ﰡ
وهي عشرون آية مكيّة
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)قوله تعالى: لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ يعني: أقسم بهذا البلد، ولا صلة في الكلام، ومعناه أقسم برب هذا البلد الذي ولد فيه يعني: مكة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ يحلها يوم فتح مكة، معناه فسيحل لك هذا البلد، يعني: القتال فيه ساعة من النهار، ولم يحل لك أكثر من ذلك.
وروى عبد الملك، عن عطاء في قوله: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ وقال: إن الله تعالى حرم مكة، فجعلها حراماً يَوْمَ خَلَقَ السموات والأرض، وهي حرام إلى أن تقوم الساعة، ولم تحل إلا للنبي صلّى الله عليه وسلم ساعة من النهار. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، أنه دخل بالبيت يوم الفتح، ووضع يده على باب الكعبة، فقال: «لاَ إله إلاَّ الله وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلاَ إن الله تعالى حرم مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السموات والأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ لِي، بِحَرَامِ الله تَعَالَى إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نهار».
ثم قال عز وجل: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ وَوالِدٍ يعني: آدم وَما وَلَدَ، يعني: ذريته.
ويقال: كل والد وكل مولود. وقال عكرمة وَوالِدٍ الذي يلد وَما وَلَدَ التي لم تلد من النساء والرجال لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ يعني: معتدل الخلق والقامة، فأقسم بمكة وبآدم وذريته لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ منتصباً قائماً على رجلين. وقال مقاتل: نزلت الآية في حارث بن عامر بن نوفل. وروى مقسم، عن ابن عباس في قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال:
خلق كل شيء يمشي على أربع، إلا الإنسان فإنه خلق منتصباً، وهذا كقوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) [التين: ٤] ويقال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ يعني: في مشقة وتعب.
وروي عن ابن رفاعة، عن سعيد بن الحسن، عن الحسن البصري في قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا
قال سعيد: يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة. وقال الحسن: لم يخلق الله تعالى خليقة، يكابد مكابدة ما يكابد ابن آدم. وروي عن عطاء، عن ابن عباس يقول: خلق في شدة، يعني: مولده ونبات أسنانه وغير ذلك. ويقال: معناه: ولقد خلقنا الإنسان في كبد وهي المضغة، مثل الكبد دماً غليظاً، ثم يصير مضغة.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ٥ الى ١٠]
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)
وقال عز وجل: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يعني: أيحسب الكافر، أن لن يقدر عليه الله تعالى، يعني: على أخذه وعقوبته. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً يعني: أبا جهل بن هشام يقول: أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد صلّى الله عليه وسلم، فلم ينفعني ذلك، وهو أنه ضمن مالاً لمن يقتل محمدا صلّى الله عليه وسلم، ويقال: أنفق مالاً يوم بدر. ثم قال عز وجل: أَيَحْسَبُ يعني: أيظن أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني: إن لم ير الله تعالى صنيعه فلا يعاقبه بما فعل. ثم ذكر ما أنعم عليه ليعتبر به ويوحد فقال: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يعني: ألم نخلق له عينين. يبصر بهما وَلِساناً ينطق به وَشَفَتَيْنِ فيضمهما.
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال الثعلبي ومقاتل يعني: عرّفناه طريق الخير والشر. وقال قتادة:
يعني: طريق الهدى والضلالة، وهكذا قال ابن مسعود، رضي الله عنه، ويقال: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ يعني: هديناه في الصغر لأحد الثديين، يعني: خلق له شفتين، ليأخذ بهما ثدي أمه. ويقال: بينا له طريقين، طريق الدنيا، وطريق الآخرة. وقال مجاهد: يعني: طريق السعادة، وطريق الشقاوة. ويقال: الطاعة والمعصية، ويقال: طريق الصواب، وطريق الخطأ.
ومعناه ألم نجعل له ما يستدل به، على إن الله تعالى قادر على أن يبعثه، ويحصي عليه ما عمله.
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١١ الى ٢٠]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥)
أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
ثم قال عز وجل: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ يعني: فلا هو اقتحم العقبة، ويقال: فلم يقتحم
ثم قال عز وجل: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ يعني: ما أدراك بماذا يكون مجاوزة الصراط.
ثم قال: فَكُّ رَقَبَةٍ يعني: اقتحام العقبة، هو فك الرقبة يعني: إنما يجاوز الصراط. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يعني: يجاوز الصراط بإحكام في يوم ذي مجاعة. قرأ أبو عمرو، وابن كثير، والكسائي فَكُّ رَقَبَةٍ، بنصب الكاف والهاء، وأطعم بنصب الهمزة بغير الألف، والباقون فَكُّ رَقَبَةٍ بضم الكاف، وكسر الهاء أَوْ إِطْعامٌ بكسر الهمزة، وإثبات الألف.
فمن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى، معناه فلا فَكَّ رَقَبَةً، ولا أطعمَ في يوم ذي مسغبة، فكيف يجاوز العقبة، ومن قرأ بالضم فمعناه اقتحامُ العقبة، فكُّ رقبة يعني: مجاوزة العقبة بعتق رقبة، وبإطعام في يوم ذي مسغبة، أي: مجاعة.
ثم بين لهم لمن يُطْعَم الطعام فقال: يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ يعني: يتيماً بينك وبينه قرابة أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ يعني: مسكيناً لا شيء له لاصق في التراب من الجهد، فهذا الإحسان مجاوزة العقبة ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: من صنع هذا الإحسان، يكون مؤمناً، لأنه لا يتقبل عملاً من الأعمال بغير إيمان. ويقال: معناه ثم يثبت على إيمانه. ثم قال: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ يعني: تحاشوا أنفسهم بالصبر، وتحاشوا بعضهم بعضاً بالصبر على طاعة الله تعالى، وبالصبر على المكروهات، لأنه روي في الخبر، إن الجنة حفت بالمكاره.
ثم قال تعالى: وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ يعني: تحاشوا بالتراحم بعضهم على بعض، يعني: بالمرحمة على أنفسهم، على غيرهم. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: «مَنْ يَرْحَمِ النَّاسَ، يَرْحَمُهُ الله تَعَالَى». ثم قال: أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ يعني: أهل التراحم والتواصل، هم أصحاب الميمنة، الذين يعطون كتابهم بأيمانهم وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا يعني:
بمحمد صلّى الله عليه وسلم وبالقرآن، ويقال: كفروا بدلائل الله تعالى. هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ يعني: يعطون كتابهم بشمالهم عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ يعني: أُدْخِلُوا في النار، وأُطْبِقَتْ عليهم، لا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد. قرأ أبو عمرو، وعاصم في رواية حفص، وحمزة عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ بالهمزة، والباقون بغير همزة، وهما لغتان. يقال: أصدت وأوصدت الباب، وأوصدته إذا أطبقته والله أعلم.