تفسير سورة القصص

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة القصص من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة القصص
مكية ؛ إلا قوله :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ﴾ [ القصص : ٨ ] الآية. وهي ثمان وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله :﴿ وأن أتلوا القرآن ﴾ [ النمل : ٩٢ ] مع قوله :﴿ تلك آيات الكتاب المبين ﴾ فإنه عين القرآن المتلو. وقيل : وجه المناسبة : قوله :﴿ سيريكم آياته ﴾ [ النمل : ٩٣ ] مع قوله :﴿ تلك آيات الكتاب ﴾ فإن تنزيل الكتاب من أعظم الآيات.

وافتتح بالرموز التي يستعملها بينه وبين حبيبه، فقال :
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ طسم ﴾ * ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ * ﴿ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ طسم ﴾، إما مختصرة من أسماء الله تعالى، أقسم على حقّية كتابه، وما يتلى فيه، كأنها مختصرة من طهارته - أي : تنزيهه - وسيادته، ومجده، أو : من أسماء رسوله - وهو الأظهر - أي : أيها الطاهر السيد المجيد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : تقديم هذه الرموز، قبل سرد القصص، إشارة إلى أنه لا ينتفع بها كل الانتفاع حتى يتطهر سره، وَيُلْقِيَ سَمْعَهُ، وهو شهيد، فحينئذٍ يكون طاهراً سيداً مجيداً ينتفع بكل شيء، ويزيد إلى الله بكل شيء. ولذلك خص تلاوة قصص موسى بأهل الإيمان الحقيقي ؛ لأنهم هم أهل الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.
﴿ تلك آيات الكتابُ المبين ﴾، إما من بان، أو : أبان، أي : بيِّن خيره وبركتُه، أو مُبين للحلال والحرام، والوعد والوعيد، والإخلاص والتوحيد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : تقديم هذه الرموز، قبل سرد القصص، إشارة إلى أنه لا ينتفع بها كل الانتفاع حتى يتطهر سره، وَيُلْقِيَ سَمْعَهُ، وهو شهيد، فحينئذٍ يكون طاهراً سيداً مجيداً ينتفع بكل شيء، ويزيد إلى الله بكل شيء. ولذلك خص تلاوة قصص موسى بأهل الإيمان الحقيقي ؛ لأنهم هم أهل الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.
﴿ نتلو عليك من نبأ موسى وفرعونَ ﴾ أي : بعض خبرهما العجيب. قال القشيري : كرَّر الحقُّ قصةَ موسى ؛ تعجيباً بشأنه، وتعظيماً لأمره، ثم زيادة في البيان لبلاغة القرآن، ثم أفاد زوائد من الذكر في كل موضعٍ يُكرره. ه.
هذا مع الإشارة إلى نصر المستضعفين، والامتنان عليهم بالظفر والتمكين، ففيه تسلية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ووعد جميل له ولأمته. وقوله :﴿ بالحق ﴾ : حال من فاعل ﴿ نتلو ﴾، أو : من مفعوله، أو : صفة لمصدر محذوف، أي ملتبسين، أو : ملتبساً بالحق، أو : تلاوة ملتبسة بالحق. ﴿ لقومٍ يؤمنون ﴾ ؛ لمن سبق في علمنا أنه يُؤمن ؛ لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم، فهو متعلق بنتلو. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : تقديم هذه الرموز، قبل سرد القصص، إشارة إلى أنه لا ينتفع بها كل الانتفاع حتى يتطهر سره، وَيُلْقِيَ سَمْعَهُ، وهو شهيد، فحينئذٍ يكون طاهراً سيداً مجيداً ينتفع بكل شيء، ويزيد إلى الله بكل شيء. ولذلك خص تلاوة قصص موسى بأهل الإيمان الحقيقي ؛ لأنهم هم أهل الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.
ثم شرع في بيان شأنهما، فقال :
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ * ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ * ﴿ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ إِنَّ فرعونَ علا في الأرض ﴾، وهو استئناف بياني، وكأن قائلاً قال : وكيف كان نبأهما ؟ فقال : إنه علا في الأرض، أي : تجبّر وطغى في أرض مصر، وجاوز الحد في الظلم والعدوان. أو : علا عن عبادة ربه، وافتخر بنفسه، ونسي العبودية. وفي التعبير بالأرض تبكيت عليه، أي : علا في محل التذلل والانخفاض، ﴿ وجعل أهلَها شِيعاً ﴾ أي : فرقاً وأصنافاً في الخدمة والتسخير، كلُّ قوم من بني إسرائيل في شغل مفرد. وقيل : مَلَكَ القبط واستعبد بني إسرائيل. أو : فرقاً مختلفة، يُكرم طائفة ويهين أخرى، فأكرم القبط، وأهان بني إسرائيل. ﴿ ويستضعفُ طائفةً منهم ﴾ وهم بنو إسرائيل، وهو يُرشد إلى كون المراد بقوله :﴿ وجعل أهلها ﴾ لا يُخَصُّ ببني إسرائيل. ﴿ يُذَّبِّحُ أبناءهم ﴾ الذكور، ﴿ ويستحيي نساءَهم ﴾ أي : البنات، يتركهم لخدمته.
وسبب ذبحه للأبناء أن كاهناً قال له : يولد مولود في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يده، وفيه دليل على حمق فرعون، فإنه إن صدق الكاهن لم ينفعه القتل ؛ إذ لا ينفع حذر من قدر، وإن كذب فلا معنى للقتل. وجملة :﴿ يستضعف ﴾ : حال من الضمير في ﴿ جعل ﴾، أو صفة لشِيع، أو استئناف. ﴿ إنه كان من المفسدين ﴾، أي : الراسخين في الإفساد، ولذلك اجترأ على تلك العزيمة العظيمة، من قتل المعصومين من أولاد الأنبياء - عليهم السلام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : العلو في الأرض يُورث الذل والهوان. والتواضع والاستضعاف يورث العز والسلطان، والعيش في العافية والأمان ؛ من تواضع رفعه الله، ومن تكبر قصمه الله. وهذه عادة الله في خلقه، بقدر ما يَذِلُّ في جانب الله يعزه الله، وبقدر ما يفتقر يغنيه الله، بقدر ما يفقد يجد الله. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا، وحكمت عليه بالفقد حتى وجدوا. وبالله التوفيق.
﴿ ونريد أن نَمُنَّ ﴾ أي : نتفضل ﴿ على الذين استُضعفوا في الأرض ﴾ على الوجه المذكور بالقتل والتسخير. وهذه الجملة معطوفة على :﴿ إن فرعون ﴾، أو : حال من ﴿ يستضعف ﴾، أي : يستضعفهم فرعون ونحن نُريد أن نمنّ عليهم، وإرادة الله تعالى كائنة لا محالة، فَجُعِلَتْ كالمقارنة لاستضعافهم، ﴿ ونجعلهم أئمةً ﴾ أي : قادة يُقتدى بهم في الخير، أو : دعاة إلى الخير، أو : ولاةً وملوكاً، ﴿ ونجعلهم الوارثين ﴾ أي : يرثون فرعون وقومه، مُلكهم وكل ما كان لهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : العلو في الأرض يُورث الذل والهوان. والتواضع والاستضعاف يورث العز والسلطان، والعيش في العافية والأمان ؛ من تواضع رفعه الله، ومن تكبر قصمه الله. وهذه عادة الله في خلقه، بقدر ما يَذِلُّ في جانب الله يعزه الله، وبقدر ما يفتقر يغنيه الله، بقدر ما يفقد يجد الله. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا، وحكمت عليه بالفقد حتى وجدوا. وبالله التوفيق.
﴿ ونُمكِّن لهم في الأرض ﴾ ؛ أرض مصر والشام، يتصرفون فيها كيف شاؤوا، وتكون تحت مُلكهم وسلطانهم. وأصل التمكن : أن يجعل لهم مكاناً يقعد عليه، ثم استعير للتسليط والتصرف في الأمر. ﴿ ونُرِيَ فرعونَ وهامان وجنودَهما منهم ﴾ ؛ من بني إسرائيل، ﴿ ما كانوا يحذَرون ﴾ ؛ يخافون من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد مولود منهم. والحذر التوقي من الضرر. ومن قرأ ( يري ) ؛ بالياء ففرعون وما بعده فاعل. وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : العلو في الأرض يُورث الذل والهوان. والتواضع والاستضعاف يورث العز والسلطان، والعيش في العافية والأمان ؛ من تواضع رفعه الله، ومن تكبر قصمه الله. وهذه عادة الله في خلقه، بقدر ما يَذِلُّ في جانب الله يعزه الله، وبقدر ما يفتقر يغنيه الله، بقدر ما يفقد يجد الله. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا، وحكمت عليه بالفقد حتى وجدوا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر أول نشأة موسى عليه السلام وما جرى في تربيته، فقال :
﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ * ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ ﴾ * ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وأوحينا إلى أمِّ موسى ﴾ ؛ بالإلهام، أو بالرؤيا، أو بإخبار ملك كما كان لمريم، وليس هذا وحي رسالة، فلا يلزم أن تكون رسولاً، واسمها : يوحانة، وقيل : يوخابذ بنت يَصهرُ بن لاوي بن يعقوب. وقيل : يارخا. ذكره في الإتقان. وقلنا :﴿ أن أرضعيه ﴾ ؛ " أن " : مفسرة، أي : أرضعيه، أو : مصدرية، بأن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه، ﴿ فإذا خِفْتِ عليه ﴾ من القتل ﴿ فألقيه في اليمِّ ﴾. البحر، وهو نيل مصر، ﴿ ولا تخافي ﴾ عليه من الغرق والضياع، ﴿ ولا تحزني ﴾ لفراقه، ﴿ إنا رادوه إليك ﴾ بوجه لطيف ؛ لتُربيه، ﴿ وجاعلوه من المرسلين ﴾. وفي هذه الآية : أمران، ونهيان، وخبران، وبشارتان.
والفرق بين الخوف والحزن ؛ أن الخوف : غم يلحق الإنسان لِتَوَقُّعِ مكروه، والحزن : غم يلحق الإنسان لواقع أو ماضي، وهو الآن فراقه والإخطار به. فنُهيت عنهما، وبُشرت برده وجعله من المرسلين. رُوي أنه ذبح، في طلب موسى، تسعون ألف وليدٍ. ورُوي أنها حين ضربها الطلق - وكانت بعض القوابل من الموكلات بحَبَالى بني إسرائيل مَصافية لها، فعالجتها، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيّه، ودخل حُبُه قلبها، فقالت : ما جئتُ إلا لأقتل ولدك وأُخبر فرعون، ولكن وجدت لابنك حباً ما وجدت مثله، فاحفظيه، فلما خرجت القابلة، جاءت عيون فرعون فلفَّتْه في خرقة، ووضعته في تنور مسجور، ولم تعلم ما تصنع ؛ لِما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يجدوا شيئاً، فخرجوا، وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، فانطلقت إليه، وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً. فلما ألح فرعون في طلب الولدان، أوحى الله إليها بإلقائه في اليمِّ، فألقته في اليم بعد أن أرضعته ثلاثة أشهر.
رُوي أنها لفته في ثيابه، وجعلت له تابوتاً من خشب، وقيل : من بردى، وسدت عليه بقفل، وأسلمته ؛ ثقة بالله وانتظاراً لوعده سبحانه. قال ابن مخلص : ألقته في البحر بالغداة، فرده إليها قبل الظهر. حُكي أن فرعون كانت له بنتٌ برصاء، أعيت الأطباء، فقال الأطباء والسحرة : لا تبرأ إلا من قِبل البحر، يؤخذ من شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه وتلطخ به برصها، فتبرأ، فقعد فرعون على شفير النيل، ومعه آسية امرأته، فإذا بالتابوت يلعب به الموج، فأخِذ له، ففتحوه، فلم يطيقوا، فدنت آسية، فرأت في وجه التابوت نوراً لم يره غيرُها، لِلذي أراد الله أن يكرمها، ففتحه، فإذا الصبي بين عينيه نور، وقد جعل الله رزقه في إبهامه، يمصه لبناً، فأحبته آسية وفرعون، فلطخت بنت فرعون برصها فبرئت، فقبَّلته وضمته إلى صدرها. فقال بعض القواد من قوم فرعون : نظن هذا المولود الذي نحذر منه، فهمّ فرعون بقتله - والله غالب على أمره - فقالت : آسية :﴿ قُرة عين لي ولك. . . ﴾ الآية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقال لمن يعالج تربية مريد : أرضعه من لبن علم الغيوب، فإذا خفت عليه الوقوف مع الشرائع، فألقه في اليم ؛ في بحر الحقائق، ولا تخف ولا تحزن، إنا رادوه إلا بر الشرائع، ليكون من الكاملين، لأن من غرق في بحر الحقيقة، على يد شيخ كامل، لا بد أن يخرجه إلى بر الشريعة، ويسمى البقاء، وهو القيام برسم الشرائع، فالبقاء يطلب الفناء، فمن تحقق بمقام الفناء ؛ فلا بد أن يخرج إلى البقاء، كما يخرج من فصل الشتاء إلى الربيع. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ليكون لهم عدواً وحزناً ﴾، ما كان التقاط فرعون لموسى إلا للمحبة والفرح، فخرج له عكسه. ومن هذا كان العارفون لا يسكنون إلى الشيء ولا يعتمدون على شيء ؛ لأن العبد قد يخرج له الضرر من حيث النفع، وقد يخرج له النفع من حيث يعتقد الضرر، وقد ينتفع على أيدي الأعداء، وَيُضَرُّ على أيدي الأَحِبَّاءِ، فليكن العبد سلْماً بين يدي سيده، ينظر ما يفعل به. ﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾.

وهذا معنى قوله :﴿ فالتقطه آلُ فرعون ﴾ ؛ أخذه. قال الزجّاج : وكان فرعون من أهل فارس، من إصْطَخْر. والالتقاط : وجدان الشيء من غير طلب ولا إرادة، ومنه : اللُّقَطَةُ، لما وُجد ضالاً. وقوله :﴿ ليكونَ لهم عَدُواً وحَزَناً ﴾ أي : ليصير الأمر ذلك، لا أنهم أخذوه لهذا، فاللام للصيرورة ؛ كقولهم : لدوا للموت وابنوا للخراب. وقال صاحب الكشاف : هي لام " كي " التي معناها التعليل، كقولك : جئت لتكرمني. ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز ؛ لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعلَ لأجله. ه. وتسمى بالاستعارة التبعية.
وفي " الحَزَن " لغتان ؛ الفتح، والضم، كالعدم والعدم.
﴿ إنَّ فرعونَ وهامانَ وجنودَهما كانوا خاطئين ﴾، أي : مذنبين، فعاقبهم الله تعالى بأن ربَّى عدوهم، ومن هو سبب هلاكهم على يديهم. أو : كانوا خاطئين في كل شيء، فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقال لمن يعالج تربية مريد : أرضعه من لبن علم الغيوب، فإذا خفت عليه الوقوف مع الشرائع، فألقه في اليم ؛ في بحر الحقائق، ولا تخف ولا تحزن، إنا رادوه إلا بر الشرائع، ليكون من الكاملين، لأن من غرق في بحر الحقيقة، على يد شيخ كامل، لا بد أن يخرجه إلى بر الشريعة، ويسمى البقاء، وهو القيام برسم الشرائع، فالبقاء يطلب الفناء، فمن تحقق بمقام الفناء ؛ فلا بد أن يخرج إلى البقاء، كما يخرج من فصل الشتاء إلى الربيع. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ليكون لهم عدواً وحزناً ﴾، ما كان التقاط فرعون لموسى إلا للمحبة والفرح، فخرج له عكسه. ومن هذا كان العارفون لا يسكنون إلى الشيء ولا يعتمدون على شيء ؛ لأن العبد قد يخرج له الضرر من حيث النفع، وقد يخرج له النفع من حيث يعتقد الضرر، وقد ينتفع على أيدي الأعداء، وَيُضَرُّ على أيدي الأَحِبَّاءِ، فليكن العبد سلْماً بين يدي سيده، ينظر ما يفعل به. ﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾.

﴿ وقالت امرأةُ فرعون ﴾، لمّا هم فرعون بقتله – لقول القواد : هو الذي نحذر هو :﴿ قرةُ عين لي ولك ﴾، فقال فرعون : لكِ، لا لي. قال صلى الله عليه وسلم :" لو قال مثل ما قالت لهداه الله مثل ما هداها "، وهذا على سبيل الفرض، أي : لو كان غير مطبوع عليه الكفر لقال مثل قولها. ثم قالت :﴿ لا تقتلوه ﴾، خاطبته خطاب الملوك، أو خاطبت القُواد.
﴿ عسى أن ينفعنا ﴾ ؛ فإن فيه مَخَايلَ اليُمنِ ودلائلَ النفع، وذلك لِمَا عَايَنَتْ من النور وبرْءِ البرصاء. ﴿ أو نتخذه ولدا ﴾ ؛ أو : نتبناه ؛ فإنه أهل لأَن يكون ولد الملوك. قال تعالى :﴿ وهم لا يشعرون ﴾ ما يكون من أمره وأمرهم، أو : لا يشعرون أن هلاكهم على يديه، أو : لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقال لمن يعالج تربية مريد : أرضعه من لبن علم الغيوب، فإذا خفت عليه الوقوف مع الشرائع، فألقه في اليم ؛ في بحر الحقائق، ولا تخف ولا تحزن، إنا رادوه إلا بر الشرائع، ليكون من الكاملين، لأن من غرق في بحر الحقيقة، على يد شيخ كامل، لا بد أن يخرجه إلى بر الشريعة، ويسمى البقاء، وهو القيام برسم الشرائع، فالبقاء يطلب الفناء، فمن تحقق بمقام الفناء ؛ فلا بد أن يخرج إلى البقاء، كما يخرج من فصل الشتاء إلى الربيع. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ليكون لهم عدواً وحزناً ﴾، ما كان التقاط فرعون لموسى إلا للمحبة والفرح، فخرج له عكسه. ومن هذا كان العارفون لا يسكنون إلى الشيء ولا يعتمدون على شيء ؛ لأن العبد قد يخرج له الضرر من حيث النفع، وقد يخرج له النفع من حيث يعتقد الضرر، وقد ينتفع على أيدي الأعداء، وَيُضَرُّ على أيدي الأَحِبَّاءِ، فليكن العبد سلْماً بين يدي سيده، ينظر ما يفعل به. ﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾.

ثم قال تعالى :
﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وأصبح ﴾ أي : صار :﴿ فؤادُ أُمّ موسى فارِغاً ﴾ من كل شيء إلا مِن ذكر موسى وهمه، أو : فارغاً : خالياً من العقل ؛ لِمَا دهمها من الجَزَع والحيرة، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون، ويؤيده قراءة ابن محيصن :" فزعاً " ؛ بالزاي بلا ألف، أو : فارغاً من الوحي الذي أوحي إليها أن تلقيه في اليم، ناسياً للعهد أن يرده إليها، لما دَهَمَهما من الوجد، وقال لها الشيطان : يا أم موسى كرهتِ أن يقتل فرعون موسى وأغرقته أنتِ. وبلغها أنه وقع في يد فرعون، فعظم البلاء، ﴿ إن كادتْ لتُبدِي به ﴾ : لتبوح به وتظهر شأنه وأنه وَلدها.
قيل : لما رأت الأمواج تلعب بالتابوت ؛ كادت تصيح وتقول : يا ابناه، وقيل : لما سمعت أن فرعون أخذ التابوت لم تشك أنه يقتله، فكادت تقول : يا ابناه ؛ شفقة عليه. و " أن " مخففة، أي : إنها كادت لتظهره ﴿ لولا أن ربطنا على قلبها ﴾. والربط : تقويته ؛ بإلهام الصبر والتثبيت، ﴿ لتكون من المؤمنين ﴾ : من المصدقين بوعدنا، وهو :﴿ إنا رادوه إليك ﴾. وجواب " لولا " : محذوف، أي : لأبْدته، أو : فارغاً من الهم، حين سمعت أن فرعون تبناه، إن كادت لتُبدي بأنه ولدها ؛ لأنها لم تملك نفسها ؛ فرحاً وسروراً مما سمعت، لولا أن ربطنا على قلبها وثبتناه ؛ لتكون من المؤمنين الواثقين بعهد الله، لا بتبني فرعون. قال يوسف بن الحسن : أمرتُ أُم موسى بشيئين، ونهيت عن شيئين، وبُشرت ببشارتين، فلم ينفعها الكل، حتى تولى الله حياطتها، فربط على قلبها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي للعبد، الطالب لمولاه، أن يصبح فارغاً من كل ما سواه، ليس في قلبه سوى حَبيبه، فحينئذٍ يرفع عنه الحجاب، ويُدخله مع الأحباب، فعلامة المحبة : جمع الهموم في هَم واحد، وهو حب الحبيب، ومشاهدة القريب المجيب، كما قال الشاعر :
كَانَتْ لقَلْبيَ أَهْوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ فَاسْتَجْمَعَتْ، مُذَ رَأَتْكَ الْعَيْنُ، أَهْوَائِي
فَصَارَ يَحْسُدُنِي مَنْ كُنْتُ أَحْسُدُهُ وَصِرْتُ مَوْلى الورى مُذْ صِرْتَ مَوْلائِي
تَرَكْت لِلنَّاسِ دنياهم ودينَهُمُ شُغْلاً بِذِكْرِكَ يا دِينِي ودُنْيائِي
فَرِّغْ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار. والأغيار : جمع غَيْرٍ، وهو ما سوى الله، فإن تلاشى الغير عن عين العبد ؛ شهد مولاه في غيب ملكوته، وأسرار جبروته، وفي ذلك يقول القائل :
إِنْ تَلاَشَى الكَوْنَ عَنْ عَيْنِ قَلْبي شَاهَدَ السِّرُّ غَيْبَهُ في بيَانِ
فَاطْرَح الكَوْنَ عَنْ عِيَانِكَ، وَامْحُ نُقْطَةَ الْغَيْنِ إِنْ أَرَدْت تَرَانِي
فمن شاهد حبيبه كاد أن يبدي به، ويبوح بسره ؛ فرحاً واغتباطاً به، لولا أن الله يربط على قلبه، ليكون من الثابتين الراسخين في العلم به، وإن أبدى سر الحبيب سلط عليه سيف الشريعة، وبالله التوفيق.

﴿ وقال لأخته ﴾ مريم :﴿ قُصّيهِ ﴾ : اتبعي أثره ؛ لتعلمي خبره، ﴿ فَبَصُرَت به ﴾ أي : أبصرته ﴿ عن جُنُبٍ ﴾ ؛ عن بُعدٍ. قال قتادة : جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده، ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ أنها أخته، وأنها تقصه. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي للعبد، الطالب لمولاه، أن يصبح فارغاً من كل ما سواه، ليس في قلبه سوى حَبيبه، فحينئذٍ يرفع عنه الحجاب، ويُدخله مع الأحباب، فعلامة المحبة : جمع الهموم في هَم واحد، وهو حب الحبيب، ومشاهدة القريب المجيب، كما قال الشاعر :
كَانَتْ لقَلْبيَ أَهْوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ فَاسْتَجْمَعَتْ، مُذَ رَأَتْكَ الْعَيْنُ، أَهْوَائِي
فَصَارَ يَحْسُدُنِي مَنْ كُنْتُ أَحْسُدُهُ وَصِرْتُ مَوْلى الورى مُذْ صِرْتَ مَوْلائِي
تَرَكْت لِلنَّاسِ دنياهم ودينَهُمُ شُغْلاً بِذِكْرِكَ يا دِينِي ودُنْيائِي
فَرِّغْ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار. والأغيار : جمع غَيْرٍ، وهو ما سوى الله، فإن تلاشى الغير عن عين العبد ؛ شهد مولاه في غيب ملكوته، وأسرار جبروته، وفي ذلك يقول القائل :
إِنْ تَلاَشَى الكَوْنَ عَنْ عَيْنِ قَلْبي شَاهَدَ السِّرُّ غَيْبَهُ في بيَانِ
فَاطْرَح الكَوْنَ عَنْ عِيَانِكَ، وَامْحُ نُقْطَةَ الْغَيْنِ إِنْ أَرَدْت تَرَانِي
فمن شاهد حبيبه كاد أن يبدي به، ويبوح بسره ؛ فرحاً واغتباطاً به، لولا أن الله يربط على قلبه، ليكون من الثابتين الراسخين في العلم به، وإن أبدى سر الحبيب سلط عليه سيف الشريعة، وبالله التوفيق.

ثم ذكر رجوع موسى إلى أمه، فقال :
﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ * ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾
قلت : المراضع : جمع مُرضِع، ، وهي المرأة التي ترضع، أو : مَرْضَع - بالفتح - : موضع الرضاع، وهو الثدي.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وحرّمنا عليه المراضِعَ ﴾ أي : تحريم منع، لا تحريم شرع، أي : منعناه أن يرضع ثَدْياً غَيْرَ ثدي أمه. وكان لا يقبل ثدي مرضع حتى أهمهم ذلك. ﴿ من قبلُ ﴾ أي : من قبل قَصَصِها أثره، أو : من قبل أن نرده إلى أمه. ﴿ فقالت ﴾ أخته. وقد دخلت داره بين المراضع، ورأته لا يقبل ثدياً :﴿ هل أدُلكم ﴾ ؛ أرشدكم ﴿ على أهل بيتٍ يكفلونه ﴾ ؛ يحفظون موسى ﴿ لكم وهم له ناصحون ﴾ ؛ لا يقصرون في إرضاعه وتربيته. والنصح : إخلاص العمل من شائبة الفساد. رُوي أنها لما قالت :﴿ وهم له ناصحون ﴾ ؛ قال هامان : إنها لتعرفه وتعرف أهله، فخذوها حتى تخبر بقصة هذا الغلام، فهو الذي نحذر، فقالت : إنما أردتُ : وهُمْ للملك ناصحون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وحرمنا على الإنسان المراضع، من لبان الخمرة الأزلية، من قبل أن نلقيه بأهلها، فقالت له العناية السابقة : هل أدلك على أهل بيت الحضرة يكفلونك من رعونات البشرية، والهفوات القلبية، وهي الإصرار على المساوئ والذنوب، ويرضعونك من لبن الخمرة الأزلية. وهم لك ناصحون، يدلونك على الله ولا يدلونك على غيره ؛ فإن من دلك على الله فقد نصحك، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك، ومن دلك على الدنيا فقد غشك. فرددناه إلى أمه، وهي الحضرة القدسية، التي خرج منها، بمتابعة شهوته وغفلته، كي تقر عين روحه بمشاهدة حبيبها، ولا تحزن على فوات شيء، إذ لَم تفقد شيئاً، حيث وجدت الله تعالى ؛ " مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ ؟ وما الذي وَجَدَ من فَقَدَكَ ؟ ". ولتعلم أن وعد الله بالفتح على من توجه إليه بالواسطة حق، ولكن أكثر أهل الغفلة لا يعلمون.
و( لا تحزن ) : معطوف على ( تَقَرَ ).
فانطلقت إلى أمها بأمرهم، فجاءت بها، والصبي على يد فرعون يُعلله ؛ شفقة عليه، وهو يبكي يطلب الرضاع، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها، فقال لها فرعون : ومن أنتِ منه، فقد أبى كل ثدي إلا ثديك ؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح، لا أُوتَى بصبي إلا قَبِلَني. فدفعه إليها، وأجرى عليها مؤنة الرضاع. قيل : ديناراً في اليوم، وذهبت به إلى بيتها، وأنجز الله لها وعده في الرد، فعندها ثبت واستقر في علمها أنه سيكون نبياً. وذلك قوله تعالى :﴿ فرددناه إلى أمه كي تقرَّ عينُها ﴾ بولدها، ﴿ ولا تحزن ﴾ لفراقه، ﴿ ولِتَعْلَمَ أن وعْدَ الله حقٌ ﴾، أي : وليثبت علمها ؛ مشاهدة، كما ثبت ؛ علماً.
وأما جزعها وحيرتها ؛ فذلك من الطبع البشري الجِبِلِّيِّ، اللازم لضعف البشرية، لا ينجو منه إلا خواص الخواص، وإنما حل لها ما تأخذه من الدينار في اليوم، كما قال السدي : لأنه مال حربي، لا أنه أجرة إرضاع ولدها.
﴿ ولكن أكثرهم ﴾ أي : القبط، أو الناس جملة، ﴿ لا يعلمون ﴾ أن ما وعد الله لا بد من إنجازه، ولو بعد حين، وهو داخل تحت علمها، أي : لتعلم أن وعد الله حق، ولتعلم أن أكثر الناس لا يعلمون فيرتابون فيه. وفيه التعريض بما فرط منها ؛ حين سمعت بوقوع موسى في يد فرعون، فجزعت، وهذا من الطبع البشري كما تقدم. وأيضاً يجوز أن يكون الوعد منوطاً بشروط وأسباب، قد لا تعرفها، فلذلك لم ينفك خوفها. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وحرمنا على الإنسان المراضع، من لبان الخمرة الأزلية، من قبل أن نلقيه بأهلها، فقالت له العناية السابقة : هل أدلك على أهل بيت الحضرة يكفلونك من رعونات البشرية، والهفوات القلبية، وهي الإصرار على المساوئ والذنوب، ويرضعونك من لبن الخمرة الأزلية. وهم لك ناصحون، يدلونك على الله ولا يدلونك على غيره ؛ فإن من دلك على الله فقد نصحك، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك، ومن دلك على الدنيا فقد غشك. فرددناه إلى أمه، وهي الحضرة القدسية، التي خرج منها، بمتابعة شهوته وغفلته، كي تقر عين روحه بمشاهدة حبيبها، ولا تحزن على فوات شيء، إذ لَم تفقد شيئاً، حيث وجدت الله تعالى ؛ " مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ ؟ وما الذي وَجَدَ من فَقَدَكَ ؟ ". ولتعلم أن وعد الله بالفتح على من توجه إليه بالواسطة حق، ولكن أكثر أهل الغفلة لا يعلمون.
ثم ذكر سبب خروج موسى من مصر، فقال :
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ * ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴾ * ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ * ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾
قلت :﴿ على حين غَفْلَةٍ ﴾ : حال، أي : دخل مخفياً.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولما بَلَغَ ﴾ موسى ﴿ أَشُدَّهُ ﴾ أي : نهاية القوم وتمام العقل، جمع شِدَّةٍ ؛ كنعمة وأنعم. وأول ما قيل في الأشد : بلوغ النكاح، وذلك أولُه، وأقصاه : أربع وثلاثون سنة. ﴿ واستوى ﴾ أي : اعتدل عقله وقوته، وهو أربعون سنة، ويُروى أنه لم يبعث نبي إلى على رأس أربعين سنة. ﴿ آتيناهُ حُكْماً ﴾ : نبوة، أو حكمة ﴿ وعلماً ﴾ : فقهاً في الدين، أو : علماً بمصالح الدارين. والحاصل : لما تكامل عقله وبصيرته آتيناهُ حُكْماً على عبادنا وعلماً بنا. ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي : كما فعلنا بموسى وأمه ؛ لمّا استسلمت لأمر الله، وألقت ولدها في البحر، وصدقت بوعد الله، فرددنا لها ولدها، ووهبنا له الحكمة والنبوة، فكذلك نجزي المحسنين في كل أوان وحين.
قال الزجاج : جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة مجازاة على الإحسان ؛ لأنهما يؤديان إلى الجنة، التي هي جزاء المحسنين، والعالم الحكيم من يعمل بعلمه ؛ لأنه تعالى قال :
﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ]، فجعلهم جهالاً، إذ لم يعملوا بالعلم. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : خصوصية الولاية كخصوصية النبوة، لا تُعطى، غَالِباً، إلا بعد بلوغ الأشد وكمال قوة العقل، وحصول الاستواء، وهو أن يستوي عنده المدح والذم، والعز والذل، والمنع والعطاء، والفقر والغنى، وتستوي حاله في القبض والبسط، والغضب والرضا، فإذا استوى في هذه الأمور آتاه الله حكماً وعلماً، وجزاه جزاء المحسنين وكتب شيخ شيخنا إلى بعض تلامذته : أمَّا بعد، فإن تورعت في أقوالك وأفعالك، وتوسعت في أخلاقك، حتى يستوي عندك من يمدحك ويذمك، ويعطيك ويمنعك، ومن يؤذيك وينفعك، ومن يشدد عليك ويوسع، فلا أشك في كمالك. هـ.
فإن قلت : لِمَ ذكر الحق، جَلَّ جلاله، الاستواء في حق سيدنا موسى، ولم يذكره في حق نبيه يوسف - عليهما السلام ؟ فالجواب : أن سيدنا يوسف عليه السلام تربى في السجن وفي نار الجلال، وكل محنة تزيد تهذيباً وتدريباً، فما بلغ الأشد حتى وقع له كمال الاستواء، بخلاف سيدنا موسى عليه السلام فإنه تربى في العز والجمال، فاحتاج إلى تربية وتهذيب، بعد كمال الأشد، فلم يحصل له كمال الأدب إلا بعد الاستواء الذي يليق به، فلذلك ذكره حقه. والله تعالى أعلم.

﴿ ودخل المدينةَ ﴾ أي : مصر، آتياً من قصر، فرعون، وكان خارجاً، وقال السُّدِّي : مدينة منف من أرض مصر، وقال مقاتل : قرية " حابين "، على فرسخين من مصر. ﴿ على حين غفلةٍ من أهلها ﴾، وهو مابين العشاءين، أو : وقت القائلة، يعني : انتصاف النهار.
قال السدي : لما كبر موسى ؛ ركب مراكب فرعون، ولبس ملابسَهُ، فكان يدعى موسى بن فرعون، فركب فرعونُ يوماً وركب موسى خلفه، فأدركه المقيل بقرب مدينة منف، فدخلها نصف النهار، وقد غلقت أسواقها، وليس في طرقها أحد، فوجد موسى رجلين. . إلخ.
قال ابن إسحاق : كان يجتمع إلى موسى طائفة من بني إسرائيل ويقتدون به، فرأى مفارقة فرعون، وتكلم في ذلك حتى ظهر أمره، فأخافوه، فكان لا يدخل قرية إلا مستخفياً، فدخلها على حين غفلة. وقيل : إن موسى لما شبّ علا فرعون بالعصى، فقال : هذا عدو لي، فأخرجه من مصر، ولم يدخل عليهم إلى أن كبر وبلغ أشده، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها بخبر موسى، أي : من بعد نسيانهم خبره، ﴿ فوجد فيها رجلين يقتتلان ﴾ ؛ يتضاربان، ﴿ هذا من شيعته ﴾ ؛ ممن على دينه من بني إسرائيل، وقيل : هو السامري. وشيعة الرجل : أتباعه وأنصاره، ﴿ وهذا من عدوه ﴾ ؛ من مخالفيه من القبط، وهو طباخ فرعون. واسمه :" فليثور "، وقيل فيهما :" هذا وهذا "، وإن كانا غائبين، على جهة الحكاية، أي : إذا نظر إليهما الناظر قال : هذا وهذا.
وقال ابن عباس : لما بلغ موسى أشده كان يحمي بني إسرائيل من الظلم والسخرة، فبينما هو يمشي نظر رجلين يقتتلان، أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل.
﴿ فاستغاثه ﴾ ؛ فاستنصره ﴿ الذي من شيعته على الذي من عدوه ﴾ أي : فسأله أن يغيثه الإعانة. ضمَّن استغاث أعان، فعداه ب " على ". رُوي أنه لما استغاث به، غضب موسى، وقال للفرعوني : خله عنك ؟ فقال : إنما آخذه ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك، ثم قال الفرعوني لموسى : لقد هممت أن أحمله عليك، ﴿ فوكزه موسى ﴾ ؛ ضربه بِجُمْع كفه، أو : بأطراف أصابعه. قال الفراء الوَكز : الدفع بأطراف الأصابع. ﴿ فقَضَى عليه ﴾ أي : قتله، ولم يتعمد قتله، وكان موسى عليه السلام ذا قوة وبطش، وإنما فعل ذلك الوكز ؛ لأن إغاثة المظلوم والدفع عن دِين في الملل كلها، وفرض في جميع الشرائع. وإنما عدَّه ذنباً ؛ لأن الأنبياء لا يكفي في حقهم الإذن العام، فلذلك ﴿ قال هذا من عمل الشيطان ﴾ أي : القتل الحاصل، بغير قصد، من عمل الشيطان، واستغفر، وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان، وسماه ظلماً لنفسه، واستغفر منه ؛ لأنه كان مستأمناً فيهم، أو : لأنه قتله قبل أن يُؤذن له في القتل. وعن ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يُؤمر، ولأن الخصوص يعظمون محقرات ما فرط منهم. ﴿ إنه ﴾ أي : الشيطان ﴿ عدو مُضل مبين ﴾ ؛ ظاهر العداوة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : خصوصية الولاية كخصوصية النبوة، لا تُعطى، غَالِباً، إلا بعد بلوغ الأشد وكمال قوة العقل، وحصول الاستواء، وهو أن يستوي عنده المدح والذم، والعز والذل، والمنع والعطاء، والفقر والغنى، وتستوي حاله في القبض والبسط، والغضب والرضا، فإذا استوى في هذه الأمور آتاه الله حكماً وعلماً، وجزاه جزاء المحسنين وكتب شيخ شيخنا إلى بعض تلامذته : أمَّا بعد، فإن تورعت في أقوالك وأفعالك، وتوسعت في أخلاقك، حتى يستوي عندك من يمدحك ويذمك، ويعطيك ويمنعك، ومن يؤذيك وينفعك، ومن يشدد عليك ويوسع، فلا أشك في كمالك. هـ.
فإن قلت : لِمَ ذكر الحق، جَلَّ جلاله، الاستواء في حق سيدنا موسى، ولم يذكره في حق نبيه يوسف - عليهما السلام ؟ فالجواب : أن سيدنا يوسف عليه السلام تربى في السجن وفي نار الجلال، وكل محنة تزيد تهذيباً وتدريباً، فما بلغ الأشد حتى وقع له كمال الاستواء، بخلاف سيدنا موسى عليه السلام فإنه تربى في العز والجمال، فاحتاج إلى تربية وتهذيب، بعد كمال الأشد، فلم يحصل له كمال الأدب إلا بعد الاستواء الذي يليق به، فلذلك ذكره حقه. والله تعالى أعلم.

﴿ قال ربِّ ﴾ أي : يا رب ﴿ إني ظلمتُ نفسي ﴾ بفعل صار قتلاً ﴿ فاغفرْ لي ﴾ زلتي، ﴿ فَغَفَرَ له ﴾ زلته، ﴿ إنه هو الغفور ﴾ بإقالة الزلل، ﴿ الرحيم ﴾ بإزالة الخجل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : خصوصية الولاية كخصوصية النبوة، لا تُعطى، غَالِباً، إلا بعد بلوغ الأشد وكمال قوة العقل، وحصول الاستواء، وهو أن يستوي عنده المدح والذم، والعز والذل، والمنع والعطاء، والفقر والغنى، وتستوي حاله في القبض والبسط، والغضب والرضا، فإذا استوى في هذه الأمور آتاه الله حكماً وعلماً، وجزاه جزاء المحسنين وكتب شيخ شيخنا إلى بعض تلامذته : أمَّا بعد، فإن تورعت في أقوالك وأفعالك، وتوسعت في أخلاقك، حتى يستوي عندك من يمدحك ويذمك، ويعطيك ويمنعك، ومن يؤذيك وينفعك، ومن يشدد عليك ويوسع، فلا أشك في كمالك. هـ.
فإن قلت : لِمَ ذكر الحق، جَلَّ جلاله، الاستواء في حق سيدنا موسى، ولم يذكره في حق نبيه يوسف - عليهما السلام ؟ فالجواب : أن سيدنا يوسف عليه السلام تربى في السجن وفي نار الجلال، وكل محنة تزيد تهذيباً وتدريباً، فما بلغ الأشد حتى وقع له كمال الاستواء، بخلاف سيدنا موسى عليه السلام فإنه تربى في العز والجمال، فاحتاج إلى تربية وتهذيب، بعد كمال الأشد، فلم يحصل له كمال الأدب إلا بعد الاستواء الذي يليق به، فلذلك ذكره حقه. والله تعالى أعلم.

﴿ قال ربِّ بما أنعمت عليَّ ﴾ أي : بحق إنعامك عليّ بالمغفرة ولم تعاقبني ﴿ فلن أكون ظهيراً للمجرمين ﴾ أي : لا تجعلني أُعين على خطيئةَ، تَوَسل للعصمة بإنعامه عليه. وقيل : إنه قسم حُذف جوابه، أي : أُقْسِمُ بإنعامك عليَّ بالمغفرة، إن عصمتني، فلن أكون ظهيراً للمجرمين، وأراد بمظاهرة المجرمين صُحْبَةَ فرعون، وانتظامَهُ في جملته، وتكثير سواده، حيث كان يركب معه كالولد مع الوالد.
قال ابن عطية : احتج أهل الفضل والعلم بهذه الآية في منع خدمة أهل الجور، ومَعُونتهم في شيء من أمورهم، ورأوا أنها تتناول ذلك. ه. قال الْوُصَافي لعطاء بن أبي رباح : إن لي أخاً يأخذ بقلمه، وإنما يكتب ما يدخل ويخرج، وله عيال، ولو ترك لاحتاج وَادّانَ. فقال : من الرأس ؟ فقال : خالد بن عبد الله، قال : أما تقرأ قول العبد الصالح :﴿ ربّ بما أنعمتَ عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين ﴾، فإن الله عز وجل سيعينه. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : خصوصية الولاية كخصوصية النبوة، لا تُعطى، غَالِباً، إلا بعد بلوغ الأشد وكمال قوة العقل، وحصول الاستواء، وهو أن يستوي عنده المدح والذم، والعز والذل، والمنع والعطاء، والفقر والغنى، وتستوي حاله في القبض والبسط، والغضب والرضا، فإذا استوى في هذه الأمور آتاه الله حكماً وعلماً، وجزاه جزاء المحسنين وكتب شيخ شيخنا إلى بعض تلامذته : أمَّا بعد، فإن تورعت في أقوالك وأفعالك، وتوسعت في أخلاقك، حتى يستوي عندك من يمدحك ويذمك، ويعطيك ويمنعك، ومن يؤذيك وينفعك، ومن يشدد عليك ويوسع، فلا أشك في كمالك. هـ.
فإن قلت : لِمَ ذكر الحق، جَلَّ جلاله، الاستواء في حق سيدنا موسى، ولم يذكره في حق نبيه يوسف - عليهما السلام ؟ فالجواب : أن سيدنا يوسف عليه السلام تربى في السجن وفي نار الجلال، وكل محنة تزيد تهذيباً وتدريباً، فما بلغ الأشد حتى وقع له كمال الاستواء، بخلاف سيدنا موسى عليه السلام فإنه تربى في العز والجمال، فاحتاج إلى تربية وتهذيب، بعد كمال الأشد، فلم يحصل له كمال الأدب إلا بعد الاستواء الذي يليق به، فلذلك ذكره حقه. والله تعالى أعلم.

ثم قال تعالى :
﴿ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ * ﴿ فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ * ﴿ وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ * ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ فأصبح ﴾ موسى ﴿ في المدينةِ ﴾ أي : مصر ﴿ خائفاً ﴾ على نفسه من قتله ؛ قَوَداً بالقبطي، وهذا الخوف أمر طبيعي لا ينافي الخصوصية، ﴿ يترقبُ ﴾ : ينتظر الأخبار عنه، أو ما يقال فيه، أو يترصد الاستفادة منه. وقال ابن عطاء : خائفاً على نفسه، يترقب نصرة ربه، ﴿ فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ﴾ : يستغيثه، مشتق من الصراخ ؛ لأنه يقع في الغالب عند الاستغاثة. والمعنى : أن الإسرائيلي الذي خلصه موسى استغاث به ثانياً من قبطي آخر، ﴿ قال له موسى ﴾ أي : للإسرائيلي :﴿ إنك لغويٌّ مبين ﴾ أي : خال عن الرشد، ظاهر الغي، فقد قاتلتَ بالأمس رجُلاً فقتلتُه بسببك. قال ابن عباس : أُتِي فرعون، فقيل له : إن بني إسرائيل قد قتلوا منا رجلاً، فالقصاص، فقال : ابغُوني القاتل والشهود، فبينما هم يطلبون إذ مر موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً آخر، يريد أن يسخره، فاستغاث به الإسرائيلي على الفرعوني، فوافق موسى نادماً على القتل، فقال للإسرائيلي : إنك لغوي مبين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية دليل على أن الخوف عند الدواهي الكبار لا ينافي الخصوصية ؛ لأنه أمر جِبِلِّي، لكنه يخف ويهون أمره، وفيها دليل على جواز الفرار من مواطن الهلاك، يفرّ من الله إلى الله، ولا ينافي التوكل، وقد اختفى صلى الله عليه وسلم من الكفار بغار ثور، واختفى الحسن البصري من الحَجَّاج، عند تلميذه حبيب العجمي.
وفيها أيضاً دليل على أن المعصية قد تكون سبباً في نيل الخصوصية، كأكل آدم من الشجرة، كان سبباً في نيل الخلافة، وعُمْرَةِ الأرض، وما نشأ من صُلبه من الأنبياء والأولياء وجهابذة العلماء، وكقتل موسى عليه السلام نفساً لم يُؤمر بقتلها، كان سبباً في خروجه للتربية عند شعيب عليه السلام، وتهيئته للنبوة والرسالة والاصطفائية، فكل ما يُوجب التواضع والانكسار يورث التقريب عند الملك الغفار، والحاصل : أن من سبقت له العناية، ونال من الأزل مقام المحبوبية ؛ صارت مساوئه محاسن، ومن سبق له العكس صارت محاسنه مساوئ. اللهم اجعل سيئاتنا سيئات من أحببت، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت. وفي الحديث :" إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب١ ".
قال في القوت : واعلم أن مسامحة، الله عز وجل لأوليائه - يعني : في هفواتهم - في ثلاث مقامات : أن يقيمه مَقَامَ حَبيبٍ صَديقٍ، لِمَا سبق من قدم صدق، فلا تنقصه الذنوب ؛ لأنه حبيب. المقام الثاني : أن يقيمه مقام الحياء منه، بإجلال وتعظيم، فيسمح له، وتصغر ذنوبه ؛ للإجلال والمنزلة، ولا يمكن كشف هذا المقام، إلا أنَّا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر طائفة فقال :" يدفع عنهم مساوئ أعمالهم بمحاسن أعمالهم ". المقام الثالث : أن يقيمه مقام الحزن والانكسار، والاعتراف بالذنب والإكثار، فإذا نظر حزنه وهمه، ورأى اعترافه وغمه، غفر له ؛ حياء منه ورحمة. هـ. وبالله التوفيق.

﴿ فلما أن أرادَ ﴾ موسى ﴿ أن يبطش بالذي ﴾ ؛ بالقبطي الذي ﴿ هو عدو لهما ﴾ ؛ لموسى وللإسرائيلي ؛ لأنه ليس على دينهما، أو : لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل، أي : فلما مدّ موسى يده ؛ ليبطش بالفرعوني، خشي الإسرائيلي أن يريده، حين قال :﴿ إنك لغوي مبين ﴾، فقال :﴿ يا موسى أتريدُ أن تقتلني كما قتلتَ نفساً بالأمس ﴾، يعني القبطي، ﴿ إنْ ﴾ ما ﴿ تريدُ إلا أن تكون جباراً ﴾ ؛ قتالاً بالغضب، ﴿ في الأرض ﴾ ؛ أرض مصر، ﴿ وما تريدُ أن تكون من المصلحين ﴾ في كظم الغيظ.
وقيل : القائل :﴿ يا موسى أتريد. . . ﴾ إلخ، هو القبطي، ولم يعلم أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، ولكن لما قصد أن يمنعه من الإسرائيلي استدل على أن الذي قتل صاحب هذا الرجل بالأمس هو موسى، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، فأمسك موسى عنه، ثم أخبر فرعون بذلك ؛ فأمر بقتل موسى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية دليل على أن الخوف عند الدواهي الكبار لا ينافي الخصوصية ؛ لأنه أمر جِبِلِّي، لكنه يخف ويهون أمره، وفيها دليل على جواز الفرار من مواطن الهلاك، يفرّ من الله إلى الله، ولا ينافي التوكل، وقد اختفى صلى الله عليه وسلم من الكفار بغار ثور، واختفى الحسن البصري من الحَجَّاج، عند تلميذه حبيب العجمي.
وفيها أيضاً دليل على أن المعصية قد تكون سبباً في نيل الخصوصية، كأكل آدم من الشجرة، كان سبباً في نيل الخلافة، وعُمْرَةِ الأرض، وما نشأ من صُلبه من الأنبياء والأولياء وجهابذة العلماء، وكقتل موسى عليه السلام نفساً لم يُؤمر بقتلها، كان سبباً في خروجه للتربية عند شعيب عليه السلام، وتهيئته للنبوة والرسالة والاصطفائية، فكل ما يُوجب التواضع والانكسار يورث التقريب عند الملك الغفار، والحاصل : أن من سبقت له العناية، ونال من الأزل مقام المحبوبية ؛ صارت مساوئه محاسن، ومن سبق له العكس صارت محاسنه مساوئ. اللهم اجعل سيئاتنا سيئات من أحببت، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت. وفي الحديث :" إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب١ ".
قال في القوت : واعلم أن مسامحة، الله عز وجل لأوليائه - يعني : في هفواتهم - في ثلاث مقامات : أن يقيمه مَقَامَ حَبيبٍ صَديقٍ، لِمَا سبق من قدم صدق، فلا تنقصه الذنوب ؛ لأنه حبيب. المقام الثاني : أن يقيمه مقام الحياء منه، بإجلال وتعظيم، فيسمح له، وتصغر ذنوبه ؛ للإجلال والمنزلة، ولا يمكن كشف هذا المقام، إلا أنَّا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر طائفة فقال :" يدفع عنهم مساوئ أعمالهم بمحاسن أعمالهم ". المقام الثالث : أن يقيمه مقام الحزن والانكسار، والاعتراف بالذنب والإكثار، فإذا نظر حزنه وهمه، ورأى اعترافه وغمه، غفر له ؛ حياء منه ورحمة. هـ. وبالله التوفيق.

قلت : جملة ( يسعى ) : حال من ( رجل ) ؛ لأنه وصف بالجار.
﴿ وجاء رجلٌ من أقصى المدينة ﴾ ؛ من آخرها، واسمه :" حزقيل بن حبورا "، مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون، ﴿ يسعى ﴾ : يُسرع في مشيه، أو : يمشي على رجله، ﴿ قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ﴾، أي : يتشاورون في قتلك، ويأمر بعضهم بعضاً بذلك. والائتمار : التشاور، ﴿ فاخْرجْ ﴾ من المدينة، ﴿ إني لك من الناصحين ﴾، فاللام في ( لك ) : للبيان، وليس بصلة ؛ لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، إلا أن يُتَسَامحَ في المجرور.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية دليل على أن الخوف عند الدواهي الكبار لا ينافي الخصوصية ؛ لأنه أمر جِبِلِّي، لكنه يخف ويهون أمره، وفيها دليل على جواز الفرار من مواطن الهلاك، يفرّ من الله إلى الله، ولا ينافي التوكل، وقد اختفى صلى الله عليه وسلم من الكفار بغار ثور، واختفى الحسن البصري من الحَجَّاج، عند تلميذه حبيب العجمي.
وفيها أيضاً دليل على أن المعصية قد تكون سبباً في نيل الخصوصية، كأكل آدم من الشجرة، كان سبباً في نيل الخلافة، وعُمْرَةِ الأرض، وما نشأ من صُلبه من الأنبياء والأولياء وجهابذة العلماء، وكقتل موسى عليه السلام نفساً لم يُؤمر بقتلها، كان سبباً في خروجه للتربية عند شعيب عليه السلام، وتهيئته للنبوة والرسالة والاصطفائية، فكل ما يُوجب التواضع والانكسار يورث التقريب عند الملك الغفار، والحاصل : أن من سبقت له العناية، ونال من الأزل مقام المحبوبية ؛ صارت مساوئه محاسن، ومن سبق له العكس صارت محاسنه مساوئ. اللهم اجعل سيئاتنا سيئات من أحببت، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت. وفي الحديث :" إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب١ ".
قال في القوت : واعلم أن مسامحة، الله عز وجل لأوليائه - يعني : في هفواتهم - في ثلاث مقامات : أن يقيمه مَقَامَ حَبيبٍ صَديقٍ، لِمَا سبق من قدم صدق، فلا تنقصه الذنوب ؛ لأنه حبيب. المقام الثاني : أن يقيمه مقام الحياء منه، بإجلال وتعظيم، فيسمح له، وتصغر ذنوبه ؛ للإجلال والمنزلة، ولا يمكن كشف هذا المقام، إلا أنَّا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر طائفة فقال :" يدفع عنهم مساوئ أعمالهم بمحاسن أعمالهم ". المقام الثالث : أن يقيمه مقام الحزن والانكسار، والاعتراف بالذنب والإكثار، فإذا نظر حزنه وهمه، ورأى اعترافه وغمه، غفر له ؛ حياء منه ورحمة. هـ. وبالله التوفيق.

﴿ فخرج منها ﴾ ؛ من مصر ﴿ خائفاً يترقّبُ ﴾ : ينتظر الطلب ويتوقعه، ﴿ قال ربّ نجني من القوم الظالمين ﴾ ؛ قوم فرعون. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية دليل على أن الخوف عند الدواهي الكبار لا ينافي الخصوصية ؛ لأنه أمر جِبِلِّي، لكنه يخف ويهون أمره، وفيها دليل على جواز الفرار من مواطن الهلاك، يفرّ من الله إلى الله، ولا ينافي التوكل، وقد اختفى صلى الله عليه وسلم من الكفار بغار ثور، واختفى الحسن البصري من الحَجَّاج، عند تلميذه حبيب العجمي.
وفيها أيضاً دليل على أن المعصية قد تكون سبباً في نيل الخصوصية، كأكل آدم من الشجرة، كان سبباً في نيل الخلافة، وعُمْرَةِ الأرض، وما نشأ من صُلبه من الأنبياء والأولياء وجهابذة العلماء، وكقتل موسى عليه السلام نفساً لم يُؤمر بقتلها، كان سبباً في خروجه للتربية عند شعيب عليه السلام، وتهيئته للنبوة والرسالة والاصطفائية، فكل ما يُوجب التواضع والانكسار يورث التقريب عند الملك الغفار، والحاصل : أن من سبقت له العناية، ونال من الأزل مقام المحبوبية ؛ صارت مساوئه محاسن، ومن سبق له العكس صارت محاسنه مساوئ. اللهم اجعل سيئاتنا سيئات من أحببت، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت. وفي الحديث :" إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب١ ".
قال في القوت : واعلم أن مسامحة، الله عز وجل لأوليائه - يعني : في هفواتهم - في ثلاث مقامات : أن يقيمه مَقَامَ حَبيبٍ صَديقٍ، لِمَا سبق من قدم صدق، فلا تنقصه الذنوب ؛ لأنه حبيب. المقام الثاني : أن يقيمه مقام الحياء منه، بإجلال وتعظيم، فيسمح له، وتصغر ذنوبه ؛ للإجلال والمنزلة، ولا يمكن كشف هذا المقام، إلا أنَّا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر طائفة فقال :" يدفع عنهم مساوئ أعمالهم بمحاسن أعمالهم ". المقام الثالث : أن يقيمه مقام الحزن والانكسار، والاعتراف بالذنب والإكثار، فإذا نظر حزنه وهمه، ورأى اعترافه وغمه، غفر له ؛ حياء منه ورحمة. هـ. وبالله التوفيق.

ثم ذكر توجه موسى إلى مدين، واتصاله بشعيب – عليهما السلام – فقال :
﴿ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ ﴾ * ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ * ﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولما توجَّه ﴾ موسى ﴿ تلقاءَ مَدْينَ ﴾ ؛ نحوها وجهتها.
ومدين : قرية شعيب، سُميت بمدين بن إبراهيم، كما سميت المدائن باسم أخيه مدائن، ويقال له أيضاً :" مدان بن إبراهيم "، ولم تكن مدين في سلطان فرعون، وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام، ولعله إنما لم يتسلط عليها ؛ لِمَا وصله من خبر إهلاك أهلها لما طغوا على أنبيائهم، فخاف على نفسه. قال ابن عباس : خرج موسى، ولم يكن له علم بالطريق إلا حسن الظن بربه.
﴿ قال عسى ربي أن يهديني سواءَ السبيل ﴾ أي : وسطه ونهجه. فلما خرج، عَرَض له ثَلاَثُ طرق، فأخذ في أوسطها، وجاء الطلاب عَقِبَهُ، فأخذوا في الآخَرَيْنِ. رُوي أن مَلكاً جاءه على فرس بيده عَنَزَة، فانطلق به إلى مدين. ورُوي أنه خرج بلا زاد ولا درهم، ولا ظهر، ولا حِذاء - أي : نعل -، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، فما بلغ مدين حتى وقع خُفُّ قَدَمِهِ، وخضرة البقل ترى على بطنه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ولما توجه القلبُ تلقاء مَدْيَنِ المآرب، ومنتهى الرغائب - وهي الحضرة القدسية - قال : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل، أي : وسط الطريق التي توصل إليها، وهو شيخ التربية. ولَمَّا ورد مناهله، ومحلَ شربه وجد عليه أمة من الناس يسقون قلوبهم من شراب تلكَ الخمرة، ويطلبون مثل ما يطلب، فإن كان قوياً في حاله ؛ وصل من كان ضعيفاً وسقى له، ثم نزل إلى ظل المعرفة، في نسيم برد الرضا والتسليم، قائلاً، بلسان التضرع، سائلاً من الله المزيد : ربِّ إني لما أنزلت إليّ من خير الدارين، وغنى الأبد، فقير محتاج إلى مزيد الفضل والكرم.
وقال في لطائف المنن :﴿ ثم تولى إلى الظل ﴾ ؛ قصداً لشكر الله تعالى على ما ناله من النعمة - يعني : نعمة الظل الحسي - وجعله أصلاً في استعمال الطيبات، وتناولها بقصد الشكر، ومثله في التنوير. وفي سنن أبي داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :" كان صلى الله عليه وسلم يُسْتعذب له الماء من بُيوت السُّقيا١ "، قال ابن قتيبة : هي عَيْنٌ، بينها وبين المدينة يومان. هـ. وكان الشيخ ابن مشيش يقول لأبي الحسن رضي الله عنه :( يا أبا الحسن، بَرِّد الماءَ ؛ فإن النفس إذا شربت الماء البارد ؛ حمدت الله بجميع الجوارح، وإذا شربت الماء السخن ؛ حمدت الله بكزازة ).

﴿ ولما وَرَدَ ﴾ ؛ وصل ﴿ ماء مدين ﴾ ؛ بئراً لهم، ﴿ وجد عليه ﴾ ؛ على جانب البئر ﴿ أُمّةً ﴾ ؛ جماعة كثيرة ﴿ من الناس ﴾ ؛ من أناس مختلفين ﴿ يسقون ﴾ مواشيهم، ﴿ ووجد من دونِهِمُ ﴾ ؛ في مكان أسفل من مكانهم ﴿ امرأتين تَذُودَان ﴾ : تطردان غَنَمَهُمَا عن الماء، حتى تَصْدُرَ مواشي الناس ثم تسقيان ؛ لأن على الماء من هو أقوى منهما، فلا يتمكنان من السقي. أو : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم. والذود : الطرد والدفع.
﴿ قال ﴾ لهما موسى :﴿ ما خطبُكما ﴾ : ما شأنكما لا تسقيان ؟ والأصل : ما مخطوبكما، أي : مطلوبكما، فسمي المطلوب خَطْباً، ﴿ قالتا لا نسقي ﴾ غنمنا ﴿ حتى يُصْدِرَ الرّعَاءُ ﴾، أي : يصرفوا مواشيهم، يقال : أصدر عن الماء وصدر، والمضارع : يَصْدُر ويَصْدِر، والرعاء : جمع راع، كقائم وقيام، والمعنى : لا نستطيع مزاحمة الرجال، فإذا صدروا سقينا مواشينا، ﴿ وأبُونا شيخ كبير ﴾ السن، لا يمكنه سقي الأغنام وهو شعيب بن نويْب بن مدين بن إبراهيم - عليهما السلام - وقيل : هو " يثرون " ابن أخي شعيب، وكان شعيب قد مات بعدما كفَّ بَصَرُهُ، ودفن بين المقام وزمزم. والأول أصح وأشهر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ولما توجه القلبُ تلقاء مَدْيَنِ المآرب، ومنتهى الرغائب - وهي الحضرة القدسية - قال : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل، أي : وسط الطريق التي توصل إليها، وهو شيخ التربية. ولَمَّا ورد مناهله، ومحلَ شربه وجد عليه أمة من الناس يسقون قلوبهم من شراب تلكَ الخمرة، ويطلبون مثل ما يطلب، فإن كان قوياً في حاله ؛ وصل من كان ضعيفاً وسقى له، ثم نزل إلى ظل المعرفة، في نسيم برد الرضا والتسليم، قائلاً، بلسان التضرع، سائلاً من الله المزيد : ربِّ إني لما أنزلت إليّ من خير الدارين، وغنى الأبد، فقير محتاج إلى مزيد الفضل والكرم.
وقال في لطائف المنن :﴿ ثم تولى إلى الظل ﴾ ؛ قصداً لشكر الله تعالى على ما ناله من النعمة - يعني : نعمة الظل الحسي - وجعله أصلاً في استعمال الطيبات، وتناولها بقصد الشكر، ومثله في التنوير. وفي سنن أبي داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :" كان صلى الله عليه وسلم يُسْتعذب له الماء من بُيوت السُّقيا١ "، قال ابن قتيبة : هي عَيْنٌ، بينها وبين المدينة يومان. هـ. وكان الشيخ ابن مشيش يقول لأبي الحسن رضي الله عنه :( يا أبا الحسن، بَرِّد الماءَ ؛ فإن النفس إذا شربت الماء البارد ؛ حمدت الله بجميع الجوارح، وإذا شربت الماء السخن ؛ حمدت الله بكزازة ).

﴿ فسقى لهما ﴾ أي : فسقى غنمهما لأجلهما ؛ رغبة في المعروف وإغاثة الملهوف، رُوي أنه نحى القوم عن رأس البئر، وسألهم دلواً، فأعطوه دلوهم، وقالوا : استق به، وكانت لا ينزعها إلا أربعون، فاستقى بها، وصبَها في الحوض، ودعا بالبركة. وقيل : كانت آبارهم مغطاة بحجار كبار، فعمد إلى بئر، وكان حجرها لا يرفع إلا جماعة، فرفعه وسقى للمرأتين. ووجه مطابقة جوابهما سؤاله : أنه سألهما عن سبب الذود، فقالتا : السبب في ذلك أن امرأتان مستورتان ضعيفتان، لا نقدر على مزاحمة الرجال، ونستحي من الاختلاط بهم، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا.
وإنما رضي شعيب عليه السلام لابنتيه بسقي الماشية ؛ لأن الأمر في نفسه مباح مع حصول الأمن، وأما المروءة فعادات الناس فيها متباينة، وأحوال العرب فيها خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصاً إذا كانت الضرورة. قاله النسفي. قلت : وقد كنت أعترض على أهل الجبل رَعْيَ النِّساءِ المواشي حتى تذكرت قضية ابنتي شعيب، لكن السلامة في زماننا هذا حبس النساء في الديار ؛ لكثرة أهل الفساد.
﴿ ثم ﴾ لما سقى لهما ﴿ تولى إلى الظل ﴾ ؛ ظل شجرة. عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله ؛ قال : أحييت ليلتين على جمل لي، حتى صبّحْت مدين، فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى، فإذا هي شجرة خضراء، فأخذ جملي يأكل منها ثم لفظها. ه. وفي الآية دليل على جواز الاستراحة والاستظلال في الدنيا، بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.
ثم بث شكواه لمولاه ﴿ فقال ربِّ إِني لِمَا أنزلتَ إليَّ من خيرٍ ﴾ قليل أو كثير ﴿ فقير ﴾ ؛ محتاج. قال ابن عباس : لقد قال ذلك وإن خضراء البقل لتتراءى في بطنه، من الهزال. قيل : لم يذق طعاماً منذ سبعة أيام، وقد لصق بظهره بَطْنُهُ، وما سأل الله تعالى الأكلة. وفي هذا تنبيه على هوان الدنيا على الله تعالى. وقال ابن عطاء : نظر من العبودية إلى الربوبية، وتكلم بلسان الافتقار، لما ورد على سره من الأنوار. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ولما توجه القلبُ تلقاء مَدْيَنِ المآرب، ومنتهى الرغائب - وهي الحضرة القدسية - قال : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل، أي : وسط الطريق التي توصل إليها، وهو شيخ التربية. ولَمَّا ورد مناهله، ومحلَ شربه وجد عليه أمة من الناس يسقون قلوبهم من شراب تلكَ الخمرة، ويطلبون مثل ما يطلب، فإن كان قوياً في حاله ؛ وصل من كان ضعيفاً وسقى له، ثم نزل إلى ظل المعرفة، في نسيم برد الرضا والتسليم، قائلاً، بلسان التضرع، سائلاً من الله المزيد : ربِّ إني لما أنزلت إليّ من خير الدارين، وغنى الأبد، فقير محتاج إلى مزيد الفضل والكرم.
وقال في لطائف المنن :﴿ ثم تولى إلى الظل ﴾ ؛ قصداً لشكر الله تعالى على ما ناله من النعمة - يعني : نعمة الظل الحسي - وجعله أصلاً في استعمال الطيبات، وتناولها بقصد الشكر، ومثله في التنوير. وفي سنن أبي داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :" كان صلى الله عليه وسلم يُسْتعذب له الماء من بُيوت السُّقيا١ "، قال ابن قتيبة : هي عَيْنٌ، بينها وبين المدينة يومان. هـ. وكان الشيخ ابن مشيش يقول لأبي الحسن رضي الله عنه :( يا أبا الحسن، بَرِّد الماءَ ؛ فإن النفس إذا شربت الماء البارد ؛ حمدت الله بجميع الجوارح، وإذا شربت الماء السخن ؛ حمدت الله بكزازة ).

ثم ذكر اتصاله بشعيب، فقال :
﴿ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ﴾ * ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ * ﴿ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾
قلت :( تمشي ) : حال من ( إحداهما )، و( على استحياء ) : حال من ضمير ( تمشي )، أي : تمشي مستحيية. و( القصص ) : مصدر، سُمِّيَ به المقصوص.
يقول الحق جل جلاله :﴿ فجاءته إحداهما ﴾ ؛ وهي التي تزوجها، وذلك أنه لما سقى لهما رجعا إلى أبيهما بغنمهما بِطاناً حُفَّلاً، فقال لهما : ما أعجلكما ؟ فقالتا له : وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا ؛ فسقى لنا أغنامنا، فقال لإحداهما : أدعيه، فجاءته ﴿ تمشي على استحياء ﴾ قد سترت وجهها بكفها، واستترت بكُمِّ درعها. وهذا دليل على كمال إيمانها وشرف عنصرها ؛ لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها، ولم تعلم أيجيبها أم لا ؟ فقالت :﴿ إن أبي يدعوك ليجزيك أجرَ ما سَقيت لنا ﴾، " ما " مصدرية، أي : أجر سُقْيَاك لنا، فتبعها موسى، فألزقت الريح ثوبها بجسدها، فوصفته، فقال لها : امشي خلفي، وانعتي الطريق، فإننا بَني يعقوب، لا ننظر إلى أعجاز النساء.
﴿ فلما جاءه وقصَّ عليه القَصص ﴾، أي : قصته وأحواله مع فرعون، وكيف أراد قَتْلَهُ، ﴿ قال ﴾ له :﴿ لا تخفْ نجوتَ من القوم الظالمين ﴾ ؛ فرعون وقومه ؛ إذ لا سلطان له على أرضنا - مدين -، أو : قَبِلَ الله دعاءك في قولك :﴿ رب نجني من القوم الظالمين ﴾. وفيه دليل على العمل بخير الواحد، ولو أنثى، والمشي مع أجنبية على ذلك الاحتياط والتورع. قاله النسفي. وفيه نظر ؛ لعصمة الأنبياء - عليهم السلام -، وما أخذ الأجر على البر والمعروف ؛ فقيل : لا بأس به عند الحاجة، كما كان لموسى عليه السلام، على أنه رُوي أنه لمّا قالت له :﴿ ليجزيك ﴾ ؛ كره ذلك. وإنما أجابها لئلا يخيب قصدها ؛ لأن للقاصد حرمة.
ولما وضع شعيب الطعام بين يديه ؛ امتنع، فقال شعيب : ألست جائعاً ؟ فقال : بلى، ولكن أخاف أن يكون عوضاً مما سَقَيْتُ لهما، وإنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا، ولا نأخذ على المعروف شيئاً، فقال شعيب : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا، فأكل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : فجاءته - أي : القلب - إحدى الخصلتين ؛ الفناء والبقاء، تمشي على مهل وقدر ؛ فإن الوصول إلى المقامات إنما يكون بتدريج، على حسب القَدَر السابق. قالت إحدى الخصلتين : إن ربي يدعوك إلى حضرته ؛ ليجزيك أجر ما سقيت، واستعملت في جانب الوصول إلينا. فلما جاءه، أي : وصل إليه، وتمكن منه، وقص عليه القصص، وهو ما جرى له مع نفسه وجنودها من المجاهدات والمكابدات، قال : لا تخف اليوم، حين وصلت إلينا، نجوت من القوم الظالمين، قالت إحداهما : يا رب استأجره في العبودية شكراً، إن خير من استأجرت القوي الأمين ؛ لأن عمله بالله، محفوفاً برعاية الله، قال : إني أريد أن أعطيك إحدى الخصلتين، إما الإقامة في الفناء المستغرِق، أو الرجوع إلى البقاء المستفيق، لتقوم بالأدب على أن تخدم ثماني حجج، فإن أتممت عشراً، لزيادة التمكين، فمن عندك، فأقل خدمة المريد للشيخ ثماني سنين، ونهايتها نهاية التمكين. قال الورتجبي : لأن شعيباً، عليه السلام رأى بنور النبوة أن موسى عليه السلام يبلغ درجة الكمال في ثماني حجج، ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك، ورأى أن كمال الكمال في عشر حجج ؛ لأنه رأى أن بعد العشرة لا يبقى مقام الإرادة، ويكون بعد ذلك حراً، ولذلك قال : وما أريد أن أشق عليك. هـ.
﴿ قالت إحداهما يا أبَتِ استأجرْهُ ﴾، أي : اتخذه أجيراً لرعي الغنم. رُوي أن كبراهما كانت تسمى :" صفراء "، والصغرى :" صفيراء "، وقيل :" صابورة " و " ليا ". وصفراء هي التي ذهبت به، وطلبت إلى أبيها أن يستأجره، وهي التي تزوجها. قاله وهب بن منبه وغيره فانظره مع ما في حديث، قال صلى الله عليه وسلم :" تزوج صغراهما، وقضى أوفاهما١ ". ويمكن الجمع بأن يكون زوّجه إحداهما ثم نقله إلى الأخرى.
ثم قالت التي طلبت استئجاره :﴿ إن خيرَ من استأجرت القويُّ الأمين ﴾، فقال : ما أَعْلَمَكِ بقوته وأمانته ؟ فذكرت نزع الدلو، أو رفع الحجر عن البئر، وأمْرها بالمشي خلفه. وفي رواية عند الثعلبي. أما قوته : فإنه عمد إلى صخرة لا يرفعها إلا أربعون رجلاً، فرفعها عن فم البئر. ثم ذكرتْ أمر الطريق. وقولها :﴿ إنَّ خيرَ من استأجرت. . . ﴾ إلخ : كلام جامع ؛ لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان ؛ الكفاية والأمانة، في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقيل : القوي في دينه، الأمين في جوارحه. وقد استغنت بهذا الكلام، الجاري مجرى المثل، عن أن تقول : استأجره لقوته وأمانته.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب، وصاحب يوسف في قوله :﴿ عَسَى أَن يَنفَعَنَا ﴾ [ يوسف : ٢١ ]، وأبو بكر في استخلافه عمر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : فجاءته - أي : القلب - إحدى الخصلتين ؛ الفناء والبقاء، تمشي على مهل وقدر ؛ فإن الوصول إلى المقامات إنما يكون بتدريج، على حسب القَدَر السابق. قالت إحدى الخصلتين : إن ربي يدعوك إلى حضرته ؛ ليجزيك أجر ما سقيت، واستعملت في جانب الوصول إلينا. فلما جاءه، أي : وصل إليه، وتمكن منه، وقص عليه القصص، وهو ما جرى له مع نفسه وجنودها من المجاهدات والمكابدات، قال : لا تخف اليوم، حين وصلت إلينا، نجوت من القوم الظالمين، قالت إحداهما : يا رب استأجره في العبودية شكراً، إن خير من استأجرت القوي الأمين ؛ لأن عمله بالله، محفوفاً برعاية الله، قال : إني أريد أن أعطيك إحدى الخصلتين، إما الإقامة في الفناء المستغرِق، أو الرجوع إلى البقاء المستفيق، لتقوم بالأدب على أن تخدم ثماني حجج، فإن أتممت عشراً، لزيادة التمكين، فمن عندك، فأقل خدمة المريد للشيخ ثماني سنين، ونهايتها نهاية التمكين. قال الورتجبي : لأن شعيباً، عليه السلام رأى بنور النبوة أن موسى عليه السلام يبلغ درجة الكمال في ثماني حجج، ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك، ورأى أن كمال الكمال في عشر حجج ؛ لأنه رأى أن بعد العشرة لا يبقى مقام الإرادة، ويكون بعد ذلك حراً، ولذلك قال : وما أريد أن أشق عليك. هـ.

١ أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٢/١٢٨..
﴿ قال ﴾ شعيب لموسى - عليهما السلام- :﴿ إني أُريد أن أُنكِحَك ﴾ : أُزوجك ﴿ إحدىَ ابنتي هاتينِ ﴾، وقوله :﴿ هاتين ﴾ يدل على أن له غيرهما. وهذه مواعدة منه، لا عقد، وإلا لقال : أنكحتك. ﴿ على أن تأجُرَنِي ﴾ أي : تكون أجيراً لي، من أجرته : إذا كنت له أجيراً ﴿ ثمانِيَ حِجَجٍ ﴾ ؛ سنين والحجة : السنة. والتزوج على رعي الغنم جائز في شرعنا، على خلاف في مذهبنا. ﴿ فإِن أتممتَ عشراً ﴾ أي : عشر حجج ﴿ فمن عندك ﴾ أي : فلذلك تفضلٌ منك، ليس بواجب عليك، أو : فإتمامه من عندك، ولا أحتمه عليك. ﴿ وما أريد أن أشق عليك ﴾ بإلزام أتم الأجلين. من المشقة، ﴿ ستجدني إن شاء الله من الصالحين ﴾ في حسن المعاملة، والوفاء بالعهد، أو مطلقاً. وعلق بالمشيئة، مراعاة لحسن الأدب مع الربوبية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : فجاءته - أي : القلب - إحدى الخصلتين ؛ الفناء والبقاء، تمشي على مهل وقدر ؛ فإن الوصول إلى المقامات إنما يكون بتدريج، على حسب القَدَر السابق. قالت إحدى الخصلتين : إن ربي يدعوك إلى حضرته ؛ ليجزيك أجر ما سقيت، واستعملت في جانب الوصول إلينا. فلما جاءه، أي : وصل إليه، وتمكن منه، وقص عليه القصص، وهو ما جرى له مع نفسه وجنودها من المجاهدات والمكابدات، قال : لا تخف اليوم، حين وصلت إلينا، نجوت من القوم الظالمين، قالت إحداهما : يا رب استأجره في العبودية شكراً، إن خير من استأجرت القوي الأمين ؛ لأن عمله بالله، محفوفاً برعاية الله، قال : إني أريد أن أعطيك إحدى الخصلتين، إما الإقامة في الفناء المستغرِق، أو الرجوع إلى البقاء المستفيق، لتقوم بالأدب على أن تخدم ثماني حجج، فإن أتممت عشراً، لزيادة التمكين، فمن عندك، فأقل خدمة المريد للشيخ ثماني سنين، ونهايتها نهاية التمكين. قال الورتجبي : لأن شعيباً، عليه السلام رأى بنور النبوة أن موسى عليه السلام يبلغ درجة الكمال في ثماني حجج، ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك، ورأى أن كمال الكمال في عشر حجج ؛ لأنه رأى أن بعد العشرة لا يبقى مقام الإرادة، ويكون بعد ذلك حراً، ولذلك قال : وما أريد أن أشق عليك. هـ.
﴿ قال ﴾ موسى عليه السلام :﴿ ذلك ﴾ العهد وعقد الأجرة ﴿ بيني وبينك ﴾ أي : ذلك الذي قُلْتَهُ، وشارطتني عليه، قائم بيننا جميعاً، لا يخرج واحد منا عنه. ثم قال :﴿ أيَّما الأجلين قضيتُ ﴾ أي : أيُّ الأجلين ؛ قضيت من الأجلين : العشر أو الثماني، ﴿ فلا عدوان عَلَيّ ﴾ أي : لا يتعدى عليّ في طلب الزيادة عليه، قال المبرد : قد علم أنه لا عدوان عليه في إتمامهما، ولكن جمعهما ليجعل الأقل كالأتم في الوفاء، وكما أن طلب الزيادة على الأتم عدوان فلذلك طلب الزيادة على الأقل. ﴿ والله على ما نقول وكيل ﴾ أي : رقيب وشهيد.
واختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح على قولين : أحدهما : أنه لا ينعقد إلا بشاهدين، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك : ينعقد بدون شهود ؛ لأنه عَقْدُ معاوضة، فلا يشترط فيه الإشهاد، وإنما يشترط فيه الإعلان، والإظهار بالدف والدخان ليتميز من السفاح، ويجب عند الدخول.
رُوي أن شعيباً كانت عنده عصِيّ الأنبياء - عليهم السلام -، فقال لموسى بالليل : ادخل ذلك البيت فخذ عصاً من تلك العصي، فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة، ولم يزل الأنبياء - عليهم السلام - يتوارثونها، حتى وقعت إلى شعيب، فلما أخذها، قال له شعيب : ردها وخذ غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات. - وفي رواية السدي : أمر ابنته أن تأتيه بعصا فجاءته بها، فلما رآها الشيخ قال : آتيه بغيرها، فألقتها لتأخذ غيرها، فلا تصير في يده إلا هي، مراراً، فرفعتها إليه، فعلم أن له شأناً.
ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغتَ مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك، فإن الكلأ، وإن كان بها أكثر، إلا أن فيها تنيناً، أخشاه عليك وعلى الغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها، فمشى على أثرها، فإذا عشب وريف لم ير مثله، فنام، فإذا التنين قد أقبل، فحاربته العصا حتى قتلته، وعادت إلى جنب موسى دامي، فلما أبصرها دامية، والتنينَ مقتولاً ؛ ارتاح لذلك. ولما رجع إلى شعيب بالغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن، وأخبره موسى، فرح، وعلم أن لموسى شأناً، وقال له : إني وهبت لك من نتاج غنمي، هذا العام، كُلَّ أَدْرَعَ وَدَرْعَاءَ - أي : كل جدي أبلق، وأثنى بلقاء - فأوحى الله تعالى إلى موسى في المنام : أن اضرب بعصاك الماء الذي تسقى منه الغنم، فضرب، ثم سقى الأغنام، فوضعت كلها بلقاء، فسلمها شعيب إليه.
وذكر الإمام اللجائي في كتابه ( قطب العارفين ) : أن موسى عليه السلام انتهى، ذات يوم، بأغنامه إلى واد كثير الذئاب، وكان قد بلغ به التعب، فبقي متحيراً، إن اشتغل بحفْظ الغنم عجز عن ذلك ؛ لغلبة النوم عليه والتعب، وإن هو طلب الراحة، وثبَت الذئابُ على الغنم، فرمى السماء بطرفه، وقال : إلهي إنه أحاط علمك، ونفذت إرادتك، وسبق تقديرك، ثم وضع رأسه ونام. فلما استيقظ ؛ وجد ذئباً واضعاً عصاه على عاتقه، وهو يرعى الغنم، فتعجب موسى من ذلك، فأوحى الله إليه : يا موسى ؛ كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد. قال : فهذه إشارة تدل على أن : مَنْ هَرَبَ مِنَ الله إلى الله ؛ كفاه الله، عز وجل، مَنْ دُونَهُ. ه. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : فجاءته - أي : القلب - إحدى الخصلتين ؛ الفناء والبقاء، تمشي على مهل وقدر ؛ فإن الوصول إلى المقامات إنما يكون بتدريج، على حسب القَدَر السابق. قالت إحدى الخصلتين : إن ربي يدعوك إلى حضرته ؛ ليجزيك أجر ما سقيت، واستعملت في جانب الوصول إلينا. فلما جاءه، أي : وصل إليه، وتمكن منه، وقص عليه القصص، وهو ما جرى له مع نفسه وجنودها من المجاهدات والمكابدات، قال : لا تخف اليوم، حين وصلت إلينا، نجوت من القوم الظالمين، قالت إحداهما : يا رب استأجره في العبودية شكراً، إن خير من استأجرت القوي الأمين ؛ لأن عمله بالله، محفوفاً برعاية الله، قال : إني أريد أن أعطيك إحدى الخصلتين، إما الإقامة في الفناء المستغرِق، أو الرجوع إلى البقاء المستفيق، لتقوم بالأدب على أن تخدم ثماني حجج، فإن أتممت عشراً، لزيادة التمكين، فمن عندك، فأقل خدمة المريد للشيخ ثماني سنين، ونهايتها نهاية التمكين. قال الورتجبي : لأن شعيباً، عليه السلام رأى بنور النبوة أن موسى عليه السلام يبلغ درجة الكمال في ثماني حجج، ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك، ورأى أن كمال الكمال في عشر حجج ؛ لأنه رأى أن بعد العشرة لا يبقى مقام الإرادة، ويكون بعد ذلك حراً، ولذلك قال : وما أريد أن أشق عليك. هـ.
ثم ذكر رجوع موسى إلى مصر، فقال :
﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيا آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ * ﴿ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ * ﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ﴾ * ﴿ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُواءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ فلما قضى موسى الأجلَ ﴾، قال صلى الله عليه وسلم :" قضى أبعدهما وأطيبهما١ "، وفي رواية :" أبرهما وأوفاهما " ﴿ وسارَ بأهله ﴾ أي : امرأته، نحو مصر، قال مجاهد : ثم استأذن موسى أن يزور أهله بمصر، فأذن له، فسار بأهله إلى البَرِّيَّةِ، فأوى إلى جانب الطور الغربي الأيمن، في ليلة مظلمة شديدة البرد، وكان أخذ على غير طريق، يخاف ملوك الشام - قلت : ولعلهم كانوا من تحت يد فرعون - فأخذ امْرَأَتَهُ الطَّلقُ، فقدح زنده، فلم يور، فآنس من جانب الطور ناراً. ه.
وقال ابن عطاء : لما تم أجل المحنة، ودنت أيام الزلفة، وظهرت أنوار النبوة، سار بأهله ؛ ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه. ه. ﴿ آنس ﴾ أي : أبصر ﴿ من جانب الطُور ﴾ أي : من الجهة التي تِلْوَ الطورِ ﴿ ناراً قال لأهله امكثوا إني آنستُ ناراً لعلي آتيكم منها بخبر ﴾ عن الطريق ؛ لأنه كان ضل عنها، ﴿ أو جذوة من النار ﴾ أي : قطعة وشُعلة منها، والجُذوة - مثلثة الجيم : العُود الذي احترق بعضه، وجمعه :" جِذّى ". ﴿ لعلكم تصطلون ﴾ ؛ تستدفئون بها. والاصطلاء على النار سُنَّة المتواضعين. وفي بعض الأخبار :" اصطلوا ؛ فإن الجبابرة لا يصطلون ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تقدم في سورة " طه " ١ بعض إشارتها. ويؤخذ من الآية أن تزوج المريد، بعد كمال تربيته، كمال، وأما قبل كماله : فإن كان بإذن شيخه ؛ فلا يضره. وربما يتربى له اليقين أكثر من غيره. وقوله تعالى :﴿ وسار بأهله ﴾ ؛ قال الورتجبي : افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار. هـ. وقوله تعالى :﴿ آنست ناراً ﴾ ؛ قال الورتجبي : الحكمة في ذلك : أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة، لذلك تجلى النور في النار ؛ لاستئناسه بلباس الاستئناس، ولا تخلوا النار من الاستئناس، خاصة في الشتاء، وكان شتاءً، فتجلى الحق بالنور في لباس النار ؛ لأنه كان في طلب النار، فأخذ الحق مراده، وتجلى مِنْ حَيْثُ إِرَادَته، وهو سنة الله تعالى. هـ.
وقوله تعالى :﴿ من الشجرة ﴾ ؛ أي : نودي منها حقيقة ؛ إذ ليس في الوجود إلا تجليات الحق ومظاهره، فيكلم عباده من حيث شاء منها. قال في العوارف : الصوفي ؛ لتجرده، يشهد التالي كشجرة موسى، حيث أسمعه الله خطابه منها، بأني أنا الله لا إله إلا أنا. هـ. فأهل التوحيد الخاص لا يسمعون إلا من الله، بلا واسطة، قد سقطت الوسائط في حقهم، حين غرقوا في بحر شهود الذات، فافهم. وقال في القوت : كانت الشجرة وجهة موسى عليه السلام، كلمة الله عز وجل منها، كما قال بعضهم : إن قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ﴾ [ الأعراف : ١٠٧، والشعراء : ٣٢ ]، أي : بالجبل، كان الجبل من جهة الحس حجاباً لموسى، كشفه الله عنه، فتجلى به، كما قال :﴿ من الشجرة ﴾ ؛ فكانت الشجرة وجهة له عليه السلام هـ، بإيضاح. والله تعالى أعلم.


١ أخرجه البخاري في الشهادات حديث ٢٦٨٤..
﴿ فلما أتاها نُودي من شاطئ الوادِ الأيمنِ ﴾ بالنسبة إلى موسى، أي : عين يمين موسى، ﴿ في البقعة المباركةِ ﴾ بتكليم الله تعالى فيها، ﴿ من الشجرة ﴾ ؛ بدل من " شاطئ " : بَدَلَ اشتمالٍ أي : من ناحية الشجرة، وهو العنَّاب، أو العوسج، أو : سمرة. وقال وهب : عُليقاً. ﴿ أن يا موسى ﴾. أي : يا موسى، أو : إنه يا موسى ﴿ إني أنا الله ربُّ العالمين ﴾، قال البيضاوي : هذا، وإن خالف ما في " طه " و " النمل " ؛ لفظاً، فهو طبْقُهُ في المقصود. ه.
قال جعفر الصادق : أبصر ناراً، دلته على الأنوار ؛ لأنه رأى النور على هيئة النار، فلما دنا منها ؛ شملته أنوار القدس، وأحاطت به جلابيب الأنس، فخاطبه الله بألطف خطاب، واستدعى منه أحسن جواب، فصار بذلك مُكَلَّماً شريفاً، أُعْطِيَ ما سأل، وأمن ممن خاف. ه.
قال القشيري : فكان موسى عند الشجرة، والنداء من الله لا منها، وقد حصل الإجماع أن موسى، تلك الليلة، سمع كلام الله، ولو كان النداء من الشجرة ؛ لكانت المتكلمة هي، فلأجل الإجماع قلنا : لم يكن النداء منها، وإلا فنحن نجوز أن يخلق الله نداء في الشجرة. ه. قلت : وسيأتي في الإشارة ما لأهل التوحيد الخاص، وما قاله - هو مذهب أهل الظاهر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تقدم في سورة " طه " ١ بعض إشارتها. ويؤخذ من الآية أن تزوج المريد، بعد كمال تربيته، كمال، وأما قبل كماله : فإن كان بإذن شيخه ؛ فلا يضره. وربما يتربى له اليقين أكثر من غيره. وقوله تعالى :﴿ وسار بأهله ﴾ ؛ قال الورتجبي : افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار. هـ. وقوله تعالى :﴿ آنست ناراً ﴾ ؛ قال الورتجبي : الحكمة في ذلك : أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة، لذلك تجلى النور في النار ؛ لاستئناسه بلباس الاستئناس، ولا تخلوا النار من الاستئناس، خاصة في الشتاء، وكان شتاءً، فتجلى الحق بالنور في لباس النار ؛ لأنه كان في طلب النار، فأخذ الحق مراده، وتجلى مِنْ حَيْثُ إِرَادَته، وهو سنة الله تعالى. هـ.
وقوله تعالى :﴿ من الشجرة ﴾ ؛ أي : نودي منها حقيقة ؛ إذ ليس في الوجود إلا تجليات الحق ومظاهره، فيكلم عباده من حيث شاء منها. قال في العوارف : الصوفي ؛ لتجرده، يشهد التالي كشجرة موسى، حيث أسمعه الله خطابه منها، بأني أنا الله لا إله إلا أنا. هـ. فأهل التوحيد الخاص لا يسمعون إلا من الله، بلا واسطة، قد سقطت الوسائط في حقهم، حين غرقوا في بحر شهود الذات، فافهم. وقال في القوت : كانت الشجرة وجهة موسى عليه السلام، كلمة الله عز وجل منها، كما قال بعضهم : إن قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ﴾ [ الأعراف : ١٠٧، والشعراء : ٣٢ ]، أي : بالجبل، كان الجبل من جهة الحس حجاباً لموسى، كشفه الله عنه، فتجلى به، كما قال :﴿ من الشجرة ﴾ ؛ فكانت الشجرة وجهة له عليه السلام هـ، بإيضاح. والله تعالى أعلم.

ثم قال تعالى :﴿ وأن أَلْق عَصَاكَ ﴾، أي : نودي : أن ألق عصاك، فألقاها، فقلبها الله ثعباناً، ﴿ فلما رآها تهتزُّ ﴾ ؛ تتحرك ﴿ كأنها جانٌّ ﴾ ؛ حية رقيقة. فإن قيل : كيف قال في موضع :( كأنها جان )، وفي أخرى :﴿ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] ؟ قلت : هي في أول أمرها جان، وفي آخر أمرها ثعبان ؛ لأنها كانت تصير حية على قدر العصا، ثم لا تزال تنتفخ حتى تصير كالثعبان، أو : يُريد في سرعة الجان وخفته، وفي قوة الثعبان. فلما رآها كذلك ﴿ ولّى مُدْبِراً ولم يُعقِّبْ ﴾ ؛ ولم يرجع عقبه. فقيل له :﴿ يا موسى أقبلْ ولا تخفْ إنك من الآمنين ﴾، أي : أمنت من أن ينالك مكروه من الحية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تقدم في سورة " طه " ١ بعض إشارتها. ويؤخذ من الآية أن تزوج المريد، بعد كمال تربيته، كمال، وأما قبل كماله : فإن كان بإذن شيخه ؛ فلا يضره. وربما يتربى له اليقين أكثر من غيره. وقوله تعالى :﴿ وسار بأهله ﴾ ؛ قال الورتجبي : افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار. هـ. وقوله تعالى :﴿ آنست ناراً ﴾ ؛ قال الورتجبي : الحكمة في ذلك : أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة، لذلك تجلى النور في النار ؛ لاستئناسه بلباس الاستئناس، ولا تخلوا النار من الاستئناس، خاصة في الشتاء، وكان شتاءً، فتجلى الحق بالنور في لباس النار ؛ لأنه كان في طلب النار، فأخذ الحق مراده، وتجلى مِنْ حَيْثُ إِرَادَته، وهو سنة الله تعالى. هـ.
وقوله تعالى :﴿ من الشجرة ﴾ ؛ أي : نودي منها حقيقة ؛ إذ ليس في الوجود إلا تجليات الحق ومظاهره، فيكلم عباده من حيث شاء منها. قال في العوارف : الصوفي ؛ لتجرده، يشهد التالي كشجرة موسى، حيث أسمعه الله خطابه منها، بأني أنا الله لا إله إلا أنا. هـ. فأهل التوحيد الخاص لا يسمعون إلا من الله، بلا واسطة، قد سقطت الوسائط في حقهم، حين غرقوا في بحر شهود الذات، فافهم. وقال في القوت : كانت الشجرة وجهة موسى عليه السلام، كلمة الله عز وجل منها، كما قال بعضهم : إن قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ﴾ [ الأعراف : ١٠٧، والشعراء : ٣٢ ]، أي : بالجبل، كان الجبل من جهة الحس حجاباً لموسى، كشفه الله عنه، فتجلى به، كما قال :﴿ من الشجرة ﴾ ؛ فكانت الشجرة وجهة له عليه السلام هـ، بإيضاح. والله تعالى أعلم.

و﴿ اسلكْ ﴾ : أَدْخِلْ ﴿ يدكَ في جَيْبِكَ ﴾ ؛ جيب قميصك ﴿ تخرج بيضاءَ ﴾ لها شعاع كشعاع الشمس ﴿ من غير سُوءٍ ﴾ ؛ برص. ﴿ واضمم إليك جناحكَ من الرَّهْبِ ﴾، أي : الخوف، فيه لغات :" الرُّهبُ "، بفتحتين، وبالفتح والسكون، وبالضم معه، وبضمتين. والمعنى : واضمم يدك إلى صدرك ؛ يذهب ما لحقك من الخوف لأجل الحية، وعن ابن عباس رضي الله عنه :( كل خائف، إذا وضع يده على صدره، ذهب خوفه ). وقيل : المراد بضم يده إلى جناحه تجلده، وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية، حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر ؛ لأنه إذا خاف ؛ نشر جناحيه وأرخاهما.
﴿ فذانِك ﴾ أي : اليد والعصا، ومن شدد ؛ فإحدى النونين عِوَضٌ من المحذوف، ﴿ بُرهانان ﴾ أي : حجتان نيرتان. وسميت الحجة برهاناً ؛ لإنارتها، من قولهم : بَره الشيء : إذا ابيض، والمرأة بَرهَاءُ وَبرَهْرَهَةٌ : أي : بيضاء. ﴿ من ربك إلى فرعون وملئه ﴾ أي : أرسلناك إلى فرعون وقومه بهاتين الحجتين، ﴿ إنهم كانوا قوماً فاسقين ﴾ : خارجين عن الحق، كافرين بالله ورسوله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تقدم في سورة " طه " ١ بعض إشارتها. ويؤخذ من الآية أن تزوج المريد، بعد كمال تربيته، كمال، وأما قبل كماله : فإن كان بإذن شيخه ؛ فلا يضره. وربما يتربى له اليقين أكثر من غيره. وقوله تعالى :﴿ وسار بأهله ﴾ ؛ قال الورتجبي : افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار. هـ. وقوله تعالى :﴿ آنست ناراً ﴾ ؛ قال الورتجبي : الحكمة في ذلك : أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة، لذلك تجلى النور في النار ؛ لاستئناسه بلباس الاستئناس، ولا تخلوا النار من الاستئناس، خاصة في الشتاء، وكان شتاءً، فتجلى الحق بالنور في لباس النار ؛ لأنه كان في طلب النار، فأخذ الحق مراده، وتجلى مِنْ حَيْثُ إِرَادَته، وهو سنة الله تعالى. هـ.
وقوله تعالى :﴿ من الشجرة ﴾ ؛ أي : نودي منها حقيقة ؛ إذ ليس في الوجود إلا تجليات الحق ومظاهره، فيكلم عباده من حيث شاء منها. قال في العوارف : الصوفي ؛ لتجرده، يشهد التالي كشجرة موسى، حيث أسمعه الله خطابه منها، بأني أنا الله لا إله إلا أنا. هـ. فأهل التوحيد الخاص لا يسمعون إلا من الله، بلا واسطة، قد سقطت الوسائط في حقهم، حين غرقوا في بحر شهود الذات، فافهم. وقال في القوت : كانت الشجرة وجهة موسى عليه السلام، كلمة الله عز وجل منها، كما قال بعضهم : إن قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ﴾ [ الأعراف : ١٠٧، والشعراء : ٣٢ ]، أي : بالجبل، كان الجبل من جهة الحس حجاباً لموسى، كشفه الله عنه، فتجلى به، كما قال :﴿ من الشجرة ﴾ ؛ فكانت الشجرة وجهة له عليه السلام هـ، بإيضاح. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر اعتذار موسى، وطلبه الإعانة بأخيه، فقال :
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾ * ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾ * ﴿ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ قال ﴾ موسى - لما كُلف بالرسالة إلى فرعون :﴿ ربِّ إني قتلتُ منهم نفساً فأخاف أن يقتلونِ ﴾ بها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا اجتمع في زمانٍ نبيان، أو : وليان، لا تجدهما إلا متخالفين في القوة والليونة، أو في السكر والصحو، فكان مُوسَى في غاية القوة، وأخوه في غاية الليونة، وكان موسى عليه السلام في أول الرسالة غالباً عليه الجذب، وأخوه غالباً عليه الصحو، فلذلك استعان به. قال الورتجبي : افهَمْ أن مقام الفصاحة هو مقام الصحو والتمكين، الذي يقدر صاحبه أن يخبر عن الحق وأسراره، بعبارة لا تكون بشيعة في موازين العلم. وهذا حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال :" أنا أفصح العرب١ " و " بُعثتُ بجوامع الكلم٢ ". وهذه قدرته قادرية اتصف بها العارف المتمكن، الذي بلغ مشاهدة الخاص، ومخاطبة الخاص، وكان موسى عليه السلام في محل السكر في ذلك الوقت، ولم يطق أن يعبر عن حاله كما كان ؛ لأن كلامه، لو خرج على وزان حاله، يكون على نعوت الشطح، عظيماً في آذان الخلق، وكلام السكران ربما يفتتن به الخلق، لذلك سأل مقام الصحو والتمكين بقوله :﴿ واحلل عقدة من لساني ﴾ ؛ لأن كلامه من بحر المكافحة والمواجهة الخاصة، التي كان مخصوصاً بها عن أخيه. هـ.
﴿ وأخي هارونُ هو أفصح مني لساناً فأرسِلْه معي رِدْءاً ﴾ ؛ أي : عوناً. يقال : ردأته : أعنته. وقرأ نافع : بالتخفيف، ﴿ يُصَدِّقني ﴾ : جواب الأمر، ومن رفعه ؛ جعله صفة لردء، أي : ردءاً مصدقاً لي. ومعنى تصديقه : إعانته بزيادة البيان، في مظان الجدال، إن احتاج إليه ؛ ليثبت دعواه، لا أن يقول له : صدقت، ففضل اللسان إنما يحتاج إليه لتقرير البرهان، وأما قوله : صدقت ؛ فسَحْبَانُ وبَاقِلٌ فيه مستويان. ﴿ إِني أخاف أن يُكذبون ﴾ في دعوى الرسالة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا اجتمع في زمانٍ نبيان، أو : وليان، لا تجدهما إلا متخالفين في القوة والليونة، أو في السكر والصحو، فكان مُوسَى في غاية القوة، وأخوه في غاية الليونة، وكان موسى عليه السلام في أول الرسالة غالباً عليه الجذب، وأخوه غالباً عليه الصحو، فلذلك استعان به. قال الورتجبي : افهَمْ أن مقام الفصاحة هو مقام الصحو والتمكين، الذي يقدر صاحبه أن يخبر عن الحق وأسراره، بعبارة لا تكون بشيعة في موازين العلم. وهذا حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال :" أنا أفصح العرب١ " و " بُعثتُ بجوامع الكلم٢ ". وهذه قدرته قادرية اتصف بها العارف المتمكن، الذي بلغ مشاهدة الخاص، ومخاطبة الخاص، وكان موسى عليه السلام في محل السكر في ذلك الوقت، ولم يطق أن يعبر عن حاله كما كان ؛ لأن كلامه، لو خرج على وزان حاله، يكون على نعوت الشطح، عظيماً في آذان الخلق، وكلام السكران ربما يفتتن به الخلق، لذلك سأل مقام الصحو والتمكين بقوله :﴿ واحلل عقدة من لساني ﴾ ؛ لأن كلامه من بحر المكافحة والمواجهة الخاصة، التي كان مخصوصاً بها عن أخيه. هـ.
﴿ قال سنشُدُّ عَضُدَك بأخيك ﴾ أي : سنقويك به ؛ إذ اليد تشد بشدة العضد ؛ لأنه قوام اليد، فشد العضد كناية عن التقوية ؛ لأن العضد، إذا اشتد، قَوِيَ على محاولة الأمور، أي : سنعينك بأخيك، ﴿ ونجعلُ لكما سلطاناً ﴾ ؛ غلبة وتسلطاً وهيبة في قلوب الأعداء، ﴿ فلا يَصِلُون إليكما بآياتنا ﴾ ؛ بسبب آياتنا، القاهرة لهم عن التسلط عليكم، فالباء تتعلق بيصلون، أو : بنجعل لكما سلطاناً، أي : تسلطاً بآياتنا، أو : بمحذوف، أي : اذهبا بآياتنا، أو : هو بيان لغالبون، أي :﴿ أنتما ومن اتبعكما الغالبون ﴾، أي : المنصورون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا اجتمع في زمانٍ نبيان، أو : وليان، لا تجدهما إلا متخالفين في القوة والليونة، أو في السكر والصحو، فكان مُوسَى في غاية القوة، وأخوه في غاية الليونة، وكان موسى عليه السلام في أول الرسالة غالباً عليه الجذب، وأخوه غالباً عليه الصحو، فلذلك استعان به. قال الورتجبي : افهَمْ أن مقام الفصاحة هو مقام الصحو والتمكين، الذي يقدر صاحبه أن يخبر عن الحق وأسراره، بعبارة لا تكون بشيعة في موازين العلم. وهذا حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال :" أنا أفصح العرب١ " و " بُعثتُ بجوامع الكلم٢ ". وهذه قدرته قادرية اتصف بها العارف المتمكن، الذي بلغ مشاهدة الخاص، ومخاطبة الخاص، وكان موسى عليه السلام في محل السكر في ذلك الوقت، ولم يطق أن يعبر عن حاله كما كان ؛ لأن كلامه، لو خرج على وزان حاله، يكون على نعوت الشطح، عظيماً في آذان الخلق، وكلام السكران ربما يفتتن به الخلق، لذلك سأل مقام الصحو والتمكين بقوله :﴿ واحلل عقدة من لساني ﴾ ؛ لأن كلامه من بحر المكافحة والمواجهة الخاصة، التي كان مخصوصاً بها عن أخيه. هـ.
ثم ذكر عناد فرعون وتجبره، قال :
﴿ فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِيا آبَآئِنَا الأَوَّلِينَ ﴾ * ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبِّيا أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ * ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّيا أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ * ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ فلما جاء موسى بآياتنا ﴾ ؛ معجزاتنا التسع ﴿ بيناتٍ ﴾ ؛ واضحات ﴿ قالوا ما هذا إلاّ سِحْرٌ مُفْتَرى ﴾ ؛ سحر تعمله أنت، ثم تفتريه على الله، أو : سحر موصوف بالافتراء، كسائر أنواع السحر، وليس بمعجزة من عند الله، ﴿ وما سمعنا بهذا ﴾، يعني : السحر، أو : ادعاء النبوة، ﴿ في آبائنا الأولين ﴾، الجار : حال منصوبة بهذا، أي : ما سمعنا بهذا كائناً في آبائنا، أي : ما حُدِّثْنَا بكونه فيهم، ولا موجوداً في آبائهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأرواح كلها برزت من عالم العز والكبرياء، وهو عالم الجبروت، فلما هبطت إلى عالم الأشباح، وكلفت بالعبودية، وبالخضوع لقهرية الربوبية، شق عليها، ونفرت من التواضع والذل، وبطشت إلى أصلها ؛ لأنها من عالم العز، فبعث الله الرسل ومشايخ التربية يدلونها على ما فيه سعادتها. من الذل والتواضع والخضوع للحق، حتى تصل إلى الحق، فمن سبق له الشقاء ؛ أنف، وقال : ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، واستكبر وطغى، فغرق في بحر الردى. ومن سبقت له السعادة ؛ تواضع، وذل لعظمة مولاه، فوصله إلى العز الدائم، في حضرة جماله وسناه. ولذلك قيل : للنفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون، حيث قال : أنا ربكم الأعلى. وهذه الخاصية هي أصل نشأتها وبروزها، حيث برزت من عالم الجبروت ؛ قال تعالى :﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾ ولكن لم يفتح لها الباب إلا من جهة العبودية والذل والافتقار، كما قال الشاعر :
تَذَلَّلْ لِمَنْ تَهْوَى ؛ لِتَكْسِبَ عِزَّةً فَكَمْ عِزَّةٍ قَدْ نالَهَا المَرْءُ بِالذُّلِّ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً، وَلَمْ تَكُنْ ذَلِيلاً لَهُ، فَاقْرَ السَّلامَ على الْوَصْلِ
ولا يرضى المحبوب من المحب إلا الأدب، وهو التذلل والخضوع، كما قائل القائل :
أدَبُ الْعَبْـدِ تَـذَلُّـلٌ وَالْعَبْـدُ لاَ يَـدَعُ الأدَبْ
فَإذَا تَكَـامَـلَ ذُلّـهُ ؛ نَـالَ الْمَـوَدَّةَ، وَاقْتَـرَبْ

﴿ وقال موسى ربي أعلمُ بمن جاء بالهُدَى من عنده ﴾، فيعلم أني محق، وأنتم مبطلون، وقرأ ابن كثير :" قال " ؛ بغير واو ؛ جواباً لمقالتهم. ﴿ ومَن تكونُ له عاقبةُ الدار ﴾ أي : العاقبة المحمودة، فإن المراد بالدار : الدنيا، وعاقبتها الأصلية هي الجنة ؛ لأن الدنيا خلقت مَعْبراً ومجازاً إلى الآخرة، والمقصود منها، بالذات، هو المجازاة على الأعمال فيها من الثواب الدائم، أو العقاب الأليم، ﴿ إنه لا يُفلِحُ الظالمون ﴾ ؛ لا يفوزون بالهدى في الدنيا، وحسن العاقبة في العقبى.
قال النسفي : قل ربي أعلم منكم بحال من أَهَّلَهُ الله للفلاح الأعظم ؛ حيث جعله نبياً وبعثه بالهدى، ووعده حُسْنَ العُقْبَى، يعني نفسه، ولو كان كما تزعمون، ساحراً، مفترياً، لما أَهَّلَهُ لذلك ؛ لأنه غني حكيم، لا يرسل الكاذبين، ولا يُنَبِّئُ الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون، وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة ؛ لقوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنِّاتِ عَدْنٍ ﴾ [ الرعد : ٢٢ ]. والمراد بالدار : الدنيا، وعاقبتها : أن تختم للعبد بالرحمة والرضوان، ويلقى الملائكة بالبشرى والغفران. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأرواح كلها برزت من عالم العز والكبرياء، وهو عالم الجبروت، فلما هبطت إلى عالم الأشباح، وكلفت بالعبودية، وبالخضوع لقهرية الربوبية، شق عليها، ونفرت من التواضع والذل، وبطشت إلى أصلها ؛ لأنها من عالم العز، فبعث الله الرسل ومشايخ التربية يدلونها على ما فيه سعادتها. من الذل والتواضع والخضوع للحق، حتى تصل إلى الحق، فمن سبق له الشقاء ؛ أنف، وقال : ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، واستكبر وطغى، فغرق في بحر الردى. ومن سبقت له السعادة ؛ تواضع، وذل لعظمة مولاه، فوصله إلى العز الدائم، في حضرة جماله وسناه. ولذلك قيل : للنفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون، حيث قال : أنا ربكم الأعلى. وهذه الخاصية هي أصل نشأتها وبروزها، حيث برزت من عالم الجبروت ؛ قال تعالى :﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾ ولكن لم يفتح لها الباب إلا من جهة العبودية والذل والافتقار، كما قال الشاعر :
تَذَلَّلْ لِمَنْ تَهْوَى ؛ لِتَكْسِبَ عِزَّةً فَكَمْ عِزَّةٍ قَدْ نالَهَا المَرْءُ بِالذُّلِّ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً، وَلَمْ تَكُنْ ذَلِيلاً لَهُ، فَاقْرَ السَّلامَ على الْوَصْلِ
ولا يرضى المحبوب من المحب إلا الأدب، وهو التذلل والخضوع، كما قائل القائل :
أدَبُ الْعَبْـدِ تَـذَلُّـلٌ وَالْعَبْـدُ لاَ يَـدَعُ الأدَبْ
فَإذَا تَكَـامَـلَ ذُلّـهُ ؛ نَـالَ الْمَـوَدَّةَ، وَاقْتَـرَبْ

﴿ وقال فرعونُ يا أيها الملأُ ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري ﴾، قصد بنفي علمه بإله غيره نَفِيَ وُجُودِهِ، أي : مالكم إله غيري. قاله ؛ تجبراً ومكابرة، وإلا فهو مقر بالربوبية ؛ لقوله تعالى ؛ حاكياً عن موسى عليه السلام :﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ ﴾ [ الإسراء : ١٠٢ ]، ورُوي أنه كان إذا جن الليل، لبس المسوح وتمرغ في الرماد، وقال : يا رب إني كذاب فلا تفضحني.
ثم أَمَرَ ببنيان الصرح زيادة في الطغيان، بقوله :﴿ فأوقِدْ لي يا هامانُ على الطين ﴾ أي : اطبخ لي الآجر واتخذه. وإنما لم يقل مكان الطين : آجرّ ؛ لأنه أول من عمله، فهو معلمه الصنعة بهذه العبارة، ﴿ فاجعل لي صرحاً ﴾ أي : قصراً عالياً، ﴿ لعَلِّي أَطَّلِعُ ﴾ أي : أصعد. فالطلوع والاطلاع : الصعود، ﴿ إلى إِلهِ موسى ﴾، حسب الجاهل أنه في مكان مخصوص، كما كان هو في مكان، ﴿ وإِني لأظنه ﴾ أي : موسى ﴿ من الكاذبين ﴾ في دعواه أن له إلهاً، وأنه أرسله إلينا رسولاً.
وهذا تناقض من المخذول، فإنه قال أولاً :﴿ ما علمتُ لكم من إله غيري ﴾، ثم أظهر حاجته إلى هامان، وأثبت لموسى إلهاً، وأخبر أنه غير متيقن بكذبه، وهذا كله تهافت. وكأنه تحصن من عصى موسى فلبّس وقال :﴿ لعلِّي أطلعُ إلى إله موسى ﴾.
رُوي أنه لما أمر وزيره هامان ببناء الصرح، جمع هامانُ العمال، خمسين ألف بنّاء، سوى الأتباع والأُجراء – فبنوا، ورفعوه بحيث لم يبلغه بنيان قط، منذ خلق الله السماوات والأرض. أراد الله أن يفتنهم فيه، فصعده فرعون وقومه، ورموا بُنُشّابة نحو السماء، فرجعت مُلَطَّخَةَ بالدم، فقال : قد قتلنا إله السماء، فضرب جبريل الصرح بجناحه، فقطعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون، فقتلت ألفَ ألفِ رجل، وقطعة على البحر، وقطعة في الغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا هلك. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأرواح كلها برزت من عالم العز والكبرياء، وهو عالم الجبروت، فلما هبطت إلى عالم الأشباح، وكلفت بالعبودية، وبالخضوع لقهرية الربوبية، شق عليها، ونفرت من التواضع والذل، وبطشت إلى أصلها ؛ لأنها من عالم العز، فبعث الله الرسل ومشايخ التربية يدلونها على ما فيه سعادتها. من الذل والتواضع والخضوع للحق، حتى تصل إلى الحق، فمن سبق له الشقاء ؛ أنف، وقال : ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، واستكبر وطغى، فغرق في بحر الردى. ومن سبقت له السعادة ؛ تواضع، وذل لعظمة مولاه، فوصله إلى العز الدائم، في حضرة جماله وسناه. ولذلك قيل : للنفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون، حيث قال : أنا ربكم الأعلى. وهذه الخاصية هي أصل نشأتها وبروزها، حيث برزت من عالم الجبروت ؛ قال تعالى :﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾ ولكن لم يفتح لها الباب إلا من جهة العبودية والذل والافتقار، كما قال الشاعر :
تَذَلَّلْ لِمَنْ تَهْوَى ؛ لِتَكْسِبَ عِزَّةً فَكَمْ عِزَّةٍ قَدْ نالَهَا المَرْءُ بِالذُّلِّ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً، وَلَمْ تَكُنْ ذَلِيلاً لَهُ، فَاقْرَ السَّلامَ على الْوَصْلِ
ولا يرضى المحبوب من المحب إلا الأدب، وهو التذلل والخضوع، كما قائل القائل :
أدَبُ الْعَبْـدِ تَـذَلُّـلٌ وَالْعَبْـدُ لاَ يَـدَعُ الأدَبْ
فَإذَا تَكَـامَـلَ ذُلّـهُ ؛ نَـالَ الْمَـوَدَّةَ، وَاقْتَـرَبْ

﴿ واستكبر هو وجنوده ﴾ ؛ تعاظم ﴿ في الأرض ﴾ ؛ أرض موسى ﴿ بغير الحق ﴾ ؛ بغير استحقاق، بل بالباطل، فالاستكبار بالحق هو لله تعالى، وهو المتكبر المتعالي، المبالغ في كبرياء الشأن، كما في الحديث القدسي :" الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته١ "، أو : ألقيته في النار، وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق. ﴿ وظنوا أنهم إلينا لا يُرجَعُون ﴾ بالبعث والنشور. وقرأ نافع وحمزة والكسائي : بالبناء للفاعل. والباقي : للمفعول. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأرواح كلها برزت من عالم العز والكبرياء، وهو عالم الجبروت، فلما هبطت إلى عالم الأشباح، وكلفت بالعبودية، وبالخضوع لقهرية الربوبية، شق عليها، ونفرت من التواضع والذل، وبطشت إلى أصلها ؛ لأنها من عالم العز، فبعث الله الرسل ومشايخ التربية يدلونها على ما فيه سعادتها. من الذل والتواضع والخضوع للحق، حتى تصل إلى الحق، فمن سبق له الشقاء ؛ أنف، وقال : ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، واستكبر وطغى، فغرق في بحر الردى. ومن سبقت له السعادة ؛ تواضع، وذل لعظمة مولاه، فوصله إلى العز الدائم، في حضرة جماله وسناه. ولذلك قيل : للنفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون، حيث قال : أنا ربكم الأعلى. وهذه الخاصية هي أصل نشأتها وبروزها، حيث برزت من عالم الجبروت ؛ قال تعالى :﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾ ولكن لم يفتح لها الباب إلا من جهة العبودية والذل والافتقار، كما قال الشاعر :
تَذَلَّلْ لِمَنْ تَهْوَى ؛ لِتَكْسِبَ عِزَّةً فَكَمْ عِزَّةٍ قَدْ نالَهَا المَرْءُ بِالذُّلِّ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً، وَلَمْ تَكُنْ ذَلِيلاً لَهُ، فَاقْرَ السَّلامَ على الْوَصْلِ
ولا يرضى المحبوب من المحب إلا الأدب، وهو التذلل والخضوع، كما قائل القائل :
أدَبُ الْعَبْـدِ تَـذَلُّـلٌ وَالْعَبْـدُ لاَ يَـدَعُ الأدَبْ
فَإذَا تَكَـامَـلَ ذُلّـهُ ؛ نَـالَ الْمَـوَدَّةَ، وَاقْتَـرَبْ


١ أخرجه أبو داود في اللباس حديث ٤٠٩٠، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٧٤..
ثم ذكر وبال من تكبر على الله، فقال :
﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ * ﴿ وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ فأخذناه ﴾ ؛ فأخذنا فرعون ﴿ وجنودَه فنبذناهم ﴾ ؛ طرحناهم ﴿ في اليمِّ ﴾ ؛ في بحر القلزم، كما بيَّناه غير مرة. وفي الكلام فخامة تدل على عظمة شأن الأخذ، شبههم ؛ استحقاراً لحالهم، واستقلالاً لعددهم، وإن كانوا الجم الغفير ؛ بحصيات أخذهن آخذ بكفه، فطرحهن في البحر. ﴿ فانظر ﴾ يا محمد ﴿ كيف كان عاقبةُ الظالمين ﴾، وحذّر قومك أن يصيبهم مثل ما أصابهم، فإنهم ظالمون، حيث كفروا وأشركوا، وتَحَقَّقُ أنك منصور عليهم، كما نُصِرَ موسى على فرعون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : عَاقِبَةُ منْ تكبر في دار العبودية : الذل والهوان، وعاقبة من تواضع، وذَل فيها : العز والأمان، وعاقبة من كان إماماً في المساوئ والعيوب : البُعد والحجاب، ومن كان إماماً في محاسن الخلال وكشف الغيوب : العزُّ والاقتراب. قال القشيري على قوله :﴿ وجعلناهم أئمة ﴾ إلخ : كانوا في الدنيا مُبْعَدِين عن معرفته، وفي الآخرة مبعدين عن مغفرته، فانقلبوا من طَرْدٍ إلى طَرْدٍ، ومن هجرٍ إلى بُعْدٍ، ومن فراقٍ إلى احتراق. هـ.
﴿ وجعلناهم أئمة ﴾ ؛ قادة ﴿ يدعون إلى النارِ ﴾، أي : إلى عمل أهل النار ؛ من الكفر، والمعاصي، قال ابن عطاء : نزع عن أسرارهم التوفيق، وأنوار التحقيق، فهم في ظلمات أنفسهم، لا يدلون على سبيل الرشاد. وفيه دلالة على خلق أفعال العباد. ه. ﴿ ويومَ القيامة لا يُنصرون ﴾ بدفع العذاب عنهم، كما يتناصرون اليوم، في دفع الظلم عنهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : عَاقِبَةُ منْ تكبر في دار العبودية : الذل والهوان، وعاقبة من تواضع، وذَل فيها : العز والأمان، وعاقبة من كان إماماً في المساوئ والعيوب : البُعد والحجاب، ومن كان إماماً في محاسن الخلال وكشف الغيوب : العزُّ والاقتراب. قال القشيري على قوله :﴿ وجعلناهم أئمة ﴾ إلخ : كانوا في الدنيا مُبْعَدِين عن معرفته، وفي الآخرة مبعدين عن مغفرته، فانقلبوا من طَرْدٍ إلى طَرْدٍ، ومن هجرٍ إلى بُعْدٍ، ومن فراقٍ إلى احتراق. هـ.
﴿ وأتْبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ﴾ ؛ ألزمناهم طرداً وإبعاداً عن الرحمة. وقيل : هو ما يلحقهم من لعن الناس إياهم بَعْدَهُمْ. ﴿ وَيومَ القيامة هم من المقبُوحين ﴾ ؛ المطرودين المعذبين، أو المهلَكِين المشوهين ؛ بسواد الوجوه وزرقة العيون. و﴿ يوم ﴾ : ظرف للمقبوحين. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : عَاقِبَةُ منْ تكبر في دار العبودية : الذل والهوان، وعاقبة من تواضع، وذَل فيها : العز والأمان، وعاقبة من كان إماماً في المساوئ والعيوب : البُعد والحجاب، ومن كان إماماً في محاسن الخلال وكشف الغيوب : العزُّ والاقتراب. قال القشيري على قوله :﴿ وجعلناهم أئمة ﴾ إلخ : كانوا في الدنيا مُبْعَدِين عن معرفته، وفي الآخرة مبعدين عن مغفرته، فانقلبوا من طَرْدٍ إلى طَرْدٍ، ومن هجرٍ إلى بُعْدٍ، ومن فراقٍ إلى احتراق. هـ.
ولما أغرق أهل الظلم والعناد، أنزل الهداية على أهل العناية والوداد، كما قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب ﴾ : التوراة ﴿ من بعدما أهلكنا القرونَ الأولى ﴾ ؛ قوم نوح وهود وصالح ولوط - عليهم السلام -، حال كون الكتاب ﴿ بصائرَ للناس ﴾ ؛ أنواراً لقلوبهم، يتبصرون الحقائق، ويُميزون بين الحق والباطل. فالبصيرة : عين القلب، الذي يبصر بها الحق، ويهتدي بها إلى الرشد والسعادة. كما أن البصر عين الرأس التي يُبصر بها الحسيات، أي : آتيناه التوراة، أنواراً للقلوب التي كانت عمياً لا تستبصر ولا تعرف حقاً من باطل، ﴿ وهدىً ﴾ ؛ وإرشاداً إلى الشرائع ؛ لأنهم كانوا يخبطون في الضلال. ﴿ ورحمةً ﴾ لمن اتبعها ؛ لأنهم، إذا عملوا بها، وصلوا إلى نيل الرحمة، ﴿ لعلهم يتذكرون ﴾، أي : ليكونوا على حال يُرجَى منهم التذكر والاتعاظ. وبالله التوفيق.
الإشارة : إنما تطيب المنازل ؛ إذا خلت من الأجانب والأراذل. وأطيب عيش الأحباب ؛ إذا غابت عنهم الرقباء وأهل العتاب، فلما أهلك الله فرعونَ وجنوده وأورث بني إسرائيل ديارهم، ومحى عن جميعها آثارهم، طاب عيشهم، وظهرت سعادتهم، وتمكنوا من إقامة الدين. وكذلك أهل التوجه إلى يوم الدين.
ثم ذكر دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، بعد ذكر قصة موسى ؛ لاشتراكهما في شدة المعالجة، فقال :
﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ * ﴿ وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيا أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ * ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما كنتَ ﴾ يا محمد ﴿ بجانب ﴾ المكان ﴿ الغربي ﴾ من الطور، وهو الذي كلم الله فيه موسى، وهو الجانب الأيمن. قال السهيلي : إذا استقبلت القبلة، وأنت بالشام، كان الجبل يميناً منك، غربياً، غير أنه قال في قصة موسى :﴿ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ ﴾ [ مريم : ٥٢، وطه : ٨٠ ]، وصفه بالصفة المشتقة من اليُمن والبركة، لتكليمه إياه فيه، وحين نفى عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون بذلك الجانب، قال :﴿ وما كنت بجانب الغربي ﴾، والغربي هو الأيمن. والعدول عنه، في حالة النفي ؛ للاحتراس من توهم نفي اليمن عنه صلى الله عليه وسلم، وكيف، وهو صلى الله عليه وسلم لم يزل بصفة اليُمن وآدم بين الماء والطين ! فحسنُ اللفظِ أصل في البلاغة، ومجانبة الاشتراك الموهم : من فصيحِ بديعِ الفصاحة. ه.
أي : وما كنت حاضراً بذلك الموضع، ﴿ إِذْ قَضَينا إلى موسى الأمرَ ﴾، أي : كلمناه، وقربناه نجياً، وأوحينا إليه بالرسالة إلى فرعون، ﴿ وما كنتَ من الشاهدين ﴾، أي : من جملة الشاهدين فتخبر بذلك، ولكن أعلمناك من طريق الوحي، بعد أن لم يكن لك بذلك شعور، والمراد : الدلالة على أن إخباره بذلك من قِبَلِ الإخبار بالمغيبات التي لا تُعرف إلا بالوحي، ولذلك استدرك عنه بقوله :﴿ ولكنَّا أنشأنا ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : المراد من هذه الآيات : تحقيق نبوته صلى الله عليه وسلم ومعرفته الخاصة، وهي سُلَّم، ومعراج إلى معرفة الله تعالى ؛ لأنه الواسطة العظمى، فمهما عرفته المعرفة الخاصة عرفت الله تعالى، فمنه صلى الله عليه وسلم استمدت العلوم كلها ؛ علم الربوبية، من طريق البرهان، وعلمها من طريق العيان، وعلم المعاملة الموصلة إلى الرضا والرضوان، ومعرفة نبوته صلى الله عليه وسلم ضرورية لا تحتاج إلى برهان، ويرحم الله القائل :
لَوْ لَمْ تَكُنْ فيه آيات مُبيِّنَة لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ
وقد تقدم في الأعراف١ التنويه به، وذكر شرفه، وشرف أمته، قبل ظهوره، وإليه الإشارة هنا بقوله :﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ﴾، أي : إذ نادينا بأمرك، وأخبرنا بنبوتك، رُوي عن أبي هريرة ؛ أنه نُودي يومئذٍ من السماء : يَا أُمَةُ مُحَمّدٍ، استجبتُ لَكُم قَبْلَ أَنْ تَدْعُوني، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أنْ تَسألونِي، فحينئذٍ قال موسى - عليه السلام : اللهم اجعلني من أمة محمد٢. هـ.
وقال القشيري : أي : لم تكن حاضراً تتعلم ذلك ؛ مشاهدةً، فليس إلا تعريفنا إياك، وإطلاعنا لَكَ على ذلك. ويقال : إذ نادينا موسى، وخاطبناه، وكلمناه في بابك وباب أُمَّتِكَ، وما طلب موسى لأمته جعلناه لأمتك، فكوْني لكم : خيرٌ لكم من كونِكم لكم، فلم تقدح فيكم غَيْبَتَكُمْ في الحال، كما أنشدوا :
كُـنْ لِـي ؛ كَمَـا كُنْـتَ لـي فـي حيـن لـمْ أَكُـنِ. هـ.
ويقال : لما خاطب موسى وكلمه، سأله موسى، إنه رأى في التوراة أمة صفتهم كذا وكذا، من هم ؟ فقال : هم أمة محمد. وذكر لموسى أوصافاً كثيرة، فاشتاق إلى لقائهم، فقال له : ليس اليوم وقت حضورهم فإن شئت أسمعناك كلامهم، فأراد ذلك، فنادى : يا أُمة محمد ؛ فأجاب الكل من أصلاب آبائهم، فسمع موسى كلامهم، ثم لم يتركهم كذلك، بل زادهم من الفضائل ؛ لأن الغني ؛ إذا دعا فقيراً فأجابه ؛ لم يرض أن يذكره من غير إحسانه. هـ. وقال الطبري : معنى قوله :﴿ إذ نادينا ﴾ أي : بقوله :﴿ سأكتبها للذين يتقون... ﴾ الآية. هـ. والله تعالى أعلم.

﴿ ولكنَّا أنشأنا ﴾ بعد موسى ﴿ قروناً فتطاولَ عليهم العُمُرُ ﴾، أي : طالت أعمارهم، وفترت النبوة، وانقطعت الأخبار، واندرست العلوم، ووقع التحريف في كثير منها، فأرسلناك ؛ مُجَدِّداً لتلك الأخبار، مبيناً ما وقع فيها من التحريف، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء، وأوقفناك على قصة موسى بتمامها، فكأنه قال : وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك، فأخبرت به، بعد اندراسه.
﴿ ومَا كنتَ ثاوياً ﴾ ؛ مقيماً ﴿ في أهل مدين ﴾، وهم شعيب والمؤمنون به، ﴿ تتلو عليهم آياتنا ﴾ ؛ تقرؤها عليهم، تعلماً منهم، أو : رسولاً إليهم تتلوها عليهم بوحينا، كما تلوتها على هؤلاء، يريد : الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه، ﴿ ولكنّا كنّا مُرسِلينِ ﴾ لك، فأخبرناك بها، وعلَّمناك إياها، فأخبرت هؤلاء بها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : المراد من هذه الآيات : تحقيق نبوته صلى الله عليه وسلم ومعرفته الخاصة، وهي سُلَّم، ومعراج إلى معرفة الله تعالى ؛ لأنه الواسطة العظمى، فمهما عرفته المعرفة الخاصة عرفت الله تعالى، فمنه صلى الله عليه وسلم استمدت العلوم كلها ؛ علم الربوبية، من طريق البرهان، وعلمها من طريق العيان، وعلم المعاملة الموصلة إلى الرضا والرضوان، ومعرفة نبوته صلى الله عليه وسلم ضرورية لا تحتاج إلى برهان، ويرحم الله القائل :
لَوْ لَمْ تَكُنْ فيه آيات مُبيِّنَة لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ
وقد تقدم في الأعراف١ التنويه به، وذكر شرفه، وشرف أمته، قبل ظهوره، وإليه الإشارة هنا بقوله :﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ﴾، أي : إذ نادينا بأمرك، وأخبرنا بنبوتك، رُوي عن أبي هريرة ؛ أنه نُودي يومئذٍ من السماء : يَا أُمَةُ مُحَمّدٍ، استجبتُ لَكُم قَبْلَ أَنْ تَدْعُوني، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أنْ تَسألونِي، فحينئذٍ قال موسى - عليه السلام : اللهم اجعلني من أمة محمد٢. هـ.
وقال القشيري : أي : لم تكن حاضراً تتعلم ذلك ؛ مشاهدةً، فليس إلا تعريفنا إياك، وإطلاعنا لَكَ على ذلك. ويقال : إذ نادينا موسى، وخاطبناه، وكلمناه في بابك وباب أُمَّتِكَ، وما طلب موسى لأمته جعلناه لأمتك، فكوْني لكم : خيرٌ لكم من كونِكم لكم، فلم تقدح فيكم غَيْبَتَكُمْ في الحال، كما أنشدوا :
كُـنْ لِـي ؛ كَمَـا كُنْـتَ لـي فـي حيـن لـمْ أَكُـنِ. هـ.
ويقال : لما خاطب موسى وكلمه، سأله موسى، إنه رأى في التوراة أمة صفتهم كذا وكذا، من هم ؟ فقال : هم أمة محمد. وذكر لموسى أوصافاً كثيرة، فاشتاق إلى لقائهم، فقال له : ليس اليوم وقت حضورهم فإن شئت أسمعناك كلامهم، فأراد ذلك، فنادى : يا أُمة محمد ؛ فأجاب الكل من أصلاب آبائهم، فسمع موسى كلامهم، ثم لم يتركهم كذلك، بل زادهم من الفضائل ؛ لأن الغني ؛ إذا دعا فقيراً فأجابه ؛ لم يرض أن يذكره من غير إحسانه. هـ. وقال الطبري : معنى قوله :﴿ إذ نادينا ﴾ أي : بقوله :﴿ سأكتبها للذين يتقون... ﴾ الآية. هـ. والله تعالى أعلم.

﴿ وما كنت بجانب الطور إِذ نادينا ﴾ موسى، أن خذ الكتاب بقوة، أو ناجيناه في أيام الميقات، ﴿ ولكن ﴾ علمناك وأرسلناك ﴿ رحمةً ﴾ أي : للرحمة ﴿ من ربك لتُنذر قوماً ﴾ جاهلية ﴿ ما أتاهم من نذير من قبلك ﴾ في زمان الفترة التي بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة، أو : بينك وبين إسماعيل، على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم، ﴿ لعلهم يتذكرون ﴾ ؛ لعل من أُرْسِلْتَ إليه يتعظ ويتذكر ما هو فيه من الضلال، فينزعُ ويرجع. وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : المراد من هذه الآيات : تحقيق نبوته صلى الله عليه وسلم ومعرفته الخاصة، وهي سُلَّم، ومعراج إلى معرفة الله تعالى ؛ لأنه الواسطة العظمى، فمهما عرفته المعرفة الخاصة عرفت الله تعالى، فمنه صلى الله عليه وسلم استمدت العلوم كلها ؛ علم الربوبية، من طريق البرهان، وعلمها من طريق العيان، وعلم المعاملة الموصلة إلى الرضا والرضوان، ومعرفة نبوته صلى الله عليه وسلم ضرورية لا تحتاج إلى برهان، ويرحم الله القائل :
لَوْ لَمْ تَكُنْ فيه آيات مُبيِّنَة لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ
وقد تقدم في الأعراف١ التنويه به، وذكر شرفه، وشرف أمته، قبل ظهوره، وإليه الإشارة هنا بقوله :﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ﴾، أي : إذ نادينا بأمرك، وأخبرنا بنبوتك، رُوي عن أبي هريرة ؛ أنه نُودي يومئذٍ من السماء : يَا أُمَةُ مُحَمّدٍ، استجبتُ لَكُم قَبْلَ أَنْ تَدْعُوني، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أنْ تَسألونِي، فحينئذٍ قال موسى - عليه السلام : اللهم اجعلني من أمة محمد٢. هـ.
وقال القشيري : أي : لم تكن حاضراً تتعلم ذلك ؛ مشاهدةً، فليس إلا تعريفنا إياك، وإطلاعنا لَكَ على ذلك. ويقال : إذ نادينا موسى، وخاطبناه، وكلمناه في بابك وباب أُمَّتِكَ، وما طلب موسى لأمته جعلناه لأمتك، فكوْني لكم : خيرٌ لكم من كونِكم لكم، فلم تقدح فيكم غَيْبَتَكُمْ في الحال، كما أنشدوا :
كُـنْ لِـي ؛ كَمَـا كُنْـتَ لـي فـي حيـن لـمْ أَكُـنِ. هـ.
ويقال : لما خاطب موسى وكلمه، سأله موسى، إنه رأى في التوراة أمة صفتهم كذا وكذا، من هم ؟ فقال : هم أمة محمد. وذكر لموسى أوصافاً كثيرة، فاشتاق إلى لقائهم، فقال له : ليس اليوم وقت حضورهم فإن شئت أسمعناك كلامهم، فأراد ذلك، فنادى : يا أُمة محمد ؛ فأجاب الكل من أصلاب آبائهم، فسمع موسى كلامهم، ثم لم يتركهم كذلك، بل زادهم من الفضائل ؛ لأن الغني ؛ إذا دعا فقيراً فأجابه ؛ لم يرض أن يذكره من غير إحسانه. هـ. وقال الطبري : معنى قوله :﴿ إذ نادينا ﴾ أي : بقوله :﴿ سأكتبها للذين يتقون... ﴾ الآية. هـ. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر حكمة إرساله، فقال :
﴿ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾ * ﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ * ﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
قلت :( لولا ) الأولى : امتناعية، وجوابها محذوف، أي : ولولا أنهم قائلون ؛ إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك، محتجين علينا :( هلا أرسلت إلينا رسولاً. . . ) إلخ ؛ لَمَا أرسلناك.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولولا أن تصيبهم مصيبة ﴾، أي : عقوبة في الدنيا والآخرة، ﴿ بما ﴾ ؛ بسبب ما ﴿ قدمت أيديهم ﴾ من الكفر والظلم، ولمّا كانت أكثر الأعمال إنما تناول بالأيدي، نسب الأعمال إلى الأيدي، وإن كانت من أعمال القلوب ؛ تغليباً للأكثر على الأقل، ﴿ فيقولوا ﴾ عند نزول العذاب :﴿ ربنا لولا ﴾ ؛ هلا ﴿ أرسلت إلينا رسولاً ﴾ يُنذرنا ﴿ فنتَّبع آياتك ونكونَ من المؤمنين ﴾، فلولا احتجاجهم بذلك علينا لَمَا أرسلناك، فسبب الإرسال هو قولهم : هلا أرسلت. . . إلخ.
ولما كانت العقوبة سبباً للقول جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال، فدخلت " لولا " الامتناعية عليها، فرجع المعنى إلى قولك : ولولا قولهم هذا، إذا أصابتهم مصيبة، لما أرسلناك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لولا احتجاج الناس على الله يوم القيامة، حين تصيبهم نقائص عيوبهم، ما بعث الله في كل زمان نذيراً طبيباً، فإذا ظهر وتوجه لتربية الناس، قالوا : لولا أُوتي مثل ما أُوتي فلان وفلان من كرامات المتقدمين، فيقال لهم : قد كان مَنْ قبلكم من الأولياء لهم كرامات، فكذَّبوهم، وأنكروا عليهم، ورموهم بالسحر والتبدع وغير ذلك، وبقوا مع هوى أنفسهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، أي : بغير تمسك بمن يهديه إلى حضرة الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين إلى معرفته الخاصة.
﴿ فَلَمَّا جاءهم الحق من عندنا ﴾ ؛ القرآن المعجز، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، ﴿ قالوا ﴾ أي : كفار مكة ؛ اقتراحاً وتعنتاً :﴿ لولا ﴾ : هلا ﴿ أُوتي ﴾ من المعجزات ﴿ مثل ما أُوتي ﴾ ؛ أُعطي ﴿ موسى ﴾ من اليد والعصا، ومن الكتاب المنزل جملة. قال تعالى :﴿ أوَ لَمْ يكفروا ﴾ أي : أبناء جنسهم، ومَنْ مَذهبهم على مذهبهم، وعنادهم مثل عنادهم، وهم الكفرة في زمن موسى عليه السلام، فقد كفروا ﴿ بما أُوتي موسى من قبلُ ﴾ ؛ من قبل القرآن، ﴿ قالوا ﴾ في موسى وهارون :﴿ ساحران تظاهرا ﴾ : تعاونا، أو : في موسى ومحمد - عليهما السلام - بإظهار تلك الخوارق، أو بتوافق الكتابين. وقرأ الكوفيون :" سِحْران " ؛ بتقدير مضاف، أي : ذوَا سحر، أو : جعلوهما سحريْن ؛ مبالغة في وصفهما بالسحر. ﴿ وقالوا ﴾ أي : كفرة موسى وكفرة محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ إِنا بكلِّ ﴾ ؛ بكل واحد منهما ﴿ كافرون ﴾.
وقيل إن أهل مكة، لمّا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ؛ فقد كفروا بموسى وبالتوراة، وقالوا في محمد صلى الله عليه وسلم وموسى : ساحران تظاهرا، أو في التوراة والقرآن : سحران تظاهرا، أو : ذلك حين بَعَثُوا الرهط إلى رؤساء اليهود يسألونهم عن محمد، فأخبروهم أنه في كتابهم فرجع الرهط إلى قريش، فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك :﴿ ساحران تظاهرا إنا بكل كافرون ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لولا احتجاج الناس على الله يوم القيامة، حين تصيبهم نقائص عيوبهم، ما بعث الله في كل زمان نذيراً طبيباً، فإذا ظهر وتوجه لتربية الناس، قالوا : لولا أُوتي مثل ما أُوتي فلان وفلان من كرامات المتقدمين، فيقال لهم : قد كان مَنْ قبلكم من الأولياء لهم كرامات، فكذَّبوهم، وأنكروا عليهم، ورموهم بالسحر والتبدع وغير ذلك، وبقوا مع هوى أنفسهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، أي : بغير تمسك بمن يهديه إلى حضرة الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين إلى معرفته الخاصة.
﴿ قلْ ﴾ لهم :﴿ فأتوا بكتابٍ من عند الله هو أهدى منهما ﴾ ؛ مما أنزل على موسى، وما أنزل عليَّ، ﴿ أتَّبِعُه ﴾ : جواب : فأتوا، ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في أنهما ساحران.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لولا احتجاج الناس على الله يوم القيامة، حين تصيبهم نقائص عيوبهم، ما بعث الله في كل زمان نذيراً طبيباً، فإذا ظهر وتوجه لتربية الناس، قالوا : لولا أُوتي مثل ما أُوتي فلان وفلان من كرامات المتقدمين، فيقال لهم : قد كان مَنْ قبلكم من الأولياء لهم كرامات، فكذَّبوهم، وأنكروا عليهم، ورموهم بالسحر والتبدع وغير ذلك، وبقوا مع هوى أنفسهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، أي : بغير تمسك بمن يهديه إلى حضرة الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين إلى معرفته الخاصة.
﴿ فإِن لم يستجيبوا لك ﴾ دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، ﴿ فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ﴾ الزائغة، ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى، ﴿ وَمَنْ أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هُدى من الله ﴾ أي : لا أحد أضل ممن اتبع في الدين هواه بغير هدى، أي : بغير اتباع شريعة من عند الله.
و﴿ بغير هدى ﴾ : حال، أي : مخذولاً، مُخَلاً بينه وبين هواه، ﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ ؛ الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى والتقليد. وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لولا احتجاج الناس على الله يوم القيامة، حين تصيبهم نقائص عيوبهم، ما بعث الله في كل زمان نذيراً طبيباً، فإذا ظهر وتوجه لتربية الناس، قالوا : لولا أُوتي مثل ما أُوتي فلان وفلان من كرامات المتقدمين، فيقال لهم : قد كان مَنْ قبلكم من الأولياء لهم كرامات، فكذَّبوهم، وأنكروا عليهم، ورموهم بالسحر والتبدع وغير ذلك، وبقوا مع هوى أنفسهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، أي : بغير تمسك بمن يهديه إلى حضرة الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين إلى معرفته الخاصة.
ثم ذكر حكمة تفريق القرآن، ردا على من قال :﴿ لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ﴾ ؛ من إنزاله جملة، فقال :
﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
قلت : يقال : وصلت الشيء : جعلته موصولاً بعضه ببعض، ويقال : وصلت إليه الكتاب : أبلغته.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولقد وصَّلْنا لهم ﴾ أي : لقريش ولغيرهم، ﴿ القولَ ﴾ ؛ القرآن، أي : تابعناه موصولاً بعضه ببعض في المواعظ والزواجر، والدعاء إلى الإسلام. قال ابن عطية. وقال ابن عرفة اللُّغَوِي : أي : أنزلناه شيئاً بعد شيء، ليصل بعضه ببعض، ليكونوا له أوعى. ه. وتنزيله كذلك ؛ ليكون أبلغ في التذكير ؛ ولذلك قال :﴿ لعلهم يتذكرون ﴾ يعني : أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً ؛ وعداً، ووعيداً، وقصصاً، وعِبَراً، ومواعظ ؛ ليتذكروا فيفلحوا. وقيل : معنى وصلنا : أبلغنا. وهو أقرب ؛ لتبادر الفهم، وفي البخاري : أي :" بيّنا وأتممنا ". وهو عن ابن عباس. وقال مجاهد : فصّلنا. وقال ابن زيد : وَصَلْنَا خير الدنيا بخير الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا.
الإشارة : تفريق المواعظ في الأيام، شيئاً فشيئاً، أبلغ وأنفع من سردها كلها في يوم واحد. وفي الحديث :" كان صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بالموعِظَةِ، مَخَافَة السآمة علينا١ "، والتخول : التعاهد شيئاً فشيئاً. والله تعالى أعلم.
١ أخرجه البخاري في العلم حديث ٦٨، ومسلم في المنافقين حديث ٨٢..
ثم ذكر من آمن به وعرف قدره، فقال :
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ * ﴿ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾ * ﴿ أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ * ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾
قلت :( الذين ) : مبتدأ، ( وهم به ) : خبر.
يقول الحق جل جلاله :﴿ الذين آتيناهم الكتابَ مِن قبله ﴾ ؛ من قبل القرآن ﴿ هُم به ﴾ أي : القرآن ﴿ يؤمنون ﴾، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب، أو : النجاشي وقومه، أو : نصارى نجران، الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهم عشرون رجلاً، فآمنوا به. قال ابن عطية : ذكر هؤلاء مُبَاهياً بهم قريشاً. ه. أي : فهم الذين يُقدرون قدر هذا الكتاب المنزل ؛ لِمَا معهم من العلم الذي ميزوا به الحق، ولذلك قال :﴿ وإِذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مَنْ تَحَمَّلَ من العلماء مشقة تَحَمُّلِ العلمِ الظاهر، ثم ركب أهواء النفس ومحاربتَها في تحصيل العلم الباطن، فهو ممن يُؤتى أجره مرتين، وينال عز الدارين ضعفين ؛ بسبب صبره على العِلْمَيْن، وارتكاب الذل مرتين، إذا اتصف بما اتصف به أولئك، بحيث يدرأ بالحسنة السيئة، وينفق مما رزقه الله من الحس والمعنى، كالعلوم والمواهب، ويعرض عن اللغو - وهو كل ما يشغل عن شهود الله - ويحلم عن الجاهل، ويرفق بالسائل. وبالله التوفيق.
﴿ وإِذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا ﴾ ؛ لِمَا عرفوا في كتابهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وكتابه، ﴿ إِنَّا كنا من قبله ﴾ ؛ من قبل القرآن، أو : من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ مسلمين ﴾ ؛ كائنين على دين الإسلام، مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقوله ﴿ إِنه ﴾ : تعليل للإيمان به ؛ لأن كَوْنَهُ حقاً من عند الله حقيق بأن يُؤْمَنَ به. وقوله :﴿ إِنا ﴾ : بيان لقوله :﴿ آمنا ﴾ ؛ لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد أو بعيده، فأخبروه بأن إيمانهم به متقادم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مَنْ تَحَمَّلَ من العلماء مشقة تَحَمُّلِ العلمِ الظاهر، ثم ركب أهواء النفس ومحاربتَها في تحصيل العلم الباطن، فهو ممن يُؤتى أجره مرتين، وينال عز الدارين ضعفين ؛ بسبب صبره على العِلْمَيْن، وارتكاب الذل مرتين، إذا اتصف بما اتصف به أولئك، بحيث يدرأ بالحسنة السيئة، وينفق مما رزقه الله من الحس والمعنى، كالعلوم والمواهب، ويعرض عن اللغو - وهو كل ما يشغل عن شهود الله - ويحلم عن الجاهل، ويرفق بالسائل. وبالله التوفيق.
﴿ أولئك يُؤْتَون أجرَهم مرتين بما صبروا ﴾ ؛ بصبرهم على الإيمان بالتوراة، والإيمان بالقرآن، أو : بصبرهم على الإيمان بالقرآن، قبل نزوله وبعده، أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب. وفي الحديث :" ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمَةٌ فأعتقتها وتزوجها١ ".
﴿ ويدرؤون بالحسنةِ السيئةَ ﴾ ؛ يدفعون الخصلة القبيحة بالخصلة الحسنة، يدفعون الأذى بالسِلم، والمعصية بالطاعة. ﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ ؛ يتصدقون، أو يزكون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مَنْ تَحَمَّلَ من العلماء مشقة تَحَمُّلِ العلمِ الظاهر، ثم ركب أهواء النفس ومحاربتَها في تحصيل العلم الباطن، فهو ممن يُؤتى أجره مرتين، وينال عز الدارين ضعفين ؛ بسبب صبره على العِلْمَيْن، وارتكاب الذل مرتين، إذا اتصف بما اتصف به أولئك، بحيث يدرأ بالحسنة السيئة، وينفق مما رزقه الله من الحس والمعنى، كالعلوم والمواهب، ويعرض عن اللغو - وهو كل ما يشغل عن شهود الله - ويحلم عن الجاهل، ويرفق بالسائل. وبالله التوفيق.

١ أخرجه البخاري في العلم حديث ٩٧، ومسلم في الإيمان حديث ٢٤١..
﴿ وإذا سمعوا اللغْوَ ﴾ ؛ الباطل، أو الشتم من المشركين، ﴿ أعْرضوا عنه وقالوا ﴾ للاغين :﴿ لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم ﴾ ؛ أمان منا عليكم، لا نقابل لغوكم بمثله، ﴿ لا نبتغي الجاهلين ﴾ ؛ لا نريد مخالطتهم وصحبتهم، أو : لا نبتغي دين الجاهلين، أو محاورة الجاهلين وجدالهم، أو : لا نريد أن نكون جهالاً.
وفي السَير : أن أصحاب النجاشي لَمَّا كلمهم جعفر رضي الله عنه في مجمع النجاشي، بَكَوْا، ووقر الإسلام في قلوبهم، فقدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقرأ عليهم القرآن، فأسلموا، وقالوا :﴿ آمنا به إنه الحق من ربنا. . ﴾ الآية. فلما خرجوا من عنده صلى الله عليه وسلم ؛ استقبلتهم قريش فسبوهم، وقالوا : ما رأينا قوماً أحمق منكم، تركتم دينكم لمجلس ساعة مع هذا الرجل، فقالوا لهم :﴿ سلام عليكم. . . ﴾ إلخ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مَنْ تَحَمَّلَ من العلماء مشقة تَحَمُّلِ العلمِ الظاهر، ثم ركب أهواء النفس ومحاربتَها في تحصيل العلم الباطن، فهو ممن يُؤتى أجره مرتين، وينال عز الدارين ضعفين ؛ بسبب صبره على العِلْمَيْن، وارتكاب الذل مرتين، إذا اتصف بما اتصف به أولئك، بحيث يدرأ بالحسنة السيئة، وينفق مما رزقه الله من الحس والمعنى، كالعلوم والمواهب، ويعرض عن اللغو - وهو كل ما يشغل عن شهود الله - ويحلم عن الجاهل، ويرفق بالسائل. وبالله التوفيق.
ولما حرص صلى الله عليه وسلم على إسلام عمه، نزل :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾.
يقول الحق جل جلاله :﴿ إنك ﴾ يا محمد ﴿ لا تهدي من أحببتَ ﴾ أي : لا تقدر أن تُدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل من قومك وغيرهم ؛ يعني : أن خاصية الهداية خاصة بالربوبية، وخاصية الربوبية لا تكون لمخلوق ؛ ولو كان أكمل الخلق. ﴿ ولكنَّ الله يهدي من يشاء ﴾ يخلق الهداية في قلب من يشاء، ﴿ وهو أعلم بالمهتدين ﴾ بمن يختار هدايته ويقبلها.
قال الزجاج : أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب ؛ وذلك أنه قال عند موته : يا معشر بني هاشم ؛ صدقوا محمداً تُفلحوا. فقال صلى الله عليه وسلم :" يا عَمّ ؛ تأمُرُهُم بالنَّصِيحة لأنفسهم، وتَدعُها لنفسك ! ". فقال : ما تريد يا ابن أخي ؟ فقال :" أُريدُ منك أن تقُول : لا إله إلا الله ؛ أشْهَدُ لك بها عِنْدَ اللهِ ". فقال : يا ابن أخي ؛ أنا قد علمت أنك صادق ؛ ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت. ه. وفي رواية قال :( لولا أن تُعيرني نساء قريش ويقلن : إنه حملني على ذلك الجزع، لأقررتُ بها عينك١ ). وفي لفظ آخر عند البخاري : قال له :" يا عم ؛ قُل : لا إله إلا الله ؛ أُحاجُّ لك بها عند الله ". فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : يا أبا طالب ؛ أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال : بل على ملّة عبد المطلب ؛ فنزلت الآية ٢.
وفيها دليل على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : الهدى هو البيان، وقد هدى الله الناس أجمع ؛ ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم ؛ فدلت الآية على أن وراء البيان ما يسمى هداية ؛ وهو خلق الاهتداء، وإعطاء التوفيق والقدرة على الاهتداء. وبالله التوفيق.
الإشارة : الآية ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ بل هي عامة لكل من يريد الهداية لأحد من خاصته. كتب شيخ أشياخنا سيدي " أحمد بن عبد الله " إلى شيخه سيدي " أحمد بن سعيد الهبري يشكو له ابنه ؛ حيث لم ير منه ما تقر به عينه ؛ فكتب إليه : أخبرني : ما الذي بَنَيْتَ فيه ؟ دع الدار لبانيها ؛ إن شاء هدمها وإن شاء بناها. ه. وفي اللباب - بعد كلام - : قد رضي الله على أقوام في الأزل ؛ فاستعملهم في أسباب الرضا من غير سبب، وسَخِطَ على أقوام في الأزل ؛ فاستعملهم في أسباب السَّخَطِ بلا سبب. ﴿ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٥ ] الآية.
وهذه الآية تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها :﴿ إنك لا تَهْدي من أحببت ﴾. والحكم عام في كل أحد. وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأتم الفضائل وأعلى الوسائل ؛ حتى لم يُسْبَقْ لفضيلة، ولم يَحْتَجْ لوسيلة. وليس له في ذلك نظر ؛ بل سابقة السعادة أيدته، والخصوصية قرَّبته. ولو كان له في التقدير نظر ما مُنع من الشفاعة في عمه أبي طالب، ومن الاستغفار لأبيه. ولو كانت الهداية بيد آدم لهدى قابيل، ولو كانت بيد نوح لهدى ولده كنعان، أو بيد إبراهيم لهدى أباه آزر، أو بيد محمد صلى الله عليه وسلم لأنقذ عمه أبا طالب. جذبت العنايةُ سلمان من فارس، وصاحت على بلال من الحبشة ؛ وأبو طالب على الباب ممنوع من الدخول. سبحان من أعطى ومنع، وضر ونفع. ه.
١ أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٤٢..
٢ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٨، حديث ٤٧٧٢، ومسلم في الإيمان حديث ٣٩..
ولما دعى صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، تعللوا بعلل واهية، كما قال تعالى :
﴿ وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾
قلت :( رزقاً ) : حال من ( الثمرات ) ؛ لتخصيصه بالإضافة، أو مصدر لتجبى ؛ لأن معناه : نرزق، أو : مفعول له.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقالوا ﴾ أي : كفار قريش ﴿ إن نتبع الهُدَى ﴾ وندخل ﴿ معك ﴾ في هذا الدين ؛ ﴿ نُتَخَطّفُ من أرضنا ﴾ أي : تخطفنا العرب وتُخرجنا من أرضنا.
نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف، إن اتبعناك وخالفنا العرب، وإنما نحن أكَلَةُ رأس، أَنْ يتخطفونا من أرضنا، فردّ الله عليهم بقوله :﴿ أوَ لَمْ نُمكِّنْ لهم حَرَماً آمناً ﴾ ؛ أَوَ لَمْ نجعل مكانهم حرماً ذا آمن بحرمة البيت، يأمن فيه قُطانه، ومن التجأ إليه من غيرهم ؛ فَأَنَّى يستقيم أن نعرضهم للتخطف، ونسلبهم الأمن، إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام ؟.
﴿ تُجْبَى إليه ﴾، أي : تُجمع وتُجلب إليه من كل أَوْب، ﴿ ثمراتُ كل شيء ﴾ أي : كل صنف ونوع. ومعنى الكُلِّيَّةِ : الكثرة ؛ كقوله :﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [ النمل : ٢٣ ]، ﴿ رزقاً من لدُنَّا ﴾، ونعمة من عندنا، وإذا كان هذا حالهم، وهم عبدة الأصنام، فكيف إذا أووا إلى كهف الإسلام، وتدرعوا بلباس التوحيد ؟
﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ أي : جهلة، لا يتفطنون ولا يتفكرون حتى يعلموا أنه لا يهملهم من حفظه ورعايته، إن أسلموا. وقيل : يتعلق بقوله :﴿ من لدُنَّا ﴾، أي : قليل منهم يتدبرون، فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله ؛ وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك، ولو علموا أنه من عند الله ؛ لعلموا أن الخوف والأمن من عند الله، ولَمَا خافوا التخطف إذا آمنوا به. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ترى كثيراً من الناس، ممن أراد الله حرمانه من الخصوصية، يتعلل بهذه العلل الواهية، يقول : إن دخلنا في طريق القوم ؛ رفضَنا الناس، وأنكر علينا أقاربنا، ونخاف الضيعة على أولادنا. يقول تعالى لهم : أو لم أُمَكِّن لأوليائي، المتوجهين إلى حَضْرَةِ القدس، حرماً آمناً تُجبى لأهلها الأرزاق من كل جانب، بلا حرص ولا طمع ولا سبب، ولكن أكثر الناس ؛ جهالاً بهذا، وقفوا مع العوائد، فحُرموا الفوائد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم خوفهم بقوله :
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ * ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِيا أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
قلت :" كم " : منصوب بأهلكنا. والبطر : الطغيان عند النعمة. قال في القاموس : البَطَر - محركة : النشاط، والأشر، وقلة احتمال النعمة، والدهش، والحيرة، والطغيان بالنعمة، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهية، فعلى الكل : كفرح. ه. و( معيشتها ) نصب بحذف الجار واتصال الفعل، أي : في معيشتها. وجملة ( لم تسكن ) : حال، والعامل فيها : الإشارة.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وكم أهلكنا من قرية ﴾، أي : كثيراً أهلكنا من أهل قرية، كانت حالهم كحالهم في الأمن والدعة، وخصب العيش، مِنْ وصفها ﴿ بَطِرَتْ ﴾ في ﴿ مَعِيشَتها ﴾، أي : طغت وتجبرت ولم تشكر، بل قابلتها بالبطر والطغيان. قال القشيري : لم يعرفوا قدر نعمتهم، ولم يشكروا سلامة أموالهم، وانتظام أمورهم، فهاموا في أودية الكفران على وجوهم، وخَرُّوا في وَهدة الطغيان على أذقانهم، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم.
﴿ فتلك مساكنهم ﴾ خاوية، أو : فتلك منازلهم باقية الآثار، يشاهدونها في الأسفار ؛ كبلاد ثمود، وقرى لوط، وقوم شعيب، وغيرهم، ﴿ لم تُسكن من بعدهم إلا قليلاً ﴾ من السكنى، أي : لم يسكنها إلا المسافر، أو مار بالطريق ؛ يوماً أو ساعة، ﴿ وكنا نحن الوارثين ﴾ لتك المساكن من سكانها، أي : لا يملك التصرف فيها غيرنا. وفيه إشارة لوعد النصر لمتبع الهدى، وأن الوراثة له، لا أنه يتخطف كما قد قيل، بل يقع الهلاك على من لم يشكر نعمة الله، ويتبع هواه، فكيف يخاف من تكون عاقبته الظفر ممن يكون عاقبته الدمار والتبار ؟ والحاصل : إنما يلحق الخوف من لم يتبع الهدى، فإنه الذي جرت سنة الله في بالهلاك، وأما متبع الهدى ؛ فهو آمن والعاقبة له.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وكم خَرَّبْنَا من قلوب وأخليناها من النور، حيث طغت وتجبرت في معيشتها، وانشغلت بحظوظها وشهواتها، فتلك أماكنها خاوية من النور، لم تُسكن بالنور إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين لها، فأعطينا ذلك النور غيرها، وما فعلنا ذلك حتى بعثنا من يُذكرها ويُنذرها، وما كنا مهلكي قلوبٍ وَمُتْلِفيهَا إلا وأهلها ظالمون، بإيثار الغفلة والشهوة على اليقظة والعفة. والله تعالى أعلم.
﴿ وما كان ربك ﴾ ؛ وما كانت عادته ﴿ مُهلك القرى ﴾ بذنب ﴿ حتى يبعث في أُمِّها ﴾، أي : القرية التي هي أصلها ومعظمها ؛ لأن أهلها يكونون أفطن وأقبل. ﴿ رسولاً ﴾ ؛ لإلزام الحجة وقطع المعذرة، أو : ما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمها، وهي مكة ؛ لأن الأرض دحيت من تحتها. ﴿ رسولاً ﴾ يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم، ﴿ يتلو عليهم آياتنا ﴾ ؛ القرآن، ﴿ وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلُها ظالمون ﴾، أي : وما أهلكناهم للانتقام، إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم، وهو إصرارهم على الكفر والمعاصي، والعناد، بعد الإعذار إليهم. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وكم خَرَّبْنَا من قلوب وأخليناها من النور، حيث طغت وتجبرت في معيشتها، وانشغلت بحظوظها وشهواتها، فتلك أماكنها خاوية من النور، لم تُسكن بالنور إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين لها، فأعطينا ذلك النور غيرها، وما فعلنا ذلك حتى بعثنا من يُذكرها ويُنذرها، وما كنا مهلكي قلوبٍ وَمُتْلِفيهَا إلا وأهلها ظالمون، بإيثار الغفلة والشهوة على اليقظة والعفة. والله تعالى أعلم.
وسبب الهلاك هو حب الدنيا، ولذلك حقر الله تعالى شأنها، حيث قال :
﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ * ﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ * ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾
قلت :" ما " شرطية، وجملة :( فمتاع. . . ) إلخ : جوابه.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما أُوتيتم من شيءٍ ﴾ من زهرة الدنيا ﴿ فمتاعُ الحياة الدنيا وزينتُها ﴾ أي : أيُّ شيء أحببتموه من أسباب الدنيا وملاذها فما هو إلا تمتع وزينة، أياماً قلائل، وهي مدة الحياة الفانية، ﴿ وما عند الله ﴾ من النعيم الدائم في الدار الباقية ؛ ثواباً لأعمالكم ﴿ خير ﴾ من ذلك ؛ لأنه لذة خالصة في بهجة كاملة. ﴿ وأبقى ﴾ ؛ لأنه دائم لا يفنى ﴿ أفلا تعقلون ﴾ أن الباقي خير من الفاني، فتستبدلون الذي هو أدنى يا الذي هو خير ؟.
وعن ابن عباس رضي الله عنه :( إن الله خلق الدنيا، وجعل أهلها ثلاثة أصناف ؛ المؤمن والمنافق والكافر، فالمؤمن يتزود، والمنافق يتربى، والكافر يتمتع. ثم قرأ هذه الآية ). وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" لو كانتِ الدنيا تَزِنُ عند الله جناحَ بعوضة لما سَقَى الكافرَ منها شَرْبَةَ ماءٍ١ " رواه الترمذي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية تحقير لشأن الدنيا الفانية، وتعظيم لشأن الآخرة الباقية. وقد اتفق على هذا جميع الأنبياء والرسل والحكماء، قديماً وحديثاً، وقد تقدم آنفاً أنها لا تَزِن عند الله جناحَ بعوضة وفي حديث آخر :" ما الدنيا في جانب الآخرة، إلا كما يُدخل أَحَدُكُمْ يده في البحر ثم يُخرجه، فانظر ماذا يعلق به١ ". بالمعنى : فنعيم الدنيا كله، بالنسبة إلى نعيم الجنان، كبلل الأصبع، الذي دخل في الماء ثم خرج. مع أن نعيمها مكدر، ممزوج بالأهوال والأحزان والمتاعب. وقد كتب علي بن أبي طالب إلى سلمان - رضي الله عنهما - :" إنما مثل الدنيا كمثل الحية، لينٌ مسها، قاتل سمها، فأعرض عنها، وعما يعجبك منها، لقلة ما يصحبك منها، ودع عنك همومها لما تيقنت من فراقها، وكن أسرّ ما تكون منها، احذر ما تكون منها، فإن صاحبها، كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخص منها إلى مكروه ".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن هذه الدار دار الثوى، لا دار استواء، ومنزل ترح، لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخائها، ولم يحزن لشقائها - أي : لأنهما لا يدومان - ألا وإن الله خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، وأنها سريعة الثوى - أي : الهلاك - وشيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها، لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها ؛ لكريه آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين ". هـ. ذكره ابن وداعة الموصلي.
وذكر أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلا التاط منها بثلاث : شغل لا ينفد عناؤه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا ينال منتهاه، إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا، حتى يستكمل رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه، ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها، على فانية لا ينفك عذابها، وقدّم لِمَا يُقْدِمُ عليه مما هو الآن في يده، قبل أن يُخلفه لمن يسعد بإنفاقه، وقد شقي هو بجمعه واحتكاره ".


١ أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٣٢٠ وابن ماجه في الزهد حديث ٤١١٠..
ثم قرر ذلك بقوله :﴿ أفمن وعدناه وعداً حسنا ﴾، وهو الجنة ؛ إذ لا شيء أحسن منها، حيث اشتملت على النظر لوجه الله العظيم، ولأنها دائمة، ولذا سميت الحسنى، ﴿ فهو ﴾ : أي : الوعد الحسن ﴿ لاقيه ﴾ ومدركه، لا محالة، لامتناع الخلف في وعده تعالى، ﴿ كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ﴾ الذي هو مشوب بالكدر والمتاعب، مستعْقب بالفناء والانقطاع، ﴿ ثم هو يوم القيامة من المحضَرين ﴾ للحساب والعقاب، أو : من الذين أحضروا النار.
والآية نزلت في المؤمن والكافر، أو : في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل١ - لعنه الله -، ومعنى الفاء الأولى : أنه لَمَّا ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله عقّبه بقوله :﴿ أفمن وعدناه ﴾ أي : أبعد هذا التفاوت الجلي نُسَوي بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة ؟ والفاء الثانية للتسبيب، لأنه لقاء الموعود مسبب عن الوعد. و " ثم " : لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع. ومن قرأ :" ثم هْو " ؛ بالسكون، شبه المنفصل بالمتصل، كما قيل في عَضد - بسكون الضاد -.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية تحقير لشأن الدنيا الفانية، وتعظيم لشأن الآخرة الباقية. وقد اتفق على هذا جميع الأنبياء والرسل والحكماء، قديماً وحديثاً، وقد تقدم آنفاً أنها لا تَزِن عند الله جناحَ بعوضة وفي حديث آخر :" ما الدنيا في جانب الآخرة، إلا كما يُدخل أَحَدُكُمْ يده في البحر ثم يُخرجه، فانظر ماذا يعلق به١ ". بالمعنى : فنعيم الدنيا كله، بالنسبة إلى نعيم الجنان، كبلل الأصبع، الذي دخل في الماء ثم خرج. مع أن نعيمها مكدر، ممزوج بالأهوال والأحزان والمتاعب. وقد كتب علي بن أبي طالب إلى سلمان - رضي الله عنهما - :" إنما مثل الدنيا كمثل الحية، لينٌ مسها، قاتل سمها، فأعرض عنها، وعما يعجبك منها، لقلة ما يصحبك منها، ودع عنك همومها لما تيقنت من فراقها، وكن أسرّ ما تكون منها، احذر ما تكون منها، فإن صاحبها، كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخص منها إلى مكروه ".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن هذه الدار دار الثوى، لا دار استواء، ومنزل ترح، لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخائها، ولم يحزن لشقائها - أي : لأنهما لا يدومان - ألا وإن الله خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، وأنها سريعة الثوى - أي : الهلاك - وشيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها، لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها ؛ لكريه آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين ". هـ. ذكره ابن وداعة الموصلي.
وذكر أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلا التاط منها بثلاث : شغل لا ينفد عناؤه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا ينال منتهاه، إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا، حتى يستكمل رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه، ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها، على فانية لا ينفك عذابها، وقدّم لِمَا يُقْدِمُ عليه مما هو الآن في يده، قبل أن يُخلفه لمن يسعد بإنفاقه، وقد شقي هو بجمعه واحتكاره ".


١ أخرجه الطبري في تفسيره ٢٠/٩٧..
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ يوم يُنادِيهم ﴾ ؛ يوم ينادي الله الكفارَ، نداء توبيخ، ﴿ فيقول أين شركائيَ ﴾ ؛ في زعمهم ﴿ الذين كنتم تزعمون ﴾ أنهم شركائي، فحذف المفعول ؛ لدلالة على الكلام عليه. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية تحقير لشأن الدنيا الفانية، وتعظيم لشأن الآخرة الباقية. وقد اتفق على هذا جميع الأنبياء والرسل والحكماء، قديماً وحديثاً، وقد تقدم آنفاً أنها لا تَزِن عند الله جناحَ بعوضة وفي حديث آخر :" ما الدنيا في جانب الآخرة، إلا كما يُدخل أَحَدُكُمْ يده في البحر ثم يُخرجه، فانظر ماذا يعلق به١ ". بالمعنى : فنعيم الدنيا كله، بالنسبة إلى نعيم الجنان، كبلل الأصبع، الذي دخل في الماء ثم خرج. مع أن نعيمها مكدر، ممزوج بالأهوال والأحزان والمتاعب. وقد كتب علي بن أبي طالب إلى سلمان - رضي الله عنهما - :" إنما مثل الدنيا كمثل الحية، لينٌ مسها، قاتل سمها، فأعرض عنها، وعما يعجبك منها، لقلة ما يصحبك منها، ودع عنك همومها لما تيقنت من فراقها، وكن أسرّ ما تكون منها، احذر ما تكون منها، فإن صاحبها، كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخص منها إلى مكروه ".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن هذه الدار دار الثوى، لا دار استواء، ومنزل ترح، لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخائها، ولم يحزن لشقائها - أي : لأنهما لا يدومان - ألا وإن الله خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، وأنها سريعة الثوى - أي : الهلاك - وشيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها، لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها ؛ لكريه آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين ". هـ. ذكره ابن وداعة الموصلي.
وذكر أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلا التاط منها بثلاث : شغل لا ينفد عناؤه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا ينال منتهاه، إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا، حتى يستكمل رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه، ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها، على فانية لا ينفك عذابها، وقدّم لِمَا يُقْدِمُ عليه مما هو الآن في يده، قبل أن يُخلفه لمن يسعد بإنفاقه، وقد شقي هو بجمعه واحتكاره ".

ثم ذكر مآل من اغتر فيها، قال :
﴿ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾ * ﴿ وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ ﴾ * ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ * ﴿ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ * ﴿ فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾
قلت :" هؤلاء " : مبتدأ. و " الذين " : صفته، والعائد : محذوف، و " أغويناهم " : خبر.
والكاف في " كما " : صفة لمصدر محذوف، أي أغويناهم غياً مثل ما غوينا، و " لو أنهم " : جوابه محذوف، أي : لما رأوا العذاب.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قال الذين حقَّ عليهم القولُ ﴾ بالعذاب، وثبت مقتضاه، وهو قوله تعالى :﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ هود : ١١٩ ]، وهم الشياطين، أو : أئمة الكفر : ورؤساء الكفرة :﴿ ربنا هؤلاء ﴾ الكفرة ﴿ الذين أغوينا أغويناهم ﴾ أي : دعوناهم إلى الشرك وسوّلناه لهم، قد غَووا غياً ﴿ كما ﴾ مثل ما ﴿ غَوَينا ﴾ يقولون : إنا لم نغو إلا باختيارنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم ؛ لأن إغواءنا لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً، فلا فرق إذن بين غينا وغيهم، وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان، بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل إليهم من الكتب، وهذا كقوله :﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ. . . ﴾ إلى قوله :﴿ وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ. . . ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ].
ثم قالوا :﴿ تبرَّأنا إليك ﴾ منهم فيما اختاروه من الكفر، ﴿ ما كانوا إيانا يعبدون ﴾، بل كانوا يعبدون أهواءهم، ويطيعون شهواتهم. فَتَحَصَّلَ من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم غَرُّوا الضعفاء، وتبرؤوا من أن يكون آلهتهم، فلا تناقض. انظر ابن جزي. وإخلاء الجملتين من العاطف ؛ لكونهما مقررتين للجملة الأولى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الذين حق عليهم القول ؛ بالانحطاط عن درجة المقربين، والبقاء مع عامة أهل اليمين، وهم الصادُّون الناسَ عن الدخول في طريق القوم : ربنا هؤلاء الذين أغوينا ؛ زيناً لهم البقاء مع الأسباب، والوقوف مع العوائد، أغويناهم كما غوينا، فحيث لم نَقَوَ على مقام أهل التجريد، قوينا سوادنا بهم، تبرأنا إليك ؛ لأنا لم نقهرهم، ولكن وسوسنا لهم ذلك، ما كانوا إيانا يعبدون، ولكن عبدوا هوى أنفسهم. ثم يقال لهم : ادعوا ما كنتم تعبدونه من حظوظ الدنيا وشهواتها، فدعوهم ؛ فلم يستجيبوا لهم، ورأوا عذاب القطيعة، لو أنهم كانوا يهتدون إلى اتباع أهل التربية ؛ ما وقعوا في ذلك. ويوم يناديهم فيقول : ماذا أجبتم الداعين، الذين أرسلتهم في كل زمان، يدعون إلى الله، ويرفعون الحجاب بينهم وبين ربهم، فعميت عليهم الأنبياء يومئذٍ، فهم لا يتساءلون عن أحوال المقربين، لغيبتهم عنهم. والله تعالى أعلم.
﴿ وقيل ﴾ للمشركين :﴿ ادعوا شركاءَكم ﴾ أي : الأصنام ؛ لتُخلصكم من العذاب، ﴿ فَدَعَوْهُمْ فلم يستجيبوا لهم ﴾، فلم يجيبوهم ؛ لعجزهم عن الإجابة والنصرة. ﴿ ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ﴾ لَمَّا رأوا ذلك العذاب، وقيل :" لو " ؛ للتمني، أي : تمنوا أنهم كانوا يهتدون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الذين حق عليهم القول ؛ بالانحطاط عن درجة المقربين، والبقاء مع عامة أهل اليمين، وهم الصادُّون الناسَ عن الدخول في طريق القوم : ربنا هؤلاء الذين أغوينا ؛ زيناً لهم البقاء مع الأسباب، والوقوف مع العوائد، أغويناهم كما غوينا، فحيث لم نَقَوَ على مقام أهل التجريد، قوينا سوادنا بهم، تبرأنا إليك ؛ لأنا لم نقهرهم، ولكن وسوسنا لهم ذلك، ما كانوا إيانا يعبدون، ولكن عبدوا هوى أنفسهم. ثم يقال لهم : ادعوا ما كنتم تعبدونه من حظوظ الدنيا وشهواتها، فدعوهم ؛ فلم يستجيبوا لهم، ورأوا عذاب القطيعة، لو أنهم كانوا يهتدون إلى اتباع أهل التربية ؛ ما وقعوا في ذلك. ويوم يناديهم فيقول : ماذا أجبتم الداعين، الذين أرسلتهم في كل زمان، يدعون إلى الله، ويرفعون الحجاب بينهم وبين ربهم، فعميت عليهم الأنبياء يومئذٍ، فهم لا يتساءلون عن أحوال المقربين، لغيبتهم عنهم. والله تعالى أعلم.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ يوم يُناديهم فيقولُ ماذا أجبتُمُ المرسلين ﴾ الذي أُرسلوا إليكم ؟ أي : بماذا أجبتموهم ؟ وهو أعلم بهم. حكي، أولاً، ما يوبخهم به ؛ من اتخاذهم له شركاء، ثم ما تقوله الشياطين، أو : أئمة الكفر عند توبيخهم ؛ لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة اعتذروا بأن الشياطين، أو الرؤساء، استغووهم، ثم ما يشبه الشماتة بهم ؛ لاستغاثتهم بآلهتهم وعجزهم عن نصرتهم. ثم ما يُبَكَّتُونَ به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الذين حق عليهم القول ؛ بالانحطاط عن درجة المقربين، والبقاء مع عامة أهل اليمين، وهم الصادُّون الناسَ عن الدخول في طريق القوم : ربنا هؤلاء الذين أغوينا ؛ زيناً لهم البقاء مع الأسباب، والوقوف مع العوائد، أغويناهم كما غوينا، فحيث لم نَقَوَ على مقام أهل التجريد، قوينا سوادنا بهم، تبرأنا إليك ؛ لأنا لم نقهرهم، ولكن وسوسنا لهم ذلك، ما كانوا إيانا يعبدون، ولكن عبدوا هوى أنفسهم. ثم يقال لهم : ادعوا ما كنتم تعبدونه من حظوظ الدنيا وشهواتها، فدعوهم ؛ فلم يستجيبوا لهم، ورأوا عذاب القطيعة، لو أنهم كانوا يهتدون إلى اتباع أهل التربية ؛ ما وقعوا في ذلك. ويوم يناديهم فيقول : ماذا أجبتم الداعين، الذين أرسلتهم في كل زمان، يدعون إلى الله، ويرفعون الحجاب بينهم وبين ربهم، فعميت عليهم الأنبياء يومئذٍ، فهم لا يتساءلون عن أحوال المقربين، لغيبتهم عنهم. والله تعالى أعلم.
قال تعالى :﴿ فعَمِيتْ عليهم الأنبياء يومئذِ ﴾ ؛ خفيت عليهم الحجج أو الأخبار. وقيل : خفي عليهم الجواب، فلم يدروا بماذا يجيبون ؛ إذ لم يكن عندهم جواب.
قال البيضاوي : وأصله : فعموا عن الأنباء، لكنه عكس ؛ مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج، فإن أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره، والمراد بالأنباء : ما أجابوا به الرسل، أو : ما يعمها وغيرَها، فإذا كانت الرسل يتلعثمون في الجواب عن مثل ذلك من الهول، ويفوضون إلى علم الله تعالى ؛ فما ظنك بالضلال من البُهم ؟. ه.
فهم لا يتساءلون } ؛ لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب ؛ لفرط الدهشة، أو : عن العذر والحجة، عسى أن يكون عندهم عذر أو حجة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الذين حق عليهم القول ؛ بالانحطاط عن درجة المقربين، والبقاء مع عامة أهل اليمين، وهم الصادُّون الناسَ عن الدخول في طريق القوم : ربنا هؤلاء الذين أغوينا ؛ زيناً لهم البقاء مع الأسباب، والوقوف مع العوائد، أغويناهم كما غوينا، فحيث لم نَقَوَ على مقام أهل التجريد، قوينا سوادنا بهم، تبرأنا إليك ؛ لأنا لم نقهرهم، ولكن وسوسنا لهم ذلك، ما كانوا إيانا يعبدون، ولكن عبدوا هوى أنفسهم. ثم يقال لهم : ادعوا ما كنتم تعبدونه من حظوظ الدنيا وشهواتها، فدعوهم ؛ فلم يستجيبوا لهم، ورأوا عذاب القطيعة، لو أنهم كانوا يهتدون إلى اتباع أهل التربية ؛ ما وقعوا في ذلك. ويوم يناديهم فيقول : ماذا أجبتم الداعين، الذين أرسلتهم في كل زمان، يدعون إلى الله، ويرفعون الحجاب بينهم وبين ربهم، فعميت عليهم الأنبياء يومئذٍ، فهم لا يتساءلون عن أحوال المقربين، لغيبتهم عنهم. والله تعالى أعلم.
﴿ فأما من تابَ ﴾ من الشرك ﴿ وآمَنَ ﴾ بربه وبمن جاء من عنده، ﴿ وعَمِلَ صالحاً ﴾ أي : جمع بين الإيمان والعمل، ﴿ فعسى أن يكون من المفلحين ﴾ ؛ من الفائزين عند الله بالنعيم المقيم. و " عسى "، من الكِرام، تحقيق. وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام، وترغيب للكافرين في الإيمان. وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الذين حق عليهم القول ؛ بالانحطاط عن درجة المقربين، والبقاء مع عامة أهل اليمين، وهم الصادُّون الناسَ عن الدخول في طريق القوم : ربنا هؤلاء الذين أغوينا ؛ زيناً لهم البقاء مع الأسباب، والوقوف مع العوائد، أغويناهم كما غوينا، فحيث لم نَقَوَ على مقام أهل التجريد، قوينا سوادنا بهم، تبرأنا إليك ؛ لأنا لم نقهرهم، ولكن وسوسنا لهم ذلك، ما كانوا إيانا يعبدون، ولكن عبدوا هوى أنفسهم. ثم يقال لهم : ادعوا ما كنتم تعبدونه من حظوظ الدنيا وشهواتها، فدعوهم ؛ فلم يستجيبوا لهم، ورأوا عذاب القطيعة، لو أنهم كانوا يهتدون إلى اتباع أهل التربية ؛ ما وقعوا في ذلك. ويوم يناديهم فيقول : ماذا أجبتم الداعين، الذين أرسلتهم في كل زمان، يدعون إلى الله، ويرفعون الحجاب بينهم وبين ربهم، فعميت عليهم الأنبياء يومئذٍ، فهم لا يتساءلون عن أحوال المقربين، لغيبتهم عنهم. والله تعالى أعلم.
ثم بين الله تعالى بعض صفاته الحسنى، فقال :
﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ * ﴿ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ * ﴿ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وربك يخلقُ ما يشاءُ ﴾، لا موجب عليه، ولا مانع له، وفيه دلالة على خلق الأفعال. ﴿ ويختارُ ﴾ ما يشاء، لا اختيار لأحد مع اختياره. قال البيضاوي : وظاهره : نفي الاختيار عنهم رأساً، والأمر كذلك عند التحقيق ؛ فإنَّ اختيار العبد مخلوق لله، منوط بدواعٍ لا اختيار لهم فيها، وقيل : المراد أنه ليس لأحد أن يختار عليه، فلذلك خلا عن العاطف، يعني قوله :﴿ ما كان. . ﴾ إلخ، ويؤيده : ما روي أنه نزل في قولهم :﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] ه. ﴿ ما كان لهم الخِيَرةُ ﴾ أي : ليس لهم أن يختاروا مع الله شيئاً ما، وله الخيرة عليهم. والخيرة : من التخير، تستعمل مصدراً بمعنى التخير، وبمعنى المتخيّر، ومنه : محمد خيرة الله من خلقه، ولم يدخل العاطف في ﴿ ما كان لهم الخيرة ﴾ ؛ لأنه مقرر لِمَا قبله، وقيل :" ما " : موصولة، مفعول بيختار، والراجع إليه : محذوف، أي : ويختار الذي كان لهم منه الخيرة والصلاح. ه. وبحث فيه النسفي بأن فيه ميلاً إلى الاعتزال، ويجاب : بأن المعتزلة يقولون ذلك على سبيل الإيجاب، ونحن نقوله على سبيل التفضل والإحسان.
﴿ سبحان الله ﴾، أي : تنزيهاً له عن أن ينازعه أحد، أو يزاحم اختيارَهُ اختيارٌ. ﴿ وتعالى عما يشركون ﴾، أي : تعاظم عن إشراكهم، أو : عن مشاركة ما يُشركون به.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية تحضيض على ترك التدبير والاختيار، مع تدبير الواحد القهار، وهو أصل كبير عند أهل التصوف، أفرد بالتأليف، وفي الحِكَم :" أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك ؛ لا تقم به أنت عن نفسك ". وقال سهل رضي الله عنه : ذروا التدبير والاختيار، فإنهما يكدران على الناس عيشهم. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : ذروا التدبير، وإن كان ولا بد من التدبير، فدبروا ألا تدبروا. هـ.
والتدبير المذموم : هو ما فيه للنفس حظ، كتدبير أسباب الدنيا، وما تحصل بها من شهواتها، إذا صحبه عزم أو تكرير، وأمَّا ما كان فيما يقرب إلى الله تعالى فهو النية الصالحة، أو لم يصحب تصميم ؛ بأن كان عَزْمه محلولاً، أو علقة بمشيئة الله، أو كان خاطراً غير ساكن، فلا بأس به. قال القشيري - بعد كلام في وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى : لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العِزِّ ؛ لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلاً، والاختيارُ للحق نعتُ عز، والاختيار للخلق صِفةُ نقصٍ، ونعتُ ملام وقصور، فاختيارُ العَبْدُ على غيرُ مُبَارَكٍ له، لأنه صفة غيرُ مستحِقٍّ لها، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح، قال قائلهم :
ومعَانٍ إذا ادّعاها سواهم لَزِمَتْه جِنَايةُ السُّرَّاقِ
والطينةُ إذا ادَّعَت صفة للحقِّ أظهرت رعونتها، فما للمختار والاختيار ؟ ! وما للمملوكِ والمِلْك ؟ ! وما للعبيد في دَسْتِ الملوك ؟ ! قال تعالى :﴿ ما كان لهم الخيرة ﴾. هـ. وقال آخر في هذا المعنى : والخيرُ أجمعُ : فيما اختار خالقنا *** وفي اختيارِ سواه : اللومُ والشُّومُ
العبدُ ذو ضَجَرٍ، والربُّ ذو قُدَرٍ والدهرُ ذو دُوَلٍ، والرزقُ مقسومُ
فإذا علمت، أيها العبد، أن الحق تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، لم يبق لك مع الله اختيار، فالحالة التي أقامك فيها هي التي تليق بك، ولذلك قيل : العارف لا يعارض ما حلّ به، فقراً كان أو غنى. قال اللجائي في كتاب قطب العارفين : الراضي شبه ميت، لا نفس له، يختار لها، فالفقر والغنى حكمان من حكيم واحد، وهو أعلم سبحانه بعبيده، وما يصلحون به، فمنهم من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى، ومنهم من يصلح للغنى ولا يصلح للفقر، ومنهم من يصلح بالمنع ولا يصلح بالعطاء، ومنهم من يصلح بالعطاء ولا يصلح بالمنع، ومنهم من يصلح بالبلاء ولا يصلح بالصحة، ومنهم من يصلح بالصحة ولا يصلح بالبلاء، ومنهم من يصلح بالوجهين جميعاً، وهو أعلى رُتبة يشار إليها في غاية هذا الشأن، ﴿ وربك يخلق ما يشاء ويختار... ﴾ الآية، ففي هذه الآية كفاية وتعزية لكل سالك راض عن الله تعالى، لكن لا يعقْلُها ولا يتلذذ بها إلا مشايخ العارفين. هـ. وبالله التوفيق.

﴿ وربك يعلم ما تُكِنُّ ﴾ تُضمر ﴿ صدورُهم ﴾ من عداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وحسده، ﴿ وما يُعلنون ﴾ من مطاعنهم فيه، وقولهم : هلاً اختير عليه غَيْرُهُ في النبوة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية تحضيض على ترك التدبير والاختيار، مع تدبير الواحد القهار، وهو أصل كبير عند أهل التصوف، أفرد بالتأليف، وفي الحِكَم :" أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك ؛ لا تقم به أنت عن نفسك ". وقال سهل رضي الله عنه : ذروا التدبير والاختيار، فإنهما يكدران على الناس عيشهم. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : ذروا التدبير، وإن كان ولا بد من التدبير، فدبروا ألا تدبروا. هـ.
والتدبير المذموم : هو ما فيه للنفس حظ، كتدبير أسباب الدنيا، وما تحصل بها من شهواتها، إذا صحبه عزم أو تكرير، وأمَّا ما كان فيما يقرب إلى الله تعالى فهو النية الصالحة، أو لم يصحب تصميم ؛ بأن كان عَزْمه محلولاً، أو علقة بمشيئة الله، أو كان خاطراً غير ساكن، فلا بأس به. قال القشيري - بعد كلام في وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى : لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العِزِّ ؛ لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلاً، والاختيارُ للحق نعتُ عز، والاختيار للخلق صِفةُ نقصٍ، ونعتُ ملام وقصور، فاختيارُ العَبْدُ على غيرُ مُبَارَكٍ له، لأنه صفة غيرُ مستحِقٍّ لها، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح، قال قائلهم :
ومعَانٍ إذا ادّعاها سواهم لَزِمَتْه جِنَايةُ السُّرَّاقِ
والطينةُ إذا ادَّعَت صفة للحقِّ أظهرت رعونتها، فما للمختار والاختيار ؟ ! وما للمملوكِ والمِلْك ؟ ! وما للعبيد في دَسْتِ الملوك ؟ ! قال تعالى :﴿ ما كان لهم الخيرة ﴾. هـ. وقال آخر في هذا المعنى : والخيرُ أجمعُ : فيما اختار خالقنا *** وفي اختيارِ سواه : اللومُ والشُّومُ
العبدُ ذو ضَجَرٍ، والربُّ ذو قُدَرٍ والدهرُ ذو دُوَلٍ، والرزقُ مقسومُ
فإذا علمت، أيها العبد، أن الحق تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، لم يبق لك مع الله اختيار، فالحالة التي أقامك فيها هي التي تليق بك، ولذلك قيل : العارف لا يعارض ما حلّ به، فقراً كان أو غنى. قال اللجائي في كتاب قطب العارفين : الراضي شبه ميت، لا نفس له، يختار لها، فالفقر والغنى حكمان من حكيم واحد، وهو أعلم سبحانه بعبيده، وما يصلحون به، فمنهم من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى، ومنهم من يصلح للغنى ولا يصلح للفقر، ومنهم من يصلح بالمنع ولا يصلح بالعطاء، ومنهم من يصلح بالعطاء ولا يصلح بالمنع، ومنهم من يصلح بالبلاء ولا يصلح بالصحة، ومنهم من يصلح بالصحة ولا يصلح بالبلاء، ومنهم من يصلح بالوجهين جميعاً، وهو أعلى رُتبة يشار إليها في غاية هذا الشأن، ﴿ وربك يخلق ما يشاء ويختار... ﴾ الآية، ففي هذه الآية كفاية وتعزية لكل سالك راض عن الله تعالى، لكن لا يعقْلُها ولا يتلذذ بها إلا مشايخ العارفين. هـ. وبالله التوفيق.

﴿ وهو الله ﴾ المستأثر بالألوهية المختص بها، ﴿ لا إله إلا هو ﴾، تقرير له، كقولك : الكعبة قبلة، لا قبلةَ إلا هي. ﴿ له الحمد في الأولى ﴾ أي : في الدنيا، ﴿ والآخرة ﴾ ؛ لأنه المُولي للنعم كلها، عاجلها وآجلها، يحمده المؤمنون في الدنيا، ويحمدونه في الآخرة بقولهم :
﴿ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ﴾ [ فاطر : ٣٤ ]، ﴿ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ﴾ [ الزمر : ٧٤ ]، ﴿ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٥ ]، والتحميد تم على وجه التلذذ لا الكلفة. ﴿ وله الحُكم ﴾ ؛ القضاء بين عباده، ﴿ وإليه تُرجعون ﴾ بالبعث والنشور. وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية تحضيض على ترك التدبير والاختيار، مع تدبير الواحد القهار، وهو أصل كبير عند أهل التصوف، أفرد بالتأليف، وفي الحِكَم :" أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك ؛ لا تقم به أنت عن نفسك ". وقال سهل رضي الله عنه : ذروا التدبير والاختيار، فإنهما يكدران على الناس عيشهم. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : ذروا التدبير، وإن كان ولا بد من التدبير، فدبروا ألا تدبروا. هـ.
والتدبير المذموم : هو ما فيه للنفس حظ، كتدبير أسباب الدنيا، وما تحصل بها من شهواتها، إذا صحبه عزم أو تكرير، وأمَّا ما كان فيما يقرب إلى الله تعالى فهو النية الصالحة، أو لم يصحب تصميم ؛ بأن كان عَزْمه محلولاً، أو علقة بمشيئة الله، أو كان خاطراً غير ساكن، فلا بأس به. قال القشيري - بعد كلام في وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى : لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العِزِّ ؛ لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلاً، والاختيارُ للحق نعتُ عز، والاختيار للخلق صِفةُ نقصٍ، ونعتُ ملام وقصور، فاختيارُ العَبْدُ على غيرُ مُبَارَكٍ له، لأنه صفة غيرُ مستحِقٍّ لها، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح، قال قائلهم :
ومعَانٍ إذا ادّعاها سواهم لَزِمَتْه جِنَايةُ السُّرَّاقِ
والطينةُ إذا ادَّعَت صفة للحقِّ أظهرت رعونتها، فما للمختار والاختيار ؟ ! وما للمملوكِ والمِلْك ؟ ! وما للعبيد في دَسْتِ الملوك ؟ ! قال تعالى :﴿ ما كان لهم الخيرة ﴾. هـ. وقال آخر في هذا المعنى : والخيرُ أجمعُ : فيما اختار خالقنا *** وفي اختيارِ سواه : اللومُ والشُّومُ
العبدُ ذو ضَجَرٍ، والربُّ ذو قُدَرٍ والدهرُ ذو دُوَلٍ، والرزقُ مقسومُ
فإذا علمت، أيها العبد، أن الحق تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، لم يبق لك مع الله اختيار، فالحالة التي أقامك فيها هي التي تليق بك، ولذلك قيل : العارف لا يعارض ما حلّ به، فقراً كان أو غنى. قال اللجائي في كتاب قطب العارفين : الراضي شبه ميت، لا نفس له، يختار لها، فالفقر والغنى حكمان من حكيم واحد، وهو أعلم سبحانه بعبيده، وما يصلحون به، فمنهم من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى، ومنهم من يصلح للغنى ولا يصلح للفقر، ومنهم من يصلح بالمنع ولا يصلح بالعطاء، ومنهم من يصلح بالعطاء ولا يصلح بالمنع، ومنهم من يصلح بالبلاء ولا يصلح بالصحة، ومنهم من يصلح بالصحة ولا يصلح بالبلاء، ومنهم من يصلح بالوجهين جميعاً، وهو أعلى رُتبة يشار إليها في غاية هذا الشأن، ﴿ وربك يخلق ما يشاء ويختار... ﴾ الآية، ففي هذه الآية كفاية وتعزية لكل سالك راض عن الله تعالى، لكن لا يعقْلُها ولا يتلذذ بها إلا مشايخ العارفين. هـ. وبالله التوفيق.

ثم برهن على انفراده بالخلق والاختيار، فقال :
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ ﴾ * ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ * ﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ * ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ * ﴿ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾
قلت :( سرمداً ) : مفعول ثان لجعل، وهو من السرد، أي : التتابع، ومنه قولهم في الأشهر الحرم : ثلاثة سرد وواحد فرد، والميم زائدة، فوزنه : فعْمَل.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قل أرأيتم ﴾ ؛ أخبروني ﴿ إن جعل الله عليكم الليلَ سرمداً ﴾ ؛ دائماً ؛ بإسكان الشمس تحت الأرض، أو بتحريكها حول الأفق الخارج عن كورة الأرض، أو بإخفاء نورها، ﴿ مَنْ إلهٌ غيرُ اللهِ يأتيكم بضياءٍ ﴾، وحقه : هل إله غير الله، وعبّر ب " مَن " على زعمهم أن غيره آلهة، أي : هل يقدر أحد على هذا ؟ ﴿ أفلا تسمعون ﴾ سماع تدبر واستبصار ؟.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : دوام ليل القبض يمحق البشرية، ودوام نهار البسط يُطغي النفس، وتخالفهما على المريد رحمة، وإخراجه عنهما عناية، وفي الحكم :" بسطِك كي لا يتركك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه ". وقال فارس رضي الله عنه : القبض أولاُ، ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط، لأن القبض والبسط يقعان في الوجود وأما مع الفناء والبقاء فلا. هـ.
﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهارَ سرمداً إلى يوم القيامة ﴾ بإسكانها في وسط السماء، أو : بتحريكها فوق الأفق فقط، ﴿ مَنْ إِلهٌ غير الله يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه ﴾ ؛ استراحة من متاعب الأشغال ؟ ولم يقل : بنهار تتصرفون فيه، كما قال :﴿ بليل تسكنون فيه ﴾، بل ذكر الضياء، وهو ضوء الشمس ؛ لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة، وليس هو التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس هو بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء. ﴿ أفلا تسمعون ﴾ ؛ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر، من ذكر منافعه، ووصف فوائده، وقرن بالليل ﴿ أفلا تُبصرون ﴾ ؛ لأن غيرك يُبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : دوام ليل القبض يمحق البشرية، ودوام نهار البسط يُطغي النفس، وتخالفهما على المريد رحمة، وإخراجه عنهما عناية، وفي الحكم :" بسطِك كي لا يتركك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه ". وقال فارس رضي الله عنه : القبض أولاُ، ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط، لأن القبض والبسط يقعان في الوجود وأما مع الفناء والبقاء فلا. هـ.
﴿ ومن رحمته ﴾ تعالى ﴿ جَعَلَ لكم الليلَ والنهارَ لتسْكُنُوا فيه ﴾ ؛ في الليل ﴿ ولِتَبْتَغوا من فضله ﴾ بالنهار بأنواع المكاسب. وهو من باب اللف والنشر. وقال الزجاج : يجوز أن يكون معناه : لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من الله فيهما، ويكون المعنى : جعل لكم الزمان ليلاً ونهاراً ؛ لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله، ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ أي : ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : دوام ليل القبض يمحق البشرية، ودوام نهار البسط يُطغي النفس، وتخالفهما على المريد رحمة، وإخراجه عنهما عناية، وفي الحكم :" بسطِك كي لا يتركك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه ". وقال فارس رضي الله عنه : القبض أولاُ، ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط، لأن القبض والبسط يقعان في الوجود وأما مع الفناء والبقاء فلا. هـ.
ثم قَرَّعهم على الإشراك، بعد هذا البيان التام، بقوله :﴿ ويومَ يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾ وكرر التوبيخ على الشرك، ليؤذن ألاَّ شيء أجلبُ لغضب الله تعالى من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. وقال القرطبي : أعاد هذا ؛ لاختلاف الحالين، ينادون مرة، فيدعون الأصنام فلا تستجيب لهم، فيظهر كذبهم. ثم ينادون مرة أخرى فيسكنون، وهو توبيخ وزيادة خزي. ثم طرق كون المناداة من الله، أو ممن يأمره بذلك، لقوله :﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ﴾ [ البقرة : ١٧٤ ]، ويحتمل : ولا يكلمهم بعد قوله :﴿ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٨ ] أو : ولا يكلمهم كلام رضا. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : دوام ليل القبض يمحق البشرية، ودوام نهار البسط يُطغي النفس، وتخالفهما على المريد رحمة، وإخراجه عنهما عناية، وفي الحكم :" بسطِك كي لا يتركك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه ". وقال فارس رضي الله عنه : القبض أولاُ، ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط، لأن القبض والبسط يقعان في الوجود وأما مع الفناء والبقاء فلا. هـ.
﴿ ونزعنا ﴾ ؛ وأخرجنا ﴿ من كل أُمةٍ شهيداً ﴾، وهو نبيهم، يشهد عليهم بما كانوا عليه ؛ لأن الأنبياء شهداء على أممهم، ﴿ فقلنا ﴾ للأمم :﴿ هاتوا برهانكم ﴾ على صحة ما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول، ﴿ فعلموا ﴾ حينئذٍ ﴿ أن الحق لله ﴾ في الألوهية، لا يشاركه فيها غيره، ﴿ وضل عنهم ﴾ ؛ غاب غيبة الشيء الضائع ﴿ ما كانوا يَفترون ﴾ من ألوهية غير الله وشفاعة أصنامهم. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : دوام ليل القبض يمحق البشرية، ودوام نهار البسط يُطغي النفس، وتخالفهما على المريد رحمة، وإخراجه عنهما عناية، وفي الحكم :" بسطِك كي لا يتركك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه ". وقال فارس رضي الله عنه : القبض أولاُ، ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط، لأن القبض والبسط يقعان في الوجود وأما مع الفناء والبقاء فلا. هـ.
ولما قال تعالى :﴿ وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ﴾ ؛ ذكر من متعه بها وغرته، فقال :
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ * ﴿ وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾
قلت :" قارون " : غير مصروف ؛ للعجمة والتعريف، ولو كان " فاعولاً " ؛ من قرنت الشيء، لانصرف لخروجه عن العجمة. ﴿ إذ قال ﴾ : ظرف لبَغَى أي : طغى حين وُعِظ، ولم يقبل ما وُعظ به، أو : يتعلق بمقدر، أي : أظهر التفاخر بالمال حين قال له قومه : لا تفرح. و " ما " : موصولة، و " إنَّ مفاتحه " : صلته، ولذلك كسرت.
يقول الحق جل جلاله :﴿ إنَّ قارون كان من قوم موسى ﴾ كان إسرائيلياً، ابن عم لموسى وابن خالته، فهو قارون بن يصهر بن قَاهَث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران بن قاهَث. وكان يسمى " المنور " ؛ لحُسن صورته وكان آمن بموسى، وكان أحفظ الناس للتوراة، ولكنه نافق كما نافق السامري. ﴿ فَبَغَى عليهم ﴾، من البغي، أي : الظلم : قيل : ملَّكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. أو : من البغي، أي : الكبر، أي : تكبر عليهم بكثرة ماله وولده، وزاد عليهم في الثياب شبراً، فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده.
﴿ وآتيناه من الكنوز ما ﴾ الذي ﴿ إنَّ مفاتِحَه ﴾ ؛ جمع مِفتح، بمعنى المقَلد، أي : إن مقاليده ﴿ لَتَنُوءُ ﴾ أي : تثقل ﴿ بالعُصْبَةِ ﴾، الباء للتعدية، يقال : ناء به الحمل : أثقله حتى أماله. والعصبة : الجماعة الكثيرة، وكانت مفاتح خزائنه وقرَ ستين بغلاً، لكل خزانة مفتاح، ولا يزيد المفتاح على إصبع. وكانت من جلود، أي : مغاليقها. وقيل : معنى تنوء : تنهض بِتَكَلُّفِ، ويكون حينئذٍ في الكلام قلب ؛ إذ العصبة هي التي تنوء بالمفاتح، لا العكس، قيل : وسميت أمواله كنوزاً ؛ لأنه كان لا يؤدي زكاتها، وبسبب ذلك عادى موسى أول عداوته.
﴿ إذْ قال له قومُه لا تفرح ﴾ ؛ لا تبطر بكثرة المال ؛ فرَح إعجاب ؛ لأنه يقود إلى الطغيان. أو : لا تفرح بالدنيا ؛ إذ لا يفرح بها إلا من لا عقل له، ﴿ إن الله لا يُحب الفَرِحِين :﴾ البطرين المفتخرين بالمال، أو : الفرحين بزخارف الدنيا، من حيث حصول حظوظهم وشهواتهم فيها. قال البيضاوي : الفرح بالدنيا مذموم مطلقاً ؛ لأنه نتيجة حبها والرضا بها، والذهول عن ذهابها، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارق لا محالة، يوجب التوخي لا محالة، كما قيل :
أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرورٍ تَيَقّن عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية زجر عن الفرح بالدنيا والافتخار بها، بل الفرح بكل ما يَفنِي : كُلُّهُ مذموم. قال في الإحياء : الفرح بالدنيا والتنعم بها سُمٌّ قاتل، يسري في العروق، فَيُخرجُ من القلب الخوفَ والحزنَ، وذكرَ الموت وأهوالَ يوم القيامة، وهذا هو موت القلب، والعياذ بالله، فأولو العزم من أرباب القلوب حزنوا لِمُوَاتَاةِ الدنيا، وَعَلِموا أن النجاة في الحزن الدائم، والتباعُدِ من أسباب الفرح والبطر، فقطعوا النفس عن ملاذها، وعودوا الصبر عن شهواتها، حلالها وحرامها، وعلموا أن حلالها حساب، وهو نوع عذاب، ومن نوقش الحساب عُذّب، فخلَصوا أنفسهم من عذابها، وتوصلوا إلى الحرية والملك في الدنيا والآخرة، بالخلاص من أسر الشهوات ورقها، والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته. هـ.
وقال يُمْن بن رزق : اعلم أني لم أجد شيئاً أبلغ في الزهد في الدنيا من ثبات حزن الآخرة في القلب، وعلامة ثبات حزن الآخرة في القلب : أنْسُ القلب بالوحدة. هـ. قلت : وهذا مذهب العباد والزهاد، وأما العارفون فقد دخلوا جنة المعارف، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، جعلنا الله من خواصهم، بمنِّه وكرمه.

﴿ وابتغِ فيما آتاك الله ﴾ من المال والثروة ﴿ الدارَ الآخرة ﴾ ؛ بأن تتصدق على الفقراء تصل الرحم، وتصرفه في أنواع الخير، ﴿ ولا تنس نصيبَكَ من الدنيا ﴾، وهو أن تأخذ ما يكفيك ويصلحك. وقيل : معناه : واطلب بدنياك آخرتك ؛ فإن ذلك حظ المؤمن منها ؛ لأنها مزرعة الآخرة، فيها تكتسب الحسنات وترفع الدرجات، أي : لا تنس نصيبك منها أن تقدمه للآخرة، ﴿ وأحسنْ ﴾ إلى عباد الله ﴿ كما أحسن الله إليك ﴾ فيما أنعم به عليك : أو : أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام، كما أحسن إليك بسوابغ الإنعام.
﴿ ولا تبغِ الفسادَ في الأرض ﴾ بالظلم والبغي وإنفاق المال في المعاصي ؛ ﴿ إن الله لا يحب المفسدين ﴾ ؛ لا يرضى فعلهم. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية زجر عن الفرح بالدنيا والافتخار بها، بل الفرح بكل ما يَفنِي : كُلُّهُ مذموم. قال في الإحياء : الفرح بالدنيا والتنعم بها سُمٌّ قاتل، يسري في العروق، فَيُخرجُ من القلب الخوفَ والحزنَ، وذكرَ الموت وأهوالَ يوم القيامة، وهذا هو موت القلب، والعياذ بالله، فأولو العزم من أرباب القلوب حزنوا لِمُوَاتَاةِ الدنيا، وَعَلِموا أن النجاة في الحزن الدائم، والتباعُدِ من أسباب الفرح والبطر، فقطعوا النفس عن ملاذها، وعودوا الصبر عن شهواتها، حلالها وحرامها، وعلموا أن حلالها حساب، وهو نوع عذاب، ومن نوقش الحساب عُذّب، فخلَصوا أنفسهم من عذابها، وتوصلوا إلى الحرية والملك في الدنيا والآخرة، بالخلاص من أسر الشهوات ورقها، والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته. هـ.
وقال يُمْن بن رزق : اعلم أني لم أجد شيئاً أبلغ في الزهد في الدنيا من ثبات حزن الآخرة في القلب، وعلامة ثبات حزن الآخرة في القلب : أنْسُ القلب بالوحدة. هـ. قلت : وهذا مذهب العباد والزهاد، وأما العارفون فقد دخلوا جنة المعارف، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، جعلنا الله من خواصهم، بمنِّه وكرمه.

ثم ذكر جواب قارون، فقال :
﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ قال ﴾ قارون :﴿ إنما أُوتيته ﴾ أي : المال ﴿ على علم عندي ﴾ أي : على استحقاق مني، لِمَا فيّ من العلم الذي فَضلت به الناس، وهو علم التوراة، وكان أعلم الناس به بعد، موسى وهارون، وكان من العباد، ثم كفر بعد ذلك. وذكر القشيري أنه كان منقطعاً في صومعة للعبادة، فصحبه إبليسُ على العبادة، واستمر معه على ذلك، وهو لا يشعر، إلى أن ألقى إليه : إن ما هما عليه، من الانقطاع عن التكسب، وكون أمرها على أيدي الناس، ليس بشيء، فرده إلى الكسب بتدريج، إلى أن استحكم في حب الدنيا والجمع والمنع، ثم تركه. ه. وقيل : المراد به علم الكيمياء، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا. أو : العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة، أو : العمل بكنوز يوسف.
قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يعلم أن الله قد أهلكَ مِنْ قبله من القرون مَنْ هو أشدُّ منه قوةً وأكثرُ جَمْعاً ﴾، أي : أو لم يكن في علمه، من جملة العلم الذي عنده، أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه وأقوى وأغنى، وأكثر جمعاً للمال، أو أكثر جماعة وعددا، وهو توبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك ؛ لأن قرأه في التوراة، وسمعه من حفاظ التواريخ. أو : نفيٌ لعلمه بذلك ؛ لأنه لَمَّا قال :﴿ أُوتيته على علم عندي ﴾ ؛ قيل له، أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه، ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع، الذي هو الاعتبار بمن هلك قبله، حتى يَقِيَ نفسه مصارع الهالكين.
﴿ ولا يُسْأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾، لعلمه تعالى بعملهم، بل يُدخلهم النار بغتة.
أو : يعترفون بها بغير سؤال، أو : يُعرفون بسيماهم فلا يُسألون، أو : لا يُسألون سؤال توبيخ، أو لا يُسْأَلُ المجرمون من هذه الأمة عن ذنوب الماضين. قال محمد بن كعب : هو كلام متصل بما قبله، والضمير في ( ذنوبهم ) ؛ عائد على من أهلك من القرون، أي : أُهلكوا، ولم يُسْأَلُ غيرهم بعدهم عن ذنوبهم، بل كان أحد إنما يُعاتب على ما يخصه. ه. وإذ قلنا هو ؛ في القيامة فقد ورد في آيات أخر أنهم يُسْألون، ويومُ القيامة مواطن وطوائف. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا خص الله عبداً بخصوصية فلا ينسبها لنفسه، أو لحوله وقوته، أو لكسبه ومجاهدته، بل يشهدها منَّةً من الله عليه، وسابق عناية منه إليه، قال سهل رضي الله عنه : ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح، والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله، وفتح له سبيل رؤيةِ مِنَّةِ الله عليه، في جميع الأفعال والأقوال. والشقي من زُيِّنَ له في عينه أفعالهُ وأقوالُه وأحوالُه، ولا فتِحَ له سبيلُ رؤيةِ منَّةِ الله عليه، فافتخر بها وادعاها لنفسه، فشؤمه أن يهلكه كما خسف بقارون. لَمّا ادعى لنفسه فضلاً. ه.
ثم قال تعالى :
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ * ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ ﴾ * ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ﴾ * ﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾
قلت :( في زينته ) : حال.
يقول الحق جل جلاله :﴿ فخرج ﴾ قارونُ ﴿ على قومه في زينته ﴾، قال جابر : كانت زينته القرمز، وهو صبغ أحمر معروف. قيل : إنه خرج في الحمرة والصفرة، وقيل : خرج يوم السبت على بغلة شهباء، عليها الأرْجُوان، وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيه، وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحليّ والديباج.
﴿ قال الذين يُريدون الحياةَ الدنيا ﴾، قيل : كانوا مسلمين، وإنما تمنوا، على سبيل الرغبة في اليسار، كعادة البشر، وقيل : كانوا كفاراً، ويرده قوله :﴿ لولا أن مَنّ الله علينا. . ﴾ إلخ. ﴿ يا ليت لنا مِثْلَ ما أُوتي قارونُ ﴾ من المال والجاه، قالوه ؛ غِبْطَةً. والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه، من غير أن تزول عنه، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له، دونه. وهو كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [ النساء : ٣٢ ]، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تضر الغبطة ؟ فقال :" لا. . . ١ " الحديث. ﴿ إنه لذو حظٍ عظيم ﴾ من الدنيا، والحظ : الجَدُّ، وهو البخت والدولة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية ترهيب من التعمق في زينة الدنيا، والتكاثر بها. ومن تمنى ما لأربابها من غرور زخرفها، وترغيب في الزهد فيها، وإيثار الفقر على الغنى، والتبذل والتخشن على ملاذ ملابسها ومطاعمها. قال الشيخ العارف ؛ سيدي عبد الرحمان بن يوسف اللجائي في كتابه : اعلم أن الدنيا إذا عظمت وجلّت في قلب عبد، فإن ذلك العبد يعظم قدر من أقبلت عليه الدنيا، ويتمنى أن ينال منها ما نال، فإن كل إنسان يعظم ما اشتهت نفسه. وهذه صفة عبيد الدنيا، وعبيد أهوائهم. وهي صفة من أسكرته الغفلة، وخرجت عظمة الله عز وجل من قلبه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى :﴿ قال الذين يريدون الحياة الدنيا... ﴾ الآية. فكل محب للدنيا، مستغرق في حبها، فهو لاحق بالذين تموا زينة قارون. واعلم أن الدنيا إذا رسخت في القلب، واستوطنت، ظهر ذلك على جوارح العبد، بتكالبه عليها، وشدة رغبته فيها، فيسلبه الله تعالى لذة القناعة، ويمنعه سياسة الزاهدين، ويبعده عن روح العارفين ؛ فإن القلب إذا لم يقنع ـ لو ملك الدنيا بحذافيرها ـ لم يشبع. وقال بعض الحكماء : القناعة هي الغنى الأكبر، ولن تخفى صفة القانعين. هـ. ومآل الراغبين في الدنيا هو مآل قارون، من الفناء والذهاب تحت التراب، وأنشدوا :
إنْ كُنْتَ تَسّمُوِ إِلَى الدُّنْيا وَزِينَتِهَا فَانْظُرْ إِلى مَالِكَ الأَمْلاَكِ قَارُونِ
رَمَّ الأُمُورَ فَأَعْطَتْهُ مَقَادتَهَا وَسَخَّرَ النَّاسَ ؛ بِالتَّشْدِيدِ وَاللِّينِ
حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَلاَّ شَيءَ غَالِبُه وَمُكِّنَتْ قَدَمَاهُ أَيَّ تَمْكِينِ
رَاحَتْ عَلَيْهِ الْمَنَايَا رَوْحَةً تَرَكَتْ ذَا المُلْكِ والْعِزِّ تَحْتَ الْمَاءِ وَالطِّينِ


١ أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٣/٤٣٢..
﴿ وقال الذين أُوتوا العلمَ ﴾ بالثواب والعقاب وفناء الدنيا، أو : أتوا العلم بالله، فيؤخذ منه : أن متمني الدنيا جاهل ولو كان أعلم الناس ؛ إذ لا يتمناها إلا المحب لها، وهي رأس الفتنة. فأيّ علم يبقى مع فتنة الدنيا ؟ ! قالوا في وعظهم لغابطي قارون :﴿ وَيْلَكُمْ ﴾ ؛ هلاكاً لكم، فأصل ويلك : الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع على ترك ما لا يرضى. وقال في التبيان في إعراب القرآن : هو مفعول بفعل محذوف، أي : ألزمتكم الله ويلكم، ﴿ ثوابُ الله ﴾ في الآخرة، ﴿ خير لمن آمن وعَمِلَ صالحاً ﴾ مما أوتي قارون، بل من الدنيا وما فيها، ﴿ ولا يُلقَّاها ﴾ أي : لا يلقى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء، وهي ثواب الله خير، ﴿ إلا الصابرون ﴾. أو : لا يلقى هذه القوة والعزيمة في الدين إلا الصابرون على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا.
وفي حديث الترمذي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من ترك اللباس - أي : الفاخر - ؛ تواضعاً لله تعالى، وهو يَقْدِرُ عليه، دعاهُ الله على رؤوس الخلائق، حتى يُخَيِّره من أي حُلل الإيمانِ شاء يَلْبَسُهَا١ ". وفيه أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام :" لَيْسَ لابن آدَمَ حقٌّ في سوى هذِهِ الخِصَال ؛ بيتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَه، وجلَف الخُبْزِ وَالْمَاءِ٢ ". أي : ليس معه إدام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية ترهيب من التعمق في زينة الدنيا، والتكاثر بها. ومن تمنى ما لأربابها من غرور زخرفها، وترغيب في الزهد فيها، وإيثار الفقر على الغنى، والتبذل والتخشن على ملاذ ملابسها ومطاعمها. قال الشيخ العارف ؛ سيدي عبد الرحمان بن يوسف اللجائي في كتابه : اعلم أن الدنيا إذا عظمت وجلّت في قلب عبد، فإن ذلك العبد يعظم قدر من أقبلت عليه الدنيا، ويتمنى أن ينال منها ما نال، فإن كل إنسان يعظم ما اشتهت نفسه. وهذه صفة عبيد الدنيا، وعبيد أهوائهم. وهي صفة من أسكرته الغفلة، وخرجت عظمة الله عز وجل من قلبه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى :﴿ قال الذين يريدون الحياة الدنيا... ﴾ الآية. فكل محب للدنيا، مستغرق في حبها، فهو لاحق بالذين تموا زينة قارون. واعلم أن الدنيا إذا رسخت في القلب، واستوطنت، ظهر ذلك على جوارح العبد، بتكالبه عليها، وشدة رغبته فيها، فيسلبه الله تعالى لذة القناعة، ويمنعه سياسة الزاهدين، ويبعده عن روح العارفين ؛ فإن القلب إذا لم يقنع ـ لو ملك الدنيا بحذافيرها ـ لم يشبع. وقال بعض الحكماء : القناعة هي الغنى الأكبر، ولن تخفى صفة القانعين. هـ. ومآل الراغبين في الدنيا هو مآل قارون، من الفناء والذهاب تحت التراب، وأنشدوا :
إنْ كُنْتَ تَسّمُوِ إِلَى الدُّنْيا وَزِينَتِهَا فَانْظُرْ إِلى مَالِكَ الأَمْلاَكِ قَارُونِ
رَمَّ الأُمُورَ فَأَعْطَتْهُ مَقَادتَهَا وَسَخَّرَ النَّاسَ ؛ بِالتَّشْدِيدِ وَاللِّينِ
حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَلاَّ شَيءَ غَالِبُه وَمُكِّنَتْ قَدَمَاهُ أَيَّ تَمْكِينِ
رَاحَتْ عَلَيْهِ الْمَنَايَا رَوْحَةً تَرَكَتْ ذَا المُلْكِ والْعِزِّ تَحْتَ الْمَاءِ وَالطِّينِ


١ أخرجه الترمذي في صفة القيامة حديث ٢٤٨١..
٢ أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٣٤١، وأحمد في المسند ١/٦٢..
قال تعالى :﴿ فخسفنا به ﴾ ؛ بقارون ﴿ وبداره الأرض ﴾، كان قارون يؤدي موسى عليه السلام كل وقت، وهو يداريه ؛ للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة، فصالحه : على كل ألف دينار دينارٌ، وعلى كل ألف درهم درهمٌ، فحاسبه فاستكثره، فشحت به نفسه، فجمع بني إسرائيل، وقال له : قد أطعتم موسى في كل شيء، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا : أنت كبيرنا فَمُرنا بما شئت، قال : نجعل لفلانة البغي جُعْلاً حتى تقذف موسى بنفسها، فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها ألف دينار، أو : طستاً من ذهب، فلما كان يوم عيد قام موسى خطيباً، فقال : من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة رجمناه، فقال قارون : وإن كنتَ أنتَ ؟ قال : وإن كنتُ أنا، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأحضرت، فناشدها بالذي خلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق، فقالت : جعل لي قارون جُعلا على أن أقذفك بنفسي، فخرَّ موسى ساجداً يبكي، وقال : اللهم إن كنتُ رسولَك فاغضبْ لي، فأوحى الله تعالى إليه : مُر الأرض بما شئت فيه، فإنها مطيعة لك، فقال : يا بني إسرائيل : إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا جميعاً غير رَجُلَيْن. ثم قال : يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال : خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارونُ وأصحابه يتضرعون إلى موسى، ويناشدونه بالله وبالرحم، وموسى لا يلتفت إليهم ؛ لشدة غضبه، ثم قال : خذيهم، فانطبقت عليهم. فقال الله تعالى : يا موسى ؛ استغاث بك مراراً فلم ترحمه، فوعزتي لو استرحمني مرة لرحمته.
رُوي أنه يخسف كل يوم قامة، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فقال بعض بني إسرائيل : إنما أهلكه ليرث داره وكنوزه، فدعى الله تعالى فخسف بداره وكنوزه، وأوحى الله تعالى إلى موسى : إني لا أُعَبِّدُ الأرض أحداً بعدك أبداً، أي : لا آمرها تطيع أحداً بعدك.
﴿ فما كان له من فئة ﴾ ؛ جماعة ﴿ ينصرونه من دون الله ﴾ ؛ يمنعونه من عذاب الله ﴿ وما كان من المنتصرين ﴾ من عذاب الله، أو : من المنتقمين من موسى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية ترهيب من التعمق في زينة الدنيا، والتكاثر بها. ومن تمنى ما لأربابها من غرور زخرفها، وترغيب في الزهد فيها، وإيثار الفقر على الغنى، والتبذل والتخشن على ملاذ ملابسها ومطاعمها. قال الشيخ العارف ؛ سيدي عبد الرحمان بن يوسف اللجائي في كتابه : اعلم أن الدنيا إذا عظمت وجلّت في قلب عبد، فإن ذلك العبد يعظم قدر من أقبلت عليه الدنيا، ويتمنى أن ينال منها ما نال، فإن كل إنسان يعظم ما اشتهت نفسه. وهذه صفة عبيد الدنيا، وعبيد أهوائهم. وهي صفة من أسكرته الغفلة، وخرجت عظمة الله عز وجل من قلبه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى :﴿ قال الذين يريدون الحياة الدنيا... ﴾ الآية. فكل محب للدنيا، مستغرق في حبها، فهو لاحق بالذين تموا زينة قارون. واعلم أن الدنيا إذا رسخت في القلب، واستوطنت، ظهر ذلك على جوارح العبد، بتكالبه عليها، وشدة رغبته فيها، فيسلبه الله تعالى لذة القناعة، ويمنعه سياسة الزاهدين، ويبعده عن روح العارفين ؛ فإن القلب إذا لم يقنع ـ لو ملك الدنيا بحذافيرها ـ لم يشبع. وقال بعض الحكماء : القناعة هي الغنى الأكبر، ولن تخفى صفة القانعين. هـ. ومآل الراغبين في الدنيا هو مآل قارون، من الفناء والذهاب تحت التراب، وأنشدوا :
إنْ كُنْتَ تَسّمُوِ إِلَى الدُّنْيا وَزِينَتِهَا فَانْظُرْ إِلى مَالِكَ الأَمْلاَكِ قَارُونِ
رَمَّ الأُمُورَ فَأَعْطَتْهُ مَقَادتَهَا وَسَخَّرَ النَّاسَ ؛ بِالتَّشْدِيدِ وَاللِّينِ
حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَلاَّ شَيءَ غَالِبُه وَمُكِّنَتْ قَدَمَاهُ أَيَّ تَمْكِينِ
رَاحَتْ عَلَيْهِ الْمَنَايَا رَوْحَةً تَرَكَتْ ذَا المُلْكِ والْعِزِّ تَحْتَ الْمَاءِ وَالطِّينِ

﴿ ويْكَأنه ﴾ : مذهب الخليل وسيبويه : أن " وي " : حرف تنبيه منفصلة عن كَأَنَ، لكن أضيفت لكثرة الاستعمال. وقال أبو حاتم وجماعة :" ويك " هي " ويلك " ؛ حذفت اللام منها ؛ لكثرة الاستعمال. وقالت فرقة :" ويكأن " بجملتها كلمة. قاله الثعلبي، وقال البيضاوي : ويكأن، عند البصريين، مركب من " وي " ؛ للتعجب، و " كأن "، للتشبيه. ه. وقال سيبويه :" وي " : كلمة تنبيه على الخطأ وتَنَدُّمٍ، يستعملها النادم لإظهار ندامته.
﴿ وأصبح ﴾ أي : وصار ﴿ الذين تمنَّوا مكانَه ﴾ أي : منزلته من الدنيا ﴿ بالأمس ﴾ : متعلق بتمنوا. ولم يُرد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن الوقت القريب، استعارة. ﴿ يقولون ويْكأنّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدرُ ﴾ أي : أعجب مما صنع بقارون ؛ لأن الله يبسط الرزق لمن يشاء، وهو عنده ممقوت، ﴿ ويقدر ﴾ أي : يضيقه على من يشاء، وهو عنده محبوب. ﴿ لولا أن مَنَّ الله علينا ﴾ ؛ بصرف ما كنا نتمناه بالأمس، ﴿ لخسف بنا ﴾ معه، كما فعل بالرجلين ﴿ ويْكأنه لا يُفلح الكافرون ﴾ أي : اعجب لعدم فلاح الكافرين. قال الرضي : كأنه المخاطب كان يدعي أنهم يفلحون، فقال له : عجباً منك، فسئل : لم تتعجب منه ؟ فقال : إنه لا يفلح الكافرون، فحذف حرف الجار. وقال ابن عزيز : ويكأن الله معناه. ألم تر أن الله. واقتصر عليه البخاري. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية ترهيب من التعمق في زينة الدنيا، والتكاثر بها. ومن تمنى ما لأربابها من غرور زخرفها، وترغيب في الزهد فيها، وإيثار الفقر على الغنى، والتبذل والتخشن على ملاذ ملابسها ومطاعمها. قال الشيخ العارف ؛ سيدي عبد الرحمان بن يوسف اللجائي في كتابه : اعلم أن الدنيا إذا عظمت وجلّت في قلب عبد، فإن ذلك العبد يعظم قدر من أقبلت عليه الدنيا، ويتمنى أن ينال منها ما نال، فإن كل إنسان يعظم ما اشتهت نفسه. وهذه صفة عبيد الدنيا، وعبيد أهوائهم. وهي صفة من أسكرته الغفلة، وخرجت عظمة الله عز وجل من قلبه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى :﴿ قال الذين يريدون الحياة الدنيا... ﴾ الآية. فكل محب للدنيا، مستغرق في حبها، فهو لاحق بالذين تموا زينة قارون. واعلم أن الدنيا إذا رسخت في القلب، واستوطنت، ظهر ذلك على جوارح العبد، بتكالبه عليها، وشدة رغبته فيها، فيسلبه الله تعالى لذة القناعة، ويمنعه سياسة الزاهدين، ويبعده عن روح العارفين ؛ فإن القلب إذا لم يقنع ـ لو ملك الدنيا بحذافيرها ـ لم يشبع. وقال بعض الحكماء : القناعة هي الغنى الأكبر، ولن تخفى صفة القانعين. هـ. ومآل الراغبين في الدنيا هو مآل قارون، من الفناء والذهاب تحت التراب، وأنشدوا :
إنْ كُنْتَ تَسّمُوِ إِلَى الدُّنْيا وَزِينَتِهَا فَانْظُرْ إِلى مَالِكَ الأَمْلاَكِ قَارُونِ
رَمَّ الأُمُورَ فَأَعْطَتْهُ مَقَادتَهَا وَسَخَّرَ النَّاسَ ؛ بِالتَّشْدِيدِ وَاللِّينِ
حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَلاَّ شَيءَ غَالِبُه وَمُكِّنَتْ قَدَمَاهُ أَيَّ تَمْكِينِ
رَاحَتْ عَلَيْهِ الْمَنَايَا رَوْحَةً تَرَكَتْ ذَا المُلْكِ والْعِزِّ تَحْتَ الْمَاءِ وَالطِّينِ

ثم ذكر عاقبة المتواضعين، فقال :
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ * ﴿ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾
قلت :( تلك ) : مبتدأ، و( نجعلها ) : خبر.
يقول الحق جل جلاله :﴿ تلك الدارُ الآخرة ﴾ أي : تلك الدار التي سمعْت بذكرها، وبلغت خبرها. وعنى البُعد في الإشارة، لبُعد منزلتها وعلو قدرها، ﴿ نجعلها للذين لا يُريدون علواً في الأرض ﴾ أي : تكبراً وقهراً كحال فرعون، ﴿ ولا فساداً ﴾ ؛ عملاً بالمعاصي، أو ظلماً على الناس، كحال قارون، أو قتل النفس، أو : دعاء إلى عبادة غير الله، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما، أدرك ذلك بالفعل أم لا. وعن علي رضي الله عنه : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها. وعن الفضيل : أنه قرأها، ثم قال : ذهبت الأماني ها هنا وعن عمر عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان يرددها حتى قُبض. ﴿ والعاقبة ﴾ المحمودة ﴿ للمتقين ﴾ ما لا يرضاه الله ؛ من العلو والفساد وغير ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : جعل الله الدار الآخرة للمتواضعين، أهل الذل والانكسار، والعاقبة المحمودة - وهي الوصول إلى الحضرة - للمتقين الشهرة والاستكبار، وفي الحكم :" ادفن نفسك في أرض الخمول ؛ فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَمْ يُدفنْ ؛ لاَ يَتِمُّ نِتَاجُهُ ". قال في التنبيه : لا شيء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت ؛ لأن ذلك من أعظم حظوظه، التي هو مأمور بتركها، ومجاهدة النفس فيها، وقد تسمح نفس المريد بترك ما سوى هذا من الحظوظ. هـ.
وكان شيخ شيخنا يقول : نحب المريد أن يكون قدمه أعظم من صيته، ولا يكون صيته أعظم من قدمه. هـ. وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه : ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال بعضهم : طريقتنا هذه لا تصلح إلا بأقوام كنست بأرواحهم المزابل. وقال أيوب رضي الله عنه : ما صدق عبد إلا سَرَّهُ ألا يشعر بمكانه. وقال في القوت : ومتى ذل العبد نفسه، واتضع عندها، فلم يجد لذلته طعماً، ولا لضعته حسماً، فقد صار الذل والتواضع كونَه، فهذا لا يكره الذم من الخلق ؛ لوجود النقص في نفسه، ولا يحب المدح منهم ؛ لفقد القدر والمنزلة في نفسه. فصارت الذلة والضعة صفة لا تفارقه، لازمة لزوم الزبالة للزبال، والكساحة للكساح، هما صنعتان له كسائر الصنائع. وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما. فهذه ولاية عظيمة له من ربه، قد ولاّه على نفسه، وملّكه عليها، فقهرها بعزه، وهذا مقام محبوب، وبعده المكاشفات بسرائر الغيوب. ثم قال : ومن كان حاله مع الله تعالى الذل طلبه واستحلاه، كما يطلب المتكبر العز، ويستحليه إذا وجده، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله، كما أن المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه ؛ لأن ذلك عيش نفسه. هـ.
قلت : وهذا مقام من المقامات، والعارف الكامل لا يتغير قلبه على فقد شيء ؛ إذ لم يفقد شيئاً بعد أن وجد الله، ( مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ ). والذي ذكره في القوت هو حال السائرين الصادقين. وبالله التوفيق.

﴿ ومن جاء بالحسنة فله خيرٌ منها ﴾ ذاتاً وقدراً ووصفاً، ﴿ ومن جاء بالسيئة ﴾ ؛ مالا يرضاه الله تعالى، ﴿ فلا يجزى الذين عملوا السيئات ﴾، أصله : فلا يجزون، وضع الظاهر موضع المضمر ؛ لِمَا في إسناد السيئات إليهم من تقبيح رأيهم وتسفيه أحلامهم، وزيادة تبغيض السيئات إلى قلوب السامعين، ﴿ إلا ما كانوا يعملون ﴾ ؛ إلا جزاء عملهم فقط، ومن فضله العظيم ألا يجزي السيئة إلا مثلها، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : جعل الله الدار الآخرة للمتواضعين، أهل الذل والانكسار، والعاقبة المحمودة - وهي الوصول إلى الحضرة - للمتقين الشهرة والاستكبار، وفي الحكم :" ادفن نفسك في أرض الخمول ؛ فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَمْ يُدفنْ ؛ لاَ يَتِمُّ نِتَاجُهُ ". قال في التنبيه : لا شيء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت ؛ لأن ذلك من أعظم حظوظه، التي هو مأمور بتركها، ومجاهدة النفس فيها، وقد تسمح نفس المريد بترك ما سوى هذا من الحظوظ. هـ.
وكان شيخ شيخنا يقول : نحب المريد أن يكون قدمه أعظم من صيته، ولا يكون صيته أعظم من قدمه. هـ. وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه : ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال بعضهم : طريقتنا هذه لا تصلح إلا بأقوام كنست بأرواحهم المزابل. وقال أيوب رضي الله عنه : ما صدق عبد إلا سَرَّهُ ألا يشعر بمكانه. وقال في القوت : ومتى ذل العبد نفسه، واتضع عندها، فلم يجد لذلته طعماً، ولا لضعته حسماً، فقد صار الذل والتواضع كونَه، فهذا لا يكره الذم من الخلق ؛ لوجود النقص في نفسه، ولا يحب المدح منهم ؛ لفقد القدر والمنزلة في نفسه. فصارت الذلة والضعة صفة لا تفارقه، لازمة لزوم الزبالة للزبال، والكساحة للكساح، هما صنعتان له كسائر الصنائع. وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما. فهذه ولاية عظيمة له من ربه، قد ولاّه على نفسه، وملّكه عليها، فقهرها بعزه، وهذا مقام محبوب، وبعده المكاشفات بسرائر الغيوب. ثم قال : ومن كان حاله مع الله تعالى الذل طلبه واستحلاه، كما يطلب المتكبر العز، ويستحليه إذا وجده، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله، كما أن المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه ؛ لأن ذلك عيش نفسه. هـ.
قلت : وهذا مقام من المقامات، والعارف الكامل لا يتغير قلبه على فقد شيء ؛ إذ لم يفقد شيئاً بعد أن وجد الله، ( مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ ). والذي ذكره في القوت هو حال السائرين الصادقين. وبالله التوفيق.

ثم ذكر عاقبة سيد المتقين، فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّيا أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ * ﴿ وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله : لرسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ إن الذي فَرَضَ عليك القرآن ﴾ أي : أوجب عليك تلاوته وتبليغه، والعمل بما فيه، ﴿ لرادُّك إلى معاد ﴾ عظيم، وهو المعاد الجسماني ؛ لتقوم المقام المحمود، الذي لا يقوم فيه أحد غيرك، مع حضور الأكابر من الرسل وغيرهم. أو : لرادك إلى معادك الأول، وهو مكة، وكان عليه الصلاة والسلام اشتاق إليها ؛ لأنها مولده ومولد آبائه، وقد ردّه إليها يوم الفتح، وإنما نكَّره ؛ لأنه كان في ذلك اليوم معاد له شأن، ومرجع له اعتداد ؛ لغلبته - عليه الصلاة والسلام - ونصره، وقهره لأعدائه، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه.
والسورة مكية، ولكن هذه الآية نزلت بالجُحْفَةِ، لا بمكة ولا بالمدينة، وفي الآية وعد بالنصر، وأن العاقبة الحسنة والخير الجسيم للنبي صلى الله عليه وسلم لا يختص بالآخرة، بل يكون في الدنيا له ولمتَّبِعيهِ، ولكن بعد الابتلاء والامتحان، كما في صدر السورة الآتية بعدها، وبهذا يقع التناسب بينهما، فإنها كالتعليل لِمَا قبلها.
ولما وعده بالنصر قال له :﴿ قل ربي أعلم من جاء بالهُدى ﴾ أي : يعلم مَنْ جاء بالحق، يعني نَفْسَهْ صلى الله عليه وسلم مع ما يستحقه من النصر والثواب، في معاده، ﴿ ومن هو في ضلال مبين ﴾ ؛ وهم المشركون، مع ما يستحقونه من العقاب في معادهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أهل الاشتياق يُرَوِّحُونَ أرواحهم بهذه الآية، فيقولون لها : إن الذي فرض عليك القرآن، أن تعمل به في الدنيا لرادك إلى معاد جسماني روحاني، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب، من غير عذول ولا رقيب، على سبيل الاتصال، من غير تكدر ولا انفصال، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية ؛ فيقولون :﴿ ربي أعلم ﴾ الآية.. وما كنت ترجو أن تُلْقَى إليك الخصوصية إلا رحمة من ربك، فلا تكونن ظهيراً للكافرين المنكرين لها، معيناً لهم على إذاية من انتسب إليها، ولا يصدنك عن معرفة آيات الله الدالة عليه، بعد إذ أُنزلت إليك، أي : لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء الله، الدالين عليه، وادع إلى ربك، أي : إلى معرفة ذاته ووحدانيته، ولا تكونن من المشركين بشهود شيء من السِّوى، فإن كل شيء هالك، أي : معدم في الماضي والحال والاستقبال، إلا وجهه : إلا ذاته، فلا موجود معها، وفي ذلك يقول الشاعر :
الله قُلْ، وذَرِ الْوُجُودَ وَمَا حَوَى إِنْ كُنْتَ مُرْتَاداً بُلُوغَ كَمَال
فَالْكُلُّ، دون الله، إِن حَقَّقْتَهُ، عَدََمٌ عَلَى التَّفْصِيل وَالإجْمَالِ
وَاعلَمْ بأنَّكَ، والعَوالِمَ كُلَّها، لَوْلاَهْ، فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلاَلِ
مَنْ لاَ وُجُودَ لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ فَوُجُودُهُ، لولاه، عَيْنُ مُحَالِ
فَالْعَارِفُون فَنَوْا، وَلَمْ يَشْهَدُوا شَيْئاً سِوَى المُتَكَبِّرِ الْمُتَعَالِ
وَرَأَوْا سِوَاهُ عَلَى الحَقِيقَةِ هَالِكاً فِي الْحَاِلِ وَالْمَاضِي وَالاسْتِقْبَال
وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وَصَلَّى اللهُ على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسَلَّمَ.

﴿ وما كنتَ ترجو أن يُلقى ﴾ ؛ يوحي ﴿ إليك الكتابُ ﴾ أي : القرآن، فكما ألقى إليك الكتاب، وما كنت ترجوه ؛ كذلك يردك إلى معادك الأول، من غير أن تَرْجُوَهُ، ﴿ إلا رحمةً من ربك ﴾، لكن ألقاه إليك، رحمة منه إليك، ويجوز أن يكون استثناء محمولاً على المعنى، كأنه قال : وما أُلْقِيَ إليك الكتاب إلا رحمة من ربك، ﴿ فلا تكونن ظهيراً ﴾ ؛ معيناً ﴿ للكافرين ﴾ على دينهم ؛ بمُداراتهم والتحمل عنهم، والإجابة إلى طلبتهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أهل الاشتياق يُرَوِّحُونَ أرواحهم بهذه الآية، فيقولون لها : إن الذي فرض عليك القرآن، أن تعمل به في الدنيا لرادك إلى معاد جسماني روحاني، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب، من غير عذول ولا رقيب، على سبيل الاتصال، من غير تكدر ولا انفصال، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية ؛ فيقولون :﴿ ربي أعلم ﴾ الآية.. وما كنت ترجو أن تُلْقَى إليك الخصوصية إلا رحمة من ربك، فلا تكونن ظهيراً للكافرين المنكرين لها، معيناً لهم على إذاية من انتسب إليها، ولا يصدنك عن معرفة آيات الله الدالة عليه، بعد إذ أُنزلت إليك، أي : لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء الله، الدالين عليه، وادع إلى ربك، أي : إلى معرفة ذاته ووحدانيته، ولا تكونن من المشركين بشهود شيء من السِّوى، فإن كل شيء هالك، أي : معدم في الماضي والحال والاستقبال، إلا وجهه : إلا ذاته، فلا موجود معها، وفي ذلك يقول الشاعر :
الله قُلْ، وذَرِ الْوُجُودَ وَمَا حَوَى إِنْ كُنْتَ مُرْتَاداً بُلُوغَ كَمَال
فَالْكُلُّ، دون الله، إِن حَقَّقْتَهُ، عَدََمٌ عَلَى التَّفْصِيل وَالإجْمَالِ
وَاعلَمْ بأنَّكَ، والعَوالِمَ كُلَّها، لَوْلاَهْ، فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلاَلِ
مَنْ لاَ وُجُودَ لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ فَوُجُودُهُ، لولاه، عَيْنُ مُحَالِ
فَالْعَارِفُون فَنَوْا، وَلَمْ يَشْهَدُوا شَيْئاً سِوَى المُتَكَبِّرِ الْمُتَعَالِ
وَرَأَوْا سِوَاهُ عَلَى الحَقِيقَةِ هَالِكاً فِي الْحَاِلِ وَالْمَاضِي وَالاسْتِقْبَال
وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وَصَلَّى اللهُ على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسَلَّمَ.

قلت :( ولا يصدنك ) : مجزوم بحذف النون، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، حين دخلت نون التوكيد.
﴿ ولا يَصُدُّنَّك عن آيات الله ﴾ أي : لا يمنعك هؤلاء عن العمل بآيات الله وتبليغها وإظهارها، ﴿ بعد إذ أُنزلت إليك ﴾ أي : بعد وقت إنزالها، و﴿ إذ ﴾ : مضاف إليه أسماء الزمان، كقولك : حينئذٍ ويَومَئذٍ. ﴿ وادعُ إلى ربك ﴾ ؛ إلى توحيده وعبادته، ﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾، نهاه، تنفيراً لغيره من الشرك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أهل الاشتياق يُرَوِّحُونَ أرواحهم بهذه الآية، فيقولون لها : إن الذي فرض عليك القرآن، أن تعمل به في الدنيا لرادك إلى معاد جسماني روحاني، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب، من غير عذول ولا رقيب، على سبيل الاتصال، من غير تكدر ولا انفصال، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية ؛ فيقولون :﴿ ربي أعلم ﴾ الآية.. وما كنت ترجو أن تُلْقَى إليك الخصوصية إلا رحمة من ربك، فلا تكونن ظهيراً للكافرين المنكرين لها، معيناً لهم على إذاية من انتسب إليها، ولا يصدنك عن معرفة آيات الله الدالة عليه، بعد إذ أُنزلت إليك، أي : لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء الله، الدالين عليه، وادع إلى ربك، أي : إلى معرفة ذاته ووحدانيته، ولا تكونن من المشركين بشهود شيء من السِّوى، فإن كل شيء هالك، أي : معدم في الماضي والحال والاستقبال، إلا وجهه : إلا ذاته، فلا موجود معها، وفي ذلك يقول الشاعر :
الله قُلْ، وذَرِ الْوُجُودَ وَمَا حَوَى إِنْ كُنْتَ مُرْتَاداً بُلُوغَ كَمَال
فَالْكُلُّ، دون الله، إِن حَقَّقْتَهُ، عَدََمٌ عَلَى التَّفْصِيل وَالإجْمَالِ
وَاعلَمْ بأنَّكَ، والعَوالِمَ كُلَّها، لَوْلاَهْ، فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلاَلِ
مَنْ لاَ وُجُودَ لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ فَوُجُودُهُ، لولاه، عَيْنُ مُحَالِ
فَالْعَارِفُون فَنَوْا، وَلَمْ يَشْهَدُوا شَيْئاً سِوَى المُتَكَبِّرِ الْمُتَعَالِ
وَرَأَوْا سِوَاهُ عَلَى الحَقِيقَةِ هَالِكاً فِي الْحَاِلِ وَالْمَاضِي وَالاسْتِقْبَال
وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وَصَلَّى اللهُ على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسَلَّمَ.

﴿ ولا تَدْعُ مع الله إلهاً آخر ﴾، قال ابن عباس رضي الله عنه : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أَهْلُ دينه. قال البيضاوي. وهذا وما قبله تهييج، وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم، ﴿ لا إله إلا هو ﴾ : استئناف، مقرر لِمَا قبله، ﴿ كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وَجْهَهُ ﴾ أي : ذاته، فالوجه يُعَبِّرُ به عن الذات، أي : لكل شيء فانٍ مستهلك معدوم، إلا ذاته المقدسة، فإنها موجودة باقية. وقال أبو العالية : إلا ما أريد به وجه الله، مِنْ عِلْمٍ وعمل، فإنه لا يفنى. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : يجاء بالدنيا يوم القيامة، فيقال : ميزوا ما كان لله تعالى منها، فيميز، ثم يؤمر بسائرها فيُلقى في النار. ه. وقال الضحاك : كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش.
﴿ له الحُكْمُ ﴾ ؛ القضاء النافذ في خلقه، ﴿ وإليه تُرجعون ﴾ ؛ للجزاء والفصل. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أهل الاشتياق يُرَوِّحُونَ أرواحهم بهذه الآية، فيقولون لها : إن الذي فرض عليك القرآن، أن تعمل به في الدنيا لرادك إلى معاد جسماني روحاني، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب، من غير عذول ولا رقيب، على سبيل الاتصال، من غير تكدر ولا انفصال، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية ؛ فيقولون :﴿ ربي أعلم ﴾ الآية.. وما كنت ترجو أن تُلْقَى إليك الخصوصية إلا رحمة من ربك، فلا تكونن ظهيراً للكافرين المنكرين لها، معيناً لهم على إذاية من انتسب إليها، ولا يصدنك عن معرفة آيات الله الدالة عليه، بعد إذ أُنزلت إليك، أي : لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء الله، الدالين عليه، وادع إلى ربك، أي : إلى معرفة ذاته ووحدانيته، ولا تكونن من المشركين بشهود شيء من السِّوى، فإن كل شيء هالك، أي : معدم في الماضي والحال والاستقبال، إلا وجهه : إلا ذاته، فلا موجود معها، وفي ذلك يقول الشاعر :
الله قُلْ، وذَرِ الْوُجُودَ وَمَا حَوَى إِنْ كُنْتَ مُرْتَاداً بُلُوغَ كَمَال
فَالْكُلُّ، دون الله، إِن حَقَّقْتَهُ، عَدََمٌ عَلَى التَّفْصِيل وَالإجْمَالِ
وَاعلَمْ بأنَّكَ، والعَوالِمَ كُلَّها، لَوْلاَهْ، فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلاَلِ
مَنْ لاَ وُجُودَ لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ فَوُجُودُهُ، لولاه، عَيْنُ مُحَالِ
فَالْعَارِفُون فَنَوْا، وَلَمْ يَشْهَدُوا شَيْئاً سِوَى المُتَكَبِّرِ الْمُتَعَالِ
وَرَأَوْا سِوَاهُ عَلَى الحَقِيقَةِ هَالِكاً فِي الْحَاِلِ وَالْمَاضِي وَالاسْتِقْبَال
وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وَصَلَّى اللهُ على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسَلَّمَ.

Icon