تفسير سورة البلد

الدر المصون
تفسير سورة سورة البلد من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الجملةَ اعتراضيةٌ على أحد معنَييْن: إمَّا على معنى أنه تعالى أَقْسَمَ بهذا البلدِ وما بعدَه على أنَّ الإِنسانَ خُلِقَ في كَبَدٍ واعتُرِض بينهما بهذه الجملةِ، يعني ومن المكابَدَةِ أنَّ مثلَكَ على عِظَمِ حُرْمَتِك يُسْتَحَلُّ بهذا البلدِ كما يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ في غير الحَرَمِ، وإمَّا على معنى أنَّه أَقْسَم ببلدِه على أنَّ الإِنسان لا يَخْلُوا مِنْ مَقاساةِ الشدائِد. واعْتُرِض بأَنْ وَعَدَه فتحَ مكة تَتْميماً للتسلية، فقال: وأنت حِلٌّ به فيما تَسْتَقْبِلُ تصنعُ فيه ما تريدُ من القَتْلِ والأَسْرِ، ف «حِلٌّ» بمعنى حَلال، قال معنى ذلك الزمخشري. ثم قال: «فإنْ قلتَ أين نظيرُ قولِه» وأنت حِلٌّ «في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله تعالى ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠] ومثلُه واسعٌ في كلامِ العبادِ تقول لمن تَعِدُهُ الإِكرامَ والحِباء: أنت مُكَرَّمٌ مَحْبُوٌّ، وهو في كلامِ اللَّهِ تعالى أوسعُ؛ لأنَّ الأحوال المُسْتَقْبَلَةَ عنده كالحاضرِةَ المشاهَدَةِ،
5
وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ، أنَّ السورةَ بالاتفاقِ مكيةٌ، وأين الهجرةُ عن وقتِ نزولِها فما بالُ الفتحِ؟ وقد ناقشه الشيخ بما لا يَتَّجِهُ، ورَدَّ عليه قولَه الإِجماعَ على نزولِها بمَكةَ بخلافٍ حكاه ابنُ عطية.
الثاني من الوجَهْين الأوَّلَيْن. أنَّ الجملةَ حاليةٌ، أي: لا أُقْسِمُ بهذا البلدِ وأنت حالٌّ بها لعِظَمِ قَدْرِك، أي: لا يُقْسِمُ بشيءٍ وأنت أحَقُّ بالإِقسام بك منه. وقيل: المعنى لا أٌقْسِم به وأنت مُسْتَحَلٌّ فيه، أي: مُسْتَحَلٌّ أَذاك. وتقدَّم الكلام في مثلِ» لا «هذه المتقدِّمةِ فِعْلَ القسمِ.
6
قوله: ﴿وَمَا وَلَدَ﴾ : قيل: «ما» بمعنى «مَنْ» وقيل: مصدريةٌ. أَقْسَم بالشخص وفِعْلِه. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: هَلاَّ قيل: ومَنْ وَلَدَ. قلت: فيه ما في قولِه ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ [آل عمران: ٣٦]، أي: بايِّ شيءٍ وَضَعَتْ، أي: موضوعاً عجيبَ الشأن» وقيل: «ما» نافيةٌ فتحتاج إلى إضمارِ موصولٍ، به يَصِحُّ الكلامُ تقديره: والذي ما وَلَدَ؛ إذ المرادُ بالوالد مَنْ يُوْلدُ له، وبالذي لم يَلِدْ العاقرُ، قال: معناه ابنُ عباس وتلميذُه ابنُ جُبير وعكرمة.
قوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا﴾ : هذا هو المُقْسَمُ عليه والكَبَدُ: المَشقةُ. قال الزمخشري: «وأصلُه مِنْ كَبِدَ الرجلُ كَبَداً فهو أكبدُ، إذا
6
وَجِعَتْ كَبِدْه وانتفخَتْ، فاتُّسِعَ فيه حتى اسْتُعْمِلَ في كلِّ نَصَبٍ ومشقةٍ، ومنه اشْتُقَّت المكابَدَةُ، كما قيل: كَبَته، بمعنى أهلكه، وأصلُه كَبَدَه، أي: أصاب كَبِدَه. قال لبيد:
٤٥٧٣ - يا عَيْنُ هَلاَّ بَكَيْتِ أَرْبَدَ إذ قُمْنا وقام الخُصومُ في كَبَدِ
أي: في شِدَّةِ الأمرِ وصعوبةِ الخَطْبِ وقال ذو الإِصبَع:
7
قوله: ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً، وأنْ تكونَ حالاً. وقرأ العامَّةُ «لُبَداً» بضمِّ اللامِ وفتحِ الباءِ. وشَدَّد أبو جعفر الباءَ، وعنه أيضاً سكونُها. ومجاهد وابن أبي الزناد بضمتين، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه اللفظةِ والاختلافُ فيها في الجنِّ.
قوله: ﴿وَشَفَتَيْنِ﴾ : الشَّفْةُ محذوفةُ اللامِ، والأصلُ شَفَهة، بدليل تصغيرِها على شُفَيْهَة، وجَمْعِها على شِفاه، ونظيرُه سَنَة
7
في إحدى اللغتين. وشافَهْتُه، أي: كلَّمْتُه من غير واسطةٍ، ولا يُجمع بالألفِ والتاءِ، استغناءً بتكسيرِها عن تَصْحيحِها.
8
قوله: ﴿النجدين﴾ : إمَّا ظرفٌ، وإمَّا على حَذْفِ الجارِّ إنْ أُريد بهما الثَّدْيان، والنَّجْدُ في الأصل: «العُنُقُ لارتفاعِه. وقيل: الطريقُ العالي، كقولِ امرئِ القيس:
٤٥٧٤ - ليَ ابنُ عَمّ لَوَانَّ الناسَ في كَبَدٍ لظلَّ مُحْتَجِراً بالنَّبْلِ يَرْمِيْني
٤٥٧٥ - فريقانِ منهمْ قاطعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ وآخرُ منهمْ جازعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
ومنه» نَجْدٌ «لارتفاعِها عن تِهامةَ.
قوله: ﴿فَلاَ اقتحم﴾ قال الفراء والزجَّاج: «ذَكَر» لا «مرةً واحدةً، والعربُ لا تكادُ تُفْرِدُ» لا «مع الفعل الماضي حتى تُعِيْدَ، كقولِه تعالى: ﴿فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى﴾ [القيامة: ٣١]، وإنما أفردَها لدلالةِ آخرِ الكلامِ على معناه فيجوزُ أَنْ يكونَ قولُه: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾ [البلد: ١٧] قائماً مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبةَ ولا آمَنَ» وقال:
8
الزمخشري: «هي متكررةٌ في المعنى؛ لأنَّ معنى» فلا اقتحمَ العقبةَ «فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعمَ مِسْكيناً، ألا ترى أنه فَسَّر اقتحامَ العقبةِ بذلك» قال الشيخ: «ولا يَتِمُّ له هذا إلاَّ على قراءةِ» فَكَّ «فعلاً ماضياً».
9
وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ «فَكَّ» فعلاً ماضياً، «ورقبةً» نصباً «أو أَطْعم» فعلاً ماضياً أيضاً. والباقون «فَكُّ» برفع الكاف اسماً، «رقبةٍ» خَفْصٌ بالإِضافة، «أو إطعامٌ» اسمٌ مرفوعٌ أيضاً. فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه «اقتحمَ» فهو بيانٌ له، كأنَّه قيل: فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ، والثانيةُ يرتفع فيها «فَكُّ» على إضمار مبتدأ، أي: هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ، على معنى الإِباحة. وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه «فلا اقتحمَ» تقديرُه: وما أدراك ما اقتحامُ العقبة؟ فالتقدير: اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر. ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو «فَكُّ» مُفَسِّراً للعين، وهو العقبةُ.
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء «فَكَّ أو أطعمَ» فعلَيْن كما تقدَّم، إلاَّ أنهما نصبا «ذا» بالألف. وقرأ الحسن «إطعامٌ» و «ذا» بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ «أَطْعم» أو «إطعامٌ» و «يتيماً» حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له. وهو في قراءةِ العامَّةِ «ذي» بالياء نعتاً ل «يوم» على سبيل
9
المجاز، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم: «ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ» والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ.
والمَسْغَبَةُ: الجوعُ مع التعبِ، وربما قيل في العطش مع التعب، قال الراغب. يُقال منه: سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب. يقال تَرِب، أي: افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب. فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو: أَثْرى، أي: صار مالُه كالتراب وكالثرى والمَقْرَبَةُ أيضاً: مَفْعَلَة من القَرابة. وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال: «والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر».
10
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ " فَكَّ " فعلاً ماضياً، " ورقبةً " نصباً " أو أَطْعم " فعلاً ماضياً أيضاً. والباقون " فَكُّ " برفع الكاف اسماً، " رقبةٍ " خَفْصٌ بالإِضافة، " أو إطعامٌ " اسمٌ مرفوعٌ أيضاً. فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه " اقتحمَ " فهو بيانٌ له، كأنَّه قيل : فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ، والثانيةُ يرتفع فيها " فَكُّ " على إضمار مبتدأ، أي : هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ، على معنى الإِباحة. وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه " فلا اقتحمَ " تقديرُه : وما أدراك ما اقتحامُ العقبة ؟ فالتقدير : اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر. ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو " فَكُّ " مُفَسِّراً للعين، وهو العقبةُ.
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء " فَكَّ أو أطعمَ " فعلَيْن كما تقدَّم، إلاَّ أنهما نصبا " ذا " بالألف. وقرأ الحسن " إطعامٌ " و " ذا " بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ " أَطْعم " أو " إطعامٌ " و " يتيماً " حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له. وهو في قراءةِ العامَّةِ " ذي " بالياء نعتاً ل " يوم " على سبيل المجاز، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم :" ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ " والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ.
والمَسْغَبَةُ : الجوعُ مع التعبِ، وربما قيل في العطش مع التعب، قال الراغب. يُقال منه : سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب. يقال تَرِب، أي : افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب. فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو : أَثْرى، أي : صار مالُه كالتراب وكالثَّرى والمَقْرَبَةُ أيضاً : مَفْعَلَة من القَرابة. وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال :" والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر ".

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ " فَكَّ " فعلاً ماضياً، " ورقبةً " نصباً " أو أَطْعم " فعلاً ماضياً أيضاً. والباقون " فَكُّ " برفع الكاف اسماً، " رقبةٍ " خَفْصٌ بالإِضافة، " أو إطعامٌ " اسمٌ مرفوعٌ أيضاً. فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه " اقتحمَ " فهو بيانٌ له، كأنَّه قيل : فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ، والثانيةُ يرتفع فيها " فَكُّ " على إضمار مبتدأ، أي : هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ، على معنى الإِباحة. وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه " فلا اقتحمَ " تقديرُه : وما أدراك ما اقتحامُ العقبة ؟ فالتقدير : اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر. ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو " فَكُّ " مُفَسِّراً للعين، وهو العقبةُ.
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء " فَكَّ أو أطعمَ " فعلَيْن كما تقدَّم، إلاَّ أنهما نصبا " ذا " بالألف. وقرأ الحسن " إطعامٌ " و " ذا " بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ " أَطْعم " أو " إطعامٌ " و " يتيماً " حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له. وهو في قراءةِ العامَّةِ " ذي " بالياء نعتاً ل " يوم " على سبيل المجاز، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم :" ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ " والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ.
والمَسْغَبَةُ : الجوعُ مع التعبِ، وربما قيل في العطش مع التعب، قال الراغب. يُقال منه : سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب. يقال تَرِب، أي : افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب. فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو : أَثْرى، أي : صار مالُه كالتراب وكالثَّرى والمَقْرَبَةُ أيضاً : مَفْعَلَة من القَرابة. وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال :" والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر ".

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ " فَكَّ " فعلاً ماضياً، " ورقبةً " نصباً " أو أَطْعم " فعلاً ماضياً أيضاً. والباقون " فَكُّ " برفع الكاف اسماً، " رقبةٍ " خَفْصٌ بالإِضافة، " أو إطعامٌ " اسمٌ مرفوعٌ أيضاً. فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه " اقتحمَ " فهو بيانٌ له، كأنَّه قيل : فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ، والثانيةُ يرتفع فيها " فَكُّ " على إضمار مبتدأ، أي : هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ، على معنى الإِباحة. وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه " فلا اقتحمَ " تقديرُه : وما أدراك ما اقتحامُ العقبة ؟ فالتقدير : اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر. ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو " فَكُّ " مُفَسِّراً للعين، وهو العقبةُ.
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء " فَكَّ أو أطعمَ " فعلَيْن كما تقدَّم، إلاَّ أنهما نصبا " ذا " بالألف. وقرأ الحسن " إطعامٌ " و " ذا " بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ " أَطْعم " أو " إطعامٌ " و " يتيماً " حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له. وهو في قراءةِ العامَّةِ " ذي " بالياء نعتاً ل " يوم " على سبيل المجاز، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم :" ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ " والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ.
والمَسْغَبَةُ : الجوعُ مع التعبِ، وربما قيل في العطش مع التعب، قال الراغب. يُقال منه : سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب. يقال تَرِب، أي : افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب. فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو : أَثْرى، أي : صار مالُه كالتراب وكالثَّرى والمَقْرَبَةُ أيضاً : مَفْعَلَة من القَرابة. وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال :" والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر ".

قوله: ﴿ثُمَّ كَانَ﴾ : لتراخي الإِيمان وتباعُدِه في الرتبةِ والفضيلةِ عن العِتْقِ والصدقةِ، لا في الوقتِ، لأنَّ الإِيمانَ هو السَّابقُ ولا يَثْبُتُ عَمَلٌ إلاَّ به، قاله الزمخشري. وقيل: المعنى على: ثم كان في عاقبةِ أَمْرِه من الذين وافَوْا الموتَ على الإِيمان لأنَّ الموافاةَ عليه شرطٌ في الانتفاعِ بالطاعاتِ. وقيل: التراخي في الذِّكْرِ وتقدَّم تفسيرُه.
قوله: ﴿مُّؤْصَدَةُ﴾ : قرأ أبو عمروٍ وحمزة وحفص بالهمز، والباقون بالواو، وكذا في «الهُمْزة» فالقراءةُ الأولى من آصَدْتُ البابَ، أي: أَغْلَقْته أُوْصِدُه فهو مُؤْصَدٌ. قيل: ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ أَوْصَدْتُ، ولكنه هَمَزَ الواوَ الساكنةَ لضمةِ ما قبلَها كما هَمَزَ ﴿بالسوق والأعناق﴾ [ص: ٣٣] كما تقدَّم. والقراءةُ الثانيةُ ايضاً تحتمل المادتَيْن، ويكون قد خُفِّفَتِ الهمزةُ لسكونها بعد ضمة. وقد نَقَل الفراء عن السوسيِّ الذي قاعدتُه إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ أنه لا يُبْدِلُ هذه بعد ضمةٍ، وعَلَّلوا ذلك بالالتباسِ. واتفق أنه قد قَرَأ «مُوْصَدة» بالواوِ مَنْ قاعدتُه تحقيقُ الهمزةِ، والظاهر أنَّ القراءتَين من مادتين: الأولى مِنْ آصَدَ يُؤْصِد كأَكْرَم يُكْرِم، والثانية مِنْ أَوْصَدَ يُوصِدُ، مثل أَوْصَلَ يُوْصِلُ. قال الشاعر:
٤٥٧٦ - تَحِنُّ إلى أجْبِالِ مكةَ ناقتي ومِنْ دونِها أبوابُ صنعاءَ مُوْصَدَهْ
أي: مُغْلَقة وقال آخر:
11
وكان أبو بكرٍ راوي عاصمٍ يكره الهمزةَ في هذا الحرفِ، وقال رحمه الله: «لنا إمامٌ يَهْمز» مؤصدة «فأشتهي أن أَسُدَّ أذُني إذا سمعتُه» قلت: وكأنه لم يَحْفَظْ عن شيخِه إلاَّ تَرْكَ الهمزِ مع حِفْظ حفصٍ إياه عنه، وهو أَضْبَطُ لحرِفه من أبي بكر على ما نقله القُراء، وإن كان أبو بكرٍ أكبرَ وأتقنَ وأوثقَ عند أهل الحديث.
وقوله: ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً مستأنفةً، وأَنْ تكونَ خبراً ثانياً، وأن يكونَ الخبرُ وحده «عليهم» و «نار» فاعلٌ به، وهو الأحسنُ.
12
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
٤٥٧٧ - قوماً يُعالِجُ قُمَّلاً أبناؤُهمْ وسلاسِلاً حِلَقاً وباباً مُؤْصَدا