تفسير سورة فصّلت

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

٤١ شرح إعراب سورة السجدة (فصّلت)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣)
قال أبو إسحاق: تَنْزِيلٌ رفع بالابتداء وخبره كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قال: وهذا قول البصريين. قال الفراء «١» يجوز أن يكون رفعه على إضمار هذا قُرْآناً عَرَبِيًّا قال الكسائي والفراء «٢» : يكون منصوبا بالفعل أي فصّلت كذلك قال: ويجوز أن يكون منصوبا على القطع. وقال أبو إسحاق يكون منصوبا على الحال أي فصّلت آياته في حال جمعه. وقول أخر: يكون منصوبا على المدح أي أعني قرانا عربيا.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٤]
بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤)
بَشِيراً وَنَذِيراً قال الكسائي والفراء «٣» : ويجوز قرآن عربي بالرفع يجعلانه نعتا لكتاب، قالا مثل وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الأنعام: ٩٢، ١٥٥] وقال غيرهما: دلّ قوله جلّ وعزّ: قُرْآناً عَرَبِيًّا على أنه لا يجوز أن يقال فيه شيء بالسريانية والنبطية، ودل أيضا على أنه يجب أن يطلب معانيه وغريبه من لغة العرب وكلامها، ودلّ أيضا على بطلان قول من زعم أن ثمّ معنيين معنى ظاهرا ومعنى باطنا لا يعرفه العرب في كلامها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فدلّ بهذا على أنه إنما يخاطب العقلاء البالغين، وإن من أشكل عليه شيء من القرآن فيجب أن يسأل من يعلم. فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ في معناه قولان: أحدهما لا يقبلون وكلّهم كذا إلّا من آمن والآخر يجتنبون سماع القرآن.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٥]
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ جمع كنان أي عليها حاجز لا يصل إليها ما يقوله، وكذا
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ١١.
(٢) انظر معاني الفراء ٣/ ١٢.
(٣) انظر البحر المحيط ٧/ ٤٦٥.
وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم والوقر الحمل. وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ قال أبو إسحاق: أي حاجز لا يجامعك على شيء مما تقوله فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ على الأصل، ومن قال: إنّا حذف النون تخفيفا.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٦]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦)
يُوحى إِلَيَّ أَنَّما في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٧]
الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧)
الَّذِينَ في موضع خفض نعت «للمشركين». لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ في معناه أقوال: فمن أصحّ ما روي فيه وأحسنه استقامة إسناد ما رواه عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: التوحيد لله جلّ وعزّ. وروى الحكم بن أبان عن عكرمة لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ قال لا يقولون لا إله إلا الله. وقال الربيع بن أنس: لا يزكّون أعمالهم فينتفعون بها.
وروى إسماعيل بن مسلم عن الحسن الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ. قال: عظم الله جلّ وعزّ شأن الزكاة فذكرها فالمسلمون يزكون والكفار لا يزكون والمسلمون يصلّون والكفار لا يصلّون.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
قال محمد بن يزيد: في معناه قولان يكون غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع من قولهم مننت الحبل أي قطعته، وقد منّه السفر، أي قطعه ويكون معناه لا يمنّ عليهم.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٩]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩)
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ قال عبد الله بن سلام وكعب: هما يوم الأحد ويوم الاثنين. وقال مجاهد: كلّ يوم بألف سنة مما تعدون. وقال غيره: لو أراد عزّ وجلّ أن يخلقها في وقت واحد لفعل، ولكنه أراد ما فيه الصلاح ليتبين ملائكته أثر صنعته شيئا بعد شيء فيزداد في بصائرها. الأصل: أإنّكم، فإن خفّفت الهمزة الثانية جعلتها بين بين، وكتابه بألفين لا غير لأن الهمزة الثانية مبتدأة، والمبتدأة لا تكون إلا ألفا، ودخلت عليها ألف الاستفهام. فقولك أإنّكم كقولك هل إنّكم وأم إنّكم لا تكتب إلّا بألف.
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً قال الضحاك: تتّخذون معه أربابا والهة. قال أبو جعفر: واحد الأنداد ندّ وهو المثل أي تجعلون له أمثالا لاستحقاق. ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ أي ذلك الذي خلق الأرض في يومين والذي جعلتم له أندادا ربّ العالمين. قال الضحاك: العالمون
الجنّ والإنس والملائكة، وهذا من أحسن ما قيل في معناه لأن سبيل ما يجمع بالواو والنون والياء والنون أن يكون لما يعقل فهذا للملائكة والإنس والجن.
[سورة فصلت (٤١) : آية ١٠]
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠)
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها قال كعب: مادت الأرض فخلق الله فيها الجبال يوم الثلاثاء، وخلق الرياح والماء الملح، وخلق من الملح العذب، وخلق الوحش والطير والهوام وغير ذلك يوم الأربعاء. قال أبو جعفر: واحد الرواسي راسية، ويقال: واحد الرواسي راس. وقيل للجبال: رواس لثباتها على الأرض. وَبارَكَ فِيها أي زاد فيها من صنوف ما خلق من الأرزاق وثبتها فيها والبركة: الخير الثابت وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها قال عكرمة: جعل في كلّ بلد ما يقوم به معيشة أهله فالسابري بسابور، والهروي بهراة، والقراطيس بمصر. فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ قال محمد بن يزيد: أي ذا وذاك في أربعة أيام. وقال أبو إسحاق: أي في تمام أربعة أيام. سَواءً مصدر عند سيبويه أي استوت استواء. قال سيبويه: وقد قرئ سَواءً لِلسَّائِلِينَ جعل سواء في موضع مستويات، كما تقول: في أربعة أيام تمام أي تامة، ومثله: رجل عدل أي عادل وسواء من نعت أيام، وإن شئت من نعت أربعة. والقراءة بالخفض مرويّة عن الحسن، وبالرفع عن أبي جعفر أي هي سواء. لِلسَّائِلِينَ فيه قولان: قال الضحاك: أي لمن سأل عن خلق هذا في كم كان هذا؟ والقول الآخر وقدّر فيها أقواتها للسائلين أي لجميع الخلق لأنّهم يسألون القوت.
[سورة فصلت (٤١) : آية ١١]
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ قالوا: في يوم الخميس فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً وعن سعيد بن جبير أنه قرأ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي أعطيا الطاعة. وقرأ قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «١» ولم يقل: طائعات ففي هذا ثلاثة أجوبة للكسائي قال: يكون أتينا بمن فينا طائعين يكون لما خبّر عنهن بالإتيان أجرى عليهن ما يجري على من يعقل من الذكور، والجواب الثالث أنه رأس آية.
[سورة فصلت (٤١) : آية ١٢]
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ على قول من أنّث السماء، ومن ذكّر قال: سبعة سموات فأما قول بعض أهل اللغة أنه ما جمع بالتاء فهو بغير هاء، وإن كان الواحد
(١) انظر البحر المحيط ٧/ ٤٦٦، ومختصر ابن خالويه ١٣٣.
مذكرا، وحكى أخذت منه أربع سجلّات، بغير هاء فخطأ لا يعرفه أهل الإتقان من أهل العربية وقد حكوا: هذه أربعة حمّامات لأن الواحد حمّام مذكر، هكذا قال الأخفش سعيد وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قيل: أمرها ملائكتها، وقيل: ما صنع فيها وعن حذيفة ما يدلّ على الجوابين، قال: وأوحى في كل سماء أمرها قال للسماء الدنيا:
كوني زمردة خضراء، وجعل فيها ملائكة يسبّحون. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً قال الأخفش: أي وحفظناها حفظا.
[سورة فصلت (٤١) : آية ١٣]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣)
وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ ولم تأتهم الصاعقة لأنهم لم يعرضوا كلهم وأعرضوا للكل، وكل من خوطب بهذا أسلم إلّا من قتل منهم.
وقراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عتبة بن الوليد كما قرئ على أحمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا الأجلح بن عبد الله عن الذيّال بن حرملة عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل يوما، والملأ من قريش: إنه قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فأتاه فكلّمه ثم أتانا ببيان من أمره فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما وما يخفى عليّ إن كان كذلك فأتاه عتبة فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، فقال له عتبة: يا محمّد أأنت خير أم هاشم؟ أأنت خير أم عبد المطلب؟ أأنت خير أم عبد الله؟ لم يأتوا بمثل ما أتيت به فبم تشتم الهتنا وتضلّل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا لك اللواء بيننا بالرئاسة فكنت ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوّجناك عشر نسوة تختار هن من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساكت لا يتكلّم فلما فرغ عتبة من كلامه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرانا عربيا» ثمّ قرأ إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكفّ ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم فقال أبو جهل: يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلّا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلّا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فأتوا عتبة فخرج إليهم فقال له أبو جهل والله يا عتبة ما نظنّك إلّا قد صبأت إلى محمد وأعجبك أمره، وما نرى ذلك إلّا من حاجة أصابتك فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم ألّا يكلّم محمدا أبدا، وقال لهم: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكنّي أتيته فقصّ عليهم ما قال له: وما قال لرسول الله، ثم قال: جاءني والله بشيء ما هو بسحر ولا كهانة قرأ علي «بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرانا عربيا» إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ
(١٣) فأمسكت على فيه، وناشدته الرحم أن يكفّ، وقد علمتم أنّ محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب فناشدته الرحم أن يكفّ. قال الضحاك: صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي عذابا- وقال محمد بن يزيد: الصاعقة معناها في كلام العرب المبيدة المهلكة المخمدة فربّما استعملت للإخماد من غير إهلاك ومنه سمّي الصّعق بن حرب لأنه ضرب ضربة فخمد ثم أفاق.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٤ الى ١٥]
إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥)
إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ في معناه ثلاثة أقوال: مذهب الضحاك: أن الرسل الذين بين أيديهم من قبلهم، والذين من خلفهم الذين بحضرتهم.
قال أبو جعفر: فيكون الضمير الذي في خلفهم يعود على الرسل، هذا قول وهو مذهب الفراء. وقيل: من بين أيديهم الذين بحضرتهم، ومن خلفهم الذين من قبلهم. وقيل:
هما على التكثير أي جاءتهم الرسل من كلّ مكان بشيء واحد، وهو ألا يعبدوا إلّا الله.
[سورة فصلت (٤١) : آية ١٦]
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦)
قرأ أبو عمرو ونافع فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ «١» بإسكان الحاء، وأكثر القراء بكسرها فيقول: نَحِساتٍ واحتجّ أبو عمرو في التسكين على إجماعهم بتسكين الحاء في قولهم: نحس وفي قوله جلّ وعزّ: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر: ١٩] وردّ عليه أبو عبيد هذا الاحتجاج لأن معنى فِي يَوْمِ نَحْسٍ في يوم شؤم وأن معنى فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ في أيام مشؤومات، والقول كما قال أبو عبيد.
روى جويبر عن الضحّاك «في أيام نحسات» قال: مشؤومات عليهم، ويحتمل قراءة من قرأ فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ بإسكان الحاء أن يكون الأصل عنده نحسات ثم حذف الكسرة فيكون كمعنى نحسات، ويحتمل أن يكون وصفها بما هو فيها مجازا واتساعا.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ رفعت ثمود بالابتداء ولم تصرفه على أنه اسم للقبيلة
(١) انظر تيسير الداني ١٥٦.
والمعروف من قراءة الأعمش وَأَمَّا ثَمُودُ «١» بالصرف على أنه اسم للحيّ إلّا أن أبا حاتم روى عن أبي زيد عن المفضّل عن الأعمش وعاصم أنهما قرا وأمّا ثمودا بالنصب. وهذه القراءة معروفة عن عبد الله بن أبي إسحاق، والنصب بإضمار فعل على قول يونس قال: زيدا ضربته، وذلك بعيد عند سيبويه. وعلى ذلك أنشد: [المتقارب] ٣٩٥-
فأمّا تميم تميم بن مر فألفاهم القوم روبى نياما
«٢» قال الضحاك: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أخرجنا لهم الناقة تبيانا وتصديقا لصالح صلّى الله عليه وسلّم. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى قال: أي استحبّوا الكفر على الإيمان.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢)
ويوم نحشر أعداء الله إلى النّار هذه قراءة نافع، وأما سائر القراء أبو عمرو وأبو جعفر والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي فقرؤوا وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ «٣» على ما لم يسمّ فاعله. وهذا اختيار أبي عبيد وعارض نافعا في قراءته منكرا فقال بعده فَهُمْ يُوزَعُونَ ولم يقل نزعهم أي يحشر أولى. قال أبو جعفر: وهذه المعارضة لا تلزم، والقراءتان حسنتان، والمعنى فيهما واحد غير أن قائلا لو قال قراءة نافع أولى بما عليها من الشواهد لأنه قد أجمع القراء على النون في قوله جلّ وعزّ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم: ٨٥] ومن الدليل على أن معارضته لا تلزم قول الله جلّ وعزّ: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف: ٤٧] ولم يقل: وحشروا، وبعده عُرِضُوا
لما لم يسمّ فاعله. فهذا مثل قراءة نافع ويوم نحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون والإمالة في قوله جلّ وعزّ:
إِلَى النَّارِ حسنة لأن الراء مكسورة وكسرتها بمنزلة كسرتين لأن فيها تكريرا. هذا قول الخليل وسيبويه «٤» فحسن معها إمالة الألف للمجانسة. فأما قول من يقول: تمال الراء وتمال الدال فلا تخلو من إحدى جهتين من الخطأ والتساهل: لأن الإمالة إنما تقع على الألف لأنها حرف هوائي فيتهيأ فيه ما لا يتهيأ في غيره. ويقال: وزعته أزعه والأصل أوزعه فحذفت الواو وفتحت لأن فيه حرفا من حروف الحلق. قال الضحاك:
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ١٤، والبحر المحيط ٧/ ٤٧.
(٢) الشاهد لبشر بن أبي خازم في ديوانه ص ١٩٠، والأزهيّة ص ١٤٦، وجمهرة اللغة ١٠٢١، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٢٨٠، والكتاب ١/ ١٣٤، ولسان العرب (روب)، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص ٧، وأمالي ابن الحاجب ١/ ٣٣٤، ومجالس ثعلب ص ٢٣٠، والمحتسب ١/ ١٨٩، والمعاني الكبير ٩٣٧.
(٣) انظر البحر المحيط ٧/ ٤٧١. [.....]
(٤) انظر الكتاب ٤/ ٥٧٥.
يُوزَعُونَ يدفعون. وقال مجاهد وأبو رزين: يُوزَعُونَ يحبس أولهم على اخرهم.
ويروى عن ابن عباس يُوزَعُونَ، قال: يحبس أولهم على اخرهم حتّى يتتامّوا فيرمى بهم في النار. قال أبو جعفر: والدليل على هذا الجواب أنّ بعده حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ وهذا من معجز القرآن لأن فيه حذفا واختصارا قد دلّ عليه المعنى، والمعنى حتّى إذا جاءوا النار وصاروا بحضرتها سئلوا عن كفرهم ومعاصيهم فأنكروها بعد أن شهد عليهم النبيون والمؤمنون. شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ قال الفرّاء «١» : الجلد هاهنا الذكر كنّى الله جلّ وعزّ عنه كما كنّى في قوله جلّ وعزّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة: ٢٣٥] أي نكاحا، وقال غيره: هي جلودهم بعينها جعل الله عزّ وجلّ فيها ما ينطق فشهدت عليهم، قال جلّ وعزّ: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ أي ما كنتم تقدرون على أن تستروا معاصيكم عن سمعكم وأبصاركم وجلودكم لأنكم بهن تعملون المعاصي و «أن» في موضع نصب أي من أن.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٢٣]
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ ابتداء وخبر، ويجوز أن يكون ظنكم بدلا من ذلكم وأَرْداكُمْ خبر ذلكم، وعلى الجواب الأول أرداكم خبر ثان فأما قول الفرّاء: يكون أرداكم في موضع نصب مثل: هذا زيد قائما، فغلط لأن الفعل الماضي لا يكون حالا. قال أبو العباس: أرداكم من الردى وهو الهلاك.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٢٤]
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً في موضع جزم بالشرط، وجوابه الجملة الفاء وما بعدها، وكذا وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٢٥]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ عن ابن عباس أن القرناء الشياطين. وهي آية مشكلة فمن الناس من يقول: معنى هذا التحلية للمحنة وقيل: قيضنا لهم قرناء من الشياطين في النار فَزَيَّنُوا لَهُمْ أعمالهم في الدنيا. فإن قيل: فكيف يصحّ هذا والفاء تدلّ على أن الثاني بعد الأول؟ قيل: يكون المعنى: قدّرنا عليهم هذا وحكمنا به. ومن أحسن ما قيل في الآية أن المعنى أحوجناهم إلى الإقرار والاقتران فأحوجنا الغنيّ إلى الفقير
(١) انظر معاني الفراء ٣/ ١٦.
ليستعين به وأحوجنا الفقير إلى الغني لينال منه، وكذا الزوجان كل واحد منهما محتاج إلى صاحبه فهذا معنى الاقتران وحاجة بعضهم إلى بعض. قيض الله جلّ وعزّ لهم ذلك ليتعاونوا على طاعته فزيّن بعضهم لبعض المعاصي قال جلّ وعزّ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ فيه أقوال: يروى عن ابن عباس ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ التكذيب بالآخرة والبعث والجنة والنار، وَما خَلْفَهُمْ الترغيب في الدنيا والتسويف بالمعاصي، وقيل فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي ما تقدّمهم من المعاصي وَما خَلْفَهُمْ ما يعمل بعدهم أو بحضرتهم، وقيل: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما هم فيه وَما خَلْفَهُمْ ما عزموا أن يعملوه، وهذا من أبينها. وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وهو أن الله جلّ وعزّ يعذّب من عمل مثل عملهم فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ أي هم داخلون في أمم قد حقّ عليهم هذا القول. فهذا قول بين، وقد قيل: «في» بمعنى مع كما قال: [الطويل] ٣٩٦-
وهل ينعمن من كان أخر عهده ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
«١»
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ وهذا من لغي يلغى، وهي اللغة الفصيحة، ويقال: لغى يلغى لأن فيه حرفا من حروف الحلق، ولغا يلغو، وعلى هذه اللغة قرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وَالْغَوْا فِيهِ بضم الغين. قال محمد بن يزيد: اللغو في كلام العرب ما كان على غير وجهه، ومنه وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص: ٥٥] إنما هو ما يصدّ عن الخير ويدعو إلى الشر أي هو مما ينبغي أن يطّرح، ولا يعرّج عليه كما أن اللغو في الكلام ما لا يفيد معنى. ويروى عن عبد الله بن عباس في معنى وَالْغَوْا فِيهِ أن أبا جهل هو الذي قال هذا، قال: فإذا رأيتم محمدا يصلّي فصيحوا في وجهه، وشدّوا أصواتكم بما لا يفهم حتّى لا يدري ما يقول، ويروى أنهم إنّما فعلوا هذا لما أعجزهم القرآن، ورأوا من تدبّره آمن به لإعجازه بفصاحته وكثرة معانيه وحسنه ونظمه ورصفه فقالوا: إذا سمعتموه يقرأ فخلّطوا عليه القراءة بالهزء وما لا يحصل، وذلك اللغو لعلكم تغلبونه.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ قال أبو إسحاق: النار بدل من جزاء قال: ويجوز أن يكون رفعها بإضمار مبتدأ أيضا تبيينا عن الجزاء.
(١) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ٢٧، وأدب الكاتب ص ٥١٨، وجمهرة اللغة ١٣١٥، وخزانة الأدب ١/ ٦٢، والجنى الداني ٢٥٢، وجواهر الأدب ص ٢٣٠، وتاج العروس (حول) و (في)، والدرر ٤/ ١٤٩، وشرح شواهد المغني ١/ ٤٨٦، وبلا نسبة في الخصائص ٢/ ٣١٣، ورصف المباني ص ٣٩١، وشرح الأشموني ٢/ ٢٩٢، ولسان العرب (فيا) ومغني اللبيب ١/ ١٦٩، وهمع الهوامع ٢/ ٣٠.

[سورة فصلت (٤١) : آية ٣٠]

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠)
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ويجوز في غير القرآن حذف إحدى التاءين ولا يجوز الإدغام للبعد. و «أن» في موضع نصب أي بأن لا تخافوا ولا تحزنوا. ويروى عن ابن عباس أن هذا في يوم القيامة. قال زيد بن أسلم: هذا عند الموت قال: والبشارة في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٣١]
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١)
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
أي نحوطكم ونحفظكم بأمر الله عزّ وجلّ، وفي الآخرة نطامنكم ونرشدكم. وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
. قال عكرمة عن ابن عباس قال: إذا أراد أحدهم الشيء واشتهاه في نفسه وجده حيث تناله يده.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٣٢]
نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)
نُزُلًا قال الأخفش: هو منصوب من جهتين: إحداهما أن يكون مصدرا أي أنزلهم الله ذاك نزلا، والأخرى أن يكون في موضع الحال أي منزلين نزلا.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٣٣]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا منصوب على البيان. وقد ذكرنا فيه أقوالا فمن أجمعها ما قاله الضحاك قال: هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ومن اتّبعهم إلى يوم القيامة إلّا أن الحديث عن عائشة رضي الله عنها فيه توقيف أنّ هذه الآية نزلت في المؤذنين، وهي لا تقول إلّا ما تعلم أنّه كما قالت لأن مثل هذا لا يؤخذ بالتأويل إذا قيل نزل في كذا، كما قرئ على أبي بكر محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف القطّان قال: حدّثنا عبيد الله بن الوليد عن محمد بن نافع عن عائشة قالت: نزلت في المؤذنين يعني قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ. وقرئ على أحمد بن محمد الحجاج عن يحيى بن سليمان عن وكيع قال: حدّثنا عبيد الله بن الوليد الوصّافي عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ومحمد بن نافع عن عائشة في هذه الآية قالت: نزلت في المؤذّنين وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال يحيى بن سليمان:
وحدّثنا حفص بن عمر قال: حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة يرفعه قال: أول من يقضى له بالرحمة يوم القيامة المؤذّنون وأول المؤذّنين مؤذّنو مكّة، قال: والمؤذّنون أطول الناس
أعناقا يوم القيامة والمؤذّنون إذا خرجوا من قبورهم أذّنوا فنادوا بالأذان، والمؤذنون لا يدوّدون في قبورهم. قال عكرمة: وقال عمر بن الخطاب رحمه الله قال: ما أبالي لو كنت مؤذّنا أن لا أحجّ ولا أعتمر ولا أجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ، قال: وقالت الملائكة عليهم السلام لو كنّا نزولا في الأرض ما سبقنا إلى الأذان أحد، وبإسناده عن عكرمة في قوله جلّ وعزّ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ يعني المؤذنين وَعَمِلَ صالِحاً قال: صلّى وصام. قال يحيى بن سليمان: وحدّثنا جرير عن فضيل بن أبي رفيدة قال: قال لي عاصم بن هبيرة وكان من أصحاب ابن مسعود، وكنت مؤذنا: إذا فرغت من الأذان وقلت لا إله إلّا الله فقل وأنا من المسلمين ثم قرأ هذه الآية: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. إنّني على الأصل، ومن قال: «إنّي» حذف لاجتماع النونات، والتقدير عند جماعة من أهل العربية: وقال إنني مسلم من المسلمين، وكذا قال هشام في وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي ناصح من الناصحين. وقال بعض أهل النظر: دلّ هذا من قوله جلّ وعزّ أنه حسن أن يقول أنا مسلم بلا استثناء أي قد استسلمت لله جلّ وعزّ وقبلت أمره فحكم لي بأنّي مسلم.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٣٤]
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ قال عطاء: الحسنة لا إله إلّا الله، والسيئة الشّرك ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالحال التي هي أحسن كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. قال أبو زيد:
«الحميم» عند العرب: القريب. وقال محمد بن يزيد: «الحميم» الخاص ومنه قول العرب عنده: الخاصة والعامة.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٣٥]
وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)
وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا الكناية عن الحال وعن هذه الكلمة.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ في موضع جزم بالشرط ودخلت النون توكيدا. وقد ذكرنا خَلَقَهُنَّ وعلى أي شيء يعود الضمير.
قال محمد بن يزيد: يَسْأَمُونَ يملّون، وأنشد بيت زهير: [الطويل]
٣٩٧-
ومن لا يزل يستحمل النّاس أمره ولا يعفها يوما من الدّهر يسأم
«١» أي يملّ.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٣٩]
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
إِنَّ في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه: «٢» وإن كان لا يجيز أن يكون «أن» في أول الكلام ولكن لمّا كان قبلها شيء صلح الابتداء بها والرفع عند المازني بإضمار فعل فيما لا يجوز أن يبتدأ به كما تقول: كيف زيد؟ والتقدير عنده: كيف استقرّ زيد.
«خاشعة» منصوبة على الحال: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ من ربا يربو فحذفت الألف لسكونها وسكون التاء بعدها، ويقال: في تثنية ربا ربوان كذا قال سيبويه «٣» نصا، والكوفيون يقولون: ربيان بالياء، ويكتبون ربا بالياء. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يقول: ليس يكفيهم أن يغلطوا في الخطّ حتّى يتجاوزوا ذلك إلى التثنية. قال أبو جعفر: والقرآن يدلّ على ما قال البصريون قال الله جلّ وعزّ: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ [الروم: ٣٩] وقراءة أبي جعفر اهتزّت وربأت وهو مأخوذ من الربيئة، يقال: ربأ يربأ فهو رابئ وربؤ يربؤ فهو ربيء وربيئة على المبالغة إذا ارتفع إلى موضع عال يرقب، فمعنى وربأت ارتفعت. إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى حذفت الضمة من الياء لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٤٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠)
ويُلْحِدُونَ من ألحد وهي بالألف أكثر وأشهر.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٤١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ في خبر «إنّ» هاهنا أقوال فمن مذاهب الكسائي أنه قد يقدم قبلها ما يدلّ على الخبر من قوله جلّ وعزّ: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ وغيره، وقيل الخبر أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وقيل المعنى: إنّ الّذين كفروا بالذكر لما جاءهم قد كفروا بمعجز ودلّ على هذا أنّ بعده وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ وهذا مذهب الفراء «٤» على معنى قوله، وقيل الخبر محذوف فمعناه أهلكوا.
(١) الشاهد لزهير في ديوانه ٣٢، والكتاب ٣/ ٩٩، وخزانة الأدب ٩/ ٩٠، والدرر ٥/ ٩١، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٦٤، ولسان العرب (حمل)، وهمع الهوامع ٢/ ٦٣، وبلا نسبة في المقتضب ٢/ ٦٥.
(٢) انظر الكتاب ٣/ ١٤١.
(٣) انظر الكتاب ٣/ ٤٢٨.
(٤) انظر معاني الفراء ٣/ ١٩.

[سورة فصلت (٤١) : آية ٤٢]

لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)
لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ مذهب الضحاك وسعيد بن جبير أن معناه لا يأتيه كتاب من قبله فيبطله ولا من بعده. قال أبو جعفر: والتقدير على هذا لا يأتيه الأمر بالباطل من هاتين الجهتين أو لا يأتيه البطول، ويكون فاعل بمعنى المصدر مثل عافاه الله جلّ وعزّ عافية، وقيل: الباطل هاهنا الشيطان وقد ذكرنا هذا القول تَنْزِيلٌ نعت لكتاب أو بإضمار مبتدأ.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٤٣]
ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)
ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ قال أبو صالح أي من الأذى.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٤٤]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤)
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا جعلنا هاهنا متعدّية إلى مفعولين وقد ذكرنا هذه الآية قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ «هدى» في موضع رفع على أنه خبر هو «وشفاء» معطوف عليه وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى. حدّثنا محمد بن الوليد عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد عن حجاج عن شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قتّة عن ابن عباس رحمه الله ومعاوية وعمرو بن العاص رحمهم الله أنّهم قرءوا وهو عليهم عم «١» وقرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن أبي إسحاق قال: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يحدث عن ابن عباس أنه قرأ وهو عليهم عم «٢» هذه القراءة مخالفة للمصحف فإن قال قائل: الإسناد صحيح، قيل له: الإجماع أولى على أنّ الإسناد فيه شيء وذلك أنّ عمرو بن دينار لم يقل: سمعت ابن عباس فيخاف أن يكون مرسلا، وسليمان بن قتّة ليس بنظير عمرو بن دينار على أن يعقوب القارئ على محله من الضبط قد قال في هذا الحديث: ما أدري أقرءوا وهو عليهم عم أو وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى على أنه فعل ماض. ومع إجماع الجمع سوى من ذكرناه. والذي في المصحف أنّ المعنى بعمى أشبه لأنه قال جلّ وعزّ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ فالأشبه بهذا أعمى، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ «الذين» في موضع رفع بالابتداء وخبره في الجملة. ومن العرب من يقول: اللذون في موضع الرفع. والذين أكثر وقد ذكرنا
(١) انظر البحر المحيط ٧/ ٤٨١، ومعاني الفراء ٣/ ٢٠.
(٢) انظر البحر المحيط ٧/ ٤٨١، ومعاني الفراء ٣/ ٢٠.
العلة «١» فيه. وَشِفاءٌ في موضع رفع بالابتداء، والجملة خبره يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ على التمثيل أي لا يتفهّمون ما يقال لهم والعرب تقول لمن يتّفهم: هو يخاطب من قريب. قال مجاهد: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي بعيد من قلوبهم.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٤٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مفعولان. فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ «كلمة» مرفوعة بالابتداء عند سيبويه «٢»، والخبر محذوف لا يظهر. وبعض الكوفيين يقول: لولا من الحروف الرافعة. فأما معنى كلمة: فقيل: إنّها تأخير عقوبتهم إلى يوم القيامة وترك أخذهم على المعصية لمّا علم الله عزّ وجلّ في ذلك من الصلاح لأنهم لو أخذوا بمعاصيهم في وقت العصيان لانتهوا ولم يكونوا مثابين ولا ممتحنين على ذلك وفي الحديث المسند «لولا أنكم تذنبون لأتى الله بقوم يذنبون فيغفر لهم» «٣» أي أنتم تمتحنون وتؤخّر عقوبتكم لتتوبوا.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٤٦]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ شرط وجوابه الفاء وما بعدها.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٤٧]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧)
وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ هذه قراءة أهل المدينة «٤»، وقراءة أهل الكوفة من ثمرة «٥» وهو اختيار أبي عبيد لأنّ ثمرة تؤدّي عن ثمرات هذا احتجاجه فحمل ذلك على المجاز، والحقيقة أولى وأمضى. فإنه في المصاحف بالتاء. فالقراءة بثمرات أولى.
مِنْ أَكْمامِها قال محمد بن يزيد: وهو ما يغطيها، قال: والواحد كمّ ومن قال في الجمع: أكمّة قال في الواحد: كمام. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي أي على قولكم قالُوا آذَنَّاكَ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس «آذنّاك» يقول أعلمناك. ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ «من» زائدة للتوكيد أي ما منا شاهد يشهد أنّ معك إلها.
(١) مرّ في إعراب الآية ٤٩- غافر.
(٢) انظر الإنصاف مسألة (١٠).
(٣) أخرجه الترمذي في سننه- صفة الجنة ١٠/ ٤.
(٤) انظر تيسير الداني ١٥٧، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٧٧.
(٥) انظر تيسير الداني ١٥٧، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٥٧٧. [.....]

[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٨ الى ٥١]

وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ قال الأخفش: ظنّوا استيقنوا. قال: و «ما» حرف فلذلك لا تعمل فيه ظنوا فلذلك ألغي. قال أبو عبيدة «١» : حاص يحيص إذا حاد، وقال غيره:
المحيص المذهب الذي ترجى فيه النجاة.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٥٢]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ في الكلام حذف أي إن كان من عند الله ثم كفرتم به أمصيبون أنتم في ذلك؟
[سورة فصلت (٤١) : آية ٥٣]
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ في معناه ثلاثة أقوال: منها سنريهم ما خبّرهم به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سيكون من فتن وفساد وغلبة الروم وفارس وغير ذلك من إخباره حتّى يتبيّن لهم أن كل ما أخبر به هو الحق، فذا قول، وقيل: المعنى: سنريهم اثار صنعتنا في الآفاق الدالة على أنّ لها صانعا حكيما وَفِي أَنْفُسِهِمْ من أنهم كانوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن بلغوا وعقلوا وميّزوا حتّى يتبين لهم أن الله هو الحق لا ما يعبدونه من دونه. والقول الثالث رواه الثوري عن عمرو بن قيس عن المنهال وبعض المحدثين يقول عن المنهال عن سعيد بن جبير أو غيره في قول الله جلّ وعزّ:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ قال: ظهور النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الناس «وفي أنفسهم» قال: ظهوره عليهم. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب هذا، ونسق الكلام يدلّ عليه، والقول الأول لا يصح لأنه لم يتقدم للأخبار ذكر فيكنّى عنها أعني أَنَّهُ الْحَقُّ. وفي المضمر ثلاثة أقوال سوى من قال: إنه للخبر: أحدها: أن يكون يعود على اسم الله جلّ وعزّ، والثاني: أن يكون يعود على القرآن فقد تقدّم ذكره في قوله جلّ وعز: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ والثالث: أن يعود على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أشبهها بنسق الكلام. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون المعنى: أو لم يكف بربك بما دلّ به من حكمته وخلقه ففي ذلك كفاية، والثاني: أو لم يكف بربك في معاقبته هؤلاء الكفّار المعاندين ففي الله جلّ وعزّ كفاية منهم، والثالث: أن المعنى: أو لم يكفك يا محمّد ربك أنه شاهد على أعمال هؤلاء عالم بما يخفون فهذا يكفيك وهذا أشبه الأقوال بنسق الآية، والله جلّ وعزّ أعلم. وفي موضع «أنه» من الإعراب ثلاثة أقوال: يجوز أن يكون في موضعها رفعا
(١) انظر مجاز القرآن ٢/ ١٩٨.
بمعنى أو لم يكف أنه على كلّ شيء شهيد على البدل من ربك على الموضع، والموضع موضع رفع بإجماع النحويين، ويجوز أن يكون موضعها خفضا على اللفظ، ويجوز أن يكون موضعها نصبا بمعنى لأنه على كل شيء شهيد.
[سورة فصلت (٤١) : آية ٥٤]
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي هم في شكّ من لقاء ما وعدوا به من العقاب «وألا» كلمة تنبيه يؤكد بها صحة ما بعدها أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أي قد أحاط به علما مما يشاهد ويغيب. والتقدير محيط بكلّ شيء جلّ وعزّ.
قال في الأصل تمّ الجزء الحادي عشر من أجزاء إعراب القرآن الذي عني بجمعه وتبيينه وشرحه أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس رحمه الله والحمد لله رب العالمين.
Icon