ﰡ
﴿لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد﴾
أقسم قسماً مؤكدا بمكة، التي شرّفها الله فجعلَها حَرماً آمنا، وأنت يا محمدُ ساكنٌ ومقيم بمكّة تزيدها شَرفا وقدْرا.
﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾
وأقسَم بكل والدٍ ومولودٍ من الانسان وغيره، لأن بهما حِفظَ النوع وبقاءَ العمران. وقد اقسم الله تعالى بوالدٍ وما ولد ليوجّه أنظارنا الى رفعة هذا الطور من أطوار الوجود. وهو طورُ التوالد، والى ما فيه من بالغِ الحكمة واتقان الصنع، وإلى ما يعانيه الوالدُ والمولود في ابتداء النشء، وتكميلِ الناشئ وإبلاغِه حدَّ النمو المقدَّر له.
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ﴾
لقد خلقنا الانسان في مشقةٍ وتعب منذُ نشأتِه الى منتهى أمره. فهو في مكابَدة وجَهدٍ وكَدْح، يقاسي من ضروب هذا التعبِ منذ نشأته في بطن أمّه إلى أن يصير رجلا. وكلّما كَبِرَ ازدادت متاعبُه ومطالبه، فهو في كَبَدٍ دائم، ولا تنتهي حاجاتُه الا بانتهاء أجله ووفاته.
وبعد تقريرِ هذه الحقيقة عن طبيعة الحياة الإنسانية شَرَعَ يبين لهذا الانسانِ المغرور المبذِّر أنّ الله تعالى يراه في جميع أحوالِه، وأنه أنعَم عليه بنعمٍ لا تقدَّر فقال:
﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾
أيظن هذا الانسانُ المخلوق في مشقة وتعبٍ ان لن يقدِر على إخضاعِه أحد! يقول هذا المغرور بكثرة ماله: لقد أنفقتُ أموالاً كثيرة في سبيل الشهوات والشيطان. أيظنُّ هذا المفتون بالشُّهرة والظهور أن الله غافلٌ عنه! وأن امره قد خفيَ فلم يطَّلع عليه أحد؟! كلاّ ان الله تعالى مطّلعُ على أعماله وسيسأله عنها يوم القيامة ويحاسِبه حساباص عسيرا.
ثم ذكّره اللهُ تعالى بما أنعم عليه من نعمٍ لا تُحصى في خاصة نفسه وفي صَميم تكوينه واستعداده، ولكنه لم يشكر هذه النعم ولم يقُم بحقّها.
﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ﴾
ألم نخلق له عينين ينظُر بهما دلائلَ قدرة الله في هذا الكون، ولساناً وشفتين ليتمكّنَ من النطق والإفصاح عما في نفسه!؟ فالكلمةُ أحيانا تقوم مقام السيف والمدفع واكثر.
﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾
بيّنا له طريقَ الخير والشر ليختارَ أيهما شاء، ففي طبيعته هذا الاستعدادُ المزدوج لسلوك أيّ النجدين..
﴿فَلاَ اقتحم العقبة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾.
هلاّ أنفقَ مالَه في سبيل الله حتى يجتازَ العقبة الصعبة، وما أدراك ما هو اقتحامُ العقبة؟ هو انفاقُ المال في تحريرِ الأرقاء، واطعامُ الطعام في أيام المجاعة - وأَولى الناس بالمواساة هم الايتام من الاقارب - وإطعامُ المساكين الذي عجزوا عن الكسْب حتى كأنهم لصقوا بالتراب من العجز والفقر.
﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة أولئك أَصْحَابُ الميمنة﴾.
ثم ان هؤلاء الذين يقتحمون العقبة بإنفاق أموالهم في وجوه البرّ والإحسان يكونون من المؤمنين الذين يعملون الخير، ويوصي بعضُهم بعضاً بالصبر والرحمة.. يرحمون عبادَ الله ويواسُونهم ويساعدونهم.
﴿أولئك أَصْحَابُ الميمنة﴾
فهؤلاء هم أصحابُ اليمين، مآلهم الجنة في مقعدِ صِدقٍ عند مليك مقتدِر.
أما الذين جحدوا واغتَرّوا باموالهم وأنفسِهم وكفروا بالرسالة فمآلهم كما يقول:
﴿والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ﴾
أما الكافرون الجاحدون فهم أصحابُ الشِّمال، وهم في نار جهنم في سَمومٍ وحميم، عليهم نارُ جهنم مغلَقة مطبَقَة خالدين فيها أبدا.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي: فكَّ رقبةً، أو أطعمَ والباقون: فَكُّ رقبةٍ أو اطعامٌ بالتنوين. وقرأ ابو عمرو وحمزة وحفص: مؤصدة بالهمزة، والباقون موصدة بدون همزة.