تفسير سورة الإسراء

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

١٧ شرح إعراب سورة الإسراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإسراء (١٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)
روي عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن معنى:
سُبْحانَ اللَّهِ، فقال: تنزيها لله من كل سوء. قال أبو جعفر: شرح هذا أنه بمعنى تبعيد الله جلّ وعز عن كلّ ما نسبه إليه المشركون من الأنداد والأضداد والشركاء والأولاد ونصبه عند الخليل وسيبويه «١» رحمهما الله على المصدر أي: سبّحت الله تسبيحا، إلّا أنه إذا أفرد كان معرفة منصوبا بغير تنوين لأن في آخره زائدتين وهو معرفة، وحكى سيبويه أنّ من العرب من ينكره فيصرفه، وحكى أبو عبيد في نصبه وجهين سوى هذا، إنه يكون نصبا على النداء أي يا سبحان الله، والوجه الآخر: أن يكون غير موصوف. الَّذِي في موضع خفض بالإضافة. وقال: سرى وأسرى لغتان معروفتان. بِعَبْدِهِ لَيْلًا على الظرف مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نعت للمسجد. وأصل الحرام المنع فالمسجد الحرام ممنوع الصيد فيه. قال أبو إسحاق: ويقال للحرم كلّه: مسجد. إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى نعت له، وكذلك الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ قيل: معنى باركنا حوله أن الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا بعد موسى صلّى الله عليه وسلّم من بني إسرائيل كانوا ببيت المقدس وما حوله فبارك الله جلّ وعزّ في تلك المواضع بأن باعد الشرك منها، ولهذا سمّي ببيت المقدس لأنه قدّس أي طهّر من الشرك. لِنُرِيَهُ نصب بلام كي وهي بدل من أن وأصلها لام الخفض.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢ الى ٣]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مفعولان، وكذا وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ. أَلَّا تَتَّخِذُوا
(١) انظر الكتاب ١/ ٣٨٦.
بالياء قراءة أبي عمرو بن العلاء، والتقدير لئلا يتخذوا، وقراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة أَلَّا تَتَّخِذُوا وزعم أبو عبيد أنه على الحذف أي قلنا لهم لا تتّخذوا. قال أبو جعفر: هذا لا يحتاج إلى حذف وتكون «أنّ» بمعنى أي، ويجوز أن تكون «أن» في موضع نصب، ويكون المعنى بأن لا تتخذوا، وجعل الكلام للمخاطبة لأن بعده ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا على المخاطبة، ونصب ذرية من أربعة أوجه: تكون نداء مضافا، وتكون بدلا من وكيل لأنه بمعنى جمع، وتكون هي ووكيل مفعولين كما تقول: لا تتخذ زيدا صاحبا، والوجه الرابع بمعنى أعني، ويجوز الرفع على قراءة من قرأ بالياء على البدل من الواو، ولا يجوز البدل من الواو على قراءة من قرأ بالتاء: ولا يقال: كلّمتك زيدا، ولا كلمتني زيدا، لأن المخاطب والمخاطب لا يحتاجان إلى تبيين.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ قد ذكرنا قول ابن عباس رحمه الله أن معناه أعلمناهم.
وأصل قضى في اللّغة عمل عملا محكما، والقاضي هو المحكم الأمر النافذة، والقضاء: الأمر النافذ المحكم الذي لا يدفع. وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد «١» ونصر بن عاصم أنهم قرءوا لَتُفْسِدُنَّ «٢» على ما لم يسمّ فاعله. وَلَتَعْلُنَّ أي ولتعظّمنّ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين ولأن قبلها ما يدلّ عليها.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥]
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥)
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قيل: أي خلّينا بينكم وبينهم، وقرأ الحسن فجاسوا خلل الديار «٣». قال أبو إسحاق: أصل الجوس طلب الشيء باستقصاء أي طلبوا هل يجدون أحدا لم يقتلوه وخِلالَ ظرف أي في خلال الديار.
وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا خبر كان، واسمها فيها مضمر.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦]
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦)
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أي نصرناكم عليهم حتّى كررتم. وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ مفعولان. نَفِيراً على البيان.
(١) جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي البصري، وردت له حروف في القرآن، صاحب ابن عباس (ت ٩٣ هـ) ترجمته في غاية النهاية ١/ ١٨٩.
(٢) انظر البحر المحيط ٦/ ٨، ومختصر ابن خالويه ٧٥.
(٣) انظر البحر المحيط ٦/ ٩، والإتحاف ١٧١.

[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧]

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي الثواب لكم، وهو شرط وجوابه وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها أي يحصل العقاب لها، ولها بمعنى عليها لا يقوله النحويون الحذّاق، وهو قلب المعنى وليس احتجاجهم بالحديث «اشترطي الولاء لهم» «١» بشيء، وقد اختلف في هذا الحديث فرواه جماعة على هذا اللفظ من حديث مالك بن أنس وهو رواية الشافعي عنه «واشترطي الولاء لهم»، وهذا معنى صحيح بيّن. يقال: اشترط الشيء إذا بيّنه، كما قال: [الطويل] ٢٦٦-
فأشرط فيها نفسه وهو معصم «٢»
وعلى الرواية الأخرى يكون المعنى «واشترطي الولاء لهم» أي من أجلهم، كما تقول: أنا أكرم فلانا لك، وفيه قول آخر يكون بمعنى النهي على التهديد والوعيد:
فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي وعد المرة الآخرة، وأقيمت الصفة مقام الموصوف، قرأ أهل المدينة وأهل البصرة لِيَسُوؤُا «٣» على الجمع، وقرأ أهل الكوفة ليسوء وجوهكم «٤» على التوحيد إلّا الكسائي فإنّه قرأ لنسوء وجوهكم «٥»، وزعم أنها قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن أبيّ بن كعب روايتان: إحداهما أنه قرأ (لنسوءن وجوهكم) «٦» اللام مفتوحة وهي لام قسم بالنون الخفيفة والوقف عليها بالألف فرقا بين الخفيفة والثقيلة، وروي عنه (ليسيء وجوهكم) بياءين وهمزة. قال أبو جعفر:
القراءة الأولى على الجمع يدلّ عليها وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا والقراءة الثانية فيها ثلاثة أقوال: يكون المعنى ليسوء الله جلّ وعزّ وقال الفراء «٧» : ليسوء العذاب. قال أبو إسحاق: ليسوء الوعد واللام فيهما لام كي، وكذا القراءة الثالثة وفي الكلام حذف، والمعنى: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم فهذا الفعل جواب (إذا)، ولام كي متعلّقة به. وفي معنى بعثناهم قولان: أحدهما خلّينا بينكم
(١) أخرجه مالك في الموطّأ- باب ١٠ حديث رقم (١٧).
(٢) الشاهد لأوس بن حجر في ديوانه ٨٧، ولسان العرب (شرط) و (عصم)، وجمهرة اللغة ٧٢٦، وأساس البلاغة (شرط)، وكتاب العين ٦/ ٢٣٦، وتاج العروس (شرط) و (عصم)، وسمط اللآلي ٤٩٢، والفاخر ١٢٣، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٣/ ٢٦٠، وعجزه:
«وألقى بأسباب له وتوكّلا»
(٣) انظر تيسير الداني ١١٣. [.....]
(٤) انظر تيسير الداني ١١٣.
(٥) انظر تيسير الداني ١١٣.
(٦) انظر معاني الفراء ٢/ ١١٧، والبحر المحيط ٦/ ١٠.
(٧) انظر معاني الفراء ٢/ ١١٧.
وبينهم ولم نخوّفهم منكم فكان هذا مجازا جعل التخلية وترك التخويف بعثا، ومثله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ [مريم: ٨٣] والقول الآخر: معنى بعثنا عليكم أمرناهم بغزوكم لما عصيتم وأفسدتم، وهذا حقيقة لا مجاز. وزعم الفراء أن من قرأ ليسوآ وجوهكم فهو الجواب عنده بغير حذف، ولكنه أضمر فعلا في «وليتبّروا» قال قتادة: المعنى وليتبّروا ما علوا عليه، وقال غيره: وليتبّروا ما داموا عالين وحقيقته في العربية وليتبّروا وقت علوهم، كما تقول: فلان يؤذيك ما ولي.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ قال الضحاك: الرحمة هاهنا بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قيل: إن عدتم للمعصية عدنا لترك النصر وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً مفعولان.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ نعت لهذا، والخبر في يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ في موضع نصب أي بأنّ.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠]
وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠)
وَأَنَّ الَّذِينَ معطوف عليه.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١١]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ حذفت الواو في الإدراج لالتقاء الساكنين ولا ينبغي أن يوقّف عليه لأنه في السواد بغير واو، ولو وقف عليه واقف في غير القرآن لم يجز أن يقف إلّا بالواو لأنها لام الفعل لا تحذف إلّا في الجزم أو في الإدراج ولا ألف بعدها، وكذا يدعو ويرجو وإنّما تكون الألف مع واو الجميع فرقا بينها وبين الواو التي تكون لام الفعل في الواحد، وقال الأخفش: تكون في الجميع فرقا بينها وبين الواو العطف، وقال أحمد بن يحيى: تكون فرقا بين المضمر المنصوب والمؤكّد. دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ قال الأخفش: هذا كما تقول: انطلقت انطلاقا، أي هو مصدر، وقال الفراء «١» : المعنى كدعائه. قال أبو جعفر: وليس حذف الكاف مما يوجب نصبا ولا غيره ولا اختلاف بين النحويين أنه يقال: عمرو كالأسد فإن حذفت الكاف قلت: عمرو الأسد، وحقيقة القول في الآية أن التقدير: يدعو الإنسان بالشرّ دعاء مثل دعائه بالخير ثم أقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف إليه مقام المضاف.
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ١١٨.

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٢ الى ١٣]

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ مفعولان وكلّ واحد منهما يأتي في إثر صاحبه وينصرف عند مجيئه فهما آيتان دالتان على مدبر لهما. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي لم نجعل لها ضياء ونورا كنور النهار، والشيء الممحو هو الذي لا يتبيّن. وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً وهي الشّمس وضوؤها لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وفي الكلام حذف أي ولتسكنوا في الليل وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي جعلنا بين الآية والآية فصلا لتستدلّوا بدلائل الله جلّ وعزّ ونصب (كل شيء) بإضمار فعل، وكذا وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً من نعت كتاب، وإن شئت على الحال، وقد ذكرنا الآية وما فيها من القراءات.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٤]
اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)
اقْرَأْ كِتابَكَ علامة الجزم والبناء حذف الضمّة من الهمزة، وحكي عن العرب:
أقر يا هذا، على إبدال الهمزة، ومنه وقول زهير: [الطويل] ٢٦٧-
وإلّا يبد بالظّلم يظلم «١»
كَفى بِنَفْسِكَ في موضع رفع والباء زائدة للتوكيد. حَسِيباً على البيان، وإن شئت على الحال. قال أبو إسحاق: ويجوز في غير القرآن حسيبة.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٥]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)
مَنِ اهْتَدى شرط، والجواب فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وكذا وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي عمله له، ويدلّ على هذا وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وفي معناه قولان: أحدهما لا يؤخذ أحد بذنب أحد، والآخر أنّ المعنى لا ينبغي لأحد أن يقتدي بأحد ويقلّده في الشر، كما قال جلّ وعزّ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: ٢٢] ويقال وزر يزر والأصل يوزر حذفت الواو عند البصريين لوقوعها بين ياء وكسرة، والمصدر وزر ووزر ووزرة وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فيه قولان: أحدهما أن المعنى وما كنا معذّبين العذاب الذي يكون عقوبة على مخالفة الشيء الذي لا يعرف إلا بالإخبار حتى نبعث رسولا، والآخر أنه عذاب الاستئصال.
(١) مرّ الشاهد رقم (١٦).

[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٦]

وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦)
وقد ذكرنا وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
«١» والقراءات التي فيه.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٧]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
وَكَمْ في موضع نصب بأهلكنا.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٨]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أي لا يريد ثوابا في الآخرة لم نمنعه ذلك لِمَنْ نُرِيدُ.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٠]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠)
كُلًّا نصب بنمدّ. هؤُلاءِ بدل من كلّ. وَهَؤُلاءِ عطف عليه أي نرزق المؤمن والكافر وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. قال سعيد عن قتادة أي منقوصا.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢١]
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)
كَيْفَ في موضع نصب بفضلنا إلا أنها مبنيّة غير معرّبة وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ ابتداء وخبر. دَرَجاتٍ في موضع نصب على البيان، وكذا تَفْضِيلًا قال الضحاك: من كان من أهل الجنة عاليا رأى فضله على من هو أسفل منه، ومن كان دونه لم ير أنّ أحدا فوقه أفضل منه.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٢]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
فَتَقْعُدَ منصوب على جواب النهي.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٣]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣)
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مصدر. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وعاصم، وقراءة أهل الكوفة إلّا عاصما «٢» (إمّا يبلغانّ عندك الكبر) والقراءة الأولى أبين في العربية لأن أحدهما واحد، وتجوز الثانية كما تقول: جاءاني أحدهما أو كلاهما على البدل لأنك قد جئت بعد الفعل بثلاثة والوجه جاءني أحدهما أو كلاهما، وإن شئت قلت: جاءاني كلاهما أو أحدهما على أن يكون كلاهما توكيدا وأحدهما
(١) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط ٦/ ١٥.
(٢) انظر تيسير الداني ١١٣، والبحر المحيط ٦/ ٢٣.
عطفا. فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فيه سبع لغات: قرأ الحسن وأهل المدينة (ولا تقل لهما أفّ) «١» بالكسر والتنوين، وقال أبو عمرو وأهل الكوفة بالكسر بغير تنوين، وقرأ أهل مكة وأهل الشام بالفتح بغير تنوين، وحكى الكسائي والأخفش ثلاث لغات سوى هذه.
حكيا النصب بالتنوين والضم بالتنوين والضم بغير تنوين، وحكى الأخفش اللغة السابعة. قال: يقال: أفّي بإثبات الياء كأنه قال هذا القول لك. قال أبو جعفر: القراءة الأولى يكون الكسر فيها لالتقاء الساكنين والتنوين لأنه نكرة فرقا بينه وبين المعرفة، وهي قراءة حسنة، وأصل الساكنين إذا التقيا الكسر، وزعم الأصمعي أنه لا يجوز إلّا التنوين في مثل هذه الأشياء وأن ذا الرمة لحن في قوله: [الطويل] ٢٦٨-
وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم وما بال تكليم الدّيار البلاقع «٢»
وكان الأصمعي مولعا بردّ اللغات الشاذة التي لا تكثر في كلام الفصحاء. فأما النحويون الحذّاق فيقولون: حذف التنوين على أنه معرفة وعلى هذا القراءة الثانية والقراءة الثالثة لأن الفتح خفيف والتضعيف ثقيل والتنوين كما تقدّم والضمّ بغير تنوين على الاتباع، كما يقال: ردّ، والتنوين كما ذكرنا إلّا أنّ الأخفش قال: التنوين قبيح إذا رفعت لأنه ليس في الكلام معه لام كأنه يقدّر رفعه بالابتداء، كما يقال: ويل له، وزعم أنّ النصب بالتنوين كما يقال: تعسا له. وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي قولا تكرمهما به وتعظّمهما به.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٨]
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي عن ذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مفعول من أجله أي طلب رزق تنتظره. فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً قيل: برفق ولين وعدة.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٩]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩)
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ اليد مؤنّثة والعنق يذكّر ويؤنّث، والأكثر التذكير كما قال: [الرجز] ٢٦٩-
في سرطم هاد وعنق عرطل «٣»
(١) انظر البحر المحيط ٦/ ٢٢، وتيسير الداني ١١٣.
(٢) الشاهد لذي الرمة في ديوانه ٧٧٨، والأشباه والنظائر ٦/ ٢٠١، وإصلاح المنطق ص ٢٩١، وتذكرة النحاة ص ٦٥٨، وخزانة الأدب ٦/ ٢٠٨، ورصف المباني ص ٣٤٤، وسرّ صناعة الإعراب ٢/ ٤٩٤، وشرح المفصّل ٤/ ٣١، ولسان العرب (أيه)، وتاج العروس (أيه)، وما ينصرف وما لا ينصرف ١٠٩، ومجالس ثعلب ص ٢٧٥، وكتاب العين ٤/ ١٠٤، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٦/ ٢٣٧، والمقتضب ٣/ ١٧٩، والمخصص ١٤/ ٨١.
(٣) الشاهد لأبي النجم في الخصائص ١/ ٢٧٠، واللسان (عراحل).
حذف الضمة في عنق لثقلها.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٠]
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يضيّق ويفعل من ذلك ما فيه الصلاح ودلّ على هذا إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً أي يعلم ما يصلحهم. وفي معنى «فتقعد ملوما محسورا» قولان: أحدهما قول الفراء: «١» إنه بمنزلة المحسور أي الكالّ المتعب، وحكى: حسرت الدّابة فهي محسورة وحسير إذا سيّرتها حتى تنقطع، والقول الآخر «محسورا» بمعنى من قد لحقته الحسرة.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣١]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١)
إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً خبر كان واسمها فيها مضمر والجملة خبر إنّ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما فيه من القراءات «٢».
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٢]
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢)
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ومن العرب من يمدّه يجعله مصدرا من زانى لأنه لا يكن إلّا من اثنين. إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا على البيان أي طريقه سيّئ وفعله قبيح.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٣]
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣)
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ قد ذكرناه «٣». وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ على الحال فَقَدْ جَعَلْنا الإدغام حسن، لأن الدال من طرف اللسان والجيم من وسطه فهما متقاربتان والإظهار جائز لِوَلِيِّهِ أي أقرب الناس إليه. سُلْطاناً قال سعيد بن جبير كلّ سلطان في القرآن فهو حجّة. قال أبو إسحاق: من قرأ فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ «٤» جعله خبرا أي فليس يسرف قاتل وليّه إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً في الضمير خمسة أقوال:
يكون للوليّ، وهذا أولاها عند أهل النظر لأنه أقرب إليه. قال ابن كثير عن مجاهد: إن المقتول كان منصورا، وهذا قول حسن لأن المقتول قد نصر في الدنيا لمّا أمر بقتل قاتله وفي الآخرة بإجزال الثواب وتعذيب قاتله، وقيل: إنّ القتل كان منصورا. قال
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ١٢٢.
(٢) القراءات المختلفة في البحر المحيط ٦/ ٢٩.
(٣) انظر البحر المحيط ٦/ ٣٠. [.....]
(٤) انظر المحتسب ٢/ ٢٠، والبحر المحيط ٦/ ٣١.
الفراء «١» : يجوز أن يكون المعنى إنّ القتل لأنه فعل، والقول الخامس قول أبي عبيد، قال: يكون إنّ القاتل الأول كان منصورا إذا قتل. وهذا أبعدها وأشدّها تعسفا.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٤]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤)
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا فدخل في هذا كلّ ما أمر الله به لأنه قد عهد إلينا فيه.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٦]
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦)
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فدخل في هذا النهي عن قذف المحصنات وعن القول في الناس بما لا يعلم وعن الكلام في الفقه والدين بالظنّ وأن لا يقول أحد ما لا يحقّه. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا فدخل في هذا النهي عن الاستماع إلى ما لا يحلّ استماعه وعن الهمّ والعزم بما لا يحلّ النظر إليه، واعلم أن الإنسان مسؤول عن ذلك كلّه، وقال: أولئك في غير الناس لأن كلّ ما يشار إليه وهو متراخ فلك أن تقول فيه: أولئك، كما قال: [الكامل] ٢٧٠-
ذمّ المنازل غير منزلة اللّوى والعيش بعد أولئك الأيّام «٢»
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٧]
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧)
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي ذا مرح، وحكى يعقوب القارئ مَرَحاً «٣» بكسر الراء على الحال. قال الأخفش: وكسر الراء أجود لأنه اسم الفاعل. قال أبو إسحاق:
فتح الراء أجود لأنه فيه معنى التوكيد، كما يقال: جاء فلان ركضا، وجعله مصدرا في موضع الحال. والمرح في اللغة الأشر والبطر ويكون منه التختر والتكبّر. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تبلغ قوتك هذا. وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا فلا ينبغي أن تتكبّر وتترفّع.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٨]
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨)
فاحتجّوا بأشياء قد تقدّمت حسان منها وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ومنها وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، واحتجّ أبو حاتم بقوله «مكروها» ولم يقل مكروهة. قال أبو جعفر: لا يلزم
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ١٢٣.
(٢) الشاهد لجرير في ديوانه ٩٩٠، وتخليص الشواهد ١٢٣، وخزانة الأدب ٥/ ٤٣٠، وشرح التصريح ١/ ١٢٨، وشرح شواهد الشافية ١٦٧، وشرح المفصل ٩/ ١٢٩، ولسان العرب (أولى)، والمقاصد النحوية ١/ ٤٠٨، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١/ ١٣٤، وشرح الأشموني ١/ ٦٣، وشرح ابن عقيل ص ٧٢، والمقتضب ١/ ١٨٥.
(٣) انظر البحر المحيط ٦/ ٣٤.
من هذه الاحتجاجات شيء لأن الأشياء الحسان تقدّمت في باب الأمر ثم جاء النهي فجاء بعده كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً لما نهي عنه، وقال مكروها ولم يقل: مكروهة لأنه عائد على لفظ كلّ وهو خبر ثان عن المضمر الذي في كان والمضمر مذكّر.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٠]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)
إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا مصدر فيه معنى التوكيد عَظِيماً من نعته.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤١]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١)
قال أبو إسحاق: وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي ولقد بيّنا. قال: والمعنى وَما يَزِيدُهُمْ أي التبيين إِلَّا نُفُوراً.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٢]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢)
لَابْتَغَوْا لطلبوا.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٣]
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣)
أي تعاليا، كما قال: [الوافر] ٢٧١-
وليس بأن تتبّعه اتّباعا «١»
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٤]
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ على تأنيث الجماعة ويسبح على تذكير الجميع. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قد تكلّم العلماء في معناه فقال بعضهم: هو التسبيح الذي يعرف، وقال بعضهم: هو مخصوص، وقال بعضهم: تسبيحه دلالته على تنزيه الله جلّ وعزّ وتأوّل وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ على أن مخاطبة للكفار الذين لا يستدلّون، وقيل:
ولكن لا تفقهون مخاطبة للناس وإذا كان فيهم من لا يفقه ذلك فلم يفقهوا. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً أي حليما عن هؤلاء الذين لا يستدلّون. غَفُوراً لمن تاب منهم.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٥]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥)
قيل: هؤلاء قوم كانوا إذا سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بمكة ليستدعي الناس سبّوه
(١) مرّ الشاهد رقم (٧٧).
فأعلمه الله جلّ وعزّ أنه يحول بينهم وبينه حتى لا يفهموا قراءته. قال الأخفش:
«مستورا» أي ساترا ومفعول يكون بمعنى فاعل كما يقال: مشؤوم وميمون أي شائم ويا من لأن الحجاب هو الذي يستر، وقال غيره: الحجاب مستور على الحقيقة لأنه شيء مغطّى عنهم.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٦]
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦)
وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً نصب على الحال على أنه جمع نافر، ويجوز أن يكون واحدا على أنه مصدر.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٧]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧)
وَإِذْ هُمْ نَجْوى مبتدأ وخبره والتقدير: ذو نجوى.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٨]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي قالوا مرة هو مخدوع ومرة هو ساحر ليلحقوا بك الكذب، فَضَلُّوا عن سبيل الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إليه.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٩]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩)
خَلْقاً مصدر جَدِيداً من نعته. وجديد في المذكّر والمؤنّث بمعنى واحد، وجديدة في المؤنث لغة رديئة عند سيبويه.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١)
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي توهّموا ما شئتم فلا بدّ من أن تموتوا وتبعثوا. وكانت هذه الآيات من أعظم الدلائل على نبوّة النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال الله جلّ وعزّ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا فأخبر جلّ وعزّ بأنّهم سيقولون هذا، وأخبر أنهم يحرّكون رؤوسهم استبعادا لما قال لهم وأنهم يقولون مع تحريك رؤوسهم أو بعده. مَتى هُوَ وتلى عليهم فكان الأمر على ذلك.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٢]
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ قال سعيد بن جبير: يخرج الناس من قبورهم وهم
يقولون: سبحانك وبحمدك. وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا قيل: إنّهم إنما ظنّوا هذا بعد الحقيقة التي لا بدّ للخلق منها.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٣]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣)
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي المقالة التي هي أحسن. قال المازني: المعنى:
قل لعبادي قولوا يقولوا إنّ الشيطان ينزغ بينهم أي يحرّض الكافرين على المؤمنين.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٦]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ في الكلام حذف دلّ عليه ما بعده، والتقدير: قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهتكم من دون الله فليكشفوا عنكم الضّرّ وليحوّلوكم من الضيق والشدّة إلى السّعة ودلّ على هذا فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أي لن يحوّلوكم من الضيق والشدة إلى السعة والخصب.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٧]
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)
أُولئِكَ مبتدأ. الَّذِينَ يَدْعُونَ من نعته، والخبر يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ وفي قراءة ابن مسعود رحمه الله أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ «١» لأن قبله قل ادعوا، والتقدير:
يبتغون الوسيلة إلى ربهم ينظرون. أَيُّهُمْ أَقْرَبُ فيتوسّلون: والفرق بين هؤلاء وبين من توسّل بعبادة المسيح عليه السلام وغيره أن هؤلاء توسلوا وهم موحّدون وأولئك توسلوا بعبادة غير الله جلّ وعزّ فكفروا وأَيُّهُمْ رفع بالابتداء وأَقْرَبُ خبره، ويجوز أن يكون «أيّهم» بدلا من الواو ويكون بمعنى الذي، والتقدير يبتغي الذي هو أقرب الوسيلة وأضمرت «هو» وسيبويه «٢» يجعل أيّا على هذا التقدير مبنيّة. وهو قول مردود وسنذكر ما فيه إن شاء الله «٣». والذين يدعون من كان مطيعا لله جلّ وعزّ، والتقدير: يدعونهم آلهة، وفي الآية قول آخر يكون متصلا بقوله جلّ وعزّ ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض أولئك الذين يدعون أي أولئك النبيون الذين يدعون الله جلّ وعزّ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ قال عطاء: أي القربة. قال أبو إسحاق: الوسيلة والسؤال والطلبة واحد. وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ أي الذين يعبدونهم المطيعون يرجون رحمته ويخافون عذابه على الجواب الأول.
(١) انظر البحر المحيط ٦/ ٥٠.
(٢) انظر الكتاب ٢/ ٤٢٠.
(٣) انظر إعراب الآية ٦٩- سورة مريم.

[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٨]

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي أهل قرية. إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها بالموت أَوْ مُعَذِّبُوها بالاستئصال لعصيانهم كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي في الكتاب الذي كتبه الله جلّ وعزّ للملائكة عليهم السلام فيه أخبار العباد ليستدلّوا بذلك على قدرته.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٩]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أن الثانية في موضع رفع بالمنع والأولى في موضع نصب به. وهذه آية مشكلة. حدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدّثنا علي بن عبد الله قال: حدّثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل مكّة أن يجعل لهم الصفا ذهبا أو ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم لعلنا أن نجتبي منهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت قبلهم الأمم.
قال: لا بل أستأني بهم فأنزل الله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً. قال أبو جعفر: التقدير في العربية: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلّا أن كذّب بمثلها الأولون فأهلكوا واستؤصلوا فجعل الله جلّ وعزّ ما فيه من الصلاح لهم، فإن قال قائل: فقد أعطي الأولون مثل هذا ولم يؤمنوا فما الفرق؟ فالجواب أنّ الفرق بينهم علم الله جلّ وعزّ بأنّ من هؤلاء من يؤمن ومن هؤلاء ومن أولادهم من يؤمن، وأنّ أولئك لا يؤمنون ولا يولد لهم من يؤمن.
وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مفعولان ولم ينصرف ثمود لأنه جعله اسما للقبيلة، ويجوز صرفه بجعله اسما للحيّ مُبْصِرَةً على الحال، وهو عند أكثر النحويين البصريين على النسب، وقال بعضهم: مبصرة: بمعنى مبصّرة أي مبيّنة مثل مكرم ومكرّم، وقال الفراء «١» : مبصرة أي مضيئة مثل وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس: ٦٧، والنمل: ٨٦، وغافر: ٦١]. قال الفراء: ومن قال (مبصرة) «٢» أراد مثل قول عنترة: [الكامل] ٢٧٢-
والكفر مخبثة لنفس المنعم «٣»
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ١٢٦.
(٢) انظر البحر المحيط ٦/ ٥١.
(٣) الشاهد لعنترة العبسي من معلّقته في ديوانه ٢٨، والتهذيب ١/ ٣١٦، ومعاني الفراء ٢/ ١٢٦، والخزانة ١/ ٣٣٦، وشرح القصائد العشر للتبريزي ٣٦٨، وصدره:
«نبّئت عرا غير شاكي نعمتي»
قال فإذا وضعت مفعلة مكان فاعل كفت من الجمع والتأنيث. قال أبو إسحاق:
من قرأ مبصرة فالمعنى مبيّنة فَظَلَمُوا بِها التقدير فظلموا بعقرها وكفرهم بخالقها. وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً قيل يعني به الآيات التي تتلى.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٠]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ قال أبو جعفر: قد ذكرناه وقد قيل: إنّ ربك أحاط بالناس علما ومعرفة وتدبيرا فلهذا لم يعطهم الآيات التي اقترحوها لعلمه جلّ وعزّ بهم. وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ مفعولان أي محنة امتحنوا بها وتكليفا وقد تكلّم العلماء في هذه الرؤيا فمن أحسن ما قيل فيها وصحيحه أنها الرؤيا التي رآها محلّقين رؤوسهم ومقصّرين، فلما ردّ النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبيّة عن البيت فافتتن جماعة من الناس حتى قال عمر رضي الله عنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألم تعدنا أنّا ندخل المسجد الحرام فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: أقلت لكم في هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنكم ستدخلونه، فدخلوه في العام المقبل كما قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومن أحسن ما قيل فيها أيضا ما رواه سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله جلّ وعزّ: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال: هي رؤيا عين رآها النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به لا رؤيا نوم. قال وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ شجرة الزقوم. قال الفراء «١» : ويجوز وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ بالرفع يجعله نسقا على المضمر الذي في فتنة قال كما تقول: جعلتك عاملا وزيدا وزيد. وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً قال السّدّي: الطغيان المعصية، وقال مجاهد: هذا في أبي جهل.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦١]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١)
قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ التقدير لمن خلقته وحذفت الهاء لطول الاسم. قال أبو إسحاق: طِيناً منصوب على الحال، والمعنى: أأسجد لمن أنشأته في حال كونه طينا.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٢]
قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢)
قالَ أَرَأَيْتَكَ «٢» الكاف لا موضع لها من الإعراب وإنما هي لتوكيد المخاطبة، وحكى سيبويه: أريتك زيدا أبو من هو، وقد ذكرنا هذا باختلاف النحويين في سورة
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ١٢٦.
(٢) انظر البحر المحيط ٦/ ٥٤.
الأنعام «١». لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ روى علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس قال «لأحتنكنّ» لأستولينّ، وقال مجاهد: لأحتوينّ مثل زناق الناقة والدابة وهي حناكها، وقال غيره: إنما قال إبليس هذا لمّا قال الله جلّ وعزّ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: ٣٠].
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٣]
قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣)
أي مكمّلا.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٤]
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ هذا على جهة التهاون به وبمن اتّبعه والتهديد له لأنّ من عصى فإنّما عصيانه على نفسه وليس ذلك بضارّ غيره. والعرب تفعل هذا على جهة التهديد ومثله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] ولا يقع هذا إلّا بعد النهي فالله جلّ وعزّ قد نهى عن المعاصي، وكما تقول: يا غلام لا تكلّم فلانا، ثم تهدّده وتحذّره فتقول: كلّمه إن كنت صادقا، وكذا وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قيل: إنّ هذا على التمثيل، وقيل: يجوز أن يكون له خيل ورجل، وقيل: هذا الخيل والرّجل الذين يسعون في المعاصي، وكذا وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ هو أن يزيّن لهم أن ينفقوا أموالهم ويستعملوا أولادهم في المعاصي.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٥]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قيل: معناه خلصائي ومن أحسن ما قيل فيه أنه لا سلطان له على أحد لأنّ العباد هاهنا جميع الخلق، والسلطان: الحجّة. كذا قال سعيد بن جبير لا حجة له على أحد توجب أن يقبل منه، وفيه قول ثالث يكون المعنى أنّ عبادي جميعا لا تسلّط لك عليهم إلّا الوسوسة، وصاحب هذا القول يستدلّ به على أنه لا يصل أحد من الجنّ إلى صرع أحد من الأنس وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا على البيان.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٧]
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧)
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ أي عصوف الرياح والخوف من الغرق ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ لأنكم تعلمون أنهم لا يغنون عنكم شيئا إلّا إيّاه فترجعون فتدعونه. وهذا من
(١) انظر إعراب الآية ٤٠- سورة الأنعام. [.....]
الدلائل على البارئ تبارك اسمه أنّه ليس أحد يقع في شدة من مؤمن أو مشرك أو ملحد إلا وهو يستغيث به.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٨]
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ على الظرف أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي رجما من فوقكم.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٩]
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)
ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً تابعا يتبعنا في إنكار ذلك أو صرفه عنكم.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٠]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)
وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا ولم يقل: على كلّ من خلقنا لأن الملائكة أفضل منهم لطاعتهم وأنّهم لا معصية لهم تَفْضِيلًا مصدر فيه معنى التوكيد.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧١]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١)
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ التقدير: أذكر يوم ندعوا، ويجوز أن يكون التقدير:
يعيدكم الذي فطركم يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ وقد ذكرنا عن ابن عباس أنه قال:
بإمامهم بنبيّهم، وروي عنه إمام هدى وإمام ضلالة، وقال أبو صالح وأبو العالية بإمامهم بأعمالهم، وقال مجاهد بكتابهم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متفقة والناس يدعون بهذا كلّه فيدعون بنبيّهم فيقال أين أصحاب الورع؟ وكذا ضدّ هذا فيقال أين أمة فرعون؟
وأين أصحاب الزنا؟ فيكون في هذا توبيخ وهتكة على رؤوس الناس لمن ينادى به أو مدح وسرور لمن ينادى بضدّه. قال عكرمة عن ابن عباس: الفتيل ما في شقّ النواة، وتقديره في العربية لا يظلمون مقدار فتيل.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٢]
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أي في الدنيا أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وتقديره أعمى منه في الدنيا. قال محمد بن يزيد: وإنما جاز هذا، ولا يقال: فلان أعمى من فلان لأنه من عمى القلب، ويقال في عمى القلب: فلان أعمى من فلان، وفي عمى العين: فلان أبين عمىّ من فلان، ولا يقال: أعمى منه. قال أبو جعفر: وإنما لم يقل: أعمى منه
في عمى العين عند الخليل وسيبويه «١» : لأن عمى العين شيء ثابت مرئيّ، كاليد والرجل، فكما لا تقول: ما أيداه لا تقول: ما أعماه، وفيه قولان آخران: قال الأخفش سعيد: إنّما لم يقل ما أعماه لأن الأصل في فعله اعميّ واعمايّ، ولا يتعجّب مما جاوز الثلاثة إلّا بزيادة. والقول الثاني أنهم فعلوا هذا للفرق بين عمى القلب، وكذا لم يقولوا في الألوان: ما أسوده ليفرقوا بينه وبين قولهم ما أسوده من السّؤدد وأتبعوا بعض الكلام بعضا. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يقول: إنما لم يقولوا: ما أقيله من القائلة لأنهم قد يقولون في البيع: قلته ففرّقوا بينهما.
وحكى الفراء «٢» عن بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه وما أزرقه وما أعوره. قال:
لأنهم يقولون: عمي وعشي وعور، وأجاز الفراء: في الكلام والشعر ما أبيضه وسائر الألوان، وكذا عنده. وقال محمد بن يزيد في قوله جلّ وعزّ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أن يكون من قولك: «فلان أعمى» لا يريد أشدّ عمى من غيره. قال أبو جعفر: والقول الأول أولى ليكون المعنى عليه لأن بعده وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي منه في الدنيا، ولهذا روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: تجوز الإمالة في قوله جلّ وعزّ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى، ولا تجوز الإمالة في قوله فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى. يذهب إلى أن الألف في الثاني متوسطة لأن تقديره أعمى منه في الدنيا ولو لم يرد هذه لجازت الإمالة. قال أبو إسحاق: وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي طريقا إلى الهدى لأنه قد حصل على عمله لا سبيل له إلى التوبة.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٣]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣)
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ وزن كاد فعل على لغة أهل الحجاز وبني أسد، وبنو قيس يقولون: كدت، فهي عندهم فعلت، وقيل: إنهم فعلوا هذا ليفرقوا بينه وبين كدت من الكيد.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٤]
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤)
قيل: ثبّته الله جلّ وعزّ بالعصمة، وقيل: ثبّته بالوحي وإعلامه أنه لا ينبغي أن يركن إليهم فإنهم أعداء. ويقال: ركن يركن، وركن يركن أفصح.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٥]
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥)
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ فكان في هذا أعظم العظة للناس إذ كان الله جلّ وعزّ أخبر بحكمه في الأنبياء المصطفين صلّى الله عليهم إذا عصوا.
(١) انظر الكتاب ٤/ ٢١٤.
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ١٢٨.

[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٦]

وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦)
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها تأول العلماء هذا على تأويلين:
أحدهما أنهم لو أخرجوه من أرض الحجاز كلّها لهلكوا، والتأويل الآخر أنهم لو أخرجوه من مكة. وقال أصحاب هذا القول: لم يخرجوه وإنّما أمره الله عزّ وجلّ بالهجرة إلى المدينة، ولو أخرجوه لهلكوا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا مصدر أي سنّ الله عزّ وجلّ أنّ من أخرج نبيّا هلك سنّة، وقال الفراء «١» : أي كسنّة.
قال الأخفش سعيد: نصب وَقُرْآنَ الْفَجْرِ بمعنى وآثر قرآن الفجر، وعليك قرآن الفجر. قال أبو إسحاق: التقدير: وأقم قرآن الفجر.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٠]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ المصدر من أفعل مفعل، وكذا الظرف من فعل مفعل، ومن قال في «مدخل صدق» إنه المدينة، وفي مخرج صدق إنه مكّة فله تقديران: أحدهما أن الله جل وعز وعده ذلك فهو مدخل صدق ومخرج صدق، والتقدير الآخر أن يكون المعنى مدخل سلامة، وحسن عاقبة فجعل الصدق موضع الأشياء الجميلة لأنه جميل، ومن قال مدخل صدق الرسالة ومخرج صدق من الدنيا، قدّره بما وعده الله جلّ وعزّ به من نصرته الرسالة، ومن إخراجه من الدنيا سليما من الكبائر، وقد قيل: أمره الله جلّ وعزّ بهذا عند دخوله إلى بلد أو غيره أو عند خروجه منه. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي حجة ظاهرة بيّنة تنصرني بها على أعدائي.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨١]
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ أي جاء أمر الله ووحيه وَزَهَقَ الْباطِلُ أي الباطل الكفر والفساد إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً والزاهق والزهوق في اللغة الذي لا ثبات له.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٢]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ أي شفاء في الدين لما فيه من الدلائل الظاهرة
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ١٢٩، والبحر المحيط ٦/ ٦٤.
والحجج الباهرة فهو شفاء للمؤمنين أن لا يلحقهم في قلوبهم مرض ولا ريب، وأجاز الكسائي وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ نسقا على «ما» أي وننزل رحمة للمؤمنين. وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي يكفرون فيزدادون خسارا. وهذا مجاز.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٣]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣)
وقرأ أبو جعفر وناء بجانبه «١». قال الكسائي هما لغتان. وقال الفراء: لغة أهل الحجاز نأى ولغة بعض هوازن وبني كنانة وكثير من الأنصار ناء يا هذا. قال أبو جعفر: الأصل نأى ثم قلب، وهذا من قول الكوفيين مما يتعجّب منه لأنهم يقولون فيما كانت فيه لغتان وليس بمقلوب: هو مقلوب، نحو جذب وجبذ، ولا يقولون في هذا، وهو مقلوب: شيئا من ذلك. والدليل على أنه مقلوب أنهم قد أجمعوا على أن يقولوا:
نأيت نأيا، ورأيت رأيا ورؤية ورؤيا، فهذا كلّه من نأى ورأى، ولو كان من ناء وراء لقالوا: رئت ونئت مثل جئت. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً وإن خففت الهمزة جعلتها بين بين وحكى الكسائي عن العرب الحذف «كان يوسا» «٢» وحكى وإذا المودة [التكوير:
٨] قال: مثل الموزة.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٤]
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ هذه الآية من أشكل ما في السورة. ومن أحسن ما قيل فيها أن المعنى قل كلّ يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب. فربكم أعلم بمن هو أولى بالصواب. وهذا تستعمله العرب بعد تبيين الشيء مثل وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤]، وكما يقول الرجل لخصمه: إنّ أحدنا لكاذب، فقد صار في الكلام معنى التوبيخ. فهذا قول، وقيل: معنى قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ في أوقات الشرائع المفترضة لا غير، وفيها قول ثالث يكون المعنى: قل كلّ يعمل على ناحيته وعلى طريقته فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا فلمّا علم بيّن الحقّ والسّبل.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٥]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي قد تكلّم العلماء فيه فقيل: علم الله جلّ وعزّ أنّ الأصلح لهم أن لا يخبرهم ما الروح لأن اليهود قالت لهم: في كتابنا أنه إن فسّر لكم ما الروح فليس بنبيّ وإن لم يفسره فهو نبي، وقيل: إنهم سألوا عن عيسى صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم الروح من أمر ربّي أي شيء أمر الله جلّ وعزّ به وخلقه لا كما يقول النصارى.
(١) انظر البحر المحيط ٦/ ٧٣.
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ١٣٠.

[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٧]

إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ استثناء ليس من الأول أي إلّا أن يرحمك الله فيرد إليك ذلك. والرحمة من الله جل وعز التفضّل.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٨]
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)
فتحدّاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك فعجزوا عنه من جهات إحداها وصف القرآن الذي أعجزهم أن يأتوا بمثله، وذلك أن الرجل منهم كان يسمع السورة أو الآية الطويلة ثم يسمع بعدها سمرا أو حديثا فيتباين ما بين ذينك من إعجاز التأليف أنه لا يوجد في كلام أحد من المخلوقين أمر ونهي ووعظ وتنبيه وخبر وتوبيخ وغير ذلك ثم يكون كلّه متألفا. ومن إعجازه أنه لا يتغيّر، وليس كلام أحد من المخلوقين يطول إلا تغيّر بتناقض أو رداءة. ومن إعجازه الحذف والاختصار والإيجاز ودلالة اللفظ اليسير على المعنى الكثير، وإن كان في كلام العرب الحذف والاختصار والإيجاز فإنّ في القرآن من ذلك ما هو معجز، نحو قوله جلّ وعزّ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: ٥٨] أي إذا كان بينك وبين قوم عهد فخفت منهم وأردت أن تنقض العهد فانبذ إليهم عهدهم أو قل قد نبذت إليكم عهدكم أي قد رميت به لتكون أنت وهم على سواء في العلم فإنك إن لم تفعل ذلك ونقضت عهدهم كانت خيانة، والله لا يحبّ الخائنين. فمثل هذا لا يوجد في كلام العرب على دلالة هذه المعاني والفصاحة التي فيه، ومن إعجاز القرآن ما فيه من علم الغيوب بما لم يكن إذ كان النبي صلّى الله عليه وسلّم كلّما سئل عن شيء من علم الغيب أجاب عنه حتى لقد سئل بمكة فقيل له: رجل أخذه إخوته فباعوه ثم صار ملكا بعد ذلك، وكانت اليهود أمرت قريشا بسؤاله عنه، ووجهوا بذلك إليهم من المدينة إلى مكة وليس بمكّة أحد قرأ الكتب، فأنزل الله جلّ وعزّ سورة يوسف عليه السلام فيها أكثر ما في التوراة من خبر يوسف عليه السلام، فكانت هذه الآية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة إحياء عيسى صلّى الله عليه وسلّم الميت الذي أحياه بإذن الله جلّ وعزّ.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١)
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً هذه قراءة أهل المدينة، وقرأ أهل الكوفة حَتَّى تَفْجُرَ مختلفا، وقرءوا جميعا التي بعدها فَتُفَجِّرَ قال أبو عبيد لا أعلم بينهما فرقا. قال أبو جعفر: الفرق بينهما بيّن لأن الثاني جاء بعده (تفجيرا) فهذا مصدر فجّر والأول ليس بعده تفجير، وإن كان البيّن أن يقرأ الأول كالثاني يدلّ على
ذلك أن ابن نجيح روى عن مجاهد حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً قال: عيونا، وكذا قال الحسن، وروى سعيد عن قتادة حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً قال: عيونا ببلدنا هذا. فهذا التفسير يدلّ على تفجّر لأن تفجّر على التكثير.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٢]
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢)
وقرأ أهل المدينة وعاصم أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «١».
وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو (كسفا) «٢» بإسكان السين. قال أبو جعفر: كسف جمع كسفة أي قطعا. وذكر السماء ليدلّ على الجمع. وحجة من قرأ كسفا أنه لمرة واحدة. أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا على الحال.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٣]
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)
أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ من رقي يرقى رقيّا إذا صعد، ويقال: رقيت الصّبيّ أرقيه رقيا ورقية.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٤]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤)
(أن) في موضع نصب والمعنى من أن يؤمنوا إِلَّا أَنْ قالُوا في موضع رفع أي إلّا قولهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا فانقطعت حججهم لمّا ظهرت البراهين وجاءوا بالجهل.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٥]
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ على الحال، ويجوز في غير القرآن مطمئنّون نعت للملائكة. ومعنى هذا- والله أعلم- لو كان في الأرض ملائكة يمشون لا يعبدون الله ولا يخافونه. وهذا معنى المطمئنين لأن المتعبّد الخائف لا يكون مطمئنا. لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا حتى يعظهم، ويدعوهم إلى ما يجب عليهم.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٦]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦)
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على الحال، ويجوز أن يكون منصوبا على البيان.
(١) انظر تيسير الداني ١١٥، والبحر المحيط ٦/ ٧٨.
(٢) انظر تيسير الداني ١١٥، والبحر المحيط ٦/ ٧٨.

[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٧]

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ حذفت الياء من الخط لأنها كانت محذوفة قبل دخول الألف واللام، والألف واللام لا يغيّران شيئا عن حاله إلا أنّ الاختيار إثبات الياء لأن التنوين قد زال. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: لا يجوز مثل هذا إلا بإثبات الياء، والصواب عنده أن لا يقف عليه، وأن يصله بالياء حتّى يكون متابعا للقراء وأهل العربية. عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا على الحال.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٠]
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ رفع على إضمار فعل، ولا يجوز أن يلي «لو» إلا فعل إمّا يكون مضمرا وإما لأنها تشبه حروف المجازاة. وخبّر الله جل وعز بما يعلم منهم مما غيّب عنهم فقال: لو أنتم تملكون خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي نعمته. والرحمة من الله جلّ وعزّ هي النعمة. لَأَمْسَكْتُمْ أي عن النفقة خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وقيل: الإنفاق الفقر، المعنى خشية أن تنفقوا فينقص ما في أيديكم. وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً حكى الكسائي: قتر يقتر وأقتر يقتر، وحكى أبو عبيد: قتر وقتور على التكثير، كما يقال: ظلوم للكثير الظلم.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠١]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ مفعولان بَيِّناتٍ في موضع خفض على النعت لآيات، وقد يكون في موضع نصب على النعت لتسع. وقرأ الكسائي وابن كثير فسل بنى إسرائيل بغير همز يكون على التخفيف، وعلى لغة من قال: سال يسال. والتقدير:
قل للشاكّ سل بني إسرائيل. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما قيل في التسع الآيات عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن ابن عباس، وما قاله ابن عباس فيجب أن يكون توقيفا لأنه ليس مما يقال بالرأي، والقولان ليسا بمتناقضين فإنّما الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيحمل على أنه لآيات جاء بها موسى صلّى الله عليه وسلّم تتلى إلّا أنها تفسير لهذه الآيات. والدليل على هذا قوله جلّ وعزّ:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل: ١٢] في تسع آيات إلى فرعون وقومه مَسْحُوراً أي مخدوعا مَثْبُوراً من الثبور أي الهلاك.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٢]
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢)
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأن فرعون مع توجيهه إلى
السحرة ونظره إلى ما يصنعون قد علم أنّ ما أتى به موسى عليه السلام لا يكون إلّا من عند الله جلّ وعزّ. بَصائِرَ أي حجبا تبصرها العقول.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٤]
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
لَفِيفاً على الحال.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٥]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ لأن كلّ ما فيه حقّ.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٦]
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦)
وَقُرْآناً نصب على إضمار فعل فَرَقْناهُ بيناه، وقيل: أنزلناه متفرّقا وعيدا ووعدا وأمرا ونهيا وخبرا عمّا كان ويكون، وقيل: أنزلناه مفرّقا وقد اشتقّ مثل هذا أبو عمرو بن العلاء رحمه الله فقال: «فرقناه» أنزلنا فرقانا أي فارقا بين الحق والباطل والمؤمن والكافر. وقرأ ابن عباس والشّعبي وعكرمة وقتادة وقرآن فرّقناه «١» بالتشديد. ويحتمل أن يكون معناه كمعنى فرقناه إلّا أن فيه معنى التأكيد والمبالغة والتكثير. لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي ليحفظوه ويفهموه يقال: مكث ومكث ومكث ومكث. وقال مجاهد أي على ترسّل.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٧]
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧)
إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً أي شكرا لله وتعظيما.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٨]
وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨)
وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا أي تنزيها لله جلّ وعزّ من أن يعد ببعث محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم لا يبعثه.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٩]
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ قيل: في الصلاة. وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً مفعولان.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١١٠]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا قال الأخفش سعيد: أي أيّ الدعاءين تدعو.
(١) انظر البحر المحيط ٦/ ٨٤.
قال أبو جعفر: وهذا قول الحسن أي إن قلتم يا الله يا رحمن، وقال أبو إسحاق:
المعنى أيّ الأسماء تدعون فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الرحمن الرحيم الغفور الودود.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١١١]
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
قال مجاهد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي حليف ولا ناصر وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً مصدر فيه معنى التوكيد.
Icon