تفسير سورة الإسراء

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
وتسمى " سبحان "، و " بني إسرائيل "، مكية إلا ﴿ وإن كادوا ﴾ الآيات الثمان. مائة وعشر آيات أو إحدى عشرة، وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة. وعدد حروفها : ستة آلاف وأربعمائة وستون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الملك المالك لجميع الأمر. ﴿ الرحمن ﴾ لكل ما أوجده بما رباه. ﴿ الرحيم ﴾ لمن خصه بالتزام العمل بما يرضاه.

وقوله تعالى :﴿ سبحان ﴾ اسم بمعنى التسبيح الذي هو التنزيه وقد يستعمل علماً له فيقطع عن الإضافة ويمنع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون قال الأعشى في مدحه عامر بن الطفيل :
قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
أي : العجب منه إذ يفخر والعرب تقول سبحان من كذا إذا تعجبوا منه الشاهد في سبحان حيث جعله علماً على التنزيه فمنعه الصرف وعلقمة المذكور صحابيّ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شيخ فأسلم وبايع واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حوران فمات بها ﴿ الذي أسرى بعبده ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف عباده على الإطلاق وأحقهم بالإضافة إليه. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي أسرى بالإمالة محضة وورش بين بين والباقون بالفتح وقوله تعالى :﴿ ليلاً ﴾ نصب على الظرف والإسراء سير الليل.
وفائدة ذكره الإشارة بتنكيره إلى تقليل مدّته فكان هذا الأمر الجليل في جزء يسير من الليل وإلى أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج في الإسراء والعروج إلى سدرة المنتهى وسماع الكلام من العليّ الأعلى إلى رياضة بصيام ولا غيره بل كان مهيأ لذلك متأهلاً له فأقامه تعالى من الفرش إلى العرش ﴿ من المسجد الحرام ﴾ أي : بعينه وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«بينما أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق » وقيل كان نائماً في الحطيم، وقيل في بيت أمّ هانئ بنت أبي طالب قال البقاعي : وهو قول الجمهور، والمراد بالمسجد حينئذ الحرم لأنه فناء المسجد. ﴿ إلى المسجد الأقصى ﴾ أي : بيت المقدس الذي هو بعيد المسافة حينئذٍ وأبعد المسجدين الأعظمين مطلقاً من مكة المشرّفة بينهما أربعون ليلة فصلى بالأنبياء كلهم إبراهيم وموسى ومن سواهما على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ورأى من آياتنا الكبرى ما قدرنا له كما سيأتي في حديث المعراج، ورجع بين أظهركم إلى المسجد الأقرب منكم في ذلك الجزء اليسير من الليل، وأنتم تضربون أكباد الإبل في هذه المسافة شهراً ذهاباً وشهراً إياباً.
ثم وصفه تعالى بما يقتضي تعظيمه، وأنه أهل للقصد بقوله تعالى :﴿ الذي باركنا حوله ﴾ أي : بما لنا من العظمة بالمياه والأشجار. وقال مجاهد : سماه مباركاً لأنه مقرّ الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي ومنه يحشر الناس يوم القيامة وموطن العبادات ومعدن الفواكه والأرزاق والبركات، وبارك تعالى حوله لأجله فما ظنك به نفسه فهو أبلغ من باركنا فيه، ثم منه إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى إلى ما لم ينله بشر غيره صلى الله عليه وسلم قال البقاعي : ولعل حذف ذكر المعراج من القرآن هنا لقصور أفهامهم عن إدراك أدلته، لو أنكروه بخلاف الإسراء فإنه أقام دليله عليهم بما شاهدوه من الأمارات التي وصفها لهم وهم قاطعون بأنه صلى الله عليه وسلم لم يرها قبل ذلك فلما بان صدقه بما ذكر من الأمارات أخبر بعد ذلك من أراد الله تعالى بالمعراج.
ثم ذكر سبحانه وتعالى الغرض من الإسراء بقوله تعالى :﴿ لنريه ﴾ بعينه وقلبه ﴿ من آياتنا ﴾ أي : عجائب قدرتنا السماوية والأرضية كما أرينا أباه الخليل عليه السلام ملكوت السماوات والأرض. ﴿ إنه ﴾ أي : الله ﴿ هو السميع ﴾ لجميع الأقوال ﴿ البصير ﴾ أي : العالم بأحوال عباده فيكرم ويقرّب من شاء منهم وقيل : إنه أي : هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو أي : خاصة السميع أي : أذناً وقلباً بالإجابة لنا والإذعان لأوامرنا البصير بصراً وبصيرة بدليل ما أخبر به من الآيات وصدقه من الدلالات حتى نعت ما سألوه عنه من بيت المقدس ومن أمر عيرهم وغيرهما مما هو مشهور في قصة الإسراء. واختلف هل أسري بروحه أو بجسده صلى الله عليه وسلم فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقول ما فقدت جسد النبيّ صلى الله عليه وسلم ولكن أسري بروحه، والأكثرون على أنه أسري بجسده في اليقظة وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم «أوتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس فربطت الدابة بالحلقة التي تربط فيها الأنبياء ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، قال جبريل عليه السلام : أصبت الفطرة. قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل. فقيل : من معك ؟ قال : محمد. قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل. فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى فرحبا بي ودعوا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل. فقيل : ومن معك ؟ قال محمد. فقيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل. فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد. فقيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه. ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل. فقيل : من معك ؟ قال : محمد. فقيل : قد أرسل إليه ؟ قال : قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل. فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل. فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم فإذا هو مستند إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها. قال صلى الله عليه وسلم فأوحى إلى عبده ما أوحى وفرض عليّ في كل يوم وليلة خمسين صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال : ما فرض ربك على أمّتك ؟ قلت : خمسين صلاة في كل يوم وليلة. قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال : فرجعت إلى ربي فقلت له : أي : رب خفف عن أمّتي فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى فقال : ما فعلت ؟ فقلت : قد حط عني خمساً. قال : إنّ أمّتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، لأنّ أمّتك لا تطيق ذلك. قال : فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحط عني خمساً خمساً حتى قال : يا محمد، هي خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب فإن عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك فإن أمّتك لا تطيق فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت » رواه الشيخان. وروي أنه قال بعد ذلك :«ولكن أرضى وأسلم فلما جاوزت نادى مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ».
وروي أنه لما وصل إلى سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت :«ما هذان يا جبريل ؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع إليّ البيت المعمور ثم أوتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فاخترت اللبن فقال : هي الفطرة التي أنت عليها وأمّتك قال : ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة يوم فرضت فمررت على موسى وساق الحديث ». ومنها ما رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«رأيت ربي عز وجل ». قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس. قال : والشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم.
ومنها ما رواه قتادة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم عن ليلة الإسراء به قال :«بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر، مضطجع ومنهم من قال : بين النائم واليقظان، وذكر بين رجلين وأتيت بطشت من ذهب مملوءة حكمة وإيماناً فشق من النحر إلى مراق البطن واستخرج قلبي فغسل ثم حشي ثم أعيد »، وقال سعيد وهشام : ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيماناً وحكمة «ثم أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته » وساق بقية الحديث.
ومنها ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً في بيت أمّ هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به، ورجع من ليلته، وقص القصة على أمّ هانئ. وقال :«مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أمّ هانئ بثوبه فقال : ما لك ؟ قالت : أخشى أن يكذبك الناس وقومك إن أخبرتهم. قال : وإن كذبوني فخرج إليهم ». وروي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، فكان بذي طوى قال :«يا جبريل إنّ قومي لا يصدّقوني. قال : يصدّقك أبو بكر الصدّيق ». قال ابن عباس وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لما كانت ليلة أسري بي فأصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت أنّ الناس يكذبوني ». فروي «أنه عليه الصلاة والسلام قعد معتزلاً حزيناً فمرّ به أبو جهل فجلس إليه فقال كالمستهزئ : هل استفدت من شيء ؟ قال : نعم، أسري بي الليلة. قال : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس. قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم. فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤيّ هلموا فانفضت إليه المجالس فجاؤوا حتى جلسوا إليهما قال : حدّث قومك بما حدّثتني. قال : نعم، إني قد أسري بي الليلة. قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس. قالوا : ثم أصبحت بين أظهرنا ؟ قال : نعم فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً وارتدّ ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه. فقالوا له : هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال : أو قد قال ؟ قالوا : نعم. قال : إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا : تصدّقه على ذلك ؟ قال : إني لأصدّقه على أبعد من ذلك أصدّقه على خبر السماء في غدوة أو روحة فسمي الصدّيق. قال : وفي القوم من كان يأتي المسجد الأقصى، فقالوا : فهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد الأقصى قال : نعم. قال : فذهبت أنعت وأنعت فما زلت أنعت حتى التبس عليّ. قال : فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل، فنعت المسجد وأنا أنظر إليه فقال القوم : أما النعت فو الله لقد أصاب ثم قالوا : يا محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهمّ إلينا هل لقيت منها شيئاً قال : نعم مررت على عير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته وشربته ثم وضعته كما كا
ولما ثبت بهذه الخارقة ما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن نفسه المقدّسة من عظيم القدرة وما جاءه صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات في هذا الوقت اليسير أتبعه ما منح في السير من مصر إلى الأرض المقدّسة من الآيات في مدد طوال موسى عليه الصلاة والسلام الذي كان أعظم الأنبياء بركة على هذه الأمّة ليلة الإسراء لما أرشد النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه من مراجعة الله تعالى في تخفيف الصلاة حتى رجعت من خمسين إلى خمس مع أجر خمسين فقال :﴿ وآتينا ﴾ أي : بعظمتنا ﴿ موسى الكتاب ﴾ أي : التوراة ﴿ وجعلناه ﴾ أي : الكتاب بما لنا من العظمة ﴿ هدى لبني إسرائيل ﴾ بالحمل على العدل في التوحيد والأحكام وأسرينا بموسى عليه السلام وبقومه من مصر إلى بلاد المسجد الأقصى، فأقاموا سائرين إليها أربعين سنة ولم يصلوا ومات كل من خرج إلا المتقين الموفين بالعهد فقد بان الفضل بين الإسراءين كما بان الفضل بين الكتابين، فذكر الإسراء أوّلاً دليل على حذف مثله أوّلاً فالآية من الاحتباك ثم نبه على أنّ المراد من ذلك كلمة التوحيد اعتقاداً وعبادة بقوله تعالى :﴿ أنّ لا ﴾ أي : لئلا ﴿ يتخذوا ﴾ على قراءة أبي عمرو بالياء على الغيبة، وقرأ غيره بالتاء على أن لا تتخذوا كقولك كتبت إليه أن أفعل كذا. ﴿ من دوني وكيلاً ﴾ أي : ربا تكلون إليه أموركم، وذلك هو التوحيد فلا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا نعمة أعظم من أن يصير المرء غريقاً في بحر التوحيد وأن لا يعوّل في أمر من الأمور إلا على الله تعالى، فإن نطق نطق بذكر الله، وإن تفكر تفكر في دلائل تنزيه الله وإن طلب طلب من الله، فيكون كله لله وبالله وإلى الله.
وقوله تعالى :﴿ ذرية ﴾ نصب على الاختصاص في قراءة أبي عمرو وعلى النداء عند الباقين أي : يا ذرّية ﴿ من حملنا ﴾ أي : في السفينة بعظمتنا على ظهر ذلك الماء الذي طبق ما تحت أديم السماء ونبه تعالى على شرفهم وتمام نعمتهم بقوله تعالى :﴿ مع نوح ﴾ ففي ذلك تذكير بإنعام الله تعالى عليهم وإنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة. قال قتادة : الناس كلهم من ذرّية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاث بنين سام وحام ويافث، فالناس كلهم من ذرّية أولئك. قال البقاعي : لأنّ الصحيح أنّ من كان معه من غير ذرّيته ماتوا ولم يعقبوا ولم يقل ذرّية نوح ليعلم أنهم عقب أولاده المؤمنين لتكون تلك منة أخرى.
ثم إنه تعالى أثنى على نوح حثاً على الاقتداء به في التوحيد كما اقتدى به آباؤهم في ذلك بقوله تعالى :﴿ إنه كان عبداً شكوراً ﴾ أي : مبالغاً في الشكر الذي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه لما خلق له. روي أنه عليه الصلاة السلام كان إذا أكل قال :«الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء أجاعني » وفي رواية «أنه يسمي إذا أكل ويحمد إذا فرغ، وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حداني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه ». وفي رواية أنه كان يقول :«الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى منفعته في جسدي وأخرج عني أذاه ». وفي رواية : أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من مرّ به فإن وجده محتاجاً آثره به.
ولما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، وبأنه جعل التوراة هدى لهم بين أنهم ما اهتدوا بهداه بل وقعوا في الفساد بقوله تعالى :﴿ وقضينا ﴾ أي : أوحينا ﴿ إلى بني إسرائيل ﴾ أي : إلى بني عبدنا يعقوب عليه السلام الذي كان أطوع أهل زمانه وحياً مقطوعاً مثبوتاً ﴿ في الكتاب ﴾ أي : التوراة التي قد أوصلناها إليهم على لسان موسى عليه السلام وقيل : المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، وقوله تعالى :﴿ لتفسدنّ ﴾ جواب قسم محذوف ويجوز أن يجري القضاء المثبوت مجرى القسم فيكون لتفسدنّ جواباً له كأنه قال : وأقسمنا لتفسدنّ ﴿ في الأرض ﴾ أي : أرض الشام قاله السيوطي. وقال الرازي : أرض مصر ويوافق الأوّل قول البقاعي أي : المقدّسة التي كأنها لشرفها هي الأرض. ﴿ مرّتين ﴾ أي : إفسادتين. قال في «الكشاف » : أولاهما قتل زكريا عليه السلام وحبس أرميا حين أنذرهم بسخط الله تعالى، والأخرى قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى بن مريم. وقال البيضاوي : الأولى مخالفة أحكام التوراة وقتل شعيا أو قتل أرميا. وثانيتهما قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم السلام. ﴿ ولتعلنّ ﴾ أي : بما صرتم إليه من البطر لنسيان المنعم ﴿ علوّاً كبيراً ﴾ بالظلم والتمرّد لأنه يقال لكل متجبر قد علا وتعظم.
﴿ فإذا جاء وعد أولاهما ﴾ أي : أولى مرّتي الفساد وهو الوقت الذي جدّدنا لهم الانتقام فيه ﴿ بعثنا عليكم عباداً لنا ﴾ أي : لا يدان لكم بهم كما قال تعالى :﴿ أولي بأس شديد ﴾ أي : أصحاب قوّة في الحرب. واختلف فيهم فقال في «الكشاف » : سنحارب وجنوده، وقيل بختنصر. وقال ابن عباس : جالوت قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخرّبوا المساجد وسبوا منهم سبعين ألفاً. وقال البيضاوي : عباداً لنا بختنصر عامل لهراسف على بابل وجنوده، وقيل : جالوت الحزري وهو بحاء فزاي : مفتوحتين فراء نسبة إلى الحزر وهو ضيق العين وصغرها، وهو الذي قتله داود أو جيل من الناس. وذكر الرازي في ذلك قولين : الأوّل : أنّ الله تعالى سلط عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه، فبقوا هناك في الذل. الثاني : أنّ الله تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال الله ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية قال : أفسدوا المرّة الأولى، فأرسل الله عليهم جالوت فقتلهم وأفسدوا المرّة الثانية فقتلوا يحيى بن زكريا فبعث الله عليهم بختنصر. وعن ابن مسعود قال : كان أوّل الفساد من قتل زكريا فبعث الله عليهم ملك القبط. وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال : الأولى قتل زكريا والأخرى قتل يحيى. قاله الرازي. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط الله عليهم أقواماً فقتلوهم وأفنوهم.
ثم قال الله تعالى :﴿ فجاسوا ﴾ أي : تردّدوا لطلبكم ﴿ خلال الديار ﴾ أي : وسطها للقتل والغارة. قال البيضاوي : فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم وحرّقوا التوراة وخرّبوا المسجد، والمعتزلة لما منعوا تسليط الله الكافر على ذلك أولوا البعث بالتخلية انتهى. وفي ذلك تعريض بالزمخشري فإنه قال في «كشافه » : فإن قلت كيف جاز أن يبعث الله تعالى الكفرة على ذلك ويسلطهم عليه. قلت : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم على أنّ الله عز وجل أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه فهو كقوله تعالى :﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون ﴾ [ الأنعام، ١٢٩ ]. ﴿ وكان ﴾ أي : ذلك البعث ووعد العقاب به ﴿ وعداً مفعولاً ﴾ أي : قضاء كائناً لازماً لا شك في وقوعه ولا بدّ أن يفعل.
﴿ ثم رددنا لكم الكرّة ﴾ أي : الدولة والغلبة ﴿ عليهم ﴾ حتى تبتم عن ذنوبكم ورجعتم عن الفساد في زمن داود بقتله جالوت وذلك بعد مائة سنة ﴿ وأمددناكم بأموال ﴾ تستعينون بها على قتال عدوّكم ﴿ وبنين ﴾ تتقوّون بهم ﴿ وجعلناكم أكثر ﴾ من عدوّكم ﴿ نفيراً ﴾ أي : عشيرة تنفر معكم عند إرادة القتال وغيره من المهمات والنفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل : جمع نفر، وهم المجتمعون للذهاب إلى العدوّ.
ولما حكى الله تعالى عنهم أنهم لما عصوا سلط الله عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة، وأعاد عليهم الدولة فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا الله فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصرّوا على المعصية فقد أساؤوا على أنفسهم وقد تقرّر في العقول أنّ الإحسان إلى النفس حسن مطلوب وأنّ الإساءة إليها قبيحة فلهذا المعنى قال تعالى :﴿ إن أحسنتم ﴾ أي : بفعل الطاعة على حسب الأمر في الكتاب الداعي إلى العدل والإحسان ﴿ أحسنتم لأنفسكم ﴾ أي : لأنّ ثوابها لها ﴿ وإن أسأتم ﴾ بارتكاب المحرّمات والإفساد ﴿ فلها ﴾ أي : الإساءة لأنّ وبالها عليها. قال النحويون : وإنما قال :﴿ وإن أسأتم فلها ﴾ للتقابل، والمعنى فإليها أو فعليها كما مرّ مع أنّ حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض كقوله تعالى :﴿ يومئذٍ تحدّث أخبارها ٤ بأن ربك أوحى لها ﴾ [ الزلزلة : ٤، ٥ ] أي : إليها.
تنبيه : قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله غالبة على غضبه بدليل أنه تعالى لما حكى عنهم الإحسان ذكره مرّتين فقال تعالى :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ﴾ ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرّة واحدة فقال تعالى :﴿ وإن أسأتم فلها ﴾ ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك.
ثم قال :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ﴾ أي : ثانية في الإفساد وهو الوقت الذي حدّدنا له الانتقام فيه. ﴿ ليسوءوا ﴾ أي : بعثنا عليكم عباداً لنا ليسوءوا ﴿ وجوهكم ﴾ أي : بجعل آثار الإساءة بائنة فيها وحذف متعلق اللام لدلالة الأوّل عليه. وقرأ الكسائي بعد اللام بنون مفتوحة على التوحيد والضمير فيه لله والباقون بالياء مفتوحة، وأمّا الهمزة التي بعد الواو والتي بعد السين فقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص بضم الهمزة ومدّها والباقون بفتح الهمزة ولا مدّ وقوله تعالى :﴿ وليدخلوا المسجد ﴾ عطف على ليسوءوا والمراد بالمسجد الأقصى الذي سقناكم إليه من مصر في تلك المدد الطوال وأعطيناكم بلاده بالتدريج وجعلناه محل عزكم وأمنكم ثم جعلناه محلاً لإكرام أشرف خلقنا بالإسراء إليه وجمع أرواح النبيين كلهم فيه وصلاته بهم، وهذا تعريض بتهديد لقريش بأنهم إن لم يرجعوا بدل الله أمنهم في الحرم خوفاً وعزهم ذلاً، وأدخل عليهم جنوداً لا قبل لهم بها، وقد فعل ذلك عام الفتح لكنه فعل إكرام لا إهانة ببركة هذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم ﴿ كما دخلوه ﴾ أي : الأعداء ﴿ أوّل مرّة ﴾ بالسيف ويقهروا جميع جنودكم دفعة واحدة ﴿ وليتبروا ﴾ أي : يهلكوا ويدمروا مع التقطيع والتفريق ﴿ ما علوا ﴾ أي : عليه من ذلك وقيل ما مصدرية أي : مدّة علوهم ﴿ تتبيراً ﴾ أي : إهلاكاً. قال الزجاج : وكل شيء جعلته مكسراً مفتتاً فقد تبرته ومنه قيل تبر الزجاج، وتبر الذهب لمكسره، ومنه قوله تعالى :﴿ إنّ هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ﴾ [ الأعراف، ١٣٩ ]. قال الرازي : وهذه المرّة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهما السلام. قال البيضاوي : وذلك بأن سلط عليهم الفرس مرّة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه حردون، وقيل جردوس، قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم جمع قربان فوجد فيه دماً يغلي فسألهم عنه فقالوا : دم قربان لم يقبل منا فقال : ما صدقتموني فقتل عليه ألوفاً منهم فلم يهدأ الدم، ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحداً فقالوا إنه دم يحيى فقال لمثل هذا ينتقم ربكم منكم، ثم قال : يا يحيى أي : خطاباً لدمه قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله قبل أن لا يبقى أحد منهم فهدأ أي : سكن. وقال الواحدي : فبعث الله تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني إسرائيل وخرب بيت المقدس. قال الرازي : أقوال التواريخ تشهد أنّ بختنصر كان قبل وقت عيسى ويحيى وزكريا بسنين متطاولة، ومعلوم أنّ الملك الذي انتقم من اليهود ملك الروم يقال له قسطنطين الملك والله أعلم بأحوالهم ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام انتهى.
ولما انقضى ذلك كان كأنه قيل هل بقي لهم نصرة على عدوّهم ؟ فقال تعالى :﴿ عسى ربكم أن يرحمكم ﴾ يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم فترد الدولة إليكم ثم بعد أن أطمعهم فزعهم بقوله تعالى :﴿ وإن عدتم ﴾ أي : إلى المعصية ﴿ عدنا ﴾ أي : إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرّة أخرى. قال القفال : إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل :﴿ وإذ تأذن ربك ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾ [ الأعراف، ١٦٧ ]. ثم قال وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل فعاد الله تعالى عليهم بالتعذيب على أيدي العرب فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ثم الباقي منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان ثم قال تعالى ﴿ وجعلنا ﴾ أي : بعد ذلك بعظمتنا ﴿ جهنم ﴾ أي : التي تلقى داخلها بالتجهيم والكراهة ﴿ للكافرين ﴾ وذكر الوصف الظاهر موضع الضمير لبيان تعلق الحكم به على سبيل الرسوخ سواء في ذلك هم وغيرهم وقوله تعالى ﴿ حصيرا ﴾ يحتمل أن يكون فعيلاً بمعنى الفاعل أي : جعلنا جهنم حاصراً لهم ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول أي : جعلناها موضعاً محصوراً لهم والمعنى أنّ عذاب الدنيا وإن كان شديداً قوياً إلا أنه قد ينقلب بعض الناس عنه والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص منه إمّا بالموت وإمّا بطريق آخر، وأمّا عذاب الآخرة فإنه يكون حاصراً للإنسان محيطاً به لا رجاء في الخلاص عنه فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطاً بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبداً.
ولما بين سبحانه وتعالى كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل عليه فيما بين مصر وبيت المقدس في تلك المدّة المتطاولة وجعله هدى لبني إسرائيل صادق الوعد والوعيد بين تعالى كتاب محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه منه في سبب مسيره إليه في ذلك، ووصفه بثلاثة أنواع من الصفات :
الأولى قوله تعالى :﴿ إنّ هذا القرآن ﴾ أي : الجامع لكل حق والفارق بين كل ملتبس ﴿ يهدي للتي ﴾ أي : إلى الطريق التي ﴿ هي أقوم ﴾ أي : أصوب من كل طريق فقوله تعالى :﴿ للتي هي أقوم ﴾ نعت لموصوف محذوف كما تقرّر ويصح أن يقدّر الملة والشريعة أي : يهدي إلى الملة والشريعة التي هي أقوم الملل والشرائع ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله تعالى :﴿ ادفع بالتي هي أحسن ﴾ [ المؤمنون، ٩٦ ] وقيل إلى الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله.
تنبيه : لفظ افعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا الله أكبر أي : الله الكبير وكقولنا الأشج والناقص أعدلا بني مروان، فأقوم يحتمل أن يكون كذلك وأن يبقى على ظاهره.
الصفة الثانية قوله تعالى :﴿ ويبشر المؤمنين ﴾ أي : الراسخين في هذا الوصف ولهذا قيدهم بياناً لهم بقوله :﴿ الذين ﴾ أي : يصدّقون إيمانهم بأنهم ﴿ يعملون ﴾ أي : على سبيل التجديد والاستمرار والبناء على العلم ﴿ الصالحات ﴾ من التقوى والإحسان ﴿ أنّ لهم أجراً كبيراً ﴾ هو الجنة والنظر إلى وجه الله تعالى. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة والباقون بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشدّدة. فإن قيل : قال هنا ﴿ أجراً كبيراً ﴾ وفي الكهف ﴿ أجراً حسناً ﴾ [ الكهف، ٢ ] أجيب : بوقوع ذلك لموافقة الفواصل قبل وبعد في كل منهما.
الصفة الثالثة قوله تعالى :﴿ وأنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا ﴾ أي : أحضرنا وهيأنا ﴿ لهم عذاباً أليماً ﴾ وهو النار في الآخرة وهو عطف على أنّ لهم أجراً كبيراً، والمعنى أنه تعالى بشر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم، نظيره قولك بشرت زيداً بأنه سيعطى وبأنّ عدوّه سيمنع. فإن قيل : كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب ؟ أجيب : بأنّ هذا مذكور على سبيل التهكم أو أنه من باب إطلاق أحد الضدّين على الآخر كقوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ [ الشورى، ٤٠ ] أو على يبشر بإضمار يخبر. فإن قيل : هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة ؟ أجيب : بأنّ أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين وبأنّ بعضهم قال :﴿ لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ﴾ [ البقرة، ٨٠ ] فهم بذلك صاروا كالمنكرين للآخرة.
ولما بين سبحانه وتعالى أنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، والإنسان قد يقدم على ما لا فائدة فيه بينه بقوله تعالى :﴿ ويدع الإنسان بالشرّ ﴾ عند ضجره على نفسه وأهله وماله ﴿ دعاءه ﴾ أي : مثل دعائه ﴿ بالخير ﴾ ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. روي أنه صلى الله عليه وسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً فأقبل يئنّ في الليل فقالت له : ما لك ؟ فبكى وشكا فرحمته فأرخت كتافه فهرب، فلما أصبح النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه فقال صلى الله عليه وسلم «اللهمّ اقطع يدها فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع الله تعالى يدها، فندم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال : اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضبون فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له وقيل المراد النضر بن الحرث حيث قال : اللهمّ انصر خير الحزبين اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك إلى آخره فأجاب الله تعالى دعاءه وضربت رقبته يوم بدر صبراً. وكان بعضهم يقول :﴿ ائتنا بعذاب الله ﴾ [ العنكبوت، ٢٩ ] وآخرون يقولون :﴿ متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ﴾ [ يونس، ٤٨ ] وإنما فعلوا ذلك للجهل ولاعتقاد أنّ محمداً كاذب فيما يقول، وقيل المراد أنّ الإنسان قد يبالغ في الدعاء طالباً لشيء قد يعتقد أنّ خيره فيه مع أنّ ذلك الشيء منبع لشرّه وضرره وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء وإنما يقدّم على مثل هذا العمل لكونه عجولاً مغترّاً بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها، كما قال تعالى :﴿ وكان الإنسان ﴾ أي : الجنس ﴿ عجولاً ﴾ أي : يسارع إلى كل ما يخطر بباله ولا ينظر إلى عاقبته وقيل المراد آدم عليه السلام لما انتهى الروح إلى سرّته ذهب لينهض فسقط.
تنبيه : حذفت واو ويدع أي : التي هي لام الفعل خطأ في جميع المصاحف ولا موجب لحذفها لفظاً في العربية لكنها لما كانت لا تظهر في اللفظ حذفت في الخط، ونظيره قوله تعالى :﴿ سندع الزبانية ﴾ [ العلق، ١٨ ] و﴿ سوف يؤت الله المؤمنين ﴾ [ النساء، ١٤٦ ] و﴿ يوم يناد المنادي ﴾ [ ق، ٤١ ] ﴿ فما تغن النذر ﴾ [ القمر، ٥ ]. قال الفراء : ولو كان ذلك بالواو والياء لكان صواباً. وقال الرازي : أقول هذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قد عظم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإنّ إثبات الواو والياء في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتها في هذه المواضع المعدودة يدل على أنّ هذا القرآن نقل كما سمع وأن أحداً لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوّة عقله.
ولما بيّن تعالى ما أوصل من نعم الدين وهو القرآن أتبعه بما وصل إليهم من نعم الدنيا فقال :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين ﴾ دالتين على تمام العلم وشمول القدرة آية الليل كالآيات المتشابهة وآية النهار كالمحكمة فكما أنّ المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يتيسر الانتفاع به إلا بهاتين الآيتين ﴿ فمحونا ﴾ أي : بعظمتنا الباهرة ﴿ آية الليل ﴾ أي : طمسنا نورها بالظلام ليسكنوا فيه فجعلناها لا يبصر فيها المرئيات كما لا يبصر الكتاب إذا محي. ﴿ وجعلنا ﴾ مما لنا من القدرة. ﴿ آية النهار مبصرة ﴾ أي : مبصراً فيها بالضوء فلا تزال هذه الدار الناقصة في تنقل من نور إلى ظلمة ومن الظلمة إلى النور كما أن الإنسان بعجلته التي يدعو إليها طبعه وتأنيه الداعي إليه عقله من انتقال من نقصان إلى كمال ومن كمال إلى نقصان، كما أن القمر الذي هو أنقص من الشمس كذلك. قال ابن عباس : جعل الله نور الشمس سبعين جزءاً ونور القمر كذلك فمحى من نور القمر تسعة وستين جزءاً فجعلها مع نور الشمس. وحكي أن الله تعالى أمر جبريل فأمر بجناحه على وجه القمر ثلاث مرّات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور. وسأل ابن ذكوان علياً رضي الله عنه عن السواد الذي في القمر قال هو أثر المحو.
تنبيه : المراد من الآيتين بعض الليل والنهار فالإضافة للبيان أي : أنه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا، أمّا الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير له مع كونهما متعاقبين على الدوام وهو من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودين بذاتهما بل لا بدّ لهما من فاعل يدبرهما ويقدّرهما بالمقادير المخصوصة، وأمّا في الدنيا فلأن مصالح الدنيا لا تتم إلا بالليل والنهار فلولا الليل ما حصل السكون والراحة ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرّف وقيل الليل والنهار ظرفان والتقدير وجعلنا آيتين في الليل والنهار والمراد بالآيتين على هذا إمّا الشمس والقمر وإمّا تكوير هذا.
على هذا وهذا على هذا ثم ذكر تعالى بعض المنافع المرتب على ذلك بقوله تعالى :﴿ لتبتغوا ﴾ أي : تطلبوا طلباً شديداً ﴿ فضلاً من ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم فيهما بضياء هذا تارة ونور هذا أخرى ﴿ ولتعلموا ﴾ بفصل هذا عن هذا ﴿ عدد السنين والحساب ﴾ لأن الحساب يبنى على أربع مراتب الساعات والأيام والشهور والسنين، والعدد للسنين والحساب لما دون السنين وهي الشهور والأيام والساعات وبعد هذه المراتب الأربعة لا يحصل إلا التكرار كأنهم رتبوا العدد على أربع مراتب الآحاد والعشرات والمئات والألوف وليس بعدها إلا التكرار. ولما ذكر تعالى أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان عظيمتان من الله تعالى على أهل الدنيا، وقد ذكر تعالى في آيات كثيرة منافعهما كقوله تعالى :﴿ وجعلنا الليل لباساً ١٠ وجعلنا النهار معاشاً ﴾ [ النبأ : ١٠، ١١ ]. وكقوله تعالى :﴿ جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ﴾ [ القصص، ٧٣ ] وشرح تعالى حالهما وفصل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق، ومن وجوه النعم العظيمة على الخلق، كان ذلك تفصيلاً نافعاً وتبياناً كاملاً فلا جرم، قال تعالى :﴿ وكل شيء ﴾ أي : لكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم ﴿ فصلناه تفصيلاً ﴾ أي : بيناه تبييناً، وهو كقوله تعالى :﴿ ما فرّطنا في الكتاب من شيء ﴾ [ الأنعام، ٣٨ ] وكقوله تعالى :﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ﴾ [ النحل، ٨٩ ] وقوله :﴿ تدمّر كل شيء بأمر ربها ﴾ [ الأحقاف، ٢٥ ]. وإنما ذكر تعالى تفصيلاً لأجل توكيد الكلام وتقريره، فكأنه قال : فصلناه حقاً.
ولما بين تعالى أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدنيا والدين مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعماً عليهم بوجود النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولاً عن أعماله وأقواله كما قال تعالى :﴿ وكل إنسان ألزمناه ﴾ أي : بعظمتنا ﴿ طائره ﴾ أي : عمله الذي قدرناه عليه من خير وشرّ، لأن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى عمل شرّ اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه وإذا طار فهو يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة فلما كثر ذلك منهم سموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه فقوله تعالى :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ﴾ أي : وكل إنسان ألزمناه عمله ﴿ في عنقه ﴾ الذي هو محل التزين بالقلادة ونحوها ومحل الشين بالغل ونحوه فإن كان عمله خيراً كان كالقلادة والحلي في العنق وهذا مما يزينه وإن كان عمله شرّاً كان كالغل في عنقه وهو مما يشينه وقال مجاهد ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، قال الرازي : والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والفهم والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك المقدار وإن كان ينحرف عنه بل لا بدّ وأن يصل إليه ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية فتلك الأشياء المقدرة كأنها تطير إليه وتصير إليه فلهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدّرة بلفظ الطائر فقوله تعالى ﴿ ألزمناه طائره في عنقه ﴾ كناية عن كل ما قدّره الله ومعنى في عنقه حصوله له فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة » انتهى ملخصاً.
ثم قال تعالى :﴿ ونخرج له يوم القيامة كتاباً ﴾ أي : مكتوباً فيه عمله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. قال الحسن : بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك، فأمّا الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأمّا الذي عن شمالك فيحفظ لك سيئاتك، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة، وقوله تعالى :﴿ يلقاه منشوراً ﴾ صفتان لكتاباً وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف على البناء للمفعول من لقيته كذا أي : استقلبته به والباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، وأمال الألف بعد القاف حمزة والكسائي محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح.
ثم إنه إذا لقي كتابه يوم القيامة يوم العرض قيل له :﴿ اقرأ كتابك ﴾ أي : بنفسك ﴿ كفى بنفسك اليوم ﴾ الذي تكشف فيه الستور وتظهر جميع الأمور ﴿ عليك حسيباً ﴾ أي : حساباً بليغاً فإنك تعطى القدرة على قراءته أمياً كنت أو قارئاً ولا ترى فيه زيادة ولا نقصاناً ولا تقدر أن تنكر منه حرفاً وإن أنكره لسانك شهدت عليك أركانك فيا لها من قدرة باهرة وقوّة قاهرة ونصفة ظاهرة. قال الحسن : عدل والله في حقك من جعلك حسيب نفسك. وقال السدي : يقول الكافر يومئذٍ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له :﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ﴾ فإن قيل : قد قال تعالى :﴿ وكفى بنا حاسبين ﴾ فكيف الجمع في ذلك ؟ أجيب : بأنّ المراد بالحسيب هنا الشهيد أي : كفى بشخصك اليوم شاهداً عليك أو أنّ القيامة مواقف مختلفة ففي موقف يكل الله تعالى حسابهم إلى أنفسهم وعلمه محيط بهم وفي آخر يحاسبهم هو.
وقوله تعالى :﴿ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ﴾ لأنّ ثواب اهتدائه له لا ينجي غيره ﴿ ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾ أي : إثمه عليها فلا يضرّ في ضلاله سواه، كما قال الكلبي دلالة على أنّ العبد متمكن من الخير والشرّ وإنه غير مجبور على عمل بعينه أصلاً لأنّ قوله تعالى :﴿ من اهتدى ﴾ إلى آخره إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد، أمّا المجبور على أحد الطرفين الممنوع عن الطرف الثاني فهذا لا يليق به، هذا مذهب أهل السنة والجماعة فاتبعه ترشد ثم إنه تعالى أعاد تقرير أنّ كل أحد مختص بأثر عمل نفسه بقوله تعالى :﴿ ولا تزر ﴾ أي : نفس ﴿ وازرة ﴾ أي : آثمة أي : لا تحمل ﴿ وزر ﴾ نفس ﴿ أخرى ﴾ بل إنما تحمل وزرها فقط. فإن قيل : ورد أنّ المظلوم يأخذ من حسنات الظالم فإذا لم يوف يؤخذ من سيئات المظلوم وتطرح على الظالم ؟ أجيب : بأنّ ذلك بسببه فهو كفعله. فإن قيل : قد ورد أن الميت ببكاء أهله ؟ أجيب : بأنّ ذلك محمول على ما إذا أوصى بذلك وكان ذلك الفعل كقول طرفة بن العبد :
إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي عليّ الجيب يا ابنة معبد
وعليه حمل الجمهور الأخبار الواردة بتعذيب الميت على ذلك. فإن قيل : ذنب الميت فيما إذا أوصى أو أمر بذلك فلا يختلف عذابه بامتثالهم وعدمه ؟ أجيب : بأنّ الذنب على السبب يعظم بوجود المسبب وشاهده «من سن سنة سيئة » الخ وقال الشيخ أبو حامد : إنّ ما ذكر محمول على الكافر وغيره من أهل الذنوب.
ثم قال تعالى :﴿ وما كنا ﴾ أي : على ما لنا من القدرة ﴿ معذبين ﴾ أحداً ﴿ حتى نبعث رسولاً ﴾ يبين له ما يجب عليه فمن بلغته دعوته فخالف أمره واستكبر عن اتباعه عذبناه بما يستحقه وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام عليهم السلام في جميع الأمم قال تعالى :﴿ ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً ﴾ [ النحل، ٣٦ ]. وقال تعالى :﴿ وإن من أمّة إلا خلا فيها نذير ﴾ [ فاطر، ٢٤ ] فإنّ دعوتهم إلى الله تعالى قد انتشرت وعمت الأقطار واشتهرت. فإن قيل : الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسول لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله تعالى وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستحقاقهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف، والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان ؟ أجيب : بأنّ بعثة الرسول من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة لئلا يقولوا :﴿ إنا كنا عن هذا غافلين ﴾ [ الأعراف، ١٧٢ ]، فهلا بعثت إلينا رسولاً ينبهنا على النظر في أدلة العقل، وفي الآية دليل على أن لا وجوب قبل الشرع.
فائدة : في حكم أهل الفترتين بين نوح وإدريس وبين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة عشر قسماً ؛ ستة سعداء وأربعة أشقياء وثلاثة تحت المشيئة، فأمّا السعداء فقسم وحّد الله تعالى بنور وجده في قلبه كقس بن ساعدة فإنه كان يقول إذا سئل هل لهذا العالم إله ؟ قال : البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام يدل على المسير. وقسم وحد الله تعالى بما تجلى لقلبه من النور الذي لا يقدر على دفعه، وقسم ألقى في نفسه واطلع من كشفه على منزلة محمد صلى الله عليه وسلم فآمن من به في عالم الغيب، وقسم اتبع ملة حق ممن تقدمة، وقسم طالع في كتب الأنبياء فعرف شرف محمد صلى الله عليه وسلم فآمن به وقسم آمن بنبيه الذي أرسل إليه وأدرك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وآمن به فله أجران. وأما الأشقياء فقسم عطل لا عن نظر بل عن تقليد، وقسم عطل بعدما أثبت لا عن استقصاء بنظر، وقسم أشرك عن تقليد محض، وقسم علم الحق وعانده، وأما الذي تحت المشيئة فقسم عطل فلم يقر بوجوده عن نظر قاصر لضعف في مزاجه، وقسم أشرك عن نظر أخطأ فيه، وقسم عطل بعدما أثبت لا عن نظر بلغ فيه أقصى القوّة هكذا قسم محيي الدين بن عربي في الباب العاشر من الفتوحات المكية نقل ذلك عن شيخ وقته الشيخ عبد الوهاب الشعراني، ونقل عن السيوطي أنّ أبوي النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تبلغهما الدعوة والله تعالى يقول :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ﴾ وحكم من لم تبلغه الدعوة أنه يموت ناجياً ولا يعذب ويدخل الجنة. قال : وهذا مذهب لا خلاف فيه بين المحققين من أئمتنا الشافعية في الفقه والأشاعرة في الأصول، ونص على ذلك الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وتبعه على ذلك الأصحاب، قال السيوطي : وقد ورد في الحديث أن الله تعالى أحيا أبويه حتى آمنا به، وعلى ذلك جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادي وأبو القاسم بن عساكر وأبو حفص بن شاهين والسهيلي والقرطبي والطبري وابن المنير وابن سيد الناس وابن ناصر الدين الدمشقي والصفدي وغيرهم والأولى لنا الإمساك عن ذلك فإنّ الله تعالى لم يكلفنا بذلك ونكل الأمر في ذلك إلى الله تعالى، ونقول كما قال النووي لما سئل عن طائفة ابن عربي ﴿ تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾ [ البقرة، ١٣٤ ].
ولما أشار تعالى إلى عذاب المخالفين قرّر أسبابه وعرف أنها بقدره وأن قدره لا يمنع حقوق العذاب بقوله تعالى :﴿ وإذا أردنا ﴾ أن نحيي قرية الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة ألقينا في قلوب أهلها امتثال أو أمرنا والتقييد باتباع رسلنا وإذا أردنا ﴿ أن نهلك قرية ﴾ في الزمن المستقبل ﴿ أمرنا ﴾ أي : بما لنا من القدرة التامّة الشاملة ﴿ مترفيها ﴾ أي : منعميها الذين لهم الأمر والنهي قال الأكثرون : أمرهم الله تعالى بالطاعة والخير على لسان رسله ﴿ ففسقوا فيها ﴾ أي : خرجوا عن طاعة الله ورسوله. وقال صاحب «الكشاف » : ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون إلا أنّ هذا مجاز، ومعناه أنه يفتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا. قال : والدليل على أنّ ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه أن المأمور به إنما حذف لأنّ قوله ففسقوا يدل عليه يقال أمرته فقام وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام وقراءة فكذا هنا لما قال :﴿ أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ﴾ وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني وخالفني فإنّ هذا كلام لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة لأنّا نقول : إنّ المعصية منافية للأمر ومناقضة له فيكون كونها مأموراً بها مخالفاً فلهذه الضرورة تركنا هذا الظاهر انتهى.
قال الرازي : ولقائل أن يقول كما أنّ قوله أمرته فعصاني يدل على أنّ المأمور به شيء غير المعصية من حيث إنّ المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك قوله أمرته ففسق يدل على أنّ المأمور به غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به كما أنّ كونه معصية ينافي كونها مأموراً بها فوجب أن يدل هذا اللفظ على أنّ المأمور به ليس بفسق وهذا الكلام في غاية الظهور ولم أدر لم أصرّ صاحب «الكشاف » على قوله مع ظهور فساده فثبت أنّ الحق ما ذكر الكل وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عناداً وأقدموا على الفسق ﴿ فحق عليها القول ﴾ أي : الذي توعدناهم به على لسان رسولنا ﴿ فدمرناها تدميراً ﴾ أي : أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريب ديارهم، وخص المترفين بالذكر لأنّ غيرهم يتبعهم ولأنهم أسرع إلى الحماقة وأقدر على الفجور، وقيل معناه كثرنا وروى الطبراني وغيره حديثاً :«خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة » أي : كثيرة النتاج. والسكة بكسر السين وتشديد الكاف الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة الملقحة قال ذلك الجوهري. وروي أنّ رجلاً من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرى أمرك هذا حقيراً ؟ فقال صلى الله عليه وسلم «إنه سيأمر » أي : سيكثر وسيكبر. وعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول :«لا إلى إلا الله ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بين إصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت زينب قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث » أي : الشرّ. وويل يقال لمن وقع في مهلكة أو أشرف أن يقع فيها.
وقوله تعالى :﴿ وكم أهلكنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة وبين مدلول كم بقوله تعالى :﴿ من القرون ﴾ أي : المكذبين ﴿ من بعد نوح ﴾ كعاد وثمود من الأمم الماضية يخوّف به الكفار أي : كفار مكة قال عبد الله بن أبي أوفى : القرن عشرون ومائة سنة. وقيل : مائة سنة. روي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بشر المازني أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال :«سيعيش هذا الغلام قرناً ». قال محمد بن القاسم : ما زلنا نعدّ له حتى تمت له مائة سنة، ثم مات. وقال الكلبي : القرن ثمانون سنة وقيل أربعون.
ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ وكفى بربك ﴾ أي : المحسن إليك ﴿ بذنوب عباده خبيراً بصيراً ﴾ أي : عالماً ببواطنها وظواهرها فكم من إنسان كنتم ترونه من أكابر الصالحين ثم استقرّت عاقبته على خلاف ذلك وكم من شخص ترونه مجتهداً في العبادة فإذا خلا بارز ربه بالعظائم، وتقديم الخبر لتقديم متعلقه.
ولما قرّر أنه سبحانه وتعالى عالم ببواطن عباده وظواهرهم قسمهم إلى قسمين الأوّل : قوله تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة ﴾ أي : الدنيا مقصوراً عليها همه ﴿ عجلنا له فيها ﴾ أي : العاجلة بأن نفيض عليه من منافعها ﴿ ما نشاء ﴾ أي : من البسط والتقتير ﴿ لمن نريد ﴾ أي : أن نفعل به ذلك فقيد تعالى الأمر بقيدين أحدهما تقييد المعجل بإرادته ومشيئته. والثاني : تقييد المعجل له بإرادته وهكذا الحال ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه وكثير منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة. تنبيه : لمن نريد بدل بعض من كل من الضمير في له بإعادة العامل تقديره لمن نريد تعجيله له ويقال إنّ الآية في المنافقين كانوا يراؤون المسلمين ويقرؤون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها وهذا هو المناسب لقوله تعالى :﴿ ثم جعلنا له جهنم يصلاها ﴾ أي : في الآخرة ﴿ مذموماً ﴾ أي : مفعولاً به الذم ﴿ مدحوراً ﴾ أي : مدفوعاً مطروداً مبعداً وإن ذكره البيضاوي بصيغة قيل.
ثم ذكر تعالى القسم الثاني وشرط فيه ثلاثة شروط : الأوّل : قوله تعالى :﴿ ومن أراد الآخرة ﴾ أي : أراد بعمله ثواب الآخرة فإنه إن لم ينو ذلك لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ [ النجم، ٣٩ ]. وقوله صلى الله عليه وسلم :«إنما الأعمال بالنيات ». الثاني : قوله تعالى :﴿ وسعى لها سعيها ﴾ وذلك يقتضي أن يكون ذلك العمل من باب القرب والطاعات وكثير من الضلال يتقرّبون بعبادة الأوثان ولهم فيها تأويلات، أحدها أنهم يقولون إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته ولكن غاية قدرتنا أن نشتغل بعبادة بعض المقرّبين من عباد الله بأن يشتغل بعبادة كوكب أو ملك من الملائكة ثم إن الملك أو الكوكب يشتغل بعبادة الله تعالى فهؤلاء يتقرّبون إلى الله تعالى بهذا الطريق وهذه طريقة فاسدة فلا جرم أنه لم ينتفع بها. ثانيها أنهم قالوا اتخذنا هذه التماثيل على صورة الأنبياء والأولياء والمراد من عبادتها أن تصير تلك الأنبياء والأولياء شفعاء لنا عند الله وهذا الطريق أيضاً فاسد فلا جرم لم ينتفع بها. ثالثها : أنه نقل عن أهل الهند أنهم يتقرّبون إلى الله بقتل أنفسهم تارة أخرى أنفسهم أخرى وهذه الطريقة أيضاً فاسدة فلا جرم لم ينتفع بها. وكذا القول في جميع الفرق المبطلين الذين يتقرّبون إلى الله تعالى بمذاهبهم الباطلة.
الثالث : قوله تعالى :﴿ وهو مؤمن ﴾ لأنّ الشرط في كون أعمال البرّ مقتضية للثواب هو الإيمان فإن لم يوجد لم يحصل المشروط، وعن بعض المتقدّمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب، وتلا هذه الآية.
ثم إنه تعالى أخبر عند وجود هذه الشروط بقوله تعالى :﴿ فأولئك ﴾ أي : العالو الرتبة لجمعهم الشرائط الثلاثة ﴿ كان سعيهم مشكوراً ﴾ أي : مقبولاً مثاباً عليه بالتضعيف وبعضهم يفتح له أبواب الدنيا مع ذلك كداود وسليمان عليهما السلام ويستعمله فيها بما فيه مرضاة الله تعالى وبعضهم يزويها عنه كرامة له لا هواناً به فربما كان الفقر خيراً له وأعون على مراده، فالحاصل أنها إن وجدت عند الولي لم تشرفه وإن عدمت عنه لم تحقره، وإنما التشريف وغيره عند الله تعالى بالأعمال.
تنبيه : كل من أتى بفعل إما أن يقصد به تحصيل خيرات الدنيا، وإمّا أن يقصد به خيرات الآخرة، وإمّا أن يقصد به مجموعهما، وإمّا أن لا يقصد به واحداً منهما. فإن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط فالله ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية. وأمّا القسم الثالث فيقسم إلى ثلاثة أقسام : إمّا أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً أو يكون الطلبان متعادلين، فإن كان طلب الآخرة راجحاً فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى ؟ فيه رأيان :
أحدهما أنه غير مقبول لقوله صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله تعالى أنه قال :«أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ». وأيضاً طلب رضوان الله إمّا أن يكون سبباً مستقلاً لكونه باعثاً لهم على ذلك الفعل وداعياً إليه، وإمّا أن لا يكون، فإن كان الأوّل امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء لأنّ الحكم إذا أسند لسبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه، وإن كان الثاني فيكون الداعي إلى ذلك الفعل هو المجموع، وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان الله لأنّ المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب أن يكون مغايراً لطلب رضوان الله فوجب أن لا يكون مقبولاً.
الرأي الثاني : أنه مقبول لأنّ طلب الآخرة لما كان راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فبقي القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولاً، وأمّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين أو كان طلب الدنيا راجحاً فقد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكلية عن طلب الآخرة.
وأمّا القسم الرابع وهو الإقدام على الفعل من غير داع فهذا مبنّي على أنّ صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا فالذين يقولون إنه يتوقف على حصول الداعي قالوا هذا القسم ممتنع الحصول والذين قالوا لا يتوقف قالوا هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث.
ثم إنه تعالى قال :﴿ كلاًّ ﴾ أي : من الفريقين مريد الدنيا ومريد الآخرة ﴿ نمدّ ﴾ أي : بالعطاء ثم أبدل من كلاً قوله تعالى ﴿ هؤلاء ﴾ أي : الذين طلبوا الدنيا نمدّ ﴿ وهؤلاء ﴾ أي : الذين طلبوا الآخرة نمدّ ﴿ من عطاء ربك ﴾ أي : المحسن إليك إن ضيق على مؤمن فبالحماية من الدنيا الفانية التي إنما هي لعب ولهو وإن وسع فبالاستعمال فيها على حسب ما يرضيه ﴿ وما كان عطاء ربك ﴾ أي : الموجد لك المدبر لأمرك ﴿ محظوراً ﴾ أي : ممنوعاً في الدنيا عن مؤمن ولا كافر بل هو ملء السهل والجبل من الذهب والفضة والحديد والنحاس والجواهر والثمار وأقوات الناس والبهائم وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى حتى لو اجتمع كل الناس على جمعه ليلاً ونهاراً ولم يكن لهم شغل سوى ذلك لأعياهم ولم يقدروا عليه فسبحان الجواد المعطي المانع.
ثم إنه تعالى أمر بالنظر في عطائه هذا على وجه مرغب في الآخرة مزهد في الدنيا بقوله تعالى :﴿ انظر ﴾ أي : أيها الإنسان أو يا محمد ﴿ كيف فضلنا بعضهم على بعض ﴾ فأوسعنا على مؤمن وقترنا على مؤمن آخر وأوسعنا على كافر وقترنا على كافر آخر وبين سبحانه وتعالى وجه الحكمة في التفاوت في سورة الزخرف بقوله تعالى :﴿ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ﴾ [ الزخرف، ٣٢ ]
الآية. وقال تعالى في آخر سورة الأنعام :﴿ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ﴾ [ الأنعام، ٦٥ ].
تنبيه : كيفَ : نصب إمّا على التشبيه بالظرف وإما على الحال وهي معلقة لا نظر بمعنى فكر أو أبصر. ولما نبه تعالى على أن ما نراه من التفضيل إنما هو بمحض قدرته أخبر أنّ ما بعد الموت كذلك بقوله تعالى :﴿ وللآخرة أكبر ﴾ أي : أعظم ﴿ درجاتٍ وأكبر تفضيلاً ﴾ من درجات الدنيا ومن تفضيلها فإنّ نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا فإن كان الإنسان تشتدّ رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب الآخرة أحرى لأنها دار المقامة. روي أنّ قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله تعالى عنه فخرج الأذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمرو : إنما أوتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة.
ولما بيّن تعالى أنّ الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العذاب ومنهم من يريد طاعة الله وهم أهل الثواب، ثم شرط في ذلك ثلاثة شروط فصل تلك المجملات وبدأ أولاً بشرح حقيقة الإيمان وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشريك والأضداد بقوله تعالى :﴿ لا تجعل مع الله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿ إلها آخر ﴾ قيل الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، والأولى أنه للإنسان فيكون خطاباً عامّاً لكل من يصلح أن يخاطب به. ﴿ فتقعد ﴾ أي : فيتسبب عن ذلك أن تقعد أي : تصير في الدنيا قبل الآخرة ﴿ مذموماً مخذولاً ﴾ لأنّ المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذمّ والخذلان ولأنه قد ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر إلا الله تعالى فحينئذ تكون جميع النعم حاصلة من الله تعالى فمن أشرك بالله فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير الله فاستحق الذمّ والخذلان.
تنبيه : قال الواحدي : قوله تعالى :﴿ فتقعد ﴾ انتصب لأنه وقع بعد الفاء جواباً للنهي وانتصابه بإضمار أن كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك والتقدير لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدّمة بحرف الفاء وإنما سماه النحويون جواباً لكونه مشابهاً للجزاء وأنّ الثاني مسبب عن الأوّل كما تقرّر.
ولما ذكر تعالى ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائعه وذلك أنواع الأوّل أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى ويتحرّز عن عبادة غيره وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ وقضى ﴾ أي : أمر ﴿ ربك ﴾ أي : المحسن إليك وقوله تعالى :﴿ أن لا تعبدواً ﴾ أي : أنت وجميع أهل دعوتك وهم جميع الناس ﴿ إلا إياه ﴾ فيه وجوب عبادة الله تعالى والمنع من عبادة غيره لأنّ العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده ولا منعم إلا الله تعالى فكان هو المستحق للعبادة لا غيره.
تنبيه : روى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرئ وقضى ربك ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأنّ خلاف قضاء الله ممتنع وهذا القول كما قاله الرازي بعيد جدّاً إذ لو فتح هذا الباب لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين ويندفع ما قاله بما فسر قضى به. ولما أمر تعالى بعبادة نفسه أتبعه بالأمر ببر الوالدين بقوله تعالى :﴿ وبالوالدين ﴾ أي : وأحسنوا أي : وأوقعوا الإحسان بهما. ﴿ إحساناً ﴾ أي : بأن تبروهما ليكون الله معكم فإنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
تنبيهان : أحدهما المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى والأمر ببر الوالدين من وجوه الأوّل أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده والسبب الظاهر هو الأبوان فأمر الله تعالى بتعظيم السبب الحقيقي ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري. الثاني : أنّ الموجود إمّا قديم وإمّا محدث ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الموجود القديم بالتعظيم والعبودية ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وأحق الخلق بالشفقة الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان » فقوله تعالى :﴿ وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ﴾ إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى. وقوله تعالى :﴿ بالوالدين إحساناً ﴾ إشارة إلى الشفقة على خلق الله. الثالث : أنّ الاشتغال بشكر المنعم واجب ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى وقد يكون بعض المخلوقين منعماً عليك وشكره أيضاً واجب لقوله صلى الله عليه وسلم :«من لم يشكر الناس لم يشكر الله »، وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل الأبوين لأن الولد قطعة من الوالدين قال صلى الله عليه وسلم «فاطمة بضعة مني » وأيضاً شفقة الوالدين على الولد عظيمة وإيصال الخير إلى الولد منهما أمر طبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه أمر طبيعي أيضاً فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة بل هي أكبر من كل نعمة تصل من الإنسان إلى الإنسان وأيضاً حال ما يكون الإنسان في غاية الضعف ونهاية العجز يكون إنعام الأبوين في ذلك الوقت واصلاً إلى الولد، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه كان موقعه عظيماً وأيضاً فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فكان الإنعام فيه أتم وأكمل فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق وهو قوله تعالى :﴿ وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ﴾ ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله تعالى :﴿ وبالوالدين إحساناً ﴾. فإن قيل : الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهماً فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخالفات فأي : إنعام للأبوين على الولد، حتى أنّ بعض المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة وقيل لأبي العلاء المعري ماذا نكتب على قبرك فقال : اكتبوا على قبري : هذا جناية أبي علي وما جنيت على أحد. وقال في ترك التزوج والولد :
وتركت فيهم نعمة العدم التي فيهم لقد سبقت نعيم العاجل
ولو أنهم ولدوا لعانوا شدّة ترمي بهم في موبقات الآجل
وقيل لإسكندر : أستاذك أعظم منة عليك أم والدك ؟ فقال : أستاذي أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد عند تعليمي فأوقعني في نور العلم، وأمّا الوالد فإن طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد. ومن الكلمات المأثورة المشهورة خير الآباء من علمك. أجيب : بأنه وإن كان في أوّل الأمر طلب لذة الوقاع إلا أنّ الاهتمام بإيصال الخيرات إليه ودفع الآفات عنه من أوّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهات الخيرات والمبرات فسقطت تلك الشبهات.
التنبيه الثاني : أن لفظ الآية يدل على معان كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين منها أنه تعالى قال في الآية المتقدمة :﴿ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً ﴾ ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة وجعل من جملتها البر بالوالدين، وذلك يدل على أنّ هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة، ومنها أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى وثلث ببر الوالدين، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة منها أنه تعالى لم يقل وإحساناً بالوالدين بل قال ﴿ وبالوالدين إحساناً ﴾ فتقديم ذكرهما يدل على شدّة الاهتمام بهما. ومنها أنه تعالى قال :﴿ إحساناً ﴾ بلفظ التنكير، والتنكير يدل على التعظيم أي : إحساناً عظيماً كاملاً لأنّ إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ثم على جميع التقديرات لا تحصل المكافأة لأن إنعامهما عليك على سبيل الابتداء. وفي الأمثال المشهورة أنّ البادئ بالبرّ لا يكافأ.
ولما كان سبحانه وتعالى عليماً بما في الطباع من ملال الولد لهما عند أخذهما في السنّ قال تعالى :﴿ إما ﴾ مؤكداً بإدخال ما على إن الشرطية لزيادة التقرير للمعنى اهتماماً بشأن الوالدين ﴿ يبلغن عندك الكبر ﴾ أي : كأن يضطرا إليك في حالة الضعف والعجز فلا يكون لهما كافل غيرك فيصيرا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوّله ﴿ أحدهما أو كلاهما ﴾. وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الغين وكسر النون فالألف ضمير الوالدين لتقدّم ذكرهما وأحدهما بدل منه أو كلاهما عطف عليه فاعلاً أو بدلاً. فإن قيل : هلا كان كلاهما توكيداً لا بدلاً أجيب : بأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيد الاثنين فوجب أن يكون مثله. فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون أحدهما بدلاً وكلاهما توكيداً ويكون ذلك عطفاً للتوكيد على البدل ؟ أجيب : بأنّ العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلاً والآخر توكيداً خلاف الأصل، وقرأ الباقون بغير ألف وفتح النون والإعراب على هذا ظاهر، وجميع القرّاء يشدّدون النون.
ثم أنه تعالى أمر الإنسان في حق والديه بخمسة أشياء : الأوّل منها قوله تعالى :﴿ فلا تقل لهما أفّ ﴾ أي : لا تتضجر منهما قال الزجاج : أف معناه النتن وهذا قول مجاهد لأنه قال معنى قوله ﴿ فلا تقل لهما أف ﴾ أي : لا تتقذرهما كما أنهما كانا لا يتقذران منك حين كنت تخرأ وتبول. وفي رواية أخرى عن مجاهد إذا وجدت منهما رائحة توذيك ﴿ فلا تقل لهما أفّ ﴾ فلقد بالغ سبحانه وتعالى بالوصية بهما حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخِّص في أدنى كلمة تنفلت من التضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في الاستطاعة وقد قال صلى الله عليه وسلم :«إياكم وعقوق الوالدين فإنّ الجنة يوجد ريحها مع مسيرة ألف عام، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زانٍ، ولا جارّ إزاره خيلاء، إن الكبرياء لله رب العالمين ». وسئل الفضيل بن عياض عن برّ الوالدين فقال : لا يقوم إلى خدمتهما عن كسل. وقرأ نافع وحفص بالتنوين في الفاء مع الكسر وابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين، والباقون بكسر الفاء من غير تنوين.
الثاني قوله تعالى :﴿ ولا تنهرهما ﴾ أي : لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره. قال تعالى :﴿ وأمّا السائل فلا تنهر ﴾ [ الضحى، ١٠ ]. فإن قيل : المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بالأولى فما فائدة ذكره ؟ أجيب : بأن المراد بالمنع من التأفيف المنع من إظهار الضجر بالقليل والكثير والمراد من منع الانتهار المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الردّ عليهما والتكذيب لهما.
الثالث قوله تعالى :﴿ وقل لهما قولاً كريماً ﴾ أي : حسناً جميلاً طيباً ليناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هو أن يقول يا أبتاه يا أمّاه. وسئل سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن القول الكريم فقال : هو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. وعن عطاء أنه قال : هو أن يتكلم معهما بشرط أن لا يرفع إليهما بصره ولا يشتد إليهما نظره وذلك أنّ هذين الفعلين ينافيان القول الكريم. فإن قيل : إبراهيم الخليل عليه السلام قال لأبيه :﴿ إني أراك وقومك في ضلال مبين ﴾ [ الأنعام، ٧٤ ] مع أنه عليه السلام من أعظم الناس أدباً وحلماً وكرماً ؟ أجيب : بأن حق الله تعالى مقدّم على حق الأبوين فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديماً لحق الله تعالى.
والرابع قوله تعالى :﴿ واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة ﴾ أي : لا من أجل الامتثال للأمر وخوف العار فقط بل من أجل الرحمة لهما بأن لا تزال تذكر نفسك بالأوامر والنواهي وبما تقدّم لهما من الإحسان إليك والمقصود المبالغة في التواضع وهذه استعارة بليغة. قال القفال : وفي تقريره وجهان :
الأوّل أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن جنس التربية فكأنه قال للولد أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك، كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
والثاني أنّ الطائر إذا أراد الطيران نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع وإذا أراد ترك الطيران خفض جناحيه ولم يرفع فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع واللين. فإن قيل : كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له ؟ أجيب : بوجهين : الأوّل : أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال حاتم الجود فكما أنّ المراد هناك حاتم الجواد فكذا هنا المراد اخفض لهما جناحك الذليل، الثاني : أنّ مدار الاستعارة على الخيلان فهنا تخيل للذل جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً وللقرة زماماً في قوله :
وغداة ريح قد كشفت وقرة إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فأثبت للشمال يداً وللقرة زماماً ووضع زمامها في يد الشمال فكذا هنا ومن ظريف ما حكي أنّ أبا تمام لما نظم قوله :
لا تسقني ماء الملام فإنني صبّ قد استعذبت ماء بكائي
جاءه رجل بقصعة وقال له : اعطني شيئاً من ماء الملام فقال له : حتى تأتيني بريشة من جناح الذل يريد أنّ هذا مجازاً استعاره لذلك وقال بعضهم :
راشوا جناحي ثم بلوه بالندى فلم أستطع من حبهم أن أطيرا
الخامس قوله تعالى :﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ﴾ أي : لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك هذا إذا كانا مسلمين، فإن كانا كافرين فإنّ الدعاء لهما بالرحمة منسوخ بقوله تعالى :﴿ ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ﴾ [ التوبة، ١١٣ ] بل يدعو الله تعالى لهما بالهداية والإرشاد فإذا هداهما فقد رحمهما. وسئل بعضهم عن برّ الوالدين فقال : لا ترفع صوتك عليهما ولا تنظر إليهما شزراً ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا. وتدعو لهما إذا ماتا وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«من أبرّ البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه ».
تنبيه : قد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها ما روي عن أبي هريرة أنه قال :«جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله من أحسن الناس بصحبتي ؟ فقال : أمّك ثم أمّك ثم أبوك ثم أبوك ثم أدناك فأدناك ». ومنها عنه أيضاً أنه قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أرغم الله أنفه أرغم الله أنفه أرغم الله أنفه. قيل : من يا رسول الله ؟ قال : من أدرك والديه أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة ». ومنها ما روي عنه أيضاً أنه قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه ». ومنها ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال :«جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد. فقال : أحيّ والداك ؟ قال : نعم. قال : ففيهما فجاهد ». ومنها ما رواه الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين ». ومنها ما «روي عن أبي الدرداء أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ إن شئت أو ضيِّع ». ومنها ما «روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : الصلاة على وقتها قلت : ثم أيّ ؟ قال : برّ الوالدين. قلت : ثم أيّ ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ». وسئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال : ذلك واصل إليه ولا شيء أنفع لهم من الاستغفار ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الوالدين. ولقد كرّر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الوصية بالوالدين. ومنها ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما ». ومنها ما روي عن سعيد بن المسيب أنّ البارّ بوالديه لا يموت ميتة سوء. ومنها ما «روي أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أبويّ بلغا من الكبر أنى ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما قال : لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما ». ومنها ما رواه أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ، ورغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك أبويه الكبر فلم يدخلاه الجنة ». ومنها ما روي «أنّ رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأنه يأخذ ماله فدعاه فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال : إنه كان ضعيفاً وأنا قويّ وفقيراً وأنا غنيّ فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي واليوم أنا ضعيف وهو قويّ وأنا فقير وهو غنيّ ويبخل عليّ بماله فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما من حجر ولا مدر يسمع بهذا إلا بكى ثم قال للولد : أنت ومالك لأبيك ». وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال :«لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر قال : إنها سيئة الخلق قال : لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين قال : إنها سيئة الخلق. قال : لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها واظمأت لك نهارها قال : لقد جازيتها. قال : ما فعلت ؟ قال : حججت بها على عنقي. قال : ما جزيتها ». وعن ابن عمر أنه رأى رجلاً في الطواف يحمل أمّه ويقول :
أنا لها مطية لا تذعر إذا الركائب نفرت لا تنفر
ما حملت وأرضعتني أكثر الله ربي ذو الجلال الأكبر
تظنني جزيتها يا ابن عمر قال : لا، والله ولا زفرة واحدة.
ولما كان ما ذكر في حق الوالدين عسراً جدّا يحذر من التهاون به أشار بقوله تعالى :﴿ ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم في الحقيقة فإنه هو الذي عطف عليكم من يربيكم وهو الذي أعانهم على ذلك ﴿ أعلم ﴾ أي : من كل أحد ﴿ بما في نفوسكم ﴾ من قصد البرّ بهما وغيره، فلا يظهر أحدكم غير ما يبطن فإنّ ذلك لا ينفعه ولا ينجيه إلا أن يحمل نفسه على ما يكون سبباً لرحمتهما ﴿ إن تكونوا صالحين ﴾ أي : متقين محسنين في نفس الأمر والصلاح استقامة الفعل على ما يدعو الدليل إليه. وأشار تعالى إلى أنه لا يكون ذلك إلا بمعالجة النفس وترجيعها كرة بعد كرّة بقوله تعالى :﴿ فإنه كان للأوابين ﴾ أي : الرجاعين إلى الخير مرّة إثر مرّة بعد جماح أنفسهم عنه ﴿ غفوراً ﴾ أي : بالغ الستر بمن وقع منه تقصير فرجع عنه فإنه مغفور له.
ولما حث تعالى على الإحسان للوالدين بالخصوص عمّ بالأمر بالإحسان لكل ذي قرابة ورَحِمٍ وغيره بقوله تعالى :﴿ وآت ذا القربى ﴾ من جهة الأب والأمّ وإن بعد ﴿ حقه ﴾ والخطاب لكل أحد أن يؤتي أقاربه حقوقهم من صلة الرحم والمودّة والزيارة وحسن المعاشرة والمعاضدة ونحو ذلك. وقيل إن كانوا محتاجين ومحاويج وهو موسر لزمه الإنفاق عليهم عند الإمام أبي حنيفة وقال الشافعيّ : لا يلزم إلا نفقة الوالد على ولده والولد على والده فقط، وقيل المراد بالقرابة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ و ﴾ آت ﴿ المسكين ﴾ حقه وإن لم يكن قريباً ﴿ و ﴾ آت ﴿ ابن السبيل ﴾ وهو المسافر المنقطع عن ماله ليكون متقياً محسناً.
ولما رغب تعالى في البذل وكانت النفس قلما يكون فعلها قواماً بين الإفراط والتفريط أتبع ذلك بقوله تعالى :﴿ ولا تبذر ﴾ بتفريق المال سرفاً وهو بذله فيما لا ينبغي وقد كانت الجاهلية تبذر أموالها في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها فأمر الله تعالى بالنفقة في وجوهها مما يقرب منه ويزلف إليه وفي قوله تعالى :﴿ تبذيراً ﴾ تنبيه على أنّ الارتفاع نحو ساحة التبذير أولى من الهبوط إلى مضيق الشح والتقتير والتبذير بسط اليد في المال على حسب الهوى. وقد سئل ابن مسعود عن التبذير فقال : إنفاق المال في غير حقه، وأمّا الجود فهو اتباع أمر الله تعالى في حقوق المال. وعن مجاهد لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيراً ولو أنفق مدّا في باطل كان تبذيراً وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في السرف فقال : لا سرف في الخير. وعن عبد الله بن عمر قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال :«ما هذا السرف يا سعد ؟ قال : أوفي الوضوء سرف ؟ قال : نعم وإن كنت على نهر جار ».
ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين بقوله تعالى :﴿ إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين ﴾ أي : على طريقتهم أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف أو هم قرناؤهم وهم في النار على سبيل التوعد، ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان بقوله تعالى :﴿ وكان الشيطان ﴾ أي : هذا الجنس البعيد من كل خير المحترق بكل شرّ ﴿ لربه ﴾ أي : الذي أحسن إليه بإيجاده وتربيته ﴿ كفوراً ﴾ أي : ستوراً لما يقدر على ستره من آياته الظاهرة ونعمته الباهرة مع الحجة فلا ينبغي أن يطاع لأنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله.
قال بعض العلماء : خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في الخيلاء والتفاخر وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدّوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أفعالهم في هذا الباب.
وقوله تعالى :﴿ وإمّا تعرضنّ عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ﴾ نزل في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب وكانوا يسألون النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك لانتظار رزق من الله يرجوه أن يأتيه فيعطيه ﴿ فقل لهم ﴾ أي : في حالة الإعراض ﴿ قولاً ميسوراً ﴾ أي : ذا يسر يشرح صدروهم ويبسط رجاءهم لأنّ ذلك أقرب إلى طريق المتقين المحسنين. قال أبو حيان : روي أنه عليه الصلاة والسلام كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل يقول :«يرزقنا الله تعالى وإياكم من فضله » انتهى. وقد وقع هذا الابتغاء موضع الفقد لأنّ فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبباً للابتغاء والابتغاء مسبباً عنه فوضع المسبب موضع السبب، ثم أمر تعالى نبيَّه بما وصف له عباده المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان بقوله تعالى :﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ﴾ [ الفرقان، ٦٧ ] فقال تعالى :﴿ ولا تجعل يدك ﴾.
﴿ ولا تجعل يدك ﴾ أي : بالبخل ﴿ مغلولة ﴾ أي : كأنها بالمنع مشدودة بالغل ﴿ إلى عنقك ﴾ أي : لا تستطيع مدّها أي : لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، والمعنى لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط ﴿ ولا تبسطها ﴾ بالبذل ﴿ كل البسط ﴾ فتبذر بحيث لا يبقى في يدك شيء. ذكر الحكماء في كتب الأخلاق أنّ لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان والخلق الفاضل هو العدل والوسط، فالبخل إفراط في الإمساك والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان والمعتدل هو الوسط. وعن جابر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيّ فقال : يا رسول الله إنّ أمي تستكسيك درعاً أي : قميصاً ولم يكن لرسول. الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه فقال للصبيّ :«من ساعة إلى ساعة ». هذا متعلق بمحذوف، أي : أخر سؤالك من ساعة ليس لنا فيها درع إلى ساعة يظهر لنا فيها درع فعد إلينا فذهب إلى أمّه فقالت له : قل له إنّ أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزع قميصه فأعطاه وقعد عرياناً أي : في إزار ونحوه فأذن بلال بالصلاة فانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عرياناً. فأنزل الله تعالى ﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ﴾ ». فتعطي جميع ما عندك.
تنبيه : ما ذكرته عن جابر تبعاً «للكشاف » والبيضاوي والرازي وغيرهم قال الوليّ العراقي : لم أقف عليه وكذا قال الحافظ ابن حجر وقد يقال من حفظ حجة على من لم يحفظ.
﴿ فتقعد ﴾ أي : توجد كالمقعد ﴿ ملوماً ﴾ أي : بليغ الرسوخ فيما يلام بسببه عند الله لأنّ ذلك مما نهى الله عنه عند نفسك وعند الناس لأنه يلوم نفسه وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المال بالكلية. ﴿ محسوراً ﴾ أي : منقطعاً بك لذهاب ما تقوى به. قال القفال : شبه حال من أنفق كل ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته لأنّ ذلك المقدار من المال كأنه مطية تحمل الإنسان إلى آخر الشهر والسنة، كما أنّ ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزاً متحيراً فكذلك الإنسان إذا أنفق مقدار ما يحتاج إليه في مدّة شهر في أقل منه بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ومن فعل ذلك لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره وترك الحرم في مهمات معاشه.
ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ إن ربك ﴾ أي : المحسن إليك ﴿ يبسط الرزق ﴾ أي : بوسعه ﴿ لمن يشاء ﴾ البسط دون غيره ﴿ ويقدر ﴾ أي : يضيقه سواء قبض يده أم بسطها لأنّ الرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ورفع درجاته على مقدار الصلاح في الصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض، لأنّ ذلك هو الصلاح قال تعالى :﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء ﴾ [ الشورى، ٢٧ ]. ﴿ إنه كان بعباده خبيراً ﴾ أي : بالغ الخبر ﴿ بصيراً ﴾ أي : بالغ البصر بما يكون من كل من القبض والبسط لهم مصلحة ومفسدة فالتفاوت في أنه ربى العباد ليس لأجل بخل بل لأجل رعاية مصلحة لا يعلم بها العبد فسبحان المتصرف في عباده كيف يشاء.
ولما أتم سبحانه وتعالى الوصية بالأصول وما يتبع ذلك أوصى بالفروع بقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم ﴾ فذكرهم بلفظ الولد الذي هو داعية إلى الحنو والعطف ﴿ خشية إملاق ﴾ أي : فقر متوقع لم يقع بعد ثم وصل بذلك استئنافاً بقوله تعالى :﴿ نحن نرزقهم وإياكم ﴾ مقدّماً ضمير الأولاد لكون الإملاق مترقباً من الإنفاق عليهم ثم علل تعالى ذلك بما هو أعم منه فقال تعالى :﴿ إن قتلهم ﴾ أي : مطلقاً لهذا أو لغيره ﴿ كان خطأ ﴾ أي : إثماً ﴿ كبيراً ﴾ أي : عظيماً وقرأ ابن كثير بفتح الطاء ومدّ بعدها مدّاً متصلاً، وقرأ ابن ذكوان بفتح الخاء والطاء ولا مدّ بعد الطاء والباقون بكسر الخاء وسكون الطاء. قال الرمانيّ : الخطء بكسر ثم سكون لا يكون إلا تعمداً إلى خلاف الصواب والخطأ أي : محركاً قد يكون من غير تعمد.
وإنما وجب بر الأولاد لأمور : أحدها أنهم في غاية الضعف ولا كافل لهم غير الوالدين وإنما وجب برّ الوالدين مكافأة لما صدر منهما من أنواع البر إلى الولد. الثاني أنّ امتناع الآباء من البرّ بالأولاد يقتضي خراب العالم.
الثالث : أنّ قرابة الولادة قرابة الجزئية والبعضية وهي من أعظم الموجبات للمحبة فلو لم تحصل المحبة دل ذلك على غلظ شديد في الروح وقسوة في القلب، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة فرغب الله تعالى في الإحسان إلى الأولاد إزالة لهذه الخصلة الذميمة وعبر تعالى بالأولاد ليشمل الإناث، فإنّ العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على النهب والغارة عليهم وأيضاً كانوا يخافون أنهنّ بعد كبرهنّ تفقد أكفاؤهنّ فيحتاجون إلى إنكاحهنّ من غير أكفاء وفي ذلك عار شديد فنهاهم الله تعالى عن ذلك فإنّ الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولداً وهذا المعنى وصف مشترك بين الذكور والإناث وأما ما يخاف من الفقر في البنات فقد يخاف مثله في الذكور في حال الصغر وقد يخاف أيضاً في العاجزين من البنين، وكما أنه سبحانه وتعالى يفتح أبواب الرزق على الذكور فكذلك على الإناث.
ولما كان في قتل الأولاد حظ من البخل وفي فعل الزنا داع من الإسراف أتبعه به فقال تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنا ﴾ أدنى قرب ولو بفعل شيء من مقدماته وإنما أتى تعالى بالقربان تعظيماً له لما فيه من المفاسد الجارّة إلى الفتن بالقتل وتضييع النسب والتسبب في إيجاد نفس بالباطل وغير ذلك ثم علل تعالى النهي عن ذلك بقوله تعالى مؤكداً إبلاغاً في التنفير عنه لما للنفس من شدّة الداعية إليه. ﴿ إنه كان فاحشة ﴾ أي : فعله ظاهرة القبح زائدته وقد نهاكم الله تعالى عن الفحشاء في قوله تعالى :﴿ إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء ﴾ [ النحل، ٩٠ ] الآية. ﴿ وساء ﴾ أي : وبئس الزنا ﴿ سبيلاً ﴾ أي : طريقاً طريقه.
ثم نهى سبحانه وتعالى عن القتل مطلقاً عن التقييد بالأولاد بغير حق بقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله ﴾ أي : بالإسلام والعهد ﴿ إلا بالحق ﴾ وهو المبيح للقتل، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ؛ رجل كفر بالله بعد إيمانه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفساً بغير حق ». ومثل انتقال المسلم من دين الإسلام إلى دين الكفر انتقال كافر من دين إلى دين آخر سواء كان ذلك الدين يقرّ عليه أم لا، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ [ التوبة، ٢٩ ] وقوله تعالى :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا ﴾ [ المائدة، ٣٣ ]. واختلف الفقهاء في أشياء غير ذلك منها أنّ تارك الصلاة كسلاً هل يقتل فعند الشافعيّ يقتل بشروط معلومة، وعند أبي حنيفة لا يقتل التارك كالزاني. ومنها أنّ عمل اللواط هل يوجب القتل فعند الشافعيّ يوجب قتل الفاعل كالزاني، وعند أبي حنيفة لا يوجبه. ومنها أنّ الساحر إذا قال قتلت فلاناً بسحري عمداً هل يوجب القتل فعند الشافعيّ يوجبه وعند أبي حنيفة لا يوجبه. ومنها أنّ القتل بالمثقل هل يوجب القصاص فعند الشافعيّ يوجب وعند أبي حنيفة لا يوجب. ومنها الامتناع من أداء الزكاة هل يوجب القتل اختلفوا فيه في زمان أبي بكر رضي الله عنه. ومنها أنّ إتيان البهيمة هل يوجب القتل فعند أكثر الفقهاء لا يوجب وعند قوم يوجبه ولكل ممن ذكر أدلة يستدل بها رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ثم قال تعالى :﴿ ومن قتل مظلوماً ﴾ أي : بأي : ظلم كان من غير أن يرتكب ما يبيح قتله ﴿ فقد جعلنا لوليه ﴾ أي : سواء كان قريباً أم بعيداً ﴿ سلطاناً ﴾ أي : أمراً متسلطاً به. وقوله تعالى :﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ قرأ حمزة والكسائيّ بالتاء على الخطاب أي : أيها الوليّ والباقون بالياء على الغيبة أي : الوليّ وفسر الإسراف بوجوه الأول : أن يقتل القاتل وغير القاتل وذلك أنّ أولياء المقتول كانوا إذا قتل واحد من قبيلة شريفة قتلوا خلقاً من القبيلة الدنيئة فنهى الله تعالى عنه وحكم بقتل القاتل وحده. الثاني : أنّ الإسراف هو أن لا يرضى بقتل القاتل فإنّ الجاهلية كانوا يقصدون أشرف القبائل ثم يقتلون منهم قوماً معينين ويتركون القاتل. الثالث : أنّ الإسراف هو أن لا يكتفي بقتل القاتل بل يقتله ثم يمثل به ويقطع أعضاءه، قال القفال : ولا يبعد حمله على الكل لأنّ حمله على هذه المعاني مشترك في كونها إسرافاً. واختلف في رجوع الهاء إلى ماذا في قوله تعالى :﴿ إنه كان منصوراً ﴾ فقال مجاهد : راجعة إلى المقتول في قوله تعالى :﴿ ومن قتل مظلوماً ﴾ أي : أنّ المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله، وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله. وقال قتادة : راجعة لوليّ المقتول، أي : أنه منصور على القاتل باستيفاء القصاص أو الدية فليكتف بهذا القدر ولا يطمع في الزيادة، وقيل راجعة إلى القاتل الظالم أي : أن القاتل يكتفي منه باستيفاء القصاص ولا يطلب منه زيادة لأنه منصور من عند الله تعالى في تحريم طلب الزيادة منه أو أنه إذا عوقب في الدنيا بأزيد مما فعل نصر في الآخرة. وقيل راجعة إلى الدم وقيل إلى الحق.
ولما ذكر تعالى النهي عن إتلاف النفوس أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال لأنّ أعز الأشياء بعد النفوس الأموال وأحق الناس بالنهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم لأنه لصغره وضعفه وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله، فلهذا السبب خصهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم بقوله تعالى :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم ﴾ عبر بالقربان الذي هو قبل الأخذ تعظيماً للمقام فهو أبلغ من قوله تعالى :﴿ ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً ﴾ [ النساء، ٦ ] وفي تفسير قوله تعالى :﴿ إلا بالتي هي أحسن ﴾ وجهان الأوّل إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره. الثاني : روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : إذا أحتاج أكل بالمعروف وإذا أيسر قضاه، فإن لم يوسر فلا شيء عليه، والوليّ تبقى ولايته على اليتيم. ﴿ حتى يبلغ أشدّه ﴾ وهو إيناس الرشد منه بعد بلوغه كما بين تعالى ذلك في آية أخرى وهي قوله تعالى :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ [ النساء، ٦ ]. ولما نهى سبحانه وتعالى عن ثلاثة أشياء وهي الزنا والقتل وأكل مال اليتيم أتبعها بثلاثة أوامر الأوّل قوله تعالى :﴿ وأوفوا بالعهد ﴾ أي : إذا عاهدتم الله تعالى على فعل المأمورات وترك المنهيات أو الناس على فعل أو قول جائز وفي تفسير قوله تعالى :﴿ إن العهد كان مسؤولاً ﴾ وجوه الأوّل : أن يراد أنّ صاحب العهد كان مسؤولاً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله تعالى :﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف، ٨٢ ]. ثانيها :﴿ أنّ العهد كان مسؤولاً ﴾ أي : مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي. ثالثها : أن يكون هذا تخييلاً كأن يقال للعهد لم نكثت وهلا أوفى بك تبكيتاً للناكث كما يقال للموؤدة ﴿ بأي ذنب قتلت ﴾ [ التكوير، ٩ ]. وكقوله تعالى لعيسى عليه السلام :﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ﴾ [ المائدة، ١١٦ ] والمخاطبة لعيسى عليه السلام والإنكار على غيره.
الأمر الثاني : قوله تعالى :﴿ وأوفوا الكيل إذا كلتم ﴾ أي : لغيركم فإن كلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم تفوا الكيل. الأمر الثالث : قوله تعالى :﴿ وزنوا ﴾ أي : وزناً متلبساً ﴿ بالقسطاس ﴾ أي : ميزان العدل الذي هو أقوم الموازين وزاد في تأكيد معناه فقال :﴿ المستقيم ﴾ دون شيء من الحيف.
تنبيه : القسطاس رومي عرب ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لأنّ الأعجمي إذا استعملته العرب وأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف والتنكير ونحوها صار عربياً وقرأ حفص والكسائي وحمزة بكسر القاف والباقون بضمها. ﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر العالي الرتبة الذي أخبرناكم به من الإيفاء بالتمام والكمال ﴿ خير ﴾ لكم في الدارين الدنيا والآخرة من التطفيف بالكيل أو الوزن من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة وإن تراءى لكم أن التطفيف خير ﴿ وأحسن تأويلاً ﴾ أي : عاقبة في الدارين، أما في الدنيا فلأنه اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل وكم رأينا من الفقراء من اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة انقلبت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة لهم، وأمّا في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم والتأويل وهو تفعيل من الأول وهو الرجوع أو أفعل التفضيل هنا لاستعمال النصفة بإرخاء العنان أي : على تقدير أن يكون في كل منهما خير فهذا المعنى الذي ذكرناه أزيد خيراً والعاقل لا يرضى لنفسه بالدون.
ولما شرح الله تعالى الأوامر الثلاثة عاد إلى ذكر النواهي فنهى عن ثلاثة أشياء أوّلها قوله تعالى :﴿ ولا تقف ﴾ أي : لا تتبع أيها الإنسان ﴿ ما ليس لك به علم ﴾ من قول أو فعل وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوماً وهو قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة، واختلف المفسرون فيها فقال ابن عباس : لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك. وقال قتادة : لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم. وقيل المراد النهي عن القذف، وقيل المراد النهي عن الكذب. وقيل المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم وتقليد أسلافهم لأنّ الله تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال تعالى :﴿ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظنّ وما تهوى الأنفس ﴾ [ النجم، ٢٣ ]. وقيل القفو هو البهت وأصله من القفا كأنه يقال خلفه وهو في معنى الغيبة. قال صلى الله عليه وسلم :«من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله تعالى في ردغة الخبال » رواه الطبراني وغيره وردغة بسكون الدال وفتحها عصارة أهل النار. وقال الكميت :
ولا أرمي البريء بغير ذنب ولا اقفو الحواصن إن قفينا
ببناء قفينا للمفعول والحواصن النساء العفائف واللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقييد.
تنبيه : يقال قفوت أثر فلان أقفوا إذا اتبعت أثره، وسميت قافية الشعر قافية لأنّ البيت يقفو البيت وسميت القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقفاء الناس أو آثار أقدامهم ويستدلون بها على أحوال الناس. وقال تعالى :﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا ﴾ [ الحديد، ٢٧ ] وسمي القفا قفاً لأنه مؤخر بدن الإنسان فإن مشى يتبعه ويقفوه. فإن قيل : إنّ هذه الآية تدلّ على منع القياس فإنه لا يفيد إلا الظنّ والظنّ مغاير للعلم ؟ أجيب : بأن ذلك عام دخله التخصيص فإنّ الحكم في الدين بمجردّ الظنّ جائز بإجماع الأمة وبأنّ المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند سواء كان قطعياً أم ظنياً واستعماله بهذا المعنى شائع ذائع وقد استعمل في مسائل كثيرة منها أنّ العمل بالفتوى عمل بالظنّ، ومنها أنّ العمل بالشهادة عمل بالظنّ، ومنها الاجتهاد في طلب القبلة ولا يفيد إلا الظنّ، ومنها قيم المتلفات وأرش الجنايات لا سبيل إليهما إلا بالظنّ، ومنها الفصد والحجامة وسائر المعالجات تبنى على الظنّ، ومنها بعث الحكمين في الشقاق. قال تعالى :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ﴾ [ النساء ٣٥ ] وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم، ومنها الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمناً مظنون وينبني على هذا الظنّ أحكام كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين، ومنها الاعتماد على صدق الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون. وقال صلى الله عليه وسلم «نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ». وذلك تصريح بأنّ الظنّ معتبر فبطل قول من يقول أنه لا يجوز بناء الأمر على الظنّ، ثم علل تعالى النهي مخوّفاً بقوله تعالى :﴿ إن السمع والبصر ﴾ وهما طريقا الإدراك ﴿ والفؤاد ﴾ الذي هو آلة الإدراك، ثم عوّل تعالى الأمر بقوله تعالى :﴿ كل أولئك ﴾ أي : هذه الأشياء العظيمة العالية المنافع البديعة التكوين.
تنبيه : أولاء وجميع أسماء الإشارة يشار بها للعاقل وغيره كقول الشاعر :
ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
يجوز في ذم فتح الميم وكسرها وضمها وقوله بعد منزلة اللوى أي : بعد مفارقتها والإضافة في منزلة اللوى للبيان وهو ممدود ولكن قصره هنا للضرورة والعيش عطف على المنازل والأيام صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان له ﴿ كان عنه ﴾ أي : بوعد لا خلف فيه ﴿ مسؤولاً ﴾ بسؤال يخصه.
تنبيه : ظاهر الآية يدل على أنّ الجوارح مسؤولة وفيه وجوه الأوّل : أنّ معناه أنّ صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لأنّ السؤال لا يصح إلا ممن كان عاقلاً وهذه الجوارح ليست كذلك بل العاقل الفاهم هو الإنسان كقوله تعالى :﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف، ٨٢ ] أي : أهلها والمعنى أنه يقال للإنسان لم سمعت ما لم يحل سماعه ولم نظرت ما لم يحل نظره ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه.
الثاني : أنّ تقدير الآية أنّ أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عن السمع والبصر والفؤاد فيقال لهم استعملتم السمع فيماذا أفي الطاعة أم في المعصية ؟ وكذا القول في بقية الأعضاء وذلك لأنّ الحواس آلات النفس والنفس كالأمير لها والمستعمل لها في مصالحها فإن استعملها في الخيرات استوجب الثواب، وإن استعملها في المعاصي استحق العقاب.
الثالث : أن الله تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ثم أنها تسأل لقوله تعالى :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ﴾ [ النور، ٢٤ ] فكذلك لا يبعد أن يخلق العقل والحياة والنطق في هذه الأعضاء ثم أنها تسأل روى عن شكل بن حميد قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت : يا نبيّ الله علمني تعويذاً أتعوذ به فأخذ بيدي ثم قال :«قل أعوذ بك من شرّ سمعي وشر بصري وشرّ لساني وشرّ قلبي وشرّ منيي » قال : فحفظتها، قال سعد : المني ماؤه.
النهي الثاني : قوله تعالى :﴿ ولا تمش في الأرض ﴾ أي : جنسها ﴿ مرحاً ﴾ أي : ذا مرح وهو شدّة الفرح والمراد من الآية النهي عن أن يمشي الإنسان مشياً يدل على الكبرياء والعظمة. قال الزجاج : ولا تمش في الأرض مختالاً فخوراً، ونظيره قوله تعالى في سورة الفرقان :﴿ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً ﴾ [ الفرقان، ٦٣ ] وقال تعالى في سورة لقمان :﴿ واقصد في مشيك واغضض من صوتك ﴾ [ لقمان، ١٩ ] وقال تعالى فيها :﴿ ولا تمش في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحب كل مختال فخور ﴾ [ لقمان، ١٨ ]. ثم علل تعالى النهي عن ذلك بقوله تعالى :﴿ إنك لن تخرق الأرض ﴾ أي : تثقبها حتى تبلغ آخرها بكبرك ﴿ ولن تبلغ الجبال طولاً ﴾ أي : بتطاولك وهو تهكم بالمختال لأنّ الاختيال حماقة مجردة لا تفيد شيئاً ليس في التذلل وفي ذلك إشارة إلى أنّ العبد ضعيف لا يقدر على خرق أرض ولا وصول إلى جبال فهو محاط به من فوقه ومن تحته بنوعين من الجمادات وهو أضعف منهما بكثير والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله محصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي وقيل ذكر ذلك لأن من مشى خيلاء يمشي مرّة على عقبيه ومرّة على صدور قدميه فقيل له إنك لن تثقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا مشى تكفأ تكفأ كأنما ينحط من صبب ». وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال :«ما رأيت أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنّ الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا وإنه غير مكترث ».
وقوله تعالى :﴿ كل ذلك ﴾ إشارة إلى ما نهى عنه مما تقدّم فإنّ الذي تقدّم منهيات ومأمورات وجملة ذلك من قوله تعالى :﴿ لا تجعل مع الله إلهاً آخر ﴾ [ الإسراء، ٢٢ ] إلى هنا خمسة وعشرون وها أنا أسردها لك تسهيلاً عليك. فأوّلها :﴿ لا تجعل مع الله إلهاً آخر ﴾ [ الإسراء، ٢٢ ]. وثانيها وثالثها :﴿ وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ﴾ لاشتماله على تكليفين الأمر بعبادة الله تعالى والنهي عن عبادة غيره. ورابعها :﴿ وبالوالدين إحساناً ﴾. خامسها :﴿ فلا تقل لهما أف ﴾. سادسها :﴿ ولا تنهرهما ﴾. سابعها :﴿ وقل لهما قولاً كريماً ﴾ ثامنها :﴿ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ﴾. تاسعها :﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾. عاشرها :﴿ وآت ذا القربى حقه ﴾. حادي عشرها :﴿ والمسكين ﴾. ثاني عشرها :﴿ وابن السبيل ﴾. ثالث عشرها :﴿ ولا تبذر تبذيراً ﴾. رابع عشرها :﴿ فقل لهم قولاً ميسوراً ﴾. خامس عشرها :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ﴾. سادس عشرها :﴿ ولا تبسطها كل البسط ﴾. سابع عشرها :﴿ ولا تقتلوا أولادكم ﴾. ثامن عشرها :﴿ ولا تقتلوا النفس ﴾. تاسع عشرها :﴿ ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ﴾. عشروها :﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ حادي عشريها :﴿ وأوفوا بالعهد ﴾ ثاني عشريها :﴿ وأوفوا الكيل ﴾. ثالث عشريها :﴿ وزنوا بالقسطاس المستقيم ﴾. رابع عشريها :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم ﴾. خامس عشريها :﴿ ولا تمش في الأرض مرحا ﴾. فكل هذه تكليفات بعضها أوامر وبعضها نواه فالمنهي عنه هو الذي الذي قال تعالى فيه :﴿ كان سيئه عند ربك مكروهاً ﴾ أي : يبغضه والعاقل لا يفعل ما يكرهه المحسن إليه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة وبالتاء منونة منصوبة وقرأ الباقون بضم الهمزة والهاء مضمومة من غير تنوين.
والمعنى على هذا ظاهر، أي : إن سيئ تلك الأقسام يكون مكروهاً، وأمّا القراءة الأولى فسيئة خبر كان وأنث حملاً على معنى كل ثم قال مكروهاً حملاً على لفظها. وقال الزمخشري : إن السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والاسم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنثيه ولا فرق بين سيئة وسيأ ألا ترى أنك تقول الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة فلا فرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث، وفي نصب مكروهاً أوجه أحدها : أنه خبر ثان لكان. الثاني : أنه بدل من سيئة وضعف بأن البدل بالمشتق قليل. الثالث : أنه حال من الضمير المستتر في عند ربك لوقوعه صفة لسيئه. الرابع : أنه نعت لسيئه وإنما ذكّرَ وصف سيئه لأن تأنيثه وتأنيث موصوفه مجازي، وردّ بأن ذلك إنما يجوز حيث أسند إلى المؤنث المجازي، أما إذا أسند إلى ضميره فلا نحو الشمس طالعة فلا يجوز طالع.
وقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى الأحكام المتقدّمة في الأوامر والنواهي ﴿ مما أوحى إليك ﴾ يا أشرف الخلق ﴿ ربك ﴾ أي : المحسن إليك ﴿ من الحكمة ﴾ التي هي معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، وإنما سميت هذه الأمور حكمة لوجوه الأول : أنّ حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد، وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان، بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعياً إلى دين الرحمن. الثاني : أنّ هذه الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال فكانت محكمة، وحكمة من هذا الاعتبار. الثالث : أنّ الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، كما مرّت الإشارة إليه، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب عليها ولا ينحرف عنها فثبت أنّ الأشياء المذكورة من هذه الآيات عين الحكمة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام وجعل سبحانه وتعالى فاتحتها قوله تعالى :﴿ لا تجعل مع الله إلهاً آخر ﴾ وخاتمتها قوله تعالى :﴿ ولا تجعل مع الله إلهاً آخر ﴾ تنبيهاً على أنّ التوحيد مبدأ الأمور ومنتهاه، وأنّ من قصد بفعل أو ترك غيره ضاع سعيه وأنه رأس الحكمة وملاكها ورتب عليه ما هو عائدة الشرك في قوله تعالى أوّلاً :﴿ ولا تجعل مع الله ﴾، أي : في الدنيا، وثانياً ما هو نتيجته في العقبى فقال :﴿ فتلقى ﴾ أي : فيفعل بك في الآخرة في الحشر ﴿ في جهنم ﴾ من الإسراع فيه وعدم القدرة على التدارك فعل من ألقى من عال حال كونك. ﴿ ملوماً ﴾ أي : تلوم نفسك ﴿ مدحوراً ﴾ أي : مبعداً من رحمة الله.
تنبيه : ذكره سبحانه وتعالى في الآية الأولى بقوله تعالى :﴿ مذموماً مخذولاً ﴾ وفي هذه الآية ﴿ ملوماً مدحوراً ﴾ والفرق بين الذم واللوم هو أن يذكر له أنّ الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا معنى كونه مذموماً ثم يقال له فعلت هذا الفعل القبيح وما الذي حملك عليه فهذا هو اللوم فأوّل الأمر يصير مذموماً وآخره يصير ملوماً، والفرق بين المخذول والمدحور هو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه، أي : ضعفت والمدحور هو المطرود والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته فيصير أوّل الأمر مخذولاً وآخره مدحوراً.
وقوله تعالى :﴿ فأصفاكم ربكم بالبنين ﴾ خطاب للذين قالوا الملائكة بنات الله والهمزة للإنكار، أي : أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون، ولم يجعل فيهم نصيباً لنفسه ﴿ واتخذ من الملائكة إناثاً ﴾ أي : بنات لنفسه وهذا خلاف ما عليه معقولكم وعادتكم، فإنّ العبيد لا يستأثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوائب ويكون أردؤها وأدونها للسادات ﴿ إنكم لتقولون قولاً عظيماً ﴾ بإضافة الأولاد إليه لأن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركباً من الأبعاض والأجزاء وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود لذاته، وأيضاً فبتقدير ثبوت الولد فقد جعلوا أشرف القسمين لأنفسهم وأخس القسمين لله تعالى وهذا جهل عظيم، وأيضاً جعلوا الملائكة الذين هم من أشرف خلق الله الذين منهم من يقدر على حمل الأرض وقلب أسفلها على أعلاها إناثاً في غاية الرخاوة.
ولما كان في هذا من البيان ما لا يخفى على إنسان ولم يرجعوا أشار إلى أنّ لهم مثل هذا الإعراض عن أمثال هذا البيان فقال تعالى :﴿ ولقد صرّفنا ﴾ أي : بينا بياناً عظيماً بأنواع طرق البيان من العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام في قوالب الوعد والوعيد والأمر والنهي والمحكم والمتشابه إلى غير ذلك ﴿ في هذا القرآن ﴾ أي : في مواضع منه من الأمثال كما قال تعالى :﴿ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ﴾ [ الروم، ٥٨ ] قيل لفظة في زائدة كما في قوله تعالى :﴿ وأصلح لي في ذريتي ﴾ [ الأحقاف، ١٥ ]. ورد بأنّ في لا تزاد وما ذكر متأوّل كما يأتي إن شاء الله تعالى في الأحقاف والتصريف لغة صرف الشيء من جهة إلى أخرى ثم صار كناية عن التبيين قاله أبو حيان. وقوله تعالى :﴿ ليذكروا ﴾ متعلق بصرفنا وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال ورفع الكاف من غير تشديد من الذكر الذي هو بمعنى التذكر والباقون بفتح الذال والكاف مع تشديدهما. ﴿ وما يزيدهم ﴾ أي : التصريف ﴿ إلا نفوراً ﴾ أي : تباعداً عن الحق وقلة طمأنينة إليه، وعن سفيان كان إذا قرأها قال : زادني ذلك لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً.
ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء المشركين ولا تيأس من رجوع بعضهم. ﴿ لو كان معه آلهة كما تقولون ﴾ من هذه الأقوال التي لو قالها أعظمكم في حق أدناكم وهو يريد بها حقيقتها لصار ضحكة للعباد ﴿ إذا لابتغوا ﴾ أي : طلبوا طلباً عظيماً ﴿ إلى ذي العرش ﴾ أي : صاحب السرير الأعظم المحيط الذي من ناله كان منفرداً بالتدبير ﴿ سبيلاً ﴾ أي : طريقاً سالكاً يتوصلون به إليه ليقهروه ويزيلوا ملكه كما ترون فعل ملوك الدنيا بعضهم مع بعض أو ليتخذوا عنده يداً يقربهم إليه، وقرأ ابن كثير وحفص بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب وأدغم أبو عمرو الشين من العرش في السين بخلاف عنه.
ثم نزه سبحانه وتعالى نفسه فقال عز من قائل :﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزه التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص ﴿ وتعالى ﴾ أي : علا أعلى العلوّ بصفات الكمال ﴿ عما يقولون ﴾ أي : من هذه النقائص التي لا يرضاها لنفسه أحد من عقلاء خلقه ﴿ علوّاً ﴾ أي : تعالياً ﴿ كبيراً ﴾ أي : متباعداً غاية البعد عما يقولون فإنه تعالى في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجوب والبقاء لذاته.
تنبيه : جعل العلوّ مصدر التعالي ومصدره تعالياً كما قدّرته فهو المراد ونظيره قوله تعالى :﴿ والله أنبتكم من الأرض نباتاً ﴾ [ نوح، ١٧ ]. فإن قيل : ما الفائدة في وصف ذلك العلو بالكبير ؟ أجيب : بأنّ المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد منافاة بلغت في القوّة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها لأنّ المنافاة بين الواجب لذاته وبين الممكن لذاته وبين القديم والمحدث وبين الغني والمحتاج منافاة لا تعقل الزيادة عليها فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبير. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة،
ثم استأنف تعالى بيان عظمة هذا التنزيه مقروناً بالوصف بالكمال فقال :﴿ تسبح ﴾ أي : توقع التنزيه الأعظم ﴿ له ﴾ أي : الإله الأعظم الذي تقدّم وصفه بالجلال والإكرام خاصة ﴿ السماوات السبع والأرض ﴾ أي : السبع ﴿ ومن فيهنّ ﴾ أي : من ذوي العقول ﴿ وإن ﴾ أي : وما وأغرق في النفي فقال :﴿ من شيء ﴾ أي : ذي عقل أو غيره ﴿ إلا يسبح بحمده ﴾ أي : يقول سبحان الله العظيم وبحمده، أو يقول سبحان الله وبحمده. وقال ابن عباس : وإنّ من شيء حيّ إلا يسبح بحمده. وقال قتادة : يعني الحيوانات والناميات. وقال عكرمة : الشجرة تسبح والإسطوانة تسبح وعن المقداد بن عدي : التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح والورقة تسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت التسبيح والماء يسبح ما دام جارياً فإذا ركد ترك التسبيح والثوب يسبح ما دام جديداً فإذا وسخ ترك التسبيح. وقال السيوطي : في جواب سؤال عن ذلك :
قد خصصت آية الأسرى بمتصف وصف الحياة كرطب الزرع والشجر
فيابس مات لا تسبيح منه كذا وما زال عن موضع كالقطع للحجر
وقال إبراهيم النخعي : وإنّ من شيء جماد وحيّ إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف، وقال مجاهد : كل الأشياء تسبح لله تعالى حيواناً كانت أو جماداً وتسبيحها سبحان الله وبحمده يدل على ذلك ماروي عن ابن مسعود كنا نعدّ الآيات بركة وأنتم تعدّونها تخويفاً كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلَّ الماء فقال صلى الله عليه وسلم :«اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده صلى الله عليه وسلم في الإناء ثم قال : حي على الطهور المبارك والبركة من الله فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يأكل ». وعن جابر بن سمرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ بمكة حجراً كان يسلم عليّ ليالي بعثت إني لأعرفه الآن ». وعن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع فلما اتخذ له المنبر تحوّل إليه فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه وفي رواية فنزل فاحتضنه وساره بشيء ففي هذه الأحاديث دليل على أنّ الجماد يتكلم وأنه يسبح.
وقال بعض أهل المعاني : تسبيح السماوات والأرض والجمادات والحيوانات سوى العقلاء بلسان الحال حيث تدلّ على الصانع وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك ويصير لها بمنزلة التسبيح. قال البغوي : والأول أصح وهو المنقول عن السلف. وقال ابن الخازن : القول الأول أصح لما دلت عليه الأحاديث وأنه منقول عن السلف. قال البغوي : واعلم أنّ لله تعالى علماً في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن يوكل علمه إليه ﴿ ولكن لا تفقهون ﴾ أي : لا تفهمون ﴿ تسبيحهم ﴾ أي : لأنه ليس بلغتكم ﴿ إنه كان حليماً غفوراً ﴾.
ولما ذكر سبحانه وتعالى إثبات الإلهية أتبعه بذكر تقرير النبوّة بقوله تعالى :﴿ وإذا قرأت القرآن ﴾ أي : الذي لا يدانيه واعظ ولا يساويه مفهم وهو تبيان لكل شيء ﴿ جعلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً ﴾ أي : يحجب قلوبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم والانتفاع به. قال قتادة : هو الأكنة فالمستور بمعنى الساتر كقوله تعالى :﴿ كان وعده مأتياً ﴾ [ مريم، ٦١ ] مفعول بمعنى فاعل وقيل : مستوراً عن أعين الناس فلا يرونه وفسره بعضهم بالحجاب عن الأعين الظاهرة كما روي عن سعيد بن جبير أنه لما نزلت ﴿ تبت يدا أبي لهب ﴾ [ المسد، ١ ] جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه فلم تره فقالت لأبي بكر : أين صاحبك ؟ لقد بلغني أنه هجاني. فقال : والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله فرجعت وهي تقول : قد كنت جئت بهذا الحجر لأرض به رأسه فقال أبو بكر : ما رأتك يا رسول الله ؟ قال :«لا ما يزل ملك بيني وبينها يسترني ».
﴿ وجعلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ على قلوبهم أكنة ﴾ أي : أغطية كراهية ﴿ أن يفقهوه ﴾ أي : يفهموه أي : يفهموا القرآن حق فهمه ﴿ وفي آذانهم وقراً ﴾ أي : شيئاً ثقيلاً يمنع سماعهم، وعن أسماء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ومعه أبو بكر إذ أقبلت امرأة أبي لهب ومعها فهر تريد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تقول : مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا. فقال أبو بكر : يا رسول الله معها فهر أخشاها عليك، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فجاءت وما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : إني رأيت قريشاً قد علمت أني ابنة سيدها وإنّ صاحبك هجاني فقال أبو بكر : لا ورب الكعبة ورب هذا البيت ما هجاك. وروى ابن عباس أنّ أبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويسمعون حديثه فقال النضر يوماً : ما أرى ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه يتحرّكان بشيء. وقال أبو سفيان : إني لا أرى بعض ما يقوله إلا حقاً. وقال أبو جهل : هو مجنون. وقال أبو لهب : هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى : هو شاعر، فنزلت هذه الآية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاث آيات وهي في سورة الإسراء :﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ﴾ [ الإسراء، ٤٦ ]. وفي سورة النحل ﴿ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ﴾ [ النحل، ١٠٨ ] وفي حم الجاثية ﴿ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ﴾ [ الجاثية، ٢٣ ] إلى آخر الآية، فكان الله تعالى يحجبه ببركة هذه الآيات عن عيون المشركين.
﴿ وإذا ذكرت ربك ﴾ أي : المحسن إليك وإليهم ﴿ في القرآن وحده ﴾ أي : مع الإعراض عن آلهتهم كأن قلت وأنت تتلو القرآن لا إله إلا الله.
تنبيه : في نصب وحده وجهان أحدهما أنه منصوب على الحال وإن كان معرفة لفظاً في قوّة النكرة إذ هو في معنى منفرداً. والثاني : أنه منصوب على الظرف. ﴿ ولّوا على أدبارهم نفوراً ﴾ أي : هرباً من استماع التوحيد. تنبيه : في نفوراً وجهان أحدهما مصدر من غير اللفظ مؤكد لأنّ التولي والنفور بمعنى والثاني أنه حال من فاعل ولوا وهو حينئذٍ جمع نافر كقاعد وقعود وشاهد وشهود والضمير في ولوا يعود إلى الكفار وقيل يعود إلى الشيطان وإن لم يجر لهم ذكر. قال المفسرون : إنّ القوم كانوا عند استماع القرآن على أقسام منهم من كان يلهو عند استماعه. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه ويساره إخوان من ولد قصيّ يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار، ومنهم من كان إذا سمع من القرآن ما فيه ذكر الله تعالى بقوا مبهوتين لا يفهمون منه شيئاً ومنهم من إذا سمع آيات فيها ذكر الله تعالى وذم المشركين ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس.
ولما كانوا ربما ادّعوا السمع والفهم فشككوا بعض من لم يرسخ إيمانه أتبعه تعالى بقوله تعالى :﴿ نحن أعلم ﴾ أي : من كل عالم ﴿ بما يستمعون ﴾ أي : يبالغون في الإصغاء والميل لقصد السمع ﴿ به ﴾ من الآذان والقلوب أو بسببه ولأجله من الهزء بك وبالقرآن ﴿ إذ يستمعون ﴾ أي : يصغون بجهدهم ﴿ إليك ﴾ أي : إلى قراءتك ﴿ وإذ ﴾ أي : حين ﴿ هم ﴾ ذو ﴿ نجوى ﴾ أي : يتناجون بأن يرفع كل منهم بصره إلى صاحبه بعد إعراضهم عن الاستماع ثم ذكر تعالى ظرف النجوى بقوله تعالى :﴿ إذ ﴾ وهو بدل من إذ قبله ﴿ يقول الظالمون ﴾ وقولهم ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ تتبعون إلا رجلاً مسحوراً ﴾ أي : مخدوعاً مغلوباً على عقله. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر علياً أن يتخذ طعاماً ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل ذلك ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال :" قولوا لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتدين لكم العجم " فأبوا عليه ذلك وكانوا عند استماعهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن والدعوى إلى الله تعالى يقولون :﴿ إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً ﴾. فإن قيل : أنهم لم يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يصح أن يقولوا ﴿ إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً ﴾ أجيب : بأنّ معناه إن اتبعتموه فقد اتبعتم رجلاً مسحوراً. وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان وعاصم وحمزة بكسر التنوين في الوصل والباقون بالضم.
ثم قال تعالى :﴿ انظر كيف ضربوا ﴾ أي : هؤلاء الضُّلال ﴿ لك الأمثال ﴾ التي هي أبعد شيء من صفتك من قولهم كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون. ﴿ فضلوا ﴾ عن الحق في جميع ذلك ﴿ فلا ﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنهم لا ﴿ يستطيعون سبيلاً ﴾ أي : وصولاً إلى طريق الحق.
ولما جرت عادة القرآن بإثبات التوحيد والنبوّة والمعاد وقدم الدلالة على الأوّلين وختم بإثبات جهلهم في النبوّة مع ظهورها أتبع ذلك أمراً جلياً في ضلالهم عن السبيل في أمر المعاد وقرّره غاية التقرير، وحرّره أتم تحرير. قال تعالى معجباً منهم :﴿ وقالوا ﴾ أي : المشركون المنكرون للتوحيد والنبوّة والبعث مع اعترافهم بأنا ابتدأنا خلقهم ومشاهدتهم في كل وقت إنا نحيي الأرض بعد موتها وقولهم :﴿ أئذا ﴾ استفهام إنكاري كأنهم على ثقة من عدم ما ينكرونه والعامل في إذا فعل من لفظ مبعوثون لا هو فإن ما بعد إنّ لا يعمل فيما قبلها فالمعنى أنبعث إذا ﴿ كنا ﴾ أي : بجملة أجسامنا كوناً لازماً ﴿ عظاماً ورفاتاً ﴾ أي : حطاماً مكسراً مفتتاً أو غباراً. وقال الفراء : هو التراب وهو قول مجاهد ويؤيده أنه قد يكرر في القرآن تراباً وعظاماً. ويقال للتبن الرفات لأنه دقاق الزرع. ﴿ أئنا لمبعوثون ﴾ حال كوننا مخلوقين ﴿ خلقاً جديداً ﴾.
تنبيه : تقرير شبهة هؤلاء الضلال هي أنّ الإنسان جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء العالم فالأجزاء المائية مختلطة بمياه العالم والأجزاء الترابية مختلطة بالتراب، والأجزاء الهوائية مختلطة بالهواء فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرّة أخرى وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرّة أخرى هذا تقرير شبهتهم ؟ أجيب : عنها بأنها لا تتم إلا بالقدح في كمال علم الله تعالى وفي كمال قدرته فإنه تعالى قادر على كل الممكنات فهو قادر على إعادة التأليف والتركيب والحياة والعقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها فمن سلم كمال علم الله تعالى وكمال قدرته زالت عنه هذه الشبهة بالكلية.
ولما كان كأنه قيل فماذا يقال لهم في الجواب ؟ فقال :﴿ قل ﴾ لهم يا أشرف الخلق لا تكونوا رفاتاً بل ﴿ كونوا ﴾ أصلب من التراب ﴿ حجارة ﴾ أي : هي في غاية اليبس ﴿ أو حديداً ﴾ أي : زائداً على يبس الحجارة لشدّة اتصال الأجزاء.
تنبيه : ليس المراد به أمر إلزام بل المراد لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة وذلك كقول القائل أتطمع فيّ وأنا فلان فيقول كن من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقي.
﴿ أو خلقاً ﴾ غير ذلك ﴿ مما يكبر ﴾ أي : يعظم عظمة كبيرة ﴿ في صدوركم ﴾ أي : مما يكبر عندكم عن قبول الحياة لكونه أبعد شيء منها فإنّ الله تعالى قادر على إعادة الحياة إليها. وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأكثر المفسرين : أنه الموت فإنه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت، أي : لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم، وقيل السماوات والأرض والجبال لأنها من أعظم المخلوقات ﴿ فسيقولون ﴾ تمادياً في الاستهزاء ﴿ من يعيدنا ﴾ إذا كنا كذلك ﴿ قل الذي فطركم ﴾ أي : ابتدأ خلقكم ﴿ أوّل مرّة ﴾ ولم تكونوا شيئاً يعيدكم بالقدرة التي ابتدأكم بها فكما لم تعجز تلك عن البداءة فهي لا تعجز عن الإعادة ﴿ فسينغضون ﴾ أي : يحركون ﴿ إليك رؤوسهم ﴾ تعجباً واستهزاء كأنهم في شدة جهلهم على غاية البصيرة من العلم بما يقولون والنغض والإنغاض تحريك بارتفاع وانخفاض ﴿ ويقولون ﴾ استهزاء ﴿ متى هو ﴾ أي : البعث والقيامة. قال الرازي : واعلم أنّ هذا السؤال فاسد لأنهم حكموا بامتناع الحشر والنشر بناء على الشبهة التي تقدمت ثم إنّ الله تعالى بيَّن بالبرهان الباهر كونه ممكناً في نفسه فقولهم متى هو كلام لا تعلق له بالمبحث فإنه لما ثبت بالدليل العقلي كونه ممكن الوجود في نفسه وجب الاعتراف بإمكانه فأما أنه متى يوجد فذلك لا يمكن إثباته من طريق العقل بل إنما يمكن إثباته بالدليل السمعي فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعين عرف وإلا فلا سبيل إلى معرفته لأنه تعالى بين في القرآن انه لا يطلع أحداً من الخلق على وقته المعين فقال تعالى :﴿ إنّ الله عنده علم الساعة ﴾ [ لقمان، ٣٤ ]
وقال :﴿ إنما علمها عند ربي ﴾ [ الأعراف، ١٨٧ ]. وقال تعالى :﴿ إنّ الساعة آتية أكاد أخفيها ﴾ [ طه، ١٥ ]
فلا جرم. قال تعالى :﴿ قل عسى أن يكون قريباً ﴾ قال المفسرون : عسى من الله واجب ومعناه أنه قريب إذ كل آت قريب وأمال متى وعسى حمزة والكسائي إمالة محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح.
وقوله تعالى :﴿ يوم يدعوكم ﴾ بدل من قريباً والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم، أي : بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال تعالى :﴿ يوم ينادي المنادي من مكان قريب ﴾ [ ق، ٤١ ]. روي أنّ إسرافيل ينادي أيها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرّقة عودي كما كنتِ. ﴿ فتستجيبون ﴾ أي : تجيبون والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه وهي الإجابة إلا أنّ الاستجابة تقتضي طلب الموافقة فهي آكد من الإجابة واختلف في معنى قوله تعالى :﴿ بحمده ﴾ فقال ابن عباس : بأمره. وقال سعيد بن جبير : يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون سبحانك اللهمّ وبحمدك فيحمدونه حين لا ينفعهم الحمد. وقال قتادة : بمعرفته وطاعته. وقال أهل المعاني : تستجيبون بحمده، أي : تستجيبون حامدين كما تقول جاء بغضبه، أي : جاء غضبان وركب الأمير بسيفه، أي : وسيفه معه. وقال الزمخشريّ : بحمده حال منهم، أي : حامدين وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر يعني أنك تحمل عليه وتقسر عليه قسراً حتى إنك تلين لين المستميح الراغب فيه الحامد عليه ﴿ وتظنون أن ﴾ أي : ما ﴿ لبثتم إلا قليلاً ﴾ أي : مع استجابتكم وطول لبثكم وشدّة ما ترون من الهول فعندها تستقصرون مدّة لبثكم في الدنيا وتحسبونها يوماً أو بعض يوم. وعن قتادة تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة وقال الحسن : معناه تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة ولم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدّة اللبث في الدنيا وقيل المراد استقلال مدّة لبثهم في برزخ القيامة لأنه لما كان عاقبة أمرهم الدخول في النار استقصروا لبثهم في برزخ القيامة. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء المثناة والباقون بالإدغام.
ولما ذكر تعالى الحجة اليقينية في صحة المعاد وهو قوله تعالى :﴿ قل الذي فطركم أوّل مرّة ﴾ قال تعالى :﴿ وقل ﴾ يا محمد ﴿ لعبادي ﴾ أي : المؤمنين لأنّ لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختص بالمؤمنين قال تعالى :﴿ فبشر عباد ١٧ الذين يستمعون القول ﴾ [ الزمر : ١٧، ١٨ ]. وقال تعالى :﴿ فادخلي في عبادي ﴾ [ الفجر، ٢٩ ]. وقال تعالى :﴿ عيناً يشرب بها عباد الله ﴾ [ الإنسان، ٦ ]. ﴿ يقولوا ﴾ للكفار الذين كانوا يؤذونهم الكلمة ﴿ التي هي أحسن ﴾ ولا يكافؤهم على سفههم بل يقولون يهديكم الله وكان هذا قبل الأذن بالقتال وقيل نزلت في عمر بن الخطاب شتمه بعض الكفار فأمره الله تعالى بالعفو وقيل أمر المؤمنين بأن يقولوا ويفعلوا الخلة التي هي أحسن وقيل الأحسن قول لا إلى إلا الله، ثم علل بقوله تعالى :﴿ إن الشيطان ﴾ أي : البعيد عن الرحمة المحترق باللعنة ﴿ ينزغ بينهم ﴾ أي : يفسد ويغري بعضهم على بعض ويوسوس لهم لتقع بينهم المشارّة والمشاقة وأصل النزغ الطعن وهم غير معصومين فيوشك أن يأتوا بما لا يناسب الحال. ثم علل تعالى هذه العلة بقوله تعالى :﴿ إنّ الشيطان كان ﴾ أي : في قديم الزمان وأصل الطبع كوناً هو مجبول عليه ﴿ للإنسان عدوًّا ﴾ أي : بليغ العداوة ﴿ مبيناً ﴾ أي : بين العداوة.
ثم فسر تعالى التي هي أحسن مما علمهم ربهم من النصفة بقوله تعالى :﴿ ربكم أعلم بكم ﴾ فعلم أنّ قوله تعالى :﴿ إن الشيطان ﴾ إلى آخره جملة اعتراضية بين المفسر والمفسر وسكن أبو عمرو الميم وأخفاها عند الباء بخلاف عنه وكذا أعلم بمن ثم استأنف تعالى :﴿ إن يشأ ﴾ أي : رحمتكم ﴿ يرحمكم ﴾ أي : بهدايتكم ﴿ أو إن يشأ ﴾ تعذيبكم ﴿ يعذبكم ﴾ أي : بإضلالكم فلا تحتقروا أيها المؤمنون المشركين فتقطعوا بأنهم من أهل النار فتعيروهم بذلك، فإنه يجرّ إلى غيظ القلوب فلا فائدة لأنّ الخاتمة مجهولة ولا تتجاوزوا فيهم ما أمركم الله به من قول وفعل. ثم رقى الله الخطاب إلى أعلى الخلق، ورأس أهل الشرع ليكون من دونه أولى بالمعنى منه فقال تعالى :﴿ وما أرسلناك ﴾ أي : مع ما لنا من العظمة الغنية عن كل شيء ﴿ عليهم وكيلا ﴾ أي : حفيظاً وكفيلاً تقسرهم على ما يرضي الله، وإنما أرسلناك على حسب ما نأمرك به بشيراً ونذيراً فدارهم ومر أصحابك بمداراتهم، وقد مرّ أنّ هذا قبل الإذن بالقتال.
ولما أمرهم بأن ينسبوا الأعلمية بهم إليه تعالى أخبر بما هو أعم من ذلك قاصراً الخطاب على أعلم خلقه بقوله تعالى :﴿ وربك ﴾ أي : المحسن إليك بأن جعلك أكمل الخلق ﴿ أعلم بمن في السماوات والأرض ﴾ فعلمه غير مقصور عليكم بل متعلق بجميع الموجودات والمعدومات، ومتعلق بجميع ذات الأرضين والسماوات، فيعلم تعالى حال كل أحد، ويعلم ما يليق به من المفاسد والمصالح، ويعلم اختلاف صورهم وأديانهم وأخلاقهم وأحوالهم وجميع ما هم عليه سبحانه وتعالى، لا تخفى عليه خافية، فيفضل بعض الناس على بعض على حسب إحاطة علمه وشمول قدرته، وبعض النبيين على بعض كما قال تعالى :﴿ ولقد فضلنا ﴾ بما لنا من العظمة ﴿ بعض النبيين ﴾ سواء كانوا رسلاً أم لا ﴿ على بعض ﴾ بعد أن جعلنا لكل فضلاً لتقوى كل منهم وإحسانه، فخصصنا كلاً منهم بفضيلة كموسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة، ومحمد صلى الله عليه وسلم بالإسراء، فلا ينكر أحد من العرب، أو بني إسرائيل أو غيرهم، تفضيلنا لهذا النبي الكريم، الذي صدرنا السورة بتفضيله على جميع الخلائق، فإذا نفعل ما نشاء بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل. وقرأ نافع بالهمزة والباقون بالياء، وورش على أصله يمد على الهمزة ويوسط ويقصر. ﴿ وآتينا ﴾ موسى التوراة و﴿ داود زبوراً ﴾ وعيسى الإنجيل، فلم يبعد أيضاً أن نؤتي محمداً صلى الله عليه وسلم القرآن، ولم يبعد أن نفضله على جميع الخلق. فإن قيل : ما السبب في تخصيص داود عليه السلام بالذكر هنا ؟ أجيب : بأوجه الأول أنه تعالى ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض، ثم قال :﴿ وآتينا داود زبوراً ﴾ يعني أنّ داود أوتي ملكاً عظيماً، ثم إنه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك، وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيهاً على أنّ الفضل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدين لا بالمال. الثاني : أنه تعالى كتب في الزبور أنّ محمداً خاتم الأنبياء، وأنّ أمّة محمد خير الأمم قال تعالى :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ [ الأنبياء، ١٠٥ ] وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته. فإن قيل : هلا عرفه كقوله :﴿ ولقد كتبنا في الزبور ﴾ ؟ أجيب : بأنّ التنكير هنا يدل على تعظيم حاله ؛ لأنّ الزبور عبارة عن المزبور، فكان معناه الكتاب، وكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً، ويجوز أنّ يكون زبوراً علماً، فإذا دخلت عليه أل كقوله تعالى :﴿ ولقد كتبنا في الزبور ﴾ كانت للمح الأصل كعباس، والعباس وفضل والفضل الثالث أنّ كفار قريش ماكانوا أهل نظر وجدل بل كانوا يرجعون إلى اليهود في إستخراج الشبهات واليهود كانوا يقولون أنّه لا نبيّ بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة فنقض الله عليهم كلامهم بإنزال الزبور على داود.
وروى البخاري في التفسير عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :«خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه لتسرج فكان يقرأ قبل أن يفرغ »، أي : القرآن قال البقاعي : ومن أعظم المناسبات لتخصيص داود عليه السلام وزبوره بالذكر هنا، ذكر البعث الذي هذا مقامه فيه صريحاً، وكذا ذكر النار مع خلو التوراة عن ذلك. أمّا البعث فلا ذكر له فيها أصلاً، وأمّا النار فلم يذكر شيء مما يدل عليها إلا الجحيم في موضع واحد، وأمّا الزبور فذكر فيه النار والهاوية والجحيم في غير موضع انتهى. وقرأ حمزة بضم الزاي والباقون بالفتح.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿ قل ادعوا الذين زعمتم ﴾ أنهم آلهة ﴿ من دونه ﴾ أي : من سواه كالملائكة وعزير والمسيح. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي بضم اللام من قل وكسرها عاصم وحمزة كل هذا في حال الوصل، وأما الابتداء فالجميع ابتدؤوا بهمزة مضمومة ﴿ فلا يملكون كشف الضر ﴾ أي : البؤس الذي من شأنه أن يمرض الجسم كله ﴿ عنكم ﴾ حتى لا يدعوا شيئاً منه ﴿ ولا تحويلاً ﴾ له إلى غيركم. فقال ابن عباس : إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيراً والملائكة والشمس والقمر والنجوم، وقيل : إنّ قوماً عبدوا نفراًمن الجنّ فأسلم النفر من الجن وبقي أولئك القوم متمسكين بعبادتهم فنزلت فيهم هذه الآية. وقيل إنّ المشركين أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعوا لهم فنزل ﴿ قل ﴾ للمشركين ﴿ ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه ﴾ [ الإسراء، ٥٦ ] وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في وصفهم :﴿ أولئك الذين يدعون ﴾.
﴿ أولئك الذين يدعون ﴾ أي : يدعونهم الكفار ويتألهونهم ﴿ يبتغون ﴾ أي : يطلبون طلباً عظيماً ﴿ إلى ربهم ﴾ أي : المحسن إليهم ﴿ الوسيلة ﴾ أي : المنزلة والدرجة و القربة لأعمالهم الصالحة، وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتة. وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم.
تنبيه : أولئك مبتدأ وخبره يبتغون ويكون الموصول نعتاً أو بياناً أو بدلاً، والمراد باسم الإشارة الأنبياء أو الملائكة الذين عبدوا من دون الله والمراد بالواو والعباد لهم، ويكون العائد على الذين محذوفاً أو المعنى أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون لكشف ضرّهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة ﴿ أيهم أقرب ﴾ أي : يتسابقون بالأعمال مسابقة من يطلب كل منهم أن يكون إليه أقرب ولديه أفضل ﴿ ويرجون رحمته ﴾ رغبة فيما عنده ﴿ ويخافون عذابه ﴾ فهم كغيرهم موصوفون بالعجز والحاجة فكيف يدعونهم آلهة، وقيل معناه أن الكفار ينظرون أيهم أقرب إلى الله تعالى فيتوسلون به. ثم علل خوفهم بأمر عامّ بقوله تعالى :﴿ أنّ عذاب ربك ﴾ أي : المحسن إليك برفع انتقام الاستئصال منه عن أمّتك ﴿ كان ﴾ أي : كوناً لازماً ﴿ محذوراً ﴾ جديراً بأن يحذر لكل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل، فضلاً عن غيرهم لما شوهد من إهلاكه للقرون الماضية.
ولما قال تعالى :﴿ إنّ عذاب ربك كان محذوراً ﴾ بين بقوله تعالى :
﴿ وإن ﴾ أي : وما ﴿ من قرية إلا ونحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً ﴾ إنَّ كل قرية، أي : أهلها لابد وأن يرجع حالهم إلى أحد أمرين : إما الإهلاك بالموت والاستئصال، وإمّا العذاب بالقتل وأنواع البلاء. وقال مقاتل : أمّا الصالحة فبالموت وأمّا الطالحة فبالعذاب. وقال عبد الله بن مسعود : إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله تعالى في هلاكها. ﴿ كان ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم ﴿ في الكتاب ﴾ أي : اللوح المحفوظ ﴿ مسطوراً ﴾ أي : مكتوباً. قال عبادة بن الصامت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إنّ أول ما خلق الله القلم فقال اكتب فقال وما أكتب قال : القدر ما كان وما هو كائن إلى أبد الأبد » أخرجه الترمذي.
ولما كان كفار قريش قد تكرر اقتراحهم للآيات وكان صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على إيمان كل أحد يحب أن الله تعالى يجيبهم إلى مقترحهم طمعاً في إيمانهم فأجاب الله تعالى بقوله :﴿ وما منعنا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ولا يمنعها مانع ﴿ أن نرسل بالآيات ﴾ أي : التي اقترحوها كما حكى الله تعالى عنهم ذلك في قولهم ﴿ فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون ﴾ [ الأنبياء، ٥ ] وقال آخرون ﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ﴾ [ الإسراء، ٩٠ ] الآيات. وقال سعيد بن جبير : أنهم قالوا إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء منهم من سخرت له الريح ومنهم من أحيا الموتى فأتنا بشيء من هذه المعجزات فكان كأنه لا آيات عندهم سوى ذلك ﴿ إلا ﴾ علمنا في عالم الشهادة بما وقع من ﴿ أن كذب بها ﴾ أي : المقترحات ﴿ الأولون ﴾ وعلمنا في عالم الغيب أنّ هؤلاء مثل الأوّلين أن الشقّي منهم لا يؤمن بالمقترحات كما لم يؤمن بغيرها وأنه يقول فيها ما قال في غيرها من أنها سحر ونحو ذلك، والسعيد لا يحتاج في إيمانه إليها فكم أجبنا أمّة إلى مقترحها فما زاد ذلك أهل الضلالة منهم إلا كفراً فأخذناهم لأنّ سنتنا جرت أنَّا لا نمهل بعد الإجابة إلى المقترحات من كذب بها. قال ابن عباس : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا تلك الأراضي فطلب صلى الله عليه وسلم ذلك من الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط إن لم يؤمنوا أهلكتهم فقال صلى الله عليه وسلم :«لا أريد ذلك » فتفضل الله تعالى برحمته هذه الأمة وتشريفها على الأمم السالفة بعدم استئصالها لما يخرج من أصلاب كفرتها من خلص عباده، فلهذا السبب ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم فقال جلّ ذكره :﴿ بل الساعة موعدها والساعة أدهى وأمرّ ﴾ [ القمر، ٤٦ ]. ثم ذكر تعالى من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا ما ذكره تعالى بقوله تعالى :﴿ آتينا ثمود الناقة ﴾ حالة كونها ﴿ مبصرة ﴾ أي : مضيئة بينة جديرة بأن يستبصر بها كل من شاهدها فيستدل بها على صدق قول ذلك النبيّ ﴿ فظلموا بها ﴾ أي : ظلموا أنفسهم بتكذيبها. وقال ابن قتيبة : جحدوا بأنها من الله تعالى فأهلكناهم فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى، وخص تعالى هذه الآية بالذكر لأنّ آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم. ثم قال تعالى :﴿ وما نرسل بالآيات ﴾ أي : المقترحات وغيرها ﴿ إلا تخويفاً ﴾ للمرسل إليهم بها فإن خافوا نجوا وإلا هلكوا بعذاب الاستئصال من كذب بالآيات المقترحات وبعذاب الآخرة من كذب بغيرها كالمعجزات وآيات القرآن فأمر من بعث إليهم مؤخراً إلى يوم القيامة.
فإن قيل : المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدّعى فكيف حصل المقصود من إظهارها في التخويف ؟ أجيب : بأنه لما كان هو الحامل والغالب على التصديق فكأنه هو المقصود.
ولما طلب القوم من النبي صلى الله عليه وسلم تلك الآيات المقترحات وأجاب الله تعالى بأنّ إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سبباً لجراءة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له لو كنت رسولاً حقاً من عند الله لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء، فعند هذا قوى الله تعالى قلبه وبين له أنه ينصره ويؤيده فقال تعالى :﴿ و ﴾ اذكر يا أشرف الخلق ﴿ إذ قلنا لك إن ربك ﴾ أي : المتفضل بالإحسان إليك بالرفق لأمتّك ﴿ أحاط بالناس ﴾ علماً وقدرة فهم في قبضته وقدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته فلا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره، وهو حافظك ومانعك منهم فلا تهتم باقتراحهم، وامض فيما أمرك به من تبليغ الرسالة فهو ينصرك ويقوّيك على ذلك كما وعدك بقوله تعالى :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ [ المائدة، ٦٧ ] وقيل : إن المراد بالناس أهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم. روي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه كان يدعو ويقول :" اللهمّ إني أسألك عهدك ووعدك ثم خرج وعليه الدرع يحرّض الناس ويقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ [ القمر، ٤٥ ] " وكان صلى الله عليه وسلم يقول حين ورد بدراً :«والله كأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض ويقول هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان » فتسامعت قريش بما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم عطف تعالى على ﴿ وما نرسل بالآيات ﴾ قوله تعالى :﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك ﴾ أي : التي شاهدتها ليلة الإسراء ﴿ إلا فتنة ﴾ أي : امتحاناً واختباراً ﴿ للناس ﴾ لأنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان قد آمن به وازداد المخلصون إيماناً فلهذا السبب كانت امتحاناً.
وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس أنه قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وتقدم أنه قول الأكثر فمنهم سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وما قاله بعضهم من أن الرؤيا تدل على أنها رؤيا منام ضعيف إذ لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة يقال رأيته بعيني رؤية ورؤيا.
فائدة : قال بعض العلماء : كانت إسراآته صلى الله عليه وسلم أربعاً وثلاثين مرّة واحدة بجسده والباقي بروحه رؤيا رآها قال ومما يدل على أنّ الإسراء ليلة فرض الصلاة كانت بالجسم ما ورد في بعض طرق الحديث أنه صلى الله عليه وسلم استوحش لما زج به في النور ولم ير معه أحداً إذ الأرواح لا توصف بالوحشة ولا بالاستيحاش قال : ومما يدلك على أنّ الإسراء كان بجسمه ما وقع له من العطش فإنّ الأرواح المجردة لا تعطش، ولما كان صلى الله عليه وسلم قد وصل الجحيم وأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ شجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم وكان ذلك في غاية الغرابة ضمها إلى الإسراء في ذلك بقوله تعالى :﴿ والشجرة الملعونة في القرآن ﴾ لأنّ فيها امتحاناً أيضاً بل قال بعض المفسرين هي على التقديم والتأخير والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. واختلف في هذه الشجرة فالأكثرون قالوا : إنها شجرة الزقوم المذكورة في قوله تعالى :﴿ إنّ شجرة الزقوم ٤٣ طعام الأثيم ﴾ [ الدخان : ٤٣، ٤٤ ]
فكانت الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين الأول أنّ أبا جهل قال : زعم صاحبكم أنّ نار جهنم تحرق الحجارة حيث قال :﴿ وقودها الناس والحجارة ﴾ [ البقرة، ٢٤ ] ثم يقول في النار شجرة والنار تأكل الشجر فكيف يولد فيها الشجر. والثاني : قال ابن الزبعري : ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجراً ﴿ إنا جعلناها فتنة للظالمين ﴾ [ الصافات، ٦٣ ] الآيات ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ [ الأنعام، ٩١ ] من قال ذلك فإن الله تعالى قادر على أن يجعل الشجرة من جنس لا تأكله النار فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقيت سالمة لا تعمل فيها النار، وترى النعامة تبلع الجمر وتبلع الحديد الحمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه تعالى جعل في الشجر ناراً فما تحرقه قال تعالى :﴿ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً ﴾ [ يس، ٨٠ ]. فإن قيل : ليس في القرآن لعن هذه الشجرة ؟ أجيب : عن ذلك بوجوه : الأوّل : المراد لعن الكفار الذين يأكلونها لأنّ الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. الثاني : أنّ العرب تقول لكل طعام ضار إنه ملعون. الثالث : أنّ اللعن في اللغة الإبعاد ولما كانت هذه الشجرة مبعدة عن صفات الخير سميت ملعونة، وقيل إنّ الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى :﴿ لعن الذين كفروا ﴾ [ المائدة، ٧٨ ] الآية. وقيل : هي الشيطان. وقيل أبو جهل. وعن ابن عباس هي الكشوث التي تتلوى بالشجر تجعل في الشراب.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أنه يرسل بالآيات تخويفاً قال هنا أيضاً :﴿ ونخوّفهم فما يزيدهم ﴾ أي : الكافرين والتخويف بالقرآن. ﴿ إلا طغياناً كبيراً ﴾ أي : تجاوز للحد هو في غاية العظم فبتقدير أن يظهر الله تعالى لهم المعجزات التي اقترحوها لم يزدادوا بها إلا تمادياً في الجهل والعناد فاقتضت الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات فإنهم قد خوّفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر، وخوّفوا بعذاب الآخرة وشجرة الزقوم فما أثر فيهم فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات.
ولما نازع القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد، أمّا الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد، وأمّا الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوّة فبيّن تعالى أنّ هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج عن الإيمان والدخول في الكفر بقوله تعالى :﴿ وإذ ﴾ أي : واذكر إذ ﴿ قلنا ﴾ بما لنا من العظمة التي لا ينقض مرادها ﴿ للملائكة ﴾ حين خلقنا أباك آدم وفضلناه ﴿ اسجدوا لآدم ﴾ أي : امتثالاً لأمري ﴿ فسجدوا إلا إبليس ﴾ أي : أبى أن يسجد لكونه ممن حقت عليه الكلمة ولم ينفعه ما يعلمه من قدرة الله وعظمته وذلك معنى قوله تعالى :﴿ قال ﴾ أي : منكراً متكبراً ﴿ أأسجد ﴾ أي : خضوعاً ﴿ لمن خلقت ﴾ حال كون أصله ﴿ طيناً ﴾ فكفر بنسبته لنا إلى الجور متخيلاً أنه أفضل من آدم عليه السلام من حيث أن الفروع ترجع إلى الأصول وأن النار التي هي أصله أكرم من الطين الذي هو أصل آدم وذهب عنه أن الطين أنفع من النار وعلى تقدير التنزل فالجواهر كلها من جنس واحد والله تعالى هو الذي أوجدها من العدم يفضل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض. وقد ذكر الله تعالى هذه القصة في سبع سور وهي البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدّم في البقرة ولعل هذه القصة إنما كررت تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه فكأنه تعالى يقول ألا ترى أن أول الأنبياء هو آدم عليه السلام ثم أنه كان في محنة شديدة من إبليس وأنّ الكبر والحسد كل منهما بلية عظيمة ومحنة عظيمة للخلق وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفاً ولم يدخل ورش وابن كثير بينهما ألفاً ولورش أيضاً إبدال الثانية ألفاً، وإذا وقف حمزة سهل الثانية كقراءة ابن كثير وقرأ هشام بالتحقيق في الثانية والتسهيل وإدخال ألف بينهما. وقرأ الباقون بتحقيقهما بلا إدخال.
ولما أخبر تعالى بتكبره كان كأنه قيل أن هذه الوقاحة عظيمة واجتراء على الجناب الأعلى فهل كان منه غير ذلك قيل :﴿ قال أرأيتك ﴾ أي : أخبرني وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش وجه ثان وهو أن يبدلها ألفاً وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق. ﴿ هذا الذي كرّمت عليّ ﴾ لم كرّمته عليّ مع ضعفه وقويّ فكأنه قيل لقد أتى بالغاية في إساءة الأدب فما كان بعد هذا فقيل : قال مقسماً لأجل استبعاد أن يجترئ أحد هذه الجراءة على الملك الأعلى :﴿ لئن أخرتن ﴾ أي : أيها الملك الأعلى تأخيراً ممتدًّا. ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ حياً متمكناً وجواب القسم الموطأ له باللام. ﴿ لأحتنكنّ ﴾ أي : بالإغواء ﴿ ذريته ﴾ أي : لاستولين عليهم استيلاء من جعل في حنك الدابة الأسفل حبلاً يقودها به فلا تأبى عليه. وقرأ نافع وأبو عمرو بزيادة ياء بعد النون في أخرتني عند الوصل وحذفها في الوقف، وأثبتها ابن كثير وصلاً ووقفاً وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً اتباعاً للرسم.
ولما علم أنه لا يقدر على الجميع قال :﴿ إلا قليلاً ﴾ وهم أولياؤك الذين حفظتهم مني كما قال تعالى :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾ [ الحجر، ٤٢ ]. فإن قيل : كيف ظنّ إبليس هذا الظنّ الصادق بذرية آدم ؟ أجيب : بأوجه الأوّل : أنه سمع الملائكة يقولون ﴿ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ﴾ فعرف هذه الأحوال. الثاني : أنه وسوس إلى آدم ولم يجد له عزماً فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم. الثالث : أنه عرف أنه مركب من قوّة بهيمية شهوية وقوّة وهمية شيطانية وقوّة عقلية ملكية، وقوّة سبعية غضبية، وعرف أن بعض تلك القوى تكون هي المستولية في بعض أوّل الخلقة ثم إن القوّة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر ومن كان كذلك كان ما ذكره إبليس لازماً له.
ثم كأنه قيل لقد أطال عدوّ الله الاجتراء فما قال له ربه بعد ذلك فقيل :﴿ قال ﴾ ممدّا له ﴿ اذهب ﴾ أي : امض لما قصدته وهو طرد وتخلية بينه وبين ما سوّلت له نفسه، وتقدّم في الحجر أنه إنما يؤخر إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم ينفخ في الصور لا أنه يؤخر إلى يوم القيامة كما طلب، وقرأ أبو عمرو وخلاد والكسائيّ بإدغام الباء الموحدة في الفاء، وأظهرها الباقون.
ولما حكم تعالى بشقاوته وشقاوة من أراد طاعته له تسبب عنه قوله تعالى :﴿ فمن تبعك منهم ﴾ أي : أولاد آدم عليه السلام ﴿ فإن جهنم ﴾ أي : الطبقة النارية التي تتجهم داخلها ﴿ جزاؤكم ﴾ أي : جزاؤك وجزاء أتباعك تجزون ذلك ﴿ جزاء موفوراً ﴾ أي : مكملاً وافياً بما تستحقون على أعمالكم الخبيثة. ولما طلب إبليس اللعين من الله تعالى الإمهال إلى يوم القيامة لأجل أن يحتنك ذرية آدم ذكر الله تعالى له أشياء الأوّل اذهب، أي : امض كما مرّ فإني أمهلتك هذه المدّة وليس من الذهاب الذي هو ضدّ المجيء.
الثاني : قوله تعالى :﴿ واستفزز ﴾ أي : استخف ﴿ من استطعت منهم ﴾ أن تستفزه وهم الذين سلطناك عليهم ﴿ بصوتك ﴾ قال ابن عباس : معناه بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية الله تعالى فهو من جند إبليس، وقيل أراد بصوتك الغناء واللهو واللعب. الثالث : قوله تعالى :﴿ وأجلب ﴾ أي : صح ﴿ عليهم ﴾ من الجلبة وهي الصياح ﴿ بخيلك ورجلك ﴾.
واختلفوا في الخيل والرجل على أقوال الأوّل : روى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال : كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى وعلى هذا فخيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية. الثاني : يحتمل أن يكون لإبليس جيش من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل. الثالث : أن المراد منه ضرب المثل كما يقال للرجل المجد في الأمر جدّ بالخيل والرجل. قال الرازي : وهذا أقرب. وقال الزمخشري : هو كلام ورد مورد التمثيل مثل في تسلطه على من يغويه بمغوار وقع على قوم فصوّت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقلهم عن مراكزهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم والخيل تقع على الفرسان قال صلى الله عليه وسلم «يا خيل الله اركبي » وقد تقع على الأفراس خاصة. وقرأ حفص عن عاصم بكسر الجيم وسكنها الباقون جمع راجل كصاحب وصحب وراكب وركب ورجل بالكسر والضم لغتان مثل حدث وحدث وهو مفرد أريد به الجمع. الرابع قوله تعالى :﴿ وشاركهم في الأموال والأولاد ﴾ أمّا المشاركة في الأموال فقال مجاهد : هو كل ما أصيب من حرام أو أنفق في حرام. وقال قتادة : هو جعلهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال الضحاك : هو ما يذبحونه لآلهتهم. وقال عكرمة : هو تبتيكهم آذان الأنعام وقيل هو جعلهم من أموالهم شيئاً لغير الله، كقولهم :﴿ هذا لله ﴾ ﴿ وهذا لشركائنا ﴾ [ الأنعام، ١٣٦ ] ولا منافاة بين جميع هذه الأقوال. وأمّا المشاركة في الأولاد فقال عطاء عن ابن عباس : هو تسمية الأولاد بعبد شمس وعبد العزى وعبد الحرث وعبد الدار ونحوها وقال الحسن : هو أنهم هوّدوا أولادهم ونصروهم ومجسوهم وروي عن جعفر بن محمد أنّ الشيطان يعقد ذكره على ذكر الرجل فإذا لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها، كما ينزل الرجل ويقال في جميع هذه الأقوال أيضاً ما تقدّم. وروي أنّ رجلاً قال لابن عباس : إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار قال ذلك من وطء الجنّ.
وفي الآثار أنّ إبليس لمّا خرج إلى الأرض قال : يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذرّيته. قال : أنت مسلط. قال : لا أستطيعه إلا بك فزدني قال :﴿ استفزز من استطعت منهم بصوتك ﴾. قال : آدم : يا رب سلطت إبليس عليّ وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك. قال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظونه. قال : زدني. قال : الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها. قال : زدني. قال : التوبة مفروضة ما دام الروح في الجسد. فقال : زدني. فقال :﴿ يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ [ الزمر، ٥٣ ] الآية.
وفي الخبر أنّ إبليس قال : يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتباً فما قرآني ؟ قال : الشعر. قال : فما كتابي ؟ قال : الوشم. قال : ومن رسولي ؟ قال : الكهنة. قال : فما طعامي ؟ قال : ما لم يذكر عليه اسمي. قال : فما شرابي ؟ قال : كل مسكر. قال : وأين مسكني ؟ قال : الحمامات. وقال : وأين مجلسي ؟ قال : الأسواق. قال : وما حبائلي ؟ قال : النساء. قال : وما أذاني ؟ قال : المزمار. الخامس قوله تعالى :﴿ وعدهم ﴾ أي : من المواعيد الباطلة ما يستخفهم ويغرّهم من ذلك وعدهم بأن لا جنة ولا نار ومن ذلك شفاعة الآلهة والكرامة على الله تعالى بالأنساب الشريفة وتسويف التوبة وإيثار العاجل على الآجل ونحو ذلك. وقوله تعالى :﴿ وما يعدهم الشيطان ﴾ من باب الالتفات وإقامة الظاهر مقام الضمير ولو جرى على سنن الكلام الأوّل لقال وما تعدهم بالتاء من فوق.
وقوله تعالى :﴿ إلا غروراً ﴾ فيه أوجه أحدها : أنه نعت مصدر محذوف وهو نفسه مصدر والأصل إلا وعداً غروراً. الثاني : أنه مفعول من أجله، أي : ما يعدهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغرور. الثالث : أنه مفعول به على الاتساع، أي : ما يعدهم إلا الغرور نفسه والغرور تزيين الباطل بما يظنّ أنه حق. فإن قيل : كيف ذكر الله تعالى هذه الأشياء لإبليس وهو يقول إنّ الله لا يأمر بالفحشاء ؟ أجيب : بأنّ هذا على طريق التهديد كقوله تعالى :﴿ اعملوا ما شئتم ﴾ [ فصلت، ٤٠ ]. وكقول القائل : اعمل ما شئت فسوف ترى، وكما يقال اجهد جهدك فسوف ترى ما ينزل بك.
ولما قال الله تعالى له افعل ما تقدر عليه قال تعالى :﴿ إنّ عبادي ﴾ أي : الذين أهلتهم للإضافة إليّ فقاموا بحق عبوديتي بالتقوى والإحسان ﴿ ليس لك عليهم سلطان ﴾ أي : فلا تقدر أن تغويهم وتحملهم على ذنب لا يغفر فإني وفقتهم للتوكل عليّ فكفيتهم أمرك ﴿ وكفى بربك ﴾ أي : الموجد لك ﴿ وكيلاً ﴾، أي : حافظاً لهم منك.
ولما ذكر تعالى أنه الوكيل الذي لا كافي غيره أتبعه بعض أفعاله الدالة على ذلك بقوله تعالى :﴿ ربكم ﴾ أي : المتصرف فيكم هو ﴿ الذي يزجي ﴾ أي : يجري ﴿ لكم الفلك ﴾ ومنها التي حملكم فيها مع أبيكم نوح عليه الصلاة والسلام ﴿ في البحر لتبتغوا ﴾ أي : لتطلبوا ﴿ من فضله ﴾ الربح وأنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم ثم إنه تعالى علل ذلك بقوله عز وجل :﴿ إنه ﴾ أي : فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه ﴿ كان ﴾ أي : أزلاً وأبداً ﴿ بكم رحيماً ﴾ حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من أسبابه.
تنبيه : الخطاب في قوله ربكم وفي قوله إنه كان بكم عام في حق الكل والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها.
وأمّا قوله تعالى :﴿ وإذا مسكم الضرّ ﴾ أي : الشدة ﴿ في البحر ﴾ خطاب للكفار بدليل قوله تعالى ﴿ ضلّ ﴾ أي : غاب عن ذكركم وخواطركم ﴿ من تدعون ﴾ أي : تعبدون من الآلهة ﴿ إلا إياه ﴾ وحده فأخلصتم له الدعاء علماً منكم أنه لا ينجيكم سواه﴿ فلما نجاكم ﴾ من الغرق وأوصلكم بالتدريج ﴿ إلى البرّ أعرضتم ﴾ عن الإخلاص له ورجعتم إلى الإشراك ﴿ وكان الإنسان ﴾ أي : هذا النوع ﴿ كفوراً ﴾ أي : جحوداً للنعم بسبب أنه عند الشدّة يتمسك بفضله ورحمته وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره.
وقوله تعالى :﴿ أفأمنتم ﴾ الهمزة فيه للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم من البحر فأمنتم بعد خروجكم منه ﴿ أن نخسف بكم جانب البرّ ﴾ فنغيبكم في، أي : جانب كان منه لأنّ قدرتنا على التغيبين في الماء والتراب على السواء فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله تعالى في جميع الجوانب ﴿ أو ﴾ أمنتم أن ﴿ نرسل عليكم ﴾ من جهة الفوق شيئاً من أمرنا ﴿ حاصباً ﴾ أي : نمطر عليكم حجارة من السماء كما أمطرناها على قوم لوط قال الله تعالى :﴿ إنا أرسلنا عليهم حاصباً ﴾ [ القمر، ٣٤ ] وقيل الحاصب الريح ﴿ ثم لا تجدوا لكم ﴾ أيها الناس ﴿ وكيلاً ﴾ ينجيكم من ذلك ولا من غيره كما لم تجدوا في البحر وكيلاً غيره.
﴿ أم أمنتم ﴾ أي : جاوزت بكم الغباوة حدّها فلم تجوّزوا ذلك ﴿ أن نعيدكم فيه ﴾ أي : البحر الذي يضطرّكم إلى ذلك فنقسركم عليه وإن كرهتم ﴿ تارة أخرى ﴾ بأسباب تضطرّكم إلى أن ترجعوا فتركبوه ﴿ فنرسل عليكم قاصفاً من الريح ﴾ أي : ريحاً شديدة لا تمرّ بشيء إلا قصفته فتكسر فلككم ﴿ فنغرقكم ﴾ في البحر الذي أعدناكم فيه بقدرتنا ﴿ بما كفرتم ﴾ أي : بسبب إشراككم وكفرانكم نعمة الإنجاء ﴿ ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً ﴾ أي : مطالباً يطالبنا بما فعلنا بكم.
تنبيه : تارة بمعنى مرّة وكرّة فهي مصدر وتجمع على تير وتارات. قال الشاعر :
وإنسان عيني يحسر الماء تارة فيبدو وتارات يجم فيغرق
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أن نخسف أو نرسل أن نعيدكم فنرسل فنغرقكم جميع هذه الخمسة بنون العظمة والباقون بياء الغيبة والقراءة الأولى على سبيل الالتفات من الغائب في قوله تعالى :﴿ ربكم ﴾ إلى آخره. والقراءة الثانية على سنن ما تقدّم من الغيبة.
ثم إنّ الله تعالى ذكر نعمة أخرى رفيعة جليلة على الإنسان وذكر فيها أربعة أنواع : النوع الأول : قوله تعالى :﴿ ولقد كرّمنا ﴾ أي : بعظمتنا تكريماً عظيماً ﴿ بني آدم ﴾ وحذف متعلق التكريم فلذا اختلف المفسرون فيه فقال ابن عباس : كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيده. وعن الرشيد أنه حضر طعاماً عنده فدعاه بالملاعق وعنده أبو يوسف فقال له : جاء في تفسير جدّك ابن عباس ﴿ ولقد كرّمنا بني آدم ﴾ جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه. وروي عن ابن عباس أنه قال : بالعقل. وقال الضحاك : بالنطق والتمييز. وقيل على سائر الطين بالنموّ، وعلى النامي بالحياة وعلى سائر الحيوان بالنطق. وقال عطاء : بتعديل القامة وامتدادها والدواب منكسة على وجوهها. قال بعضهم : وينبغي أن يشترط مع هذا شرط وهو طول القامة مع استكمال القوّة العقلية والحسية والحركية وإلا فالأشجار أطول قامة من الإنسان قيل الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقيل بأن سخر لهم سائر الأشياء وقيل بأنّ منهم خير أمّة أخرجت للناس. وقيل بحسن الصورة. قال تعالى :﴿ وصوّركم فأحسن صوركم ﴾ [ غافر، ٦٤ ]. ولما ذكر الله تعالى خلقة الإنسان وهي ﴿ ولقد خلقنا الإنسان ﴾ [ الحجر، ٢٦ ] الآية قال :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾ [ المؤمنون، ١٤ ]. قال الرازي : فإن شئت فتأمّل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان وهي العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين، ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق ذلك البياض سواد الشعر. وليكن هذا المثال الواحد أنموذجاً لك في هذا الباب انتهى.
واستدل أيضاً لشرف الإنسان بأنّ الموجود إمّا أن يكون أزلياً وأبدياً وهو الله تعالى وإمّا أن لا يكون لا أزلياً ولا أبدياً وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان وهذا أحسن الأقسام وإمّا أن يكون أزلياً ولا يكون أبدياً وهذا ممتنع الوجود لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه، وإمّا أن لا يكون أزلياً ولكنه يكون أبدياً وهو الإنسان والملك ولا شك أنّ هذا القسم أشرف من الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات.
النوع الثاني : قوله تعالى :﴿ وحملناهم في البرّ ﴾ على الدوابّ وغيرها ﴿ و ﴾ في ﴿ البحر ﴾ على السفن وغيرها، من حملته حملاً إذا جعلت له ما يركبه أو حملناهم فيهما حتى لم نخسف بهم الأرض ولم نغرقهم في الماء.
النوع الثالث : قوله تعالى :﴿ ورزقناهم من الطيبات ﴾ أي : المستلذات من الثمرات والأقوات، وذلك لأنّ الأغذية إمّا حيوانية وإمّا نباتية وكلا القسمين فإنّ الإنسان إنما يتغذى بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامّة والطبخ الكامل والنضج البالغ وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان.
النوع الرابع : قوله تعالى :﴿ وفضلناهم ﴾ في أنفسهم بإحسان الشكل وفي صفاتهم بالعلم المنتج لسعادة الدارين ﴿ على كثير ممن خلقنا ﴾ أي : بعظمتنا التي خلقناهم بها. وأكد الفعل بالمصدر إشارة إلى إعراقهم في الفضيلة فقال تعالى :﴿ تفضيلاً ﴾.
تنبيه : ظاهر الآية يدل على فضلهم على كثير من خلقه لا على الكل. وقال قوم : فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة. وهو قول ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في بسيطه. وقال الكلبي : فضلوا على جميع الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم. وقال قوم : فضلوا على جميع الخلق وعلى جميع الملائكة كلهم وقد يوضع الأكثر موضع الكل كقوله تعالى :﴿ هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ﴾ [ الشعراء، ٢٢١ ] إلى قوله تعالى :﴿ وأكثرهم كاذبون ﴾ [ الشعراء : ٢٢٢ ]
أي : كلهم.
وروى جابر يرفعه قال :«لما خلق الله تعالى آدم وذرّيته قالت الملائكة : يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه روحي كمن قلت له كن فكان ». والأولى كما قاله بعض المفسرين كالبغوي وابن عادل أن يقال عوامّ الملائكة أفضل من عوام المؤمنين، وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة. قال تعالى :﴿ إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ﴾ [ البينة، ٧ ]. وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : المؤمن أكرم على الله من الملائكة عنده. رواه البغوي ورواه الواحدي في بسيطه. فإن قيل : قال تعالى في أوّل الآية :﴿ ولقد كرّمنا بني آدم ﴾ وقال في آخرها :﴿ وفضلناهم ﴾ فلا بدّ من الفرق بين التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار ؟ أجيب : بأنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية كالعقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم أنه سبحانه وتعالى عرّضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة.
ولما ذكر تعالى أنواع كرامات الإنسان في الدنيا شرح أحوال درجاته في الآخرة بقوله تعالى :﴿ يوم ﴾ أي : اذكر يوم ﴿ ندعوا ﴾ أي : بتلك العظمة ﴿ كل أناس ﴾ أي : منكم ﴿ بإمامهم ﴾ الإمام في اللغة كل من ائتمّ به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبيّ إمام أمّته والخليفة إمام رعيته والقرآن إمام المسلمين، وإمام القوم هو الذي يقتدون به في الصلاة. وذكروا في تفسير الإمام هنا أقوالاً أحدها إمامهم نبيهم. روي ذلك مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «فينادى يوم القيامة يا أمّة إبراهيم يا أمّة موسى يا أمّة عيسى يا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم ثم ينادى الأتباع يا أتباع ثمود يا أتباع فرعون يا أتباع فلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر ». الثاني : أنّ إمامهم كتابهم الذي أنزل عليهم فينادى في القيامة يا أهل القرآن، يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل. الثالث : إمامهم كتاب أعمالهم قال تعالى :﴿ وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ﴾ [ يس ١٢ ] فسمى الله تعالى هذا الكتاب إماماً. قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أنّ الإمام جمع أمّ وأنّ الناس يدعون يوم القيامة بأمّهاتهم دون آبائهم وان الحكمة فيه رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا تفتضح أولاد الزنا. قال : وليت شعري أيهما أبدع البدع ؟ ! أصحة لفظه أم بهاء حكمته. قال ابن عادل : وهو معذور لأن أمّا لا يجمع على إمام هذا قول من لا يعرف الصناعة ولا لغة العرب. ﴿ فمن أوتي ﴾ أي : من المدعوّين ﴿ كتابه ﴾ أي : كتاب عمله ﴿ بيمينه ﴾ وهم السعداء أولو البصائر في الدنيا ﴿ فأولئك يقرؤون كتابهم ﴾ ابتهاجاً وتبجحاً بما يرون فيه من الحسنات ﴿ ولا يظلمون ﴾ بنقص حسنة ما من ظالم ما ﴿ فتيلاً ﴾ أي : شيئاً في غاية القلة والحقارة بل يزدادون بحسب إخلاص النيات وطهارة الأخلاق وزكاة الأعمال.
تنبيه : الفتيل القشرة التي في شق النواة تسمى بذلك لأنه إذا رام الإنسان إخراجه انفتل وهذا مثل يضرب للشيء الحقير التافه ومثله القطمير وهو الغلالة التي في ظهر النواة، والنقير وهي النقرة التي في ظهر النواة. وروى مجاهد عن ابن عباس قال : الفتيل هو الوسخ الذي يفتله الإنسان بين سبابته وإبهامه. فإن قيل : لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أهل الشمال يقرؤونه ؟ أجيب : بأن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملاً على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة فيستولي الخوف على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزون عن القراءة الكاملة وأمّا اصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم على أحسن الوجوه ثم لا يقنعون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارئ لأهل المحشر :﴿ هاؤم اقرؤوا كتابيه ﴾ [ الحاقة، ١٩ ] جعلنا الله تعالى وجميع أحبابنا منهم.
ثم قال الله تعالى :﴿ ومن كان ﴾ منهم ﴿ في هذه ﴾ أي : الدار ﴿ أعمى ﴾ أي : ضالاً يعمل في الأفعال فعل الأعمى في أخذ الأعيان لا يهتدي إلى أخذ ما ينفعه وترك ما يضرّه ولا يميز بين حسن وقبيح ﴿ فهو في الآخرة أعمى ﴾ أي : أشدّ عمى مما كان عليه في هذه الدار لا ينجح له قصد ولا يهتدي لصواب ولم يقل تعالى أشدّ عمى كما يقال في الخلق اللازمة لحالة واحدة مثل العور والحمرة والسواد ونحوها لأن هذا مراد به عمى القلب الذي من شأنه التزايد والحدوث في كل لحظة شيئاً بعد شيء. ﴿ وأضلّ سبيلاً ﴾ لأنّ هذه الدار دار الاكتساب والترقي في الأسباب، وأمّا تلك فليس فيها شيء من ذلك. وقال عكرمة : جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال : اقرؤوا ما قبلها فقرؤوا :﴿ ربكم الذي يزجي لكم الفلك ﴾ إلى قوله :﴿ تفضيلاً ﴾.
فقال ابن عباس : من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في الآخرة التي لم يعاين ولم ير أعمى وأضلّ سبيلاً، وعلى هذا فالإشارة في قوله هذه إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدّمة، وحمل بعضهم العمى الثاني على عمى العين والبصر كما قال تعالى :﴿ ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى ١٢٤ قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ١٢٥ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ [ طه، ١٢٥، ١٢٦ ]. وقال تعالى :﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً ﴾ [ الإسراء، ٩٧ ]
وهذا العمى زيادة في عقوبتهم.
ولما عدّد تعالى في الآيات المتقدّمة أقسام نعمه على خلقه وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء عن الاغترار بوسواس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكر والتلبيس فقال تعالى :﴿ وإن كادوا ﴾ أي : قاربوا في هذه الحياة الدنيا لعماهم في أنفسهم عن عصمة الله تعالى لك. ولما كانت إن هذه هي المخففة من الثقيلة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية بقوله تعالى :﴿ ليفتنونك ﴾ أي : ليخالطونك مخالطة تميلك إلى جهة قصدهم لكثرة خداعهم.
واختلف في سبب نزول هذه الآية فروى عطاء عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال قال : وما هنّ قالوا أن لا نجبي في الصلاة بفتح الجيم والباء الموحدة المشدّدة، أي : لا ننحني فيها ولا نكسر أصنامنا إلا بأيدينا، وأن لا تمنعنا من اللات والعزى سنة من غير أن نعبدها فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :«لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود ». وأمّا أن تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأمّا الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها، وفي رواية وحرّم وادينا كما حرّمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم فقالوا : يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فصاح عليهم عمر وقال : أما ترون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمسك عن الكلام كراهة لما تذكرونه فأنزل الله تعالى هذه الآية ".
وقال سعيد بن جبير : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود فمنعه قريش وقالوا : لا ندعك حتى تلمّ بآلهتنا وتمسها فحدّث صلى الله عليه وسلم نفسه ما عليّ أن أفعل ذلك والله يعلم أني لها لكاره بعد أن يدعوني حتى استلم الحجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي أنّ قريشاً قالوا له : اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت :﴿ وإن كادوا ليفتنونك ﴾. ﴿ عن الذي أوحينا إليك ﴾ من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا ﴿ لتفتري ﴾ أي : لتقول ﴿ علينا غيره ﴾ أي : ما لم نقله ﴿ وإذاً ﴾ أي : لو ملت إلى ما دعوك إليه ﴿ لاتخذوك ﴾ أي : بغاية الرغبة ﴿ خليلاً ﴾ أي : لوالوك وصافوك وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراض بشركهم ومن يكن خليل الكفار لم يكن خليل الله تعالى، ولكنك أبصرت رشدك فلزمت أمر الله واستمروا على عماهم إتماماً لتفضيلنا لك على كل مخلوق.
﴿ ولولا أن ثبتناك ﴾ أي : على الحق بعصمتنا إياك ﴿ لقد كدت ﴾ أي : قاربت ﴿ تركن ﴾ أي : تميل ﴿ إليهم ﴾ أي : إلى الأعداء ﴿ شيئاً ﴾ أي : ركونا ﴿ قليلاً ﴾ لمحبتك في هدايتهم وحرصك على منفعتهم ولكنا عصمناك فمنعناك أن تقرب من الركون فضلاً من أن تركن إليهم لأنّ كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره تقول لولا زيد لهلك عمرو ومعناه أنّ وجود زيد منع من حصول الهلاك لعمرو فكذلك هاهنا قوله تعالى :﴿ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم ﴾ معناه لولا حصل تثبيت الله لمحمد صلى الله عليه وسلم فكان تثبيت الله مانعاً من حصول قرب الركون وهذا صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما همّ بإجابتهم مع قوّة الداعي إليها ودليل على أنّ العصمة بتوفيق الله وحفظه.
﴿ إذاً ﴾ أي : لو قاربت الركون الموصوف إليهم ﴿ لأذقناك ضعف ﴾ عذاب ﴿ الحياة وضعف ﴾ عذاب ﴿ الممات ﴾ أي : مثلي ما يعذب غيرك في الدنيا والآخرة وكان أصل الكلام عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ثم أضيفت كما يضاف موصوفها وقيل المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة وضعف الممات عذاب القبر، والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعمة الله تعالى في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى :﴿ يا نساء النبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ﴾ [ الأحزاب، ٣٠ ] وقيل الضعف من أسماء العذاب ﴿ ثم لا تجد لك ﴾ أي : وإن كنت أعظم الخلق وأعلاهم مرتبة وهمة ﴿ علينا نصيراً ﴾ أي : مانعاً يمنعك من عذابنا.
واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى :﴿ وإن ﴾ أي : وإن هم ﴿ كادوا ﴾ أي : الأعداء ﴿ ليستفزونك ﴾ أي : ليزعجونك بمعاداتهم ﴿ من الأرض ليخرجوك منها ﴾ فقال ابن عباس : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم، فقالوا : يا أبا القاسم إنّ الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك وأتبعناك، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله يمنعك منهم فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة وقيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام فيدخلون في دين الله فنزلت هذه الآية فرجع وهذا قول الكلبيّ وعلى هذا فالآية مدنية والمراد بالأرض أرض المدينة.
وقال قتادة ومجاهد : الأرض أرض مكة والآية مكية، همّ المشركون أن يخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكفهم الله تعالى عنه حتى أمره بالهجرة فخرج بنفسه. قال ابن عادل تبعاً للرازي : وهذا أليق بالآية لأنّ ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية وهذا اختيار الزجاج وكثير في التنزيل ذكر الأرض والمراد منها مكان مخصوص كقوله تعالى :﴿ أو ينفوا من الأرض ﴾ [ المائدة، ٣٣ ] أي : من مواضعهم. وقوله تعالى حكاية عن أخي يوسف :﴿ فلن أبرح الأرض ﴾ [ يوسف، ٨٠ ] يعني الأرض التي كان قصدها لطلب الميرة. فإن قيل : قال تعالى :﴿ وكأين من قرية هي أشدّ قوّة من قريتك التي أخرجتك ﴾ [ محمد، ١٣ ] يعني أهل مكة فالمراد أهلها، فذكر تعالى أنهم أخرجوه، وقال تعالى :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ﴾ فكيف الجمع بينهما على القول الثاني ؟ أجيب : بأنهم هموا بإخراجه وهو صلى الله عليه وسلم ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله تعالى وحينئذٍ فلا تناقض ﴿ وإذاً ﴾ أي : وإذا أخرجوك ﴿ لا يلبثون خلفك ﴾ أي : بعد إخراجك لو أخرجوك ﴿ إلا ﴾ زمناً ﴿ قليلاً ﴾ وقد كان كذلك على القول الثاني، فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته، وعلى القول الأوّل قتل منهم بني قريظة وأجلى بني النضير بقليل. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة بفتح الخاء وسكون اللام والباقون بكسر الخاء وفتح اللام وبعدها ألف، قال الشاعر :
عفت الديار، أي : اندرست خلافهم، أي : خلفهم.
فكأنما بسط الشواطب بينهنّ حصيرا
الشواطب النساء اللاتي يشققن الجريد ليعملن منه الحصير والشطب والشواطب سعف النخل الأخضر يصف دروس ديار الأحبة بعدهم وأنها غير منكوسة كأنما بسط فيها سعف النخل.
ولما أخبره بذلك أعلمه أنه سنة في جميع الرسل بقوله تعالى :﴿ سنة ﴾ أي : كسنة أو سننا بك سنة ﴿ من قد أرسلنا قبلك ﴾ أي : في الأزمان الماضية كلها ﴿ من رسلنا ﴾ أنا نهلك كل أمّة أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم، والسنة لله وإضافتها إلى الرسل لأنها من أجلهم ويدل عليه قوله تعالى :﴿ ولا تجد لسنتنا تحويلاً ﴾ [ الإسراء، ٧٧ ] أي : تغييرا.
ولما قرّر تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم الآلهيات والمعاد والنبوّات أردفها بذكر الأمر بالطاعة وأشرف الطاعة بعد الإيمان الصلاة فلذلك قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ أقم الصلاة ﴾ بفعل جميع أركانها وشرائطها بحيث تصير كأنها قائمة بنفسها فإنها لب العبادة لما فيها من المناجاة والإعراض عن كل غير، وفناء عن كل سوى، بما أشرق من أنوار الحضرة التي قد اضمحل إليها كل فان، وفي ذلك إشارة عظيمة إلى أنّ الصلاة أعظم ناصر على الأعداء الذين يريدون بمكرهم استفزاز الأولياء ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ثم عين له الأوقات بقوله تعالى :﴿ لدلوك الشمس ﴾ في هذه اللام قولان أحدهما أنها بمعنى بعد، أي : بعد دلوك الشمس ومثله قول متمم :
فلما تقرّقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والثاني أنها على بابها لأنها إنما تجب بزوال الشمس والدلوك مصدر دلكت الشمس وفيه أقوال أحدها : أنه الزوال وهو قول ابن عباس وابن عمر وجابر وأكثر التابعين ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم «أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر » وقول أهل اللغة معنى الدلوك في كلام العرب الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة. والثاني أنه الغروب وهو قول ابن مسعود ونقله الواحدي في «البسيط » عن عليّ رضي الله عنه، وبه قال إبراهيم النخعي والضحاك والسدي وهو اختيار الفراء وكما يقال للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة يقال لها أيضاً إذا غربت دالكة لأنها في الحالين زائلة. قال الأزهري : والثالث أنه من الزوال إلى الغروب وقال في «القاموس » دلكت الشمس غربت أو اصفرّت أو مالت أو زالت عن كبد السماء فحينئذ في هذه اللفظة دلالة على الظهر والعصر والمغرب من استعمال المشترك في معانيه أمّا في الظهر والمغرب فواضح لما مرّ وأمّا العصر فلأنّ أول وقتها أوّل أخذ الشمس في الاصفرار وأدل دليل على ذلك أنه تعالى غيا الإقامة لوقت العشاء بقوله تعالى :﴿ إلى غسق الليل ﴾ أي : ظلمته وهو وقت صلاة عشاء الآخرة والغاية أيضاً هنا داخلة لما سيأتي وقد أجمعوا على أنّ المراد من قوله تعالى :﴿ وقرآن الفجر ﴾ أي : صلاة الصبح وهو منصوب قيل على الإغراء، أي : وعليك بقرآن الفجر ورد أسماء الأفعال لا تعمل مضمرة. وقال الفراء : أنه منصوب بالعطف على الصلاة في قوله تعالى :﴿ أقم الصلاة ﴾ والتقدير أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر وحينئذٍ تدخل الصلوات الخمس في هذه الآية. قال ابن عادل كالرازي : وحمل كلام الله تعالى على ما يكون أكثر فائدة أولى انتهى.
وسميت صلاة الصبح قرآناً لاشتمالها عليه وإن كانت بقية الصلوات أيضاً مشتملة عليه لأنه يطوّل فيها في القراءة ما لا يطوّل في غيرها فالمقصود من قوله تعالى :﴿ وقرآن الفجر ﴾ الحث على طول القراءة فيها أكثر من غيرها لأنّ التخصيص بالذكر يدل على كونه أكمل من غيره.
ولما كان القيام عن المنام يشق علل مرغباً مظهراً غير مضمر لأنّ المقام مقام تعظيم فقال :﴿ إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً ﴾ أي : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل، وأوّل ديوان النهار. قال الرازي : ثم أنّ ملائكة الليل إذا صعدت قالت : يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك وتقول ملائكة النهار ربنا إننا أتينا عبادك وهم يصلون فيقول الله تعالى لملائكته : اشهدوا بأني قد غفرت لهم. وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم :﴿ إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً ﴾ » وهذا يدل على أنّ التغليس أولى من التنوير لأنّ الإنسان إذا شرع فيها من أوّل الوقت ففي ذلك الوقت ظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرة ثم امتدّت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار، وأمّا إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير فهناك لم يبق أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور فقوله :﴿ كان مشهوداً ﴾ يدل على أنّ التغليس أفضل، وأيضاً الإنسان إذا شرع في صلاة الصبح من أوّل هذا الوقت فكانت الظلمة القوية في العالم فإذا امتدّت القراءة ففي أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود، فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة ومن العدم إلى الوجود ومن السكون إلى الحركة، وهذه الحالة العجيبة تشهد العقول بأنه لا يقدر على هذا التقليب إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة فحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة ويتخلص من مرض قلبه، فإن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب وهي حب الدنيا والحرص والحسد والتفاخر والتكاثر وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى والأنبياء كالأطباء الحاذقين والمريض ربما كان قد يقوى مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلاً فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر لأنّ الطبيب إذا كان مشفقاً حاذقاً فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه وإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وفي تخفيفه فلما كان مرض الدنيا مستولياً على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوى إلى معرفة الله سبحانه وتعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس وقل من يقبله وينقاد له لا جرم أنّ الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض فحملوا الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أوّل وقت القيام من النوم لأنه مما ينفع في إزالة هذا المرض.
ثم حث سبحانه وتعالى على التهجد لأفضليته وأرشديته بقوله عز من قائل :﴿ ومن الليل ﴾ أي : وعليك أو وقم بعض الليل ﴿ فتهجد به ﴾ أي : واترك الهجود للصلاة يقال هجد وتهجد نام ليلاً وهجد وتهجد سهر فهو من الأضداد ومنه قيل لصلاة الليل التهجد قاله في الصحاح. والضمير في به لمطلق القرآن والمراد من الآية قيام الليل لصلاة النافلة فلا يحصل التهجد إلا بصلاة نفل بعد نوم، وكانت فريضة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى أمّته في الابتداء بقوله تعالى :﴿ يا أيها المزمّل قم الليل إلا قليلاً ﴾ [ المزمل : ١، ٢ ] ثم نسخ بما في آخرها، ثم نسخ بما في الصلوات الخمس وبقي قيام الليل على الاستحباب بقوله تعالى :﴿ فاقرؤوا ما تيسر منه ﴾ [ المزمل، ٢٠ ] وبقي الوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى :﴿ نافلة لك ﴾ أي : زيادة لك مختصة بك. وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«ثلاث هنّ عليّ فريضة وهنّ سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل » والصحيح أنه نسخ في حقه أيضاً ودليل النسخ رواه مسلم وقد وردت أحاديث كثيرة في قيام الليل منها ما روي «عن المغيرة بن شعبة أنه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه فقيل له : أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : أفلا أكون عبداً شكوراً ». ومنها ما روي عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : لأرمقنّ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين ثم ركعتين طويلتين ثم ركعتين طويلتين، ثم ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة، فلهذا قيل : إنه أكثر الوتر وهو أحد قولي الشافعيّ والمرجح عنده أن أكثره إحدى عشرة ركعة، لما رواه أبو سلمة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة. ، أي : وتراً يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ثم يصلي ثلاثاً قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : فقلت : يا رسول الله أتنام قبل أن توتر ؟ فقال :«يا عائشة إن عيني تنام ولا ينام قلبي ». ومنها ما روي عن أنس بن مالك قال :«ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصلياً إلا رأيناه وما نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه » وفي رواية غيره قال : وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئاً ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئاً ثم قال تعالى :﴿ عسى أن يبعثك ربك ﴾ أي : المحسن إليك ﴿ مقاماً محموداً ﴾ أتفق المفسرون على أنّ كلمة عسى من الله واجب. قال أهل المعاني : لأن لفظة عسى تفيد الأطماع ومن أطمع إنساناً في شيء ثم حرمه كان عاراً والله أكرم من أن يطمع أحدنا في شيء ثم لا يعطيه ذلك.
وأمّا المقام المحمود فقال الواحدي : أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه الآية :«هو المقام الذي أشفع فيه لأمّتي ». وقال حذيفة : يجمع الناس في صعيد واحد فلا تتكلم نفس فأوّل مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول :«لبيك وسعديك والشر ليس إليك، والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت ». فقال هذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ﴾.
ويدل للأوّل أحاديث ؛ منها ما روي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكل نبيّ دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي وهي نائلة منكم إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئاً ». ومنها ما روي عن جابر أنه قال : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة ». ومنها ما روي عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهي عنها ولكن ائتوا نوحاً أوّل نبيّ بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحاً فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب بسؤال ربه بغير علم ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتون إبراهيم فيقول لست هناكم ويذكر ثلاث كذبات كذبهنّ ولكن ائتوا موسى عبداً آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجياً. قال : فيأتون موسى فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب قتله النفس ولكن ائتوا عيسى عبد الله وكلمته قال : فيأتون عيسى فيقول لست هناكم ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر قال : فيأتوني فاستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيته وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني فيقول : ارفع رأسك يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه. قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء يعلمنيه قال ثم أشفع فيحدّ لي حدّاً فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود فأقع ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه قال : ثم أشفع فيحد لي حدّاً فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة قال : فلا أدري في الثالثة أو الرابعة فأقول : يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن، أي : وجب عليه الخلود ». وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : مقاماً محموداً يحمدك فيه الأولون والآخرون وتشرف فيه على جميع الخلائق سل فتعطى واشفع فتشفع ليس أحد إلا تحت لوائك والأخبار في الشفاعة كثيرة وفي هذا القدر كفاية لأولي البصائر جعلنا الله تعالى وجميع أحبابنا من أهلها الداخلين تحت شفاعة سيد الأنبياء والمرسلين آمين.
واختلف أهل التفسير في قوله تعالى :﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ﴾ فقال ابن عباس والحسن : أدخلني مدخل صدق المدينة وأخرجني مخرج صدق مكة، نزل حين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة. وقال الضحاك : أخرجني مخرج صدق من مكة آمنا من المشركين وأدخلني مدخل صدق ظاهراً عليها بالفتح. وقال مجاهد : أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوّة مدخل صدق وأخرجني من الدنيا وقد قمت بما وجب عليّ من حقها مخرج صدق. وقيل إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً. وقيل : أدخلني مدخل صدق الجنة وأخرجني مخرج صدق من مكة. وقيل : أدخلني في القبر مدخل صدق إدخالاً مرضياً وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق إخراجاً ملقى بالكرامة. والجامع لهذه الأقوال ما جرى عليه البقاعي في تفسيره بقوله في كل مقام تريد إدخالي فيه حسيّ ومعنويّ دنيا وأخرى مدخل صدق يستحق الداخل فيه أن يقال له أنت صادق في قولك وفعلك فإنّ ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً. وأخرجني من كل ما تخرجني منه مخرج صدق انتهى. والمراد من المدخل والمخرج الإدخال والإخراج ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق مدحهما، كأنه سأل الله تعالى إدخالاً حسناً وإخراجاً حسناً لا يرى فيهما ما يكره.
ثم سأل الله تعالى أن يرزقه التقوية بالحجة وبالقهر والقدرة فقال :﴿ واجعل لي من لدنك ﴾ أي : عندك ﴿ سلطاناً نصيراً ﴾ أي : حجة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني وقد أجاب الله تعالى دعاءه وأعلمه أنه يعصمه من الناس بقوله تعالى :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ [ المائدة، ٦٧ ]. وقال تعالى :﴿ فإن حزب الله هم الغالبون ﴾ [ المائدة، ٥٦ ]. وقال تعالى :﴿ ليظهره على الدين كله ﴾ [ التوبة، ٣٣ ] وقال تعالى :﴿ ليستخلفنهم في الأرض ﴾ [ النور، ٥٥ ]. ووعده تعالى ليظهره على الدين ووعده تعالى لينزعن ملك فارس والروم فيجعله له. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال :«انطلق فقد استعملتك على أهل الله » فكان شديداً على المرائين المنافقين ليناً على المؤمنين، وقال : والله لا أعلم متخلفاً يتخلف عن الصلاة إلا منافقاً فقال : أهل مكة يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابياً جافياً فقال صلى الله عليه وسلم «إني رأيت فيما يرى النائم كأنّ عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالاً شديداً حتى فتح له فدخلها » فأعز الله تعالى الإسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم فذلك السلطان النصير.
ثم أمره الله تعالى أن يخبر بالإجابة بقوله تعالى :﴿ وقل ﴾ أي : لأوليائك وأعدائك ﴿ جاء الحق ﴾ وهو ما أمرني به ربي وأنزله إليّ ﴿ وزهق ﴾ أي : اضمحل وبطل وهلك ﴿ الباطل ﴾ وهو كل ما يخالف الحق ثم علل زهوقه بقوله تعالى :﴿ إنّ الباطل ﴾ أي : وإن ارتفعت له دولة وصولة ﴿ كان ﴾ في نفسه بجبلته وطبعه ﴿ زهوقاً ﴾ أي : لا يبقى بل يزول على أسرع الوجوه وقت وأسرع رجوع قضاء قضاه الله تعالى من الأزل قوله على أسرع الوجوه وقت الخ هكذا في جميع النسخ ولعله على أسرع الوجوه كل وقت ويرجع اه.
روى البخاري في التفسير عن ابن مسعود قال :«دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً صنم كل قوم بحيالهم فجعل يطعنها بعود في يده ويقول :﴿ جاء الحق وزهق الباطل ﴾ فجعل الصنم ينكب لوجهه » حديث وعن ابن عباس كانت لقبائل العرب أصنام يحجون إليها ويخرون لها فشكى البيت إلى الله تعالى فقال : أي : رب إلى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك فأوحى الله تعالى إلى البيت أني سأحدث لك نوبة جديدة فاملؤك خدوداً سجداً يدفون إليك دفيف النسور ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها لهم عجيج حولك بالتلبية.
ولما نزلت هذه الآية يوم الفتح جاء جبريل عليه السلام وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ مخصرتك ثم ألقها فجعل يأتي صنماً صنماً وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول :﴿ جاء الحق وزهق الباطل ﴾ فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعاً وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان قوارير صفر فقال :«يا علي الزم به » فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد ورمى به فكسره فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون : ما رأينا رجلاً أسحر من محمد. قال الزمخشري : وشكاية البيت والوحي إليه تخييل وتمثيل.
ولما بين سبحانه وتعالى الآلهيات والنبوّات والحشر والنشر والبعث وإثبات القضاء والقدر ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ونبه على ما فيها من الأسرار وكان القرآن هو الجامع لجميع ذلك أتبعه ببيان كونه شفاء ورحمة بقوله تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ﴾ أي : ما هو شفاء في تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمريض.
تنبيه : في من هذه ثلاثة أوجه أحدها : أنه لبيان الجنس قاله الزمخشريّ والبيضاويّ وابن عطية وأبو البقاء ورد عليهم أبو حيان بأنّ التي للبيان لا بدّ أن تتقدّمها عليه ما تبينه لا أن تتقدّم عليه وهنا قد وجد تقديمها عليه. الثاني : أنها للتبعيض وأنكره الحوفي لأنه يلزم أن لا يكون بعضه شفاء. وأجاب أبو البقاء بأنّ منه ما يشفي من المرض وهذا قد وجد بدليل رقية بعض الصحابة سيد الحيّ الذي لدغ بالفاتحة فشفي من المرض فيكون التبعيض بالنسبة للأمراض الجسمانية وإلا فهو كله شفاء للأبدان وللقلوب من الاعتقادات وغيرها. الثالث : أنها لابتداء الغاية وهو كما قال ابن عادل واضح.
﴿ و ﴾ من العجيب أنّ هذا الشفاء ﴿ لا يزيد الظالمين ﴾ وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه بإعراضهم هما يجب قبوله ﴿ إلا خسارا ﴾ أي : نقصاناً لأنه إذا جاءهم وقامت به الحجة عليهم أعرضوا عنه فكان إعراضهم ذلك زيادة في كفرهم كما أن قبول المؤمنين له وإقبالهم على تدبره زيادة في إيمانهم، وفي الدارمي عن قتادة قال : ما جالس أحد القرآن فقام عنه إلا بزيادة أو نقصان ثم قرأ هذه الآية،
ثم إنه تعالى ذكر السبب الأصلي في وقوع هؤلاء الكافرين الجاهلين الضالين في أودية الضلال ومقامات الخزي والنكال وهو حب الدنيا والرغبة في المال والجاه واعتقادهم أنّ ذلك إنما يحصل بسبب جدّهم واجتهادهم فقال تعالى :﴿ وإذا أنعمنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ على الإنسان ﴾ أي : هذا النوع هؤلاء وغيرهم وقال ابن عباس : إنّ الإنسان هاهنا هو الوليد بن المغيرة. قال الرازي : وهذا بعيد بل المراد، أي : نوعُ الإنسان إذا أنعمنا عليه ﴿ أعرض ﴾ أي : عن ذكرنا ودعائنا إذ شأن نوع الإنسان أنه إذا فاز بمقصوده ووصل إلى مطلوبه اغتر وصار غافلاً عن عبودية الله متمرّداً عن طاعة الله كما قال تعالى :﴿ إن الإنسان ليطغى ٦ أن رآه استغنى ﴾ [ العلق : ٦، ٧ ]. ﴿ ونأى ﴾ عن ذكر الله ﴿ بجانبه ﴾ أي : لوى عطفيه وبعد نفسه كأنه مستغني بأمره ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار لأنه من عادة المستكبرين ومعنى النأي في اللغة البعد والإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. وقرأ ابن ذكوان بألف ممدودة بعد النون وتأخير الهمزة مثل جاء وفي هذه القراءة تخريجان أحدهما من نأى ينوء، أي : نهض. والثاني : أنه مقلوب من نأى فيكونان بمعنى. قال ابن عادل : ولكن متى أمكن عدم القلب فهو أولى. وقرأ الباقون بالهمزة بعد النون وألف بعد همزة وآمال الألف بعد الهمزة السوسيّ وشعبة وخلاد محضة بخلاف عن السوسي وأمالها ورش بين بين وأمال الهمزة والنون محضة خلف والكسائيّ وفتح الباقون. ﴿ وإذا مسه الشرّ ﴾ أي : هذا النوع وإن قل ﴿ كان يؤساً ﴾ أي : شديد اليأس عما عهده من رحمة ربه والحاصل أنه إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها ونسي ذكر الله وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر الله فهذا المسكين محروم أبداً عن ذكر الله تعالى ونظيره قوله تعالى :﴿ فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ١٥ وأمّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ﴾ [ الفجر : ١٥، ١٦ ] وكذلك ﴿ إنّ الإنسان خلق هلوعاً ١٩ إذا مسه الشرّ جزوعاً ٢٠ وإذا مسه الخير منوعاً ﴾ [ المعارج : ١٩، ٢٠، ٢١ ] إلا من حفظه الله وشرّفه بالإضافة إليه فليس للشيطان عليه سلطان.
ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ قل كل ﴾ من الشاكر والكافر ﴿ يعمل على شاكلته ﴾ أي : طريقته التي تشاكل روحه وتشاكل ما طبعناه عليه من خير أو شرّ ﴿ فربكم ﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنّ الذي خلقكم وصوّركم ﴿ أعلم ﴾ من كل أحد ﴿ بمن هو ﴾ منكم ﴿ أهدى سبيلاً ﴾ أي : أوضح طريقاً واتباعاً للحق فيشكر ويصبر احتساباً فيعطيه الثواب ومن هو منكم أضلّ سبيلاً فيجعل له العقاب لأنه يعلم ما طبعهم عليه في أصل الخلقة وغيره تعالى إنما يعلم أمور الناس في طرائقهم بالتجربة وقد روى الإمام أحمد لكن بسند منقطع عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :" إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا وإذا سمعتم برجل تغير عن طبعه فلا تصدقوا فإنه يصير إلى ما جبل عليه ".
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿ ويسألونك ﴾ أي : تعنتا وامتحانا ﴿ عن الروح ﴾ فعن عبد الله بن مسعود قال بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوكأ على عسيب معه فمرَّ بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض اسألوه عن الروح وقال بعضهم : لا تسألوه لا يجيء بشيء تكرهونه فقال بعضهم : لنسألنّ فقام رجل منهم فقال : يا أبا القاسم ما الروح ؟ فسكت فقلت أنه يوحى إليه فقمت فلما انجلى عنه قال :﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ قال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه. وقال ابن عباس : إنّ قريشاً اجتمعوا فقالوا : إنّ محمداً نشأ فينا بالصدق والأمانة وما اتهمناه بكذب وقد ادّعى ما ادّعى فابعثوا نفراً إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود : سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبيّ وإن أجاب عن اثنين فهو نبيّ فسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأوّل ما كان أمرهم فإنه كان لهم حديث عجيب. وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها وعن الروح فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : أخبركم بما سألتم غداً ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي. قال مجاهد : اثنى عشر ليلة وقيل خمسة عشر يوماً وقيل أربعين يوماً وأهل مكة يقولون وعدنا محمد غداً وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى :﴿ ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً ٢٣ إلا أن يشاء الله ﴾ [ الكهف : ٢٣، ٢٤ ]. ونزل في الفتية :﴿ أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً ﴾ [ الكهف، ٩ ]. ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب ﴿ ويسألونك عن ذي القرنين ﴾ [ الكهف : ٨٣ ] ونزل في الروح :﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ﴾. وقول الرازي : ومن الناس من طعن في هذه الرواية من وجوه، وذكر من جملة ذلك كيف يليق به أن يقول إني لا أعرف هذه المسألة مع أنها من المسائل المشهورة المذكورة مع جمهور الخلق غير لائق لأنّ ذلك علامة على نبوّته. قال الزمخشري : فبيّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة فندموا على سؤالهم انتهى. واختلفوا في الروح الذي وقع السؤال عنه، فروى عن ابن عباس أنه جبريل عليه السلام وهو قول الحسن وقتادة، وروي عن علي أنه قال : ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بكلها. وقال مجاهد : خلق على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس وليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام. وقال سعيد بن جبير : لم يخلق الله تعالى خلقاً أعظم من الروح غير العرش، لو شاء أن يبتلع السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيهنّ بلقمة واحدة لفعل، صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين يقوم يوم القيامة على يمين العرش وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى عند الحجب السبعين وأقرب إلى الله تعالى وهو ممن يشفع لأهل التوحيد ولولا أنّ بينه وبين الملائكة ستراً من نور لاحترق أهل السماوات من نوره. وقيل الروح هو القرآن وقيل المراد منه عيسى فإنه روح الله تعالى وكلمته ومعناه أنه ليس كما تقوله اليهود ولا كما تقوله النصارى. وقال بعضهم : هو الروح المركب في الخلق الذي يحيا به الإنسان. قال البغوي : وهو الأصح وتكلم فيه قوم فقال بعضهم : هو الدم ألا ترى أنّ الحيوان إذا مات لا يفوت منه إلا الدم. وقال قوم : هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس. وقال قوم : عرض. وقال قوم : هو جسم لطيف. وقال بعضهم : الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء ألا ترى أنه إذا كان موجوداً يكون الإنسان موصوفاً بجميع هذه الصفات وإذا خرج ذهب الكل. قال البغوي : وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى الله عز وجل، وهو قول أهل السنة. قال عبد الله بن بريدة : إنّ الله تعالى لم يطلع على الروح ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً بدليل قوله تعالى :﴿ قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ أي : في جنب علم الله تعالى.
تنبيه : اختلف في المخاطب بقوله تعالى :﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ فقيل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل اليهود فإنهم يقولون : أوتينا التوراة وفيها العلم الكبير وقيل عام. روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال :«نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً ». فقالوا : ما أعجب شأنك ساعة تقول ﴿ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ﴾ [ البقرة، ٢٦٩ ]
وساعة تقول : هذا فنزلت. ﴿ ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه ﴾ [ لقمان، ٢٧ ] الآية قال الزمخشري : وليس ما قالوا بلازم لأنّ القلة والكثرة يدوران مع الإضافة فيوصف الشيء بالقلة مضافاً إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافاً إلى ما تحته، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله فهي قليلة. وقيل : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك أخباره كان علماً لنبوّته. قال البغوي : والأوّل أصح أنّ الله استأثره بعلمه انتهى. وعن أبي يزيد لقد مضى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح. وقال الرازي : قوله تعالى :﴿ قل الروح من أمر ربي ﴾ من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أنّ الروح قديمة أو حادثة فقال : بل هي حادثة، وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده، ثم احتج على إحداث الروح بقوله :﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ بمعنى أنّ الروح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم تحصل المعارف والعلوم فهي لا تزال تكون في التغير من حال إلى حال، وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغير والتبدّل من أمارات الحدوث. فقوله :﴿ قل الروح من أمر ربي ﴾ يدل على أنهم سألوه أنّ الروح هل هي حادثة أو قديمة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله تعالى وتكوينه وهو المراد من قوله تعالى :﴿ قل الروح من أمر ربي ﴾. ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال، وهو المراد بقوله :﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ فهذا ما نقوله في هذا الباب انتهى. وهو نص لطيف.
ولما بيّن سبحانه وتعالى أنهم ما آتاهم من العلم إلا قليلاً بيّن أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضاً لقدر عليه بقوله تعالى :﴿ ولئن شئنا ﴾ أي : ومشيئتنا لا يتعاظمها شيء واللام موطئة للقسم وأجاب عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال :﴿ لنذهبنّ ﴾ أي : بما لنا من العظمة ذهاباً محققاً ﴿ بالذي أوحينا إليك ﴾ بأن نمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان أمراً مخالفاً للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه. ﴿ ثم ﴾ أي : بعد الذهاب به ﴿ لا تجد لك به علينا وكيلاً ﴾ أي : لا تجد من تتوكل عليه في ردّ شيء منه وإعادته مسطوراً محفوظاً.
وقوله تعالى :﴿ إلا رحمة من ربك ﴾ استثناء متصل لأنه مندرج في قوله وكيلاً. والمعنى إلا أن يرحمك ربك فيردّه عليك أو منقطع فتقدر لكن عند البصريين أو بل رحمة من ربك عند الكوفيين. والمعنى ولكن رحمة من ربك أو بل رحمة من ربك بتركه غير مذهوب به وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن. قال الرازي : وهذا تنبيه على أنّ لله تعالى على جميع العلماء نوعين من المنة أحدهما : تسهيل ذلك العلم عليهم. والثاني : إبقاء حفظه عليهم فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين النعمتين وعن القيام بشكرهما وهما منة من الله تعالى عليه بحفظ العلم ورسوخه في صدره ومنته عليه في بقاء المحفوظ. فإن قيل : كيف يذهب القرآن وهو كلام الله تعالى ؟ أجيب : بأنّ المراد محو ما في المصاحف وإذهاب ما في الصدور. قال عبد الله بن مسعود : اقرؤوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع قيل هذه المصاحف ترفع فكيف ما في صدور الناس قال : يسري عليه ليلاً فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئاً ولا يجدون في المصاحف شيئاً ثم يفيضون في الشعر.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل له دويّ تحت العرش كدويّ النحل فيقول الرب ما لك ؟ فيقول : يا رب أتلى ولا يعمل بي. وفي رواية لابن مسعود أوّل ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وليصلين قوم ولا دين لهم وأنّ هذا القرآن تصبحون يوماً وما فيكم منه شيء فقال رجل : كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا وتعلمه أبناؤنا ويعلمه أبناؤنا أبناؤهم ؟ فقال : يسري عليه ليلاً فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب وقوله تعالى :﴿ إن فضله كان ﴾ أي : ولم يزل ﴿ عليك كبيراً ﴾ فيه قولان أحدهما المراد منه أنّ فضله كان عليك كبيراً بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك. ثانيهما أنّ المراد أنّ فضله كان عليك كبيراً بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود، وقد أنعم عليك أيضاً بإبقاء العلم والقرآن عليك.
ونزل حين قال الكفار للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن. ﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء البعداء ﴿ لئن اجتمعت الأنس ﴾ الذين تعرفونهم وتعرفون ما أوتوا من البلاغة والحكمة والذين لا تعرفونهم ﴿ والجنّ ﴾ الذين يأتون كهانهم ويعلمونهم ببعض المغيبات عنهم وغيرهم وترك الملائكة لأنهم لا عهد لهم بشيء من التصدي ولأنهم كانوا وسائط ﴿ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ﴾ في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى ﴿ لا يأتون بمثله ﴾ أي : لا يقدرون على ذلك فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله.
تنبيه : في قوله تعالى : لا يأتون بمثله قولان أظهرهما أنه جواب للقسم الموطأ له باللام والثاني : أنه جواب لشرط واعتذروا عن رفعه بأنّ الشرط ماض فهو كقوله :
وإن أتاه خليل، أي : فقير يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
لأنّ الشرط وقع ماضياً وناقشه أبو حيان بأنّ هذا ليس مذهب سيبويه ولا الكوفيين والمبرد لأنّ مذهب سيبويه في مثله أنّ النية به التقديم ومذهب الكوفيين والمبرد أنه على حذف الفاء وهذا مذهب ثالث قال به بعض الناس :﴿ ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ﴾ أي : معيناً بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه.
تنبيه : قد تقدّم في سورة البقرة أنّ الله تعالى قال :﴿ فأتوا بسورة من مثله ﴾ [ البقرة، ٢٣ ] وقدّمنا الكلام على ذلك وفي وجه كون القرآن معجزاً قولان أحدهما : أنه معجز في نفسه. والثاني : أنه ليس في نفسه معجزاً إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضاً للعادة فيكون معجزاً والقول الأوّل أظهر.
﴿ ولقد صرّفنا ﴾ أي : بينا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان ﴿ للناس في هذا القرآن من كل مثل ﴾ أي : من كل معنى هو كالمثل في غرابته ووقوعه متوقعاً في الأنفس. وقيل معناه من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد والقصص وغيرها. وقيل صفة لمحذوف، أي : مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا ﴿ فأبى أكثر الناس ﴾ وهم من هم في صورة الناس ككفار قريش وقد سلبوا معانيهم ﴿ إلا كفوراً ﴾ أي : جحوداً. فإن قيل : كيف جاز ﴿ فأبى أكثر الناس إلا كفوراً ﴾ ولم يجز ضربت إلا زيداً ؟ أجيب : بأنّ أبى متأول بالنفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفوراً.
ولما تبين بالدليل إعجاز القرآن على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح الآيات فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة وذكروا من ذلك ستة أنواع من المعجزات.
أوّلها :﴿ وقالوا ﴾ أي : كفار قريش ومن والاهم ﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر ﴾ أي : تفجيراً عظيماً ﴿ لنا من الأرض ينبوعاً ﴾ أي : عيناً غزيرة الماء من شأنها أن تنبع بالماء ولا ينضب ماؤها. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة والباقون بضم التاء وفتح الياء وكسر الجيم المشدّدة.
ثانيها قولهم :﴿ أو تكون لك ﴾ أنت وحدك ﴿ جنة من نخيل وعنب ﴾ أي : وأشجار عنب عبر عنه بالثمرة لأنّ الانتفاع منه بغيرها قليل ﴿ فتفجّر الأنهار ﴾ الجارية ﴿ خلالها ﴾ أي : وسطها ﴿ تفجيراً ﴾ أي : تشقيقاً والفجر شق الظلام عن عمود الصبح والفجور شق جلباب الحياء بما يخرج إلى الفساد.
ثالثها قولهم :﴿ أو تسقط السماء ﴾ أي : نفسها ﴿ كما زعمت ﴾ فيما تتوعدنا به ﴿ علينا كسفاً ﴾ أي : قطعاً جمع كسفة وهي القطعة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بنصب السين مثل قطعة وقطع وسدرة وسدر، والباقون بسكونها مثل دمنة ودمن وسدرة وسدر وهو نصب على الحال في القراءتين جميعاً كأنه قيل أو تسقط السماء علينا مقطعة.
رابعها : قولهم :﴿ أو تأتي ﴾ معك ﴿ بالله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ والملائكة قبيلاً ﴾ أي : عياناً ومقابلة ننظر إليه لا يخفى علينا شيء منه. وقال الضحاك : هو جمع قبيلة، أي : أصناف الملائكة قبيلة قبيلة. قال ابن هانئ كفيلاً، أي : يكفلون بما تقول.
خامسها : قولهم :﴿ أو يكون لك ﴾ أي : خاصاً بك ﴿ بيت من زخرف ﴾ أي : ذهب كامل الحسن والزينة.
سادسها : قولهم :﴿ أو ترقى ﴾ أي : تصعد ﴿ في السماء ﴾ درجة درجة ونحن ننظر إليك صاعداً ﴿ ولن نؤمن ﴾ أي : نصدق مذعنين ﴿ لرقيك ﴾ أي : أصلاً ﴿ حتى تنزل ﴾ وحققوا معنى كونه من السماء بقولهم ﴿ علينا كتاباً ﴾ ومعنى كونه في رق أو نحوه بقولهم ﴿ نقرؤه ﴾ يأمرنا فيه بأتباعك. روى عكرمة عن ابن عباس أنّ عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا البحتري بن هشام وعبد الله بن أمية وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام والعاص بن وائل ونبهانا ومنبهاً ابني الحجاج اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك يكلمونك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظنّ أنهم بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم أنّ رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعيبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا تراه قد غلب عليك لا تستطيع ردّه بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجنّ الرئي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا للشرف عليكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه إليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم. فقالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق بلاداً وأشدّ عيشاً منا فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت ويبسط لنا بلادنا ويفجر فيها أنهاراً كأنهار الشأم والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدّقوك صدّقناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به وإن تقبلوه فهو حظكم وإن تردّوه أصبر لأمر الله. قالوا : فإن لم تفعل فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدّقك وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك فإنا نقوم بالأسواق ونلتمس المعاش كما تلتمسه فقال صلى الله عليه وسلم ما بعثت بهذا ولكنّ الله بعثني بشيراً ونذيراً. قالوا : فأسقط السماء كما زعمت إنّ ربك إن شاء فعل ؟ فقال : ذاك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم. فقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً، فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أمية وهو ابن عاتكة بنت عبد المطلب، وقال له : عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك أن تجعل ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ترقى به، وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدّقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً لما رأى من مباعدتهم فأنزل الله هذه الآية » وفيها إشارة إلى أنه ليس من شرط كونه نبياً صادقاً تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها إذ لو فتح هذا الباب لزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمعجز اقترحوا عليه بمعجز آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حدّ ينقطع عنه عناد المعاندين وتعنت الجاهلين
مع أنه صلى الله عليه وسلم أعطى من الآيات والمعجزات ما أغنى عن هذا كله مثل القرآن وانشقاق القمر وتفجير العيون من بين الأصابع وما أشبه ذلك.
ولما تمّ تعنتهم وكان لسان الحال طالباً من الله تعالى الجواب عنه أمر الله تعالى بجوابهم بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء البعداء والأشقياء :﴿ سبحان ربي ﴾ أي : تعجباً من اقتراحاتهم وتنزيهاً لله من أن يأتي أو يتحكم عليه أو يشاركه أحد في القدرة. وقرأ ابن كثير وابن عامر بصيغة الماضي والباقون قل بصيغة الأمر و﴿ هل كنت إلا بشراً ﴾ لا يقدر على غير ما يقدر عليه البشر ﴿ رسولاً ﴾ كما كان من قبلي من الرسل وكانوا لا يؤتون قومهم إلا بما يظهره الله تعالى على أيديهم بما يلائم حال قومهم ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله حتى يتخيروها. هذا هو الجواب المجمل، وأمّا التفصيلي فقد ذكر في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم ﴾ [ الأنعام، ٧ ] ﴿ ولو فتحنا عليهم باباً ﴾ [ الحجر، ١٤ ]
ونحو ذلك.
ولما أمر بما تضمن أنه كإخوانه من الرسل في كونه بشراً أتبعه قوله عطفاً على فأبى أو وقالوا :﴿ وما منع الناس ﴾ أي : قريشاً ومن قال بقولهم لما لهم من الاضطراب ﴿ أن يؤمنوا ﴾ أي : لم يبق لهم مانع من الإيمان والجملة مفعول منع ﴿ إذ جاءهم الهدى ﴾ أي : الدليل القاطع على الإيمان وهو القرآن وغيره من الأدلة. وقرأ أبو عمرو وهشام بإدغام ذال إذ عند الجيم والباقون بالإظهار وأمال الألف بعد الجيم حمزة وابن ذكوان محضة وإذا وقف حمزة على جاءهم سهل الهمزة مع المدّ والقصر. ﴿ إلا أن قالوا ﴾ فاعل منع أن قالوا، أي : منكرين عليه غاية الإنكار متعجبين متهكمين ﴿ أبعث الله بشراً رسولاً ﴾ لأنّ الكفار كانوا يقولون : لن نؤمن لك لأنك بشر، ولو بعث الله تعالى رسولاً إلى الخلق لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة
فأجابهم الله تعالى بقوله :﴿ قل ﴾. أي : لهؤلاء المطرودين عن الرحمة ﴿ لو كان في الأرض ملائكة يمشون ﴾ عليها كالآدميين ﴿ مطمئنين ﴾ أي : مستوطنين فيها كالبشر ﴿ لنزلنا عليهم ﴾ مرّة بعد مرّة كما فعلنا في تنزيل جبريل عليه السلام على الأنبياء من البشر وحقق الأمر بقوله تعالى :﴿ من السماء ملكاً رسولاً ﴾ يعلمهم الخير ويهديهم المراشد لتمكنهم من التلقي منه لمشاكلتهم له بخلاف البشر كما هو مقتضى الحكمة لأنّ رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم إذ الشيء عن شكله أفهم وبه آنس وإليه أحنّ وله آلف إلا من فضله الله تعالى بتغلب روحه على نفسه، وبتغلب عقله على شهوته فأقدره بذلك على التلقي من الملك كالمرسلين.
ثم أجابهم الله تعالى جواباً آخر بقوله عز وجلّ :﴿ قل كفى بالله ﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً. وأمال الألف حمزة والكسائي محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ﴿ شهيداً بيني وبينكم ﴾ على أني رسوله إليكم ليظهر المعجزات على وفق دعواهم وإني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم عاندتم ومن يشهد الله على صدقه فهو صادق فعند ذلك قول القائل بأنّ الرسول يجب أن يكون ملكاً لا إنساناً تحكم فاسد لا يلتفت إليه.
تنبيه : شهيداً نصب على الحال أو التمييز، ثم إنه تعالى ذكر ما هو كالتهديد والوعيد بقوله تعالى :﴿ إنه كان بعباده خبيراً بصيراً ﴾ يعلم ظواهرهم وبواطنهم، ويعلم من قلوبهم أنهم لا ينكرون هذا إلا لمحض الحسد وحب الرياسة والاستنكاف من الانقياد للحق.
ولما تقدّم أنه تعالى أعلم بالمهتدي والضال عطف عليه قوله تعالى :﴿ ومن يهد الله ﴾ بأن يخلق الهداية في قلبه ﴿ فهو المهتدى ﴾ لا يمكن أحد غيره أن يضله.
تنبيه : أثبت نافع وأبو عمرو الياء بعد الدال مع الوصل دون الوقف وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً.
﴿ ومن يضلل فلن تجد لهم ﴾ أي : الضالين ﴿ أولياء ﴾ يهدونهم ﴿ من دونه ﴾ ولا ينفعونهم بشيء أراد الله تعالى غيره. ولما كان يوم القيامة يظهر الله فيه لكل أحد ما كان يعمله نبه على ذلك بقوله تعالى :﴿ ونحشرهم ﴾ بنون العظمة، أي : نجمعهم بكره ﴿ يوم القيامة ﴾ الذي هو محط الحكمة ﴿ على وجوههم ﴾ مسحوبين عليها إهانة لهم فيها كما لم يذلوها بالسجود لنا. قال تعالى :﴿ يوم يسحبون في النار على وجوههم ﴾ [ القمر، ٤٨ ] أي : يمشون عليها. روى أبو هريرة قيل : يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم قال :«إنّ الذي يمشيهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ». قال حكماء الإسلام : إنّ الكفار أرواحهم شديدة التعلق بالدنيا ولذاتها وليس لها تعلق بعالم الأنوار وحضرة الإله سبحانه وتعالى، فلما كانت وجوه قلوبهم وأرواحهم متوجهة إلى الدنيا لا جرم كان حشرهم على وجوههم، وأمّا قوله تعالى :﴿ عمياً وبكماً وصماً ﴾ فقد استشكله شخص على ابن عباس فقال : أليس قد قال الله تعالى :﴿ ورأى المجرمون النار ﴾ [ الكهف، ٥٣ ] وقال تعالى :﴿ سمعوا لها تغيظاً وزفيراً ﴾ [ الفرقان، ١٢ ] وقال تعالى :﴿ دعوا هنالك ثبوراً ﴾ [ الفرقان، ١٣ ] وقال تعالى :﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ﴾ [ النحل، ١١١ ]. وقال تعالى حكاية عن الكفار :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ [ الأنعام، ٢٣ ]. فثبت بهذه الآيات أنهم يرون ويسمعون ويتكلمون فكيف قال تعالى هنا :﴿ عمياً وبكماً وصماً ﴾ ؟ أجاب ابن عباس وتلامذته عنه من وجوه الأوّل : قال ابن عباس عمياً لا يرون شيئاً يسرّهم صماً لا يسمعون شيئاً يسرّهم بكما لا ينطقون بحجة الثاني قال في رواية عطاء عمياً عن النظر، أي : عما جعله الله تعالى لأوليائه وبكماً عن مخاطبة الله تعالى ومخاطبة الملائكة المقرّبين صماً عن ثناء الله تعالى عليهم. الثالث : قال مقاتل : إنه حين يقال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون يصيرون عمياً بكماً صماً، أمّا قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون. الرابع : أنهم يكونون رائين سامعين ناطقين في الموقف ولولا ذلك لما قدروا أن يطالعوا كتبهم ولا أن يسمعوا لإلزام حجة الله تعالى عليهم إلا أنهم إذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار جعلهم الله تعالى عمياً بكماً صماً. قال الرازي : والجواب الأول أولى لأنّ الآيات السابقة تدل على أنهم في النار يبصرون ويسمعون ويصيحون. ثم بيّن تعالى مكانهم بقوله عز وجلّ :﴿ مأواهم جهنم ﴾ تسعر عليهم ﴿ كلما خبت ﴾ أي : أخذ لهبها في السكون عند أكلها لحومهم وجلودهم ﴿ زدناهم سعيراً ﴾ توقد بإعادة الجلود واللحوم ملتهبة مسعرة كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم الله تعالى بأن لا يزالوا على الإعادة والإفناء. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر بإظهار تاء التأنيث عند الزاي وأدغمها الباقون.
ثم بين علة تعذيبهم ليرجع منهم من قضى بسعادته بقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ أي : العذاب العظيم ﴿ جزاؤهم بأنهم ﴾ أي : أهل الضلالة ﴿ كفروا بآياتنا ﴾ القرآنية وغيرها وكانوا كل يوم يزدادون كفراً وهم عازمون على الدوام على ذلك ما بقوا ﴿ وقالوا ﴾ إنكاراً لقدرتنا ﴿ أئذا كنا عظاماً ورفاتاً ﴾ ممزقين في الأرض ثم كرّروا الإنكار كأنهم على ثقة من أمرهم هذا الذي بطلانه أوضح من الشمس بقولهم ﴿ أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً ﴾ فنحن نريهم جزاء على هذا الإنكار المكرّر الخلق الجديد في جلودهم ولحومهم مكرّراً كل لحظة، قال تعالى :﴿ كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ﴾ [ النساء، ٥٦ ].
ثم أتبعه بقاطع في بيان جهلهم بقوله تعالى :﴿ أو لم يروا ﴾ أي : يعلموا بعيون بصائرهم على ما هو كالرؤية بعيون أبصارهم لما قام عليه من الدلائل بصحته من الشواهد الجلائل ﴿ أنّ الله الذي خلق السماوات ﴾ جمعها لما دل على ذلك من الحسن، ولما لم تكن الأرض مثل ذلك أفردها مريداً الجنس الصالح للجميع بقوله تعالى :﴿ والأرض ﴾ على كبر أجرامها وعظم أحكامها، وقوله تعالى :﴿ قادر على أن يخلق مثلهم ﴾ فيه قولان الأوّل : المعنى قادر على أن يخلقهم ثانياً، فعبر عن خلقهم ثانياً بلفظة المثل كما يقوله المتكلمون أنّ الإعادة مثل الابتداء. الثاني : أنّ المراد قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحدونه ويقرّون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا فهو كقوله تعالى :﴿ ويأت بخلق جديد ﴾ [ إبراهيم، ١٩ ]. وقوله تعالى :﴿ قوماً غيركم ﴾ [ التوبة، ٣٩ ]. قال الواحدي : والقول هو الأوّل لأنه أشبه بما قبله.
ولما بيّن الله تعالى بالدليل المذكور أنّ البعث والقيام أمر ممكن الوجود في نفسه أردفه ببيان أن لوقوعه في الوجود وقتاً معلوماً عند الله وهو قوله تعالى :﴿ وجعل لهم أجلاً لا ريب ﴾ أي : لا شك ﴿ فيه ﴾ وهو الموت أو القيامة ﴿ فأبى الظالمون إلا كفوراً ﴾ أي : بعد هذه الدلائل الظاهرة أبوا إلا الكفر والجحود.
ولما قال الكفار :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ﴾ فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم ويتسع عيشهم، بيّن تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء المتعنتين ﴿ لو أنتم ﴾ أي : دون غيركم ﴿ تملكون خزائن ﴾ عبر بصيغة منتهى الجموع لأنّ المقام جدير بالمبالغة ﴿ رحمة ربي ﴾ أي : خزائن رزقه وسائر نعمه وذلك غير متناه. ﴿ إذاً لأمسكتم ﴾ أي : لوقع منكم الإمساك عن الإنفاق في بعض الوجوه التي تحتاجونها ﴿ خشية ﴾ أي : مخافة عاقبة ﴿ الإنفاق ﴾ أي : الموصل إلى الفقر فكان المعنى أنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على الشح والدناءة وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشح. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ : أنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده. قال الزمخشريّ : تقديره لو تملكون جرى فيه على مذهب الكوفيين من أن لو يليها الفعل مضمراً كما يليها ظاهراً والبصريون يمنعون إيلاء لها مضمراً إلا في شذوذ كقول حاتم لو ذات سوار لطمتني، وأصل هذا المثل أنّ امرأة عطلاء من الحلي والهيئة لطمت حاتماً على نحر الناقة وقالت له بقسوة إنما أردناك بفصدها والفصد عندهم أن يقطع عرق من عروق ثم يجمع دمها فيشوى وقيل أصله أنّ المرأة المذكوة لطمت رجلاً فقال : لو ذات سوار لطمتني لاحتملتها فصار مثلاً يضرب لكريم يلطمه الدني، ثم استدل على صحة هذا المفروض بالشاهد من مضمون قولهم ﴿ وكان ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ الإنسان ﴾ أي : الذي من شأنه الأنس بنفسه فهو لذلك لا يعقل الأمور حق عقلها ﴿ قتوراً ﴾ أي : بخيلاً.
تنبيه : فتح الياء في ربي نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون وهم على مراتبهم في المدّ. فإن قيل : قد يوجد في جنس الإنسان من هو جواد كريم ؟ أجيب : من وجوه الأوّل : أن الأصل في الإنسان البخل لأنه خلق محتاجاً والمحتاج لا بدّ وأن يحبس ما به يدفع الحاجة وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج فثبت أن الأصل في الإنسان البخل. الثاني : أنّ الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وليخرج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل. الثالث : أنّ المراد بهذا الإنسان المعهود
السابق وهم الذين قالوا :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ﴾.
ولما قدم سبحانه وتعالى أن أكثر الناس جحدوا الآيات لكونه تعالى حكم بضلالهم ومن حكم بضلاله لا يمكن هداه شرع يسلي نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بما أتفق لمن قبله من الأنبياء بقوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ﴾ أي : واضحات.
واختلف في هذه الآيات فقال ابن عباس والضحاك هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وقال مجاهد وعطاء : هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الثمرات. وقال البقاعي : وهي كما في التوراة : العصا ثم الدم ثم الضفادع ثم القمل ثم موت البهائم ثم البرد الكبار التي أنزلها الله تعالى مع النار المضطرمة فكانت تهلك كل ما مرّت عليه من نبات وحيوان ثم الجراد ثم الظلمة ثم موت الأبكار من الآدميين وجميع الحيوان ثم قال : وقد نظمتها ليهون حفظها فقلت :
عصا قمل موت البهائم ظلمة جراد دم ثم الضفادع والبرد
وموت بكور الآدميّ وغيره من الحيّ آتاه الذي عز وانفرد
قال : وكأنه عدّ اليد مع العصا آية، ولم تفرد اليد لأنه ليس فيها ضرر عليهم اه. وقال البيضاويّ : هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفجار الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل وذكر محمد بن كعب القرظي الطمس والبحر بدل السنين ونقص من الثمرات. وقال : كان الرجل منهم مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين والمرأة منهم قائمة تخبز وقد صارت حجراً. وقال بعضهم : هي آيات الكتاب وهي أحكام يدل عليها. ما روي عن صفوان " أن يهودياً قال لصاحبه : تعال نسأل هذا النبيّ فقال الآخر : لا تقل نبيّ، فإنه لو سمع صارت له أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية :﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ﴾ فقال لا تشركوا بالله شيئاً ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرفوا ولا تقذفوا المحصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلوا يده، وقالوا : نشهد أنك نبيّ. قال : فما منعكم أن تتبعوني ؟ قالوا : إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبيّ وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود ".
وقال الرازيّ : علم أنه تعالى ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى عليه السلام، أحدها : أنه تعالى أزال العقدة من لسانه، قيل في التفسير ذهب أعجم وجاء فصيحاً. ثانيها : انقلاب العصا حية. ثالثها : تلقف الحية حبالهم وعصيهم مع كثرتها. رابعها : اليد البيضاء. وخمسة أخرى وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعاشر شق البحر وهو قوله تعالى :﴿ وإذ فرقنا بكم البحر ﴾ [ البقرة، ٥٠ ] والحادي عشر الحجر، وهو قوله تعالى :﴿ أن اضرب بعصاك الحجر ﴾، [ الأعراف، ١٦٠ ] والثاني عشر : إظلال الجبل، وهو قوله تعالى :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ﴾. [ الأعراف، ١٧١ ] والثالث عشر : إنزال المنّ والسلوى عليه وعلى قومه. والرابع عشر والخامس عشر : قوله تعالى :﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات ﴾ [ الأعراف، ١٣٠ ] والسادس عشر : الطمس على أموالهم حجارة من النخل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير. روي أنّ عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله تعالى :﴿ تسع آيات بينات ﴾ فذكر محمد بن كعب في جملة التسع حل عقدة اللسان والطمس. فقال عمر بن عبد العزيز : هكذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال : يا غلام أخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور نصفين وجوز مكسور وفوم وعدس وحمص كلها حجارة، وقوله تعالى :﴿ فاسأل ﴾، أي : يا أعظم خلقنا ﴿ بني إسرائيل ﴾ يجوز أن يكون الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره. وقرأ ابن كثير والكسائيّ بفتح السين ولا همزة بعدها، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها ويجوز أن يكون الخطاب له خاصة وأمره بالسؤال لهم ليتبين له كذبهم مع قومهم، أي : فاسأل بني إسرائيل عامّة الذين نبهوا قريشاً على السؤال عن الروح كما في بعض الروايات، وعن أهل الكهف وذي القرنين وعن حديث موسى عليه السلام والمؤمنين منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه ﴿ إذ ﴾، أي : عن ذلك حين ﴿ جاءهم ﴾، أي : جاء آباءهم فوقع له من التكذيب بعد إظهار المعجزات الباهرات ما وقع لك ﴿ فقال ﴾، أي : فذهب إلى فرعون فأمره بإرسالهم معه فأبى فأظهر له الآيات واحدة بعد أخرى فتسبب عن ذلك صدق ما يقتضيه الحال وهو أن قال :﴿ له فرعون ﴾ عتوًّا واستكباراً ﴿ إني لأظنك يا موسى مسحوراً ﴾، أي : مخدوعاً مغلوباً على عقلك فكل ما ينشأ عنك فهو من آثار السحر وهذا كما قالت قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً أو ﴾ [ الإسراء، ٤٧ ] وقال في موضع آخر ساحر وأنهم ربما أطلقوا اسم المفعول مريدين اسم الفاعل مبالغة لأنه كالمخبر عن الفعل وفي الأمر بسؤال اليهود تنبيه على ضلالهم.
ولما لم يؤمن فرعون على تواتر تلك الآيات وعظمها فكأنه قيل فما قال موسى عليه السلام ؟ فقيل :﴿ قال ﴾ لفرعون ﴿ لقد علمت ﴾ بفتح التاء قراءة غير الكسائيّ وقرأ الكسائيّ بضمها على إخباره عن نفسه. ﴿ وما أنزل هؤلاء ﴾، أي : الآيات ﴿ إلا رب السماوات والأرض ﴾، أي : خالقهما ومدبرهما حال كون هذه الآيات ﴿ بصائر ﴾، أي : بينات يبصر بها صدقي، وأمّا السحر فإنه لا يخفى أنه خيال لا حقيقة له ولكنك تعاند.
تنبيه : قوله تعالى : هؤلاء الكلام عليه من جهة الهمزتين كالكلام على هؤلاء إن كنتم في البقرة وقد تقدّم الكلام على ذلك.
ثم حكى الله تعالى أن موسى قال لفرعون :﴿ وإني ﴾، أي : وإن ظننتني يا فرعون مسحوراً ﴿ لأظنك يا فرعون مثبوراً ﴾، أي : ملعوناً مطروداً ممنوعاً من الخير فاسد العقل فعارضه موسى بذلك وشتان بين الظنين فإن ظنّ فرعون كذب صرف لعناده لرب العالمين لوضوح مكابرته للبصائر التي كشف عنها ربها الغطاء فهي أوضح من الشمس، وظنّ موسى عليه السلام قريب إلى الصحة واليقين من نظائر أماراته لأن هذه الآيات ظاهرة وهذه المعجزات قاهرة. ولا يرتاب العاقل أنها من عند الله وفي أنه تعالى أظهرها لأجل تصديقي وأنت منكرها فلا يحملنك على هذا الإنكار إلا الحسد والعناد والبغي والجهل وحب الدنيا ومن كان كذلك كانت عاقبته الدمار والثبور.
﴿ فأراد ﴾، أي : فما تسبب عن هذا الذي هو موجب للإيمان في العادة إلا أن فرعون أراد ﴿ أن يستفزهم ﴾، أي : يستخف بموسى وبمن آمن معه ويخرجهم فيكونوا كالماء إذا سال من قولهم فز الجرح إذا سال. ﴿ من الأرض ﴾ بالنفي والقتل للتمكن منهم كما أراد هؤلاء أن يستفزوك منها مما هم عليه من الكفر والعناد. ثم أخذ تعالى يحذرهم سطواته بما فعل بمن كان قبلهم وأكثر منهم وأشدّ بقوله تعالى :﴿ فأغرقناه ﴾، أي : فتسبب عن ذلك أن رددنا كيده في نحره كما قال تعالى :﴿ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ﴾ [ فاطر، ٤٣ ]. أراد فرعون أن يخرج موسى من أرض مصر لتتخلص له تلك البلاد والله تعالى أهلك فرعون وجعل تلك الأرض خالصة لموسى ولقومه فأدخله البحر حين أدخل بني إسرائيل فأنجاهم وأغرق آل فرعون ﴿ ومن معه جميعاً ﴾ كما جرت به سنة الله تعالى فيمن عاند بعد أن رأى الخوارق وكفر النعمة وأفرط في البغي بعد ظهور الحق فليحذر هؤلاء مثل ذلك ولاسيما إذا خرج رسولنا من بين أظهرهم ففي هذه الآية وأمثالها بشارة له صلى الله عليه وسلم في أنّ الله تعالى يسلك به في النصرة والتمكن سبيل إخوانه من الرسل عليهم الصلاة والسلام.
﴿ وقلنا من بعده ﴾، أي : الإغراق ﴿ لبني إسرائيل ﴾ الذين كانوا تحت يده أذل من العبيد لتقواهم وإحسانهم ﴿ اسكنوا الأرض ﴾، أي : التي أراد أن يستفزكم منها ﴿ فإذا جاء ﴾، أي : مجيئاً محققاً ﴿ وعد الآخرة ﴾، أي : القيامة بعد أن سكنتم الأرض أحياء ودفنتم فيها أمواتاً ﴿ جئنا ﴾، أي : بما لنا من العظمة والقدرة ﴿ بكم ﴾ منها ﴿ لفيفاً ﴾، أي : بعثناكم وإياهم مختلطين لا حكم لأحد على آخر ولا دفع لأحد عن آخر على غير الحالة التي كانت في الدنيا ثم ميزنا بعضكم عن بعض.
ثم عطف سبحانه وتعالى على قوله تعالى :﴿ ولقد صرّفنا ﴾ قوله عز وجلّ :﴿ وبالحق ﴾، أي : من المعاني الثابتة التي لا مرية فيها لا بغيره ﴿ أنزلناه ﴾ نحن، أي : القرآن فهو ثابت لا يزول كما أنّ الباطل هو الذاهب الزائل وهذا القرآن الكريم مشتمل على أشياء لا تزول وذلك لأنه مشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام وعلى تعظيم الملائكة وتقرير نبوّة الأنبياء وإثبات الحشر والنشر والقيامة، وكل ذلك مما لا يقبل الزوال ويشتمل أيضاً على شريعة باقية لا يتطرّق إليها النقص والتغيير والتحريف وأيضاً هذا القرآن تكفل الله تعالى بحفظه عن تحريف الزائغين وتبديل الجاهلين كما قال تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ [ الحجر، ٩ ]. ﴿ وبالحق ﴾ لا بغيره ﴿ نزل ﴾ هو ووصل إليهم على لسانك بعد إنزاله عليك كما أنزلناه سواء غضاً طرياً محفوظاً لم يطرأ عليه طارئ فليس فيه من تحريف ولا تبديل كما وقع في كتاب اليهود الذين سألهم قومك ثم قال تعالى :﴿ وما أرسلناك ﴾ يا أفضل الخلق بما لنا من العظمة ﴿ إلا مبشراً ﴾ للمطيع ﴿ ونذيراً ﴾ للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا ما يقترحونه عليك من المعجزات فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به وإلا فليس عليك من كفرهم شيء.
ثم إنّ الله تعالى أخبر أنّ الحكمة في إنزال القرآن مفرّقاً بقوله عز وجلّ :﴿ وقرآناً ﴾، أي : وفصلنا أو وأنزلنا قرآناً ﴿ فرقناه ﴾، أي : أنزلناه منجماً في أوقات متطاولة قال سعيد بن جبير نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى، ثم فصل في السنين التي نزل فيها. قال قتادة : كان بين أوّله وآخره عشرون سنة وقيل ثلاث وعشرون سنة والمعنى قطعناه آية آية وسورة سورة ولم ينزل جملة ﴿ لتقرأه على الناس ﴾، أي : عامّة ﴿ على مكث ﴾، أي : مهل وتؤدة ليفهموه ﴿ ونزلناه ﴾ من عندنا بما لنا من العظمة ﴿ تنزيلاً ﴾ بعضه إثر بعض مفرّقاً بحسب الوقائع لأنه أتقن في فصلها وأعون على الفهم لطول التأمّل لما نزل من نجومه في مدّة ما بين النجمين لغزارة ما فيه من المعاني.
ثم إن الله تعالى هدّدهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ لهؤلاء المضلين ﴿ آمنوا به ﴾، أي : القرآن ﴿ أو لا تؤمنوا ﴾ فالإيمان به غير محتاج إليكم ولا موقوف عليكم لأنكم إن آمنتم به كان الحظ لكم وإلا لم تضروا إلا أنفسكم فاختاروا ما تريدون فإن إيمانكم بالقرآن لا يزيده كمالاً وامتناعكم منه لا يورثه نقصاناً وقوله تعالى :﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله ﴾، أي : من قبل إنزاله ممن آمن به من بني إسرائيل تعليل له، أي : إن لم تؤمنوا به وأنتم أهل جاهلية وشرك فإنّ خيراً منكم وأفضل وهم العلماء الذين قرؤوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع قد آمنوا به وصدّقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربيّ الموعود في كتبهم ﴿ إذا يتلى عليهم ﴾، أي : القرآن ﴿ يخرون للأذقان ﴾ منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام. قال الزجاج : الذقن مجمع اللحيين وكما يبتدئ الإنسان بالخرور إلى السجود فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن. وقيل : إنّ الأذقان كناية عن اللحى والإنسان إذا بالغ عند السجود في الخشوع والخضوع ربما مسح لحيته على التراب، فإنّ اللحية يبالغ في تنظيفها فإذا عفرها الإنسان بالتراب في حوض المبالغة فقد أتى بغاية التعظيم، وقيل : إنّ الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشي عليه فيكون حينئذ خروره على الذقن فقوله ﴿ يخرّون للأذقان ﴾ كناية عن غاية ولهه وخوفه وخشيته. فإن قيل : لم قال :﴿ يخرّون للأذقان سجداً ﴾ ولم يقل يسجدون ؟ أجيب : بأنّ المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى كأنهم يسقطون. فإن قيل : لم قال :﴿ يخرّون للأذقان ﴾ ولم يقل على الأذقان ؟ أجيب : بأن العرب تقول إذا خرّ الرجل فوقع لوجهه خرّ للذقن ثم بين أن ذلك ليس سقوطاً اضطرارياً من كل جهة بقوله تعالى :﴿ سجداً ﴾، أي : يفعلون ذلك لما يعلمون من خيفته بما أوتوا من العلم السالف وما في قلوبهم من الإذعان والخشية للرحمن.
﴿ ويقولون ﴾، أي : على وجه التجديد المستمرّ ﴿ سبحان ربنا ﴾ تنزيهاً له عن خلف الوعد ﴿ إن ﴾، أي : انه ﴿ كان ﴾، أي : كوناً لا ينفك ﴿ وعد ربنا ﴾، أي : المحسن إلينا بالإيمان وما تبعه من وجوه العرفان ﴿ لمفعولاً ﴾، أي : دون خلف ولا بدّ أن يأتي جميع ما وعد به في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال الفرقان عليه ومن الثواب والعقاب وهو تعريض بقريش حيث كانوا يستهزؤون بالوعيد في قولهم أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ونحوه مما في معناه الطعن في قدرة الله تعالى القادر على كل شيء.
وقوله تعالى :﴿ ويخرّون للأذقان يبكون ﴾ كرّره لاختلاف الحال والسبب فإنّ الأول للشك عند إنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله ﴿ ويزيدهم ﴾، أي : سماع القرآن ﴿ خشوعا ﴾، أي : خضوعاً وتواضعاً ولين قلب ورطوبة عين.
ولما طالت الكلمات في المناظرة مع المشركين ومنكري النبوّات والجواب عن شبهاتهم أتبعها ببيان كيف يدعون الله ويطيعونه وكيف يذكرونه في وقت الاشتغال بأداء العبودية فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ لهم ﴿ ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ﴾ واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات ليلة وهو ساجد :«يا الله يا رحمن » فسمعها أبو جهل وهم لا يعرفون الرحمن. فقال : إنّ محمداً ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر مع الله تعالى يقال له الرحمن، فأنزل الله تعالى هذه الآية، أي : إن شئتم قولوا يا الله وإن شئتم قولوا يا رحمن. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بالدعاء يقول : يا الله يا رحمن فسمعه أهل مكة فأقبلوا عليه فأنزل الله تعالى :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ﴾ الآية ». وعن ابن عباس أنّ ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في أوّل ما أنزل وكان الذين قد أسلموا من اليهود يسوءهم قلة ذلك لكثرته في التوراة كابن سلام وابن يامين وابن صوريا وغيرهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فنزل قوله تعالى :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ﴾، فقال قريش : ما بال محمد كان يدعو إلها واحداً وهو الآن يدعو إلهين ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة فنزل ﴿ وهم بذكر الرحمن هم كافرون ﴾ [ الأنبياء، ٣٦ ]، ونزل أيضاً قوله تعالى :﴿ قالوا وما الرحمن ﴾ [ الفرقان، ٦٠ ]، وفرح مؤمنو أهل الكتاب وهو قوله تعالى :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب ﴾، أي : مشركي قريش ﴿ من ينكر بعضه ﴾ [ الرعد، ٣٦ ]. وعن ابن عباس «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ﴾ إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمان من السرقة، فإنّ رجلاً من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجد الباب مردوداً فوضع الكارة ففعل ذلك ثلاث مرّات فضحك صاحب الدار فقال : إني أحصن بيتي ». فإن قيل : إذا قال الرجل ادع زيداً أو عمراً فهم منه كون زيد مغايراً لعمرو فيوهم كون الله تعالى غير الرحمن وحينئذ تقوى شبهة أبي جهل لعنه الله تعالى ؟ أجيب : بأنّ الدعاء هنا بمعنى التسمية لا بمعنى النداء والتسمية تتعدّى إلى مفعولين يقال دعوته زيداً ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال دعوت زيداً والله والرحمن المراد بهما الاسم لا المسمى و أو للتخيير فمعنى الآية ادعوا باسم الله أو ادعوا باسم الرحمن، أي : اذكروه بهذا الاسم أو اذكروه بذلك الاسم فقوله ادعوا الله ينبه على ملزم في كرمه بحكم الوعد من إفاضة الرحمة والكرم، وأيضاً تخصيص هذين الاسمين بالذكر يدل على على أنهما أشرف من سائر الأسماء وتقديم اسم الله على اسم الرحمن يدل على أنّ قولنا الله أعظم الأسماء وتقدّم الكلام على ذلك في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم والتنوين في قوله تعالى :﴿ أياً مّا تدعوا ﴾ عوض عن المضاف إليه وما صلة للأبهام المؤكد والمعنى أياً تدعوا فهو حسن فوضع موضعه قوله تعالى :﴿ فله الأسماء الحسنى ﴾ لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان لأنهما منها ومعنى كونها أحسن الأسماء أنها مستقلة بمعاني التمجيد والتقديس والتعظيم وقد قدّمنا ذكر الأسماء الحسنى في الأعراف عند قوله تعالى :﴿ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ﴾ [ الأعراف، ١٨٠ ]
وبعض الأحاديث الواردة في فضلها فليراجع، ووقف حمزة والكسائيّ على الألف بعد الياء ووقف الباقون على الألف بعد الميم، واختلف في تفسير ونزول قوله تعالى :﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ﴾ فروى ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه ﴿ ولا تجهر بصلاتك ﴾ فيسمعه المشركون فيسبوا الله تعالى عدواً بغير علم ﴿ ولا تخافت بها ﴾ فلا تسمع أصحابك ﴿ وابتغ بين ذلك سبيلاً ﴾ وروي «أنه صلى الله عليه وسلم طاف بالليل على دور الصحابة فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يخفي صوته بالقراءة في صلاته وكان عمر يرفع صوته، فلما جاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : لم تخفي صوتك فقال : أناجي ربي وقد علم حاجتي، وقال لعمر : لم ترفع صوتك ؟ فقال : أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلاً وعمر أن يخفض صوته قليلاً ». وقيل معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلاً، بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار، وقيل إنّ المراد بالصلاة الدعاء، وهذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها وأبي هريرة ومجاهد، قالت عائشة : هي الدعاء. وروي هذا مرفوعاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية :«إنما ذلك في الدعاء والمسألة ». قال عبد الله بن شدّاد كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهمّ ارزقنا مالاً وولداً يجهرون فأنزل الله تعالى هذه، والمخافتة خفض الصوت والسكون يقال : صوت خفيت، أي : خفيض، ويقال للرجل إذا مات قد خفت، أي : انقطع كلامه وخفت الزرع إذا ذبل والمستحب من ذلك التوسط وهو أن يسمع نفسه كما روي عن ابن مسعود أنه قال : من لم يخافت لم يسمع أذنيه وقد مدح الله تعالى المؤمنين بقوله تعالى :﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ﴾ [ الفرقان، ٦٧ ] وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال عز من قائل :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ﴾ [ الإسراء، ٢٩ ] وبعضهم قال الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية ﴾ [ الأعراف، ٥٥ ]. قال الرازي : وهو بعيد.
ولما أمر الله تعالى أنه لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى علم كيفية التحميد بقوله تعالى :﴿ وقل الحمد لله ﴾، أي : الملك الأعظم ثم ذكر سبحانه وتعالى من صفات التنزيه والجلال وهي السلوب ثلاثة أنواع الأوّل قوله تعالى :﴿ الذي لم يتخذ ﴾، أي : لكونه محيطاً بالصفات الحسنى ﴿ ولداً ﴾ والسبب فيه وجوه الأوّل أنّ الولد هو الشيء المتولد من جزء من أجزاء ذلك الشيء فكل من له ولد فهو مركب من الأجزاء والمركب محدث والمحدث محتاج والمحتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد. الثاني : أنّ كل من له ولد فإنه يمسك جميع النعم لولده فإذا لم يكن له ولد أفاض تلك النعم على عبيده. الثالث : أنّ الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه وفنائه فلو كان له ولد لكان منقضياً ومن كان كذلك لم يقدر على كمال الإنعام في كل الأوقات، فوجب أن لا يستحق الحمد على الإطلاق. النوع الثاني : من الصفات السلبية قوله تعالى :﴿ ولم يكن له ﴾ بوجه من الوجوه ﴿ شريك في الملك ﴾ والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك لم يعرف حينئذ أنّ هذه النعم والمنافع حصلت منه أو من شريكه فلا يعرف كونه مستحقاً للحمد والشكر. النوع الثالث قوله تعالى :﴿ ولم يكن له وليّ من الذل ﴾، أي : ولم يواله من أجل مذلة به يدفعها بموالاته والسبب في اعتباره أنه لو جاز عليه وليّ يلي أمره كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد ومستحقاً لأقسام الشكر فنفي عنه أن يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختياراً أو اضطراراً أو ما يعاونه ويقويه ورتب الحمد عليه للدلالة على أنه الذي يستحق جنس الحمد لأنه كامل الذات المنفرد بالإيجاد المنعم على الإطلاق وما عداه ناقص مملوك نعمة أو منعم عليه ولذلك عطف عليه قوله تعالى :﴿ وكبره تكبيراً ﴾، أي : وعظمه تعظيماً على نفي اتخاذ الولد والشريك والذل وكل ما لا يليق به وترتيب الحمد على ذلك للدلالة على أنه المستحق لجميع المحامد لكمال ذاته وتفرّده في صفاته.
روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول :«آية العز ﴿ الحمد لله الذين لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ﴾ إلى آخر السورة ». وعن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوّل من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدونه في السراء والضراء ». وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده ». وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله ». وعن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهنّ بدأت ». أخرجه مسلم. وروي أنّ قول العبد الله أكبر خير له من الدنيا وما فيها. وعن عمرو بن شعيب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه وقل الحمد لله الآية، يقال أفصح الصبيّ في منطقه فهم ما يقول. وعن عبد الله بن كعب قال : افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة.
Icon