تفسير سورة البلد

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة البلد من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة البلد مكية وآيها عشرون آية.

(٩٠) سورة البلد
مكية، وآيها عشرون آية
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣)
لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أقسم سبحانه بالبلد الحرام وقيده بحلول الرسول عليه الصلاة والسلام فيه إظهاراً لمزيد فضله، وإشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله. وقيل حِلٌّ مستحل تعرضك فيه كما يستحل تعرض الصيد في غيره، أو حلال لك أن تفعل فيه ما تريد ساعة من النهار فهو وعد بما أحل له عام الفتح.
وَوالِدٍ عطف على بِهذَا الْبَلَدِ والوالد آدم أو إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وَما وَلَدَ ذريته أو محمد عليه الصلاة والسلام، والتنكير للتعظيم وإيثار ما على من لمعنى التعجب كما في قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ٤ الى ٦]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ تعب ومشقة من كبد الرجل كبداً إذا وجعت كبده ومنه المكابدة، والإِنسان لا يزال في شدائد مبدؤها ظلمة الرحم ومضيقه ومنتهاها الموت وما بعده، وهو تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام مما كان يكابده من قريش والضمير في:
أَيَحْسَبُ لبعضهم الذي كان يكابد منه أكثر، أو يفتر بقوته كأبي الأشد بن كلدة فإنه كان يبسط تحت قدميه أديم عكاظي ويجذبه عشرة فيتقطع ولا تزال قدماه، أو لكل أحد منهم أو للإنسان. أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فينتقم منه.
يَقُولُ أي في ذلك الوقت أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً كثيراً، من تلبد الشيء إذا اجتمع، والمراد ما أنفقه سمعة ومفاخرة، أو معاداة للرسول عليه الصلاة والسلام.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ٧ الى ١٠]
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ حين كان ينفق أو بعد ذلك فيسأله عنه، يعني أن الله سبحانه وتعالى يراه فيجازيه، أو يجده فيحاسبه عليه ثم بين ذلك بقوله.
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما.
وَلِساناً يترجم به عن ضميره. وَشَفَتَيْنِ يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب وغيرها.
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ طريقي الخير والشر، أو الثديين وأصله المكان المرتفع.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١١ الى ١٦]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي فلم يشكر تلك الأيادي باقتحام العقبة وهو الدخول في أمر شديد، والْعَقَبَةَ الطريق في الجبل استعارها بما فسرها به من الفك والإطعام في قوله:
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ لما فيهما من مجاهدة النفس ولتعدد المراد بها حسن وقوع لا موقع لم فإنها لا تكاد تقع إلا مكررة، إذ المعنى: فَلاَ فَكَ رَقَبةً ولا أَطْعَمَ يَتيماً أو مسكيناً. والمسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب وترب إذا افتقر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي فَكُّ رَقَبَةٍ أو أطعم على الإِبدال من اقْتَحَمَ وقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ اعتراض معناه إنك لم تدر كنه صعوبتها وثوابها.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١٧ الى ١٨]
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨)
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عطفه على اقْتَحَمَ، أو فَكُّ ب ثُمَّ لتباعد الإيمان عن العتق والإطعام في الرتبة لاستقلاله واشتراط سائر الطاعات به. وَتَواصَوْا وأوصى بعضهم بعضاً. بِالصَّبْرِ على طاعة الله تعالى. وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ بالرحمة على عباده، أو بموجبات رحمة الله تعالى.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ اليمين أو اليمن.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا بما نصبناه دليلاً على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن. هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ الشمال أو الشؤم، ولتكرير ذكر المؤمنين باسم الإِشارة والكفار بالضمير شأن لا يخفى.
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ مطبقة من أوصدت الباب إذا أطبقته وأغلقته. وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص بالهمزة من آصدته.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد أعطاه الله سبحانه وتعالى الأمان من غضبه يوم القيامة».
Icon