تفسير سورة سورة البلد من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
.
لمؤلفه
الشربيني
.
المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وهي عشرون آية واثنان وثمانون كلمة وثلاثمائة وعشرون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الملك الذي لا راد لأمره ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم سائر خلقه بفضله ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل طاعته بجنته.
ﰡ
واختلف في لا في قوله تعالى :
﴿ لا أقسم ﴾ فقال الأخفش : إنها مزيدة، أي : أقسم كما تقدّم في قوله تعالى :
﴿ لا أقسم بيوم القيامة ﴾ [ القيامة : ١ ] وقد أقسم به سبحانه وتعالى. قال الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة | وكاد صميم القلب لا يتقطع |
أي : يتقطع، ودخل حرف لا صلة، وكقوله تعالى :
﴿ ما منعك أن لا تسجد ﴾ [ الأعراف : ١٢ ] وقد قال تعالى في ص :
﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ [ الأعراف : ١٢ ] وأجاز الأخفش أيضاً أن تكون بمعنى إلا. وقيل : هي نفي صحيح، والمعنى : لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه، حكاه مكي. وأجمعوا على أن المراد بالبلد في قوله تعالى :
﴿ بهذا البلد ﴾، أي : الحرام وهو مكة، وفضلها معروف فإنه تعالى جعلها حرماً آمناً. وقال تعالى :
﴿ ومن دخله كان آمناً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] وجعل مسجده قبلة لأهل المشرق والمغرب. فقال تعالى :
﴿ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] وأمر الناس بحج البيت فقال تعالى :
﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] وقال تعالى :
﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ] وقال تعالى :
﴿ وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت ﴾ [ الحج : ٢٦ ] وقال تعالى :
﴿ وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ﴾ [ الحج : ٢٧ ] وشرف مقام إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى
﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ] وحرم صيده وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الأرض من تحته، فهذه الفضائل وأكثر منها إنما اجتمعت في مكة لا جرم أقسم الله تعالى بها.
﴿ وأنت ﴾، أي : يا أشرف الخلق ﴿ حل ﴾، أي : حلال لك ما لم يحل لغيرك من قتل من تريد ممن يدعي أنه لا قدرة لأحد عليه ﴿ بهذا البلد ﴾ بأن يحل لك فتقاتل فيه.
وقد أنجز الله له هذا الوعد يوم الفتح وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرم ما شاء قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما، وحرم دار أبي سفيان ثم قال :«إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشدها. فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا، فقال صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر ». ونظير ﴿ وأنت حل ﴾ في معنى الاستقبال قوله تعالى :﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ﴾ [ الزمر : ٣٠ ]
ومثله واسع في كلام العرب، تقول لمن تعده الإكرام والحباء لأنت مكرم محبوّ، وهو في كلام الله تعالى واسع لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال وأنّ تفسيره بالحال محال أنّ السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة من وقت نزولها، فما بال الفتح والجملة اعتراض بين المقسم به وما عطف عليه.
واختلف في قوله تعالى :﴿ ووالد وما ولد ﴾ فقال الزمخشري : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ولده أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه إسماعيل وبمن ولده وبه. وقال البغويّ : هما آدم وذريّته، وقيل : كلُّ والد وولده. فإن قيل : هلا قيل : ومن ولد ؟ أجيب : بأنّ فيه ما في قوله تعالى :﴿ والله أعلم بما وضعت ﴾ [ آل عمران : ٣٦ ] أي : بأي شيء وضعت يعني، أي : بأي شيء وضعت يعني موضوعاً عجيب الشأن، أو أن ما بمعنى من. والذي عليه أكثر المفسرين هما آدم وذريّته ؛ لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه، وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها. ولقد قال الله تعالى :﴿ ولقد كرمنا بني آدم ﴾ [ الإسراء : ٧٠ ] وقيل : هما آدم والصالحون من ذريته، وأما الطالحون فكأنهم بهائم كما قال تعالى :﴿ إن هم كالأنعام بل هم إلا أضلّ ﴾ [ الفرقان : ٤٤ ] ﴿ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ﴾ [ البقرة : ١٨ ].
والمقسم عليه قوله تعالى :﴿ لقد خلقنا الإنسان ﴾، أي : الجنس ﴿ في كبد ﴾ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أي : شدّة ونصب، وعنه أيضاً في شدّة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه وسائر أحواله. وعن عكرمة منتصباً في بطن أمّه، والكبد الاستواء والاستقامة، فهذا امتنان عليه في الحقيقة، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطنها أمّها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم فإنه منتصب انتصاباً.
وقال ابن كيسان : منتصباً في بطن أمه فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وقال يمان : لم يخلق الله تعالى خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق.
قال بعض العلماء أوّل ما يكابد قطع سرته ثم إذا قمط قماطاً وشدّ رباطاً، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته ضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشدّ من اللطام، ثم يكابد الختان والأوجاع، ثم المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج، وشغل الأولاد والخدم، وشغل المسكن والجيران، ثم الكبر والهرم، وضعف الركب والقدم، في مصائب يكثر تعدادها من صداع الرأس ووجع الأضراس، ورمد العين، وهمّ الدين، ووجع السنّ، وألم الأذن، ويكابد محناً في المال والنفس من الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدّة، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت، ثم بعده سؤال الملك وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله تعالى إلى أن يستقرّ به القرار، إما في الجنة وإما في النار، فدل هذا على أنّ له خالقاً دبره وقضى عليه بهذه الأحوال، ولو كان الأمر إليه ما أختار هذه الشدائد فليتمثل أمر خالقه. وقال ابن زيد : المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام.
وقوله تعالى :﴿ في كبد ﴾، أي : في وسط السماء. وقال مقاتل : في كبد، أي : في قوّة نزلت في أبي الأشدين، واسمه أسيد بن كلدة بن جمح، وكان شديداً قوياً، يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا، فيجذبه عشرة فيتمزق الأديم من تحت قدميه، ولا تزول قدماه ويبقى موضع قدميه، وكان من أعداء النبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه نزل.
﴿ أيحسب ﴾، أي : أيظنّ الإنسان قويّ قريش، وهو أبو الأشدين بقوّته، ﴿ أن ﴾ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي : أنه ﴿ لن يقدر عليه ﴾، أي : خاصة ﴿ أحد ﴾، أي : من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه، والله تعالى قادر عليه في كل وقت. وقيل : نزلت في المغيرة بن الوليد المخزومي.
﴿ يقول ﴾، أي : يفتخر بقوّته وشدّته ﴿ أهلكت ﴾، أي : على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ مالاً لبداً ﴾، أي : كثيراً بعضه على بعض.
﴿ أيحسب ﴾، أي : هذا الإنسان العنيد بقلة عقله ﴿ أن ﴾، أي : أنه ﴿ لم يره أحد ﴾ قال سعيد بن جبير : ، أي : أظنّ أن الله تعالى لم يره ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟ وقال الكلبي : إنه كان كاذباً في قوله أنه أنفقه ولم ينفق جميع ما قال، والمعنى : أيظنّ أن الله تعالى لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته.
وقرأ ﴿ أيحسب ﴾ في الموضعين ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها.
ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر بقوله تعالى : أي : بما لنا من القدرة التامّة ﴿ له عينين ﴾ يبصر بهما المرئيات وإلا تعطل عليه أكثر ما يريد، شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاث على مقدار مناسب لا تزيد إحداهما على الأخرى شيئاً، وقدرنا البياض والسواد والشهلة والزرقة وغير ذلك على ما ترون، وأودعناهما البصر على كيفيةٍ يعجز الخلق عن إدراكهما.
﴿ ولساناً ﴾ يترجم به عن ضمائره ﴿ وشفتين ﴾ يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك. قال قتادة : نِعَمُ الله تعالى عليه متظاهرة فيقررّه بها كي يشكره. قال البغوي : وجاء في الحديث أن الله تعالى يقول :«يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق ».
﴿ وهديناه ﴾، أي : أتيناه من العقل ﴿ النجدين ﴾ قال أكثر المفسرين : بيّنا له طريق الخير والشر والهدى والضلال والحق والباطل كقوله تعالى :﴿ إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإمّا كفوراً ﴾ [ الإنسان : ٣ ] وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً، فصار موضعاً للتكليف. روى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال :«يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإنّ ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، يا أيها الناس إنما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ فلم جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ». قال المنذري : النجد هنا الطريق. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بيّنا له الثديين، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك، وأصله المكان المرتفع.
﴿ فلا اقتحم العقبة ﴾، أي : فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين والأيتام بل غمط النعم وكفر بالمنعم.
والمعنى : أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضي النافع عند الله تعالى، لا أن يهلك مالاً لبداً في الرياء والفخر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون على هذا الوجه ﴿ كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ﴾ [ آل عمران : ١١٧ ] الآية. وقيل : معناه لم يقتحمها و لا جاوزها و الاقتحام الدخول في الأمر الشديد، وذكر العقبة مثل ضربة الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البرّ فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة يقول الله تعالى لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام، وهذا معنى قول قتادة وقيل : إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وأطعم المساكين كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها وروى عن ابن عمر أنّ هذه العقبة جبل في جهنم، وقال الحسن : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله تعالى ومجاهدة النفس. وقال مجاهد : هي الصراط يضرب على متن جهنم كحد السيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة صعوداً وهبوطاً واستواء، وإنّ بجنبيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان، فناجٍ مسلم وناجٍ مخدوش، ومكردس في النار منكوس، وفي الناس من يمرّ كالريح العاصف، ومنهم من يمرّ كالرجل يعدو، ومنهم من يمرّ كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم الزالون، ومنهم من يكردس في النار. وقال ابن زيد : فهلا سلك طريق النجاة.
وقوله تعالى :﴿ وما أدراك ﴾، أي : أعلمك أيها السامع لكلامنا الراغب فيما عندنا ﴿ ما العقبة ﴾ تعظيم لشأنها والجملة اعتراض قال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه ﴿ وما أدراك ﴾ فإنه أخبر به وما كان، قال :﴿ وما يدريك ﴾ فإنه لم يخبر به.
ثم بين سبب جوازها بقوله تعالى :﴿ فك ﴾، أي : الإنسان ﴿ رقبة ﴾، أي : خلصها من الرق وذلك بأن يعتق رقبة في ملكه أو يعطي مكاتباً ما يصرفه في فك رقبته. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه ». قال الزمخشري : وفي الحديث :«أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم دلني على عمل يدخلني الجنة. قال : تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال : أو ليسا سواء ؟ قال : لا إعتاقها أن تنفرد بعتقها، وفكها أن تعين في تخليصها من قود أو غرم، والعتق والصدقة من أفضل الأعمال ».
وعن أبي حنيفة أن العتق أفضل من الصدقة، وعن صاحبيه : الصدقة أفضل. قال الزمخشري : والآية أدل على قول أبي حنيفة لتقديم العتق. وقال عكرمة : يعني فك رقبته من الذنوب. وقال الماوردي : ويحتمل أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات، ولا يمنع الخبر من هذا التأويل وهو أشبه بالصواب.
﴿ أو إطعام ﴾، أي : دفع الإطعام لشيء له قابلية ذلك. ﴿ في يوم ذي مسغبة ﴾، أي : مجاعة، والسغب : الجوع.
﴿ يتيماً ﴾، أي : إنساناً صغيراً لا أب له ﴿ ذا مقربة ﴾، أي : ذا قرابة لك بأن كان بينك وبينه قرابة، يقال : فلان ذو قرابتي، وذو مقربتي.
﴿ أو مسكيناً ﴾ وهو من له مال أو كسب يقع موقعاً من كفايته، ولا يكفيه. ﴿ ذا متربة ﴾، أي : لصوق بالتراب لفقره. يقال : ترب إذا افتقر، ومعناه : التصق بالتراب وأما أترب فاستغنى، أي : صار ذا مال كالتراب في الكثرة كما قيل : أثرى. وعنه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :﴿ ذا متربة ﴾ :«الذي مأواه المزابل » قال ابن عباس رضي الله عنهما :«هو المطروح على الطرق الذي لا بيت له ». وقال مجاهد : وهو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة : أنه ذو العيال. واحتج بهذه الآية على أنّ المسكين يملك شيئاً لأنه لو كان لا يملك شيئاً لكان تقييده بقوله تعالى :﴿ ذا متربة ﴾ تكريراً. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة برفع الكاف وجرّ رقبة وكسر همزة إطعام وفتح العين وبعدها ألف ورفع الميم منوّنة، والباقون فك بنصب الكاف رقبة بالنصب أطعم بفتح الهمزة والعين والميم بغير تنوين، ولا ألف بين العين والميم.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ فلا اقتحم العقبة ﴾ إلى آخره ذكر لا مرّة واحدة. قال الفرّاء والزجاج : والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد لا كقوله تعالى :﴿ فلا صدّق ولا صلى ﴾ [ القيامة : ٣١ ] ؟.
أجيب : بأنه إنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله تعالى :﴿ ثم كان من الذين آمنوا ﴾ قائماً مقام التكرير فكأنه قال :﴿ فلا اقتحم العقبة ﴾ ولا آمن. وقال الزمخشري : هي متكرّرة في المعنى : لأنّ معنى فلا اقتحم العقبة فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك. قال أبو حيان : ولا يتيم له هذا إلا على قراءة فك فعلاً ماضياً. وعن مجاهد : أنّ قوله تعالى :﴿ ثم كان من الذين آمنوا ﴾ يدل على أن : لا بمعنى لم ولا يلزم التكرير مع لم فإن كرّرت لا كقوله تعالى ﴿ فلا صدّق ولا صلى ﴾ فهو كقوله تعالى :﴿ لم يسرفوا ولم يقتروا ﴾ [ الفرقان : ٦٧ ].
تنبيه : ثم كان معطوف على اقتحم وثم للترتيب، والمعنى : كان وقت الاقتحام من الذين آمنوا. وقال الزمخشري : جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت، لأنّ الإيمان هو السابق المقدّم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به. ﴿ وتواصوا ﴾، أي : وصبروا وأوصى بعضهم بعضاً ﴿ بالصبر ﴾، أي : على الطاعة وعن المعصية والمحن التي يبتلى بها المؤمن.
﴿ وتواصوا بالمرحمة ﴾، أي : بالرحمة على عباده بأن يكونوا متراحمين متعاطفين، أي : بما يؤدّي إلى رحمة الله تعالى.
﴿ أولئك ﴾، أي : الموصوفون بهذه الصفات ﴿ أصحاب الميمنة ﴾، أي : الجانب الذي فيه اليمن والبركة والنجاة من كل هلكة. وقال محمد بن كعب : ، أي : الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم. وقال يحيى بن سلام : لأنهم ميامين على أنفسهم. وقال ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن. وقال ميمون بن مهران : لأنّ منزلتهم عن اليمين. وقال الزمخشري : الميمنة اليمين أو اليمن.
﴿ والذين كفروا ﴾، أي : ستروا ما تظهر لهم مرائي بصائرهم من العلم ﴿ بآياتنا ﴾، أي : على ما لها من العظمة بالإضافة إلينا، والظهور الذي لا يمكن خفاؤه من القرآن وغيره ﴿ هم أصحاب المشأمة ﴾، أي : الخصلة المكسبة للشؤم والحرمان قال محمد بن كعب : ، أي : الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم. وقال يحيى بن سلام : لأنهم مشائيم على أنفسهم. وقال ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر عليه السلام. وقال ميمون : لأنّ منزلتهم عن اليسار. وقال الزمخشري : المشأمة الشمال أو الشؤم.
قال القرطبي : ويجمع هذه الأقوال أصحاب الميمنة هم أصحاب الجنة وأصحاب المشأمة هم أصحاب النار.
﴿ عليهم ﴾، أي : خاصة ﴿ نار مؤصدة ﴾، أي : مطبقة وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة بالهمزة، والباقون بغير همزة، أي : بواو ساكنة، وهما لغتان. يقال : أصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته، وقيل : معنى المهموز المطبقة، وغير المهموز المغلقة. وإذا وقف حمزة أبدل على أصله.