ويقال سورة لا أقسم وهي عشرون آية وهي مكية بلا خلاف.
عن ابن عباس قال نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.
ﰡ
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة | وكاد صميم القلب لا يتصدع |
والمعنى لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه، وقال مجاهد إن " لا " رد على من أنكر البعث ثم ابتدأ فقال: " أقسم " والمعنى ليس الأمر كما تحسبون والأول أولى.
والمعنى أقسم بالبلد الحرام وقال الواسطي: أن المراد بالبلد المدينة وهو مع كونه خلاف إجماع المفسرين هو أيضاًً مدفوع بكون السورة مكية لا مدنية، ومكة جعلها الله تعالى: (حراماً آمناً) (ومثابة للناس) وجعل مسجدها قبلة لأهل المشرق والمغرب، وشرفه بمقام إبراهيم وحرم فيه الصيد، وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الأرض من تحته فهذه الفضائل وغيرها لما اجتمعت في مكة دون غيرها أقسم بها.
قال والمعنى أن الله تعالى لما ذكر القسم بمكة دل ذلك على عظيم قدرها مع كونها حراماً فوعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يحلها له حتى يقاتل فيها ويفتحها على يده فهذا وعد من الله تعالى بأن يحلها له حتى يكون بها حلاً انتهى.
فالمعنى وأنت حل بهذا البلد في المستقبل كما في قوله: (إنك ميت وإنهم ميتون) قال النسفي رحمه الله وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للإستقبال وإن تفسيره بالحال محال أن السورة مكية بالإتفاق، وأين الهجرة من وقت نزولها، فما بال الفتح انتهى.
قال مجاهد المعنى ما صنعت فيه من شيء فأنت حل، قال قتادة أنت حل به لست بآثم يعني أنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر والمعاصي.
وقيل المعنى لا أقسم بهذا البلد وأنت حال به ومقيم فيه وهو محلك، فعلى القول بأن لا نافية غير زائدة يكون المعنى لا أقسم به وأنت حال به فأنت أحق بالإقسام بك، وعلى القول بأنها زائدة يكون المعنى أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيماً شريفاً، وزاد على ما كان عليه من الشرف والعظم.
ولكن هذا إذا تقرر في لغة الغرب أن لفظ حل يجيء بمعنى حال، وكما يجوز أن تكون الجملة معترضة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال.
قال ابن عباس في الآية يعني بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحل الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ويستحيي من شاء فقتل يومئذ ابن خطل صبراً وهو آخذ بأستار الكعبة فلم يحل لأحد بعد النبي صلى الله
وعن أبي برزة الأسلمي قال: " نزلت هذه الآية فيَّ خرجت فوجدت عبد الله ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فضربت عنقه بين الركن والمقام " أخرجه ابن مردويه.
وقوله:
وأقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والعقل والتدبير، واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والأولياء والصالحون والدعاة إلى الله والانتصار لدينه، وكل ما في الأرض من مخلوق لأجلهم، وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها، فيكون قد أقسم بجميع الآدميين صالحهم وطالحهم.
وقيل هو قسم بآدم والصالحين من ذريته، وأما الطالحون فكأنهم ليسوا من أولاده وكأنهم بهائم، وفائدة التنكير في (والد) التعجب والمدح، قاله الرازي.
وقال أبو عمران الجوني (الوالد) إبراهيم عليه السلام (وما ولد) ذريته، قال الفراء إن (ما) عبارة عن الناس كقوله: (ما طاب لكم) وقيل الوالد إبراهيم والولد إسماعيل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عكرمة وسعيد بن جبير (ووالد) يعني الذي يولد له (وما ولد) يعني العاقر الذي لا يولد له وكأنهما جعلا (ما) نافية هو بعيد ولا يصح ذلك إلا بإضمار الموصول أي ووالد والذي ما ولد ولا يجوز إضمار الموصول عند البصريين، وقال عطية العوفي هو عام في كل والد ومولود من جميع الحيوانات واختار هذا ابن جرير.
قال ذو النون لم يزل مربوطاً بحبل القضاء، مدعواً إلى الائتمار والانتهاء، وأصل الكبد الشدة ومنه تكبد اللبن إذا اشتد وغلظ، ويقال كبد الرجل إذا وجعت كبده ثم استعمل في كل مشقة وشدة، قال الحسن يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة وقال أيضاًً يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء لا يخلو عن أحدهما.
قال الكلبي: نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يقال له أبو الأشدين وكان يأخذ الأديم العكاظي ويجعله تحت رجليه ويقول من أزالني عنه فله كذا فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه، وكان من أعداء النبي ﷺ وفيه نزل:
وقال أيضاًً: خلق الله كل شيء يمشي على أربعة إلا الإنسان فإنه خلق منتصباً، وقال أيضاًً منتصباً في بطن أمه أنه قد وكل به ملك إذا نامت الأم أو اضطجعت رفع رأسه، لولا ذلك لغرق في الدم، والكبد الاستواء والاستقامة فهذا امتنان عليه في الخلقة ولم يخلق الله جل جلاله دابة في بطن أمها إلا منكبة
قال اليماني: لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم وهو مع ذلك أضعف الخلق.
قال العلماء: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطاً وشدد عليه يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه وتحريك لسانه ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام ثم يكابد الختان والأوجاع والأحزان ثم يكابد المعلم وصولته والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه والترويج ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأجناد ثم يكابد شغل الدور وبناء القصور ثم الكبر والهرم وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها من صداع الرأس ووجع الأضراس، ورمد العين وغم الدين ووجع السن، وألم الأذن ويكابد محناً من المال والنفس مثل الضرب والحبس ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة ويكابد مشقة ثم الموت بعد ذلك كله ثم سؤال الملك وضغطة القبر وظلمته ثم البعث والعرض على الله تعالى إلى أن يستقر به القرار إما في جنة وإما في نار.
فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد ودل على أن له خالقاً دبره وقضى عليه بهذه الأحوال فليمتثل أمره، ذكره القرطبي.
(أيحسب) الإنسان (أن لن يقدر عليه أحد) أي أيظن ابن آدم أن لن يقدر عليه ولا ينتقم منه أحد أو يظن أبو الأشدين أن لن يقدر عليه أحد، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر.
ثم أخبر سبحانه عن مقال هذا الإنسان فقال:
وقال مقاتل نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل أذنب فاستفتى النبي ﷺ فأمره أن يكفر فقال لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قرأ الجمهور (لبداً) بضم اللام وفتح الباء مخففاً وقرىء بضمها بالتخفيف وقرىء بضم اللام وفتح الباء مشدداً قال أبو عبيدة لبد فعل من التلبيد وهو المال الكثير بعضه على بعض، قال الزجاج: فعل للكثرة يقال رجل حطم إذا كان كثير الحطم، قال الفراء واحدته لبدة والجمع لبد، وقد تقدم بيان هذا في سورة الجن.
ثم ذكر سبحانه ما أنعم عليه ليعتبر فقال:
وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن المسيب والضحاك: النجدان الثديان لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه، والأول أولى.
وأصل النجد المكان المرتفع وجمعه نجود، ومنه سميت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة فالنجدان الطريقان العاليان.
قال ابن مسعود في الآية: سبيل الخير والشر، وقال ابن عباس: الهدى والضلالة، وعنه نحو قول ابن مسعود، وعن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هما نجدان فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير " أخرجه ابن أبي حاتم تفرد به سنان بن سعد، ويقال سعد بن سنان وقد وثقه يحيى بن معين، وقال الإمام أحمد والنسائي والجوزجاني منكر الحديث، وقال أحمد تركت حديثه لاضطرابه قد روى خمسة عشر حديثاً منكرة كلها ما أعرف منها حديثاً واحداً، يشبه حديثه حديث البصري لا يشبه حديث أنس.
وروي نحوه عن الحسن وقتادة مرسلاً، ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة أن النبي ﷺ قال: " يا أيها الناس أنهما نجدان نجد خير ونجد شر، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ".
قال الشهاب لا يخفى أنه ذكره في سياق الامتنان والمراد الامتنان عليه بأن هداه وبين له الطريق فسلكها تارة وعدل عنها أخرى، فلا امتنان عليه بالشر ولذا جعله الإمام بمعنى قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) ووصف مكان الخير بالرفعة والنجدية ظاهر بخلاف الشر فإنه هبوط من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقوة فهو على سبيل التغليب أو على توهم المخيلة أن فيه صعوداً فتدبر انتهى.
قلت الامتنان بالهداية إلى سبيل الشر يصح بمعنى أن الله عرف الإنسان طريق الشر ليجتنبه وطريق الخير ليسلكه، ولو لم يعرفه سبيل الشر لما اجتنبه، والأشياء تعرف بأضدادها، فالامتنان بهدايته إليه ثابت عقلاً. والمعنى بينا ووضحنا له أن سلوك الأول ينجي وأن سلوك الثاني يردي. وأن سلوك الأول ممدوح وأن سلوك الثاني مذموم، فالذي ذكره الشهاب تدفعه الأحاديث المرفوعة المتقدم ذكرها.
وهو مثل ضربه الله سبحانه لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة.
قال الفراء والزجاج: ذكر سبحانه هنا (لا) مرة واحدة والعرب لا تكاد تفرد (لا) مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع حتى يعيدوها في كلام
قال المبرد وأبو علي الفارسي: أن " لا " هنا بمعنى لم أي فلم يقتحم، وروي نحو ذلك عن مجاهد، فلهذا لم يحتج إلى التكرير، وقيل هو جار مجرى الدعاء كقوله لا نجا.
قال ابن زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام هنا الاستفهام الذي بمعنى الإنكار تقديره أفلا اقتحم العقبة أو هلا اقتحم العقبة، قال ابن عمر في العقبة جبل زلال في جهنم، وقال ابن عباس العقبة النار، وعنه قال عقبة بين الجنة والنار، وقال قتادة وكعب: هي نار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله، وقال الحسن: هي والله عقبة شديدة مجاهدة نفسه وهواه وعداوة الشيطان. وقيل العقبة خلاصه من هول العرض، وقال مجاهد والضحاك والكلبي هي الصراط الذي يضرب على جهنم كحد السيف.
وعن عائشة قالت لما نزل (فلا اقتحم العقبة) قيل يا رسول الله ما عند أحدنا ما يعتق إلا أن عند أحدنا الجارية السوداء تخدمه فلو أمرناهن بالزنا فجئن بالأولاد فأعتقناهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لأن أمتع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن آمر بالزنا ثم أعتق الولد " أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وأخرجه ابن جرير عنها بلفظ " لعلاقة سوط في سبيل الله أعظم أجراً من هذا ".
ثم بين سبحانه العقبة فقال:
قال صاحب الفرائد هذا تنبيه على أن النفس لا توافق صاحبها في الإنفاق لوجه الله البتة فلا بد من التكليف وتحمل المشقة، والذي توافقه النفس هو الافتخار والمراآت فكأنه تعالى ذكر هذا المثل بإزاء ما قال: (أهلكت مالاً لبداً) والمراد الإنفاق المفيد، وأن ذلك الإنفاق لمضر انتهى.
وفي التمثيل بالعقبة بعد ذكر النجدين ترشيح ثم التقريع عليه بالاقتحام قرينة لتلك المبالغة ذكره الكرخي، ومعنى (فك رقبة) إعتاق رقبة وتخليصها من إسار الرق وكل شيء أطلقته فقد فككته، ومنه فك الرهن وفك الكتاب، فقد بين سبحانه أن العقبة هي هذه القرب المذكورة التي تكون بها النجاة من النار، قرىء فك رقبة على أنه فعل ماض وهكذا أطعم، وقرىء فك وإطعام على أنهما مصدران، وعلى الأولى المعنى فلا أفك ولا أطعم، والفك في الأصل حل القيد سمي العتق فكاً لأن الرق كالقيد، وسمي المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته.
وقد ثبت الترغيب في عتق الرقاب بأحاديث كثيرة منها ما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من النار حتى الفرج بالفرج ".
قال ابن عباس مسغبة مجاعة، وعنه جوع، وقيد الإطعام في هذا اليوم لأن إخراج المال في ذلك الوقت أثقل على النفس وأوجب للأجر، قرأ الجمهور
إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا | إلى الله فقد الوالدين يتيم |
وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا | سفكنا دماء البدن في تربة الحال |
هي خمس عشرة آية وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله، وعن بريده " أن رسول الله - ﷺ - كان يقرأ في صلاة العشاء (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) وأشباهها من السور " أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والنسائي، وقد تقدم حديث جابر في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لمعاذ " هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى ".
وعن ابن عباس " أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمره أن يقرأ في صلاة الصبح بالليل إذا يغشى والشمس وضحاها " أخرجه الطبراني، وعن عقبة بن عامر قال: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن نصلي ركعتي الضحى بسورتيهما بالشمس وضحاها والضحى " أخرجه البيهقي في الشعب.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨)