تفسير سورة المعارج

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة المعارج من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة المعارج
هذه السورة مكية. قال الجمهور : نزلت في النضر بن الحرث حين قال :﴿ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ﴾ الآية. وقال الربيع بن أنس : في أبى جهل. وقيل : في جماعة من قريش قالوا :﴿ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ ﴾ الآية.

سورة المعارج
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١ الى ٤٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩)
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩)
إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤)
أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩)
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)
268
الْعِهْنُ: الصُّوفُ دُونَ تَقْيِيدٍ، أَوِ الْأَحْمَرُ، أَوِ الْمَصْبُوغُ أَلْوَانًا، أَقْوَالٌ. الْفَصِيلَةُ، قَالَ ثَعْلَبٌ: الْآبَاءُ الْأَدْنُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَخْذُ. وَقِيلَ: عَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ. لَظَى: اسْمٌ لِجَهَنَّمَ، أَوْ لِلدَّرَكَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ دَرَكَاتِهَا، وَهُوَ عَلَمٌ مَنْقُولٌ مِنَ اللَّظَى، وَهُوَ اللَّهَبُ، وَمَنْعُ الصَّرْفِ هُوَ لِلْعَلِمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَالشَّوَى جَمْعُ شَوَاةٍ، وَهِيَ جِلْدَةُ الرَّأْسِ. وَقَالَ الْأَعْشَى:
قَالَتْ قَتِيلَةُ مَا لَهُ قَدْ جُلِّلَتْ سببا شَوَاتُهُ
وَالشَّوَى: جِلْدُ الْإِنْسَانِ، وَالشَّوَى: قَوَائِمُ الْحَيَوَانِ، وَالشَّوَى: كُلُّ عُضْوٍ لَيْسَ بِمَقْتَلٍ، وَمِنْهُ: رَمَى فَأَشْوَى، إِذَا لَمْ يُصِبِ الْمَقْتَلَ، وَالشَّوَى: زَوَالُ الْمَالِ، وَالشَّوَى: الشَّيْءُ الْهَيِّنُ الْيَسِيرُ. الْهَلَعُ: الْفَزَعُ والاضطراب السريع عند مسن الْمَكْرُوهِ، وَالْمَنْعُ السَّرِيعُ عِنْدَ مَسِّ الْخَيْرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ هَلُوعٌ: سَرِيعَةُ السَّيْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْهَلَعُ فِي اللُّغَةِ أَشَدُّ الْحِرْصِ وَأَسْوَأُ الْجَزَعِ. الْجَزَعُ: الْخَوْفُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
جَزِعْتُ وَلَمْ أَجْزَعْ مِنَ الْبَيْنِ مَجْزَعًا عِزِينَ جَمْعُ عِزَةٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَمَاعَاتٌ فِي تَفْرِقَةٍ، وَقِيلَ: الْجَمْعُ الْيَسِيرُ كَثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ أَرْبَعَةٍ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فِي الدَّارِ عِزُونَ: أَيْ أَصْنَافٌ مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
وَقَرْنٍ قد تركت لدي ولبى عليه الطير كالغصن العزين
وقال الداعي:
أَخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إِنَّ عَشِيرَتِي أَمْسَى سَوَامُهُمْ عِزِينَ فُلُولَا
وَقَالَ الْكُمَيْتُ:
وَنَحْنُ وَجَنْدَلٌ بَاغٍ تَرَكْنَا كَتَائِبَ جَنْدَلٍ شَتَّى عِزِينَا
وَقَالَ آخَرُ:
269
وَقَالَ آخَرُ:
تَرَانَا عِنْدَهُ وَاللَّيْلُ دَاجٍ عَلَى أَبْوَابِهِ حِلَقًا عِزِينَا
فَلَمَّا أَنْ أبين على أصاح ضرجن حصاة أشتاتا عزينا
وعزة مِمَّا حُذِفَتْ لَامُهُ، فَقِيلَ: هِيَ وَاوٌ وَأَصْلُهُ عِزْوَةٌ، كَأَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ تَعْتَزِي إِلَى غَيْرِ مَنْ تَعْتَزِي إِلَيْهِ الْأُخْرَى، فَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ. وَيُقَالُ: عَزَاهُ يَعْزُوهُ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقِيلَ: لَامُهَا هَاءٌ وَالْأَصْلُ عِزْهَةٌ وَجُمِعَتْ عِزَةٌ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، كَمَا جُمِعَتْ سَنَةٌ وَأَخَوَاتُهَا بِذَلِكَ، وَتُكْسَرُ الْعَيْنُ فِي الْجَمْعِ وَتُضَمُّ. وَقَالُوا: عِزًى عَلَى فِعَلٍ، وَلَمْ يَقُولُوا عِزَاتٍ.
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ، مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَراهُ قَرِيباً، يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ، وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ، كَلَّا إِنَّها لَظى، نَزَّاعَةً لِلشَّوى، تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى، وَجَمَعَ فَأَوْعى، إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ، أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. قَالَ الْجُمْهُورُ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ حِينَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «١» الْآيَةِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: فِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي جَمَاعَةً مِنْ قُرَيْشٍ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ الْآيَةِ.
وَقِيلَ: السَّائِلُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَأَلَ الْعَذَابَ عَلَى الْكَافِرِينَ.
وَقِيلَ: السَّائِلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَشْدُدَ وَطْأَتَهُ عَلَى مُضَرَ الْحَدِيثَ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ.
وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ «٢»، أَخْبَرَ عَنْ مَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ بِنِقَمِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ السَّائِلُ نُوحًا عليه السلام، أو
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٣٢.
(٢) سورة الحاقة: ٦٩/ ٤٩.
270
الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. فَنَاسَبَ تَكْذِيبَ الْمُكَذِّبِينَ أَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُهُمْ حَتَّى يُصَابُوا فَيَعْرِفُوا صِدْقَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَأَلَ بِالْهَمْزِ: أَيْ دَعَا دَاعٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: دَعَا بِكَذَا إِذَا اسْتَدْعَاهُ وَطَلَبَهُ، فَالْبَاءُ عَلَى أَصْلِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بَحَثَ بَاحِثٌ وَاسْتَفْهَمَ. قِيلَ: فَالْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: سَالَ بِأَلِفٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُبْدِلَتْ هَمْزَتُهُ أَلِفًا، وَهُوَ بَدَلٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَإِنَّمَا قِيَاسُ هَذَا بَيْنَ بَيْنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: سَلْتُ أَسَالُ، حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، يَقُولُونَ: سَلْتَ تَسَالُ وَهُمَا يَتَسَايَلَانِ. انْتَهَى.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَثَبَّتَ فِي قَوْلِهِ إِنَّهَا لُغَةُ قُرَيْشٍ. لِأَنَّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَابِ السُّؤَالِ هُوَ مَهْمُوزٌ أَوْ أَصْلُهُ الْهَمْزُ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَسَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَالَ الَّتِي عَيْنُهَا وَاوٌ، إِذْ كَانَ يَكُونُ ذَلِكَ وَسَلُوا اللَّهَ مِثْلَ خَافُوا الْأَمْرَ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى لُغَةٍ غَيْرَ قُرَيْشٍ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ إِلَّا يَسِيرًا فِيهِ لُغَةُ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ جَاءَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَهُمَا يَتَسَايَلَانِ بِالْيَاءِ، وَأَظُنُّهُ مِنَ النَّاسِخِ، وَإِنَّمَا هُوَ يَتَسَاوَلَانِ بِالْوَاوِ. فَإِنْ تَوَافَقَتِ النُّسَخُ بِالْيَاءِ، فَيَكُونُ التَّحْرِيفُ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مِنَ السُّؤَالِ، فَسَائِلٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي السَّائِلِ مَنْ هُوَ. وَقِيلَ: سَالَ مِنَ السَّيَلَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَالَ سَايِلٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: فِي جَهَنَّمَ وَادٍ يُسَمَّى سَايِلًا وَأَخْبَرَ هُنَا عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْتَمِلُ إِنْ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُ الْوَادِي أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ عَنْ نُفُوذِ الْقَدَرِ بِذَلِكَ الْعَذَابِ قَدِ اسْتُعِيرَ لَهُ السَّيْلُ لِمَا عُهِدَ مِنْ نُفُوذِ السَّيْلِ وَتَصْمِيمِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالسَّيْلُ مَصْدَرٌ في معنى السائل، كالغور بمعنى الغائر، وَالْمَعْنَى: انْدَفَعَ عَلَيْهِمْ وَادِي عَذَابٍ، فَذَهَبَ بِهِمْ وَأَهْلَكَهُمْ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ السَّائِلُ هُمُ الْكُفَّارُ، فَسُؤَالُهُمْ إِنَّمَا كَانَ عَلَى أَنَّهُ كَذِبٌ عِنْدَهُمْ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَاقِعٌ وَعِيدًا لَهُمْ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: سَالَ سَالٍ مِثْلُ مَالٍ بِإِلْقَاءِ صُورَةِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ الْيَاءُ مِنَ الْخَطِّ تَخْفِيفًا. قِيلَ: وَالْمُرَادُ سَائِلٌ. انْتَهَى. وَلَمْ يُحْكَ هَلْ قَرَأَ بِالْهَمْزِ أَوْ بِإِسْقَاطِهَا الْبَتَّةَ. فَإِنْ قَرَأَ بِالْهَمْزِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ قَرَأَ بِحَذْفِهَا فَهُوَ مِثْلُ شَاكَ شَايِكٌ، حُذِفَتْ عَيْنُهُ وَاللَّامُ جَرَى فِيهَا الْإِعْرَابُ، والظاهر تعلق بعذاب بسال. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: يَتَعَلَّقُ بِمَصْدَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا سُؤَالُهُ؟ فَقِيلَ: سُؤَالُهُ بِعَذَابٍ، وَالظَّاهِرُ اتِّصَالُ الْكَافِرِينَ بواقع فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِهِ، وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ نَازِلٌ بِهِمْ لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ، أَوْ عَلَى أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى عَلَى، قَالَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: عَلَى الْكَافِرِينَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ، أَيْ وَاقِعٌ كَائِنٌ لِلْكَافِرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى:
271
كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَنْ هَذَا الْعَذَابُ الْوَاقِعُ؟ فَقِيلَ: لِلْكَافِرِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ بِالْفِعْلِ، أَيْ دُعَاءٌ لِلْكَافِرِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى الثَّانِي، وَهُوَ ثَانِي مَا ذَكَرَ مِنْ تَوْجِيهِهِ فِي الْكَافِرِينَ. قَالَ هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ جَوَابٌ لِلسَّائِلِ، أَيْ هُوَ لِلْكَافِرِينَ، وَكَانَ قَدْ قَرَّرَ أَنَّ سَالَ ضُمِّنَ مَعْنَى دَعَا، فَعُدِّيَ تَعْدِيَتَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: دَعَا دَاعٍ بِعَذَابٍ مِنْ قَوْلِكَ: دَعَا بِكَذَا إِذَا اسْتَدْعَاهُ وَطَلَبَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ «١». انْتَهَى. فَعَلَى مَا قَرَّرَهُ أَنَّهُ متعلق بدعا، يعني بسال، فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامًا مُبْتَدَأً جَوَابًا لِلسَّائِلِ أَيْ هُوَ لِلْكَافِرِينَ؟ هَذَا لَا يَصِحُّ. فَقَدْ أَخَذَ قَوْلَ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَأَفْسَدَهُ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بقوله: واقِعٍ. ولَيْسَ لَهُ دافِعٌ: جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِدَافِعٍ، أَيْ مِنْ جِهَتِهِ إِذَا جَاءَ وَقْتُهُ.
ذِي الْمَعارِجِ: الْمَعَارِجُ لُغَةً الدَّرَجُ وَهُنَا اسْتِعَارَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: فِي الرُّتَبِ وَالْفَوَاضِلِ وَالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: المعارج: السموات تَعْرُجُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْمَرَاقِي إِلَى السَّمَاءِ، وَقِيلَ:
الْمَعَارِجُ: الْغُرَفُ، أَيْ جَعَلَهَا لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْجَنَّةِ تَعْرُجُ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالتَّاءِ عَلَى التَّأْنِيثِ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَزَائِدَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْيَاءِ. وَالرُّوحُ، قَالَ الْجُمْهُورُ هُوَ جِبْرِيلُ، خُصَّ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا، وَأُخِّرَ هُنَا بَعْدَ الْمَلَائِكَةِ، وَقُدِّمَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا «٢». وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَلَائِكَةٌ حَفَظَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ الْحَافِظِينَ لِبَنِي آدَمَ، لَا تَرَاهُمُ الْحَفَظَةُ كَمَا لَا نَرَى نَحْنُ حَفَظَتَنَا. وَقِيلَ: الرُّوحُ مَلَكٌ غَيْرُ جِبْرِيلُ عَظِيمُ الْخِلْقَةِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: خَلْقٌ كَهَيْئَةِ النَّاسِ وَلَيْسُوا بِالنَّاسِ. وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: رُوحُ الْمَيِّتِ حِينَ تُقْبَضُ إِلَيْهِ، الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ إِلَى عَرْشِهِ وَحَيْثُ يَهْبِطُ مِنْهُ أَمْرُهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّهُمْ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَحِلُّ بِرِّهِ وَكَرَامَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهَا تَعْرُجُ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِكُمْ هَذِهِ، وَمِقْدَارُ الْمَسَافَةِ أَنْ لَوْ عَرَجَهَا آدَمِيٌّ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحُذَّاقِ مِنْهُمُ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ.
فَإِنْ كَانَ الْعَارِجُ مَلَكًا، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَسَافَةُ هِيَ مِنْ قَعْرِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ إِلَى الْعَرْشِ وَمَنْ جَعَلَ الرُّوحَ جِنْسَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، قَالَ وَهْبٌ: الْمَسَافَةُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَى مُنْتَهَى الْعَرْشِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَكَمُ: أَرَادَ مُدَّةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا مَضَى مِنْهَا وَمَا بَقِيَ، أَيْ تَعْرُجُ فِي مُدَّةِ الدُّنْيَا وَبَقَاءِ هَذِهِ الْبِنْيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ
(١) سورة الدخان: ٤٤/ ٥٥.
(٢) سورة النبأ: ٧٨/ ٣٨.
272
يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: طُولُهُ ذَلِكَ الْعَدَدُ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ قَالَ: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: قَدَّرَهُ فِي رَزَايَاهُ وَهَوْلِهِ وَشِدَّتِهِ لِلْكُفَّارِ ذَلِكَ الْعَدَدَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «يَخِفُّ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ».
وَقَالَ عِكْرِمَةُ مِقْدَارُ: مَا يَنْقَضِي فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ قَدْرُ مَا يَقْضِي بِالْعَدْلِ فِي خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَحْوَهُ. وَقِيلَ: لَا يُرَادُ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ، إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ طُولُ الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ أَيَّامَ الشِّدَّةِ بِالطُّولِ وَأَيَّامَ الْفَرَحِ بِالْقِصَرِ. قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ أَيَّامَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ:
وَيَوْمٍ كَظِلِّ الرُّمْحِ قَصَّرَ طُولَهُ دَمُ الزِّقِّ عَنَّا وَاصْطِفَاقُ الْمَزَاهِرِ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي يَوْمٍ متعلق بتعرج. وقيل: بدافع، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ:
تَعْرُجُ اعْتِرَاضٌ. وَلَمَّا كَانُوا قَدْ سَأَلُوا اسْتِعْجَالَ الْعَذَابِ، وَكَانَ السُّؤَالُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ، وَكَانُوا قَدْ وُعِدُوا بِهِ، أَمَرَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ، وَمَنْ جَعَلَهُ مِنَ السَّيَلَانِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَى الْوُقُوعِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَرَوْنَهُ عَائِدٌ عَلَى الْعَذَابِ أَوْ عَلَى الْيَوْمِ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا الِاسْتِبْعَادُ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْإِحَالَةِ مِنْهُمْ. وَنَراهُ قَرِيباً: أَيْ هَيِّنًا فِي قُدْرَتِنَا، غَيْرَ بَعِيدٍ عَلَيْنَا وَلَا مُتَعَذِّرٍ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَالْبُعْدُ وَالْقُرْبُ فِي الْإِمْكَانِ لَا فِي الْمَسَافَةِ. يَوْمَ تَكُونُ: مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ يَقَعُ يَوْمَ تَكُونُ، أَوْ يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ بقريبا، أَوْ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ نَرَاهُ إِذَا كَانَ عَائِدًا عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ فِي يَوْمٍ فِيمَنْ علقه بواقع.
انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ هَذَا، لِأَنَّ فِي يَوْمٍ وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لَا يُبْدَلُ مِنْهُ مَنْصُوبٌ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُرَاعَى فِي التَّوَابِعِ، لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ فِيهَا لَيْسَ بِزَائِدٍ وَلَا مَحْكُومٍ لَهُ بِحُكْمِ الزائد كرب، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مُرَاعَاةُ الْمَوَاضِعِ فِي حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ كَقَوْلِهِ:
يَا بَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيَدٍ إِلَّا يَدًا لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ
وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الْخَيَّاطِ، عَلَى مُرَاعَاةِ مَوْضِعِ بِزَيْدٍ، وَلَا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرًا، وَلَا غَضِبْتُ عَلَى زَيْدٍ وَجَعْفَرًا، وَلَا مَرَرْتُ بعمر وأخاك عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَوْضِعِ. فَإِنْ قُلْتَ: الْحَرَكَةُ فِي يَوْمَ تَكُونُ حَرَكَةَ بِنَاءٍ لَا حَرَكَةَ إِعْرَابٍ، فَهُوَ مَجْرُورٌ مِثْلُ فِي يَوْمٍ.
قُلْتُ: لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى مُعْرَبٍ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، فَيَتَمَشَّى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ إِنْ كَانَ اسْتَحْضَرَهُ وَقَصَدَهُ. كَالْمُهْلِ:
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، كَمَا فِي
273
الْقَارِعَةِ، لَمَّا نُسِفَتْ طَارَتْ فِي الْجَوِّ كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ إِذَا طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ. قَالَ الْحَسَنُ: تَسِيرُ الْجِبَالُ مَعَ الرِّيَاحِ، ثُمَّ تَنْهَدُّ، ثُمَّ تَصِيرُ كَالْعِهْنِ، ثُمَّ تُنْسَفُ فَتَصِيرُ هَبَاءً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَلا يَسْئَلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ لَا يَسْأَلُهُ نُصْرَةً وَلَا مَنْفَعَةً لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُ ذَلِكَ عِنْدَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ. وَقِيلَ: لَا يَسْأَلُهُ أَنْ يَحْمِلَ عَنْهُ مِنْ أَوْزَارِهِ شَيْئًا لِيَأْسِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: شَفَاعَةً. وَقِيلَ: حَمِيمًا مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ عَنْ، أَيْ عَنْ حَمِيمٍ، لِشَغْلِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْبَزِّيُّ: بِخِلَافٍ عَنْ ثَلَاثَتِهِمْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ لَا يُسْأَلُ إِحْضَارَهُ كُلٌّ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ لَهُ سِيمَا يُعْرَفُ بِهَا. وَقِيلَ: عَنْ ذُنُوبِ حَمِيمِهِ لِيُؤْخَذَ بِهَا.
يُبَصَّرُونَهُمْ: اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْمَحْشَرِ يُبَصَّرُ الْحَمِيمُ حَمِيمَهُ، ثُمَّ يَفِرُّ عَنْهُ لِشُغْلِهِ بِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: يُبَصَّرُونَهُمْ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: يُبَصَّرُونَهُمْ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُبَصَّرُونَهُمْ صِفَةً، أَيْ حَمِيمًا مُبَصَّرِينَ مصرفين إياهم. انتهى. وحَمِيمٌ حَمِيماً: نَكِرَتَانِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمَّانِ، وَلِذَلِكَ جُمِعَ الضَّمِيرُ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: يُبْصِرُونَهُمْ مُخَفَّفًا مَعَ كَسْرِ الصَّادِ، أَيْ يُبْصِرُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ فِي النَّارِ، قَالَهُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُبْصِرُ الْكَافِرُ مَنْ أَضَلَّهُ فِي النَّارِ عِبْرَةً وَانْتِقَامًا وَحُزْنًا. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ: أَيِ الْكَافِرُ، وَقَدْ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي الَّذِي يُعَذَّبُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ عَذابِ مُضَافًا وَأَبُو حَيْوَةَ بِفَتْحِهَا. وَصاحِبَتِهِ: زَوْجَتُهُ، وَفَصِيلَتِهِ: أَقْرِبَاؤُهُ الْأَدْنُونَ، تُؤْوِيهِ: تَضُمُّهُ انْتِمَاءً إِلَيْهَا، أَوْ لِيَاذًا بِهَا فِي النَّوَائِبِ. ثُمَّ يُنْجِيهِ: عَطْفٌ عَلَى يَفْتَدِي: أَيْ يُنْجِيهِ بِالِافْتِدَاءِ، أَوْ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: تُؤْوِيهِ وَتُنْجِيهِ بِضَمِّ الْهَاءَيْنِ. كَلَّا: رَدْعٌ لِوِدَادَتِهِمُ الِافْتِدَاءَ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ. إِنَّها: الضمير للقصة، ولَظى، نَزَّاعَةً تَفْسِيرٌ لَهَا أَوْ لِلنَّارِ الدَّالِّ عَلَيْهَا، عَذابِ يَوْمِئِذٍ ولَظى بدل من الضمير، ونَزَّاعَةً خَبَرُ إِنَّ أَوْ خَبَرُ مبتدأ، ولَظى خَبَرُ إِنَّ: أَيْ هِيَ نَزَّاعَةٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ لَظى، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. كُلُّ هَذَا ذَكَرُوهُ، وَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِرَفْعِ نَزَّاعَةٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُبْهَمًا تَرْجَمَ عَنْهُ الْخَبَرُ. انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا هَذَا الْمُضْمَرُ الَّذِي تَرْجَمَ عَنْهُ الْخَبَرُ؟ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُفَسِّرُ فِيهَا الْمُفْرَدُ الضَّمِيرَ، وَلَوْلَا أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَوْ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ، لَحَمَلْتُ كَلَامَهُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَحَفْصٌ وَالْيَزِيدِيُّ: فِي اخْتِيَارِهِ نَزَّاعَةً بِالنَّصْبِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لَظَى خبرا لأن، وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهَا عَائِدٌ عَلَى النَّارِ الدَّالِّ عَلَيْهَا عَذَابٌ، وَانْتَصَبَ نَزَّاعَةً
274
عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدَةِ أَوِ الْمُبَيَّنَةِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا لَظَى، وَإِنْ كَانَ عَامِلًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّلَظِّي، كَمَا عَمِلَ الْعَلَمُ فِي الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ:
أَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ بَعْضَ الْأَحْيَانِ أَيْ: الْمَشْهُورُ بَعْضَ الْأَحْيَانِ، أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لِلتَّهْوِيلِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَأَنَّهُ يَعْنِي الْقَطْعَ. فَالنَّصْبُ فِيهَا كَالرَّفْعِ فِيهَا، إِذَا أَضْمَرْتَ هُوَ فَتُضْمِرُ هُنَا، أَعْنِي تَدْعُو، أَيْ حَقِيقَةً يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهَا الْكَلَامَ كَمَا يَخْلُقُهُ فِي الْأَعْضَاءِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، تَدْعُوهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَمَا خَلَقَهُ فِي الشَّجَرَةِ. انْتَهَى، فَلَمْ يَتْرُكْ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: مَجَازٌ عَنِ اسْتِدْنَائِهَا مِنْهُمْ وَمَا تُوقِعُهُ بِهِمْ مِنْ عَذَابِهَا. وَقَالَ ثَعْلَبٌ:
يَهْلِكُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: دَعَا اللَّهَ، أَيْ أَهْلَكَكَ، وَحَكَاهُ الْخَلِيلُ عَنِ الْعَرَبِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَيَالِيَ يَدْعُونِي الْهَوَى فَأُجِيبُهُ وَأَعْيُنُ مَنْ أَهْوَى إِلَيَّ رَوَانِي
وَقَالَ آخَرُ:
تَرَفَّعَ لِلْعِيَانِ وكل فج طباه الدعي مِنْهُ وَالْخَلَاءُ
يَصِفُ ظَلِيمًا وَطَبَاهُ: أَيْ دَعَاهُ وَالْهَوَى، والدعي لَا يُدْعَوَانِ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِيهِمَا مَا يَجْذِبُ صَارَا دَاعِيَيْنِ مَجَازًا. وَقِيلَ: تَدْعُو، أَيْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، أُضِيفَ دُعَاؤُهُمْ إِلَيْهَا، مَنْ أَدْبَرَ عَنِ الْحَقِّ، وَتَوَلَّى، وَجَمَعَ فَأَوْعى: أَيْ وَجَمَعَ الْمَالَ، فَجَعَلَهُ فِي وِعَاءٍ وَكَنَزَهُ وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى كُفَّارٍ أَغْنِيَاءَ. وَقَالَ الْحَكِيمُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَكِيمٍ لَا يَرْبُطُ كِيسَهُ وَيَقُولُ: سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَجَمَعَ فَأَوْعى، إِنَّ الْإِنْسانَ جِنْسٌ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُ إِلَّا الْمُصَلِّينَ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْكُفَّارِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: قَالَ لِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ: مَا الْهَلَعُ؟ فَقُلْتُ: قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَكُونُ تَفْسِيرٌ أَبْيَنَ مِنْ تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا نَالَهُ شَرٌّ أَظْهَرَ شِدَّةَ الْجَزَعِ، وَإِذَا نَالَهُ خَيْرٌ بَخِلَ بِهِ وَمَنَعَهُ النَّاسَ.
انْتَهَى.
وَلَمَّا كَانَ شِدَّةُ الْجَزَعِ وَالْمَنْعِ مُتَمَكِّنَةً فِي الْإِنْسَانِ، جُعِلَ كَأَنَّهُ خُلِقَ مَحْمُولًا عَلَيْهِمَا كَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ «١»، وَالْخَيْرُ الْمَالُ، إِلَّا الْمُصَلِّينَ: اسْتِثْنَاءٌ كَمَا قُلْنَا مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي حَاوَرُوهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى صَلاتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ وَالْحَسَنُ جَمْعًا وَدَيْمُومَتُهَا، قَالَ
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٣٧.
275
الْجُمْهُورُ: الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: صَلَاتُهَا لِوَقْتِهَا. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: يُقِرُّونَ فِيهَا وَلَا يَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَمِنْهُ الْمَالُ الدَّائِمُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَوَامُهُمْ عَلَيْهَا أَنْ يُوَاظِبُوا عَلَى أَدَائِهَا وَلَا يَشْتَغِلُونَ عَنْهَا بِشَيْءٍ، وَمُحَافَظَتُهُمْ عَلَيْهَا أَنْ يُرَاعُوا إِسْبَاغَ الْوُضُوءِ لَهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَيُقِيمُوا أَرْكَانَهَا وَيُكْمِلُوهَا بِسُنَنِهَا وَأَدَائِهَا وَيَحْفَظُونَهَا مِنَ الْإِحْبَاطِ بِاقْتِرَانِ الْمَآثِمِ، وَالدَّوَامِ يَرْجِعُ إِلَى أَنْفُسِ الصَّلَوَاتِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أَحْوَالِهَا. انْتَهَى، وَهُوَ جَوَابُهُ لِسُؤَالِهِ:
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ، ثُمَّ قَالَ: عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الدَّيْمُومَةَ عَلَى الشَّيْءِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ هِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ بُولِغَ فِي التَّوْكِيدِ فِيهَا، فَذُكِرَتْ أَوَّلَ خِصَالِ الْإِسْلَامِ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَآخِرَهَا، لِيُعْلَمَ مَرْتَبَتُهَا فِي الْأَرْكَانِ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا، وَالصِّفَاتُ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَمُعْظَمُهَا فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِشَهَادَتِهِمْ على الإفراد والسلمي وأبو عمر وحفص: على الجمع.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ، أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ، كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ، فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ.
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَكَانُوا يَحْتَفُّونَ بِهِ حِلَقًا حِلَقًا يَسْمَعُونَ ويستهزئون بِكَلَامِهِ وَيَقُولُونَ: إِنْ دَخَلَ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ، كَمَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ، فَلَنَدْخُلَنَّهَا قَبْلَهُمْ، فَنَزَلَتْ.
وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مُهْطِعِينَ فِي سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعْنَى قِبَلَكَ: أَيْ فِي الْجِهَةِ الَّتِي تَلِيكَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ: أَيْ عَنْ يَمِينِكَ وَشِمَالِكَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ الْخَمْسَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يُدْخَلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَابْنُ يَعْمَرَ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَزَيْدُ بن عليّ وطلحة وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. كَلَّا: رَدٌّ وَرَدْعٌ لِطَمَاعِيَّتِهِمْ، إِذْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ الْبَعْثِ، وَلَا أَنْ ثَمَّ جَنَّةً وَلَا نَارًا.
إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ: أَيْ أَنْشَأْنَاهُمْ مِنْ نُطْفَةٍ مَذِرَةٍ، فَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى إِعَادَتِهِمْ وَبَعْثِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى الِاسْتِبْدَالِ بِهِمْ خَيْرًا مِنْهُمْ، قِيلَ: بِنَفْسِ الْخَلْقِ وَمِنَّتُهُ
276
عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ يُعْطِي الْجَنَّةَ، بَلْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِهَا: إِنَّمَا خُلِقْتَ مِنْ قَذَرٍ يَا ابْنَ آدَمَ. وَقَالَ أنس: كان أبوبكر إِذَا خَطَبَنَا ذَكَرَ مَنَاتِنَ ابْنِ آدَمَ وَمُرُورَهُ فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ نُطْفَةٌ فِي الرَّحِمِ، ثُمَّ عَلَقَةٌ، ثُمَّ مُضْغَةٌ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ فَيَتَلَوَّثُ فِي نَجَاسَتِهِ طِفْلًا. فَلَا يُقْلِعُ أبوبكر حَتَّى يَقْذُرَ أَحَدُنَا نَفْسَهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا كَانَ خَلْقُكُمْ مِنْ نُطْفَةٍ مَذِرَةٍ، فَمِنْ أَيْنَ تَتَشَرَّفُونَ وَتَدَّعُونَ دُخُولَ الْجَنَّةِ قَبْلَ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَأَبْهَمَ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا يَعْلَمُونَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ إِحَالَةً عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ. وَرَأَى مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ يَتَبَخْتَرُ فِي مُطَرِّفِ خَزٍّ وَجُبَّةِ خَزٍّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الْمِشْيَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ لَهُ: أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، أَوَّلُكَ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُكَ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَأَنْتَ تَحْمِلُ عَذِرَةً. فَمَضَى الْمُهَلَّبُ وَتَرَكَ مِشْيَتَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ، لَا نَفْيًا وَجَمَعَهُمَا وَقَوْمٌ بِلَامٍ دُونَ أَلِفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْجَحْدَرِيُّ: الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُفْرَدَيْنِ.
أَقْسَمَ تَعَالَى بِمَخْلُوقَاتِهِ عَلَى إِيجَابِ قُدْرَتِهِ، عَلَى أَنْ يُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَا يَسْبِقُهُ شَيْءٌ إِلَى مَا يُرِيدُ. فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا: وَعِيدٌ، وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمُهَادَنَةِ هُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: يُلْقُوا مُضَارِعُ لَقِيَ، وَالْجُمْهُورُ: يُلاقُوا مُضَارِعُ لَاقَى وَالْجُمْهُورُ: يَخْرُجُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مَبْنِيًّا للمفعول، ويَوْمَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَهُمُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَصْبٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَمُجَاهِدٌ: بِفَتْحِهِمَا وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: بِضَمِّهِمَا وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ. وَالنُّصُبُ: مَا نُصِبَ لِلْإِنْسَانِ، فَهُوَ يَقْصِدُهُ مُسْرِعًا إِلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ صَنَمٍ، وَغَلَبَ فِي الْأَصْنَامِ حَتَّى قِيلَ الْأَنْصَابُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: هُوَ شَبَكَةٌ يَقَعُ فِيهَا الصَّيْدُ، فَيُسَارِعُ إِلَيْهَا صَاحِبُهَا مَخَافَةَ أَنْ يَتَفَلَّتَ الصَّيْدُ مِنْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نُصُبٍ عَلَمٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّهِمَا، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ أَصْنَامٌ مَنْصُوبَةٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ جَمْعُ نَصْبٍ، كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ، وَالْأَنْصَابُ جَمْعُ الْجَمْعِ. يُوفِضُونً:
يُسْرِعُونَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يَسْتَبِقُونَ إِلَى غَايَاتٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فوارس ذنيان تَحْتَ الْحَدِيدِ كَالْجِنِّ يُوفِضْنَ مِنْ عَبْقَرِ
وَقَالَ آخَرُ فِي مَعْنَى الْإِسْرَاعِ:
277
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَسْعَوْنَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَنْطَلِقُونَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَبْتَدِرُونَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذِلَّةٌ مُنَوَّنًا. ذلِكَ الْيَوْمُ: بِرَفْعِ الْمِيمِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَلَّادٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ يَعْقُوبَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ التَّمَّارِ: ذِلَّةُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ مُضَافًا إِلَى ذَلِكَ، واليوم بِخَفْضِ الْمِيمِ.
278
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
لَأَنْعَتْنَ نعامة ميفاضا حرجاء ظَلَّتْ تَطْلُبُ الْإِضَاضَا