تفسير سورة القصص

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة القصص من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة القصص
سورة القصص مكية الا قوله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ الى قوله لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ وفيها آيات نزلت بين مكة والمدينة وهى قوله تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وهى ثمان وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ابان لازم ومتعد يعنى ظاهر فى كونه من عند الله لاعجازه او مظهر لاحكامه ومواعيده وما فيها من القصص.
نَتْلُوا اى نقراه بقراءة جبرئيل عَلَيْكَ ويجوز ان يكون نتلوا بمعنى ننزل مجازا مِنْ نَبَإِ اى بعض نبا مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ ظرف مستقر حال من نبا اى مقرونا بالصدق او من فاعل نتلوا اى محقين او ظرف لغو متعلق بنتلوا لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانهم هم المنتفعون به.
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا اى استكبر وتجبر وتعظم استيناف بيان لذلك البعض فِي الْأَرْضِ اى ارض مصر وَجَعَلَ أَهْلَها اى اهل تلك الأرض شِيَعاً اى فرقا يشيعونه فيما يريد من الخدمة او يشيع بعضهم بعضا او فرقا أكرم منهم طائفة وهم القبط وأهان آخرين وهم بنوا إسرائيل او أصنافا فى الخدمة استعمل كل صنف فى عمل او أحزابا اغرى بينهم العداوة كيلا يتفقوا عليه وفى القاموس شيعة الرجل اتباعه وأنصاره والفرقة على حدة يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنوا إسرائيل الجملة حال من فاعل جعل او استيناف يُذَبِّحُ
أَبْناءَهُمْ
لان كاهنا قال يولد مولود فى بنى إسرائيل يذهب ملكك على يديه كذا اخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ اى يترك بناتهم احياء بدل من قوله يستضعف سمى ذلك استضعافا لانهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ولذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد إذ لا ينفعه القتل سواء صدق الكاهن او كذب-.
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ اى نتفضّل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ بانقاذهم من بأسه جملة نريد حكاية حال ماضية معطوفة على انّ فرعون علا من حيث انهما واقعان تفسيرا للنبأ- او حال من فاعل يستضعف بتقدير ونحن نريد او عطف على يستضعف والرابط بالموصوف وضع المظهر اى الذين استضعفوا موضع الضمير ولا يلزم من مقارنة الارادة للاستضعاف مقارنة المراد له لكون تعلق الارادة حينئذ تعلقا استقباليا مع ان منة الله بخلاصهم لمّا كانت قرينة الوقوع منه جاز ان يجرى مجرى المقارن وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
يقتدى بهم فى امر الدين دعاة الخير كذا قال مجاهد وقال قتادة ولاة وملوكا بدليل قوله تعالى وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لما كان فى ملك فرعون وقومه.
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ اى ارض مصر والشام واصل التمكن ان يجعل للشئ مكانا يستقر فيه ثمّ استعير للتسليط ونفاذ الأمر وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما قرأ الأعمش والحمزة والكسائي يرى بالياء ومفتوحة وفتح الراء وامالة فتحها ورفع الأسماء الثلاثة على الفاعلية والباقون بالنون مضمومة وكسر الراء وفتح الياء بعدها ونصب الأسماء الثلاثة على المفعولية مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل ما كانُوا يَحْذَرُونَ والحذر هو التوقي عن الضرر وذلك انهم أخبروا ان هلاكهم على يد رجل من بنى إسرائيل وكانوا على وجل منه فاراهم الله ما كانوا يحذرون..
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى وهى يوخابذ بنت لاوى بن يعقوب عليه السلام كذا ذكر البغوي اجمعوا على انه ليس بوحي نبوة وان النبي لا يكون الا رجلا قال قتادة قذف فى قلبها وهو الإلهام فى اصطلاح الصوفية ومن جنسه المنام الصادق الموجب لليقين واطمينان القلب وهو ايضا من قبيل الإلهام وهذه الاية تدل على ان الإلهام
144
ايضا من اسباب العلم وان كان علما ظنّيا والمعتبر الهام القلوب الزاكية والنفوس المطمئنة والفرق بين الوسوسة والإلهام بحصول اليقين واطمينان القلب أَنْ أَرْضِعِيهِ ان مفسرة لاوحينا لان فيه معنى القول او مصدرية يعنى ارضعى موسى ما أمكنك اخفاؤه قال البغوي اختلفوا فى مدة إرضاع موسى عليه السلام امه قيل هى ثمانية أشهر وقيل اربعة أشهر وقيل ثلاثة أشهر كانت ترضعه فى حجرها وهو لا يبكى ولا يتحرك فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ بان يحس به فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ فى البحر يريد النيل وَلا تَخافِي عليه الضياع وَلا تَحْزَنِي لفراقه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ من قريب بحيث تامنين عليه وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ روى عطاء والضحاك عن ابن عباس ان بنى إسرائيل لما كثروا بمصر واستطالوا على الناس وعملوا بالمعاصي ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر فسلط الله عليهم النبط فاستضعفوهم الى ان نحاهم الله على يدى نبيه- موسى عليه السّلام- قال ابن عباس رض ان أم موسى لما دنى ولادتها وكانت قابلة من قوابل اللاتي وكّلهن فرعون بحبالى بنى إسرائيل مصافية لام موسى فلمّا ضربها الطلق أرسلت إليها وقالت قد نزل بي ما نزل فلينفعنى حبك إياي اليوم قال فعالجت قابلتها فلما ان وقع موسى عليه السلام بالأرض هالها نور بين عينى موسى عليه السّلام فارتعش كل مفصل منها ودخل حب موسى عليه السلام فى قلبها ثم قالت يا هذه ما جئت إليك حين دعوتنى الا ومن ورائي قتل مولودك ولكن وجدت لابنك حبّا ما وجدت حب شىء مثل حبه فاحفظى ابنك فانى أراه مدونا. فلمّا خرجت القابلة من عندها ابصر بعض العيون فجاءوا الى بابها ليدخلوا على أم موسى فقالت أخته يا أماه هذا الحرس بالباب قلفّت موسى فى خرقة فوضعته فى التنور وهو مسجور وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع فدخلوا فاذا التنور مسجور وراوا أم موسى ع لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا لها ما ادخل عليك القابلة قالت هى مصافية لى فدخلت علىّ زائرة فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت لاخت موسى عليه السلام فاين الصبى قالت لا أدرى فسمعت بكاء الصبى من التنور فانطلقت اليه وقد جعل الله سبحانه وتعالى النار عليه بردا وسلاما فاحتملته.
قال ثم ان أم موسى لما رات الحاج فرعون فى طلب الولدان خافت على ابنها فقذف
145
الله فى نفسها ان تتخذ له تابوتا ثم تقذف التابوت فى اليم وهو النيل فانطلقت الى رجل من قوم فرعون نجار فاشترت منه تابوتا صغيرا فقال لها النجار ما تصنعين بهذا التابوت قالت ابن لى أخبؤه فى التابوت وكرهت الكذب قال ولم قالت أخشى عليه كيد فرعون فلما اشترت التابوت وحملته فانطلقت انطلق النجار الى الذبّاحين ليخبرهم بامر أم موسى فلمّا هم بالكلام امسك الله تعالى فلم يطق الكلام وجعل يشير بيده فلم يدر الأمناء ما يقول فلما أعياهم امره قال كبيرهم اضربوه وأخرجوه فلمّا انتهى النجار الى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم فانطلق ايضا يريد الأمناء فاتاهم ليخبرهم فاخذ لسانه وبصره فلم يطلق الكلام ولم يبصر شيئا فضربوه وأخرجوه ووقع فى واد يهوى فيه حيران فجعل عليه ان رد لسانه وبصره ان لا يدل عليه وان يكون معه ويحفظه حيث ما كان فعرف الله منه الصدق فرد الله عليه بصره ولسانه فخر لله ساجدا فقال يا رب دلّنى على هذا العبد الصالح فدله الله عليه فخرج من الوادي وأمن به وصدقه وعلم ان ذلك من الله عزّ وجلّ.
وقال وهب بن منبه لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها من جميع الناس فلم يطلع على حملها أحد من خلق الله وذلك شىء ستره الله لما أراد ان يمن على بنى إسرائيل فلمّا كانت السنة التي يولد فيها بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن ففتش النساء تفتيشا لم يفتش قبل ذلك وحملت أم موسى ع بموسى فلم ينت بطنها ولم يتغير لونها ولم يظهر لبنها وكانت القوابل لا تتعرض لها فلمّا كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ولم يطلع عليها أحد الا أخته مريم واوحى الله إليها أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ الآية فكتمته امّه ثلاثة أشهر ترضعه فى حجرها لا يبكى ولا يتحرك فلمّا خافت عليه عملت له تابوتا مطبقا قيل وضعته فى تابوت مطلّى بالقارّ من داخل ممهدا له فيه وأغلقته ثم ألقته فى البحر ليلا- قال ابن عباس وغيره فكان لفرعون يومئذ بنت ليس له ولد غيرها وكانت أحب الناس عليه وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها الى فرعون وكان بها برص شديد وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا فى أمرها فقالوا لها أيتها الملكة لا تبرئى الا من قبل البحر يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيطلح به برصها فتبرا من ذلك وذا يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس- فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون الى مجلس كان له على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم وأقبلت ابنة فرعون فى جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها حتى تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن إذ اقبل النيل بالتابوت
146
يضربه الأمواج فقال فرعون ان هذا الشيء فى النيل قد تعلق بالشجرة ايتوني به فابتدروا بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه فدنت آسية فرات فى جوف التابوت نورا لم يره غيرها فعالجت ففتحت الباب فاذا هى بصبىّ صغير فى مهدة وإذا نور بين عينيه وقد جعل الله رزقه فى ابهاميه يمصهما لبنا فالقى الله تعالى المحبة لموسى فى قلب آسية وأحبه فرعون وعطف عليه- وأقبلت ابنة فرعون فلمّا اخرجوا الصبىّ من التابوت عمدت بنت فرعون الى ما كان من ريقه فلطخت ببرصها فبرات فقبّلته وضمته الى صدرها فقالت الغواة لفرعون ايها الملك انا نظنّ ان ذلك المولود الّذى تحذر منه من بنى إسرائيل هو هذا رمى به فى البحر خوفا منك ان تقتله فهمّ فرعون بقتله قالت آسية قرّة عين لّى ولك لا تقتلوه عسى ان ينفعنا او نتّخذه ولدا وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها وقال فرعون اما انا فلا حاجة لى فيه. قال رسول الله ﷺ لو قال يومئذ هو قرة عين لى كما هو لك لهداه الله كما هدها فقيل لاسية سميه فقالت سميته موسى لانا وجدناه بين الماء والشجر؟ " فمو" هو الماء- و" سا" هو الشجر..
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ اللام للعاقبة تشبها لعاقبة الأمر ومواده بالغرض الباعث على الفعل لتحقق وقوعها لَهُمْ عَدُوًّا يقتل رجالهم وَحَزَناً يستعبد نساءهم قرأ «وخلف- ابو محمد» حمزة والكسائي بضم الحاء وسكون الزاء والباقون بفتحهما وهما لغتان فى المصدر وهو هاهنا بمعنى الفاعلي إِنَّ فِرْعَوْنَ وَوزيره هامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ فى كل شىء فليس بمبدع منهم ان قتلوا الوفا لاجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون او المعنى كانوا مذنبين فعاقبهم الله تعالى بان ربّى عدوهم على أيديهم فالجملة اعتراض لتأكيد خطاءهم او لبيان الموجب لما ابتلوا به.
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ لفرعون عطف على فالتقطه ال فرعون قال وهب بن منبه لما وضع التابوت بين يديه وفتحوه وجدوا فيه موسى فلما نظر اليه قال عبرانى من اهل الأعداء فغاظه ذلك وقال كيف أخطأ هذا الغلام- وكان فرعون قد استنكح امراة من بنى إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء وكانت من بنات الأنبياء وكانت امّا للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم قالت لفرعون وهى قاعدة الى جنبه هذا الوليد اكبر من ابن
سنة وانما أمرت بذبح الولد لهذه السنة فدعه يكن قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ خبر مبتدا محذوف لا تَقْتُلُوهُ خطاب بلفظ الجمع على التعظيم. وروى انها قالت أتانا من ارض اخرى ليس من بنى إسرائيل عَسى أَنْ يَنْفَعَنا علة لقوله تعالى لا تَقْتُلُوهُ فان فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وذلك لما رات من نور بين عينيه وارتضاعه إبهامه لبنا وبرء البرصاء بريقه أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً او نتبناه فانه اهل له فاطاعوها وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من الملتقطين يعنى هم لا يشعرون ان هلاكهم على يديه فاستحياه فرعون فالقى الله عليه محبته اخرج ابن جرير عن محمد بن قيس مرفوعا انه قال فرعون قرّة عين لّك لالى ولو قال قرة عين لى كما هو لك لهداه الله كما هداها وقال ابن وهب قال ابن عباس لو ان عدو الله قال فى موسى كما قالت آسية عسى ان يّنفعنا لنفعه الله ولكن ابى للشقاء الذي كتبه الله عليه-.
وَأَصْبَحَ يعنى صار عطف على قالت امراة فرعون فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً اى خاليا من العقل لشدة الخوف والحزن حين سمعت وقوعه فى يد فرعون كقوله تعالى وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ اى خلاء لا عقول فيها وقال اكثر المفسرين اى خاليا من كل شىء سوى ذكر موسى وهمّه وقال الحسن فارغا اى ناسيا للوحى الذي اوحى الله إليها حين أمرها ان تلقيه فى البحر وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فجاءه الشيطان وقال كرهت ان يقتل فرعون ولدك فيكون لك اجره وثوابه وتوليت أنت قتله فالقيته فى البحر وأغرقته- فلمّا جاءها الخبر بان فرعون أصابه فى النيل قالت انه وقع فى يد عدوه فانساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها- قلت لعل حزنها لمّا كان الهام الأولياء دليلا ظنيّا فافزعته احتمال الخطاء فى الإلهام وقال ابو عبيدة معناه فارغا من الحزن لعلمها بصدق وعد الله تعالى وأنكر القتيبي هذا وقال كيف يكون هذا والله يقول إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ان مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن واللام فارقة اى انها كادت ليظهر به اى بموسى يعنى بامره انه ابنها من شدة جزعها كما قال عكرمة عن ابن عباس رض انها كادت تقول وا ابناه وقال مقاتل لما رات التابوت يرفعه موج ويضعه اخر خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شفقتها وقال الكلبي كادت تظهر انه ابنها وذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعد ما شبّ موسى بن فرعون فشق عليها فكادت تقول هو ابني فقيل معنى الاية وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً من الحزن حين سمعت ان فرعون تبنّاه فكادت لتبدى به اى بانه ابنها حيث لم تملك نفسها من شدة الفرح وروى ابن جرير وابن ابى حاتم
عن السدىّ انه قالت اخت موسى هل أدلكم الى آخره وجاءت بامها فاخذ موسى ثديها فكادت تقول هو ابني فعصمها الله وقال ابو عبيدة معنى الاية أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً من الخوف والحزن لقوله تعالى لا تخافي ولا تحزنى وان كادت لتبدى به يعنى انها لشدة وثوقها بوعد الله كادت ان تظهر انه ابنها او تظهر بالوحى إليها بان الله وعدني برده الىّ وجعله من المرسلين لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها ظرف لغو متعلق بقوله رَبَطْنا وهى بتأويل المصدر مبتدا خبره محذوف يعنى لولا ربطنا على قلبها موجود او ظرف مستقر خبر للمبتدا اى لولا ربطنا ثابت على قلبها يعنى لولا ربطنا بالصبر على الجزع او على كتمان الفرح على التأويل الاول والثاني او بالصبر على كتم اسرار الله تعالى على تاويل ابى عبيدة وجواب لولا محذوف ايضا دل عليه ما قبله يعنى لابدت به لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ متعلق بربطنا يعنى ربطنا على قلبها بالصبر على الجزع او على كتم الفرح لتكون من المصدقين بوعد الله او متعلق باصبح والمعنى أصبح فؤاد امّ موسى فارغا من الخوف والحزن لتكون من المؤمنين الموقنين بوعد الله وعلى ما ذكرنا من التأويل اندفع انكار القتيبي على تاويل ابى عبيدة وجملة لولا ان رّبطنا معترضة حينئذ قال يوسف بن حسين أمرت أم موسى بشيئين ونهيت عن شيئين وبشرت ببشارتين فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حفظها فربط على قلبها وسكن قلقها الذي وجدت من شدة الحزن او القرح لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لا بتبنّى فرعون-.
وَقالَتْ أم موسى عطف على أصبح لِأُخْتِهِ مريم بنت عمران قُصِّيهِ اى اتبعى اثره وتبتغى خبره فَبَصُرَتْ بِهِ عطف على محذوف معطوف على قالت تقديره فقضت فبصرت له عَنْ جُنُبٍ اى عن بعد حال من أحد الضميرين المرفوع او المجرور وفى القصة انها تمشى جانبا وننظر اختلاسا ترى انها لا تنظر وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ انها أخته وانها ترقبه.
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ عطف على بصرت والمراد بالتحريم المنع التكويني دون التكليفي والمراضع اما جمع مرضع بالضم يعنى منعنا عنه لبن كل مرضعة فلم يرتضع من أحدا هن واما جمع مرضع بالفتح على انه مصدر ميمى بمعنى الرضاع او ظرف وهو الثدي مِنْ قَبْلُ قصصها قال ابن عباس رض ان امراة فرعون كان همها من الدنيا ان تجد له مرضعة وكانوا كلما أتوا بمرضعة لم تأخذ موسى ثديها حتى راته اخت موسى فى ذلك الحال وفى القصة ان موسى مكث ثمانى ليال لا يقبل ثديا ويصيح فَقالَتْ عطف على حرمنا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ اى
لاجلكم صفة لاهل بيت وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ اى لا يقصرون فى ارضاعه وتربيته والنصح ضد الغش وهو تصفية العمل عن شوب الفساد حال من فاعل يكفلونه قال ابن جريح والسدىّ لمّا قالت اخت موسى وهم له ناصحون أخذوها وقالوا انّك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على اهله قالت ما أعرفه وقلت وهم للملك ناصحون كذا اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن السدى وقيل انها قالت انما قلت هذا وغبة فى سرور الملك واتصالنا به وقيل انها لمّا قالت هل أدلكم على اهل بيت قالوا لها من قالت لامى قالوا لامك ابن قالت نعم هارون (وكان هارون ولد فى سنة لا يقتل فيها الوالدان) قالوا صدقت فأتينا به فانطلقت الى أمها فاخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم فلمّا وجد موسى ريح امه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه قال السدىّ كانوا يعطونها اجرة كل يوم دينارا قيل انما أخذتها لانها كانت مال حربى وذلك قوله عزّ وجلّ.
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ عطف على جمل محذوفة معطوفة بعضها على بعض معطوفة على فقالت هل ادلّكم تقديره فقالوا دلّنى فدلت على أمها فقالوا اتى بها فانطلقت فانت بها فوضعوه فى حجرها فارضعته فرضعته فسلموه إليها للارضاع فرددناه الى امه كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها برد موسى إليها وَلا تَحْزَنَ لفراقه عطف على تقرّ وَلِتَعْلَمَ أم موسى عطف على لا تخزن أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ برده إليها حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر الناس لا يَعْلَمُونَ ان وعد الله حق ولو علموا ذلك لما ارتكبوا منهيات الله خوفا من وعيده وما تركوا أوامره طمعا فى وعده وفيه تعريض على أم موسى لما فرط منها حين جزعت على تأويل أصبح فؤاد امّ موسى فارغا بمعنى خاليا من الصبر وقيل يعنى لا يعلمون بهذا الوعد ولا بان هذه أخته وهذه امه فمكث عندها الى ان فطمته فاتت به الى فرعون فتربى عنده كما قال الله تعالى حكاية عنه فى سورة الشعراء أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً-.
وَلَمَّا بَلَغَ موسى أَشُدَّهُ جمع شدة بمعنى القوة كالنعم جمع نعمة يعنى مبلغه الذي لا يزيد اليه نشوه قال الكلبي الأشد ما بين ثمانى عشرة سنة الى ثلاثين سنة وقال مجاهد وغيره ثلاث وثلاثون سنة وَاسْتَوى عقله اى بلغ أربعين سنة كذا روى سعيد بن جبير عن ابن عباس وقيل استوى اى انتهى شبابه آتَيْناهُ حُكْماً اى النبوة وَعِلْماً اى معرفة بالله وباحكامه قيل ليس المراد به الاستنباء لانه يكون بعد الهجرة فى المراجعة من هذين بل المراد به الفقه والعلم بالشرائع قلت العطف بالواو للجمع المطلق لا دليل فيه على الترتيب فالاستنباء وان كان بعد الهجرة لكن ذكره هاهنا لبيان انجاز الوعد بتمامه حيث قال إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَكَذلِكَ صفة المصدر محذوف
تقديره نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ جزاء كذلك اى مثل ذلك الذي جزينا موسى وامه على إحسانهما..
وَدَخَلَ موسى الْمَدِينَةَ عطف على لمّا بلغ أشدّه قال السدىّ هى مدينة مدين من ارض مصر وقال مقاتل كان قرية تدعى خانين على رأس فرسخين من مصر وقيل مدينة عين الشمس وقال المحلى مدينة منف دخله بعد ان غاب عنه مدة عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها وهو وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة وقال محمد بن كعب القرظي دخلها فيما بين المغرب والعشاء قال السدى وذلك ان موسى يسمى ابن فرعون فكان يركب مراكب فرعون ويلبس ملابسه فركب فرعون يوما وليس عنده موسى فلمّا جاء موسى قيل له ان فرعون قد ركب فركب فى اثره فادركه المقيل بأرض منف قد خلها نصف النهار وليس فى طرقها أحد. وقال ابن إسحاق كان لموسى شيعة من بنى إسرائيل يستمعون منه ويقتدون به فلمّا عرف ما هو عليه من الحق راى فراق فرعون وقومه فخالفهم فى دينه حتى ذكر ذلك منه وأخافوه وخافوه وكان لا يدخل قرية الا خائفا مستخفيا فدخلها حين غفلة من أهلها- وقال ابن زيد لما عدا موسى فرعون بالعصا فى صغره وأراد فرعون قتله فقالت امراة فرعون هو صغير فترك قتله وامر بإخراجه من مدينته فلم يدخل الا بعد ان كبر وبلغ أشده ف دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها يعنى حين غفلة عن ذكر موسى من بعد نسائهم خبره وامره لبعد عهدهم به قال البغوي وروى عن على رضى الله تعالى فى قوله تعالى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ صفة لرجلين اى يختصمان ويتنازعان هذا مِنْ شِيعَتِهِ يعنى من بنى إسرائيل هذه الجملة مع ما عطف عليها حال من رجلين بترك الواو على طريقة كلمته فوه الى لىّ بتقدير تقديره فوجد رجلين يقال فيهما هذا من شيعته وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ اى من القبط وجاز ان يكون هذا وهذا بدلا من رجلين وقوله من شيعته ومن عدوه حال من المشار اليه والعامل فيه معنى الاشارة فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عطف على وجد عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ والاستغاثة طلب الغوث استغاث الاسرائيلى على الفرعوني فغضب موسى واشتد غضبه لانه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بنى إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس الا من قبل الرضاعة من أم موسى فقال للفرعونى خل سبيله فقال انما ناخذه ليحمل الحطب الى مطبخ أبيك فتنازعه فقال الفرعوني لقد هممت ان احمله عليك وكان موسى قد اوتى بسطة فى الخلق وشدة القوة والبطش فَوَكَزَهُ مُوسى قرأ ابن مسعود فلكزه
موسى ومعناهما واحد وهو الضرب بجمع الكف وقيل الوكز الضرب فى الصدر واللكز فى الظهر وقال الفراء معناهما الدفع وقال ابو عبيدة الوكز الدفع باطراف الأصابع وفى بعض التفاسير عقد موسى ثلاثا وثمانين فضربه فى صدره فَقَضى عَلَيْهِ اى قتله ودفنه فى الرمل كذا قال المحلى ومعناه فرغ من امره فكل شىء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه ولم يكن الموسى قتله فندم عليه موسى وقالَ إلخ الجملة مستأنفة هذا اى القتل مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ انما قال ذلك لانه لم يكن مأمورا حينئذ بقتل الكفار او لانه كان مأمونا فيهم فلم يكن له اغتيالهم وهذا لم يكن مناف لعصمته لكونه خطأ وانما عدّ ذلك الأمر من عمل الشيطان وسماه ظلما واستغفر عنه على عادة المقربين فى استعظام محقرات صدرت منهم إِنَّهُ اى الشيطان عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ اى ظاهر العداوة-.
قالَ جملة مستانفة رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتل نفس من غير أمرك فَاغْفِرْ لِي خطيئتى فَغَفَرَ لَهُ عطف على قال اى غفر الله لموسى حقه ولم يكن القبطي معصوم الدم حتى لا يتصور المغفرة من غير قصاص او عفو من المقتول او ورثته إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الذنوب عباده الرَّحِيمُ بهم.
قالَ مستانفة اخرى رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ الباء فى بما أنعمت للقسم وجوابه ما بعده وقوله فلن أكون معطوف على محذوف تقديره اقسم بانعامك علىّ بالنبوة والمغفرة وغير ذلك تبت فلن أكون او الباء متعلق بمحذوف تقديره ربّ اعصمني من الزلات بحق إنعامك علىّ وعلى هذا قوله فلن أكون جواب للدعاء اى ليكن منك اعصامى فعدم كونى ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال ابن عباس اى للكافرين وهذا لو صح لدلّ على ان الاسرائيلى، كان كافرا وهو قول مقاتل وقال قتادة معناه لن أعين بعد هذا على خطيئة وقيل معناه لن أكون معينا لمن أدت معاونته الى جرم-.
فَأَصْبَحَ موسى فِي الْمَدِينَةِ التي قتل فيها القبطي عطف على فقضى عليه خائِفاً على نفسه يَتَرَقَّبُ الانتقام من ورثة المقتول او يترقب النصر من ربه حالان من فاعل أصبح فَإِذَا للمفاجاة الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ اى يستغيثه مشتق من الصراخ قال ابن عباس اتى فرعون فقيل له ان بنى إسرائيل قتلوا منّا رجلا فخذلنا بحقنا فقال انجوا الى قاتله ومن يشهد عليه فلا يستقيم ان يقضى بغير بينة نميناهم يطوفون لا يجدون ثبتا إذ مر موسى من الغد فراى ذلك الاسرائيلى يقاتل فرعونيّا فاستغاثه على الفرعوني
فصادف موسى وقد ندم ما كان منه بالأمس من قتل القبطي قالَ لَهُ اى للاسرائيلى مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ بيّن الغواية حيث تسبّبت قتل رجل بالأمس وتقاتل اليوم رجلا اخر وتستغيثنى وقيل انما قال للفرعونى انّك لغوىّ مبين بظلمك ثم أدرك موسى الرقبة الاسرائيلى لمّا راى ظلم الفرعوني عليه فمديده لبطش الفرعوني.
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ موسى أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما اى لموسى والاسرائيلى لانه لم يكن على دينهما ولان القبط كانوا اعداء بنى إسرائيل ظن الاسرائيلى انه يريد بطشه لما راى من غصته وسمع قوله انّك لغوىّ مبين قالَ الاسرائيلى يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ او قال ذلك القبطي لما توهم من قوله انه الّذى قتل القبطي بالأمس لهذا الاسرائيلى والاول اظهر إِنْ تُرِيدُ اى ما تريد إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً قتالا بالغضب فِي الْأَرْضِ اى فى ارض مصر حيث تطاول على الناس ولا تنظر العواقب وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هى احسن فلمّا سمع القبطي قول الاسرائيلى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ علم ان قاتل القبطي بالأمس كان موسى انطلق الى فرعون وأخبره بذلك فامر فرعون بقتل موسى او سمع الناس مقالاتهم واشتهر ان موسى قتل القبطي وارتفع الى فرعون وملئه فهموا بقتله.
وَجاءَ رَجُلٌ عطف على قال يا موسى قال اكثر اهل التأويل هو حزئيل مومن ال فرعون وقيل اسمه شمعون وقيل سمعا مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ ظرف مستقر صفة لرجل وليس متعلقا بجاء لان تخصيصها الحقه بالمعارف فصح ان يكون قوله يَسْعى حالا منه يعنى جاء ذلك الرجل يسرع فى مشيه فاخذ طريقا قريبا حتى سبق الى موسى فاخبره وأنذره وقالَ يا موسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ اى يأمر بعضهم بعضا متلبسا ذلك الأمر بِكَ لِيَقْتُلُوكَ اى لكى يقتلوك او يأمر بعضهم بعضا بقتلك واللام زائدة وقيل معناه يتشاورون بك سمى التشاور ايتمار الان كلا من المتشاورين يأمر الاخر لكى يقتلوا فَاخْرُجْ من المدينة إِنِّي لَكَ متعلق بمحذوف خبر لان يعنى انى نافع لك مِنَ النَّاصِحِينَ خبر ثان ولا يجوز ان يكون لك متعلقا بناصحين لان معمول الصلة لا يتقدم على الموصول وقيل متعلق بناصحين والكلام محمول على التقديم والتأخير وقيل لك بيان لمبهم كانه قال انّى من النّاصحين ثم أراد ان يبيّن
فقال لك اى انصح لك واللام فيه لتقوية عمل فعل محذوف.
فَخَرَجَ موسى مِنْها من تلك القرية خائِفاً على نفسه يَتَرَقَّبُ اى ينتظر الطالب من خلفه وقيل يترقب النصر من ربه فان قيل هذه الاية تدل على جواز الخوف للانبياء من غير الله سبحانه وقد قال الله تعالى فيهم وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ فما التوفيق قلنا الخوف على نفسه من مقتضيات الطبعية لا ينافى النبوة والمراد بقوله تعالى لا يخشون أحدا الّا الله انّهم لا يبالون فى إتيان أوامره تعالى والانتهاء عن مناهيه لحوق مضرة بهم من أحد سوى الله تعالى بخلاف سائر الناس فانهم يخشون النّاس كخشية الله او أشدّ خشية وإذا أوذي فى الله جعل فتنة النّاس كعذاب الله قالَ موسى استيناف او حال بتقدير قد من فاعل خرج رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ اى الكافرين يعنى خلصنى منهم واحفظني من لحوقهم وفى القصة ان فرعون بعث فى طلبه حين اخبر بهربه فقال اركبوا بينات الطريق فانه لا يعرف كيف الطريق-.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قال الزجاج اى سلك الطريق التي يلقى فيها مدين وهى قرية سميت باسم مدين بن ابراهيم عليه السلام وكان موسى قد خرج بلا ظهر وبلا زاد وكان مدين على مسافة ثمانية ايام من مصر ولم يكن فى سلطنة فرعون ولمّا ظرف فيه معنى الشرط متعلق بقوله قالَ يعنى موسى توكلا على الله وحسن ظن به عَسى رَبِّي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابن كثير وابو عمرو بالفتح والباقون بالإسكان أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ والجملة معطوفة على قال ربّ نجّنى واضافة سواء الى السبيل اضافة صفة الى موصوفه والمعنى ان يهدينى السبيل السوي الّذى لا زحمة فيه ولم يكن موسى يعرف الطريق إليها فلما قال هذا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به قال المفسرون خرج موسى من مصر ولم يكن معه الأورق الأشجار والبقل حتى يرى خضرته فى بطنه وما وصل الى مدين حتى وقع خف قدميه. قال ابن عباس رض هو أول ابتلاء من الله لموسى عليه السّلام..
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ اى وصل اليه وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم وَجَدَ عَلَيْهِ اى على الماء يعنى جانب البئر أُمَّةً اى جماعة كثيرة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ اى فى مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ
حال من امرأتين او صفة لهما ان تمنعان أغنامها عن الماء لئلا تختلط باغنامهم قالَ موسى للمرءتين- ما خَطْبُكُما اى ما شأنكما حيث تمنعان مواشيكما من الماء والخطب بمعنى الشان كذا فى القاموس قيل هو مصدر بمعنى المفعول يعنى ما مخطوبكما يعنى ما مطلوبكما من هذا المنع قالَتا لا نَسْقِي أغنامنا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ قرأ ابو جعفر وابو عمرو وابن عامر يصدر بفتح الياء وضم الدال على انه فعل لازم بمعنى يرجع والباقون بضم الياء وكسر الدال من الافعال يعنى حتى يصرف الرعاء مواشيهم عن الماء حذف المفعول من يسقون وتذودان ولا تسقى لان الغرض هو الفعل دون المفعول الا ترى انه انما رحمهما لانهما كانتا على الزود مع الحاجة الى السقي لاجل ضعفهما والناس على السقي ولم يرحمهما لان مزودهما غنم وسقيهم ابل وايضا الغرض بيان ما يدل على عفتهما واحترازهما عن مزاحمة الرجال وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ السنّ لا يقدر ان يسقى مواشيه ولذلك احتجنا الى سقى المواشي والجملة حال من فاعل لا نسقى ووجه مطابقة جوابهما سواله انه سالهما عن سبب الذور فقالتا السبب فى ذلك انا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ونستحيى من اختلاطهم فلا بد لنا من الذور وتأخير السقي كيلا يختلط الغنم قال البغوي اختلفوا فى اسم أبيهما فقال مجاهد والضحاك والسدى والحسن هو شعيب عليه السلام وقال وهب وسعيد بن جبير هو ثيرون بن أخي شعيب وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعد ما كف بصره فدفن بين المقام والزمزم وقيل رجل ممن أمن بشعيب عليه السلام فلما سمع موسى قولهما رحمهما.
فَسَقى لَهُما غنمهما قال ابن عباس زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين وقيل اقتنع موسى صخرة من رأس بئر اخرى كانت بقربها لا يطيق رفعها الا الجماعة من الناس قيل عشرة انفس ويقال انه نزع دلوا واحدا ودعا فيه بالبركة فروى منه جميع الغنم ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ظل شجرة فجلس فى ظلها من شدة الحرّ ولمّا طال البلاء بموسى انس بالشكوى الى مولاه ولا بأس فى الشكوى إذا كان الى المولى دون غيره فَقالَ موسى رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ قال اهل العلم اللام بمعنى الى يقال فقير له وفقير اليه والمراد بالانزال الإعطاء
يقال انزل الله تعالى نعمه او نعمته على الخلق اى أعطاهم إياه وذلك قد يكون بانزال الشيء نفسه كانزال القران وإنزال المطر وقد يكون بانزال أسبابه والهداية اليه كما فى قوله تعالى وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ... وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وأَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً. وأنزلت هاهنا صيغة ماض أريد به المستقبل او بمعنى قدرت انزاله الىّ والمعنى انى ما تعطينى او قدرت إعطاءه ايّاى مِنْ خَيْرٍ اى طعام قليل او كثير فَقِيرٌ محتاج «١» سائل يعنى أعطني ما شئت قليلا او كثيرا ولتضمنه معنى السؤال عدى باللام موضع الى قال ابن عباس سال الله لقمة يقيم بها صلبه قال الباقر عليه السلام لقد قالها وانه لمحتاج الى شق تمرة وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس لقد قال موسى عليه السلام رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وهو أكرم على الله وقد افتقر الى شق تمرة قال مجاهد ما ساله الا الخير وقيل معناه انى لما أنزلت اى بسبب ما أنزلت الىّ من خير اى الدين والحكمة فقير اى صرت فقيرا فى الدنيا لاجل مخالفة فرعون فى الدين فانه كان فى سعة عند فرعون والغرض منه اظهار التبهج والشكر على ذلك- قلت وجاز ان يكون المعنى وانى الى ما أنزلت الىّ من خير اى الدين والحكمة فقير سائل منك المزيد فيه كانه قال رب زدنى علما. قلت وجاز ان يكون أنزلت مشتقا من النزل بضم النون والزاء وهو ما يعدّ للنازل من الزاد يقال أنزلت فلانا اى أضفته والمعنى الى فقير محتاج سائل لما تعدلى من الطعام..
فَجاءَتْهُ عطف على محذوف تقديره فرجعتا الى أبيهما سريعا قبل الناس واغناهما «احنك البعرين أشدهما أكلا منه رح» حنك بطان فقال لهما أبوهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى أغنامنا فقال لاحدهما اذهبي فادعيه لى فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ الظرف حال من فاعل تمشى وجملة تمشى حال من فاعل جاءت قال البغوي قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليست بسلفع من النساء خرّاجة دلّاجة ولكن جاءت مستترة وضعت كم درعها على
(١) وعن عمر بن الخطاب ان موسى لمّا ورد ماء مدين وجد عليه امّة من النّاس يسقون فلمّا فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها الا عشرة رجال فاذا هو بامراتين قال ما خطبكما فحدثناه فاتى الحجر فرفعه وحده ثم استقى فلم يسق الا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم فرجعت المرأتان الى أبيهما فحدثناه وتولى موسى الى الظل وقال رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ الى اخر القصة ١٢ منه بزد الله مضجعة
156
وجهها استحياء قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا اخرج ابن عساكر وكذا ذكر البغوي انه قال ابو حازم سلمة بن دينار لما سمع موسى ذلك أراد ان لا يذهب ولكن كان جائعا فلم يجد بدّا من الذهاب فمشت المرأة ومشى موسى خلفها فكانت الريح تضرب ثوبها فتكشف ساقها فكره موسى ان يرى ذلك منها فقال لها امشى خلفى ودلّنى على الطريق ان اخطأت ففعلت كذالك فلمّا دخل على شعيب إذا هو قد تهيّا للعشاء فقال اجلس يا شابّ فتعشّ فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذلك الست بجائع قال بلى ولكن أخاف ان يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وانا من اهل بيت لا نطلب على عمل من اعمال الاخرة عوضا من الدنيا فقال شعيب لا والله يا شابّ ولكن عادتى وعادة ابائى نقرئ الضيف وو نطعم الطعام فجلس موسى فاكل قلت قوله تعالى قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا صريح فى انها دعت موسى الى إعطاء الاجر وموسى أجاب دعوتها ومشى معها ولم يكن ذلك بعد ما أراد ان لا يذهب على ما قال ابو حازم فالاية تدل على بطلان هذه القصة فانها تدل على الإنكار بعد الدعوة وايضا هذه القصة يعارض قول موسى فى قصة الخضر لو شئت لتّخذت عليه اجرا وعن ابى هريرة عن النبي ﷺ قال ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه وأنت يا رسول الله قال كنت أرعى على قراريط لاهل مكة- رواه البخاري وسنذكو قوله ﷺ ان موسى اجر نفسه ثمان سنين او عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه- والحق ان المكروه انما هو أخذ الاجر واشتراطه على عمل هو عبادة مقصودة بنفسها او شرط لعبادة مقصودة كالاذان والامامة وتعليم القران لا على ما هو مباح فى نفسه يصير طاعة بنية صالحة وقد أجاز الشافعي أخذ الاجرة على الاذان ونحو ذلك وأجاز المتأخرون من الحنفية أخذ الاجرة على تعليم القران والله اعلم.
فَلَمَّا جاءَهُ معطوف على جمل محذوفة تقديره فلما جاءته وقالت ما ذكر جاء موسى شعيبا عليه السّلام فلمّا جاءه اى جاء موسى عنده اى عند شعيب حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه وَقَصَّ موسى عليه السلام عَلَيْهِ الْقَصَصَ مصدر بمعنى المفعول فى القاموس قص اثره قصّا وقصصا تتبعه وقص الخبر اعمل
157
معنى الاية اخبر موسى خبره اجمع من قتله القبطي وقصد فرعون قتله قالَ شعيب لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعنى من فرعون وقومه وانما قال ذلك لان فرعون لم يكن سلطانه على مدين وجملة نجوت تعليل لقوله لا تخف.
قالَتْ إِحْداهُما يعنى التي استدعته يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ اى اتخذه أجيرا ليرعى أغنامنا إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ اى خير من استعملت من قوىّ على العمل وادي الامانة تعليل سائغ تجرى مجرى الدليل على انه حقيق بالاستيجار وللمبالغة فيه جعل خير اسم انّ وذكر الفعل بلفظ الماضي وان كان المعنى على الاستقبال للدلالة على انه مجرب معروف- اخبر الخطيب فى تاريخه عن ابى ذر يرفعه انه قال لها أبوها وما أعلمك بقوته وأمانته قالت اما قوته فانه رفع حجرا من رأس البئر لا يرفعها الا عشرة وقيل أربعون رجلا واما أمانته فانه قال لى امشى خلفى حتى لا تصف الريح بدنك- روى عن ابن مسعود قال افرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف حيث قال عَسى أَنْ يَنْفَعَنا وابو بكر رض فى عمر رض حيث جعله خليفة فى حياته.
قالَ شعيب عند ذلك إِنِّي «ابو جعفر- ابو محمد» قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ اسمهما صفورة وليّا فى قول شعيب الجبائي وقال ابن إسحاق صفورة وشرقا وقال غيرهما الكبرى صفراء والصغرى اصغيرا قال وهب بن منبه زوجه الكبرى وذهب أكثرهم الى انه زوجه الصغرى واسمها صفورة وهى التي ذهبت لطلب موسى كذا روى البزار والطبراني من حديث ابى ذر مرفوعا وكذا اخرج البخاري عن انس قال البغوي روى ابو ذر مرفوعا إذا سئلت اىّ الامرأتين انكحها إياه فقل الصغرى منهما وهى التي جاءت فقالت يابت استاجره فتزوج صغراهما عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي اى تأجر نفسك منى وتكون لى أجيرا وقال الفراء ان تجعل ثوابها من تزويجها يقول العرب أجرك يأجرك اى أثابك والمعنى على ان تثيبنى من تزويجها ان ترعى غنمى ثَمانِيَ حِجَجٍ ظرف على التأويلين الأولين ومفعول به على تأويل الفراء بإضمار مضاف والحجج السنون واحده حجة فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً اى عشر سنين فى رعى الغنم فَمِنْ عِنْدِكَ اى فذلك تفضل من عندك وتبرع وليس بواجب عليك وهذا استدعاء لعقد النكاح لانفسه
إذ لو كان عقدا لقال قد أنكحتك هذه تبعين إحداهما فالظاهر انه جرى بعد ذلك العقد على واحدة معينة منهما لكن هذه الاية تدل على ان رعى الغنم ثمان سنين جعل تمام المهر او بعضه بانضمام مال اخر معه ويدل عليه ما رواه احمد وابن ماجة عن عتبة بن المنذر قال كنا عند رسول الله ﷺ فقرأ طسم حتى بلغ قصة موسى فقال ان موسى عليه السلام اجر نفسه ثمان سنين على عفة فرجه وطعام بطنه.
(مسئلة) :- بهذه الاية والحديث استدل الفقهاء على انه من نكح امراة على ان يرعى الزوج غنمها جاز حيث ذكر رسول الله ﷺ قصة موسى من غير بيان نفيه فى شريعتنا وبه قال ابو حنيفة رحمة الله فى رواية ابن سماعة عنه ولا يجوز ذلك عند ابى حنيفة فى رواية الأصل والجامع وجه قول ابى حنيفة ان الاستدلال بهذه الاية والحديث المذكور فى هذه المسألة لا يجوز الا إذا ثبت كون العتم ملكا للبنت للاجماع على ان المهر فى شريعتنا يكون للزوجة لا لوليها والغنم كانت لشعيب عليه السلام فالاجماع دل على ان هذا الحكم كان فى شريعتهم لا فى شريعتنا وقد ذكرنا هذه المسألة فى سورة النساء فى تفسير قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ... وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بالزام تمام العشرة او المناقشة فى مراعات الأوقات واستيفاء الأعمال- المشقة مشتقة من الشق بمعنى الفرق فان ما يصعب عليك يشق اى يفرق عليك اعتقادك فى اطاقته ورأيك فى مزاولته سَتَجِدُنِي «ابو جعفر- ابو محمد» قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قال عمر فى حفظ الصحبة والوفاء بما قلت وهذه الجملة تأكيد لقوله ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ والمراد بالاشتراط بمشية الله فيما وعد من الصلاح الاتكال على توفيقه فيه ومعونته وعدم الاتكال على نفسه لا التردد فى الوعد..
قالَ موسى ذلِكَ الشرط ثابت بَيْنِي وَبَيْنَكَ مما شرطتّ علّى فلك وما شرطتّ لى من تزويج إحداهما فلى أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ اىّ منصوب بقضيت وما زائدة مؤكدة للابهام والمعنى اى الأجلين أطولهما او اقصرهما قَضَيْتُ اى وفيتك فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ جزاء لما تضمن ايّما معنى الشرط والجملة الشرطية بدل من قوله ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يعنى لا تعتدى علّى بطلب الزيادة فكما لا أطالب
159
بالزيادة عند قضاء عشر سنين كذلك لا أطالب بالزيادة عند قضاء ثمان- او فلا أكون معتديا بترك الزيادة عليه كقولك لا اثم علىّ وهو ابلغ فى اثبات الخيرة وتساوى الأجلين فى القضاء من ان يقال ان قضيت الا قصر فلا عدوان على وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من المشارطة وَكِيلٌ قال ابن عباس فيما بينى وبينك والجملة حال ممّا سبق والوكيل هو من وكل اليه الأمر واستعمل هاهنا موضع الشاهد والرقيب ولذلك عدى بعلى وروى شداد بن أوس مرفوعا بكى شعيب النبي صلى الله عليه واله وسلم حتى عمى فرد الله بصره ثم بكى حتى عمى فرد الله بصره فقال الله ما هذا البكاء اشوقا الى الجنة أم خوفا من النار فقال لا يا رب ولكن شوقا الى لقائك فاوحى الله اليه ان يكن ذلك فهنيئا لك لقائى يا شعيب لذلك اخدمتك موسى- ولمّا تعاقدا هذا العقد بينهما امر شعيب ابنته ان تعطى موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه واختلفوا فى تلك العصا قال عكرمة خرج بها آدم من الجنة فاخذها جبرئيل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقى بها موسى ليلا فدفعها اليه. وقال آخرون كانت من أس الجنة حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء وكان لا يأخذها غير نبى الا كلمته فصار من آدم الى نوح ثم الى ابراهيم ثم وصلت الى شعيب وكانت عصا الأنبياء عنده فاعطاها موسى. وقال السدى كانت تلك العصا أودعها ملك فى صورة رجل فامر ابنته ان تأتيه بعصا فاتته بها فلما راها شعيب قال لها ردى هذه العصاء واتيه بغيرها فالقتها وأرادت ان تأخذ غيرها ولا تقع فى يدها الا هى حتى فعلت ذلك ثلاث مرات فاعطاها موسى فاخرجها موسى معه ثم ان الشيخ ندم وقال كانت وديعة فذهب فى اثره وطلب ان يرد العصا فابى موسى ان يعطيه وقال هى عصاى فرضيا ان يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما فاتاهما ملك فى صورة رجل فحكم ان يطرح العصا فمن حملها فهى له فطرح فعالجها ليأخذها فلم يطقها فاخذها موسى فرفعها فتركها له الشيخ- ثم ان موسى لما أتم الاجل وسلّم شعيب ابنته قال موسى للمرءة اطلبى من أبيك ان يجعل لنا بعض الغنم فطلبت من أبيها فقال شعيب لكما كلما ولدت هذا العام على غير شيتها «كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره. منه رح» قيل أراد شعيب ان يجازى موسى على حسن رعيته إكراما له ووصلة لابنته فقال انى قد وهبت لك من الجدايا التي تضع اغنامى هذه السنة كل أبلق وبلقاء فاوحى
160
الله الى موسى فى المنام ان اضرب بعصاك الماء الذي فى مسقى الأغنام فضرب بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحد منها الا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب ان ذلك رزق ساقه الله عز وجلّ الى موسى فامره فوفى له بشرطه وسلم الأغنام اليه-.
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ اى أتمه وفرغ منه روى البغوي عن سعيد بن جبير قال سالنى يهودى من اهل الحيرة اىّ الأجلين قضى موسى قلت لا أدرى حتى اقدم على خبر العرب فاسئله فقدمت فسالت ابن عباس فقال قضى أكثرهما واطيبهما ان رسول الله إذا قال فعل- قال البغوي روى ابو ذر إذا سئلت اىّ الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأبرهما- رواه البزار وقال مجاهد لما قضى موسى الاجل مكث بعد ذلك عند صهره عشرا اخر فاقام عنده عشرين سنة ثم استأذنه فى العود الى مصر فاذن له فخرج الى مصر وَسارَ بِأَهْلِهِ حتى إذا بلغ برية قريبا من طور سيناء فى ليلة مظلمة شديدة الشتاء وأخذ امرأته الطلق آنَسَ اى ابصر مِنْ جانِبِ الطُّورِ اى من جهة التي تلى الطور ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا مكانكم وجمع الضمير ان صح ان لم يكن معه غير امرأته لما كنى عنها بالأهل إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون باسكانه آنَسْتُ ناراً الجملة فى مقام التعليل لامكثوا لَعَلِّي قرا الكوفيون بإسكان الياء والباقون بفتحها آتِيكُمْ مِنْها اى من النار لاجل اضاءتها الطريق بِخَبَرٍ الطريق وكان قد أخطأ الطريق أَوْ جَذْوَةٍ قرأ عاصم بفتح الجيم «وخلف- ابو محمد» وحمزة بضمها والباقون بكسرتها ثلاث لغات قال البغوي قال قتادة ومقاتل هى العود الذي قد احترق بعضها وجمعها جذى وفى القاموس الجذوة مثلثة القبسة من النار والجمرة مِنَ النَّارِ اى نتخذه من النار ومن للابتداء او للتبعيض وقال البيضاوي هى عود غليظ سواء كان فى راسه نارا ولم يكن ولذلك بينه بقوله من النار فمن للبيان لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ اى نستدفؤن بها..
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ اى جانب الْوادِ الْأَيْمَنِ اى الوادي الذي عن يمين موسى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ متعلق بنودى يعنى مباركة لموسى حيث
كلمه الله تعالى هناك وبعثه نبيّا وقال عطاء يريد المقدسة مِنَ الشَّجَرَةِ بدل اشتمال من الشاطئ لانها كانت نابتة على الشاطئ قال ابن مسعود كانت شجرة اخضر تبرق وقال قتادة ومقاتل والكلبي كانت عوجة وقال وهب من العليق وعن ابن عباس انها العذب أَنْ مفسرة لنودى يا مُوسى إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وقال فى طه انّى انا ربّك وفى النمل انّه انا الله العزيز الحكيم والمقصود واحد فهو اما رواية بالمعنى او ذكر الله سبحانه فى المحكي بالصفات المذكورة كلها واقتصر فى الحكاية على بعضها كما اقتصر على بعض ما تكلم به فى كل موضع فانه ذكر فى طه فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً إلخ وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى وقال فى النمل بورك من فى النّار ومن حولها وسبحان إلخ.
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها عطف على محذوف تقديره فالقاها فصارت ثعبانا واهتزت فلمّا راها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ يعنى كانها حية صغيرة فى سرعة حركتها وشدة اضطرابها وَلَّى مُدْبِراً هاربا منها وَلَمْ يُعَقِّبْ اى لم يرجع فنودى يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ عن المخاوف فانّه لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ-.
اسْلُكْ اى ادخل يَدَكَ فِي جَيْبِكَ اى جيب قميصك تَخْرُجْ مجزوم فى جواب الأمر بَيْضاءَ حال من المفعول المحذوف لتخرج اى تخرجها بيضاء ذات شعاع مِنْ غَيْرِ سُوءٍ متعلق ببيضاء وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ قرأ الكوفيون غير حفص واهل الشام بضم الراء وسكون الهاء وحفص بفتح الراء وسكون الهاء والباقون بفتحهما وكلها لغات بمعنى الخوف قال عطاء عن ابن عباس امره الله ان يضم يده اليه ليذهب عنه الخوف وقال ما من خائف بعد موسى الا إذا وضع يده على صدره زال خوفه وقال مجاهد كل من فزع فضم جناحيه اليه ذهب عنه الفزع والجناح اليد كلها وقيل العضد وقيل المراد من ضم الجناح السكون والتجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر فانه إذا خاف نشر جناحيه وإذا أمن واطمان ضمهما اليه قال البغوي اى اسكن روعك واخفض عليك جانبك لان من شأن الخائف ان يضطرب قلبه ويرتعد بدنه ومثله قوله تعالى وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وقوله تعالى وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ يريد
رفق بهم وقال الفراء أراد بالجناح عصا معناه اضمم إليك عصاك وقيل الرهب الكم بلغة حمير قال الأصمعي سمعت بعض العرب يقول أعطني ما فى رهبك اى ما فى كمك معناه اضمم إليك يدك مخرجا من الكم لانه تناول العصا ويده فى كمه حين قال له الله تعالى خُذْها وَلا تَخَفْ والظاهر عندى ان هذا عطف تفسيرى لقوله اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ واضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ اى أدخلها فى جيبك والغرض من التكرير ترتب الامرين عليه أحدهما التجلد وضبط النفس ودفع الخوف واظهار الجراءة وهو المراد بقوله اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ اى يديك المبسوطتين اللتين تتقى بهما الحية فى جيبك من الرهب اى من أجل دفع الرهب وثانيهما ظهور معجزة اخرى وهو المراد بقوله تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ويدل على هذا قوله تعالى فى سورة طه وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ... آيَةً أُخْرى... فَذانِكَ اشارة الى العصا واليد قرأ ابن كثير وابن عمرو بتشديد النون والباقون بتخفيفها بُرْهانانِ اى حجتان قال فى القاموس البرهان بالضم الحجة وبرهن عليه اقام البرهان فهو فعلال وقيل هو فعلان من البرة يقال بره الرجل إذا ابيض ويقال برهاء وبرهرهة للمرءة البيضاء وفى القاموس ابره اتى بالبرهان او بالعجائب وغلب الناس مِنْ رَبِّكَ اى كائنان من ربك صفة لبرهانان إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بمحذوف اى مرسلا بهما الى فرعون وَمَلَائِهِ فهو صفة بعد صفة لبرهانان او استيناف متعلق بمحذوف اى اذهب بهما الى فرعون وملائه إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فى مقام التعليل اى لانهم كانوا أحقاء بان يرسل إليهم.
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ضمير المفعول محذوف اى يقتلونى.
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً وانما قال لعقدة كانت فى لسانه من وضع الجمرة فى فيه فَأَرْسِلْهُ يعنى هارون مَعِي قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها رِدْءاً اى معينا يقال اردأته اى أعنته حال من الضمير المنصوب وهو فى الأصل اسم مايعان به كالدفء. قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» بفتح «١» الدال من
(١) قرأ نافع وابو جعفر بنقل حركة الهمزة على الدال فنافع وصلا بالتنوين ووقفا بالألف بدل التنوين وابو جعفر فى الحالين بالألف ١٢ ابو محمد عفا الله عنه-
غير همزة والباقون بإسكان الدال والهمزة وحمزة على مذهبه فى الوقف يُصَدِّقُنِي قرأ عاصم وحمزة بالرفع صفة لردا اى ردا مصدقا لى وقرأ الآخرون بالجزم على جواب الدعاء والضمير المرفوع عائد يعنى ان أرسلته معى يصدقنى بتقرير الحجة وازاحة الشبهة وفصاحة اللسان وقيل المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه لكنه أسند اليه الفعل اسناده الى المسبب وقال مقاتل الضمير المرفوع عائد الى فرعون والمعنى ان أرسلت معى هارون يصدقنى فرعون بحسن تقرير هارون إِنِّي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قرأ الجمهور بحذف الياء وأثبتها «ويعقوب فى الحالين- ابو محمد» ورش فى الوصل فقط يكذبونى يعنى فرعون وقومه حيث لا يطاوعنى لسانى عند المحاجة.
قالَ الله تعالى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ اى سنقويك فان شدة العضد مستعار للتقوية فان قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور ولذلك يعبر عنه باليد وشدتها بشدة العضد بِأَخِيكَ اى بإرسال أخيك هارون معك وكان هارون يومئذ بمصر وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً اى غلبة او حجة فَلا يَصِلُونَ اى فرعون وقومه إِلَيْكُما بمكروه بِآياتِنا متعلق بمحذوف اى اذهبا باياتنا او بنجعل يعنى نجعل لكما بايتنا اى بالمعجزات التي نعطيكما سلطانا على الأعداء او بمعنى لا يصلون والمعنى نمتنعون اى فرعون وقومه بايتنا اى بسبب المعجزات او قسم جوابه لا يصلون او بيان للغالبون فى قوله تعالى أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ بمعنى انه صلة لما بنيه او صلة له على ان اللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي..
فَلَمَّا جاءَهُمْ معطوف على محذوف تقديره فجاء موسى الى فرعون وقومه بالآيات البينات وهى العصا واليد فلما جاءهم مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا اى العصا ونحوه إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً اى مختلق لم يفعل قبله مثله او سحر يعمله موسى ثم يفتريه على الله او سحر موصوف بالافتراء كسائر انواع السحر وَما سَمِعْنا بِهذا السحر او دعاء النبوة فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ كائنا فى ايامهم.
وَقالَ مُوسى رَبِّي قرأ «ابو جعفر- ابو محمد» نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعْلَمُ منكم بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ فيعلم انى محق وأنتم مبطلون تجحدون بالحق بعد وضوح الآيات وبعد ما استيقنت به أنفسكم ظلما وعلوّا معطوف على قالوا والمراد حكاية القولين حتى ينظر فيهما فيميز
الصحيح من الفاسد وقرأ ابن كثير قال موسى بغير واو العطف كذلك هو فى مصاحفهم لانه فى جواب كلامهم فهو استيناف فى جواب ما قال موسى فى جواب قولهم وَمَنْ تَكُونُ قرأ حمزة «وخلف ابو محمد» والكسائي بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية لكون المسند اليه مؤنثا غير حقيقى يجوز فيه الأمران لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ عطف على من جاء بالهدى يعنى اعلم بمن تكون له عاقبة محمودة فى الدار الاخرة وقال البيضاوي المراد بالدار الدنيا وعاقبتها الاصلية هى الجنة لان الدنيا خلقت مزرعة للاخرة مجازا إليها والمقصود منها الثواب والعقاب انما قصد بالعرض وقال المحققون العقبى والعاقبة يطلفان على ما يعقب الحسنات من الثواب- والعقاب والعقوبة والمعاقبة يختص بما يعقب السيّئات ويترتب عليها من العذاب قال الله تعالى خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً وقال لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ وفَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ والْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وقال الله تعالى فَحَقَّ عِقابِ وقال شديد العقاب وقال وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يعنى لا يفوزون بالهدى فى الدنيا وحسن الثواب فى الاخرة.
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي نفى علمه باله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضى الجزم بعدمه ولذلك قال فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ وهو كان وزير فرعون قال له فاطبخ لى الاجر قيل هو أول من اتخذ الاجر وبنى به عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً قصرا عاليا فان التنكير للتعظيم لَعَلِّي قرأ الكوفيون «ويعقوب- ابو محمد» بإسكان الياء والباقون بفتحها أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى توهم انه لو كان لكان فى السماء ويمكن الترقي اليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ يعنى موسى عليه السلام مِنَ الْكاذِبِينَ فيما يقولون ان للارض والسماء خالقا كان فرعون دهريا لم يعتقد وجوب استناد الممكنات الى الواجب ويزعم انه من كان سلطانا متغلبا كان الها مستحقا للعبادة- قال البغوي قال اهل التفسير جمع هامان العملة والفعلة حتى اجتمع خمسون الف بناء سوى الاتباع والاجراء ومن يطبخ الاجر والجص ومن ينجر الخشب ويضرب المسامير فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق أراد الله عزّ وجلّ ان يفتنهم فيه فلمّا فرغوا منه ارتقى فرعون وقومه فامر بنشابة «النشاب النبل الواحدة بها- قاموس منه رح» فرمى بها فى السماء فردت اليه وهى متلطخة دما فقال قد قتلت اله موسى وكان
فرعون يصعده على البرازين- فبعث الله جبرئيل حين غروب الشمس فضربه بجناحه وقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم الف الف رجل ووقعت قطعة فى البحر وقطعة فى المغرب ولم يبق من عمل بشئ الا هلك..
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بغير الاستحقاق فان الاستكبار بالحق لمن لا يكون فوقه كبير ولا مثله ولا دونه وما هو الا الله سبحانه خالق كل ما سواه فهو المتكبر على الحقيقة المبالغ فى الكبرياء ومن ثم قال الله تعالى الكبرياء ردائى والعظمة إزاري فمن نازعنى فى واحد منهما قذفته فى النار رواه احمد وابو داود وابن ماجة بسند صحيح عن ابى هريرة وابن ماجة عن ابن عباس ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابى هريرة بلفظ الكبرياء ردائى فمن نازعنى فى ردائى قصمته- ورواه سمويه عن ابى سعد وابى هريرة بلفظ الكبرياء ردائى والعزّ إزاري فمن نازعنى فى شىء منهما عذبته وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ قرأ نافع ويعقوب وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم على البناء للفاعل من المجرد والباقون بضم الياء وفتح الجيم على البناء للمفعول من الإرجاع.
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ اى القيناهم فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ احذر قومك عن مثلها.
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً قدوة لاهل الضلال بالحمل على الإضلال او قدوة ورؤساء فى الدنيا بإعطاء المال والجاه يَدْعُونَ الناس إِلَى النَّارِ الى موجباتها من الكفر والمعاصي جملة يدعون صفة لائمة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ يعنى لا يدفع أحد عنهم عذاب الله تعالى عطف على يدعون.
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً طردا عن الرحمة او لعن اللاعنين يلعنهم الله والملائكة والمؤمنون عطف على جعلنا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ متعلق بمقبوحين هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ اى المبعدين الملعونين قال ابو عبيدة من المهلكين وعن ابن عباس من المشوهين لسواد الوجه وزرقة العين يقال قبحه الله وكذا يقال شوهه الله إذا جعله قبيحا ويقال قبحه قبحا وقبوحا إذا أبعده من كل خير-.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية جواب قسم محذوف مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا ما مصدرية الْقُرُونَ الْأُولى قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم
بَصائِرَ لِلنَّاسِ حال من الكتاب اى حال كونه موجبا للبصائر جمع بصيرة وهى نور فى القلوب يبصر به قلوبهم حقائق الأشياء من الواجب والممكن على ما هى عليه بقدر الطاقة البشرية ويميز الحق من الباطل والرشد من الغى وَهُدىً يهتدوا به الى طريق النجاة وما فيه صلاح المعاش والمعاد وَرَحْمَةً اى حال كون الكتاب سبيلا لنيل رحمة الله ان جعلوا بها او حال كونه مقتضى لرحمة الله الازلية عليهم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اى لكى يتذكروا او يكونوا على حال يرجى منهم التذكر فان التذكر والخشية من ثمرات العلم إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ-.
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ من مقام موسى وهو الطور قال قتادة والسدى اى بجانب الجبل الغربي وقال الكلبي بجانب الوادي الغربي عنوا انه ليس من باب اضافة الصفة الى الموصوف بل الموصوف محذوف قال ابن عباس يريد حيث ناجى موسى ربه والخطاب لرسول الله ﷺ يعنى ما كنت يا محمد حاضرا إِذْ قَضَيْنا اى أوحينا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ بالرسالة الى فرعون وقومه وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ للوحى اليه او على الوحى اليه وهم السبعون الذين اختاره من قومه لميقات ربه- يعنى اخبارك بقصة موسى اخبار بالغيب لا يمكن الاطلاع عليه الا بالوحى فهو معجزة لك وبرهان على دعواك النبوة ولذلك استدرك بقوله.
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً اى رجالا مقارنين فى كل عصر او اهل قرون بحذف المضاف ان كان القرن بمعنى الزمان فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ يعنى ولكنا أوحينا إليك لبعد الفترة واندراس العلوم وتغير الشرائع والاضطراب والتعارض فى الاخبار لما انا انشأنا قرونا مختلفة بعد موسى فتطاولت عليهم المدد ووقع التكاذب والتخالف فيما بينهم فحذف المستدرك وأقيم سببه مقامه- وقال البغوي ان الله قد عهد الى موسى وقومه عهودا فى محمّد ﷺ والايمان به فلما طال عليهم العمر وخلقت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها فمعنى الاية ما كنت حاضرا حين عهدنا الى موسى فى أمرك ولم يكن ذلك باستدعائك ولكنا فعلنا ذلك تفضلا ابتدائيّا حسما لاعتذار من خالفك إذا نشأنا قرونا فتطاول عليهم نظيره قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ الى قوله أَنْ تَقُولُوا... إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ وَما كُنْتَ
ثاوِياً
اى مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ كمقام موسى وشعيب فيهم تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا تذكرهم بالوعد والوعيد خبر ثان لكنت او حال من الضمير فى ثاويا قال مقاتل يعنى لم تشهد فى اهل مدين فتقرأ على اهل مكة خبرهم وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ إياك الى اهل مكة وسائر الناس بالمعجزات واخبار المغيبات ولولا ذلك لما تلوت قصصهم على هؤلاء.
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ اى بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى إِذْ نادَيْنا موسى ان خذ الكتاب بقوّة فالمراد بهذا وقت إعطائه التوراة وبالأول وقت استنبائه وقال وهب قال موسى يا رب أرني محمدا ﷺ قال انك لن تصل الى ذلك وان شئت ناديت أمته وأسمعتك صوقهم قال نعم يا رب قال الله تعالى يا امة محمد فاجابوا من أصلاب ابائهم وقال ابو زرعة بن عمرو بن جرير نادى يا امة محمد ص قد أجبتكم قبل ان تدعونى وأعطيتكم قبل ان تسئلونى وروى عن ابن عباس قال الله تعالى يا امة محمد فاجابوا من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات لبيك اللهم لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لك لا شريك لك قال الله تعالى يا امة احمد ان رحمتى سبقت غضبى وعفوى عقابى قد أعطيتكم من قبل ان تسئلونى وقد أجبتكم من قبل ان تدعونى وقد غفرت لكم من قبل ان تعصونى من جاء يوم القيامة بشهادة ان لا اله الّا الله وان محمدا عبدى ورسولى دخل الجنة وان كان ذنوبه اكثر من زبد البحر وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ اى لكن رحمناك رحمة من ربّك بإرسالك والوحى إليك واطلاعك على المغيبات او أرسلناك او علمناك رحمة من ربك لِتُنْذِرَ متعلق بمحذوف وهو الفعل الناصب لقوله تعالى رحمة يعنى رحمناك وأرسلناك او علمنك لتنذر قَوْماً ما أَتاهُمْ صفة لقوم مِنْ نَذِيرٍ فاعل أتاهم بزيادة من مِنْ قَبْلِكَ والمراد بالقوم اهل مكة لم يبعث نبى بمكة بعد إسماعيل عليه السّلام وكانت دعوة موسى وعيسى وغيرهما فى بنى إسرائيل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اى لكى يتذكروا ويتعظوا متعلق بقوله لتنذر.
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ اى عقوبة ونقمة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ اى بسبب ما أتوا به من الكفر والمعاصي ولما كان اكثر الأعمال بتزاول الأيدي نسبت الأعمال الى الأيدي تغليبا وان كان بعضها من افعال القلوب فَيَقُولُوا منصوب لكونه معطوفا على تصيبهم والعطف بالفاء للسببية المنبهة بان يكون سببا لانتفاء ما يجاب به لولا الامتناعية وانه لا يصدر عنهم هذا القول
الا بعد ما أصابهم العقوبة رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ منصوب فى جواب لولا التحضيضية تشبيها له بالأمر تقديره هلا كان منك إرسال رسول إلينا فاتباعا منا آياتِكَ وَنَكُونَ عطف على نتبع مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وجواب لولا الامتناعية محذوفة والمعنى لولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم ربّنا هلّا أرسلت إلينا رسولا يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين لما بعثناك إليهم رسولا وعاقبناهم بكفرهم من غير إنذار سابق على العقاب ولكن بعثناك إليهم قطعا لاعتذارهم وإلزاما للحجة عليهم نظير قوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بعد الرّسل.
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ يعنى القران او محمدا صلى الله عليه واله وسلم رسولا مصدقا بالكتاب المعجز مِنْ عِنْدِنا قالُوا يعنى كفار مكة تعنتا واقتراحا لَوْلا هلا أُوتِيَ محمّد ﷺ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من الآيات كالعصا واليد البيضا او الكتاب جملة واحدة وهذه الجملة معطوفة على مضمون جملة سابقة ولكن بعثناك إليهم قطعا لاعتذارهم وإلزاما للحجة فلمّا جاءهم الحق إلخ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ القران الاستفهام للانكار وانكار النفي اثبات والواو للعطف على محذوف تقديره الم يكذبوا موسى ولم يكفروا بما اوتى موسى يعنى قد كذّبوا موسى وكفروا بما اوتى موسى من قبل هذا فكيف يطلبون منك مثل ما اوتى موسى يعنى ان أبناء جنسهم فى الرأى والمذهب وهم كفرة زمان موسى كفروا بما اوتى موسى وقال الكلبي لما دعا النبي ﷺ اهل مكة الى الإسلام بعثوا رجالا الى أحبار اليهود بالمدينة فسالوهم عن امر محمد ﷺ فاخبروهم ان نعته فى كتابهم التورية فرجعوا فاخبروهم بقول اليهود فكفروا يعنى اهل مكة بموسى وبما اوتى به قالوا ساحران كذا قرأ اهل الحجاز والبصرة والشام على وزن اسم الفاعل يعنون محمدا وموسى صلى الله عليهما وسلم وقرأ الكوفيون سِحْرانِ بكسر السين واسكان الحاء على المصدر على حذف المضاف او جعلهما سحرين مبالغة او عنوا بالسحرين التوراة والفرقان وعلى قول غير الكلبي قالوا يعنى كفرة زمان موسى ساحران يعنون موسى وهارون تَظاهَرا اى تعاونا يعنى محمدا وموسى بتوافق الكتابين او موسى وهارون وَقالُوا اى كفار مكة او كفار زمن معسى إِنَّا بِكُلٍّ اى بكل منهما او بكل
واحد من الأنبياء كافِرُونَ والظاهر قول الكلبي على ما يقتضيه السياق وبدليل قوله تعالى-.
قُلْ يا محمد فَأْتُوا يا اهل مكة والفاء فى جواب شرط مقدر يعنى ان كفرتم بالكتابين القران والتورية وقلتم انهما سحران فأتوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما اى مما اوتى محمد وموسى من القران والتورية واضمارهما لدلالة المعنى أَتَّبِعْهُ مجزوم فى جواب الأمر يعنى ان تأتوا باهدى منهما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى دعواكم انهما سحران ومن جاءا بهما ساحران وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله اعنى فأتوا وهذا من الشروط التي يراد بها الإلزام والتبكيت ومجئى حرف الشك التهكم بهم.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ دعاءك الى الإتيان بالكتاب الاهدى حذف المفعول للعلم به ولان فعل الاستجابة يعدى بنفسه الى الدعاء وباللام الى الداعي فاذا عدى اليه حذف الدعاء غالبا والمعنى انه ان لم يأتوا بكتاب اهدى فَاعْلَمْ انهم الزموا ولم يبق لهم حجة وأَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ إذ لو اتبعوا حجة لا توابها عند الحاجة إليها وَمَنْ أَضَلُّ يعنى لا أحد أضل مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ فى موضع حال للتوكيد او التقييد فان هواء النفس قد يوافق الحق إذا كمل ايمان المرء قال رسول الله ﷺ لا يومن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به- رواه البغوي فى شرح السنة عن عبد الله بن عمرو وقال النووي حديث صحيح إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك فى اتباع الهوى-.
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ قال الفراء يعنى أنزلنا آيات القران يتبع بعضها بعضا قال البيضاوي يعنى فى الانزال ليتصل التذكير او فى النظم ليتقرر الدعوة بالحجة والمواعظ بالمواعيد والنصائح بالعبر قال فى المدارك التوصيل تكثير الوصل وتكريره وقال ابن عباس معناه بيّنا قلت يعنى بيّن بعض الكتاب ببعض وقال قتادة وصّل لهم القول فى هذا القران كيف صنع بمن مضى وقال مقاتل بيّنا لكفار مكة بما فى القران من اخبار الأمم الماضية كيف عذبوا بتكذيبهم وقال ابن زيد وصّلنا لهم خبر الدنيا بخبر الاخرة حتى كانهم عاينوا الاخرة فى الدنيا لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اى لكى يتذكرون
متعلق بوصّلنا.
اخرج ابن جرير والطبراني عن رفاعة القرظي قال نزلت وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ فى عشرة انا أحدهم- واخرج ابن جرير عن على بن رفاعة قال خرج عشرة رهط من اهل الكتاب منهم رفاعة يعنى أباه الى النبي ﷺ فامنوا قاوذوا فنزلت.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل محمد ﷺ وقيل من قبل القران هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ اخرج ابن جرير عن قتادة قال كنا نحدث انها نزلت فى أناس من اهل الكتاب كانوا على الحق حتى بعث الله محمدا ﷺ فامنوا به منهم عثمان وعبد الله بن سلام رض وكذا ذكر البغوي وكذا اخرج ابن مردويه عن ابن عباس واخرج الطبراني فى الأوسط عن ابن عباس ان أربعين من اصحاب النجاشي قدموا فشهدوا وقعة خيبر فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم- فلمّا راوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا يا رسول الله انّا اهل ميسرة فائذن لنا نجئى باموالنا نواسى بها المسلمين فانزل الله فيهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ- واخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير قال لما اتى جعفر وأصحابه النجاشي أنزلهم واحسن إليهم فلما أرادوا ان يرجعوا قال من أمن من اهل مملكته ايذن لنا فلنخدم هؤلاء فى البحر ونأتى هذا النبي فنحدث به عهدا فانطلقوا وقدموا على رسول الله ﷺ فشهدوا معه أحدا وحنينا وخيبر ولم يصب أحد منهم فقالوا للنبى ﷺ ايذن لنا فلنأت ارضنا فان لنا أموالا فتجئ بها فننفقها على المهاجرين فانّا نرى بهم جهدا فاذن لهم فانطلقوا فجاءوا باموالهم وأنفقوها على المهاجرين فانزل الله فيهم الاية- وذكر البغوي عن سعيد بن جبير نحوه قال فانزل الله فيهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ الى قوله وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وذكر البغوي عن ابن عباس ان الاية نزلت فى ثمانين من اهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام- ثم وصفهم الله تعالى فقال.
وَإِذا يُتْلى يعنى القران عَلَيْهِمْ الظرف متعلق بقوله قالُوا آمَنَّا بِهِ اى بانه كلام الله عطف على يؤمنون إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا استيناف لما أوجب إيمانه إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل نزوله مُسْلِمِينَ مخلصين لله فى التوحيد مؤمنين
بمحمد ﷺ انه نبى وذلك لما بشر به عيسى عليه السلام حيث قال مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ وكان ذكره فى التورية والإنجيل. وهذا استيناف اخر للدلالة على ان ايمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ وانما هو امر تقادم عهده وجاز ان يكون هذه الجملة بيان لقوله آمَنَّا فانه يحتمل البعيد والقريب وبهذه الآية حمل على البعيد واندفع احتمال القريب..
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة على ايمانهم بكتابهم وبالقران قبل نزوله بشهادة نبيهم وكتابهم ومرة على ايمانهم بالقران بعد نزوله بِما صَبَرُوا اى بصبرهم وبقائهم على الايمان بالقران بعد نزوله كما كان قبل نزوله بخلاف غيرهم من اهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون به قبل نزوله ويستفتحون به على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حسدا ولم يصبروا على الايمان روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى موسى الأشعري رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ ثلاثة لهم أجران رجل من اهل الكتاب أمن بنبيه وأمن بمحمد والعبد المملوك إذا ادى حق الله وحق مواليه ورجل كانت عنده امة يطاها فادّبها فاحسن تأديبها وعلمها فاحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قال ابن عباس يدفعون بشهادة ان لا اله الا الله الشرك وقال مقاتل يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو قلت وجاز ان يقال يدفعون عداوة من عاداهم بالإحسان إليهم فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وقيل معناه يدفعون بالطاعة المعصية قال الله تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقال رسول الله ﷺ اتبع الحسنة السيئة يمحها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فى سبيل الخير.
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ اى القبيح من القول أَعْرَضُوا عَنْهُ قال البغوي كان المشركون يسبون مؤمنى اهل الكتاب ويقولون (تبّا لكم) تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ اى لنا ديننا ولكم دينكم سَلامٌ عَلَيْكُمْ ليس المراد التحيّة ولكنه سلام المتاركة معناه سلمتم منا لا نردكم بالشتم والقبيح لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ اى لا نطلب دين الجاهلين ولا نجب دينكم الذي أنتم عليه قيل معناه لا نطلب صحبة الجاهلين
وقيل معناه لا نريد ان نكون من الجاهلين يعنون انه ان صدر منا شتمكم وسبّكم فى مقابلة ما صدر منكم شتمنا فنكون حينئذ مثلكم ونحن لا نريد ذلك نعوذ بالله ان نكون من الجاهلين والجملة الشرطية اعنى إذا سمعوا اللّغو الى آخره معطوف على قوله وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قال البغوي وهذا كان قبل ان يؤمر المسلمون بالقتال قلت وهذا القول من البغوي لا يطابق ما ذكر من سبب نزول الاية فان الاية نزلت امّا فى عبد الله بن سلام وأصحابه وكان إسلامهم بعد الهجرة واما فى اصحاب النجاشي حين قدموا مع جعفر بن ابى طالب وذلك فى غزوة خيبر سنة ست من الهجرة واما فى أربعين من اهل نجران وثمانية من اهل الشام وكل ذلك كان بعد الهجرة بعد ما أمرنا بالقتال والله اعلم- اخرج مسلم وغيره عن ابى هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلم لعمه ابى طالب قل لا اله الا الله اشهد لك يوم القيامة قال لولا تعير فى نساء قريش يقلن انه حمله على ذلك الجزع لا قررت بها عينك فانزل الله تعالى.
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته او من أحببته لقرابته وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ قال مجاهد ومقاتل بمن قدر له الهدى واخرج النسائي وابن عساكر فى تاريخ دمشق بسند جيد عن ابى سعيد بن رافع قال سالت ابن عمر عن هذه الاية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ فى ابى جهل وابى طالب قال نعم واخرج الشيخان والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردوية والبيهقي من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن ابى امية بن المشيرة فقال اى عم قل لا اله الا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله فقال ابو جهل وعبد الله بن ابى امية أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله ﷺ يعرضها عليه ويعيد انه بتلك المقالة حتى قال ابو طالب اخر ما كلمهم على ملة عبد المطلب وابى ان يقول لا اله الا الله قال رسول الله ﷺ لاستغفرن لك ما لم انه عنك فانزل الله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الاية وانزل الله فى ابى طالب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
اخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس ان أناسا من قريش قالوا للنبى ﷺ ان نتبعك يتخطفنا الناس فانزل الله.
وَقالُوا يعنى اهل مكه عطف على قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى وما بينها اعتراضات إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا قال البغوي نزلت فى الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف انه قال للنبى ﷺ انا لنعلم ان الّذى تقول حق ولكنا ان اتبعناك خفنا ان تخرجنا العرب من ارض مكة وهو معنى قوله نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا- كذا اخرج النسائي وابن المنذر عن ابن عباس واخرج النسائي عن ابن عباس ان الحارث بن عامر بن نوفل الّذى قال ذلك والاختطاف الانتزاع بسرعة فرد الله عليهم ذلك وقال أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم نسكنهم بمكة ولم نمكّن لّهم حَرَماً آمِناً وذلك ان العرب فى الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضا وكان اهل مكة امنون حيث كانوا لحرمة الحرم ومن المعروف انه كان يأمن فيه الظباء من الدّياب والحمام من الحداة يُجْبى إِلَيْهِ قرأ نافع ويعقوب «وابو جعفر ابو محمد» بالتاء الفوقانية لاجل الثمرات والباقون بالياء التحتانية للحائل بين الاسم المؤنث والفعل ولان التأنيث غير حقيقى اى يجلب ويجمع اليه ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ من كل جانب رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فاذا كان هذا حالهم وهم عبدة الا يوثان فكيف يعرضهم للتخويف والتخطف إذا ضموا الى حرمة البيت حرمة التوحيد وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ جهلة لا يَعْلَمُونَ لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا وقيل انه متعلق بقوله مِنْ لَدُنَّا اى قليل منهم يتدبرون فيعلمون ان ذلك رزق من عند الله إذ لو علموا لما خافوا غيره وانتصاب رزقا على المصدر من معنى يجبى فان معناه يرزق رزقا او على الحال من الثمرات لتخصيصها بالاضافة ثم بيّن ان الأمر بالعكس فان الواجب ان يخافوا من بأس الله على ما هو عليه من الكفر والمعاصي بقوله.
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ اى من اهل قرية كانت حالهم كحالكم بَطِرَتْ اى أشرت وطغت وصفت القرية بوصف أهلها يعنى طغى أهلها بنعم الله ولم يشكروها قال عطاء عاشوا فى البطر فاكلوا رزق الله وعصوه وعبدوا الأصنام مَعِيشَتَها منصوب على الظرفية يعنى طغت مدة معيشتها فدمّر الله وخرّب ديارهم فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ خربة وهى حجر وقرى قوم لوط تعليل لما سبق من إهلاك القرى لَمْ تُسْكَنْ حال من مساكنهم والعامل
فيه معنى الاشارة مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد ما اهلكوا إِلَّا قَلِيلًا منصوب على المصدرية او الظرفية يعنى الا سكونا قليلا او زمانا قليلا قال ابن عباس لم يسكنها الا مسافرا ومار طريقا يوما او ساعة وقيل معناه لم يبق من يسكنها الا قليلا من شوم معاصيهم وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ إذ لم يخلفهم أحد يتصرف بصرفهم فى ديارهم وسائر متصرفاتهم.
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اى لم يكن عادته إهلاك الْقُرى الكافر حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها يعنى أكبرها وأعظمها رَسُولًا ينذرهم خص الأعظم ببعثة الرسل فيها لان الرسل يبعث الى الاشراف فان الاتباع يتبعهم فى الايمان والكفر. ومن أجل ذلك كتب رسول الله ﷺ الى هرقل اسلم تسلم والا فعليك اثم الأريسين والاشراف يسكنون المدائن والمواضع التي هى أم ما حولها يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا قال مقاتل يخبرهم ان العذاب نازل بهم ان لم يؤمنوا فيه التفات من الغيبة الى الخطاب وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ بتكذيب الرسل والعتو بالكفر.
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من زخارف الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها تتمتعون وتتزينون بها مدة حياتكم المنقضية وَما عِنْدَ اللَّهِ من الجنة ومراتب قربه تعالى خَيْرٌ فى نفسه من ذلك لانه لذة خالصة وبهجة كاملة وَأَبْقى لانه أبدى أَفَلا تَعْقِلُونَ الاستفهام للانكار والفاء للعطف والتعقيب على محذوف تقديره الا تتفكرون فلا تعقلون.
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ عطف على قوله وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى والهمزة لانكار تعقيب المعطوف للمعطوف عليه يعنى ابعد هذا التفاوت الجلى جعلتم من وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً اى بالجنة فان حسن الوعد بحسن الموعود فَهُوَ لاقِيهِ اى مدركه لا محالة لامتناع الخلف فى وعد الله سبحانه ولذلك عطف بالفاء المفيدة للسببية كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا المشوب بالآلام المكدر بالمتاعب المستعقب للتحسر على الانقطاع ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب او العذاب وثم للتراخى فى الزمان او الرتبة قرأ نافع «١» وابن عامر فى رواية والكسائي ثمّ هو بسكون الهاء تشبيها للمنفصل بالمتصل قال قتادة يعنى المؤمن والكافر لا يستويان بل المؤمن احسن حالا قال البغوي وكذا اخرج ابن جرير انه قال مجاهد نزلت فى النبي صلى الله
(١) والصحيح قرا قالون عن نافع والكسائي وابو جعفر بخلف عنه ثمّ هو بسكون الهاء إلخ ابو محمد عفا الله عنه
عليه وسلم وابى جهل. واخرج من وجعه اخر عنه انها نزلت فى حمزة وابى جهل وقال البغوي قال مقاتل ومحمد بن كعب نزلت فى حمزة او على وفى ابى أجهل وقيل نزلت فى عمار ووليد بن المغيرة.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ عطف على يوم القيامة او منصوب باذكر فَيَقُولُ الله سبحانه للمشركين أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ اى تزعمونهم فى الدنيا شركائى حذف مفعولى تزعمون لدلالة الكلام عليه قلت لعل المراد بالشركاء رؤساء الكفرة الذين ترك الاتباع عبادة الله واختاروا عبادتهم واتباعهم وتسميتهم شركاء على سبيل الاستهزاء.
قالَ الَّذِينَ حَقَّ اى وجب عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ لوجوب مقتضاه والمراد بالقول لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وغيره من آيات الوعيد يعنى قال رؤساء الكفار رَبَّنا هؤُلاءِ اى الاتباع مبتدا خبره الَّذِينَ أَغْوَيْنا الضمير المنصوب العائد الى الموصول محذوف يعنى أغويناهم أَغْوَيْناهُمْ فغووا كَما غَوَيْنا الكاف صفة لمصدر فعل محذوف دل عليه أغويناهم تقديره فغووا غيّا كما غوينا اى مثل ما غوينا وهو استيناف للدلالة على انهم غووا باختيارهم مثل ما غوينا باختيارنا وانا لم نفعل بهم الا وسوسة وتسويلا وتسويلنا وان كان داعيا لهم الى الكفر فقد كان دعاء الله تعالى لهم باقامة الحجج وبعث الرسل وإنزال الكتب اولى بالاتباع من تسويلنا وهذا كقوله تعالى وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الاية ويجوز ان يكون الموصول صفة وأغويناهم الخبر لاجل ما اتصل به من المقدر والملفوظ أعتى فغووا كما غوينا فافاد زيادة على الصفة وهو وان كان فضلة لكنه صار من اللوازم تَبَرَّأْنا منهم ومما اختاروا من الكفر هوى منهم إِلَيْكَ متعلق بتبرّأنا بتضمين معنى التوجه يعنى تبرأنا منهم متوجهين إليك ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ اى ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم وقيل ما مصدرية متصلة بتبرأنا اى تبرأنا من عبادتهم إيانا.
وَقِيلَ يعنى للكفار عطف على قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ... ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ لتخلصكم من العذاب والمراد بالشركاء هاهنا الأصنام ونحوها المعبودون بالباطل فَدَعَوْهُمْ من فرط الحيرة او لاجل ما كانوا يزعمون انهم يشفعون عند الله فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ لعجزهم عن الاجابة والنصرة وَرَأَوُا يعنى الكفار الْعَذابَ لانفسهم ولالهتهم لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ جواب لو محذوف تقديره لو انهم يهتدون فى الدنيا لم يروا العذاب والأظهر ان لو للتمنى اى تمنوا انهم كانوا مهتدين.
وَيَوْمَ
يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ
عطف على الاول فانه تعالى يسئلهم اولا سوال توبيخ عن اشراكهم وثانيا عن تكذيبهم الرسل.
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ اى فصارت الانباء عليهم كالعميان لا يهتدى إليهم وأصله فعموا عن الألباء الكنه عكس مبالغة ودلالة على ان ما يحضر الدهر انما يغيض ويرد عليه من خارج فاذا أخطأه لم يكن حيلة الى استحضاره والمراد بالانباء الاعذار فى تكذيب الرسل وقال مجاهد الحجج والمعنى انهم لا يجيبون بشئ ولا يأتون بحجة أم لم يكن عندهم حجة يَوْمَئِذٍ تأكيد لقوله يَوْمَ يُنادِيهِمْ قال البيضاوي وإذا كانت الرسل ينتعنون فى الجواب عن مثل ذلك من الهول ويفوضون الى علم الله تعالى فما ظنك بالكفار وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ اى لا يسئل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة او العلم بانه مثله.
فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً اى جمع بين الايمان والعمل الصالح فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام او ترجى من النائب والمعنى فليتوقع للفلاح..
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ من يشاء لما يشاء فاختار محمدا ﷺ للنبوة من بين سائر الناس قال البغوي نزلت جوابا للمشركين حين قالوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يعنون الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ الخيرة اسم من الاختيار قائم مقام المصدر ويطلق بمعنى المفعول ايضا يقال محمد خيرة الله من خلقه ومعنى الاية ليس للعباد الاختيار فى ذلك حتى يقولوا لولا أرسل إلينا فلان فهذا بمنزلة التأكيد نما سبق ولذلك خلا من العاطف ويؤيده سياق القصة انها نزلت جوابا لما قال المشركون ويناسبه قوله تعالى سُبْحانَ اللَّهِ اى تنزيها له ان ينازعه أحدا ويزاحم اختياره اختيار غيره وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ اى عن اشراكهم او مشاركة ما يشركونه به وقيل ما فى قوله ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ موصولة فى محل النصب على المفعولية ليختار والعائد محذوف والمعنى وربك يختار ما كان لهم اى للعباد فيه الخيرة اى الخير والصلاح يعنى كان إرسال محمد صلى الله عليه واله وسلم لهم خيرا دون إرسال غيره وعلى هذا التأويل مع ما فيه من التكلف لا حجة المعتزلة على وجوب الأصلح على الله تعالى بل المراد انه يفعل بفصلا ما هو خير لهم غالبا وقيل ما كان لهم الخيرة نفى لاختيار العباد رأسا ودليل على كون العباد مجبورين فى أفعالهم وهذا
ايضا باطل إذ لو كان المراد ذلك لنكر الخيرة ولم يورد بلام العهد المشير الى اختيار معين وهو اختيار الرسل كما يدل عليه سبب النزول.
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ كعداوة الرسول وحقده وَما يُعْلِنُونَ كالطعن فيه.
وَهُوَ اللَّهُ المستحق للعبادة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا يستحقها غيره تقرير لما سبق لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ لانه الجميل على الإطلاق وجمال غيره مستعار منه هو المولى للنعم كلها عاجلها وأجلها يحمده المؤمنون فى الاخرة كما حمدوه فى الدنيا يقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ابتهاجا بفضله والتذاذا بحمده لاجل التكليف وَلَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ فى كل شىء قال ابن عباس حكمه لاهل طاعته بالمغفرة ولاهل معصيته بالشقاء وَإِلَيْهِ اى الى حكمه تُرْجَعُونَ بالنشور بعد الموت.
قُلْ يا محمد ص أَرَأَيْتُمْ أخبروني يا اهل مكة إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً اى دائما من السرود وهو المبالغة والميم زائدة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا تطلع عليكم الشمس مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ تطلبون فيه المعيشة ومن للاستفهام للانكار والمعنى لا اله غير الله يأتيكم به قال البيضاوي كان حقه هل اله فذكر بمن على زعمهم ان غيره الهة أَفَلا تَسْمَعُونَ موعظتى سماع تدبرو استبصار.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً بإسكان الشمس فى وسط السّماء إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة عن تعب الاشغال أَفَلا تُبْصِرُونَ ايتنا ولعله لم يصف الضياء بما يقابل السكون لان الضوء نعمة بذاته مقصودة بنفسه ولا كذلك الليل ولان منافع اليوم اكثر من ان يذكر ولذلك قرن به أفلا تسمعون وبالليل أفلا تبصرون لان استفادة العقل من السمع اكثر من استفادته من البصر.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ من للسببية متعلق بجعل لكم قدم عليه للحصر جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ اى فى الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ اى من منافع الدنيا والاخرة فى النهار فهو لف ونشر مرتب وقال الزجاج يجوز ان يكون معناه لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من فضله فيهما قلت وعلى هذا انما ذكر بالليل والنهار ولم يقل وجعل لكم الزمان لتغائر أنحاء السكون والابتغاء فيهما وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اى لكى تشكروا على نعماء الله تعالى.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انهم يشفعون لكم وينجركم من عذاب الله تقريع بعد تقريع للاشعار بانه لا شىء اجلب لغضب الله من الإشراك به وكان الاول توبيخ على اتباعهم رؤساءهم وترك عبادة الله باتباعهم وهذا بيان لفساد رأيهم ورجائهم الشفاعة من الحجارة ونحوها.
وَنَزَعْنا اى أخرجنا عطف على يقول على سبيل الالتفات او اعتراض مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد عليهم بما كانوا عليه وهو نبيهم فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ اى حجتكم على صحة ما كنتم تدينون به فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ فى الالوهية لا يشاركه فيها أحد وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب عنهم غيبة الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ فى الدنيا من الباطل-.
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى قال البغوي كان ابن عمه لانه كان قارون بن يصهر بن قاهت بن لاوى بن يعقوب عليه السّلام وموسى بن عمران بن قاهت بن لاوى بن يعقوب عليهما السلام كذا اخرج ابن المنذر عن ابن جريح- وقال ابن إسحاق كان قارون عم موسى ع كان أخا عمران وهما ابنا يصهر بن قاهت ولم يكن فى بنى إسرائيل اقرأ للتورية من قارون ولكنه نافق كما نافق السامري وقال جلال الدين المحلى كان ابن عمه وابن خالته فَبَغى عَلَيْهِمْ قيل كان عاملا لفرعون على بنى إسرائيل فكان يبغى عليهم اى يظلمهم وقال الضحاك بغى عليهم بالشرك وقيل بغى عليهم بالكبر والعلو وقيل معناه حسدهم وطلب الفضل عليهم واخرج عبد بن حميد وابن ابى حاتم عن قتادة قال كان قارون ابن عم موسى أخي أبيه وكان قطع البحر مع بنى إسرائيل وكان يسمى «١» من حسن صوته بالتوراة لكن عدو الله نافق كما نافق السامرىّ ما هلكه الله ليغيه وانما بغى الكثرة ماله ولده- لكن قوله تعالى فى سورة المؤمن وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ يدل على ان قارون لم يؤمن بموسى قط لا طاهرا ولا باطنا- قال شهر بن حوشب زاد قارون فى طول ثيابه شبرا عن ابن عمر ان رسول الله ﷺ قال لا ينظر الله الى من جرثوبه خيلأ- رواه البغوي وروى مسلم عن ابى هريرة عنه ﷺ ان الله لا ينظر الى من يجر رداءه بطرا وروى احمد والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس مرفوعا قال ان الله لا ينظر الى مسبل إزاره وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ اى الأموال المدخرة ما إِنَّ مَفاتِحَهُ اى مفاتح صناديقه جمع مفتح بكسر الميم وهى التي يفتح بها وهذا قول قتادة ومجاهد وجماعة وقيل مفاتحة اى خزائنه
(١) هكذا البياض في الأصل.
179
كما قال الله تعالى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ اى خزائنه وقياس واحدها الفتح لكن على هذا التأويل قوله تعالى لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ لا يدل على كثرة خزائنه غاية الكثرة فان ما يحمله أربعون من الرجال لا يبلغ غالبا اربع مائة الف درهم. وقال جرير عن منصور عن خيثمة قال وجدت فى الإنجيل مفاتح خزائن قارون وقرستين بغلا ما يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح كنز ويقال ان قارون اين ما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلمّا ثقلت عليه جعل من خشب فثقلت عليه فجعلت من جلود البقر على طول إصبع وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا- وهذه الروايات لا يساعدها القران إذا لعصبة لا يطلق الا على الرجال دون البغال قال البغوي واختلفوا فى العصبة قال مجاهد ما بين العشرة الى خمسة عشر وقال الضحاك عن ابن عباس ما بين الثلاثة الى العشرة وقال قتادة ما بين العشرة الى الأربعين وكذا فى القاموس وقيل سبعون وروى عن ابن عباس رض انه قال كان يحمل مفاتحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال- ومعنى قوله لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ اى تنتقلهم وتميل بهم إذا حملوها لثقلها وقال ابو عبيدة هذا من المقلوب تقديره ما ان العصبة لتنوء بها يقال ناء فلان بكذا إذا نهض به مثقلا والجملة خبر ان وهى مع جملتها صلة ما وهى ثانى مفعولى اتيناه ومن الكنوز حال مقدم عليه إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ ظرف لتنوء لا تَفْرَحْ الفرح السرور وانكشاف الصدر بوجدان المرغوب والفرح المنهي عنه هو البطر بمعنى الطغيان والتكبر عن قبول الحق عند ما يرى نفسه غنيّا قال الله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى فى القاموس الفرح السرور والنظر وفسر البغوي لا تفرح بقوله لا تبطر ولا مأشر ولا تمرح وانما ذلك لان الفرح بمعنى السرور عند وجدان المرغوب امر طبغى لا اختيار للعبد فيه فلا يتصور عنه النهى. وقال البيضاوي والفرح بالدنيا مذموم مطلقا لانه يحبسه حبها والرضاء بها والذهول عن ذهابها فان العلم بان ما فيها من اللذات مفارقة لا فحاله توجب التبرج ولذلك قال الله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وعلل النهى هاهنا بكونه مانعا من محبة الله إيانا فقال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ بزخارف الدنيا المتكبرين بها غير شاكرين عليها قال بعض المحققين قد ورد ذم الفرح فى مواضع عديدة من القران قال الله تعالى فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما
180
عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
وقال وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وقال ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بغير الحق وقال حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا- ولم يرخص فى الفرح الا فى قوله تعالى فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وقوله وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ. وعندى ان الفرح فى الدنيا بما يفيد فى الاخرة محمود مطلقا ومامور به فى قوله تعالى فَبِذلِكَ فليفرحوا والفرح بلذّات الدنيا ان كان مقرونا بالشكر فمحمود ايضا حيث قال رسول الله ﷺ الطاعم الشاكر كالصائم الصابر. والفرح ان كان مقرونا بالطغيان والكفران فمذموم حقّا فالمدح والذم انما يتوجه الى ما يتعلق به الفرح او ما معه من الشكر او الكفران واما نفس الفرح والسرور بدرك المرغوب فامر طبعى لا اختيار للعبد فيه فلا يتوجه اليه التكليف غير انه إذا أحب العبد الله صادقا لا يفرح الا بما يرضى به ربه ولا يحب الله الا من يحبه فلا يحب الله من يفرح بمرغوبه من حيث هو مرغوبه لا من حيث هو مرغوب ربه والله اعلم-.
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من نعماء الدنيا الدَّارَ الْآخِرَةَ يعنى الجنة بان تقوم بشكرها وتنفقها فى مرضاة الله وَلا تَنْسَ اى لا تترك ترك المنسي نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا يعنى ما تحصل بها آخرتك فان حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا ان يعمل للاخرة فان الدنيا مزرعة الاخرة كذا قال مجاهد وابن زيد وقال السدى نصيبك من الدنيا الصدقة وصلة الرحم وقال على رضى الله عنه لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك ان تطلب الاخرة قال قال رسول الله ﷺ اغتنم خمسا قبل خمس حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك- رواه الحاكم والبيهقي بسند صحيح واحمد فى الزهد وروى البغوي وابن حبان وابو نعيم فى الحلية عن عمر بن ميمون الأودي مرسلا نحوه وقال الحسن أمران يقدم الفضل ويمسك ما يغنيه يعنى ما يكفيه وقال منصور بن زاذان لا تنس نصيبك من الدنيا قوتك وقوة أهلك وَأَحْسِنْ الى عباد الله كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ او احسن عبادة الله بدوام الذكر والشكر والطاعة كما احسن الله إليك بانعام متواتر غير منقطع بحيث لا تعدو لا تحصى وَلا تَبْغِ اى لا تطلب الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ قال البيضاوي نهى له مما كان عليه من الظلم والبغي وقال البغوي كل من عصى الله فقد طلب الفساد فى الأرض إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ بسوء أعمالهم..
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ الظرف منصوب على الحال من الضمير المرفوع عِنْدِي قرا نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابن كثير بخلاف عنه وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ظرف مستقر صفة لعلم او لغو متعلق باوتيته كقولك هذا عندى اى فى ظنى واعتقادي وفيه رد لقولهم أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ يعنى لم يحسن الىّ الله من غير استحقاق منى تفضلا محضا حتى يجب علىّ شكره والإحسان الى عباده بل أوتيت الجاه والمال والتفوق على الناس حال كونى على علم كائن عندى او فى اعتقادي- قيل المراد به علم الكيميا قال سعيد بن المسيب كان موسى يعلم الكيميا فعلّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلّم كالب بن يوقنّا ثلثه وعلّم قارون ثلثه فخذعهما قارون حتى أضاف علمهما الى علمه وكان ذلك سبب أمواله- وقيل عَلى عِلْمٍ عِنْدِي بالصرف فى التجارات والزراعات وانواع المكاسب قال سهل ما نظر أحد الى نفسه فافلح والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله وفتح له سبيل رؤية منة الله فى جميع الافعال والأقوال والشقي من زين فى عينيه أقواله وأفعاله وأحواله فافتخر بها وادعاها لنفسه فسوف يهلك يوما كما خسف بقارون لما ادعى لنفسه فضلا أَوَلَمْ يَعْلَمْ جملة معترضة والاستفهام للتعجب والتوبيخ والواو للعطف على محذوف تقديره الم يتفكر قارون ولم يعلم أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ولو علم ذلك لما اغتر بماله ولم تتكبر ولو علم ان الله هو المهلك فهو المعطى وهو المانع لا اله غيره ولا استحقاق لاحد عليه وفيه رد لا دعائه العلم وتعظمه به بنفي هذا العلم الحلي فان الله قد أهلك عاد للاولى وكان أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً فان شداد بن عاد ملك الأرض كلها وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فانه تعالى مطلع عليها لا يحتاج الى السؤال والاستعلام فيعاقبهم فى الدنيا باهلاك وفى الاخرة بإدخال النار- لمّا هدوا لله قارون بذكر إهلاك من كان قبله ممن كانوا أقوى منه واغنى أكد ذلك بانه لم يكن ذلك ما يخصهم بل الله مطلع على ذنوب المجرمين كلهم متقدميهم ومتاخريهم معاقبهم عليها لا محالة قال قتادة يدخلون النار بغير سوال ولا حساب وقال مجاهد يعنى لا يسئل الملائكة عنهم لانهم يعرفونهم بسيماهم وقال الحسن لا يسئلون سوال استعلام بل يسئلون سوال تقريع وتوبيخ.
فَخَرَجَ قارون يوم اعطف
على قال عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال ابراهيم النخعي خرج هو وقومه فى ثياب خضر وحمرو قال ابن زيد خرج فى سبعين الف عليهم المعصفرات وقال مجاهد خرج على براذين بيض عليها سروح الأرجوان عليهم المعصفرات وقال مقاتل خرج على بغلة شهباء عليها سروح من ذهب عليه الأرجوان ومعه اربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاث مائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا على ما هو عادة الناس فى الرغبة فى الدنيا يا لَيْتَ يعنى يا قوم ليت لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ تمنوا مثله لا عينه حذرا من الحسد وذلك لما كان بنوا إسرائيل مؤمنين إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الدنيا تعليل للتمنى.
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بما وعد الله للمومنين فى الاخرة للذين تمنوا كذا قال مقاتل وقال ابن عباس هم الأحبار من بنى إسرائيل وَيْلَكُمْ الويل مصدر بمعنى الهلاك منصوب على المصدرية يعنى هلكتم هلاكا او على المفعولية تقديره ألزمكم الله هلاكا فهو فى الأصل دعاء استعمل للزجر عما لا يرتضى ثَوابُ اللَّهِ فى الآخرة خَيْرٌ مما اوتى قارون بل من الدنيا وما فيها لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً متعلق بخير او بثواب الله يعنى ثواب الله لمن أمن خير او متعلق ب قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعنى قالوا ذلك لمن أمن وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ كلام مستأنف او حال من الضمير فى خير والضمير للكلمة التي تكلم بها الأحبار او للثواب فانه بمعنى المثوبة او للجنة او للايمان والعمل الصالح فانهما فى معنى السيرة والطريقة يعنى لا يتاتى تلك الكلمة او الثواب او الجنة او السيرة الا الصابرون على الطاعات وعن المعاصي الزاهدون فى الدنيا.
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ اى أعوان يفئى إليهم الرجل عند المصيبة الفاء للتعليل يَنْصُرُونَهُ فيدفعون عنه عذاب الله مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ اى الممتنعين مما نزل به من الخسف يقال نصره من عدوه فانتصر إذا منعه فامتنع عطف على فما كان- قال اهل العلم بالأخبار كان قارون اعلم بنى إسرائيل بعد موسى وهارون واقرأهم للتورية وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى وكان أول طغيانه وعصيانه ان الله اوحى الى موسى ان يأمر قومه يعلّقوا فى أرديتهم خيوطا اربعة فى كل طرف خيطا اخضر كلون السماء يذكرون به السماء إذا نظروا إليها ويعلمون
183
اله منزل منها كلامى فقال موسى يا رب أفلا تأمرهم ان يجعلوا أرديتهم خضرا كلها فان بنى إسرائيل تحقر هذه الخيوط فقال له ربه يا موسى ان الصغير من امرى ليس بصغير فاذا هم لم يطيعونى فى الأمر الصغير لم يطيعونى فى الأمر الكبير. فدعاهم موسى وقال ان الله يأمركم ان تعلقوا على أرديتكم خيوطا حضرا كلون السماء لكى تذكروا ربكم إذا رايتموها ففعلت بنوا إسرائيل ما أمرهم به موسى واستكبر قارون فلم يطعه وقال أخا يفعل هذه الأرباب بعبيدهم لكى يتميزوا عن غيرهم وهذا بدو عصيانه وبغير فلمّا قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة لهارون وهى رياسة الذبح فكان بنوا إسرائيل يأتون بهديهم الى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتاكله فوجد قارون من ذلك فى نفسه واتى موسى فقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست فى شىء من ذلك وانا اقرأ للتورية لا صبر لى على هذا فقال موسى ما انا جعلتها فى هارون بل الله جعلها له فقال قارون والله لا أصدقك حتى ترينى بيانه فجمع موسى رؤساء بنى إسرائيل فقال هاتوا عصيكم فخرجها والقاها فى القبة التي كان يعبد الله فيها فجعل يحرسون عصيهم حتى أصبحوا فاصبحت عصا هارون قد اهتز لهم ورق اخضر فقال قارون والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر واعتزل قارون موسى باتباعه وجعل موسى يداديه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه فى كل وقت ولا يزيد الا عتوا وتجبرا ومعاداة حتى بنى دارا وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملا من بنى إسرائيل يغدون ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه- قال ابن عباس فلمّا نزلت الزكوة على موسى أباه قارون فصالحه عن كل الف دينار على دينار وكل الف درهم على درهم وعن كل الف شاة على شاة وعن كل الف شىء على شىء ثم رجع الى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم يسمح بذلك نفسه فجمع بنى إسرائيل فقال لهم يا بنى إسرائيل ان موسى قد أمركم بكل شىء فاطعتموه وهو الان يريد ان يأخذ أموالكم قالوا أنت كبيرنا فأمرنا بما شئت فقال أمركم ان تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها مجعلا حتى نقذف موسى بنفسها فاذا فعلت ذلك خرج بنو إسرائيل فرفضوه. فدعوها فجعل لها قارون الف درهم وقيل الف دينار وقيل طستا من ذهب وقيل قال أمولك
184
واخلطك بنسائى على ان تقذنى موسى بنفسك غدا إذا حضر بنوا إسرائيل فلمّا كان من الغد جمع قارون بنى إسرائيل ثم اتى موسى فقال ان بنى إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم فخرج إليهم موسى وهم فى براح من الأرض فقام فيهم فقال يا بنى إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة ومن زنى وله امراة رجمناه حتى يموت- فقال له قارون وان كنت أنت قال وان كنت انا فقال ان بنى إسرائيل يزعمون انك فجرت بفلانة قال ادعوها فان قالت فهو كما قالت فلما ان جاءت قال لها موسى يا فلانة انا فعلت بك ما يقول هؤلاء وعظم عليها وسال بالّذى فلق البحر لبنى إسرائيل وانزل التورية الا صدقت فتداركها الله تعالى فقالت فى نفسها أحدث اليوم توبة أفضل من ان أوذي رسول الله فقالت لا كذبوا ولكن جعل لى قارون جعلا على ان أقذفك بنفسي- فخر موسى ساجدا يبكى ويقول اللهم ان كنت رسولك فاغضب لى فاوحى الله الى موسى انى أمرت الأرض ان تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى يا بنى إسرائيل ان الله بعثني الى قارون كما بعثني الى فرعون فمن معه فليلث
ومن كان معى فليعتزل فاعتزلوا فلم يبق مع قارون الا رجلان ثم قال موسى يا ارض خذيهم فاخذت الأرض باقدامهم وفى رواية كان سريره وفرشه فاخذته حتى غيبت سريره ثم قال خذيهم فاخذتهم الى الركب ثم قال يا ارض خذيهم فاخذتهم الى الأوسط ثم قال بأرض خذيهم فاخذتهم الى الأعناق وقارون وأصحابه فى كل ذلك يتضرعون يناشده قارون الله تعالى والرحم حتى انه ناشده سبعين مرة وموسى فى كل ذلك لا يلتفت اليه لشدة غضبه ثم قال يا ارض خذيهم فانطبت عليهم الأرض- واوحى الله الى موسى ما اغلظ قلبك له استغاث بك سبعين مرة فلم تغثه اما وعزتى وجلالى لو استغاث بي مرة لاعنته وفى بعض الآثار قال لا اجعل الأرض بعدك طوعا لاحد. قال قتادة خسف به الأرض فهو يتجلجل «١» فى الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها الى يوم القيامة وأصبحت بنوا إسرائيل يتناسقون فيما بينهم ان موسى انما دعا على قارون ليسيد بداره وبكنوزه وبامواله فدعا الله موسى حتى خسف بداره وبكنوزه وأمواله الأرض فذلك قوله تعالى فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما
(١) اى يفوض فيها والجلجلة حركة مع صوت. نهايه منه رح
185
كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ.
وَأَصْبَحَ اى صاد الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ اى منزلته بِالْأَمْسِ اى منذ زمان قريب يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ هذه اللفظة عند البصريين من وى للتعجب وكأنّ للتشبيه ومعناه ما أشبه الأمران اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ يعنى الأمران سيئان مرتبطان بمشية الله لا لكرامة يقتضى البسط ولا لهو ان يوجب القبض. وقال الخليل وى اسم فعل للتعجب والتندم فان القوم تندموا فقالوا متندمين على ما سلف وكانّ معناه أظن ذلك وأقدره كما يقول كانّ الفرح قد أتاك اى أظن ذلك واقدره- وقال قطرب ويك بمعنى ويلك حذف منه اللام وانّ منصوب بفعل مقدر تقديره ويلك اعلم انّ الله يبسط ويقدر اى يوسع ويضيق وقيل ويكانّ حرف تنبيه بمنزلة الا وعن الحسن انه قال كلمة ابتداء تقديره وان الله وقال مجاهد معناه الم تعلم وقال قتادة الم تر وقال الفراء هى كلمة تقرير كقول الرجل اما ترى الى صنع الله وإحسانه وذكر انه سمع اعرابية تقول لزوجها اين ابنك فقال ويكانّه وراء البيت يعنى اما ترينه وراء البيت لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا فلم يعطنا ما عنينا لَخَسَفَ قرأ حفص ويعقوب بفتح الخاء والسين على البناء للفاعل والعامة بضم الخاء وكسر السين على البناء للمفعول بِنا كما خسف بقارون وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لنعمة الله او المكذبون برسله وبما وعدوا لهم من ثواب الاخرة- لا يصلح هاهنا معنى ما أشبه فى ويكانّه ويصلح غير ذلك من المعاني-.
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ صفة بعد صفة لتلك اشارة تعظيم كانّه قال تلك الدّار الاخرة التي سمعت خبرها وبلغك وصفها نَجْعَلُها خبر لتلك لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ قال الكلبي ومقاتل اى استكبارا عن الايمان وقال عطاء غلبة وقهرا على الناس وتهاونا بهم وقال الحسن يطلبون الشرف والعز عند ذى السلطان وعن علّى كرم الله وجهه انها نزلت فى اهل التواضع من الولاة واهل القدرة يعنى من كان من الولاة واهل القدرة متواضعا فهو لا يريد علوّا فى الأرض وَلا فَساداً قال الكلبي هو الدعاء الى عبادة غير الله وقال عكرمة هو أخذ اموال الناس بغير حق وقال ابن جريج ومقاتل العمل بالمعاصي وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قال قتادة اى الجنة قلت العاقبة يستعمل فيما يعقب الحسنات ويتاب
عليها كما ان العقاب يستعمل فيما يعقب السيئات وتنقم بها.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها اى عشر اضعافها الى سمع مائة ضعف والى ما شاء الله وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ وضع المظهر موضع المضمر تهجينا لحالهم بتكرير اسناد السيئة إليهم إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى الّا مثل ما كانوا يعملون حذف المثل واقام ما كانوا يعملون مقامه مبالغة فى المماثلة-.
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ يعنى أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل به كذا قال عطاء وقال البغوي قال اكثر المفسرين يعنى انزل عليك القران لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ يعنى الى مكة وقدرده يوم الفتح وانما نكّره لانه فى ذلك اليوم له شأن ومرجعا له اعتداد لغلبة رسول الله وقهره اعداء الله وظهور الإسلام وذل الشرك وهى رواية العوفى عن ابن عباس وهو قول مجاهد قال القتيبي معاد الرجل بلده لانه ينصرف ثم يعود الى بلده.
ذكر البغوي ان النبي ﷺ لما خرج من الغار مهاجرا الى المدينة سار فى غير الطريق مخافة الطلب فلمّا أمن ورجع الى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق الى مكة اشتاق إليها فقال له جبرئيل عليه السلام أتشتاق الى بلدك ومولدك قال نعم قال فان الله يقول إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ فرده الله يوم الفتح كذا اخرج ابن ابى حاتم عن الضحاك والاية نزلت بحجفة بين مكة والمدينة وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس رض المعاد الموت قلت لانه عود الى الحالة الاصلية قال الله تعالى كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وقال الزهري وعكرمة يعنى الى القيامة وقيل الى الجنة كانه لما حكم ب إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ أكّد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين ووعده بالعاقبة الحسنى فى الدارين.
ولمّا قال كفار مكة للنبى ﷺ انّك لفى ضلل مبين انزل الله سبحانه قُلْ رَبِّي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابو عمرو وابن كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها وروى ابو ربيعة عن قنبل وعن البزي ايضا بالإسكان «فهو غير ماخوذ- ابو محمد» أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وما يستحقه من الثواب والنصر يعنى محمدا ﷺ من منصوب بفعل يدل عليه
اعلم تقديره ربى اعلم الكائنات يعلم من جاء بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وما يستحقه من العذاب والاذلال يعنى به المشركين وفى هذه الاية تقرير للوعد السابق ولذا عقبه وكذا قوله.
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ اى يوحى إليك الْكِتابُ اى القران إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال الفراء الاستثناء منقطع معناه لكن ألقاه ربك رحمة منه ويجوز ان يكون الاستثناء منفصلا مفرغا محمولا على المعنى كانه قال ما القى إليك ربك الكتاب لشئ الا رحمة اى الا لاجل الرحمة فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ بمداراتهم والتحمل عنهم والاجابة الى طلبهم قال مقاتل وذلك حين درعى الى دين ابائه فذكّر الى نعمه ونهاة عن مظاهرتهم على ما هم عليه.
وَلا يَصُدُّنَّكَ يعنى كفار مكة عَنْ آياتِ اللَّهِ اى عن قراءتها والعمل بها بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ اى الى معرفته وتوحيده وعبادته وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بمظاهرتهم.
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ هذا وما قبله يقطع اطماع المشركين عن مساعدته لهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تعليل للنهى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ يعنى الا ذاته فان ما عداه ممكن هالك معدوم فى حد ذاته لا شىء الا ووجوده مستفاد مستعار منه تعالى قيل معناه كل عمل لغو باطل الا ما أريد به وجهه وجملة كلّ شىء تعليل لَهُ الْحُكْمُ اى القضاء النافذ فى الخلق وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تردونّ فى الاخرة فيجازيكم بأعمالكم.
تمت سورة القصص ويتلوه سورة العنكبوت ان شاء الله تعالى ٢٨ ربيع الاول سنة ١٤٦ هجرى.
Icon