تفسير سورة المعارج

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة المعارج من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة المعارج
مكيّة وهى اربع وأربعون اية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ قرأ نافع وابن عامر سال بالألف ساكنة بدلا من الهمزة والباقون بهمزة وحمزة يجعلها فى الوقف بين بين سائِلٌ اخرج النسائي وابن ابى حاتم عن ابن عباس انه قال هو النضر ابن حارث قال اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب اليم وكذا اخرج ابن ابى حاتم عن السدى قال وكان عذابه يوم بدر فالمراد بالسؤال على هذا الدعاء ويدل على ذلك تعديته بالباء ويحتمل ان يكون سال على قراءة نافع من السيلان والمعنى سال واد بعذاب ومعنى الفعل لتحقق وقوعه اما فى الدنيا وهو قتل بدر او فى الاخرة وهو عذاب النار قال البغوي سائل واد من اودية جهنم يروى ذلك عن عبد الرحمن بن زيد بن اسلم واخرج ابن المنذر عن الحسن قال نزلت سال سائل بعذاب واقع فقال الناس على من يقع العذاب فانزل الله عز وجل على الكافرين ليس له دافع فح يكون السؤال للاستفهام فالباء ح فى قوله تعالى بِعَذابٍ بمعنى عن او يكون تعديته بالباء لتضمن سال معنى أهم واقِعٍ صفة لعذاب.
لِلْكافِرينَ صفة اخرى لعذاب او صلة الواقع وان كان السؤال عمن يقع به العذاب كان جوابا ليس له دافع صفة اخرى للعذاب او هو فى حيز الجواب اى واقع للكافرين لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ من جهة الله لتعلق إرادته ذِي الْمَعارِجِ صفة لله تعالى اى ذى المصاعد قال سعيد بن جبير ذى الدرجات قلت وهى درجات القرب التي لا كيف لها التي تبلغ إليها الأنبياء والملئكة والأولياء ودرجات القبول يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح او المصاعد فى دار الثواب ودرجات الجنة عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله - ﷺ - فى الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة منها تفجرا نهار الجنة الاربعة ومن فوقها يكون العرش فاذا سالتموا الله تعالى
فاسئلوه الفردوس رواه الترمذي وعن ابى هريرة نحوه وفيه ما بين الدرجتين مائة عام وعن ابى سعيد الخدري ان رسول الله - ﷺ - قال ان اهل الجنة يتراوون اهل العرف من بينهم كما تراوون الكواكب الدري الغابر فى الأفق من المشرق او المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول الله - ﷺ - تلك ينال الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال بلى والذي نفسى بيده رجال أمنوا بالله وصدقوا المرسلين متفق عليه وقال ابن مسعود ذى السموات سماها معارج لان الملائكة يعرج فيها وقال قتادة ذى الفواضل.
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ قرأ الكسائي يعرج بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث والجملة صفة للمعارج على طريقة ولقد امر على اللئيم يسبنى والرابط محذوف اى تعرج فيها الملائكة والروح اليه والروح جبرئيل عليه السلام وأفرده لفضله او أعظم خلق من الملائكة قلت ويحتمل ان يكون المراد بالروح روح البشر الذي هو من عالم الأمر فان أرواح البشر من الأولياء والأنبياء تعرج من خفض البعد والغفلة الى معارج القرب والحضرة إِلَيْهِ اى الى الله سبحانه او الى عرشه فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ج الظرف متعلق بمحذوف دل عليه واقع اى يقع العذاب بهم فى يوم كان مقداره خمسين الف سنة يعنى يوم القيامة كذا اخرج البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس وقال يمان يوم القيامة فيه خمسين موطنا كل موطن الف سنة روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله - ﷺ - ما من صاحب كنز لا يؤدى زكوة الكنز الا احمى عليه فى نار جهنم فيجعل صفائح فيكوى بها جنباه وجبينه حتى يحكم الله بين عباده فى يوم كان مقداره خمسين الف سنة ثم يرى سبيله اما الى الجنة واما الى النار وما من صاحب ابل لا يودى زكوتها الا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقركا وفرما كانت تستن عليه لا يفقد منها- فصيلا واحدا يطأ بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أوليها رد عليه أخريها فى يوم كان مقداره خمسين الف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله اما الى الجنة واما الى النار وما من صاحب غنم لا يودى زكوتها الأبطح له بقاع فرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلجاء ولا غضباء تنطحه بقرونها وتطأه باظلافها كما مر عليه أوليها رد عليه أخريها فى يوم كان مقداره خمسين الف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله اما الى الجنة واما الى النار واخرج احمد وابو يعلى وابن حبان والبيهقي بسند حسن عن ابى سعيد
61
قال سئل رسول الله - ﷺ - عن يوم كان مقداره خمسين الف سنة ما أطول هذا اليوم فقال والذي نفسى بيده انه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون من الصلاة المكتوبة يصليها فى الدنيا قلت فعلى هذا التأويل لا تصادم بين هذه الاية وبين قوله تعالى فى تنزيل السجدة يدبّر الأمر من السماء الى الأرض ثم يعرج اليه فى يوم كان مقداره الف سنة مما تعدون إذ معناه يحكم الله تعالى بالأمر وينزل به جبرئيل من السماء الى الأرض ثم يعرج اليه جبرئيل فى يوم من ايام الدنيا وكان قدر سيره الف سنة خمسمائة سنة نزوله وخمسمائة عروجه لان ما بين السماء والأرض خمسمائة عام يعنى لو سار تلك المسافة واحد من بنى آدم لم يقطعه الا فى الف سنة لكن الملائكة يقطعون فى يوم واحد بل فى ادنى زمان اخرج البيهقي من طريق ابى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى تعرج اليه فى يوم كان مقداره الف سنة مما تعدون قال هذا فى الدنيا تعرج الملائكة فى يوم كان مقداره الف سنة وفى قوله تعالى فى يوم كان مقداره خمسين الف سنة قال هذا يوم القيامة جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين الف سنة وقيل المراد من الآيتين يوم القيامة يكون على بعضهم أطول وعلى بعضهم اقصر حتى يكون على المؤمنين أهون من الصلاة المكتوبة كما مر واخرج الحاكم والبيهقي عن ابى هريرة مرفوعا وموقوفا يكون على المؤمنين كمقدار ما بين الظهر والعصر وحينئذ معنى قوله تعالى يدبّر الأمر من السماء الى الأرض مدة ايام الدنيا ثم يعرج اى يرجع الأمر والتدبير اليه بعد فناء الدنيا وانقطاع امر الأمراء وحكم الحكام فى يوم كان مقداره الف سنة وقيل الظرف فى هذه الاية اعنى قوله تعالى فى يوم كان مقداره خمسين الف سنة متعلق بيعرج كما هو متعلق فى سورة التنزيل ووجه الجمع بين الآيتين ان المراد فى اية سورة التنزيل انه يدبر الأمر من السماء الى الأرض ثم يعرج اليه من الأرض الى السماء فى يوم وقدر مسيره الف سنة لان ما بين السماء والأرض خمسمائة عام فصار نزوله وعروجه الف سنة والمراد فى هذه السورة مدة المسافة من منتهى الأرض السابعة الى منتهى أعلى السموات فوق السماء السابعة قال البغوي روى ليث عن مجاهد ان مقدار هذا خمسين الف
سنة وقال محمد بن اسحق لو سار ابن آدم من الدنيا الى موضع العرش سيرا طبيعنا له سار خمسين الف سنة ومن هاهنا قالت الصوافية العلية ان فناء القلب الذي يحصل للصوفى بالجذب من الله تعالى بتوسط النبي - ﷺ - والمشائخ لو أراد
62
واحد ان يحصله بالعبادات والرياضات من غير جذب من الشيخ فانما يحصل له فى زمان كان مقداره خمسين الف سنة وإذا لم يتصور بقاء أحد بل بقاء الدنيا الى هذه المدة ظهران الوصول الى الله تعالى من غير جذب منه تعالى بتوسط أحد من المشائخ كما هو المعتاد وبلا توسط روح رجل كما يكون لبعض الآيسين من الافراد محال والله المستعان.
فَاصْبِرْ يا محمد على تكذيبهم صَبْراً جَمِيلًا لا يشعر به استعجال واضطراب وجزع والفاء للسببية متعلق بسال فان السؤال عن تعنت واستهزاء وذلك مما نضجر به فالمعنى فاصبر ولا نضجر عن سوالهم ولا تستعجل فى عقوبتهم او متعلق بسال على قراءة نافع او بمحذوف متعلق به فى يوم على معنى فاصبر فقد سال بهم العذاب وقرب وقوعه يقع.
إِنَّهُمْ اى الكفار يَرَوْنَهُ اى العذاب بَعِيداً من الإمكان او مستبعدا فى العقل محتملا احتمالا ضعيفا.
وَنَراهُ قَرِيباً فى الوقوع فان كل ما هو ات قريب والقرب فى الوقوع يستلزم على تقدير كونه متعلقا بمحذوف وان كان هو متعلقا بيعرج فهذا متعلق بمضمر دل عليه واقع.
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ المذاب من النحاس وغيره من الفلزات او دردى الزيت اخرج البيهقي عن ابن مسعود قال السماء يكون الوانا تكون كالمهل وتكون وردا كالدهان وتكون واهية تشقق فيكون حالا بعد حال.
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ اى كالصوف المصبوغ الوانا لان الجبال مختلفة الألوان فاذا بسطت وطيرت فى الهواء اشتبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح.
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً لا يسئل قريب لشدة ما يقع على نفسه معطوف على تكون أضيف اليه يوم بواسطة حرف العطف قرأ البراء عن ابن كثير لا يسال بضم الياء على بناء المفعول اى لا يطلب حميم من حميم او لا يسال منه حاله وهذا الاختلاف ليس فى المشهور ولم يذكره فى التيسير.
يُبَصَّرُونَهُمْ ط اى يرونهم صفة لحميم او استيناف يدل على ان المانع من السؤال ليس الخفاء بل اما تشاغل كل عن السؤال عن غيره لشدة على نفسه او الغيبة عن السؤال بمشاهدة الحال كبياض الوجه وسواده ونحو ذلك وجمع الضميرين لعموم الحميم لوقوعه نكرة فى حيز النفي قال البغوي ليس فى القيامة مخلوق الا وهو نصب عين صاحبه من الجن والانس فيكون للرجل أباه وأخاه وقرابته ويبصر حميمه فلا يكلمه لاشتغاله بنفسه وقيل معنى يبصرونهم يعترفونهم اما المؤمن فبياض الوجه
واما الكافر فبسواد الوجه يَوَدُّ يتمنى الْمُجْرِمُ المشرك الجملة حال من فاعل يبصرونهم او من مفعوله والعائد وضع المظهر موضع الضمير او مستأنفة فى جواب ما يصنع المجرم يعنى ان المجرم يشتغل بنفسه عن غيره بحيث يتمنى ان يفتدى بأقرب الناس وأحبهم اليه فى الدنيا فضلا ان يهتم بحاله ويساله وعلى هذا قوله تعالى لا يسئل حميم حميما مختص بالكفار واما المؤمنون فيسالون احمامهم ويشفعون لهم وقد تواتر فى ذلك الأحاديث بالمعنى قال رسول الله - ﷺ - والذي نفسى بيده ما منكم من أحد باشد منا شدة فى الحق قد تبين لكم من المؤمنين لله تعالى يوم القيامة لاخوانهم الذين فى النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا الحديث متفق عليه وفى حديث طويل عن ابى سعيد الخدري لَوْ يَفْتَدِي اى المجرم او المتمنى والجملة بيان للوداد مِنْ عَذابِ متعلق بيفتدى مضاف الى يَوْمِئِذٍ قرأه الجمهور مجرورا بالاضافة وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم لاكتسابه البناء من المضاف اليه بِبَنِيهِ مع ما عطف عليه متعلق بيفتدى.
وَصاحِبَتِهِ زوجته وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ اى عشيرته الذين فصل عنهم الَّتِي تُؤْوِيهِ عند الشدائد.
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين والخلائق ثُمَّ يُنْجِيهِ ذلك الافتداء معطوف على يفتدى عطف بثم للاستبعاد.
كَلَّا لا ينجيه من عذاب الله شىء ردع المجرم عن الوداد إِنَّها الضمير لغير مذكور وهى النار يدل عليه العذاب او ضمير مبهم يفسره لَظى وهو خبر او بدل او الضمير للقصة ولظى مبتداء وخبره ما بعده على تقدير كونه مرفوعا واللظى اللهب الخالص قال البغوي هو اسم من اسماء الجهنم وقيل هى الدركة الثانية سميت بذلك لانها تتلظى اى تتلهب امال الحمزة والكسائي لظى وللشوى وتولىّ وفاوعى وورش وابو عمر بين بين والباقون بالفتح.
نَزَّاعَةً لِلشَّوى اى الأطراف اليدان والرجلان او جمع شواة وهى لجلدة الراس كذا قال مجاهد وروى ابراهيم بن مهاجر عنه اللحم دون العظام قال سعيد بن جبير عن ابن عباس العصب والعقب وقال الكلبي يأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان قرأ حفص عن عاصم نزاعة بالنصب على الاختصاص او الحال الموكدة مرادف او المنتقلة على ان لظى بمعنى ملتظية والباقون بالرفع.
تَدْعُوا اى النار خبر بعد خبر لان او للظى مَنْ أَدْبَرَ عن الحق وَتَوَلَّى عن الطاعة فيقول النار الىّ يا مشرك الىّ يا منافق الىّ الىّ- قال ابن عباس يدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح ثم يلتقطهم
كما يلتقط الطير الحب.
وَجَمَعَ المال فَأَوْعى اى جعله فى وعاء وامسكه ولم يود حق الله تعالى عنه.
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً حال مقدرة ان أريد اتصافه بالهلع بالفعل ومحققة ان أريد اشتماله على مبدأ تلك الصفة فانها من امور الجبلية التي هى من رذائل النفس المقتضى للاتصاف به بالقوة وجملة ان الإنسان فى محل التعليل لقوله أدبر إلخ والهلوع الحريص على ما لا يحل له رواه السدى عن ابى صالح عن ابن عباس وقال سعيد بن جبير الشحيح وقال عكرمة الضجور وقال قتادة الجزوع وقال مقاتل ضيق القلب والهلع شدة الحرص وقلة الصبر وقال عطية عن ابن عباس تفسيره ما بعده وهو قوله تعالى.
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً لا يصبر.
وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ المال مَنُوعاً لا ينفق فى سبيل الله ولا يشكر عن ابن عباس عن النبي - ﷺ - لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب متفق عليه وعن انس قال قال رسول الله - ﷺ - يهرم ابن آدم ويشب منه اثنان الحرص على المال والحرص على العمر متفق عليه.
إِلَّا الْمُصَلِّينَ اى المؤمنين الكاملين عبر بالمصلى عن المؤمن اى المؤمن الكامل كما عبر بالايمان عن الصلاة فى قوله تعالى ان الله لا يضيع ايمانكم فان الصلاة أعلى مقامات المؤمن وهى معراج المؤمن وعماد الدين قال المجدد حقيقة الصلاة فوق سائر المقامات التي يمكن حصولها للبشر والاستثناء متصل ان كان اللام فى الإنسان للجنس او للاستغراق فهو مفرد فى معنى الجمع او المعنى ان المجرم أدبر وتولى إلخ لان جنس الإنسان او كل فرد منه خلق مقدرا منه الهلع الا المؤمنين الكاملين الموصوفين بالصفات المذكورة الدالة على الاستغراق فى طاعة الله تعالى والإشفاق على الخلق والايمان بالجزاء والخوف من العقوبة وكسر الشهوة وعدم إيثار العاجل على الاجل فانهم لم يخلقوا هلوعا بل خلقوا مقدرا منهم الصبر على الضراء والشكر على السراء الموجبين للاكرام فى الجنات روى مسلم عن حبيب قال قال رسول الله - ﷺ - عجبا لامر المؤمن ان امره كله له خير وليس ذلك لاحد الا المؤمن ان أصابته السراء شكر فكان خير اله وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا فعلى هذا التأويل وزان هذه الاية وزان قوله تعالى ان الإنسان لفى خسر الا الذين أمنوا إلخ ويجوز ان يكون الاستثناء منقطعا ان كان اللام فى الإنسان للعهد والمعنى ح المجرم الذي أدبر وتولى إلخ خلق هلوعا لكن المؤمن الموصوف بتلك الصفات
لم يخلق كذلك بل خلق مستعدا للاكرام فى الجنات وعلى كلا التأويلين تدل هذه الاية على ان استعدادات الإنسان مختلفة فى اصل الخلقة كما قال به المجدد ان مبادى تعينات المؤمن جزئيات للاسم الهادي ومبادى تعينات الكفار جزئيات لاسم المضل وقال رسول الله - ﷺ - الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خياركم فى الجاهلية خياركم فى الإسلام وعن عائشة قالت قال رسول الله - ﷺ - ان الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم فى أصلاب ابائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم فى أصلاب ابائهم رواه مسلم وفى الباب أحاديث كثيرة جدا.
الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ اى مقبلون فى الصلاة بقلوبهم الى الله تعالى وبأبصارهم الى موضع السجود دائما ما داموا فى الصلاة فهذا بمعنى ما أورد فى سورة المؤمنين الذين هم فى صلوتهم خاشعون فلا يلزم التكرار بقوله تعالى والذين هم على صلوتهم يحافظون إذ المراد بالدوام دوام الحضور بالمحافظة التحرز عن فواتها وفوات شرائطها وأركانها وآدابها روى البغوي بسنده عن ابى الخير انه قال سالنا عقبة بن عامر عن قول الله عز وجل الذين هم على صلوتهم دائمون الذين يصلون ابدا قال لا ولكنه إذا صلى لا يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه وروى احمد وابو داود والنسائي والدارمي عن ابى ذر قال قال رسول الله - ﷺ - لا يزال الله عز وجل مقبلا على العبد وهو فى صلوته ما لم يلتفت فاذا التفت انصرف عنه وروى البيهقي فى السنن الكبير عن انس ان النبي - ﷺ - قال يا انس اجعل بصرك حيث تسجد وروى الترمذي عنه قال قال رسول الله - ﷺ - الالتفات فى الصلاة هلكة (فائدة) فى جعل البصر حيث يسجد تأثير عظيم لدفع الخطرات وحضور القلب.
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ كالزكوة والصدقات الموظفة.
لِلسَّائِلِ الذي يسال وَالْمَحْرُومِ الذي لا يسال فيحرم عن العطاء غالبا قوله للسائل إلخ صفة لحق بعد صفة.
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ فان التصديق بيوم الدين لو كان على حقيقة لا يكون الإنسان جزوعا فى الشر بل صابرا تحسبا ولا منوعا فى الخير فتقف طالبا للثواب.
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ج خائفون على أنفسهم فان مقتضى التصديق والايمان الخوف والرجاء.
إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ص لا يقدر على منعه أحد.
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ
قدم المفعول لرعاية الفواصل وزيدت اللام لتقوية عمل المشتق والفرج اسم سوئة الرجل والمرأة وحفظ الفرج عدم استعماله فيما يشتهيه.
إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ استثناء مفرغ وانما صح فى الإثبات لتضمن الحفظ معنى النفي وعلى صلة للحافظين من قولك احفظ على عنان فرسى اى يحفظون فروجهم على النساء الا على أزواجهم فهى حينئذ بمعنى من او حال اى حفظوها فى كافة الأحوال الا فى حال التزوج او التسرى ويحتمل ان يكون الاستثناء من فعل منفى مقدر دل عليه الحفظ اى يحفظون فروجهم لا يبذلونها على امرأة الا على أزواجهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ اى سرياتهم وانما قال ما بإجراء المماليك مجرى غير العقلاء فان الشرع ألحقهم بها عقابا على كفرهم فاجاز بيعهم واستخدامهم والمراد بها ملكت ايمانهم السرايا دون العبيد فانه لا يجوز للرجال إتيان العبد فى دبره لما بيّنا حرمته فى سورة البقرة بالسنة والقياس فى تفسير قوله تعالى ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فان قيل كيف يقدم السنة والقياس على نص الكتاب الوارد هاهنا لعموم قوله تعالى ما ملكت ايمانهم العبيد والإماء قلنا ليس على هذا اجماعا فانه لا يجوز وطى امرأة فى حالة الحيض والظهار ولا وطى امة محرمة عليه بالرضاع فيجوز تخصيص هذا النص بخبر الآحاد والقياس ولا يجوز للمرأة الاستمتاع بفرج عبده فان كلمة على فى قوله تعالى على أزواجهم وكلمة ما التي هى لغير العقلاء تدلان على جواز استعمال المماليك استعمال المفترش لا على عكس ذلك فى وطى الامة دون تمكين العبد فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ج تعليل لمضمون الاستثناء فان عدم حفظ الفرج عن الزوجة والسرية وإتيانهن على وجه مشروع لا يلام عليه فانه مباح ضرورة ابقاء النسل وسياق الكلام يدل على ان الأصل فى الجماع الحرمة كما ذكرنا فى سورة البقرة وانما صح بشرائط من النكاح او ملك اليمين وعدم الجزئية والطهارة من الحيض والنفاس والإتيان فى محل الولد دون الدبر.
فَمَنِ الفاء للسببية ابْتَغى اى طلب الإتيان وَراءَ ذلِكَ اى وراء الزوجات والسرايا فَأُولئِكَ المبتغين وراء ذلك هُمُ العادُونَ ج الكاملون فى العدوان حيث اتى بفعل حرام مع الكفاية بما أحل الله تعالى قال رسول الله - ﷺ - أيما رجل راى امرأة تعجبه فليقم الى اهله فان معها مثل الذي معها رواه الدارمي عن ابن مسعود (مسئلة:) وهذه الاية تدل على انه لا يجوز متعة النكاح فان المرأة لا تدخل بالمتعة فى الزوجات حتى ان القائلين بإباحتها لا يقولون بجريان التوارث بالمتعة وقال
البغوي وفيه دليل على ان الاستمناء باليد حرام وهو قول العلماء قال ابن جريح سالت عطاء عنه فقال مكروه سمعت ان قوما يحشرون وأيديهم حبالى فاظن انهم هؤلاء وعن سعيد بن جبير قال عذب الله امّة كانوا يعبثون بمذاكيرهم قلت وفى الباب حديث انس رض قال قال رسول الله - ﷺ - ملعون من نكح يده رواه الأزدي فى الضعفاء وابن الجوزي من طريق الحسن بن عرفة فى جزئية المشهور بلفظ سبعة لا ينظر الله إليهم فذكر الناكح يده واسناده ضعيف.
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ قرأ ابن كثير لاماناتهم هاهنا وفى المؤمنين بغير الف على التوحيد والباقون على الجمع وَعَهْدِهِمْ راعُونَ حافظون اى يحفظون الأمانات ويودونها الى أهلها فمنها ما هى بينه وبين الله تعالى كالصلوة والصوم والغسل من الجنابة وغير ذلك والفرائض الواجبة حقا لله تعالى ومن هذا الباب اضافة الكمالات من الوجود وتوابعها والنعماء الظاهرة والباطنة كله الى الله تعالى فيجب العلم والإقرار بانها كلها من عواردى الله المستودعة حتى يجد نفسه فقرا خاليا عنها حين وجودها كلابس ثوب العارية عارى فى الحقيقة فيعلم ان الكبرياء والعظمة رداء الله تعالى وإزاره لا يجوز لاحد التنازع فيه ويشكر عند وجود النعم ويصير عند سلبها ولا يجزع ومنها ما هى بين العباد كالودائع والبضائع والعواري فعلى العبد الوفاء لجميعها ويحفظون العهود التي عاهدوا الله تعالى يوم الميثاق وغير ذلك كما ان الله تعالى أخذ العهد من اهل الكتاب ان بينو نعت النبي - ﷺ - ولا يكتمونه والعهود التي عاهدوا فيما بينهم فى المعاملات والمعاشرات فابقاء كلها واجب روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة رض قال قال رسول الله - ﷺ - اية المنافق ثلث زاد مسلم وان صام وصلى وزعم انه مسلم ثم اتفقا إذا حدث كذب وإذا وعد خلف وإذا ائتمن خان وعن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله - ﷺ - اربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عهد غدر وإذا خاصم فجر وروى ابو داود عن عبد الله بن ابى الحسماء قال بايعت النبي - ﷺ - قبل ان يبعث وبقيت له بقية فوعدته ان اتيه بها فى مكانه فنسيت فذكرت بعد ثلث فاذا هو فى مكانه فقال لقد شققت على انا هاهنا منذ ثلث انتظرك.
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قرأ حفص عن عاصم ويعقوب بشهادات على الجمع والباقون بالإفراد قائِمُونَ اى يقومون فيها بالحق فلا يكتمونها ولا يغيرونها ولا يخافون لومة لائم سواء كانت الشهادة قط خالصا لله تعالى
كالشهادة على التوحيد والرسالة وشهادة اهل الكتاب على ما فى التوراة من نعت النبي - ﷺ - والشهادة بهلال رمضان وبالحدود ونحو ذلك او كانت الشهادة حقا للعباد بالمداينات ونحوها على أنفسهم او الوالدين والأقربين.
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ط اى يراعون أوقاتها وأركانها وسننها وآدابها ويحترزون عن فواتها وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها اولا وآخرا بوجهين مختلفتين للدلالة على فضلها على غيرها من اركان الإسلام.
أُولئِكَ اى أهلي هذه الصفات فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ع خبر لاولئك وفى جنات ظرف متعلق به قدم عليه لرعاية الفواصل.
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا الفاء للسببية وما استفهامية للتوبيخ مبتداء خبره ما بعده قال البغوي نزلت فى جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي - ﷺ - يستمعون كلامه ويستهزؤن به ويكذبونه فقال الله تعالى توبيخا ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك ولا ينتفعون بما يستمعون منك قِبَلَكَ ظرف متعلق بما بعده مُهْطِعِينَ حال من الذين كفروا وعامله معنى الفعل اى ما يصنع الكافرون مهطعين قبلك اى مسرعين مقبلين إليك مادى أعناقهم ومدى النظر إليك متطلعين إليك كذا قال البغوي وفى القاموس هطع كمنع هطوعا وهطعا اسرع مقبلا خائفا واقبل يبصره على الشيء لا يقلع عنه واهطع مدعنقه وصوب راسه.
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ متعلق بمهطعين عِزِينَ جماعات فى تفرقة واحدتها عزة كذا فى الصحاح وفى القاموس عزة كعدة العصبة من الناس.
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ بلا ايمان وعمل صالح استفهام انكار ردا لقولهم مع زعمهم كون البعث مستحيلا لو كان كما يقول محمد لنكون فيها أفضل حظا منهم كما فى الدنيا.
كَلَّا ط ردع من ذلك الطمع الباطل إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ استدلال بالنشأة الاولى على إمكان النشأة الثانية وبطلان دعوى استحالة البعث وتعليل لبطلان طمعهم فى دخول الجنة بلا ايمان والمعنى انا خلقناهم من نطفة مستقذرة ثم من علقة كذلك ثم من مضغة لا يقتضى شىء منها للاكرام ولا يناسب عالم القدس فمن لم يستكمل نفسه بالايمان والطاعة ولم يتخلق بالأخلاق المرضية لله سبحانه لم يستعد دخولها روى البغوي بسنده عن بسر بن حجاش قال قال رسول الله - ﷺ - ويصق يوما فى كفه ووضع عليها إصبعه فقال يقول الله ابن آدم انى تعجزنى وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك
وعدلتك ومشيت بين يردين والأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقى قلت الصدق فانى او ان الصدق او المعنى انا خلقناهم من أجل ما تعملون حيث قال الله تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون اى ليعرفون فمن لم يستكمل نفسه بالعلم والعمل كيف يطمع منازل الكاملين.
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ يعنى مشارق الكواكب ومغاربها ومشرق الشمس والقمر كل يوم من ايام السنة ومغربها إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ اى نهلكهم وناتى بخلق أمثل منهم او نعطى محمدا - ﷺ - بدلكم من هو خير منكم وهم المؤمنون الأنصار لله ولرسوله وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ بمغلوبين ان أردنا ان نهلكهم معطوف على انا لقادرون وفى ذكره بوب المشارق والمغارب الاستدلال بقدرته تعالى على خلق السموات وما فيها من الشمس والقمر والكواكب واختلاف مشارق كل منها كل يوم ومغاربها على قدرته تعالى وعدم عجزه من تبديلهم عمن هم خير منهم.
فَذَرْهُمْ الفاء للسببية يعنى إذا علمت قدرتنا على إهلاكهم فلا تهتم بهم فانما أردنا استدراجهم وتعذيبهم أشد العذاب يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا فى دنياهم الفعلان مجزومان على جواب الأمر حَتَّى يُلاقُوا متعلق بقوله ذرهم يعنى ذرهم كى يلاقوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ العذاب فيه.
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ اى القبور بدل من يومهم سِراعاً جمع سريع ككراما جمع كريم حال بما أسند اليه يخرجون كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ متعلق بما بعده اى يُوفِضُونَ اى يسرعون حال بعد حال قرأ ابن عامر وحفص بضم النون والباقون بفتح النون واسكان الصاد قال مقاتل والكسائي يعنى الى أوثانهم الذي كانوا يعبدونها من دون الله يعنى انهم كما كانوا يسرعون الى أوثانهم أيهم يستلمها اولا كذلك يسرعون من الأجداث الى المحشر ليرو جزاء أعمالهم وقال الكلبي الى علم وإرادته يعنى كما ان اهل العسكر يسرعون الى اعلامهم.
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ حال ايضا تَرْهَقُهُمْ تغشاهم ذِلَّةٌ ط القليل للخشوع او بيان له ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ فى الدنيا وينكرونها تأكيد لما سبق او استيناف- والله اعلم.
Icon