِلضَّيْفِ، أَيْ تُعْطَوْنَهُ كَمَا يُعْطَى النُّزُلُ لِلضَّيْفِ.
وَأُوثِرَتْ صِفَتَا (الْغَفُورِ الرَّحِيمِ) هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُمْ أَوْ لِأَكْثَرِهِمُ اللَّمَمَ وَمَا تَابُوا مِنْهُ، وَأَنَّهُ رَحِيمٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَهُ وَيَخَافُونَهُ ويناصرون دينه.
[٣٣]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٣٣]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)
لَيْسَ هَذَا مِنْ حِكَايَةِ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَكْمِلَةٌ لِلثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت: ٣٠]، وَاسْتَقَامُوا، وَتَوْجِيهٌ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةَ الشَّرِيفَةَ، وَقَمْعٌ لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ تَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ، أَيْ كَيْفَ لَا يَكُونُونَ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ وَقَدْ قَالُوا أَحْسَنَ الْقَوْلِ وَعَمِلُوا أَحْسَنَ الْعَمَلِ. وَذِكْرُ هَذَا الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِحُسْنِ قَوْلِهِمْ عَقِبَ ذِكْرِ مَذَمَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَوَعِيدِهِمْ عَلَى سُوءِ قَوْلِهِمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: ٢٦]، مُشْعِرٌ لَا مَحَالَةَ بِأَنَّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بَوْنًا بَعيدا، طرفاه: الْأَحْسَن الْمُصَرُّحُ بِهِ، وَالْأَسْوَأُ الْمَفْهُومُ بِالْمُقَابَلَةِ، أَيْ فَلَا يَسْتَوِي الَّذِينَ قَالُوا أَحْسَنَ الْقَوْلِ وَعَمِلُوا أَصْلَحَ الْعَمَلِ مَعَ الَّذِينَ قَالُوا أَسْوَأَ الْقَوْلِ وَعَمِلُوا أَسْوَأَ الْعَمَلِ، وَلِهَذَا عَقَّبَ بُقُولِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [فصلت: ٣٤].
287
وَالْوَاوُ إِمَّا عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت: ٣٠]، أَوْ حَالِيَّةً مِنَ الَّذِينَ قالُوا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ نَالُوا ذَلِكَ إِذْ لَا أَحْسَنَ مِنْهُمْ قَوْلًا وَعَمَلًا. ومَنْ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ، أَيْ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلًا مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ الْآيَةَ فِي سُورَة النِّسَاء [١٢٥].
ومِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ: كُلُّ أَحَدٍ ثَبَتَ لَهُ مَضْمُونُ هَذِهِ الصِّلَةِ. وَالدُّعَاءُ إِلَى شَيْءٍ:
أَمْرُ غَيْرِكَ بِالْإِقْبَالِ عَلَى شَيْءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الدَّعْوَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ وَالدَّعْوَةُ الْعَلَوِيَّةُ، وَتَسْمِيَةُ الْوَاعِظِ عِنْدَ بَنِي عَبِيدٍ بِالدَّاعِي لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى التَّشَيُّعِ لِآلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. فَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ: تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْآمِرِ بِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَنَبْذِ الشِّرْكِ بِحَالِ مَنْ يَدْعُو أَحَدًا بِالْإِقْبَالِ إِلَى شَخْصٍ، وَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ أَعْلَنُوا التَّوْحِيدَ وَهُوَ مَا وُصِفُوا بِهِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا [فصلت: ٣٠] كَمَا عَلِمْتَ وَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَدْعُونَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَسَيِّدُ الدَّاعِينَ إِلَى اللَّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَوْلُهُ: مَنْ دَعا إِلَى اللَّهِ (مَنْ) فِيهِ تَفْضِيلِيَّةٌ لِاسْمِ أَحْسَنُ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَوْلِ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ.
وَهَذَا الْحَذْفُ كَالَّذِي فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَوَطْئِنَا وَطْأً عَلَى حَنَقٍ وَطْأَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهَرْمِ
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَلَى وَعْلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ
أَيْ لَا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَلَى مَخَافَةِ وَعْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧].
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ: هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يُصْلِحُ عَامِلَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ صَلَاحًا لَا يَشُوبُهُ فَسَادٌ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ الْجَارِي عَلَى وَفْقَ مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ: هُوَ مَا وُصِفَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: ٣٠].
وَأَمَّا وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ ثَنَاءٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمُ افْتَخَرُوا بِالْإِسْلَامِ وَاعْتَزُّوا بِهِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَتَسَتَّرُوا بِالْإِسْلَامِ.
وَالِاعْتِزَازُ بِالدِّينِ عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَكِنَّهُ خُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ غَيْظُ
288
الْكَافِرِينَ. وَمِثَالُ هَذَا مَا
وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ صَاحَ أَبُو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَلُ، فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا: «اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ» فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ»
. وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ نَظِيرَ هَذَا الْقَوْلِ فِي الصِّلَةِ الْمُشِيرَةِ إِلَى سَبَبِ تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْكَرَامَةِ وَهِيَ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: ٣٠] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِهَا هُنَا الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِتَفَاخُرِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الصِّلَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ هُنَالِكَ بِخِلَافِ مَوْقِعِهِ هُنَا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعٌ عَظِيمٌ لِفَضِيلَةِ عُلَمَاءِ الدِّينِ الَّذِينَ بَيَّنُوا السُّنَنَ وَوَضَّحُوا أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ وَاجْتَهَدُوا فِي التَّوَصُّلِ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ دِينِهِ وَمِنْ خُلُقِهِ. وَفِيهَا أَيْضًا مَنْزَعٌ لَطِيفٌ لِتَأْيِيدِ قَوْلِ الْمَاتُرِيدِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ: إِنَّ الْمُسْلِمَ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ وَلَا يَقُولُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ خِلَافًا لِقَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسَ فَنُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ تَطَايَرَ شَرَرُ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ مُدَّةَ قَرْنٍ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» وَوَافَقَهُ. وَذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ مُفَصَّلَةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٨٩] وَبِذَلِكَ فَلَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ عَلَى الْمَاتُرِيدِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونٍ. وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْقَوْلِ فِي إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت: ٣٠].
[٣٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٣٤]
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)
عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَهُ مَوْقِعٌ عَجِيبٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [فصلت: ٣٣] إِلَخْ تَكْمِلَةً لَهَا فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا تَضَمَّنَتِ
289
الثَّنَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِثْرَ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَذَمِّهِمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِيهَا بَيَانُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ مَرْتَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنَ الصِّفَةِ فَتَلَمُّحُ الصِّفَةِ مُقَارِنٌ لَهُ، فَالْحَسَنَةُ حَالَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالسَّيِّئَةُ حَالَةُ الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى كَمَعْنَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ [غَافِر: ٥٨]، فَعَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ الَّتِي يَجْمَعُهَا غَرَضٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] الْوَاقِعَةِ بَعْدَ جُمْلَةِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: ٥] إِلَى قَوْلِهِ: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: ٥] فَإِنَّ ذَلِكَ مُثِيرٌ فِي نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّجَرَ مِنْ إِصْرَارِ الْكَافِرِينَ عَلَى كَفْرِهِمْ وَعَدَمِ التَّأَثُّرِ بدعوة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ بِحَالٍ مِنْ تَضَيُّقِ طَاقَةِ صَبْرِهِ عَلَى سَفَاهَةِ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ، فَأَرْدَفَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ بِمَا يَدْفَعُ هَذَا الضِّيقَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ الْآيَةَ.
فَالْحَسَنَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ جِنْسِهَا وَأُولَاهَا تَبَادُرًا إِلَى الْأَذْهَانِ حَسَنَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهَا مِنْ جَمِّ الْمَنَافِعِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَتَشْمَلُ صِفَةُ الصَّفْحِ عَنِ الْجَفَاءِ الَّذِي يَلْقَى بِهِ الْمُشْرِكُونَ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الصَّفْحَ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَفِيهِ تَرْكُ مَا يُثِيرُ حَمِيَّتَهُمْ لِدِينِهِمْ وَيُقَرِّبُ لِينَ نُفُوسِ ذَوِي النُّفُوسِ اللَّيِّنَةِ. فَالْعَطْفُ عَلَى هَذَا مِنْ عَطْفِ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَهِيَ تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ عَقِبَهَا ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْآيَةَ.
وَقَدْ عَلِمْتَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ وَنَحْوَهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُرَادُ بِهِ غَالِبًا تَفْضِيلُ أَحَدِهِمَا عَلَى مُقَابِلِهِ بِحَسَبَ دَلَالَةِ السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَة: ١٨]. وَقَوْلِ الْأَعْشَى:
مَا يُجْعَلُ الْجُدُّ الضَّنُونُ الَّذِي جُنِّبَ صَوْبَ اللَّجِبِ الْمَاطِرِ
290
فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ والسيئة، دُونَ إِعَادَةِ لَا النَّافِيَةِ بَعْدَ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ [غَافِر: ٥٨]، فَإِعَادَةُ
لَا النَّافِيَةِ تَأْكِيدٌ لِأُخْتِهَا السَّابِقَةِ. وَأَحْسَنُ مِنِ اعْتِبَارِ التَّأْكِيدِ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ مُؤْذِنٌ بِاحْتِبَاكٍ فِي الْكَلَامِ، تَقْدِيرُهُ: وَمَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ وَالْحَسَنَةُ.
فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ نَفْيُ أَنْ تَلْتَحِقَ فَضَائِل الْحَسَنَة مساوئ السَّيئَة، وَالْمرَاد بِالثَّانِي نَفْيُ أَنْ تَلْتَحِقَ السَّيِّئَةُ بِشَرَفِ الْحَسَنَةِ. وَذَلِكَ هُوَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْخَصَائِصِ، وَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ وَتَقْوِيَةٌ لِنَفْيِ الْمُسَاوَاةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ تَامٌّ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ: جِنْسِ الْحَسَنَةِ وَجِنْسِ السَّيِّئَةِ لَا مُبَالَغَةَ فِيهِ وَلَا مَجَازَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ.
وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ دُونَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ هَذَيْنِ قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي جِنْسِ وَصْفِهِ مِنْ إِحْسَانٍ وَإِسَاءَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَلِيَتَأَتَّى الِانْتِقَالُ إِلَى مَوْعِظَةِ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ فِي قَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِيثَارُ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ تَوْطِئَةً لِلِانْتِقَالِ إِلَى قَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وَقَوْلُهُ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَجْرِي مَوْقِعُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي عَطْفِ جُمْلَةِ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ.
فَالْجُمْلَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْ مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ تَخَلُّصٌ مِنْ غَرَضِ تَفْضِيلِ الْحَسَنَةِ عَلَى السَّيِّئَةِ إِلَى الْأَمْرِ بِخُلُقِ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ ذَلِكَ الدَّفْعَ مِنْ آثَارِ تَفْضِيلِ الْحَسَنَةِ عَلَى السَّيِّئَةِ إِرْشَادًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ وَأُمَّتِهِ بِالتَّخَلُّقِ بِخُلُقِ الدَّفْعِ بِالْحُسْنَى. وَهِيَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْ مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ وَالْمَقْصِدِ مِنَ الْمُقدمَة، فمضمونها ناشىء عَنْ مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مُقْتَضٍ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَفْصُولَةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ.
291
وَإِنَّمَا أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ لِأَنَّ مُنْتَهَى الْكَمَالِ الْبَشَرِيِّ خُلُقُهُ كَمَا
قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»
. وَقَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْحُكَمَاء.
وَالْإِحْسَان كَمَا ذَاتِيٌّ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ تَرْكُهُ مَحْمُودًا فِي الْحُدُودِ وَنَحْوِهَا فَذَلِكَ مَعْنًى خَاصٌّ. وَالْكَمَالُ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ مَا اسْتَطَاعَ مَا لَمْ يُخْشَ فَوَاتُ كَمَالٍ أَعْظَمَ، وَلِذَلِكَ
قَالَتْ عَائِشَةُ: «مَا انْتَقَمَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَغْضَبَ
لِلَّهِ»

. وَتَخَلُّقُ الْأُمَّةِ بِهَذَا الْخُلُقِ مَرْغُوبٌ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: ٤٠].
وَرَوَى عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» وَهُوَ مِمَّا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ جَرِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ [الْأَعْرَاف: ١٩٩] سَأَلَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَنْ تَأْوِيلِهَا فَقَالَ لَهُ: حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ»
. وَمَفْعُولُ ادْفَعْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ انْحِصَارُ الْمَعْنَى بَيْنَ السَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ، فَلَمَّا أُمِرَ بِأَنْ تَكُونَ الْحَسَنَةُ مَدْفُوعًا بِهَا تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ هُوَ السَّيِّئَةُ، فَالتَّقْدِيرُ: ادْفَعِ السَّيِّئَةَ بِالَّتِي هِيَ أحسن كَقَوْلِه تَعَالَى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢٢] وَقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ [٩٦].
وبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هِيَ الْحَسَنَةُ، وَإِنَّمَا صِيغَتْ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ تَرْغِيبًا فِي دَفْعِ السَّيِّئَةِ بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ فَإِنَّ الْغَضَبَ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ مِنْ طِبَاعِ النَّفْسِ وَهُوَ يَبْعَثُ عَلَى حُبِّ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمُسِيءِ فَلَمَّا أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجَازِيَ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ أُشِيرَ إِلَى فَضْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ
وَرَدَ فِي صِفَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ»
. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ وَصْفُهُ فِي التَّوْرَاةِ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ قَوْلُهُ: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ لِبَيَانِ مَا فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ مِنَ الصَّلَاحِ تَرْوِيضًا عَلَى التَّخَلُّقِ بِذَلِكَ الْخُلُقِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ النَّفْسُ مَصْدَرًا لِلْإِحْسَانِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْآثَارُ الصَّالِحَةُ تَدُلُّ عَلَى صَلَاحِ مَثَارِهَا. وَأَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ بَعْضِ مَحَاسِنِهِ
292
وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَدُوُّ كَالصَّدِيقِ، وَحُسْنُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مَقْبُولٌ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَدُلَّ حُسْنُهُ عَلَى حُسْنِ سَبَبِهِ.
وَلِذِكْرِ الْمَثَلِ وَالنَّتَائِجِ عَقِبَ الْإِرْشَادِ شَأْنٌ ظَاهِرٌ فِي تَقْرِيرِ الْحَقَائِقِ وَخَاصَّةً الَّتِي قَدْ لَا تَقْبَلُهَا النُّفُوسُ لِأَنَّهَا شَاقَّةٌ عَلَيْهَا، وَالْعَدَاوَةُ مَكْرُوهَةٌ وَالصَّدَاقَةُ وَالْوِلَايَةُ مَرْغُوبَةٌ، فَلَمَّا كَانَ الْإِحْسَانُ لِمَنْ أَسَاءَ يُدْنِيهِ مِنَ الصَّدَاقَةِ أَوْ يُكْسِبُهُ إِيَّاهَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَوَاهِدِ مَصْلَحَةِ الْأَمْرِ بِالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أحسن.
و (إِذا) لِلْمُفَاجَأَةِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ ظُهُورِ أَثَرِ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي انْقِلَابِ الْعَدُوِّ صَدِيقًا. وَعَدَلَ عَنْ ذِكْرَ الْعَدُوِّ مُعَرَّفًا بِلَامِ الْجِنْسِ إِلَى ذِكْرِهِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِيَتَأَتَّى تَنْكِيرُ عَدَاوَةٍ لِلنَّوْعِيَّةِ وَهُوَ أَصْلُ التَّنْكِيرِ فَيَصْدُقُ بِالْعَدَاوَةِ الْقَوِيَّةِ وَدُونِهَا، كَمَا أَنَّ ظَرْفَ
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ يَصْدُقُ بِالْبَيْنِ الْقَرِيبِ وَالْبَيْنِ الْبَعِيدِ، أَعْنِي مُلَازِمَةَ الْعَدَاوَةِ أَوْ طَرُوَّهَا.
وَهَذَا تَرْكِيبٌ مِنْ أَعْلَى طَرَفِ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَحْوَالَ الْعَدَاوَاتِ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْإِحْسَانَ نَاجِعٌ فِي اقْتِلَاعِ عَدَاوَةِ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ لِلْمُحْسِنِ عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْعَدَاوَةِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَتَمَكُّنًا وَبُعْدًا، وَيُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِحْسَانُ لِلْعَدُوِّ قَوِيًّا بِقَدْرِ تَمَكُّنِ عَدَاوَتِهِ لِيَكُونَ أَنْجَعَ فِي اقْتِلَاعِهَا. وَمِنَ الْأَقْوَالِ الْمَشْهُورَةِ: النُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا.
وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، تَشْبِيهٌ فِي زَوَالِ الْعَدَاوَةِ وَمُخَالَطَةِ شَوَائِبِ الْمَحَبَّةِ، فَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الْمُصَافَاةُ وَالْمُقَارَبَةُ وَهُوَ مَعْنًى مُتَفَاوِتُ الْأَحْوَالِ، أَيْ مَقُولٌ عَلَى جِنْسِهِ بِالتَّشْكِيكِ عَلَى اخْتِلَافِ تَأَثُّرِ النَّفْسِ بِالْإِحْسَانِ وَتَفَاوُتِ قُوَّةِ الْعَدَاوَةِ قَبْلَ الْإِحْسَانِ، وَلَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْمُشَبَّهِ بِهِ إِذْ مِنَ النَّادِرِ أَنْ يَصِيرَ الْعَدُوُّ وَلِيًّا حَمِيمًا، فَإِنْ صَارَهُ فَهُوَ لِعَوَارِضَ غَيْرِ دَاخِلَةٍ تَحْتَ مَعْنَى الْإِسْرَاعِ الَّذِي آذَنَتْ بِهِ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ. وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَاوَةٌ فِي الدِّينِ، فَالْمَعْنَى: فَإِذَا
293
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ لِكُفْرِهِ، فَلِذَلِكَ لَا تَشْمَلُ الْآيَةُ مَنْ آمَنُوا بَعْدَ الْكفْر فَزَالَتْ عداوتهم للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ كَمَا زَالَتْ عَدَاوَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ حَتَّى قَالَ يَوْمًا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، وَكَمَا
زَالَتْ عَدَاوَةُ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ إِذْ قَالَت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ وَالْيَوْمَ مَا أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مَنْ أَهْلِ خِبَائِكَ فَقَالَ لَهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا
، أَيْ وَسَتَزِيدِينَ حُبًّا.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ كَانَ عدوا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَصَارَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَلِيًّا مُصَافِيًا. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَمَا قَالُوا فَلَا أَحْسَبُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي اكْتِسَابِ الْمَوَدَّةِ بِالْإِحْسَانِ.
وَالْوَلِيُّ: اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَايَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَالْوَلَاءِ، وَهُوَ: الْحَلِيفُ وَالنَّاصِرُ، وَهُوَ ضِدُّ الْعَدُوِّ، وَتَقَدَّمَ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَالْحَمِيمُ: الْقَرِيبُ وَالصَّدِيقُ. وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أَنَّهُ جَمْعُ خَصْلَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا لَا تَجْتَمِعُ مَعَ الْعَدَاوَةِ وَهُمَا خَصْلَتَا الْولَايَة والقرابة.
[٣٥]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٣٥]
وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: ٣٤]، أَوْ حَالٌ مِنَ (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وَضَمِيرُ يُلَقَّاها عَائِدٌ إِلَى (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِفِعْلِ (ادْفَعْ)، أَيْ
بِالْمُعَامَلَةِ وَالْمُدَافَعَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَأَمَّا مُطْلَقُ الْحَسَنَةِ فَقَدْ يَحْصُلُ لِغَيْرِ الَّذِينَ صَبَرُوا.
وَهَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى الِارْتِيَاضِ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ بِإِظْهَارِ احْتِيَاجِهَا إِلَى قُوَّةِ عَزْمٍ وَشِدَّةِ مِرَاسٍ لِلصَّبْرِ عَلَى تَرْكِ هَوَى النَّفْسِ فِي حُبِّ الِانْتِقَامِ، وَفِي ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِفَضْلِهَا بِأَنَّهَا تُلَازِمُهَا خَصْلَةُ الصَّبْرِ وَهِيَ فِي ذَاتِهَا خَصْلَةٌ حَمِيدَةٌ وَثَوَابُهَا جَزِيلٌ كَمَا عُلِمَ مِنْ عِدَّةِ آيَاتٍ فِي الْقُرْآنِ، وَحَسْبُكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [الْعَصْر: ٢، ٣].
294
فَالصَّابِرُ مُرْتَاضٌ بِتَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ وَتَجَرُّعِ الشَّدَائِدِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ فَيَهُونُ عَلَيْهِ تُرْكُ الِانْتِقَامِ.
ويُلَقَّاها يُجْعَلُ لَاقِيًا لَهَا، أَيْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الْإِنْسَان:
١١]، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلسَّعْيِ لِتَحْصِيلِهَا لِأَنَّ التَّحْصِيلَ عَلَى الشَّيْءِ بَعْدَ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّخَلُّقِ يُشْبِهُ السَّعْيَ لِمُلَاقَاةِ أَحَدٍ فَيَلْقَاهُ. وَجِيءَ فِي يُلَقَّاها بِالْمُضَارِعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَأْمُورٌ بِتَحْصِيلِ هَذَا الْخُلُقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَجِيءَ فِي الصِّلَةِ وَهِيَ الَّذِينَ صَبَرُوا بِالْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ خُلُقٌ سَابِقٌ فِيهِمْ هُوَ الْعَوْنُ عَلَى مُعَامَلَةِ الْمُسِيءِ بِالْحُسْنَى، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِلَّا الصَّابِرُونَ، لِنُكْتَةِ كَوْنِ الصَّبْرِ سَجِيَّةً فِيهِمْ مُتَأَصِّلَةً. ثُمَّ زِيدَ فِي التَّنْوِيهِ بِهَا بِأَنَّهَا مَا تَحْصُلُ إِلَّا لِذِي حَظٍّ عَظِيمٍ.
وَالْحَظُّ: النَّصِيبُ مِنَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالنَّصِيبِ مِنْ خَيْرٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا:
نَصِيبُ الْخَيْرِ، بِالْقَرِينَةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْوَضْعِ، أَيْ مَا يَحْصُلُ دَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ إِلَّا لِصَاحِبِ نَصِيبٍ عَظِيمٍ مِنَ الْفَضَائِلِ، أَيْ مِنَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ وَالِاهْتِدَاءِ وَالتَّقْوَى.
فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَيْنِ أَنَّ التَّخَلُّقَ بِالصَّبْرِ شَرْطٌ فِي الِاضْطِلَاعِ بِفَضِيلَةِ دَفْعِ السَّيِّئَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ وَحْدَهُ شَرْطًا فِيهَا بَلْ وَرَاءَهُ شُرُوطٌ أُخَرُ يَجْمَعُهَا قَوْلُهُ: حَظٍّ عَظِيمٍ، أَيْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالصَّبْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَظِّ الْعَظِيمِ لِأَنَّ الْحَظَّ الْعَظِيمَ أَعَمُّ مِنَ الصَّبْرِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الصَّبْرُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَصْلُهَا وَرَأْسُ أَمْرِهَا وَعَمُودُهَا.
وَفِي إِعَادَةِ فِعْلِ وَما يُلَقَّاها دُونَ اكْتِفَاءٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ إِظْهَارٌ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ صَرِيحِهِ شَيْءٌ تَحْتَ الْعَاطِفِ.
وَأَفَادَ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أَن الْحَظُّ الْعَظِيمُ مِنَ الْخَيْرِ سَجِيَّتُهُ وَمَلَكَتُهُ كَمَا اقْتَضَتْهُ إِضَافَةُ ذُو.
295
وَحَاصِلُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْجُمْلَتَانِ أَنَّ مِثْلَكَ مَنْ يَتَلَقَّى هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَمَا هِيَ بِالْأَمْرِ الْهَيِّنِ لكل أحد.
[٣٦]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٣٦]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت: ٣٥]، فَبَعْدَ أَنْ أَرْشَدَ إِلَى مَا هُوَ عَوْنٌ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْخُلُقِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ دَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَبَعْدَ أَنْ شُرِحَتْ فَائِدَةُ الْعَمَلِ بِهَا بِقَوْلِهِ: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:
٣٤] صَرَفَ الْعِنَانَ هُنَا إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ عَوَائِقِهَا الَّتِي تَجْتَمِعُ كَثْرَتُهَا فِي حَقِيقَةِ نَزْغِ الشَّيْطَانِ، فَأُمِرَ بِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خَوَاطِرَ تَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ وَتَدْعُوهُ إِلَى دَفْعِ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ نَزْغٌ مِنَ الشَّيْطَانِ دَوَاؤُهُ أَنْ تَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنْهُ فَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يُعِيذَهُ إِذَا اسْتَعَاذَهُ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفَائِدَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ تَجْدِيدُ دَاعِيَةِ الْعِصْمَةِ الْمَرْكُوزَةِ فِي نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ اسْتِمْدَادٌ لِلْعِصْمَةِ وَصَقْلٌ لِزُكَاءِ النَّفْسِ مِمَّا قَدْ يَقْتَرِبُ مِنْهَا مِنَ الْكُدُرَاتِ. وَهَذَا سِرٌّ مِنَ الِاتِّصَالِ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَبِّهِ وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»
، فَبِذَلِكَ تَسْلَمُ نَفْسُهُ مِنْ أَنْ يَغْشَاهَا شَيْءٌ مِنَ الْكُدُرَاتِ وَيَلْحَقُ بِهِ فِي ذَلِكَ صَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»
. ثُمَّ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ
296
التِّرْمِذِيِّ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ»
. وَالنَّزْغُ: النَّخْسُ، وَحَقِيقَتُهُ: مَسٌّ شَدِيدٌ لِلْجِلْدِ بِطَرَفِ عُودٍ أَوْ إِصْبَعٍ، فَهُوَ مَصْدَرٌ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِاتِّصَالِ الْقُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِخَوَاطِرِ الْإِنْسَانِ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَصْرِفُهُ عَنِ الْخَيْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٠٠] وَإِسْنَادُ يَنْزَغَنَّكَ إِلَى نَزْغٌ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ مِنْ بَابِ: جِدُّ جِدِّهِ، ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّزْغِ هُنَا: النَّازِغُ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ، وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، ومِنْ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ يَنْزَغَنَّكَ النَّازِغُ الَّذِي هُوَ الشَّيْطَانُ. وَالْمُبَالَغَةُ حَاصِلَةٌ
عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ جِهَتِهَا.
وَجِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِ (إِنَّ) الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ تَرْفِيعًا لقدر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ نَزْغَ الشَّيْطَانِ لَهُ إِنَّمَا يُفْرَضُ كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَاف:
٢٠١] فَجَاءَ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ بِحِرَفِ (إِذَا) الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا الْجَزْمُ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ أَوْ بِغَلَبَة وُقُوعه. و (مَا) زَائِدَةٌ بَعْدَ حَرْفِ الشَّرْطِ لِتَوْكِيدِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَلَيْسَتْ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ الشَّرْط فَإِنَّهَا تزاد كَثِيرًا بَعْدَ (إِنْ) دُونَ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى الْجَزْمِ بِوُقُوعِ فِعْلِ الشَّرْطِ.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ وَهُوَ هَنَا حُكْمٌ كِنَائِيٌّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ وَصْفِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ وَهُوَ مُؤَاخَذَةُ مَنْ تَصْدُرُ مِنْهُمْ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ فِي أَذَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَيْدِ لَهُ مِمَّنْ أُمِرَ بِأَنْ يَدْفَعَ سَيِّئَاتِهِمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ سَوَّلَ لَكَ الشَّيْطَانُ أَنْ لَا تُعَامِلَ أَعْدَاءَكَ بِالْحَسَنَةِ وَزَيَّنَ لَكَ الِانْتِقَامَ وَقَالَ لَكَ: كَيْفَ تُحْسِنُ إِلَى أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَفِي الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ قَطْعُ
297
كَيْدِهِمْ لِلدِّينِ، فَلَا تَأْخُذْ بِنَزْغِهِ وَخُذْ بِمَا أَمَرْنَاكَ وَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يَزِلَّكَ الشَّيْطَانُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُ أَعْدَائِكَ وَهُوَ يتَوَلَّى جزاءهم.
[٣٧]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٣٧]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧)
عُطِفَ عَلَى جملَة قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] الْآيَةَ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ أَنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ هُنَا عَنِ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِأَنَّهَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ انْتِقَالًا فِي أَفَانِينِ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِذَوَاتٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالٍ مِنْ أَحْوَالِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَابْتُدِئَ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ السَّمَاوِيَّةِ وَهِيَ حَالُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَحَالُ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِ الْقَمَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ بَعْضَ الْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً [فصلت: ٣٩].
وَيَدُلُّ لِهَذَا الِانْتِقَال أَنه انْتقل مِنْ أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [فصلت: ١٣- ٣٤] إِلَى أُسْلُوبِ خِطَابِهِمْ رُجُوعًا إِلَى خِطَابِهِمُ الَّذِي فِي قَوْله: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ [فصلت: ٩].
وَالْآيَاتُ: الدَّلَائِلُ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعَلَى وُجُودِهِ.
وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُدْرَةِ الَّتِي لَا يَفْعَلُهَا غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ دَلِيلًا عَلَى انْفِرَادِهِ بِالصُّنْعِ فَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ.
وَالْمُرَادُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ابْتِدَاءً هُنَا حَرَكَتُهُمَا الْمُنْتَظِمَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ، وَأَمَّا خَلْقُهُمَا فَقَدْ عُلِمَ مَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ:
298
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: ١٢]، فَإِنَّ الشَّمْسَ إِحْدَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْقَمَرَ تَابِعٌ لِلشَّمْسِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِثْلَ طُلُوعٍ أَوْ غُرُوبٍ أَوْ فَلَكٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِيَكُونَ صَالِحًا لِلِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِهِمَا وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ، وَلِخَلْقِهِمَا تَأْكِيدٌ لِمَا اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ:
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ تَوْفِيرًا لِلْمَعَانِي.
وَلَمَّا جَرَى الِاعْتِبَارُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَكَانَ فِي النَّاسِ أَقْوَامٌ عَبَدُوا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَهُمُ الصَّابِئَةُ وَمَنْبَعُهُمْ مِنَ الْعِرَاقِ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ خَبَرَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٦] فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي الْآيَاتِ، ثُمَّ ظَهَرَ هَذَا الدِّينُ فِي سَبَأٍ، عَبَدُوا الشَّمْسَ كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ هُنَا: (لَعَلَّ نَاسًا مِنْهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ) اهـ. وَلَكِنَّ وُجُودَ عِبَادَةِ الشَّمْسِ فِي الْيَمَنِ أَيَّامَ سَبَأٍ قَبْلَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا يَقْتَضِي بَقَاءَ آثَارِهِ مِنْ عِبَادَةِ الشَّمْسِ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْعَرَبِ. وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ أَصْنَامِ الْعَرَبِ صَنَمٌ اسْمُهُ (شَمْسُ) وَبِهِ سُمُّوا (عَبْدَ شَمْسَ)، وَكَذَلِكَ جَعَلَهُمْ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّمْسِ الْآلِهَةَ، قَالَتْ مَيَّةُ بِنْتُ أُمِّ عُتْبَةَ:
مِثْلَ الْفُرَاتِيِّ إِذَا مَا طَمَا يَقْذِفُ بِالْبُوصِيِّ وَالْمَاهِر
تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّعْبَاءِ عَصْرًا فَاعْجَلْنَا الإلهة أَن تؤوبا
وَكَانَ الصَّنَمُ الَّذِي اسْمُهُ شَمْسُ يَعْبُدُهُ بَنُو تَمِيم وضبة وتيم وَعُكْلٌ وَأُدٌّ. وَكُنْتُ وَقَفْتُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ كِنَانَةَ عَبَدُوا الْقَمَرَ.
وَفِي «تَلْخِيصِ التَّفْسِيرِ» لِلْكَوَاشِيِّ: (وَكَانَ النَّاسُ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ السُّجُودَ لِلَّهِ كَالصَّابِئِينَ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُمِرُوا أَنْ يَخُصُّوهُ تَعَالَى
بِالْعِبَادَةِ) وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّاسَ مِنَ الْعَرَبِ، عَلَى أَنَّ هَدْيَ الْقُرْآنِ لَا يَخْتَصُّ بِالْعَرَبِ بَلْ شُيُوعُ دِينِ الصَّابِئَةِ فِي الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ كَافٍ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
299
وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَحْسَبُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينَ الصَّابِئَةِ فَكَانُوا يَقُولُونَ لِمَنْ أَسْلَمَ: صَبَأَ، وَكَانُوا يصفونَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصابىء، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ نَهْيَ إِقْلَاعٍ بِالنِّسْبَةِ لِلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَهُوَ نَهْيُ تَحْذِيرٍ لِمَنْ لَمْ يَسْجُدْ لَهُمَا أَنْ لَا يَتْبَعُوا مَنْ يَعْبُدُونَهُمَا.
وَوُقُوعُ قَوْلِهِ: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يُفِيدُ مُفَادَ الْحَصْرِ لِأَنَّ النَّهْيَ بِمَنْزِلَةِ النَّفْيِ، وَوُقُوعُ الْإِثْبَاتِ بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مُقَابَلَةِ النَّفْيِ بِالْإِيجَابِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ فِي إِفَادَةِ الْحَصْرِ كَمَا تَرَاهُ فِي قَوْلِ السَّمَوْأَلِ أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَارِثِيِّ:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ
فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَسْجُدُوا إِلَّا لِلَّهِ، أَيْ دُونَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
فَجُمْلَةُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ إِلَى قَوْلِهِ: تَعْبُدُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا [فصلت: ٣٨]. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْضِعُ سُجُودٍ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَدَا ابْنَ وَهْبٍ: السُّجُودُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَابْنُ وَهْبٍ: هِيَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [فصلت: ٣٨]، وَهُوَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بن الْمسيب.
[٣٨]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٣٨]
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى نَهْيِهِمْ عَنِ السُّجُودِ للشمس وَالْقَمَر وَأمر هم بِالسُّجُودِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، أَيْ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أَنْ يَتْبَعُوكَ وَصَمَّمُوا عَلَى السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ الِاعْتِرَافِ بِدَلَالَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ
300
بِالْإِلَهِيَّةِ (فَيَعُمُّ ضَمِيرُ اسْتَكْبَرُوا جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ) فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ.
وَالِاسْتِكْبَارُ: قُوَّةُ التَّكَبُّرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ وَأَصِلُ السِّينِ وَالتَّاءِ الْمُسْتَعْمَلَيْنِ لِلْمُبَالَغَةِ هُمَا السِّينُ وَالتَّاءُ لِلْحُسْبَانِ، أَيْ عَدُّوا أَنْفُسَهُمْ ذَوِي كِبْرٍ شَدِيدٍ مِنْ فَرْطِ تَكَبُّرِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ تَكَبَّرُوا عَنِ السُّجُودِ لِلَّهِ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ سُجُودِهِمْ، لِأَنَّ لَهُ عَبِيدًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ لَا يَفْتُرُونَ عَنِ التَّسْبِيحِ لَهُ بِإِقْبَالٍ دُونَ سَآمَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ: كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ بِإِثْبَاتِ أَضْدَادِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، أَوْ نَفْيِ مَا لَا يَلِيقُ، وَذَلِكَ بِالْأَقْوَالِ قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: ٥]، أَوْ بِالْأَعْمَالِ قَالَ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النَّحْل: ٤٩- ٥٠] وَذَلِكَ مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَلَيْسَ مُجَرَّدَ اعْتِقَادٍ.
وَالْعِنْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكَ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ وَكَرَامَةٍ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٠٦] إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ. وَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ هُمُ الْعَامِرُونَ لِلْعَوَالِمِ الْعُلْيَا الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مُشَرَّفَةً بِأَنَّهَا لَا يَقَعُ فِيهَا إِلَّا الْفَضِيلَةُ فَكَانَتْ بِذَلِكَ أَشَدَّ اخْتِصَاصًا بِهِ تَعَالَى مِنْ أَمَاكِنَ غَيْرِهَا قَصْدًا لِتَشْرِيفِهَا.
وَالسَّآمَةُ: الضَّجَرُ وَالْمَلَلُ مِنَ الْإِعْيَاءِ. وَذِكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هُنَا لِقَصْدِ اسْتِيعَابِ الزَّمَانِ، أَيْ يُسَبِّحُونَ لَهُ الزَّمَانَ كُلَّهُ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَهُوَ أَوْقَعُ مِنْ مَحْمِلِ الْعَطْفِ لِأَنَّ كَوْنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ مُقَيَّدًا بِهَذِهِ الْحَال أَشد من إِظْهَارِ عَجِيبِ حَالِهِمْ إِذْ شَأْنُ الْعَمَلِ الدَّائِمِ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ عَامِلُهُ
301

[٣٩]

[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٣٩]
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ [فصلت: ٣٧]، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِهَذَا الصُّنْعِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنْفَرِدٌ بِفِعْلِهِ فَهُوَ دَلِيلُ إِلَهِيَّتِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ مَا لَا يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَدَّدَ لِكَوْنِ مَنْ لَا يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ نَاقِصَ الْقُدْرَةِ، وَالنَّقْصُ يُنَافِي الْإِلَهِيَّةَ كَمَا قَالَ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النَّحْل:
١٧].
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَنَّكَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَصْلُحَ لِكُلِّ سَامِعٍ.
وَالْخُشُوعُ: التَّذَلُّلُ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِحَالِ الْأَرْضِ إِذَا كَانَتْ مُقْحِطَةً لَا نَبَاتَ عَلَيْهَا لِأَنَّ حَالَهَا فِي تِلْكَ الْخَصَاصَةِ كَحَالِ الْمُتَذَلِّلِ، وَهَذَا مِنْ تَشْبِيهِ الْمَحْسُوسِ بِالْمَعْقُولِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَخَيَّلُهُ النَّاسُ مِنْ مُشَابَهَةِ اخْتِلَافِ حَالَيِ الْقُحُولَةِ وَالْخِصْبِ بِحَالَيِ التَّذَلُّلِ وَالِازْدِهَاءِ.
وَالِاهْتِزَازُ حَقِيقَتُهُ: مُطَاوَعَةُ هَزِّهِ، إِذَا حَرَّكَهُ بَعْدَ سُكُونِهِ فَتَحَرَّكَ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِرُبُوِّ وَجْهِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، شُبِّهَ حَالُ إِنْبَاتِهَا وَارْتِفَاعِهَا بِالْمَاءِ وَالنَّبَاتِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُنْخَفِضَةً خَامِدَةً بِالِاهْتِزَازِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ تَمْثِيلٌ، شُبِّهَ حَالُ قُحُولَةِ الْأَرْضِ ثُمَّ إِنْزَالِ الْمَاءِ عَلَيْهَا وَانْقِلَابِهَا مِنَ الْجُدُوبَةِ إِلَى الْخِصْبِ وَالْإِنْبَاتِ الْبَهِيجِ بِحَالِ شَخْصٍ كَانَ كَاسِفَ الْبَالِ رَثَّ اللِّبَاسِ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْغِنَى فَلَبِسَ الزِّينَةَ وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ زَهْوًا، وَلِذَا يُقَالُ: هَزَّ عِطْفَيْهِ، إِذَا اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: خاشِعَةً واهْتَزَّتْ مَكْنِيَّةٌ بِأَنْ شُبِّهَتْ بِشَخْصٍ كَانَ ذَلِيلًا ثُمَّ صَارَ مُهْتَزًّا لِعِطْفَيْهِ وَرَمَزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِمَا بِذِكْرِ رَدِيفَيْهِمَا. فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ التَّمْثِيلِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ تَفْرِيقَ أَجْزَائِهِ فِي أَجْزَاءِ التَّشْبِيهِ.
وَعُطِفَ وَرَبَتْ عَلَى اهْتَزَّتْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الِاهْتِزَازِ هُوَ ظُهُورُ النَّبَاتِ عَلَيْهَا وَتَحَرُّكُهُ. وَالْمَقْصُودُ بِالرُّبُوِّ: انْتِفَاخُهَا بِالْمَاءِ وَاعْتِلَاؤُهَا.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَرَبَأَتْ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ مِنْ (رَبَأَ) بِالْهَمْزِ، إِذَا ارْتَفَعَ.
إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِدْمَاجٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَوُقُوعِهِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ وَانْتِهَازِ فُرَصِ الْهُدَى إِلَى الْحَقِّ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَالْمُنَاسَبَةُ مُشَابَهَةُ الْإِحْيَاءَيْنِ، وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ لِمُرَاعَاةِ إِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ تَعْلِيلِ الْخَبَرِ، وَشُبِّهَ إِمْدَادُ الْأَرْضِ بِمَاءِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ انْبِثَاقِ الْبُزُورِ الَّتِي فِي بَاطِنِهَا الَّتِي تَصِيرُ نَبَاتًا بِإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، فَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ أَحْياها عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، ثُمَّ ارْتُقِيَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى جَعْلِ ذَلِكَ الَّذِي سُمِّيَ إِحْيَاءً لِأَنَّهُ شَبِيهُ الْإِحْيَاءِ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِطَرِيقَةِ قِيَاسِ
الشَّبَهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي الْمَنْطِقِ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ، وَهُوَ يُفِيدُ تَقْرِيبَ الْمَقِيسِ بِالْمَقِيسِ عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَالُ بِالشَّبَهِ وَالتَّمْثِيلِ بِحُجَّةٍ قَطْعِيَّةٍ، بَلْ هُوَ إِقْنَاعِيٌّ وَلَكِنَّهُ هُنَا يَصِيرُ حُجَّةً لِأَنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ مِنَ الْمَقِيسِ إِذِ الْمُشَبَّهُ لَا يَبْلُغُ قُوَّةَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَالْمُشَبَّهُ بِهِ حَيْثُ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ إِلَّا الْخَالِقُ الَّذِي اتَّصَفَ بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ لِذَاتِهِ فَقَدْ تَسَاوَى فِيهِ قَوِيُّهُ وَضَعِيفُهُ، وَهُمْ كَانُوا يُحِيلُونَ إِحْيَاءَ الْأَمْوَاتِ اسْتِنَادًا لِلِاسْتِبْعَادِ الْعَادِيِّ، فَلَمَّا نُظِّرَ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ الْمُشَبَّهِ تَمَّ الدَّلِيلُ الْإِقْنَاعِيُّ الْمُنَاسِبُ لِشُبْهَتِهِمُ الْإِقْنَاعِيَّةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا تَذْيِيلُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
[٤٠]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٤٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ قُصِدَ بِهِ تَهْدِيدُ الَّذِينَ أَهْمَلُوا الِاسْتِدْلَالَ بِآيَاتِ اللَّهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ.
303
وَقَوْلُهُ: لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا مُرَادٌ بِهِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْوَعِيدِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِكُلِّ كَائِنٍ، وَهُوَ مُتَّصِلُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ آنِفًا: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ [فصلت: ٢٢] الْآيَةَ.
وَالْإِلْحَادُ حَقِيقَتُهُ: الْمَيْلُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ، وَالْآيَاتُ تَشْمَلُ الدَّلَائِلَ الْكَوْنِيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] وَقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ [فصلت: ٣٧] إِلَخْ. وتشمل الْآيَات الْآيَاتِ الْقَوْلِيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: ٢٦]. فَالْإِلْحَادُ فِي الْآيَاتِ مُسْتَعَارٌ لِلْعُدُولِ وَالِانْصِرَافِ عَنْ دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ. وَالْإِلْحَادُ فِي الْآيَاتِ الْقَوْلِيَّةِ مُسْتَعَارٌ لِلْعُدُولِ عَنْ سَمَاعِهَا وَلِلطَّعْنِ فِي صِحَّتِهَا وَصَرْفِ النَّاسِ عَنْ سَمَاعِهَا.
وَحَرْفُ فِي مِنْ قَوْله: فِي آياتِنا لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لِإِفَادَةِ تَمَكُّنِ إِلْحَادِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مَظْرُوفٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ حَيْثُمَا كَانَتْ أَوْ كُلَّمَا سَمِعُوهَا. وَمَعْنَى نَفْيِ خَفَائِهِمْ: نَفِيُ خَفَاءِ إِلْحَادِهِمْ لَا خَفَاءِ ذَوَاتِهِمْ إِذْ لَا غَرَضَ فِي الْعِلْمِ بِذَوَاتِهِمْ.
أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ.
تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا لِبَيَانِ أَنَّ الْوَعِيدَ بِنَارِ جَهَنَّمَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ ذَلِك.
والاستفهام تقريع مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى تَفَاوُتِ الْمَرْتَبَتَيْنِ.
وَكُنِّيَ بِقَوْلِهِ: يَأْتِي آمِناً أَنَّ ذَلِكَ الْفَرِيقَ مَصِيرُهُ الْجَنَّةُ إِذْ لَا غَايَةَ لِلْآمِنِ إِلَّا أَنَّهُ فِي نَعِيمٍ. وَهَذِهِ كِنَايَةٌ تَعْرِيضِيَّةٌ بِالَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ.
وَفِي الْآيَةِ مُحَسِّنُ الِاحْتِبَاكِ، إِذْ حُذِفَ مُقَابِلُ: (مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ) وَهُوَ: مَنْ
304
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَحُذِفَ مُقَابِلُ: مَنْ يَأْتِي آمِناً وَهُوَ: مَنْ يَأْتِي خَائِفًا، وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ.
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا إِلَخْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ [فصلت: ٤١] الْآيَةَ، أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا إِلْحَادُهُمْ وَلَا غَيره من سيّىء أَعْمَالِهِمْ. وَإِنَّمَا خَصَّ الْإِلْحَادَ بِالذِّكْرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ أَشْنَعُ أَعْمَالِهِمْ وَمَصْدَرُ أَسْوَائِهَا.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ، أَوْ فِي الْإِغْرَاءِ الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ التَّهْدِيدِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَعِيدٌ بِالْعِقَابِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ.
وَتَوْكِيدُهُ بِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ مَعْنَيَيْهِ الْكِنَائِيِّ وَالصَّرِيحِ، وَهُوَ تَحْقِيقُ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَعْمَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ [فصلت: ٢٢] الْآيَةَ.
وَالْبَصِيرُ: الْعَلِيم بالمبصرات.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)
أَعْقَبَ تَهْدِيدَهُمْ عَلَى الْإِلْحَادِ فِي آيَاتِ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ بِالتَّعَرُّضِ إِلَى إِلْحَادِهِمْ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِلتَّنْوِيهِ بِخِصَالِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعُرْضَةٍ لِأَنْ يُكْفَرَ بِهِ بَلْ هُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَقَبَّلَ بِالِاقْتِدَاءِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ، فَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ اتِّصَالٌ فِي الْمَعْنَى
بِجُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا [فصلت: ٤٠] وَاتِّصَالٌ فِي الْمَوْقِعِ بِجُمْلَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠].
305
وَتَحْدِيدُ هَذَيْنِ الِاتِّصَالَيْنِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ آرَاءُ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِمَا جَرَى اخْتِلَافُهُمْ فِي مَوْقِعِهَا مِنَ الْإِعْرَاب وَفِي مواقع أَجْزَائِهَا مِنْ تَصْرِيحٍ وَتَقْدِيرٍ.
فَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا، وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهُ إِبْدَالُ الْمُفْرَدِ مِنَ الْمُفْرَدِ بَدَلًا مُطَابِقًا أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، وَأَنَّهُ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَهُوَ حَرْفُ إِنَّ وَإِنْ كَانَتْ إِعَادَةُ الْعَامِلِ مَعَ الْبَدَل غير مَشْهُورَة إِلَّا فِي حَرْفِ الْجَرِّ كَمَا قَالَ الرَّضِيُّ، فَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْمُفَصَّلِ» يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ، وَإِنْ كَانَ أَتَى بِمِثَالَيْنِ عَامِلُهُمَا حَرْفُ جَرٍّ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُقَدَّرُ خَبَرٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ خَبَرٌ عَنِ الْبَدَلِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت: ٤٠].
وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَالْكِسَائِيِّ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ جُمْلَةَ:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِ إِنَّ خَبَرًا. فَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَقَالَ:
خَبَرُ إِنَّ قَوْلُهُ: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: ٤٤].
حُكِيَ أَنَّ بِلَالَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ سُئِلَ فِي مَجْلِسِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ خَبَرِ إِنَّ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ لَهَا نَفَاذًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو: إِنَّهُ مِنْكَ لَقَرِيبٌ: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ. وَهُوَ يَقْتَضِي جَعْلَ الْجُمَلِ الَّتِي بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا جُمَلًا مُعْتَرِضَةً وَهِيَ نَحْوُ سَبْعٍ. وَأَمَّا الْكِسَائِيُّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَقَدَّرُوا خَبَرًا لِاسْمِ إِنَّ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ [فصلت: ٤٠]، فَنُقَدِّرُ الْخَبَرَ، يُلْقُونَ فِي النَّارِ، مَثَلًا. وَسَأَلَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ عَنِ الْخَبَرِ، فَقَالَ عَمْرٌو: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ كَفَرُوا بِهِ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. فَقَالَ عِيسَى: أَجَدْتَ يَا أَبَا عُثْمَانَ.
وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا بَدَلَ اشْتِمَال إِن. ريد بِالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: فِي آياتِنا مُطْلَقُ الْآيَاتِ، أَوْ بَدَلًا مُطَابِقًا إِنْ أُرِيدَ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ الْخَبَرُ قَوْلُهُ: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت: ٤٣]، أَيْ مَا يُقَالُ لَكَ فِيهِمْ إِلَّا مَا قَدْ قُلْنَا لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ فِي مُكَذِّبِيهِمْ، أَوْ مَا يَقُولُونَ إِلَّا كَمَا قَالَهُ الْأُمَمُ
306
لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.
وَالْكُفْرُ بِالْقُرْآنِ يَشْمَلُ إِنْكَارَ كُلِّ مَا يُوصَفُ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِمَّا خَالَفَ مُعْتَقَدَهُمْ وَدِينَ شِرْكِهِمْ وَذَلِكَ بِالِاخْتِلَافَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُونَهَا كَقَوْلِهِمْ:
سِحْرٌ، وَشِعْرٌ، وَقَوْلُ كَاهِنٍ، وَقَوْلُ مَجْنُونٍ، وَلَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا، وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَقُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ، وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ إِلَخْ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلتَّهْدِيدِ بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت: ٤٠].
وَالْمَعْنَى: لِأَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِالْعُقُوبَةِ إِذْ كَفَرُوا بِالْآيَاتِ، وَهِيَ آيَة الْقُرْآن الْمُؤَيد بِالْحَقِّ، وَبِشَهَادَةِ مَا أُوصِيَ إِلَى الرُّسُل من قَوْله.
وَمَوْقِعُ إِنَّ مَوْقِعُ فَاءِ التَّعْلِيلِ. وَخَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ.
وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيره بِمَا تدل عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْحَالِ مِنْ جَلَالَةِ الذِّكْرِ وَنَفَاسَتِهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، أَوْ سَفَّهُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا تَذْهَبُ إِلَيْهِ نَفْسُ السَّامِعِ الْبَلِيغِ، فَفِي هَذَا الْحَذْفِ تَوْفِيرٌ لِلْمَعَانِي وَإِيجَازٌ فِي اللَّفْظِ يَقُومُ مَقَامَ عِدَّةِ جُمَلٍ، وَحَذْفُ خَبَرِ إِنَّ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ. وَأَجَازَهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَحْرُفِ الْخَمْسَةِ، وَتَبِعَهُ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَهُ الْفَرَّاءُ فَشَرَطَهُ بِتَكَرُّرِ إِنَّ. وَمِنَ الْحَذْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٢٥]، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
يَا لَيْتَ أَيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعَا إِذْ رُوِيَ بِنَصْبِ (رَوَاجِعَا) عَلَى الْحَالِ فَلَمْ يُذْكَرْ خَبَرُ (لَيْتَ).
وَذَكَرَ أَنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ: «إِنَّ مَالًا وَإِنَّ وَلَدًا» أَيْ إِنَّ لَهُمْ، وَقَوْلَ الْأَعْشَى:
إِنَّ مَحَلًّا وَإِنَّ مُرْتَحَلًا
307
أَيْ أَنَّ لَنَا فِي الدُّنْيَا حُلُولًا وَلَنَا عَنْهَا مُرْتَحَلًا، إِذْ لَيْسَ بَقِيَّةُ الْبَيْتِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَإِنَّ فِي السَّفَرِ إِذْ مَضَوْا مَهَلَا مَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ خَبَرًا عَنْ (إِنَّ) الْأُولَى. وَقَالَ جَمِيلٌ:
وَقَالُوا نَرَاهَا يَا جَمِيلُ تَنَكَّرَتْ وَغَيَّرَهَا الْوَاشِي فَقُلْتُ لَعَلَّهَا
وَقَالَ الْجَاحِظُ فِي «الْبَيَانِ» فِي بَابِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْأَنْصَارَ آوَوْنَا وَنَصَرُونَا، قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعْرِفُونَ ذَلِكَ لَهُمْ،
قَالُوا: نَعَمْ
، قَالَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا»
يُرِيدُ فَإِنَّ ذَلِكَ شُكْرٌ وَمُكَافَأَةٌ اهـ. وَفِي الْمَقَامَةِ الثَّالِثَةِ وَالْأَرْبَعِينَ «حَسْبُكَ يَا شَيْخُ فَقَدْ عَرَفْتُ فَنَّكَ، وَاسْتَبَنْتُ أَنَّكَ» أَيْ أَنَّكَ أَبُو زَيْدٍ. وَقَدْ مَثَّلَ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» لِحَذْفِ خَبَرِ (إِنَّ) بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الذِّكْرِ، أَيْ كَفَرُوا بِهِ فِي حَالِهِ هَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ عَلَى تَقْدِيرِ خَبَرِ إِنَّ الْمَحْذُوفِ. وَقَدْ أُجْرِيَ عَلَى الْقُرْآنِ سِتَّةُ أَوْصَافٍ مَا مِنْهَا وَاحِدٌ إِلَّا وَهُوَ كَمَالٌ عَظِيمٌ:
الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ذِكْرٌ، أَيْ يُذَكِّرُ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِمَّا فِي الْغَفْلَةِ عَنْهُ فَوَاتُ فَوْزِهِمْ.
الْوَصْفُ الثَّانِي مِنْ مَعْنَى الذِّكْرِ: أَنَّهُ ذِكْرٌ لِلْعَرَبِ وَسُمْعَةٌ حَسَنَةٌ لَهُمْ بَيْنَ الْأُمَمِ يُخَلِّدُ لَهُمْ مَفْخَرَةً عَظِيمَةً وَهُوَ كَوْنُهُ بِلُغَتِهِمْ وَنَزَلَ بَيْنَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤] وَفِي قَوْلِهِ: لَمَّا جاءَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي.
الْوَصْفُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كِتَابٌ عَزِيزٌ، وَالْعَزِيزُ النَّفِيسُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعِزَّةِ وَهِيَ الْمَنَعَةُ لِأَن الشَّيْء النَّفْسِيّ يُدَافَعُ عَنْهُ وَيُحْمَى عَنِ النَّبْذِ فَإِنَّهُ بَيْنَ الْإِتْقَانِ وَعُلُوِّ الْمَعَانِي وَوُضُوحِ الْحُجَّةِ وَمِثْلُ ذَلِكَ يَكُونُ عَزِيزًا، وَالْعَزِيزُ أَيْضًا: الَّذِي يَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ، وَكَذَلِكَ حُجَجُ الْقُرْآنِ.
308
الْوَصْفُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُهُ الْبَاطِلُ وَلَا يُخَالِطُهُ صَرِيحُهُ وَلَا ضِمْنِيُّهُ، أَيْ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْبَاطِلِ بِحَالٍ. فَمُثِّلَ ذَلِكَ بِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ.
وَالْمَقْصُودُ اسْتِيعَابُ الْجِهَاتِ تَمْثِيلًا لِحَالِ انْتِفَاءِ الْبَاطِلِ عَنْهُ فِي ظَاهِرِهِ وَفِي تَأْوِيلِهِ بِحَالِ طَرْدِ الْمُهَاجِمِ لِيَضُرَّ بِشَخْصٍ يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَإِنْ صَدَّهُ خَاتَلَهُ فَأَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٧].
فَمَعْنَى: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ لَا يُوجَدُ فِيهِ وَلَا يُدَاخِلُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُدْعَى عَلَيْهِ الْبَاطِلُ.
الْوَصْفُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحِكْمَةِ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ، وَلَا يَصْدُرُ عَنِ الْحَكِيمِ إِلَّا الْحِكْمَةُ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَة: ٢٦٩] فَإِنَّ كَلَامَ الْحَكِيمِ يَأْتِي مُحْكَمًا مُتْقَنًا رَصِينًا لَا يَشُوبُهُ الْبَاطِلُ.
الْوَصْفُ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَمِيدٍ، وَالْحَمِيدُ هُوَ الْمَحْمُودُ حَمْدًا كَثِيرًا، أَيْ
مُسْتَحِقٌّ الْحَمْدَ الْكَثِيرَ، فَالْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ مِنْهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَإِنَّمَا يُحْمَدُ الْكَلَامُ إِذْ يَكُونُ دَلِيلًا لِلْخَيْرَاتِ وَسَائِقًا إِلَيْهَا لَا مَطْعَنَ فِي لَفْظِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ، فَيَحْمَدُهُ سَامِعُهُ كَثِيرًا لِأَنَّهُ يَجِدُهُ مَجْلَبَةً لِلْخَيْرِ الْكَثِيرِ، وَيُحْمَدُ قَائِلُهُ لَا مَحَالَةَ خِلَافًا لِلْمُشْرِكِينَ.
وَفِي إِجْرَاءِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ إِيمَاءٌ إِلَى حَمَاقَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ وَسَفَاهَةِ آرَائِهِمْ إِذْ فَرَّطُوا فِيهِ فَفَرَّطُوا فِي أَسْبَابِ فَوْزِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ جِيءَ بِجُمْلَةِ الْحَالِ مِنَ الْكِتَابِ عَقِبَ ذِكْرِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ الْآيَاتِ.
[٤٣]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٤٣]
مَا يُقالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)
مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت: ٤٠]، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ [فصلت: ٤١] وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ فَيَقُولُ سَائِلٌ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِيهِ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ
309
مَعَ أُمَمِهِمْ لَا يُعْدَمُونَ مُعَانِدِينَ جَاحِدِينَ يَكْفُرُونَ بِمَا جَاءُوا بِهِ. وَإِذَا بُنِيَتْ عَلَى مَا جَوَّزْتُهُ سَابِقًا أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ: مَا يُقالُ خبر إِنَّ [فصلت: ٤١] كَانَتْ خَبَرًا وَلَيْسَتِ اسْتِئْنَافًا.
وَهَذَا تَسْلِيَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَأَمْرٌ لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا صَبَرَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ. وَلِهَذَا الْكَلَامِ تَفْسِيرَانِ:
أَحَدَهُمَا: أَنْ مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْقُرْآن والنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ دَأْبُ أَمْثَالِهِمُ الْمُعَانِدِينَ من قبلهم فَمَا صدق مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ هُوَ مَقَالَاتُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ، أَيْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُ الْمُكَذِّبِينَ فَكَانَتْ مَقَالَاتُهُمْ مُتَمَاثِلَةً قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ [الذاريات: ٥٣].
التَّفْسِيرُ الثَّانِي: مَا قُلْنَا لَكَ إِلَّا مَا قُلْنَاهُ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، فَأَنْتَ لَمْ تَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ فَيَكُونُ لِقَوْمِكَ بَعْضُ الْعُذْرِ فِي التَّكْذِيبِ وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا كَمَا كَذَّبَ الَّذِينَ من قبلهم، فَمَا صدق: مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ هُوَ الدِّينُ وَالْوَحْيُ فَيَكُونُ مِنْ طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الْأَعْلَى: ١٨]. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ فَيُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى كِلَيْهِمَا.
وَفِي التَّعْبِير ب مَا الْمَوْصُولَةِ وَفِي حَذْفِ فَاعِلِ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَا يُقالُ
وَقَوْلِهِ: مَا قَدْ قِيلَ نَظْمٌ مَتِينٌ حَمَّلَ الْكَلَامَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مِثْلَ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ.
وَاجْتِلَابُ الْمُضَارِعِ فِي مَا يُقالُ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ وَعَدَمِ ارْعِوَائِهِمْ عَنْهُ مَعَ ظُهُورِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَصُدَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
واقتران الْفِعْل ب قَدْ لِتَحْقِيقِ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مثل مَا قَالَ الْمُشْركُونَ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ لُزُومُ الصَّبْرِ عَلَى قَوْلِهِمْ. وَهُوَ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ إِذْ حَسِبُوا أَنَّهُمْ جَابَهُوا الرَّسُولَ بِمَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٢، ٥٣].
310
إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ تَسْلِيَة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ. وَوُقُوعُ هَذَا الْخَبَرِ عَقِبَ قَوْلِهِ: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يومىء إِلَى أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ جَزَاءٌ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنَ الْأَذَى فِي ذَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ الْوَعِيدَ لِلَّذِينَ آذَوْهُ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ.
وَمَعْنَى الْمَغْفِرَةِ لَهُ: التَّجَاوُزُ عَمَّا يَلْحَقُهُ مِنَ الْحُزْنِ بِمَا يَسْمَعُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَذًى كَثِيرٍ. وَحَرْفُ إِنَّ فِيهِ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ والتسبب لَا للتَّأْكِيد.
وَكَلِمَةُ ذُو مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالْعِقَابَ كِلَيْهِمَا مِنْ شَأْنِهِ تَعَالَى وَهُوَ يَضَعُهُمَا بِحِكْمَتِهِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا.
وَوصف الْعقَاب ب أَلِيمٍ دُونَ وَصْفٍ آخَرَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِمَا عُوقِبُوا لِأَجْلِهِ فَإِنَّهُمْ آلَمُوا نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا عَصَوْا وَآذَوْا.
وَفِي جُمْلَةِ: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ مُحَسِّنُ الْجَمْعِ ثُمَّ التَّقْسِيمِ، فَقَوْلُهُ: مَا يُقالُ لَكَ يَجْمَعُ قَائِلًا وَمَقُولًا لَهُ فَكَانَ الْإِيمَاءُ بِوَصْفِ (ذُو مَغْفِرَةٍ) إِلَى الْمَقُولِ لَهُ، وَوَصْفِ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ إِلَى الْقَائِلِينَ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ وَقَرِينَةُ الْمَقَامِ تَرُدُّ كُلًّا إِلَى مُنَاسِبِهِ.
[٤٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٤٤]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤)
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ.
اتِّصَالُ نَظْمِ الْكَلَامِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا وَتَنَاسُبُ تَنَقُّلَاتِهِ بِالتَّفْرِيعِ وَالْبَيَانِ وَالِاعْتِرَاضِ وَالِاسْتِطْرَادِ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا إِلَى آخِرِهِ تَنَقُّلٌ فِي دَرَجِ إِثْبَاتِ أَنَّ قَصْدَهُمُ الْعِنَادُ فِيمَا يتعللون بِهِ ليواجهوا إِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَدْيِهِ بِمَا يَخْتَلِقُونَهُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعْنِ فِيهِ وَالتَّكْذِيبِ بِهِ، وَتَكَلُّفُ الْأَعْذَارِ الْبَاطِلَةِ لِيَتَسَتَّرُوا بِذَلِكَ مِنَ الظُّهُورِ فِي مَظْهَرِ الْمُنْهَزِمِ الْمَحْجُوجِ، فَأَخَذَ يَنْقُضُ دَعَاوِيهِمْ عُرْوَةً عُرْوَةً، إِذِ ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِتَحَدِّيهِمْ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ:
311
حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا إِلَى قَوْلِهِ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: ١- ٤] فَهَذَا تَحَدٍّ لَهُمْ وَوَصْفٌ لِلْقُرْآنِ بِصِفَةِ الْإِعْجَازِ.
ثُمَّ أَخَذَ فِي إِبْطَالِ مَعَاذِيرِهِمْ وَمَطَاعِنِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: ٥]، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ قَصَدُوا بِهِ أَنَّ حُجَّةَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مُقْنِعَةٍ لَهُمْ إِغَاظَةً مِنْهُم للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ تمالئهم عَلَى الْإِعْرَاضِ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] وَهُوَ عَجْزٌ مَكْشُوفٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت: ٤٠] وَبِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ [فصلت: ٤١] الْآيَاتِ. فَأَعْقَبَهَا بِأَوْصَافِ كَمَالِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا يَجِدُونَ مَطْعَنًا فِيهَا بِقَوْلِهِ:
وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: ٤١] الْآيَةَ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِه المجادلات فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا إِبْطَالًا لِتَعَلُّلَاتِهِمْ، وَكَانَ عِمَادُهُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ مُفَصَّلُ الدَّلَالَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي لُغَتِهِمْ حَسَبَمَا ابْتُدِئِ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ:
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: ٣] وَانْتُهِيَ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: ٤١، ٤٢]، فَقَدْ نَهَضَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِدَلَالَتِهِ عَلَى صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَانْتَقَلَ إِلَى حُجَّةٍ أُخْرَى عِمَادُهَا الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاءَهُم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْآنٍ مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ.
وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ
عَزِيزٌ
[فصلت: ٤١] عَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ آنِفًا فِي مَوْقِعِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: ٣] وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الْكَهْف: ١١٠] مِنَ التَّحَدِّي بِصِفَةِ الْأُمِّيَّةِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، أَيْ لَوْ جِئْنَاهُمْ بِلَوْنٍ آخَرَ مِنْ مُعْجِزَةِ الْأُمِّيَّةِ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الرَّسُولِ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا، وَلَيْسَ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمٌ بِتِلْكَ اللُّغَةِ مِنْ قَبْلُ، لَقَلَبُوا مَعَاذِيرَهُمْ فَقَالُوا: لَوْلَا بُيِّنَتْ آيَاتُهُ بِلُغَةٍ نَفْهَمُهَا وَكَيْفَ يُخَاطِبُنَا بِكَلَامٍ أَعْجَمِيٍّ. فَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَرْضِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حِرَفِ لَوْ الِامْتِنَاعِيَّةِ. وَهَذَا إِبَانَةٌ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَا تُجْدِي مَعَهُمُ الْحُجَّةُ وَلَا يَنْقَطِعُونَ عَنِ الْمَعَاذِيرِ لِأَنَّ جِدَالَهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِهِ تَطَلُّبَ الْحَقِّ وَمَا هُوَ إِلَّا تَعَنُّتٌ لِتَرْوِيجِ هَوَاهُمْ.
312
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ فِي الِاحْتِجَاجِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ١٩٨، ١٩٩]، أَيْ لَوْ نَزَّلْنَاهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ بِالْعَرَبِيَّةِ، لِاشْتِرَاكِ الْحُجَّتَيْنِ فِي صِفَةِ الْأُمِّيَّةِ فِي اللُّغَةِ الْمَفْرُوضِ إِنْزَالُ الْكِتَابِ بِهَا، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْآيَة بيّنت عَلَى فَرْضِ أَنْ يَنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولٍ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ بُنِيَتْ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى الرَّسُول الْعَرَبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُغَةٍ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى عُمُومِ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فَلَمْ يَكُنْ عَجَبًا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ بِلُغَةِ غَيْرِ الْعَرَبِ لَوْلَا أَنَّ فِي إِنْزَالِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ حِكْمَةً عَلِمَهَا اللَّهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا اصْطفى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَبِيًّا وَبَعَثَهُ بَيْنَ أُمَّةٍ عَرَبِيَّةٍ كَانَ أَحَقُّ اللُّغَاتِ بِأَنْ يُنْزِلَ بِهَا كِتَابَهُ إِلَيْهِ الْعَرَبِيَّةَ، إِذْ لَوْ نَزَلَ كِتَابُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَاسْتَوَتْ لُغَاتُ الْأُمَمِ كُلُّهَا فِي اسْتِحْقَاقِ نُزُولِ الْكِتَابِ بِهَا فَأَوْقَعَ ذَلِكَ تحاسدا بَينهَا لِأَن بَينهم من سوابق الْحَوَادِث فِي التَّارِيخ مَا يثير الْغيرَة والتحاسد بَينهم بِخِلَافِ الْعَرَبِ إِذْ كَانُوا فِي عزلة عَن بَقِيَّة الْأُمَمِ، فَلَا جَرَمَ رُجِّحَتِ الْعَرَبِيَّةُ لِأَنَّهَا لُغَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولغة الْقَوْمِ الْمُرْسَلِ بَيْنَهُمْ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَبْقَى الْقَوْمُ الَّذِينَ يَدْعُوهُمْ لَا يَفْقَهُونَ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ إِلَيْهِمْ.
وَلَوْ تَعَدَّدَتِ الْكُتُبُ بِعَدَدِ اللُّغَاتِ لَفَاتَتْ مُعْجِزَةُ الْبَلَاغَةِ الْخَاصَّةِ بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَشْرَفُ اللُّغَاتِ وَأَعْلَاهَا خَصَائِصَ وَفَصَاحَةً وَحُسْنَ أَدَاءٍ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْوَجِيزَةِ.
ثُمَّ الْعَرَبُ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ نَشْرَ هَذَا الدِّينِ بَيْنَ الْأُمَمِ وَتَبْيِينَ مَعَانِي الْقُرْآنِ لَهُمْ. وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَوْلَا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ أَعْجَمِيًّا وَعَرَبِيًّا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِ
الِاسْتِفْهَامِ اهـ. وَلَا أَحسب هَذَا إِلَّا تَأْوِيلًا لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى رَاوٍ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْ غَيْرِهِ فَرَأَى أَن الْآيَة تنبىء عَنْ جَوَابِ كَلَامٍ صَدَرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ بِضَمِيرِ لَقالُوا. وَسِيَاقُ الْآيَةِ وَلَفْظُهَا يَنْبُو عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَيْفَ ولَوْ الِامْتِنَاعِيَّةُ تَمْتَنِعُ مَنْ تَحَمُّلِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَتَدْفَعُهُ.
313
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» :«أَنَّهُمْ كَانُوا لِتَعَنُّتِهِمْ يَقُولُونَ: هَلَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ؟ فَقِيلَ: لَوْ كَانَ كَمَا يَقْتَرِحُونَ لَمْ يَتْرُكُوا الِاعْتِرَاضَ وَالتَّعَنُّتَ، وَقَالُوا: لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ إِلَخْ». فَلَمْ نَقِفْ عَلَى مَنْ ذَكَرَ مِثْلَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَصْحَابِ أَسْبَابِ النُّزُولِ وَمَا هُوَ إِلَّا مِنْ صِنْفِ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ نَظْمُ الْآيَةِ: وَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقَةِ لَوْ وَجَوَابِهَا. وَلَا يُظَنُّ بِقُرَيْشٍ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ.
وَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ [فصلت:
٤١].
وَقَوله: أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ بَقِيَّةُ مَا يَقُولُونَهُ عَلَى فَرْضِ أَنْ يُجْعَلَ الْقُرْآنُ أَعْجَمِيًّا، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ.
وَمَعْنَى: فُصِّلَتْ هُنَا: بُيِّنَتْ وَوُضِّحَتْ، أَيْ لَوْلَا جُعِلَتْ آيَاتُهُ عَرَبِيَّةً نَفْهَمُهَا.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَعَرَبِيٌّ لِلْعَطْفِ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: وَكَيْفَ يَلْتَقِي أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ اللَّفْظُ أَعْجَمِيًّا وَالْمُخَاطَبُ بِهِ عَرَبِيًّا كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَيُلْقَى لَفْظٌ أَعْجَمِيٌّ إِلَى مُخَاطَبٍ عَرَبِيٍّ.
وَمَعْنَى: قُرْآناً كِتَابًا مَقْرُوءًا.
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ تَسْمِيَةُ كِتَابِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُرْآنًا، وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ دَاوُدَ يُسِّرَ لَهُ الْقُرْآنُ فَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي حِينِ يُسْرَجُ لَهُ فَرَسُهُ
(أَوْ كَمَا قَالَ).
وَالْأَعْجَمِيُّ: الْمَنْسُوبُ إِلَى أَعْجَمَ، وَالْأَعْجَمُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُجْمَةِ وَهِيَ الْإِفْصَاحُ، فَالْأَعْجَمُ: الَّذِي لَا يُفْصِحُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَزِيَادَةُ الْيَاءِ فِيهِ لِلْوَصْفِ نَحْوَ: أَحَمِرَيٌّ وَدَوَّارِيٌّ.
فَالْأَعْجَمِيُّ مِنْ صِفَاتِ الْكَلَامِ.
وَأَفْرَدَ وَعَرَبِيٌّ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِجِنْسِ السَّامِعِ، وَالْمَعْنَى: أَكِتَابٌ عَرَبِيٌّ لِسَامِعِينَ عَرَبٍ
فَكَانَ حَقُّ عَرَبِيٌّ أَنْ يُجْمَعَ وَلَكِنَّهُ أُفْرِدَ لِأَنَّ مَبْنَى الْإِنْكَارِ عَلَى تَنَافُرِ حَالَتَيِ الْكِتَابِ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْجِنْسُ دُونَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى إِفْرَادٍ، أَوْ جَمْعٍ.
314
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهَا تُؤْذِنُ بِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَاخِلٍ فِي صِفَاتِ الذِّكْرِ، وَهُوَ أَنَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ بِلُغَتِكُمْ إِتْمَامًا لِهَدْيِكُمْ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَكَفَرْتُمْ وَتَعَلَّلْتُمْ بِالتَّعَلُّلَاتِ الْبَاطِلَةِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ أَعْجَمِيًّا لَقُلْتُمْ: هَلَّا بُيِّنَتْ لَنَا حَتَّى نَفْهَمَهُ.
قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هَذَا جَوَابٌ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:
٤٣]، أَيْ مَا يُقَالُ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ الذِّكْرَ أَوِ الْكِتَابَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ، أَيْ أَنَّ تِلْكَ الْخِصَالَ الْعَظِيمَةَ لِلْقُرْآنِ حَرَمَهُمْ كُفْرُهُمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا وَانْتَفَعَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ فَكَانَ لَهُمْ هَدْيًا وَشِفَاءً. وَهَذَا نَاظِرٌ إِلَى مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥]، فَهُوَ إِلْزَامٌ لَهُمْ بِحُكْمٍ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَحَقِيقَةُ الشِّفَاءِ: زَوَالُ الْمَرَضِ وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْبَصَارَةِ بِالْحَقَائِقِ وَانْكِشَافِ الِالْتِبَاسِ مِنَ النَّفْسِ كَمَا يَزُولُ الْمَرَضُ عِنْدَ حُصُولِ الشِّفَاءِ، يُقَالُ: شُفِيَتْ نَفْسُهُ، إِذَا زَالَ حَرَجُهُ، قَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ:
شَفَيْتُ النَّفْسَ مِنْ حَمَلِ بْنِ بَدْرٍ وَسَيْفِي مِنْ حُذَيْفَةَ قَدْ شَفَانِي
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: شُفِيَ غَلِيلُهُ، وَبُرِدَ غَلِيلُهُ، فَإِنَّ الْكُفْرَ كَالدَّاءِ فِي النَّفْسِ لِأَنَّهُ يُوقِعُ فِي الْعَذَابِ وَيَبْعَثُ عَلَى السَّيِّئَاتِ.
وَجُمْلَةُ: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، أَيْ وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَلَا تَتَخَلَّلُ آيَاتُهُ نُفُوسَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَمَنْ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ دُونَ سَمَاعِهِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت:
٥]، وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ مُتَعَلِّقًا بِأَحْوَالِ الْقُرْآنِ مَعَ الْفَرِيقِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِتَقْدِيرِ جَعْلِ الْجُمْلَةِ خَبَرًا عَنِ الْقُرْآنِ.
315
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ ضَمِيرِ الذِّكْرِ، أَيِ الْقُرْآنِ، فَتَكُونُ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى.
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِ وَقْرٌ وعَمًى تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ سَمَاعِ أَلْفَاظِهِ، وَالْوَقْرُ: دَاءٌ فَمُقَابَلَتُهُ بِالشِّفَاءِ مِنْ مُحَسِّنِ الطِّبَاقِ.
وَضَمِيرُ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى يَتَبَادَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ أَوِ الْكِتَابِ كَمَا عَادَ ضَمِيرُ
هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً. وَالْعَمَى: عَدَمُ الْبَصَرِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِضِدِّ الِاهْتِدَاءِ فَمُقَابَلَتُهُ بِالْهُدَى فِيهَا مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَالْإِسْنَادُ إِلَى الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي مُعَادِ الضَّمِيرِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِمْ عَمًى مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ عِنَادَهُمْ فِي قَبُولِهِ كَانَ سَبَبًا لِضَلَالِهِمْ فَكَانَ الْقُرْآنُ سَبَبَ سَبَبٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: ١٢٥].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ وَهُوَ ضَمِيرَ شَأْنٍ تَنْبِيهًا عَلَى فَظَاعَةِ ضَلَالِهِمْ. وَجُمْلَةُ عَلَيْهِمْ عَمًى خَبَرَ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، أَيْ وَأَعْظَمُ مِنَ الْوَقْرِ أَنَّ عَلَيْهِمْ عَمًى، أَيْ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَمًى كَقَوْلِهِ: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الْبَقَرَة: ٧].
وَإِنَّمَا عَلَّقَ الْعَمَى بِالْكَوْنِ عَلَى ذَوَاتِهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَمًى مُجَازِيًا تَعَيَّنَ أَنَّ مُصِيبَتَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كُلِّهَا لَا عَلَى أَبْصَارِهِمْ خَاصَّةً فَإِنَّ عَمَى الْبَصَائِرِ أَشَدُّ ضُرًّا مِنْ عَمَى الْأَبْصَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَج:
٤٦].
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّعْوَةِ عِنْدَ سَمَاعِهَا بِحَالِ مَنْ يُنَادَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِهِ صَوْتُ الْمُنَادِي عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧١]. وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ: أَنْتَ تُنَادَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَالْإِشَارَةُ بِ أُولئِكَ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ
316
إِلَيْهِمْ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهَا مِنَ الْحِكَمِ مِنْ أَجْلِهَا نَظِيرُ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَيَتَعَلَّقُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بِ يُنادَوْنَ. وَإِذَا كَانَ النِّدَاءُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ كَانَ الْمُنَادَى (بِالْفَتْحِ) فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا مَحَالَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَعَلُّقِ مِنَ الْأَرْضِ، بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ [الرّوم: ٢٥] أَيْ دَعَاكُمْ مِنْ مَكَانِكُمْ فِي الأَرْض، ويذلك يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُنادَوْنَ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَأَتٍّ فِي قَوْلِهِ: إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ.
[٤٥]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٤٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ.
اعْتِرَاضٌ بتسلية للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ وَكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوْحَدَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ أُوتِيَ مُوسَى التَّوْرَاةَ فَاخْتَلَفَ الَّذِينَ دَعَاهُمْ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ.
وَالْمَقْصُودُ الِاعْتِبَارُ بِالِاخْتِلَافِ فِي التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُ أَشَدُّ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ فَالِاخْتِلَافُ فِي التَّوْرَاةِ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: اخْتِلَافٌ فِيهَا بَيْنَ مُؤْمِنٍ بِهَا وَكَافِرٍ، فَقَدْ كَفَرَ بِدَعْوَةِ مُوسَى فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَبَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ قَارُونَ وَمِثْلُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فِي مَغِيبِ مُوسَى لِلْمُنَاجَاةِ، وَاخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا اخْتِلَافًا عَطَّلُوا بِهِ بَعْضَ أَحْكَامِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [الْبَقَرَة: ٢٥٣]، وَكِلَا الِاخْتِلَافَيْنِ مَوْضِعُ عِبْرَةٍ وَأُسْوَةٍ لِاخْتِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا مَا عَصَمَ اللَّهُ الْقُرْآنَ مِنْ مِثْلِهِ إِذْ قَالَ: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يُوسُف: ١٢] فالتسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا أَوْقَعُ، وَهَذَا نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ آنِفًا: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت: ٤٣] عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ مَعْنَيَيْهِ بِذِكْرِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعُمُومِ وَهُوَ الْأَعْظَمُ الْأَهَمُّ.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يَقْتَضِي
أَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَجَلٍ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، فَأَمَّا قَوْمُ مُوسَى فَقَدْ قَضَى بَيْنَهُمْ بِاسْتِئْصَالِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَبِتَمْثِيلِ الْآشُورِيِّينَ بِالْيَهُودِ بَعْدَ مُوسَى، وَبِخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَزَوَالِ مُلْكِ إِسْرَائِيلَ آخِرًا. وَهَذَا الْكَلَامُ دَاخِلٌ فِي إِتْمَامِ التسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي اسْتِبْطَاءِ النَّصْرِ.
وَالْكَلِمَةُ هِيَ كَلِمَةُ الْإِمْهَالِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ، وَالْإِمْهَالُ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ صُرِعُوا بِبَدْرٍ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِلَفْظِ رَبِّكَ لِمَا فِي مَعْنَى الرَّبِّ مِنَ الرَّأْفَةِ بِهِ وَالِانْتِصَارِ لَهُ، وَلِمَا فِي الْإِضَافَةِ إِلَى ضمير الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْرِيفِ. وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ تَعْزِيزٌ لِلتَّسْلِيَةِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ كَلِمَةَ (بَيْنَ) دَالَّةً عَلَى أُخْرَى مُقَدَّرَةً عَلَى سَبِيلِ إِيجَازِ الْحَذْفِ.
وَالتَّقْدِيرُ: بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ بِمَا يُظْهِرُ بِهِ انْتِصَارَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ أَنْ يُقَالَ: بَيْنَ كَذَا وَبَيْنَ كَذَا، قَالَ تَعَالَى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ: ٥٤].
وَمَعْنَى سَبَقَتْ أَيْ تَقَدَّمَتْ فِي عِلْمِهِ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَإِرَادَتِهِ.
وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى: جِنْسٌ يَصْدُقُ بِكُلِّ مَا أُجِّلَ بِهِ عِقَابُهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَأَمَّا ضَمِيرُ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَهُوَ خَاصٌّ بِالْمُشْرِكِينَ الشَّاكِّينَ فِي الْبَعْثِ وَالشَّاكِّينَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَالرَّيْبُ: الشَّكُّ، فَوَصْفُ شَكٍّ بِ مُرِيبٍ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ بِأَنِ اشْتُقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ وَصْفٌ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ! وَشعر شَاعِر.
[٤٦]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٤٦]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
هَذَا مِنْ مُكَمِّلَاتِ التَّسْلِيَةِ وَمِنْ مُنَاسَبَاتِ ذِكْرِ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى. وَفِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّ مَنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُفِيدَةٌ لِلْعُمُومِ سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ شَرْطِيَّةً أَوْ
318
مَوْصُولَةً. وَوُجُودُ الْفَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّهُمَا جَوَابَانِ لِلشَّرْطِ، وَإِمَّا لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِمْهَالَ إِعْذَارٌ لَهُمْ ليتداركوا أَمرهم.
وَتَقْدِيم قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لفظا وَمعنى فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٣١].
وَحَرْفُ (عَلَى) مُؤْذِنٌ بِمُؤَاخَذَةِ وَتَحَمُّلِ أَعْبَاءٍ كَمَا أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: فَلِنَفْسِهِ مُؤْذِنٌ بِالْعَطَاءِ.
وَالْخِطَابُ فِي رَبُّكَ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْزِيزِ تَسْلِيَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا:
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ [فصلت: ٤٥] مِنْ الْعُدُولِ إِلَى لَفْظِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ.
وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الظُّلْمِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبِيدِهِ: أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ بِمُجْرِمٍ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا وَضَعَ لِلنَّاسِ شَرَائِعَ وَبَيَّنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ فَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ قَانُونًا، فَصَارَ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى عِقَابِ مَنْ لَيْسَ بمجرم ظلما إِذْ الظُّلْمُ هُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ فِي الْقَوَانِينِ الْمُتَلَقَّاةِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ أَوِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنَ الْعُقُولِ الْحَكِيمَةِ.
وَأَمَّا صِيغَةُ (ظَلَّامٍ) الْمُقْتَضِيَةُ الْمُبَالَغَةَ فِي الظُّلْمِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ قَبْلَ دُخُولِ النَّفْيِ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ هِيَ فِيهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُسِيءَ لَكَانَ ظَلَّامًا لَهُ وَمَا هُوَ بِظَلَّامٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي: إِنَّ النَّفْيَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى كَلَامٍ مُقَيَّدٍ قَدْ يَكُونُ النَّفْيُ نَفْيًا لِلْقَيْدِ وَقَدْ يَكُونُ الْقَيْدُ قَيْدًا فِي النَّفْيِ وَمَثَّلُوهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ دَقِيقٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فِي نَفْيِ
الْوَصْفِ الْمَصُوغِ بِصِيغَةِ الْمُبَالغَة من تَمام عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَ كُلَّ دَرَجَاتِ الظُّلْمِ فِي رُتْبَةِ الظُّلْمِ الشَّدِيدِ
319

[٤٧، ٤٨]

[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٤٧ الى ٤٨]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ.
كَانُوا إِذَا أُنْذِرُوا بِالْبَعْثِ وساعته استهزأوا فَسَأَلُوا عَنْ وَقْتِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الْأَعْرَاف: ١٨٧] فَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ دَلِيلِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَذِكْرُ إِلْحَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي دَلَالَتِهِ بِسُؤَالِهِمْ عَنْهَا اسْتِهْزَاءً انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حِكَايَةِ سُؤَالِهِمْ تَمْهِيدًا لِلْجَوَابِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَيْ إِلَى اللَّهِ يُفَوَّضُ عِلْمُ السَّاعَةِ لَا إِلَيَّ، فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيِ الْأَجْدَرُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنْ لَا يَعْلَمَ أَحَدٌ مَتَى السَّاعَةُ وَأَنْ تُؤْمِنُوا بِهَا وَتَسْتَعِدُّوا لَهَا. وَمِثْلُهُ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ لَهُ: «مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا»
، أَيِ اسْتِعْدَادُكَ لَهَا أَوْلَى بِالِاعْتِنَاءِ مِنْ أَنْ تَسْأَلَ عَنْ وَقْتِهَا.
وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِتَفْوِيضِ عِلْمِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَالتَّبَرُّؤِ مِنْ أَن يكون للمسؤول عِلْمٌ بِهِ، فَكَأَنَّهُ جِيءَ بِالسُّؤَالِ إِلَى النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ.
وَفِي حَدِيثِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ فِي «الصَّحِيحِ» «فَعَاتَبَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ»
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ [النِّسَاء: ٨٣] الْآيَةَ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَمَا بَعْدَهَا تَوْجِيهٌ لِصَرْفِ الْعِلْمِ بِوَقْتِ السَّاعَةِ إِلَى اللَّهِ بِذِكْرِ نَظَائِرَ لَا يَعْلَمُهَا النَّاسُ، وَلَيْسَ عِلْمُ السَّاعَةِ
5
بِأَقْرَبَ مِنْهَا فَإِنَّهَا أُمُورٌ مُشَاهَدَةٌ وَلَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَ حَالِهَا إِلَّا اللَّهُ، أَيْ فَلَيْسَ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِوَقْتِ السَّاعَةِ حُجَّةٌ عَلَى تَكْذِيبِ مَنْ أَنْذَرَ بِهَا، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يس: ٤٨]، أَيْ إِنْ لَمْ تُبَيِّنْ لَنَا وَقْتَهُ فَلَسْتَ بِصَادِقٍ. فَهَذَا وَجْهُ ذِكْرِ تِلْكَ النَّظَائِرِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَوَّلُهَا: عِلْمُ مَا تُخْرِجُهُ أَكْمَامُ النَّخِيلِ مِنَ الثَّمَرِ بِقَدْرِهِ وَجَوْدَتِهِ وَثَبَاتِهِ أَوْ سُقُوطِهِ، وَضَمِيرُ أَكْمامِها رَاجِعٌ إِلَى الثَّمَرَاتِ. وَالْأَكْمَامُ: جَمْعُ كِمٍّ بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ
وَهُوَ وِعَاءُ الثَّمَرِ وَهُوَ الْجُفُّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ النَّخْلَةِ مُحْتَوِيًا عَلَى طَلْعِ الثَّمَرِ.
ثَانِيهَا: حَمْلُ الْأُنْثَى مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ، وَلَا يَعْلَمُ الَّتِي تُلَقَّحُ مِنَ الَّتِي لَا تُلَقَّحُ إِلَّا اللَّهُ.
ثَالِثُهَا: وَقْتُ وَضْعِ الْأَجِنَّةِ فَإِنَّ الْإِنَاثَ تَكُونُ حَوَامِلَ مُثْقَلَةً وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَ وَضْعِهَا بِالْيَوْمِ وَالسَّاعَةِ إِلَّا اللَّهُ.
وَعُدِلَ عَنْ إِعَادَةِ حَرْفِ مَا مَرَّةً أُخْرَى لِلتَّفَادِي مِنْ ذِكْرِ حَرْفٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ تَسَاوِيَ هَذِهِ الْمَنْفِيَّاتِ الثَّلَاثَةِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي كَوْنِ أَزْمَانِ حُصُولِهَا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَالِ وَلِلِاسْتِقْبَالِ يَسُدُّ عَلَيْنَا بَابَ ادِّعَاءِ الْجُمْهُورِ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا وَ (لَا) فِي تَخْلِيصِ الْمُضَارِعِ لِزَمَانِ الْحَالِ مَعَ حَرْفِ مَا وَتَخْلِيصِهِ لِلِاسْتِقْبَالِ مَعَ حَرْفِ (لَا). وَيُؤَيِّدُ رَدَّ ابْنِ مَالِكٍ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ. وَحَرْفُ مَنْ بَعْدَ مَدْخُولَيْ مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِإِفَادَةِ عُمُومِ النَّفْيِ وَيُسَمَّى حَرْفًا زَائِدًا.
وَالْبَاءُ فِي بِعِلْمِهِ لِلْمُلَابَسَةِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ ثَمَراتٍ بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ ثَمَرَةٍ وَاحِدَةِ الثَّمَرَاتِ.
6
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨).
عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا فَإِنَّهُ لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ إِبْطَالَ شُبْهَتِهِمْ بِأَنَّ عَدَمَ بَيَانِ وَقْتِهَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ حُصُولِهَا، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِنَظَائِرَ لِوَقْتِ السَّاعَةِ مِمَّا هُوَ جَارٍ فِي الدُّنْيَا دَوْمًا عَادَ الْكَلَامُ إِلَى شَأْنِ السَّاعَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْذَارِ مُقْتَضِيًا إِثْبَاتَ وُقُوعِ السَّاعَةِ بِذِكْرِ بَعْضِ مَا يَلْقَوْنَهُ فِي يَوْمِهَا.
ويَوْمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ شَائِعٍ حَذْفُهُ فِي الْقُرْآنِ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ.
وَالضَّمِيرُ فِي (يُنَادِي) عَائِدٌ إِلَى رَبُّكَ فِي قَوْلِهِ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:
٤٦]، وَالنِّدَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْخِطَابِ الْعَلَنِيِّ كَقَوْلِهِ: يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الْحَدِيد: ١٤].
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النِّدَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٩٣]، وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٣].
وَجُمْلَةُ أَيْنَ شُرَكائِي يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقُولَ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص: ٧٤] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [الْقَصَص: ٦٥]. وَحَذْفُ الْقَوْلِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ.
وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُبَيِّنَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ يُنادِيهِمْ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ الْمُعْلَنِ بِهِ. وَجَاءَتْ جُمْلَةُ قالُوا آذَنَّاكَ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِلَى قَوْلِهِ: مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٣٠].
وآذَنَّاكَ أَخْبَرْنَاكَ وَأَعْلَمْنَاكَ. وَأَصْلُ هَذَا الْفِعْلِ مُشْتَقٌّ مِنْ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ الْأُذْنُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ وَقَالَ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٩]، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
7
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ وَصِيغَةُ الْمَاضِي فِي آذَنَّاكَ إِنْشَاءٌ فَهُوَ بِمَعْنَى الْحَالِ مِثْلَ: بِعْتُ وَطَلَّقْتُ، أَيْ نَأْذَنُكَ وَنُقِرُّ بِأَنَّهُ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ.
وَالشَّهِيدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُشَاهِدُ، أَيِ الْمُبْصِرُ، أَيْ مَا أَحَدٌ مِنَّا يَرَى الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوهُمْ شُرَكَاءَكَ الْآنَ، أَيْ لَا نَرَى وَاحِدًا مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي كُنَّا نَعْبُدُهَا فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّهِيدُ بِمَعْنَى الشَّاهِدِ، أَيْ مَا مِنَّا أَحَدٌ يَشْهَدُ أَنَّهُمْ شُرَكَاؤُكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَافًا بِكَذِبِهِمْ فِيمَا مَضَى، وَتَكُونُ جُمْلَةُ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ قالُوا آذَنَّاكَ، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَجِدُوا وَاحِدًا مِنْ أَصْنَامِهِمْ. وَفِعْلُ آذَنَّاكَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِوُرُودِ النَّفْيِ بَعْدَهُ.
وضَلَّ: حَقِيقَتُهُ غَابَ عَنْهُمْ، أَيْ لَمْ يَجِدُوا مَا كَانُوا يَدْعُونَهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ [الْأَحْقَاف: ٢٨]. فَالْمُرَاد بِهِ هُنَا: غَيْبَةُ أَصْنَامِهِمْ عَنْهُمْ وَعَدَمُ وُجُودِهَا فِي تِلْكَ الْحَضْرَةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهَا مُلْقَاةً فِي جَهَنَّمَ أَوْ بَقِيَتْ فِي الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ حِينَ فَنَائِهِ. وَإِذْ لَمْ يَجِدُوا مَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ، أَيْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي شَاهَدُوا إِعْدَادَهُ، فَالظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ.
وَالْمَحِيصُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَوِ اسْمُ مَكَانٍ مِنْ: حَاصَ يَحِيصُ، إِذَا هَرَبَ، أَيْ مَا لَهُمْ مَفَرٌّ مِنَ النَّارِ.
8

[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٤٩ الى ٥٠]

لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى.
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْوَعِيدِ. وَالْمَعْنَى: وَعَلِمُوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ. وَقَدْ كَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ نَعْمَاءُ كَذَّبُوا بِقِيَامِ السَّاعَةِ فَجُمْلَةُ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ إِلَى قَوْلِهِ:
قَنُوطٌ تَمْهِيدٌ لِجُمْلَةِ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا إِلَخْ...
وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَقِبَ قَوْلِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ [فصلت: ٤٧] إِلَخْ يَقْتَضِي مُنَاسَبَةً فِي النَظْمِ دَاعِيَةً إِلَى هَذَا الِاعْتِرَاضِ فَتِلْكَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَسْأَمُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ هُوَ مِنْ صِنْفِ النَّاسِ الَّذِينَ جَرَى ذِكْرُ قَصَصِهِمْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَرِيقًا مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، فَيَكُونَ تَعْرِيفُ الْإِنْسانُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ الْعَامِّ لَكِنَّ عُمُومَهُ عُرْفِيٌّ بِالْقَرِينَةِ وَهُوَ الْمُمَثَّلُ لَهُ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي بِقَوْلِكَ: جَمَعَ الْأَمِيرُ الصَّاغَةَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنْسَانًا مُعَيَّنًا مِنْ هَذَا الصِّنْفِ فَيَكُونَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ. كَمَا أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ يَقُولُ: مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، صَرِيحٌ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُعَيَّنًا كَانَ أَوْ عَامًّا عُمُومًا عُرْفِيًّا. فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ: الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ، وَقِيلَ أُرِيدَ بِهِ مُشْرِكٌ مُعَيَّنٌ، قِيلَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقِيلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْإِخْبَارُ عَنِ إِنْسَانٍ كَافِرٍ.
وَمَحْمَلُ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ إِنَاطَةَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِصِنْفٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ بِمُشْرِكٍ مُعَيَّنٍ بعنوان إِنْسَان يومىء بِأَنَّ لِلْجِبِلَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَثَرًا قَوِيًّا فِي الْخُلُقِ الَّذِي مِنْهُ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِوَازِعِ الْإِيمَانِ. فَأَصْلُ هَذَا الْخُلُقِ أَمْرٌ مُرْتَكِزٌ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى طَلَبِ الْمُلَائِمِ وَالنَّافِعِ وَنِسْيَانُ مَا عَسَى أَنْ يَحِلَّ بِهِ مِنَ الْمُؤْلِمِ وَالضَّارِّ، فَبِذَلِكَ يَأْنَسُ بِالْخَيْرِ إِذَا حَصَلَ لَهُ فَيَزْدَادُ مِنَ السَّعْيِ لِتَحْصِيلِهِ وَيَحْسَبُهُ كَالْمُلَازِمِ الذَّاتِيِّ فَلَا يَتَدَبَّرُ فِي مُعْطِيهِ حَتَّى يَشْكُرَهُ وَيَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ تَخَضُّعًا،
9
وَيَنْسَى مَا عَسَى أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الضُّرِّ
فَلَا يَسْتَعِدُّ لِدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِسُؤَالِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ وَيُعِيذَهُ مِنْهُ. فَأَمَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْأَمُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي، فَأَطْلَقَ عَلَى الِاكْتِفَاءِ وَالِاقْتِنَاعِ السَّآمَةَ، وَهِيَ الْمَلَلُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ اسْتِرْسَالِ الْإِنْسَانِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ عَلَى الدَّوَامِ بِالْعَمَلِ الدَّائِمِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَسْأَمَ مِنْهُ عَامِلُهُ فَنَفْيُ السَّآمَةِ عَنْهُ رَمْزٌ لِلِاسْتِعَارَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ لَأَحَبَّ لَهُمَا ثَالِثًا، وَلَوْ أَنَّ لَهُ ثَلَاثَةً لَأَحَبَّ لَهُمَا رَابِعًا، وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ»
، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: ٨].
وَالدُّعَاءُ: أَصْلُهُ الطَّلَبُ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الطَّلَبِ مُطْلَقًا فَتَكُونُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْخَيْرِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَا فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ أَوْ طَلَبُ الْخَيْرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، شَبَّهَ الْخَيْرَ بِعَاقِلٍ يَسْأَلُهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِ، فَإِضَافَةُ الدُّعَاءِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ.
وَأَمَّا أَن الْإِنْسَان يؤوس قُنُوطٌ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَذَلِكَ مِنْ خُلُقِ قِلَّةِ صَبْرِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا يُتْعِبُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ فَيَضْجَرُ إِنْ لَحِقَهُ شَرٌّ وَلَا يُوَازِي بَيْنَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ فَيَقُولُ: لَئِنْ مَسَّنِيَ الشَّرُّ زَمَنًا لَقَدْ حَلَّ بِيَ الْخَيْرُ أَزْمَانًا، فَمِنَ الْحَقِّ أَنْ أَتَحَمَّلَ مَا أَصَابَنِي كَمَا نَعِمْتُ بِمَا كَانَ لِي مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ لَا يَنْتَظِرُ إِلَى حِينِ انْفِرَاجِ الشَّرِّ عَنْهُ وَيَنْسَى الْإِقْبَالَ عَلَى سُؤَالِ اللَّهِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ الضُّرَّ بَلْ يَيْأَسُ وَيَقْنَطُ غَضَبًا وَكِبْرًا وَلَا يَنْتَظِرُ مُعَاوَدَةَ الْخَيْرِ ظَاهِرًا عَلَيْهِ أَثَرُ الْيَأْسِ بِانْكِسَارٍ وَحُزْنٍ. وَالْيَأْسُ فِعْلٌ قَلْبِيٌّ هُوَ: اعْتِقَاد عدم حُصُوله الميئوس مِنْهُ.
وَالْقُنُوطُ: انْفِعَالٌ يُدْنِي مِنْ أَثَرِ الْيَأْسِ وَهُوَ انْكِسَارٌ وَتَضَاؤُلٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا أَنَّهُ ذُو دُعَاءٍ لِلَّهِ كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ الْآتِي: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: ٥١]. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَهُمْ إِنَّمَا يَنْصَرِفُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ.
10
وَقَدْ جَاءَتْ تَرْبِيَةُ الشَّرِيعَةِ لِلْأُمَّةِ عَلَى ذَمِّ الْقُنُوطِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الْحجر: ٥٦]،
وَفِي الْحَدِيثِ «انْتِظَارُ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ عِبَادَةٌ»
. فَالْآيَةُ وَصَفَتْ خُلُقَيْنِ ذَمِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا خُلُقُ الْبَطَرِ بِالنِّعْمَةِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ شُكْرِ اللَّهِ عَلَيْهَا. وَثَانِيهِمَا الْيَأْسُ مِنْ رُجُوعِ النِّعْمَةِ عِنْدَ فَقْدِهَا. وَفِي نَظْمِ الْآيَةِ لَطَائِفُ مِنَ الْبَلَاغَةِ:
الْأُولَى: التَّعْبِيرُ عَنْ دَوَامِ طَلَبِ النِّعْمَةِ بِعَدَمِ السَّآمَةِ كَمَا عَلِمْتَهُ.
الثَّانِيَةُ: التَّعْبِيرُ عَنْ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ بِدُعَاءِ الْخَيْرِ.
الثَّالِثَةُ: التَّعْبِيرُ عَنْ إِضَافَةِ الضُّرِّ بِالْمَسِّ الَّذِي هُوَ أَضْعَف إحساس الْإِصَابَة قَالَ تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ [الزمر: ٦١].
الرَّابِعَةُ: اقْتِرَانُ شَرْطِ مَسِّ الشَّرِّ بِ إِنْ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّادِرِ وُقُوعُهُ فَإِنَّ إِصَابَةَ الشَّرِّ الْإِنْسَانَ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ مَغْمُورٌ بِهِ مِنَ النِّعَمِ.
الْخَامِسَةُ: صِيغَةُ الْمُبَالغَة فِي فَيَؤُسٌ.
السّادسة: إتباع يؤس بِ قَنُوطٌ الَّذِي هُوَ تَجَاوُزُ إِحْسَاسِ الْيَأْسِ إِلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ بِالِانْكِسَارِ، وَهُوَ مِنْ شِدَّةِ يَأْسِهِ، فَحَصَلَتْ مُبَالَغَتَانِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ يَأْسِهِ بِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ فِي ضَمِيرِهِ وَانْفِعَالٌ فِي سَحَنَاتِهِ. فَالْمُشْرِكُ يَتَأَصَّلُ فِيهِ هَذَا الْخُلُقُ وَيَتَزَايَدُ بِاسْتِمْرَارِ الزَّمَانِ.
وَالْمُؤْمِنُ لَا تَزَالُ تَرْبِيَةُ الْإِيمَانِ تَكُفُّهُ عَنْ هَذَا الْخُلُقِ حَتَّى يَزُولَ مِنْهُ أَوْ يَكَادَ.
ثُمَّ بَيَّنَتِ الْآيَةُ خُلُقًا آخَرَ فِي الْإِنْسَانِ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا زَالَ عَنْهُ كَرْبُهُ وَعَادَتْ إِلَيْهِ النِّعْمَةُ نَسِيَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِي لُطْفِ اللَّهِ بِهِ فَبَطِرَ النِّعْمَةَ، وَقَالَ: قَدِ اسْتَرْجَعْتُ خَيْرَاتِي بِحِيلَتِي وَتَدْبِيرِي، وَهَذَا الْخَيْرُ حَقٌّ لِي حَصُلْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَهُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ تَرَاهُ إِذَا سَمِعَ إنذار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِ السَّاعَةِ أَوْ هَجَسَ فِي نَفْسِهِ هَاجِسُ عَاقِبَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ قَالَ لِمَنْ يَدْعُوهُ إِلَى الْعَمَلِ لِيَوْمِ
11
الْحِسَابِ أَوْ قَالَ فِي نَفْسِهِ مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ فَرَضْتُ قِيَامَ السَّاعَةِ عَلَى احْتِمَالٍ ضَعِيفٍ فَإِنِّي سَأَجِدُ عِنْدَ اللَّهِ الْمُعَامَلَةَ بِالْحُسْنَى لِأَنِّي مِنْ أَهْلِ الثَّرَاءِ وَالرَّفَاهِيَةِ فِي الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ سَأَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا مِنْ سُوءِ اعْتِقَادِهِمْ أَنْ يَحْسَبُوا أَحْوَالَ الدُّنْيَا مُقَارِنَةً لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ حِينَ اقْتَضَاهُ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ مَالًا لَهُ عِنْدَهُ مِنْ أَجْرِ صِنَاعَةِ سَيْفٍ فَقَالَ لَهُ: حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ خَبَّابٌ: لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ وَيَبْعَثُك، فَقَالَ: أَو إنّي لَمَيِّتٌ فَمَبْعُوثٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: لَئِنْ بَعَثَنِي اللَّهُ فَسَيَكُونُ لِي مَالِي فَأَقْضِيكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً الْآيَات من سُورَةِ مَرْيَمَ [٧٧].
وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا فِي مَقَالَةِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ. وَذِكْرُ إِنْكَارِ الْبَعْثِ هُنَا إِدْمَاجٌ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ الْمُشْرِكِ فِي عُمُومِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ.
وَجِيءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِ وَلَئِنْ رُجِعْتُ بِحَرْفِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي يَغْلِبُ وُقُوعُهَا فِي الشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ وُقُوعُهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ رُجُوعَهُ إِلَى اللَّهِ أَمْرًا مَفْرُوضًا ضَعِيفَ الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا
دُخُولُ اللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقَسَمِ عَلَيْهِ فَمَوْرِدُ التَّحْقِيقِ بِالْقِسَمِ هُوَ حُصُولُ الْجَوَابِ لَوْ حَصَلَ الشَّرْطُ.
وَكَذَلِكَ التَّأْكِيدُ بِ إِنْ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ مَوْرِدُهُ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ لِي وعِنْدَهُ عَلَى اسْمِ إِنَّ هُوَ لِتَقَوِّي تَرَتُّبِ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ.
وَالْحُسْنَى: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ الْحَالَةُ الْحُسْنَى، أَوِ الْمُعَامَلَةُ الْحُسْنَى.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْحُسْنَى صَارَتِ اسْمًا لِلْإِحْسَانِ الْكَثِيرِ أَخْذًا مِنْ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُتَفَاوِتَةٌ أَفْرَادُهُ فِي هَذَا الْخُلُقِ الْمَعْزُوِّ إِلَيْهِ هُنَا عَلَى تَفَاوُتِ أَفْرَادِهِ فِي الْغُرُورِ، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكِينَ كَانَ هَذَا الْخُلُقُ فَاشِيًا فِيهِمْ
12
يَقْتَضِيهِ دِينُ الشِّرْكِ. وَلَا نَظَرَ فِي الْآيَةِ لِمَنْ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمُ النَّادِرُ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يُخَامِرُهُ بَعْضُ هَذَا الْخُلُقِ وَتَرْتَسِمُ فِيهِ شِيَاتٌ مِنْهُ وَلَكِنَّ إِيمَانَهُ يَصْرِفُهُ عَنْهُ انْصِرَافًا بِقَدْرِ قُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يَقُولُ وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً، وَلَكِنَّهُ قَدْ تَجْرِي أَعْمَالُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صُورَةِ أَعْمَالِ مَنْ لَا يَظُنُّ أَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ مِثْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَأْتُونَ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَاللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِنَا، وَإِذَا ذُكِرَ لَهُمْ يَوْمُ الْجَزَاءِ قَالُوا: مَا ثَمَّ إِلَّا الْخَيْرُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَذَمَّةً لِلْمُشْرِكِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَدًا لِلْأَوَّلِينَ وَانْتِشَالًا لِلْآخِرِينَ.
فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ.
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي [فصلت: ٤٧] وَمَا اتَّصَلَ بِهَا أَيْ فَلَنُعْلِمَنَّهُمْ بِمَا عَمِلُوا عَلَنًا يَعْلَمُونَ بِهِ أَنَّا لَا يَخْفَى عَلَيْنَا شَيْءٌ مِمَّا عَمِلُوهُ وَتَقْرِيعًا لَهُمْ.
وَقَوْلُ: الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ:
وَلَنُنَبِّئَنَّهُمْ بِمَا عَمِلُوا، فَعَدَلَ إِلَى الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ عِلَّةِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْإِذَاقَةَ بِمَا عَمِلُوا وَإِذَاقَةَ الْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْرِيعِ.
وَالْغَلِيظُ حَقِيقَتُهُ: الصُّلْبُ، قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ [الْفَتْح: ٢٩]، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْقَوِيِّ فِي نَوْعِهِ، أَيْ عَذَابٍ شَدِيدِ الْإِيلَامِ وَالتَّعْذِيبِ، كَمَا اسْتُعِيرَ لِلْقَسَاوَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ فِي قَوْلِهِ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ٧٣] وَقَوْلِهِ: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التَّوْبَة:
١٢٣].
والإذاقة: مَجَازٌ فِي مُطْلَقِ الْإِصَابَةِ فِي الْحِسِّ لِإِطْمَاعِهِمْ أَنَّهَا إِصَابَةٌ خَفِيفَةٌ كَإِصَابَةِ الذَّوْقِ بِاللِّسَانِ. وَهَذَا تَجْرِيدٌ لِلْمَجَازِ كَمَا أَنَّ وَصْفَهُ بِالْغَلِيظِ تَجْرِيدٌ ثَانٍ فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ ابْتِدَاءٌ مُطْمِعٌ وانتهاء مؤيس.
13

[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٥١]

وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
هَذَا وَصْفٌ وَتَذْكِيرٌ بِضَرْبٍ آخَرَ مِنْ طُغْيَانِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ غَيْرِ خَاصٍّ بِأَهْلِ الشِّرْكِ بَلْ هُوَ مُنْبَثٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى تَفَاوُتٍ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ. وَهُوَ تَوْصِيفٌ لِنَزَقِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيِّ وَقِلَّةِ ثَبَاتِهِ فَإِذَا أَصَابَتْهُ السَّرَّاءُ طَغَا وَتَكَبَّرَ وَنَسِيَ شُكْرَ رَبِّهِ نِسْيَانًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَشُغِلَ بِلَذَّاتِهِ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ الضَّرَّاءُ لَمْ يَصْبِرْ وَجَزِعَ وَلَجَأَ إِلَى رَبِّهِ يُلِحُّ بِسُؤَالِ كَشْفِ الضَّرَّاءِ عَنْهُ سَرِيعًا. وَفِي ذِكْرِ هَذَا الضَّرْبِ تَعَرُّضٌ لِفِعْلِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ الْخَلَّتَيْنِ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَهُوَ نَقْدٌ لِسُلُوكِ الْإِنْسَانِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَتَعْجِيبٌ مِنْ شَأْنِهِ. وَمَحَلُّ النَّقْدِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ إِعْرَاضِهِ وَنَأْيِهِ بِجَانِبِهِ وَاضِحٌ، وَأَمَّا مَحَلُّ الِانْتِقَادِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ أَنَّهُ ذُو دُعَاء عريض عِنْد مَا يَمَسُّهُ الشَّرُّ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَتَذَكَّرِ الْإِقْبَالَ عَلَى دُعَاءِ ربّه إِلَّا عِنْد مَا يَمَسُّهُ الشَّرُّ وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَالِ النِّعْمَةِ فَيَدْعُوَ بِدَوَامِهَا وَيَشْكُرَ رَبَّهُ عَلَيْهَا وَقَبُولِ شُكْرِهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ أَوْلَى بِالْعِنَايَةِ مِنْ حَالَةِ مَسِّ الضُّرِّ.
وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ إِلَى قَوْله: لَلْحُسْنى [فصلت: ٤٩، ٥٠] فَهُوَ وَصْفٌ لِضَرْبٍ آخَرَ أَشَدَّ، وَهُوَ خَاصٌّ بِأَهْلِ الشِّرْكِ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الْكَهْف: ٣٦]، فَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ إِلَخْ تَكْرِيرًا مَعَ قَوْلِهِ: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ [فصلت: ٤٩] الْآيَةَ. فَهَذَا التَّفَنُّنُ فِي وَصْفِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ مَعَ رَبِّهِ هُوَ الَّذِي دَعَا إِلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِذا أَنْعَمْنا مِنْ بَعْضِ التَّكْرِيرِ لِمَا ذَكَرَ فِي الضَّرْبِ الْمُتَقَدِّمِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِهِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْحَالَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ الشِّرْكِ وَعَدَمِهِ مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي مَثَارِ الْجِبِلَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَبِاعْتِبَارِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ.
وَالْإِعْرَاضُ: الِانْصِرَافُ عَنْ شَيْءٍ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْغَفْلَةِ عَنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ أَوِ التَّعَمُّدِ لِتَرْكِ الشُّكْرِ.
14
وَمُتَعَلِّقُ فِعْلِ أَعْرَضَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَعْرَضَ عَنْ دُعَائِنَا.
وَالنَّأْيُ: الْبُعْدُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ التَّفَكُّرِ فِي الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ، فَشَبَّهَ عَدَمَ اشْتِغَالِهِ بِذَلِكَ بِالْبُعْدِ. وَالْجَانِبُ لِلْإِنْسَانِ: مُنْتَهَى جِسْمِهِ مِنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَيْسَتَا قُبَالَةَ وَجْهِهِ وَظَهْرِهِ، وَيُسَمَّى الشِّقَّ، وَالْعِطْفَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ. وَالْمَعْنَى: أَبْعَدَ جَانِبَهُ، كِنَايَةً عَنْ إِبْعَادِ نَفْسِهِ، أَيْ وَلَّى مُعْرِضًا غَيْرَ مُلْتَفِتٍ بِوَجْهِهِ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي ابْتَعَدَ هُوَ عَنْهُ.
وَمَعْنَى مَسَّهُ الشَّرُّ أَصَابَهُ شَرٌّ بِسَبَبٍ عَادِيٍّ. وَعَدَلَ عَنْ إِسْنَادِ إِصَابَةِ الشَّرِّ إِلَى اللَّهِ تَعْلِيمًا لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاء: ٧٨] إِلَخْ. ثُمَّ قَالَ: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشُّعَرَاء: ٨٠] فَلَمْ يَقُلْ: وَإِذَا أَمْرَضَنِي، وَفِي ذَلِكَ سِرٌّ وَهُوَ أَنَّ النِّعَمَ وَالْخَيْرَ مُسَخَّرَانِ لِلْإِنْسَانِ فِي أَصْلِ وَضْعِ خِلْقَتِهِ فَهُمَا الْغَالِبَانِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا مِنْ مَظَاهِرِ نَامُوسِ بَقَاءِ النَّوْعِ. وَأَمَّا الشُّرُورُ وَالْأَضْرَارُ فَإِنَّ مُعْظَمَهَا يَنْجَرُّ إِلَى الْإِنْسَانِ بِسُوءِ تَصَرُّفِهِ وَبِتَعَرُّضِهِ إِلَى مَا حَذَّرَتْهُ مِنْهُ الشَّرَائِعُ وَالْحُكَمَاءُ الْمُلْهَمُونَ فَقَلَّمَا يَقَعُ فِيهِمَا الْإِنْسَان إِلَّا بِعِلْمِهِ وَجُرْأَتِهِ.
وَالدُّعَاءُ: الدُّعَاءُ لِلَّهِ بِكَشْفِ الشَّرِّ عَنْهُ. وَوَصْفُهُ بِالْعَرِيضِ اسْتِعَارَةٌ لِأَنَّ الْعَرْضَ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- ضِدُّ الطُّولِ، وَالشَّيْءُ الْعَرِيضُ هُوَ الْمُتَّسِعُ مِسَاحَةَ الْعَرْضِ، فَشَبَّهَ الدُّعَاءَ الْمُتَكَرِّرَ الْمُلِحَّ فِيهِ بِالثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ الْعَرِيضِ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: فداع، إِلَى فَذُو دُعاءٍ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ كَلِمَةُ ذُو مِنْ مُلَازَمَةِ الدُّعَاءِ لَهُ وَتَمَلُّكِهِ مِنْهُ.
وَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ مِنْ شِيَمِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْإِكْثَارِ مِنْهُ وَالْإِقْلَالِ عَلَى تَفَاوُتِ مُلَاحَظَةِ الْحَقَائِقِ الْإِلَهِيَّةِ. وَتَوَجُّهُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ هُوَ أَقْوَالٌ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ تَوَارَثُوهَا مِنْ عَادَاتٍ سَالِفَةٍ مِنْ أَزْمَانِ تَدَيُّنِهِمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَتَتَأَصَّلَ فِيهِمْ فَإِذَا دَعَوُا اللَّهَ غَفَلُوا عَنْ مُنَافَاةِ أَقْوَالِهِمْ لعقائد شركهم.
15

[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٥٢]

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ:
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [فصلت: ٤١، ٤٥]. فَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى الْمُجَادَلَةِ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ رَجَعَ بِهِ إِلَى الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ بَيَانُ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَصِدْقِهِ وَصِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ.
وَهَذَا اسْتِدْعَاءٌ لِيُعْمِلُوا النَّظَرَ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الْقُرْآنِ مِثْلَ إِعْجَازِهِ وَانْتِسَاقِهِ وَتَأْيِيدِ بَعْضِهِ بَعْضًا وَكَوْنِهِ مُؤَيِّدًا لِلْكُتُبِ قَبْلَهُ، وَكَوْنِ تِلْكَ الْكُتُبِ مُؤَيِّدَةً لَهُ.
وَالْمَعْنَى: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِنْكَارِ صِدْقِ الْقُرْآنِ لَيْسَ صَادِرًا عَنْ نَظَرٍ وَتَمْحِيصٍ يُحَصِّلُ الْيَقِينَ وَإِنَّمَا جَازَفْتُمْ بِهِ قَبْلَ النَّظَرِ فَلَوْ تَأَمَّلْتُمْ لَاحْتَمَلَ أَنْ يُنْتِجَ لَكُمُ التَّأَمُّلُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ عِنْدِهِ، فَإِذَا فُرِضَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَقَدْ أَقْحَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي شِقَاقٍ قَوِيٍّ.
وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ وَاقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى ذِكْرِ الْحَالَةِ الْمُنْطَبِقَةِ عَلَى صِفَاتِهِمْ تَعْرِيضًا بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ فِي هَذَا الْإِجْمَالِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا أَنَّكُمْ قَضَيْتُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ فَكَذَلِكَ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَتَعَالَوْا فَتَأَمَّلُوا فِي الدَّلَائِلِ، فَهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَصَدُّوا أَنْفُسَهُمْ وَعَامَّتَهُمْ عَنْ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ وَالتَّدَبُّرِ فِيهِ فَقَدْ أَعْمَلُوا شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْمَلُوا الْأَخْذَ بالحيطة لَهُم أَن يَتَدَبَّرُوهُ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي شَأْنه، وهم إِذَا تَدَبَّرُوهُ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَعْلَمُوا صِدْقَهُ، فَاسْتَدْعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى النَّظَرِ بِطَرِيقِ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ إِذَا جَازَ ذَلِكَ وَكَانُوا قَدْ كَفَرُوا بِهِ دُونَ تَأَمُّلٍ كَانُوا قَدْ قَضَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالضَّلَالِ الشَّدِيدِ، وَإِذَا كَانُوا كَذَلِكَ فَقَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ الْوَعِيدِ.
وإِنْ الشَّرْطِيَّةُ شَأْنُهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، فَالْإِتْيَانُ بِهَا إِرْخَاءٌ لِلْعِنَانِ مَعَهُمْ لِاسْتِنْزَالِ طَائِرِ إِنْكَارِهِمْ حَتَّى يُقْبِلُوا عَلَى التَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الْقُرْآنِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْخِطَابِ وَالتَّشْكِيكِ أَوَّلًا دَهْمَاءَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ
16
يَنْظُرُوا فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لَمْ يُطِيلُوا النَّظَرَ وَلَمْ يَبْلُغُوا بِهِ حَدَّ الِاسْتِدْلَالِ.
وَأَمَّا قَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ وَأَهْلُ الْعُقُولِ مِنْهُمْ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ حُبُّ الرِّئَاسَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الْعِلْمِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَدٍّ قَرِيبٍ مِنْ حَالَةِ الدَّهْمَاءِ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ أَلْقَى بَيْنَهُمْ هَذَا التَّشْكِيكَ تَغْلِيبًا وَمُرَاعَاةً لِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْمُعَانِدِينَ وَمُجَارَاةً لَهُمُ ادِّعَاءَهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا نَظَرًا لِقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥].
وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ كَفَرْتُمْ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الْكُفْرَ بِمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمْرُهُ أَخْطَرُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
ومِنْ الْأُولَى لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا أَضَلَّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ إِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ.
ومِنْ الثَّانِيَة مَوْصُولَة وَمَا صدقهَا الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: كَفَرْتُمْ بِهِ فَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى طَرِيقِ الْمَوْصُولِ لِمَا تَأْذَنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَعْلِيلِ أَنَّهُمْ أَضَلُّ الضَّالِّينَ بِكَوْنِهِمْ
شَدِيدِي الشِّقَاقِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ أَشَدَّ الْخَلْقِ عُقُوبَةً لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَنَّ الضَّلَالَ سَبَبٌ لِلْخُسْرَانِ.
وَالشِّقَاقُ: الْعِصْيَانُ. وَالْمُرَادُ: عِصْيَانُ أَمْرِ اللَّهِ لِظُهُورِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ بَيْنَنَا.
وَالْبَعِيدُ: الْوَاسِعُ الْمَسَافَةِ، واستعير هُنَا للشديد فِي جِنْسِهِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ لِلضَّلَالِ لِأَنَّ الضَّلَالَ أَصْلُهُ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الطَّرِيقِ، وَأَنَّ الْبُعْدَ مُنَاسِبٌ لِلشِّقَاقِ لِأَنَّ الْمُنْشَقَّ قَدْ فَارَقَ الْمُنْشَقَّ عَنْهُ فَكَانَ فِرَاقُهُ بَعِيدًا لَا رَجَاءَ مَعَهُ لِلدُّنُوِّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٦].
وَفِعْلُ أَرَأَيْتُمْ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِوُجُودِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ، وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ
17

[٥٣]

[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٥٣]
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.
أَعْقَبَ اللَّهُ أَمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ مَا فِيهِ تَخْوِيفُهُمْ مِنْ عَوَاقِبِ الشِّقَاقِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِهِ إِلَى آخِرِ مَا قُرِّرَ آنِفًا، بِأَنْ وعد رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ وَالْبِشَارَةِ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَغْمُرُ الْمُشْرِكِينَ بِطَائِفَةٍ مِنْ آيَاتِهِ مَا يَتَبَيَّنُونَ بِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقًّا فَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْإِيمَانُ بِهِ، أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ بَيِّنٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى اعْتِرَافِهِمْ بِحَقِّيَّتِهِ، وَسَتَظْهَرُ دَلَائِلُ حَقِّيَّتِهِ فِي الْآفَاقِ الْبَعِيدَةِ عَنْهُمْ وَفِي قَبِيلَتِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَتَتَظَاهَرُ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ فَلَا يَجِدُوا إِلَى إِنْكَارِهَا سَبِيلًا، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ يَوْمَئِذٍ مَعَ جَمِيعِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ. وَفِي هَذَا الْوَعْد للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ إِذْ يَسْمَعُونَهُ عَلَى طَرِيقَةِ: فَاسْمَعِي يَا جَارَةُ.
فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِصَرِيحِهَا وَتَعْرِيضِهَا مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لأمر الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالتَّعْلِيلُ رَاجِعٌ إِلَى إِحَالَتِهِمْ عَلَى تَشْكِيكِهِمْ فِي مَوْقِفِهِمْ لِلطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ سَكَتَ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ظُهُورِ الْآيَاتِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمُ الْمُبَيِّنَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ
[فصلت: ٥٢] ينبىء عَنْ تَقْدِيرِهِ، أَيْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا
الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ حَقٌّ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَاكًّا مِنْ قَبْلُ عَنْ قِلَّةِ تَبَصُّرٍ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَنْ كَانَ إِنَّمَا يَكْفُرُ عِنَادًا وَاحْتِفَاظًا بِالسِّيَادَةِ افْتَضَحَ بُهْتَانُهُ وَسَفَّهَهُ جِيرَانُهُ. وَكِلَاهُمَا قَدْ أَفَاتَ بِتَأْخِيرِ الْإِيمَانِ خَيْرًا عَظِيمًا مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ بِمَا أَضَاعَهُ مِنْ تَزَوُّدِ ثَوَابٍ فِي مُدَّةِ كُفْرِهِ وَمِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا بِمَا فَاتَهُ مِنْ شَرَفِ السَّبْقِ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: ١٠].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ طَرَفٌ مِنَ الْإِعْجَازِ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ إِذْ أَخْبَرَتْ بِالْوَعْدِ
18
بِحُصُولِ النَّصْرِ لَهُ وَلِدِينِهِ وَذَلِكَ بِمَا يَسَّرَ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ فِي آفَاقِ الدُّنْيَا وَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ عَامَّةً وَفِي بَاحَةِ الْعَرَبِ خَاصَّةً مِنَ الْفُتُوحِ وَثَبَاتِهَا وَانْطِبَاعِ الْأُمَمِ بِهَا مَا لَمْ تَتَيَسَّرْ أَمْثَالُهَا لِأَحَدٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَالْقَيَاصِرَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ عَلَى قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِنْ نُسِبَ عَدَدُهُمْ إِلَى عَدَدِ الْأُمَمِ الَّتِي فَتَحُوا آفَاقَهَا بِنَشْرِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَالتَّارِيخُ شَاهِدٌ بِأَنَّ مَا تَهَيَّأَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ عَجَائِبِ الِانْتِشَارِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى الْأُمَمِ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّمَا تَمَسَّكُوا بِعُرَى الْإِسْلَامِ لَقُوا مِنْ نَصْرِ اللَّهِ أَمْرًا عَجِيبًا يَشْهَدُ بِذَلِكَ السَّابِقُ وَاللَّاحِقُ، وَقَدْ تَحَدَّاهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ [الرَّعْد:
٤١] ثُمَّ قَالَ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الرَّعْد:
٤٣].
وَلَمْ يَقِفْ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ فَتْحِ الْمَمَالِكِ وَالْغَلَبِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ، بَلْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى التَّغَلْغُلِ فِي نُفُوسِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ فَتَقَلَّدُوهُ دِينًا وَانْبَثَّتْ آدَابُهُ وَأَخْلَاقُهُ فِيهِمْ فَأَصْلَحَتْ عَوَائِدَهُمْ وَنُظُمَهُمُ الْمَدَنِيَّةَ الْمُخْتَلِفَةَ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فَأَصْبَحُوا عَلَى حَضَارَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ مُتَنَاسِقَةٍ وَأَوْجَدُوا حَضَارَةً جَدِيدَةً سَالِمَةً مِنَ الرُّعُونَةِ وَتَفَشَّتْ لُغَةُ الْقُرْآنِ فَتَخَاطَبَتْ بِهَا الْأُمَمُ الْمُخْتَلِفَةُ الْأَلْسُنِ وَتَعَارَفَتْ بِوَاسِطَتِهَا وَنَبَغَتْ فِيهِمْ فَطَاحِلُ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ وَعُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَيِمَّةِ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَفُحُولِ الشُّعَرَاءِ وَمَشَاهِيرِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ نَشَرُوا الْإِسْلَامَ فِي الْمَمَالِكِ بِفُتُوحِهِمْ.
فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا مَا يَشْمَلُ الدَّلَائِلَ الْخَارِجَةَ عَنِ الْقُرْآنِ وَمَا يَشْمَلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَعْنَى رُؤْيَتِهَا رُؤْيَةَ مَا يُصَدِّقُ أَخْبَارَهَا وَيُبَيِّنُ نُصْحَهَا إِيَّاهُمْ بِدَعْوَتِهَا إِلَى خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالْآفَاقُ: جَمْعُ أُفُقٍ بِضَمَّتَيْنِ وَتُسَكَّنُ فَاؤُهُ أَيْضًا هُوَ: النَّاحِيَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُتَمَيِّزَةُ عَنْ غَيْرِهَا، وَالنَّاحِيَةُ مِنْ قُبَّةِ السَّمَاءِ. وَعَطْفُ وَفِي أَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، أَيْ وَفِي أُفُقِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ.
19
وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْآفَاقِ عَلَى عُمُومِهِ الشَّامِلِ لِأُفُقِهِمْ، وَيَكُونَ مَعْنَى وَفِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ آيَاتِ صِدْقِهِ فِي أَحْوَالٍ تُصِيبُ أَنْفُسَهُمْ، أَيْ ذَوَاتِهِمْ مِثْلَ الْجُوعِ الَّذِي دَعَا عَلَيْهِمْ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدُّخان: ١٠]، وَمِثْلَ مَا شَاهَدُوهُ مِنْ مَصَارِعِ كُبَرَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٦]. وَأَيَّةُ عِبْرَةٍ أَعْظَمُ مِنْ مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ رَمَاهُ غُلَامَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ وَتَوَلَّى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ذَبْحَهُ وَثَلَاثَتُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ ذَلِكَ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ. وَقَدْ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: لَوْ غَيْرَ أَكَّارٍ قَتَلَنِي، وَمِنْ مَقْتَلِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ يَوْمَئِذٍ بيد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ بِمَكَّةَ: أَنَا أَقْتُلُكَ وَقَدْ أَيْقَنَ بِذَلِكَ فَقَالَ لِزَوْجِهِ لَيْلَةَ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ: وَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي.
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
عَطْفٌ عَلَى إِعْلَامِ الرَّسُولِ بِمَا سَيَظْهَرُ مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِ الْقُرْآنِ وَصدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةً لِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ وَشَرْحِ صَدْرِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لَهُ بِظُهُورِ دِينِهِ وَوُضُوحِ صِدْقِهِ فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَفِي أَرْضِ قَوْمِهِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ تَحْقِيقًا لتيقن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَالَةِ رَبِّهِ بِحَيْثُ كَانَتْ مِمَّا يُقَرَّرُ عَلَيْهَا كِنَايَةً عَنِ الْيَقِينِ بِهَا، فَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ.
وَالْمَعْنَى: تَكْفِيكَ شَهَادَةُ رَبِّكَ بِصِدْقِكَ فَلَا تَلْتَفِتْ لِتَكْذِيبِهِمْ، وَهَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النِّسَاء:
١٦٦] وَقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النِّسَاء: ٧٩] فَهَذَا وَجْهٌ فِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَهُنَالِكَ وَجْهٌ آخَرُ أَنْ يَكُونَ مَسَاقُهَا مَسَاقَ تلقين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِاللَّهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَكُونَ مَوْقِعُهَا مَوْقِعَ الْقَسَمِ بِإِشْهَادِ اللَّهِ، وَهُوَ قَسَمٌ غَلِيظٌ فِيهِ مَعْنَى نِسْبَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يَشْهَدُ اللَّهُ بِهِ فَيَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا إِنْكَارًا لِعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالْقَسَمِ بِاللَّهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَسَمِ، وَعَنْ عَدَمِ
20
تَصْدِيقِهِمْ بِالْقَسَمِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الرَّعْد: ٤٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً [العنكبوت: ٥٢].
وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ إِنْكَارًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ وَلَا عَلَى صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ اللَّهَ شَهِدَ بِذَلِكَ فَلَا يَظْهَرُ تَوَجُّهُ الْإِنْكَارِ إِلَيْهِمْ. وَلَقَدْ دَلَّتْ كَلِمَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَرَدُّدٍ فِي اسْتِخْرَاجِ مَعْنَاهَا مِنْ لَفْظِهَا.
وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ بِرَبِّكَ وَالتَّقْدِير: أَو لم يَكْفِهِمْ رَبُّكَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، أَيْ فَهُوَ يُحَقِّقُ مَا وَعَدَكَ مِنْ دَمْغِهِمْ بِالْحُجَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِكَ، أَوْ فَمَنِ اسْتَشْهَدَ بِهِ فَقَدْ صَدَقَ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ مَنِ اسْتَشْهَدَ بِهِ كَاذِبًا فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَأْخُذَهُ.
وَفِي الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْ قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُصَدِّقُ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَلَا يَتِمُّ لَهُ أَمْرٌ وَهُوَ معنى قَول أيّمة أُصُولِ الدِّينِ: إِنَّ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ أَنَّ تَغْيِيرَ اللَّهِ الْعَادَةَ لِأَجْلِ تحدّي الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِ: صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عني.
[٥٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٥٤]
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
تَذْيِيلَانِ لِلسُّورَةِ وَفَذْلَكَتَانِ افْتُتِحَا بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِمَا تَضَمَّنَاهُ. فَأَمَّا التَّذْيِيلُ الْأَوَّلُ فَهُوَ جِمَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ إِذْ كَانَتْ أَحْوَالُهُمُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا نَاشِئَةً عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ فَكَانُوا فِي مَأْمَنٍ مِنَ التَّفْكِيرِ فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَانْحَصَرَتْ مَسَاعِيهُمْ فِي تَدْبِيرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَانْكَبُّوا عَلَى مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالنَّفْعِ فِيهَا.
21
وَضَمِيرُ إِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ كَمَا عَادَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي سَنُرِيهِمْ [فصلت: ٥٣].
وَأَمَّا التَّذْيِيلُ الثَّانِي فَهُوَ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنْ إِبْطَالٍ لِأَقْوَالِهِمْ وَتَقْوِيمٍ لِاعْوِجَاجِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ آثَارِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَتَيْنِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ مَعَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِمَا لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهِمَا وَاسْتِدْعَاءِ النَّظَرِ لِاسْتِخْرَاجِ مَا تَحْوِيَانِهِ مِنَ الْمَعَانِي وَالْجُزْئِيَّاتِ.
وَالْمِرْيَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِيهَا وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَاتُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ لُغَةٌ مِثْلَ: خِفْيَةٍ وَخُفْيَةٍ. وَالْمِرْيَةُ: الشَّكُّ. وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مُسْتَعَارٌ لِتَمَكُّنِ الشَّكِّ بِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مَظْرُوفُونَ فِيهِ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَتَعَدَّى بِهَا أَفْعَالُ الشَّكِّ إِلَى الْأَمْرِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ بِتَنْزِيلِ مُتَعَلِّقِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ مَثَارِ الْفِعْلِ بِتَشْبِيهِ الْمَفْعُولِ بِالْمُنْشَأِ كَأَنَّ الشَّكَّ جَاءَ مِنْ مَكَانٍ هُوَ
الْمَشْكُوكُ فِيهِ.
وَفِي تَعْلِيقِهِ بِذَاتِ الشَّيْءِ مَعَ أَنَّ الشَّكَّ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ مُبَالَغَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ إِسْنَادِ الْأُمُورِ إِلَى الْأَعْيَانِ وَالْمُرَادُ أَوْصَافُهَا، فَتَقْدِيرُ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ: فِي مِرْيَةٍ مِنْ وُقُوعِ لِقَاءِ رَبِّهِمْ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [الْبَقَرَة: ٢٣] أَيْ فِي رَيْبٍ مِنْ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا. وَأَطْلَقَ الشَّكَّ عَلَى جَزْمِهِمْ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْبَعْثِ لِأَنَّ جَزْمَهُمْ خَلِيٌّ عَنِ الدَّلِيلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ، فَكَانَ إِطْلَاقُ الشَّكِّ عَلَيْهِ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِأَنَّ الْأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يَكُونُوا فِي شَكٍّ عَلَى الْأَقَلِّ.
وَوَصْفُ اللَّهِ بِالْمُحِيطِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْمُحِيطَ بِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ عِلْمُهُ فَأُسْنِدَتِ الْإِحَاطَةُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّ (الْمُحِيطَ) صِفَةٌ مِنْ أَوْصَافِهِ وَهُوَ الْعِلْمُ.
وَبِهَاتَيْنِ الْفَذْلَكَتَيْنِ آذَنَ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ فَكَانَ مِنْ بَرَاعَةِ الْخِتَامِ.
22

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤٢- سُورَةُ الشُّورَى
اشْتُهِرَتْ تَسْمِيَتُهَا عِنْدَ السَّلَفِ حم عسق، وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ»، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ.
وَتُسَمَّى «سُورَةَ الشُّورَى» بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَمَا قَالُوا «سُورَةَ الْمُؤْمِنِ»، وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَالتَّفَاسِيرِ، وَرُبَّمَا قَالُوا «سُورَةَ شُورَى» بِدُونِ أَلْفٍ وَلَامٍ حِكَايَةً لِلَفْظِ الْقُرْآنِ.
وَتُسَمَّى «سُورَةَ عسق» بِدُونِ لَفْظِ حم لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ. وَلَمْ يَعُدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ ذَاتِ الِاسْمَيْنِ فَأَكْثَرَ. وَلَمْ يَثْبُتْ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فِي تَسْمِيَتِهَا.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَصَّارِ فِي كِتَابِهِ فِي «النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ» كَمَا عَزَاهُ إِلَيْهِ فِي «الْإِتْقَانِ». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ اسْتِثْنَاءُ أَرْبَعِ آيَاتٍ أُولَاهَا قَوْلُهُ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣] إِلَى آخِرِ الْأَرْبَعِ الْآيَاتِ.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى قَوْلِهِ:
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الشورى: ٢٣، ٢٤]. رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي
23
الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِابْنِ الْفُرْسِ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ [الشورى: ٢٧] الْآيَةَ نَزَلَ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ فَتَكُونُ مَدَنِيَّةً، وَفِيهِ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ إِلَى قَوْلِهِ: مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: ٣٩- ٤١] نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ.
نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْكَهْفِ وَقَبْلَ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَعُدَّتِ التَّاسِعَةَ وَالسِتِّينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ الْجَعْبَرِيِّ الْمَرْوِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ آيَةَ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشورى: ٢٨] نَزَلَتْ فِي انْحِبَاسِ الْمَطَرِ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا قَالَ مُقَاتِلٌ تَكُونُ
السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَمَانٍ بَعْدَ الْبَعْثَةِ، وَلَعَلَّ نُزُولَهَا اسْتَمَرَّ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ بَعْدَ أَنْ آمَنَ نُقَبَاءُ الْأَنْصَارِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ
[الشورى: ٣٨] أُرِيدَ بِهِ الْأَنْصَارُ قَبْلَ هِجْرَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَعُدَّتْ آيُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ خَمْسِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ
أَوَّلُ أَغْرَاضِهَا الْإِشَارَةُ إِلَى تَحَدِّي الطَّاعِنِينَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ، فَهَذَا التَّحَدِّي لَا تَخْلُو عَنْهُ السُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْحُرُوفِ الْهِجَائِيَّةِ الْمُقَطَّعَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَاسْتَدَلَّ اللَّهُ عَلَى الْمُعَانِدِينَ بِأَنَّ الْوَحْيَ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ إِلَّا كَالْوَحْيِ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ لِيُنْذِرَ أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا بِيَوْمِ الْحِسَابِ. وَأَنَّ اللَّهَ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَا تُعَارَضُ قُدْرَتُهُ وَلَا يُشَكُّ فِي حِكْمَتِهِ، وَقَدْ خَضَعَتْ لَهُ الْعَوَالِمُ الْعُلْيَا وَمَنْ فِيهَا وَهُوَ فَاطِرُ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ يَجْتَبِي مَنْ يَشَاءُ لِرِسَالَتِهِ فَلَا بِدْعَ أَنْ يُشَرِّعَ لِلْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنَ الدِّينِ مِثْلَ مَا شَرَّعَ لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَمَا أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ يُوحِي إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْبِقْ أَنْ أَرْسَلَ مَلَائِكَةً لِمُخَاطَبَةِ عُمُومِ النَّاسِ مُبَاشَرَةً.
24
Icon