تفسير سورة البلد

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة البلد من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة البلد
مكيّة وهى عشرون اية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا زايد لتاكيد القسم اشارة الى وضوح المقسم بحيث استغنى عن القسم أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ يعنى مكة.
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ الجملة حال من المقسم به اقسم الله سبحانه بمكة مقيدا بحلوله صلى الله عليه واله وسلم اظهار المزيد فضائلها بشرف المتمكن على فضل لها فى نفسها قال رسول الله - ﷺ - لمكة ما اطيبك من بلد وأحبك الى الله ولولا ان قومى أخرجوني منك ما سكنت غيرك رواه الترمذي عن ابن عباس وقال حديث حسن صحيح غريب اسنادا وكذا روى الترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن عدى بلفظ والله انك لخير ارض الله وأحب ارض الله الى الله ولولا انى أخرجت منك ما خرجت وقيل معنى مستحل لاخراجك فيه كما يستحل تعرض الصيد فى غيرها والجملة معترضة لذم الكفار بهذا البلد فيستحلون اخراجك وقتلك فان الله سبحانه اقسم بمكة إظهارا لتحريمها وشرفها ثم قال وأنت مستحل فى زعم الكفار بهذا البلد فيستحلون اخراجك وقتلك مع انهم يحرمون قتل الصيد فيها وقيل معناه وأنت حلال ان تصنع فيه ما تريد من قتل واسر ليس عليك ما على الناس فيه من الإثم فهو وعد بما أحل الله له مكة يوم الفتح حتى قاتل فيه وامر بقتل عبد الله بن حنظل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس بن خبابة وغيرهما قال رسول الله - ﷺ - يوم فتح مكة ان هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى الى يوم القيمة وانه لن يحل القتال فيه لاحد قبلى ولم يحل لى الا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيمة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقيطه الا من عرفها ولا يختلا خلاها الحديث متفق عليه.
وَوالِدٍ عطف على بلد والمراد آدم وابراهيم عليهما السلام او اى والد كان وَما وَلَدَ ذريته آدم عليه السلام او الأنبياء من أولاد ابراهيم عليه السلام او محمد صلى الله عليه واله وسلم
والتنكير للتعظيم وإيثار ما على من لمعنى التعجب كما فى قوله والله اعلم بما وضعت وجواب القسم.
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ اللام للجنس او للعهد على ما قيل انها نزلت فى ابى الأشر اسمه أسيد بن كلدة بن حج وكان شديدا قويا يصنع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول من ازالنى عنه فله كذا وكذا فلا يطاق ان ينزع من تحت قدميه الا قطعا ويبقى موضع قدميه فِي كَبَدٍ على تقدير كون المراد من الإنسان الجنس فالمراد من كبد النصب والمشقة كذا روى عن ابن عباس وقتادة قال عطاء عن ابن عباس فى شدة حمله وولايته ورضاعته وقطامه ومعاشه وحيوته وموته وقال عمرو بن دينار منه نبات أسنانه قلت وما ذكر من المكابد يشارك فيها الإنسان وغيره من الحيوانات فتخصيصه بالذكر لاجل عقله وشعوره فان مشقة تحمل المكايد مع كمال الشعور أشد منها ما كان وعندى ان المراد بالمكابد حمل ميثاق الامانة التي ابى عن تحملها السموات والأرض والجبال وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا فان ادى ما وجب فاز ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وان صبها تردى فى مكابد الاخرة ليعذب الله المنافقين والمنافقات والكافرين والكافرات فعلى هذا النظير الاية فى المعنى قوله تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون وفيه تسلية للنبى ﷺ على تحمل المكابد من قومه فيما وجد عليه من التبليغ وقال مقاتل بناء على نزول الاية فى ابى الأشد ان معنى فى كبد فى قوة وشدة.
أَيَحْسَبُ الضمير راجع الى الإنسان والاستفهام للانكار والتوبيخ فان كان المراد بانسان المعهود يعنى ابى الأشد فظاهر ان الله سبحانه أنكر على اغتراره وبقوله وان كان المراد به الجنس فالضمير راجع اليه باعتبار بعض افراده وهو الذي كان النبي ﷺ فى كبد منه اكثر من غيره وهو ابو الأشد وقيل الوليد بن مغيرة أَنْ لَنْ يَقْدِرَ ان مخففة من المثقلة اسمها ضمير الشان محذوف والجملة قائمة مقام المفعولين ليحسب عَلَيْهِ أَحَدٌ نكرة موضع النفي للعموم كان ابو الأشد يزعم انه لا يقدر عليه ملائكة العذاب او المراد به الأحد الصمد يعنى أيحسب ابو الأشد انه لا يقدر عليه الله الذي خلقه بهذه القوة فلا ينتقم منه.
يَقُولُ ذلك الإنسان حال من فاعل يحسب ومقولة القول أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ط اى كثرا جمع لبدة وهى ما تلبد وكثر واجتمع لعله كان يذكر كثرة إنفاقه مفاخرة ورياء او بعد ما أنفق فى معادات النبي - ﷺ - حتى يعترف بفضله كفار قريش
أعدائه صلى الله عليه وسلم.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ بل الله سبحانه يراه حين أنفق رياء وفى معادات النبي ﷺ فيسأل من اين اكتسبه واين أنفقه فيجازيه وينتقم منه كذا قال سعيد بن جبير وقتادة وقال الكلبي انه كان كاذبا فى افتخاره وقوله أنفقت كذا وكذا لم يكن أنفق جميع ما قال وهذه الجملة بعد قوله أيحسب ان لن يقدر عليه أحد تأكيد التوبيخ والإنكار بمنزل النكير ثم عد الله سبحانه نعمه ليقره وليكون دليلا وتقريرا على كون الله سبحانه مقتدرا على انتقامه فقال.
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما.
وَلِساناً يتكلم به وَشَفَتَيْنِ ليستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والاكل والشرب والنفخ قال البغوي جاء فى الحديث ان الله عز وجل يقول ابن آدم ان نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق وان نازعك بصرك على ما حرمت عليك فقد امنتك عليه بطبقتين فاطبق وان نازعك فرجك اى ما حرمت عليك فقد أعنتك بطبقتين فاطبق.
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ج يعنى الثديين كذا روى محمد بن كعب عن ابن عباس وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك وقال اكثر المفسرين طريقى الخير والشر والحق والباطل والهدى والضلال يعنى أظهرنا له الخير من الشر بايجاد العقل فيه وإرسال الرسل فمن ضل واختار طريق الشر بعد ذلك فلا عذر له.
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ قيل لا هاهنا ليس على معناها فانها لا تدخل على الماضي الا مكررا فهى بمعنى هلا والمعنى فهلا اقتحم العقبة بانفاق ماله فيما يجوز به العقبة من الطاعات فيكون خيرا له من إنفاقه فى عداوة النبي ﷺ والجملة معطوف يقال أهلكت مالا لبدا وقيل هاهنا تكرار تقدير التعدد معنى العقبة فكان تقديره فلا فك رقبة ولا اطعم مسكينا ولا كان من الذين أمنوا فلا هاهنا بمعناها والجملة معطوف على جواب القسم يعنى لقد خلقنا الإنسان فى كبد التكليفات فلا اقتحم ما كلف به دكان عليه الاقتحام وإتيان ما خلق لاجله او معطوفة على مضمون الم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة بإتيان الطاعات حتى يكون شكر النعم وصرفا للنعمة فيما ينبغى والعقبة فى الأصل الطريق فى الجبل استعير هاهنا لمشاق التكاليف واقتحامها الدخول فيها وهذا معنى قول قتادة وقيل اقتحامها التجاوز عنها والخروج من عهدة ما وجب عليه فانه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها واشتغال الذمة بالواجبات بالغفلة فاذا أعتق رقبة او اطعم مسكينا يزكوة ماله كان كمن
اقتحمها وجاوز عنها روى عن ابن عمران هذه العقبة جبل فى جهنم وقال الحسن وقتادة عقبة شديدة فى النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله وقال مجاهد بطاعة الله وقال المجاهد والضحاك والكلبي هى الصراط على جهنم كحد السيف مسيرة ثلثة آلاف سنة سهلا وصعودا وهبوطا وان لجنبيه كلاليب وخطاطيف كانها شوك السعدان فناج مسلم وناج مخدوش ومكدوس فى النار منكوس فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح العاصف ومنهم من يمر كالفارس ومنهم من يمر كالراجل ومنهم من يزحف ومنهم كالزالون ومنهم من يكردس فى النار فقال ابن زيد يقول فهلا يسلك الطريق التي فيه النجاة ثم بين ما هى فقال ما أدريك.
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ط فانك لم تدر صعوبتها على النفس وكثرة ثوابها وقال سفيان ابن عيينة كل شىء قال وما أدريك فانه اخبر به وما قال وما يدريك فانه لم يخبر به انتهى فان كان المراد بالعقبة الطاعات فلا حاجة الى التقدير وان كان المراد به ثقل الذنوب فالتقدير ما أدريك ما اقتحام العقبة والخروج عنها.
فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ قرأ ابن كثير وابو عمرو الكسائي فك بفتح الكاف على الماضي ورقبة بالنصب على المفعولية واطعم بفتح الهمزة على الماضي بناء على انه بدل من اقتحم او بيان له وما أدريك ما العقبة اعتراض والباقون بضم الكاف ورقبة بالجر على الاضافة واطعام بالتنوين على المصدر بناء على انه خبر مبتداء محذوف اى هى فك رقبة والمراد بفك الرقبة أعم من الإعتاق ومن ان يعين فى ثمنها يريد عتقها او يعين المكاتب او معتق البعض فى فك رقبتها عن البراء بن عازب قال جاء أعرابي الى النبي - ﷺ - فقال علمنى عملا يدخلنى الجنة قال لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة قال او ليسا واحد قال لاعتق النسمة ان تفرد بعتقها وفك الرقبة ان تعين فى ثمها والمنحة الوكوف والفيء على ذى الرحم الظالم فان لم تطق ذلك فاطعم الجائع واسق الظمآن وامر بالمعروف وانه عن المنكر فان لم تطق ذلك فكف لسانك الا من خير رواه البيهقي فى شعب الايمان عن ابى هريرة قال قال رسول الله - ﷺ - من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بدل عضو منه عضوا من النار حتى فرجه بفرجه متفق عليه وقال عكرمة قوله فك رقبة يعنى من الذنوب بالتوبة.
فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ.
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ المسغبة والمتربة والمقربة مفعلات من مسغب إذا جاع وقرب فى النسب والترب إذا أفقر اى التصق بالتراب بشدة الحاجة ووصف اليوم لمسغبة مجازى والظرف متعلق باطعام وانتصب على المفعولية يتيما ومسكينا.
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على اقتحم أو فك وعطفه بثم لتباعد الايمان عن العتق والإطعام بالرتبة واستقلاله واشتراط الطاعات به وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ عن المعاصي وعلى الطاعة والمصائب وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ عباد الله او بموجبات رحمة الله.
أُولئِكَ اشارة الموصوفين بتلك الأوصاف أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ط اى اصحاب اليمين والبركة فى أنفسهم والجملة مستانفة كانه فى جواب ما شان من اقتحم.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا الذي نصبنا دلايل على الحق من كتاب وحجة او بالقران هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ اى اصحاب الشمال او الشوم والتكرير ذكر المؤمنين بالاشارة والكفار بالضمير الشان لا يخفى.
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ مطبقة من أوصدت الباب إذا طبق او اغلق قرأ حفص وابو عمرو حمزة وهناد فى سورة الهمز بالهمزة وهمزة إذا وقف أبدلها واوا والباقون بغير همزة وهما لغتان- والله تعالى اعلم.
Icon