تفسير سورة إبراهيم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة إبراهيم
مكية. وهي إحدى وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله :﴿ قل كفى بالله شهيدا ﴾ [ الرعد : ٤٣ ]، مع قوله :﴿ كتاب أنزلناه ﴾ ؛ فإنه تصريح بالشهادة له. أو :﴿ ومن عنده علم الكتاب ﴾، على تفسيره بالقرآن، مع قوله :﴿ كتاب أنزلناه إليك ﴾.

﴿ بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الر. . . ﴾
الألف : آلاؤه، واللام : لطفه، والراء : رحمته. فكأنه يقول : بآلائنا ولطفنا ورحمتنا أنزلنا إليك كتابنا، ولذلك رتَّب عليه قوله :
﴿. . . كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾
قلت :( كتاب ) : خبر، أي : هذا كتاب، و( بإذن ) : متعلق بتُخرج، أو حال من فاعله، أو مفعوله. و( إلى صراط ) : بدل من ( النور ).
يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المحبوب، هذا ﴿ كتابٌ أنزلناه إليك لتُخرج الناس ﴾ بدعائك إياهم إلى العمل به، ﴿ من الظلمات إلى النورِ ﴾ ؛ من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الهداية والعلم، ﴿ بإذنِ ربهم ﴾ ؛ بتوفيقه وهدايته وتسهيله، ﴿ إلى صراطِ العزيزِ الحميد ﴾ أي : لتخرجهم إلى نور العلم الذي هو سلوك طريق العزيز الحميد، التي توصل إلى رضوانه ومعرفته. وفي ذكر الوصفين إشارة إلى أنه لا يذل سالكه، ولا يخيب سائله، بل تحمد عاقبته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد أخرج صلى الله عليه وسلم أمته من ظلمات عديدة إلى نوار متعددة ؛ أولها : ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والإسلام، ثم من ظلمة الجهل والتقليد إلى نور العلم والتحقيق، ثم من ظلمة الذنوب والمعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ثم من ظلمة الغفلة والبطالة إلى نور اليقظة والمجاهدة، ثم من ظلمة الحظوظ والشهوات إلى نور الزهد والعفة، ثم من ظلمة رؤية الأسباب، والوقوف مع العوائد، إلى نور شهود المسبب، وخرق العوائد، ثم من ظلمة الوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات إلى نور شهود المعبود، ثم من ظلمة الوقوف مع حس الأكوان الظاهرة إلى شهود أسرار المعاني الباطنة، فيغيب عن الأكوان بشهود المكون، وهذا آخر ظلمة تبقى في النفس، فتصير حينئذٍ روحاً، وسراً من أسرار الله، ويصير صاحبها روحانياً ربانياً عارفاً بالله، ولا يبقى حينئذٍ إلا الترقي في شهود الأسرار أبداً سرمداً. وهذا محل القطبانية والتهيؤ للتربية النبوية، ويصير ولياً محمدياً، يُخرج الناس من هذه الظلمات إلى هذه الأنوار.
وأما من لم يبلغ هذا المقام، فإنه له الإخراج من أحد هذه الأشياء ؛ فالغزاة والمجاهدون يُخرجون من ظلمة الكفر إلى نورِ الإيمان، والعلماء يُخرجون من ظلمة الجهل إلى نور العلم، والعُباد والزهاد يُخْرِجونَ من صَحِبَهم من الذنوب إلى التوبة والاستقامة، وأما ما بقي من الظلمات فلا يُخْرج منها إلا الربانيون الروحانيون، أهل التربية النبوية، بإذن ربهم، يدلهم على صراط العزيز الحميد، الموصل إلى العز المديد، وويل لمن أنكر هؤلاء، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه، واستحبَّ حياة دنياه على أخراه، أولئك في ضلال عن حضرة الحق ببعيد. وبالله التوفيق.

( الله الذي ) ؛ من رفعه فعلى الابتداء، والموصول خبره، أو خبر عن محذوف، ومن خفضه فبدل من ( العزيز ).
ثم ذكر الموصوف بهما بقوله :﴿ الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي : الموصوف بالعزة والحمد هو الله الذي استقر له ما في السماوات وما في الأرض ملكاً وعبيداً. ثم ذكر وعيد من كفر بكتابه أو به، فقال :﴿ وويلٌ للكافرين ﴾ بكتابه، ولم يخرجوا به من ظلمات كفرهم، ﴿ من عذابٍ شديد ﴾، والويل : كلمة عذاب تقال لمن استحق الهلاك، أي : هلاك لهم من أجل عذاب شديد يلحقهم. وقيل : وادٍ في جهنم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد أخرج صلى الله عليه وسلم أمته من ظلمات عديدة إلى نوار متعددة ؛ أولها : ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والإسلام، ثم من ظلمة الجهل والتقليد إلى نور العلم والتحقيق، ثم من ظلمة الذنوب والمعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ثم من ظلمة الغفلة والبطالة إلى نور اليقظة والمجاهدة، ثم من ظلمة الحظوظ والشهوات إلى نور الزهد والعفة، ثم من ظلمة رؤية الأسباب، والوقوف مع العوائد، إلى نور شهود المسبب، وخرق العوائد، ثم من ظلمة الوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات إلى نور شهود المعبود، ثم من ظلمة الوقوف مع حس الأكوان الظاهرة إلى شهود أسرار المعاني الباطنة، فيغيب عن الأكوان بشهود المكون، وهذا آخر ظلمة تبقى في النفس، فتصير حينئذٍ روحاً، وسراً من أسرار الله، ويصير صاحبها روحانياً ربانياً عارفاً بالله، ولا يبقى حينئذٍ إلا الترقي في شهود الأسرار أبداً سرمداً. وهذا محل القطبانية والتهيؤ للتربية النبوية، ويصير ولياً محمدياً، يُخرج الناس من هذه الظلمات إلى هذه الأنوار.
وأما من لم يبلغ هذا المقام، فإنه له الإخراج من أحد هذه الأشياء ؛ فالغزاة والمجاهدون يُخرجون من ظلمة الكفر إلى نورِ الإيمان، والعلماء يُخرجون من ظلمة الجهل إلى نور العلم، والعُباد والزهاد يُخْرِجونَ من صَحِبَهم من الذنوب إلى التوبة والاستقامة، وأما ما بقي من الظلمات فلا يُخْرج منها إلا الربانيون الروحانيون، أهل التربية النبوية، بإذن ربهم، يدلهم على صراط العزيز الحميد، الموصل إلى العز المديد، وويل لمن أنكر هؤلاء، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه، واستحبَّ حياة دنياه على أخراه، أولئك في ضلال عن حضرة الحق ببعيد. وبالله التوفيق.

و( الذين يستحبون ) : صفة للكافرين أو نصب، أو رفع على الذم.
ثم ذكر وجه استحقاقهم العذاب بقوله :﴿ الذين يستحبون الحياةَ الدنيا ﴾ ؛ يختارونها ﴿ على الآخرةِ ﴾، فإنَّ من أحب شيئاً اختاره وطلبه،
﴿ ويصُدُّون ﴾ الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾ ؛ بتعويقهم عن الإيمان، ﴿ ويبغونها عوجاً ﴾ أي : ويبغون لها زيغاً، ونُكُوباً عن الحق، ليتوصلوا للقدح فيها، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير، ﴿ أولئك في ضلال بعيد ﴾ أي : في تلف بعيد عن الحق ؛ بحيث ضلوا عن الحق، وبعدوا عنه بمراحل. والبُعد في الحقيقة : للضال، ووُصف به فعله ؛ للمبالغة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد أخرج صلى الله عليه وسلم أمته من ظلمات عديدة إلى نوار متعددة ؛ أولها : ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والإسلام، ثم من ظلمة الجهل والتقليد إلى نور العلم والتحقيق، ثم من ظلمة الذنوب والمعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ثم من ظلمة الغفلة والبطالة إلى نور اليقظة والمجاهدة، ثم من ظلمة الحظوظ والشهوات إلى نور الزهد والعفة، ثم من ظلمة رؤية الأسباب، والوقوف مع العوائد، إلى نور شهود المسبب، وخرق العوائد، ثم من ظلمة الوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات إلى نور شهود المعبود، ثم من ظلمة الوقوف مع حس الأكوان الظاهرة إلى شهود أسرار المعاني الباطنة، فيغيب عن الأكوان بشهود المكون، وهذا آخر ظلمة تبقى في النفس، فتصير حينئذٍ روحاً، وسراً من أسرار الله، ويصير صاحبها روحانياً ربانياً عارفاً بالله، ولا يبقى حينئذٍ إلا الترقي في شهود الأسرار أبداً سرمداً. وهذا محل القطبانية والتهيؤ للتربية النبوية، ويصير ولياً محمدياً، يُخرج الناس من هذه الظلمات إلى هذه الأنوار.
وأما من لم يبلغ هذا المقام، فإنه له الإخراج من أحد هذه الأشياء ؛ فالغزاة والمجاهدون يُخرجون من ظلمة الكفر إلى نورِ الإيمان، والعلماء يُخرجون من ظلمة الجهل إلى نور العلم، والعُباد والزهاد يُخْرِجونَ من صَحِبَهم من الذنوب إلى التوبة والاستقامة، وأما ما بقي من الظلمات فلا يُخْرج منها إلا الربانيون الروحانيون، أهل التربية النبوية، بإذن ربهم، يدلهم على صراط العزيز الحميد، الموصل إلى العز المديد، وويل لمن أنكر هؤلاء، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه، واستحبَّ حياة دنياه على أخراه، أولئك في ضلال عن حضرة الحق ببعيد. وبالله التوفيق.

ولما كان الإخراج من هذه الظلمات لا يكون إلا بالمقال والحال، بعث الله الرسل، وورثتهم من الأولياء الداعين إلى الله بلسان قومهم، كما قال تعالى :
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما أرسلنا من رسولٍ ﴾ قبلك ﴿ إلا بلسانِ قومه ﴾، وأنت بعثناك بلسان قومك. وإنما قال : بلسان قومه، ولم يقل بلسان أمته ؛ لأن الأمة قد تكون أوسع من قومه، كما في الحق نبينا عليه الصلاة والسلام فقد بُعث إلى العرب والعجم والجن والإنس، فقومه الذين يفهمون عنه : يُتَرْجمونَ إلى من لا يفهم، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك إعجاز القرآن يُدركه أهل الفصاحة والبلاغة، فإذا وقع العجز عن معارضته منهم قامت الحجة على غيرهم، كما قامت الحجة في معجزة موسى عليه السلام بعجز السحرة، وفي معجزة عيسى بعجز الأطباء.
ثم بيَّن الحكمة، في كون الداعي لا يكون إلا بلسان قومه، بقوله :﴿ ليُبيّن لهم ﴾ ما أُمروا به ؛ فيفهمونه عنه بسرعة، ثم ينقلونه ويترجمونه لغيرهم، فتقوم الحجة عليهم ولذلك أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته أولاً ؛ فإذا فهموا عنه بلّغوا إلى غيرهم. قال البيضاوي : ولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقل ذلك بنوع من الإعجاز، لكن أدى إلى اختلاف الكلمة وإضاعة فضل الاجتهاد في تعلم الألفاظ ومعانيها، والعلوم المتشبعة منها، وما في إتعاب القرائح وكد النفس من القرب المقتضية لجزيل الثواب. ه.
فالرسل عليهم الصلاة والسلام إنما عليهم البيان بلسانهم، والهداية بيد ربهم، ولذلك قال تعالى :﴿ فيُضِلُّ اللهُ من يشاءُ ﴾ إضلاله، فيخذله عن الإيمان، ﴿ ويهدي من يشاء ﴾ بالتوفيق له، ﴿ وهو العزيزُ ﴾ الغالب على أمره، فلا يُغلَب على مشيئته، ﴿ الحكيم ﴾ في صنعه، فلا يضل ولا يهدي إلا لحكمة أرادها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما بعث الله وليّاً داعياً إلا بلسان قومه، وقد يخرق له العادة، فيطلعه على جميع اللغات، كما قال المرسي رضي الله عنه : من بلغ هذا المقام لا يخفى عليه شيء. وذلك من باب الكرامة ؛ كما كان صلى الله عليه وسلم يخاطب كل قوم بلغتهم ؛ معجزة له صلى الله عليه وسلم ؛ فقد اتسع علمه عليه الصلاة والسلام فأحاط بحقائق الأشياء وأسمائها ومفهوماتها، وأصول اللغة، وفروعها، فعلم ما علمه سيدنا آدم عليه السلام، أو أكثر، وإلى ذلك أشار القطب ابن مشيش في تصليته المشهورة، وبقوله :" وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق ". وقال البوصيري في همزيته :
لَكَ ذَاتُ العُلوم مِنْ عالِم الغِيْ بِ ومنْهَا لآدمَ الأَسْمَاءُ
ولما كان علاج موسى عليه السلام في إخراج أمته من الظلمات إلى النور، قريبا من علاج نبينا –عليه الصلاة والسلام- ذكره بإثره، كما فعل في سورة طه، فقال :
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ * ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُواءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ * ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ * ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾
قلت :( أنْ أخرج ) : إما تفسيرية لا محل لها، أي : وقلنا : أن أخرج ؛ لأن في الإرسال معنى القول، أو على إسقاط الخافض، أي : بأن أخرج، فإنَّ صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر، فيصح أن توصل بها " إن " الناصبة.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ﴾ ؛ كاليد والعصا، وسائر معجزاته التسع، وقلنا له :﴿ أن أخرج قومَك ﴾ ؛ بني إسرائيل، وفرعون وملأه ؛ ﴿ من الظلمات إلى النور ﴾ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أما فرعون وملؤه فظاهر، وأما بنو إسرائيل فقد كان فرعون فَتَنَ جُلّهم، وأضلهم مع القبط، فكانوا أشياعاً متفرقين، لم يبق لهم دين. فإن قلتَ : إذا كان موسى عليه السلام مبعوثاً إلى القبط، فِلمَ لَمْ يرجع إليهم بعد خروجه عنهم إلى الشام ؟ فالجواب : أنه لما بلَّغهم الرسالة قامت الحجة عليهم، فيجب عليهم أن يهاجروا إليه للدين.
ثم أمره بالتذكير فقال :﴿ وذكِّرْهُم بأيامِ الله ﴾ : بوقائعه التي وقعت على الأمم الدارجة قبلهم، وأيام العرب : حروبها. أو ذكِّرهم بِنَعم الله وآلائه، وبنقمه وبلاءه ؛ فالأيام تطلق على المعنيين. ﴿ إنَّ في ذلك لآياتٍ لكل صبارٍ ﴾ في بلائه، ﴿ شكور ﴾ لنعمائه. وإنما خصه ؛ لأنه إذا سمع ما نزل على من قبله من البلاء، وأُفِيض عليهم من النعماء، اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر. وقيل : المراد لكل مؤمن، وإنما عبَّر بذلك ؛ تنبيهاً على أن الصبر والشكر عنوان الإيمان. قاله البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ذكر الحق تعالى في هذه الآية مقامين من مقامات اليقين : الصبر والشكر، ومدح من تخلق بهما واستعملهما في محلهما، فيركب أيهما توجه إليه منهما، ويسير بهما إلى ربه. فالصبر عنوان الظفر، وأجره لا ينحصر، والشكر ضامن للزيادة، قال بعض العارفين :( لم يضمن الحق تعالى الزيادة في مقام من المقامات إلا الشكر )، فدل أنه أفضل المقامات وأحسن الطاعات، من حيث إنه متضمن للفرح بالله، وموجب لمحبة الله. ولا شك أن مقام الشكر أعلى من مقام الصبر ؛ لأن الشاكر يرى المنن في طي المحن، فيتلقى المهالك بوجه ضاحك ؛ لأنه لا يكون شاكراً حقيقة حتى يشكر في السراء والضراء، ولا يشكر في الضراء حتى يراها سراء، باعتبار ما يُواجَه به في حال الضراء من الفتوحات القلبية، والمواهب اللدنية، فتنقلب النقمة نعمة. بخلاف مقام الصبر، صاحبه يتجرع مرارة الصبر ؛ لأنه لم يترق إلى شهود المبلى في حال بلائه، ولو ترقى إلى شهوده لَلَذَّتْ لديه البلايا، كما قال صاحب العينية :
تَلَذُّ لِيَ الآلامُ ؛ إذْ كُنْتَ مُسْقِمِي وإنْ تَخْتَبِرْنِي فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ
لكن هذه الأحوال تختلف على العبد باعتبار القوة والضعف ؛ فتارة تجده قوياً يتلقى المهالك بوجه ضاحك، وتارة تصادفه الأقدار ضعيفاً ؛ فلا يبقى معه إلا الصبر وتجرع مرارة البلاء، والعياذ بالله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في كتاب القصد :" رأيت كأني مع النبيين والصديقين، فأردت الكون معهم، ثم قلت : اللهم اسلك بي سبيلهم مع العافية مما ابتليتهم، فإنهم أقوى ونحن أضعف منهم، فقيل لي : قل : وما قدّرت من شيء فأيَّدْنا كما أيدتهم.

﴿ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ أنجاكم ﴾ : حين أنجاكم ﴿ من آلِ فرعونَ ﴾ : رهطه، ﴿ يسومونكم ﴾ : يُولونكم ﴿ سُوء العذابِ ﴾ : أقبحه يستعبدونكم ويُكلفونكم مشاق الأعمال، ﴿ ويُذبِّحُون أبناءكم ويستحْيون نساءكم ﴾، قال البيضاوي : المراد بالعذاب هنا غير المراد به في سورتَيْ البقرة والأعراف ؛ لأنه هناك مفسر بالتذبيح والقتل، ومعطوف عليه هنا، فهو هنا إما جنس العذاب، أو استعبادهم واستعمالهم بالأعمال الشاقة. ه. ﴿ وفي ذلكم ﴾ الامتحان ﴿ بلاء ﴾ أي : ابتلاء ﴿ من ربكم عظيم ﴾ ؛ اختبركم به حتى أنقذكم منه، ليعظم شكركم، أو : في ذلك الإنجاء بلاء، أي : نعمة واختبار عظيم، لينظر كيف تعملون في شكر هذه النعمة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ذكر الحق تعالى في هذه الآية مقامين من مقامات اليقين : الصبر والشكر، ومدح من تخلق بهما واستعملهما في محلهما، فيركب أيهما توجه إليه منهما، ويسير بهما إلى ربه. فالصبر عنوان الظفر، وأجره لا ينحصر، والشكر ضامن للزيادة، قال بعض العارفين :( لم يضمن الحق تعالى الزيادة في مقام من المقامات إلا الشكر )، فدل أنه أفضل المقامات وأحسن الطاعات، من حيث إنه متضمن للفرح بالله، وموجب لمحبة الله. ولا شك أن مقام الشكر أعلى من مقام الصبر ؛ لأن الشاكر يرى المنن في طي المحن، فيتلقى المهالك بوجه ضاحك ؛ لأنه لا يكون شاكراً حقيقة حتى يشكر في السراء والضراء، ولا يشكر في الضراء حتى يراها سراء، باعتبار ما يُواجَه به في حال الضراء من الفتوحات القلبية، والمواهب اللدنية، فتنقلب النقمة نعمة. بخلاف مقام الصبر، صاحبه يتجرع مرارة الصبر ؛ لأنه لم يترق إلى شهود المبلى في حال بلائه، ولو ترقى إلى شهوده لَلَذَّتْ لديه البلايا، كما قال صاحب العينية :
تَلَذُّ لِيَ الآلامُ ؛ إذْ كُنْتَ مُسْقِمِي وإنْ تَخْتَبِرْنِي فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ
لكن هذه الأحوال تختلف على العبد باعتبار القوة والضعف ؛ فتارة تجده قوياً يتلقى المهالك بوجه ضاحك، وتارة تصادفه الأقدار ضعيفاً ؛ فلا يبقى معه إلا الصبر وتجرع مرارة البلاء، والعياذ بالله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في كتاب القصد :" رأيت كأني مع النبيين والصديقين، فأردت الكون معهم، ثم قلت : اللهم اسلك بي سبيلهم مع العافية مما ابتليتهم، فإنهم أقوى ونحن أضعف منهم، فقيل لي : قل : وما قدّرت من شيء فأيَّدْنا كما أيدتهم.

ولذلك قال لهم موسى عليه السلام :﴿ وإذْ تأذَّنَ ربكُمْ ﴾ أي : آذن، بمعنى أعلمَ، كتوعَّد وأوعد، غير أنَّ تأذن أبلغ من آذن ؛ لما في تفعّل من التكلف والمبالغة، أي أعلمكم، وقال : والله ﴿ لئن شكرتم ﴾ يا بني إسرائيل ما أنعمتُ به عليكم من الإنجاء وغيره، بالإيمان والعمل الصالح، وبالإقرار باللسان، وإفراد النعمة للمنعم بالجَنَان، ﴿ لأَزيدَنَّكُمْ ﴾ نعمة على نعمة. وهذا الخطاب، وإن كان لبني إسرائيل، يعم جميع الخلق، والزيادة إما من خير الدنيا، أو ثواب الآخرة. وشكر الخواص يكون على السراء والضراء ؛ فتكون الزيادة في الضراء، إما في ثواب أو في التقريب. ثم ذكر ضده فقال :﴿ ولئن كفرتم ﴾ ما أنعمتُ به عليكم، وقابلتموه بالكفر والعصيان، ﴿ إنَّ عذابي لشديد ﴾ ؛ فأعذبكم به على كفركم. قال البيضاوي : ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويُعرض بالوعيد. ه. فصرح بوصول الزيادة إليهم، ولم يقل : أعذبكم عذاباً شديداً، بل عظم عذابه في الجملة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ذكر الحق تعالى في هذه الآية مقامين من مقامات اليقين : الصبر والشكر، ومدح من تخلق بهما واستعملهما في محلهما، فيركب أيهما توجه إليه منهما، ويسير بهما إلى ربه. فالصبر عنوان الظفر، وأجره لا ينحصر، والشكر ضامن للزيادة، قال بعض العارفين :( لم يضمن الحق تعالى الزيادة في مقام من المقامات إلا الشكر )، فدل أنه أفضل المقامات وأحسن الطاعات، من حيث إنه متضمن للفرح بالله، وموجب لمحبة الله. ولا شك أن مقام الشكر أعلى من مقام الصبر ؛ لأن الشاكر يرى المنن في طي المحن، فيتلقى المهالك بوجه ضاحك ؛ لأنه لا يكون شاكراً حقيقة حتى يشكر في السراء والضراء، ولا يشكر في الضراء حتى يراها سراء، باعتبار ما يُواجَه به في حال الضراء من الفتوحات القلبية، والمواهب اللدنية، فتنقلب النقمة نعمة. بخلاف مقام الصبر، صاحبه يتجرع مرارة الصبر ؛ لأنه لم يترق إلى شهود المبلى في حال بلائه، ولو ترقى إلى شهوده لَلَذَّتْ لديه البلايا، كما قال صاحب العينية :
تَلَذُّ لِيَ الآلامُ ؛ إذْ كُنْتَ مُسْقِمِي وإنْ تَخْتَبِرْنِي فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ
لكن هذه الأحوال تختلف على العبد باعتبار القوة والضعف ؛ فتارة تجده قوياً يتلقى المهالك بوجه ضاحك، وتارة تصادفه الأقدار ضعيفاً ؛ فلا يبقى معه إلا الصبر وتجرع مرارة البلاء، والعياذ بالله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في كتاب القصد :" رأيت كأني مع النبيين والصديقين، فأردت الكون معهم، ثم قلت : اللهم اسلك بي سبيلهم مع العافية مما ابتليتهم، فإنهم أقوى ونحن أضعف منهم، فقيل لي : قل : وما قدّرت من شيء فأيَّدْنا كما أيدتهم.

﴿ وقال موسى ﴾، في شأن من لم يشكر :﴿ إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً ﴾ من الثقلين، ﴿ فإنَّ الله لغنيٌّ ﴾ عن شكركم، ﴿ حميد ﴾ : محمود على ألسنة خلقه، من الملائكة وغيرهم. فكل ذرة من المخلوقات ناطقة بحمده ؛ حالاً أو مقالاً، فهو غني أيضاً عن حمدكم، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم ؛ حيث حرمتموها مزيد الإنعام، وعرضتموها لشديد الانتقال. وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ذكر الحق تعالى في هذه الآية مقامين من مقامات اليقين : الصبر والشكر، ومدح من تخلق بهما واستعملهما في محلهما، فيركب أيهما توجه إليه منهما، ويسير بهما إلى ربه. فالصبر عنوان الظفر، وأجره لا ينحصر، والشكر ضامن للزيادة، قال بعض العارفين :( لم يضمن الحق تعالى الزيادة في مقام من المقامات إلا الشكر )، فدل أنه أفضل المقامات وأحسن الطاعات، من حيث إنه متضمن للفرح بالله، وموجب لمحبة الله. ولا شك أن مقام الشكر أعلى من مقام الصبر ؛ لأن الشاكر يرى المنن في طي المحن، فيتلقى المهالك بوجه ضاحك ؛ لأنه لا يكون شاكراً حقيقة حتى يشكر في السراء والضراء، ولا يشكر في الضراء حتى يراها سراء، باعتبار ما يُواجَه به في حال الضراء من الفتوحات القلبية، والمواهب اللدنية، فتنقلب النقمة نعمة. بخلاف مقام الصبر، صاحبه يتجرع مرارة الصبر ؛ لأنه لم يترق إلى شهود المبلى في حال بلائه، ولو ترقى إلى شهوده لَلَذَّتْ لديه البلايا، كما قال صاحب العينية :
تَلَذُّ لِيَ الآلامُ ؛ إذْ كُنْتَ مُسْقِمِي وإنْ تَخْتَبِرْنِي فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ
لكن هذه الأحوال تختلف على العبد باعتبار القوة والضعف ؛ فتارة تجده قوياً يتلقى المهالك بوجه ضاحك، وتارة تصادفه الأقدار ضعيفاً ؛ فلا يبقى معه إلا الصبر وتجرع مرارة البلاء، والعياذ بالله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في كتاب القصد :" رأيت كأني مع النبيين والصديقين، فأردت الكون معهم، ثم قلت : اللهم اسلك بي سبيلهم مع العافية مما ابتليتهم، فإنهم أقوى ونحن أضعف منهم، فقيل لي : قل : وما قدّرت من شيء فأيَّدْنا كما أيدتهم.

ثم ذكرهم بمن سلف قبلهم، فقال :
﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِيا أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾*﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾
قلت :( شك ) : فاعل بالمجرور، و( فاطر ) : نعت له.
يقول الحق جل جلاله : حاكياً عن نبيه موسى عليه السلام في تذكير قومه، أو من كلامه ؛ تذكيراً لهذه الأمة ﴿ ألم يأتكم نبأ الذين مِن قبلكم ﴾ : ما جرى عليهم حين عصوا أنبياءهم ؛ ﴿ قوم نوح وعادٍ وثمود والذين من بعدهم ﴾ كقوم شعيب، وأمم كثيرة ﴿ لا يعلمهم إلا اللهُ ﴾ ؛ لكثرة عددهم، واندراس آثارهم. ولذلك قال ابن مسعود : كذب النسَّابُون. ﴿ جاءتهم رسلهم بالبيناتِ ﴾ ؛ بالمعجزات الواضحات، ﴿ فرَدُّوا أيديَهُمْ في أفواههم ﴾ ؛ ليعضوا عليها ؛ غيظاً مما جاءت به الرسل كقوله :﴿ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ ﴿ آل عمران : ١١٩ ﴾. أو : وضعوها عليها ؛ تعجباً منهم، أو : استهزاءً بهم، كمن غلب عليه الضحك. أو إسكاتاً للأنبياء، وأمراً لهم بإطباق الأفواه، أو : ردوها في أفواه الأنبياء، يمنعونهم من التكلم، أو : ردوا أيديهم، أي : نِعَم الأنبياء عليهم، وهي : مواعظهم والشرائع التي أتوهم بها من عند الله، ردوها في أفواه الأنبياء حيث كذبوها، ولم يعملوا بها، كما تقول لمن لم يمتثل أمرك : ترك كلامي في فمي وذهب. ﴿ وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتُمْ به ﴾ على زعمكم، ﴿ وإنا لفي شكٍّ مما تدعوننا إليه ﴾ من التوحيد والإيمان، ﴿ مُريب ﴾ : مُوقع في الريبة، أو : ذي ريبة، وهو : قلق النفس بحيث لا تطمئن إلى شيء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التفكر والاعتبار أفضل عبادة الأبرار، وفي الحديث :" تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة ". فيتفكر العبد فيما سلف قبله من القرون الماضية والأمم الخالية، كيف رحلوا عن ديارهم المشيدة، وفروشهم الممهدة، واستبدلوها بضيق القبور، وافتراش التراب تحت الجُنوب، وجاءهم الموت وهم غافلون، وتجرعوا كأسها وهم كارهون، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم رجعوا قدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفع الندم وقد جف القلم، فيوجب هذا التفكرُ الانحياش إلى الله، والمسارعة إلى طاعة الله، والزهد في هذه الدار الفانية، والتأهب للسفر إلى الدار الباقية ؛ فيفوز فوزاً عظيماً. وفي تكذيب الصادقين تسلية للعارفين، وللمتوجهين من المريدين، إذا قُوبلوا بالإيذاء والتكذيب، وبالله التوفيق.
فأجابهم الرسل عن دعواهم الشك في الربوبية، ﴿ قالت رُسُلُهم أفي الله شكٌّ ﴾ : أفي وجوده شك، أو في ألوهيته، أو في وحدانيته شك ؟ قال البيضاوي : أُدخلت همزة الإنكار على الظرف ؛ لأن الكلام في المشكوك فيه، لا في الشك، أي : إنما ندعوكم إلى الله، وهو لا يحتمل الشك ؛ لكثرة الأدلة، وظهور دلالتها عليه. ه. وأشار إلى ذلك بقوله :﴿ فاطر السماواتِ والأرض ﴾ أي : خالقهما ومبدعهما على هذا الشكل الغريب، والإتقان العجيب ؛ إذ لا يصدر إلا من إله عظيم القدرة، باهر الحكمة، واحد في ملكه ؛ ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ]، وهو ﴿ يدعوكم ﴾ إلى الإيمان والتوحيد ببعثه إيانا، والتصديق بنا، ﴿ ليغفر لكم من ذُنُوبكم ﴾ إن آمنتم، أي : يغفر لكم بعض ذنوبكم، وهو ما تقدم قبل الإسلام، ويبقى ما يُذيب بعده في المشيئة، أو : ما بينكم وبينه دون المظالم.
والجمهور : أنه يغفر للكافر ما سلف مطلقاً، وقيل :" من " : زائدة، على غير مذهب سيبويه. قال البيضاوي : وجيء بمن، في خطاب الكفرة، دون المؤمنين في جميع القرآن، تفرقةً بين الخاطبين، ولعل المعنى فيه أن المغفرة، حيث جاءت في خطاب الكفار، مرتبة على الإيمان، وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة، والتجنب عن المعاصي، ونحو ذلك، فيتناول الخروج عن المظالم. ه. ﴿ ويُؤخّرَكُم إلى أجلٍ مسمّى ﴾ : إلى وقت سماه الله، وجعله آخر أعماركم. وقال الزمخشري تبعاً للمعتزلة : يؤخركم إن آمنتم إلى آجالكم، وإن لم تؤمنوا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت، وهذا على قولهم بالأجلين. وأهل السنة يأبون هذا، فإن الأجل عندهم واحد محتوم، والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله : وقال الذين كفروا لرسلهم :﴿ إنْ أنتم إلا بشرٌ مثلُنا ﴾ لا فضل لكم علينا، فَلِمَ تختصمون بالنبوة دوننا، ولو شاء الله أن يبعث رسلاً إلى البشر لأرسلهم من جنس أفضل، كالملائكة، أو : ما أنتم إلا بشر، والبشر لا يكون رسولاً. قال ابن جزي : يحتمل أن يكون استبعاداً لتفضيل بعض البشر على بعض بالنبوة، أو يكون إحالة لنبوة البشر، والأول أظهر ؛ لطلبهم البرهان بقولهم :﴿ فأتونا بسلطان مبينٍ ﴾، ولقول الرسل :﴿ ولكن الله يَمُنُّ على من يشاءُ من عباده ﴾. ه. ثم قالوا للرسل :﴿ تُريدون أن تَصدُّونَا عما كان يعبدُ آباؤُنا ﴾ من الأصنام بهذه الدعوى، ﴿ فأتونا بسلطانٍ مبين ﴾ : ببرهان بيِّن يدل على فضلكم، واستحقاقكم لهذه المرتبة التي هي مرتبة النبوة، كأنهم لم يعتبروا ما جاؤوا به من البينات والحجج، فاقترحوا عليهم آية أخرى، تعنتاً ولجاجاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : التفكر والاعتبار أفضل عبادة الأبرار، وفي الحديث :" تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة ". فيتفكر العبد فيما سلف قبله من القرون الماضية والأمم الخالية، كيف رحلوا عن ديارهم المشيدة، وفروشهم الممهدة، واستبدلوها بضيق القبور، وافتراش التراب تحت الجُنوب، وجاءهم الموت وهم غافلون، وتجرعوا كأسها وهم كارهون، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم رجعوا قدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفع الندم وقد جف القلم، فيوجب هذا التفكرُ الانحياش إلى الله، والمسارعة إلى طاعة الله، والزهد في هذه الدار الفانية، والتأهب للسفر إلى الدار الباقية ؛ فيفوز فوزاً عظيماً. وفي تكذيب الصادقين تسلية للعارفين، وللمتوجهين من المريدين، إذا قُوبلوا بالإيذاء والتكذيب، وبالله التوفيق.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : سر الخصوصية مستور بأوصاف البشرية، ولا فرق بين خصوصية النبوة، والولاية. سترها الحق تعالى غيرةً عليها أن يعرفها من لا يعرف قدرها ؛ فلا يطلع عليها إلا من سبقت له من الله العناية، وهبت عليه ريح الهداية. وفي الحِكَم :" سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية. وقال أيضاً :" سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه ". قال في لطائف المنن : فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم، ولقد سمعت شيخنا أبا العباس المرسي رضي الله عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة الله ؛ فإن الله معروف بكماله وجماله، وحتى متى تعرف مخلوقاً مثلك، يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب ؟ قال فيه : وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته، وأشهدك وجود خصوصيته. هـ.
قلت : ومعنى " طوى عنك وجود بشريته " هو : عدم الوقوف مع أوصافها اللازمة للنقائص، بل تنفذ منها إلى شهود خصوصيته، التي هي محل الكمالات. فأوصاف البشرية الذاتية للبشر لا تزول عن الولي، ولا عن النبي كالأكل والشرب، والنوم والنكاح، والضعف والفقر، وغير ذلك من نعوت البشر ؛ لأنها في حقهم رداء وصون لستر خصوصيتهم ؛ صيانةً لها أن تتبدل بالإظهار، وينادى عليها بلسان الاشتهار، ولذلك اختفوا عن كثير من الخلق. وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله : لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم البشرية ".
وقال صاحب كتاب ( أنوار القلوب ) : لله سبحانه عباد ضنَّ بهم عن العامة، وأظهرهم الخاصة، فلا يعرفهم إلا شكل، أو محب لهم، ولله عباد ضنَّ بهم عن الخاصة والعامة، ولله عباد يُظهرهم في البداية ويسترهم في النهاية، ولله عباد يسترهم في البداية ويُظهرهم في النهاية، ولله عباد لا يظهر حقيقة ما بينه وبينهم إلى الحفظة فمن سواهم، حتى يلقوه بما أودعهم منه في قلوبهم، وهم شهداء الملكوت الأعلى، والصفْح الأيمنِ١ مِنَ العرش ؛ الذين يتولى الله قبض أرواحهم بيده، فتطيب أجسادهم به، فلا يعدوا عليها الثرى، حتى يُبعثوا بها مشرقةً بنور البقاء الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. هـ.
وقال أبو يزيد رضي الله عنه : أولياء الله تعالى عرائس، ولا يرى العرائس إلا من كان مَحرماً لهم، وأما غيرهم فلا. وهم مخبؤون عنده في حجاب الأنس، لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة. هـ. وجميع ما أجاب به الأنبياءُ قومَهم يجيب به الأولياءُ من أنكر عليهم، من قوله :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا ﴾، من التعلق بالأسباب والانهماك في الحظوظ، ومتابعة الهوى، وحب الدنيا، ومن قولهم :﴿ فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ إلى تمام ما أجابوا به. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر ما أجاب به الكفار رسلهم، فقال :
* ﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ * ﴿ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾
﴿ قالت لهم رُسُلهم إن نحن ﴾ : ما نحن ﴿ إلا بشر مثلُكم ولكن الله يَمُنُّ على من يشاءُ من عباده ﴾ بالنبوة والرسالة، فمَنَّ علينا بذلك، وإن كنا بشراً مثلكم، سلّموا لهم مشاركتهم في الجنس، وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل الله ومَنَّهُ عليهم. وفيه دليل على أن النبوة مواهب عطائية لا كسبية. ثم أجابوهم عما اقترحوا بقولهم :﴿ وما كان لنا أن نأتيَكم بسلطانٍ إلا بإذنِ الله ﴾، فليس لنا الإتيان بآيات، ولا في قدرتنا أن نأتيكم بما اقترحتموه، وإنما هو أمر متعلق بمشيئة الله، يخص من يشاء بها، على ما تقتضيه حكمته وسابق إرادته.
﴿ وعلى الله فليتوكَّل المؤمنون ﴾، فلنتوكل نحن عليه، في الصبر على معاناتكم ومعاداتكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : سر الخصوصية مستور بأوصاف البشرية، ولا فرق بين خصوصية النبوة، والولاية. سترها الحق تعالى غيرةً عليها أن يعرفها من لا يعرف قدرها ؛ فلا يطلع عليها إلا من سبقت له من الله العناية، وهبت عليه ريح الهداية. وفي الحِكَم :" سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية. وقال أيضاً :" سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه ". قال في لطائف المنن : فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم، ولقد سمعت شيخنا أبا العباس المرسي رضي الله عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة الله ؛ فإن الله معروف بكماله وجماله، وحتى متى تعرف مخلوقاً مثلك، يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب ؟ قال فيه : وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته، وأشهدك وجود خصوصيته. هـ.
قلت : ومعنى " طوى عنك وجود بشريته " هو : عدم الوقوف مع أوصافها اللازمة للنقائص، بل تنفذ منها إلى شهود خصوصيته، التي هي محل الكمالات. فأوصاف البشرية الذاتية للبشر لا تزول عن الولي، ولا عن النبي كالأكل والشرب، والنوم والنكاح، والضعف والفقر، وغير ذلك من نعوت البشر ؛ لأنها في حقهم رداء وصون لستر خصوصيتهم ؛ صيانةً لها أن تتبدل بالإظهار، وينادى عليها بلسان الاشتهار، ولذلك اختفوا عن كثير من الخلق. وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله : لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم البشرية ".
وقال صاحب كتاب ( أنوار القلوب ) : لله سبحانه عباد ضنَّ بهم عن العامة، وأظهرهم الخاصة، فلا يعرفهم إلا شكل، أو محب لهم، ولله عباد ضنَّ بهم عن الخاصة والعامة، ولله عباد يُظهرهم في البداية ويسترهم في النهاية، ولله عباد يسترهم في البداية ويُظهرهم في النهاية، ولله عباد لا يظهر حقيقة ما بينه وبينهم إلى الحفظة فمن سواهم، حتى يلقوه بما أودعهم منه في قلوبهم، وهم شهداء الملكوت الأعلى، والصفْح الأيمنِ١ مِنَ العرش ؛ الذين يتولى الله قبض أرواحهم بيده، فتطيب أجسادهم به، فلا يعدوا عليها الثرى، حتى يُبعثوا بها مشرقةً بنور البقاء الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. هـ.
وقال أبو يزيد رضي الله عنه : أولياء الله تعالى عرائس، ولا يرى العرائس إلا من كان مَحرماً لهم، وأما غيرهم فلا. وهم مخبؤون عنده في حجاب الأنس، لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة. هـ. وجميع ما أجاب به الأنبياءُ قومَهم يجيب به الأولياءُ من أنكر عليهم، من قوله :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا ﴾، من التعلق بالأسباب والانهماك في الحظوظ، ومتابعة الهوى، وحب الدنيا، ومن قولهم :﴿ فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ إلى تمام ما أجابوا به. والله تعالى أعلم.

عمموا الأمر بذكر المؤمنين ؛ للإشعار بأن الإيمان موجب للتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً، ألا ترى قولهم :﴿ وما لنا ألا نتوكل على الله ﴾ أي : أيُّ عذر لنا في ترك التوكل على الله ؟ ﴿ وقد هَدَانَا سُبُلنا ﴾ أي : طرقنا التي نعرفه بها، فنوحده، ونعلم أن الأمور كلها بيده، ﴿ ولَنصْبِرَنَّ على ما آذيتمونا ﴾ : على أذاكم حتى يحكم الله بيننا، وهو جواب عن قسم محذوف، أكدوا به توكلهم، وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم. ﴿ وعلى الله فليتوكل المتوكلون ﴾ أي : فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم، المسبب عن إيمانهم. قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري.
قال ابن جزي : إن قيل : لِمَ كرر الأمر بالتوكل ؟ فالجواب عندي : أن قوله :﴿ وعلى الله فليتوكل المتوكلون ﴾ راجع إلى ما تقدم من طلب الكفار :﴿ فأتونا بسلطان مبين ﴾ أي : حجة ظاهرة، فتوكل الرسل في ورود ذلك إلى الله. وأما قوله :﴿ فليتوكل المتوكلون ﴾ فهو راجع إلى قولهم :( ولنصْبرنَّ على ما آذيتمونا ) أي : نتوكل على الله في دفع أذاكم. ه. وهو حسن، لكن التعبير بالمتوكلين يقتضي أن التوكل حاصل، والمطلوب الدوام عليه، وقد يقال : إنما عبَّر ثانياً بلفظ المتوكلين ؛ كراهية إعادة اللفظ بعينه، أي : من كان متوكلاً على الله فإنه الحقيق بذلك.
وقال في القوت : أي : ليتوكل عليه في كل شيء مَنْ توكل عليه في شيء. وهذا أحسن وجوهه. قال في الحاشية : والوجه الآخر : وعليه فليتوكّل، في توكله مَنْ تَوكَّل عليه في الأشياء ؛ لأن الوكيل في كل شيء واحد، فينبغي أن يكون التوكل في كل شيء واحد. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : سر الخصوصية مستور بأوصاف البشرية، ولا فرق بين خصوصية النبوة، والولاية. سترها الحق تعالى غيرةً عليها أن يعرفها من لا يعرف قدرها ؛ فلا يطلع عليها إلا من سبقت له من الله العناية، وهبت عليه ريح الهداية. وفي الحِكَم :" سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية. وقال أيضاً :" سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه ". قال في لطائف المنن : فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم، ولقد سمعت شيخنا أبا العباس المرسي رضي الله عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة الله ؛ فإن الله معروف بكماله وجماله، وحتى متى تعرف مخلوقاً مثلك، يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب ؟ قال فيه : وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته، وأشهدك وجود خصوصيته. هـ.
قلت : ومعنى " طوى عنك وجود بشريته " هو : عدم الوقوف مع أوصافها اللازمة للنقائص، بل تنفذ منها إلى شهود خصوصيته، التي هي محل الكمالات. فأوصاف البشرية الذاتية للبشر لا تزول عن الولي، ولا عن النبي كالأكل والشرب، والنوم والنكاح، والضعف والفقر، وغير ذلك من نعوت البشر ؛ لأنها في حقهم رداء وصون لستر خصوصيتهم ؛ صيانةً لها أن تتبدل بالإظهار، وينادى عليها بلسان الاشتهار، ولذلك اختفوا عن كثير من الخلق. وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله : لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم البشرية ".
وقال صاحب كتاب ( أنوار القلوب ) : لله سبحانه عباد ضنَّ بهم عن العامة، وأظهرهم الخاصة، فلا يعرفهم إلا شكل، أو محب لهم، ولله عباد ضنَّ بهم عن الخاصة والعامة، ولله عباد يُظهرهم في البداية ويسترهم في النهاية، ولله عباد يسترهم في البداية ويُظهرهم في النهاية، ولله عباد لا يظهر حقيقة ما بينه وبينهم إلى الحفظة فمن سواهم، حتى يلقوه بما أودعهم منه في قلوبهم، وهم شهداء الملكوت الأعلى، والصفْح الأيمنِ١ مِنَ العرش ؛ الذين يتولى الله قبض أرواحهم بيده، فتطيب أجسادهم به، فلا يعدوا عليها الثرى، حتى يُبعثوا بها مشرقةً بنور البقاء الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. هـ.
وقال أبو يزيد رضي الله عنه : أولياء الله تعالى عرائس، ولا يرى العرائس إلا من كان مَحرماً لهم، وأما غيرهم فلا. وهم مخبؤون عنده في حجاب الأنس، لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة. هـ. وجميع ما أجاب به الأنبياءُ قومَهم يجيب به الأولياءُ من أنكر عليهم، من قوله :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا ﴾، من التعلق بالأسباب والانهماك في الحظوظ، ومتابعة الهوى، وحب الدنيا، ومن قولهم :﴿ فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ إلى تمام ما أجابوا به. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر تخويف الكفار للرسل بإخراجهم من الديار، فقال :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ * ﴿ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ * ﴿ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ ﴾ * ﴿ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾
قلت :( واستفتحوا ) : معطوف على ( أوحى ) ؛ إن كان الضمير للرسل، واستئناف إن كان للكفار.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقال الذين كفروا لِرُسُلهم ﴾ ؛ تخويفاً لهم : والله ﴿ لنُخرجنَّكم من أرضنا أو لتعودُنَّ في ملَّتنا ﴾، حلفوا ليكونن أحد الأمرين ؛ إما إخراج الرسل من ديارهم، أو عودهم إلى ملتهم، والعود هنا بمعنى الصيرورة ؛ لأنهم لم يكونوا على ملتهم، كما تقدم في قصة شعيب عليه السلام. ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول، ولمن آمن معه، فغلّب الجماعة على الواحد، وقال الذين كفروا في كل عصر لكل رسول أتاهم : لنخرجنك، أو لتعودَن في ملتنا. ﴿ فأوحى إليهم ربُّهم ﴾ أي : إلى رسلهم، مجتمعين أو متفرقين على القولين وقال في إيحائه : والله ﴿ لَنُهلكنَّ الظالمين ﴾ فتخلى بلادهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما خوَّفت الكفارُ به، رسلَهم خوفت به العوام فقراءَهم وأولياءهم، قال التجيبي، في الإنالة، لما تكلم على خفاء الأولياء، قال : ومعلوم أن العصمة لم تثبت إلا للنبيين والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأنَّ غيرهم يصيب ويخطئ، ويذنب ويتوب، لكن لمن سُطرت مناقب الرجال، وكراماتهم، ولم تذكر سيئاتهم، وطال العهد بهم، ظن أكثر الخلق أن ليس لهم سيئات، وقد كان لهم في أزمانهم المُحب والمبغض، والمسلّم والمنتقد. ثم قال : فمن يرضى يقول أحسن ما يعلم، ومن يسخط يقول أقبح ما يعلم، وقد رأى أولئك في أزمانهم من الأذى والتنقص، وإساءة الظن بهم ما كان يقصر عنه صبر غيرهم، وقد أُخْرِجَ أبو زيد البسطامي من بسطام مراراً، ورُفِع الشبلي والخواص والنوري للسلطان، وتستر الجنيد بالفقه حين ضُيِّقَ على الفقراء، وقُبض على الحلاج، وضُرب، ومُثَّل به، على أنه ساحر زنديق. هـ. المراد منه.
قلت : وقد وقع بنا في مدينة تِطوان أيام التجريد أمثال هذا، فقد خُوفنا بالضرب مراراً، وسُجِنا وأُخرجنا من زاويتنا، وقال لنا محتسبُهُم : والله لنخرجنكم من مدينتنا، ونركبكم في سفينة إلى بر النصارى، فقلت له : حبّاً وكرامة، ولعلّنا نُذكرهم الله حتى يسلموا، ولما وصل الخبر بهذه المقالة إلى شيخنا، كتب لنا بهذه الآية :﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم... ﴾ الخ. وكل آية في الكفار تجر ذيلها على من تشبه بهم، وإن كان مُسلماً. وبالله التوفيق.

﴿ ولَنُسْكِنَنكُم الأرضَ من بَعدهم ﴾ أي : أرضهم وديارهم، لقوله :﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ]. ﴿ ذلك ﴾ الميراث والإسكان ﴿ لمن خاف مقامِي ﴾ أي : قيامه للحساب بين يدي في القيامة، أو قيامي على عبادي، وحفظي لأعمالهم، واطلاعي على سرهم وعلانيتهم. أو خاف عظمة ذاتي وجلالي، ﴿ وخاف وعيد ﴾ أي : وعيدي بالعذاب، أو عذابي الموعود للكفار.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما خوَّفت الكفارُ به، رسلَهم خوفت به العوام فقراءَهم وأولياءهم، قال التجيبي، في الإنالة، لما تكلم على خفاء الأولياء، قال : ومعلوم أن العصمة لم تثبت إلا للنبيين والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأنَّ غيرهم يصيب ويخطئ، ويذنب ويتوب، لكن لمن سُطرت مناقب الرجال، وكراماتهم، ولم تذكر سيئاتهم، وطال العهد بهم، ظن أكثر الخلق أن ليس لهم سيئات، وقد كان لهم في أزمانهم المُحب والمبغض، والمسلّم والمنتقد. ثم قال : فمن يرضى يقول أحسن ما يعلم، ومن يسخط يقول أقبح ما يعلم، وقد رأى أولئك في أزمانهم من الأذى والتنقص، وإساءة الظن بهم ما كان يقصر عنه صبر غيرهم، وقد أُخْرِجَ أبو زيد البسطامي من بسطام مراراً، ورُفِع الشبلي والخواص والنوري للسلطان، وتستر الجنيد بالفقه حين ضُيِّقَ على الفقراء، وقُبض على الحلاج، وضُرب، ومُثَّل به، على أنه ساحر زنديق. هـ. المراد منه.
قلت : وقد وقع بنا في مدينة تِطوان أيام التجريد أمثال هذا، فقد خُوفنا بالضرب مراراً، وسُجِنا وأُخرجنا من زاويتنا، وقال لنا محتسبُهُم : والله لنخرجنكم من مدينتنا، ونركبكم في سفينة إلى بر النصارى، فقلت له : حبّاً وكرامة، ولعلّنا نُذكرهم الله حتى يسلموا، ولما وصل الخبر بهذه المقالة إلى شيخنا، كتب لنا بهذه الآية :﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم... ﴾ الخ. وكل آية في الكفار تجر ذيلها على من تشبه بهم، وإن كان مُسلماً. وبالله التوفيق.

و( يسْقى ) : معطوف على محذوف، أي : يلقى فيها ويسْقى، و( صديد ) : عطف بيان لماء، و( يتجرعه ) : صفة لماء، أو حال من ضمير ( يسقى ).
﴿ واستفتحوا ﴾ أي : استفتح الرسل : طلبوا من الله الفتح على أعدائهم، أو القضاء بينهم وبين أعاديهم، كقوله :﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ] ؛ واستفتح الكفرة واستنصروا على غلبة الرسل، على نحو قول أبي جهل في غزوة بدر : اللهم، أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة، أي : أهلكه. أو : استفتح الفريقان معاً، فكل واحد منهما سأل الله أن يُهلك المبطل وينصر المحق. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن : بكسر التاء ؛ على الأمر للرسل بطلب الفتح. ﴿ وخاب ﴾ : خسر ﴿ كلُّ جبارٍ ﴾ : متكبر على الله، ﴿ عنيدٍ ﴾ : معاند للحق ولمن جاء به. وهذا هو الفتح الذي فتح لهم، وهو : خيبة المتكبرين وفلاح المؤمنين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما خوَّفت الكفارُ به، رسلَهم خوفت به العوام فقراءَهم وأولياءهم، قال التجيبي، في الإنالة، لما تكلم على خفاء الأولياء، قال : ومعلوم أن العصمة لم تثبت إلا للنبيين والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأنَّ غيرهم يصيب ويخطئ، ويذنب ويتوب، لكن لمن سُطرت مناقب الرجال، وكراماتهم، ولم تذكر سيئاتهم، وطال العهد بهم، ظن أكثر الخلق أن ليس لهم سيئات، وقد كان لهم في أزمانهم المُحب والمبغض، والمسلّم والمنتقد. ثم قال : فمن يرضى يقول أحسن ما يعلم، ومن يسخط يقول أقبح ما يعلم، وقد رأى أولئك في أزمانهم من الأذى والتنقص، وإساءة الظن بهم ما كان يقصر عنه صبر غيرهم، وقد أُخْرِجَ أبو زيد البسطامي من بسطام مراراً، ورُفِع الشبلي والخواص والنوري للسلطان، وتستر الجنيد بالفقه حين ضُيِّقَ على الفقراء، وقُبض على الحلاج، وضُرب، ومُثَّل به، على أنه ساحر زنديق. هـ. المراد منه.
قلت : وقد وقع بنا في مدينة تِطوان أيام التجريد أمثال هذا، فقد خُوفنا بالضرب مراراً، وسُجِنا وأُخرجنا من زاويتنا، وقال لنا محتسبُهُم : والله لنخرجنكم من مدينتنا، ونركبكم في سفينة إلى بر النصارى، فقلت له : حبّاً وكرامة، ولعلّنا نُذكرهم الله حتى يسلموا، ولما وصل الخبر بهذه المقالة إلى شيخنا، كتب لنا بهذه الآية :﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم... ﴾ الخ. وكل آية في الكفار تجر ذيلها على من تشبه بهم، وإن كان مُسلماً. وبالله التوفيق.

و( يسْقى ) : معطوف على محذوف، أي : يلقى فيها ويسْقى، و( صديد ) : عطف بيان لماء، و( يتجرعه ) : صفة لماء، أو حال من ضمير ( يسقى ).
ثم ذكر مآل خيبتهم بقوله :﴿ من ورائه جهنمُ ﴾ أي : أمامه وبين يديه، فإنه مرْصد بها، واقف على شفيرها في الدنيا، مبعوث إليها بعد الموت فيلقى فيها، ﴿ ويُسقى من ماءٍ صديد ﴾، وهو ما يسيل من جلود الكفار من القيح والدم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما خوَّفت الكفارُ به، رسلَهم خوفت به العوام فقراءَهم وأولياءهم، قال التجيبي، في الإنالة، لما تكلم على خفاء الأولياء، قال : ومعلوم أن العصمة لم تثبت إلا للنبيين والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأنَّ غيرهم يصيب ويخطئ، ويذنب ويتوب، لكن لمن سُطرت مناقب الرجال، وكراماتهم، ولم تذكر سيئاتهم، وطال العهد بهم، ظن أكثر الخلق أن ليس لهم سيئات، وقد كان لهم في أزمانهم المُحب والمبغض، والمسلّم والمنتقد. ثم قال : فمن يرضى يقول أحسن ما يعلم، ومن يسخط يقول أقبح ما يعلم، وقد رأى أولئك في أزمانهم من الأذى والتنقص، وإساءة الظن بهم ما كان يقصر عنه صبر غيرهم، وقد أُخْرِجَ أبو زيد البسطامي من بسطام مراراً، ورُفِع الشبلي والخواص والنوري للسلطان، وتستر الجنيد بالفقه حين ضُيِّقَ على الفقراء، وقُبض على الحلاج، وضُرب، ومُثَّل به، على أنه ساحر زنديق. هـ. المراد منه.
قلت : وقد وقع بنا في مدينة تِطوان أيام التجريد أمثال هذا، فقد خُوفنا بالضرب مراراً، وسُجِنا وأُخرجنا من زاويتنا، وقال لنا محتسبُهُم : والله لنخرجنكم من مدينتنا، ونركبكم في سفينة إلى بر النصارى، فقلت له : حبّاً وكرامة، ولعلّنا نُذكرهم الله حتى يسلموا، ولما وصل الخبر بهذه المقالة إلى شيخنا، كتب لنا بهذه الآية :﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم... ﴾ الخ. وكل آية في الكفار تجر ذيلها على من تشبه بهم، وإن كان مُسلماً. وبالله التوفيق.

﴿ يتجرَّعُه ﴾ : يتكلف جرعه، أي : زهوقه في حلقه. رُوي :" أن الكافر يؤتى بالشربة منه فيتكرهها، فإذا أدْنيت منه شوت وجهه، وسقطت فيها فروة رأسه، فإذا شربها قطعت أمعاءه " ١. فيتجرعه ﴿ ولا يكادُ يُسيغُه ﴾ أي : لا يقارب أن يُسيغه، أي : يبتلعه بصعوبة فكيف يُسيغه، بل يكلف به ويطول عذابه ثم يبتلعه ؛ لأن نفي " كاد " يقتضي الوقوع. والسوغ : جواز الشراب على الحلق بسهولة، وهذا بخلافه. ﴿ ويأتيه الموتُ ﴾ أي : أسباب الموت ﴿ من كل مكانٍ ﴾ ؛ من أجل الشدائد التي تُحيط به من جميع الجهات. أو : من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجليه. ﴿ وما هو بميت ﴾ فيستريح، ﴿ ومن ورائهِ ﴾ : من بين يديه ﴿ عذابٌ غليظ ﴾ أي : يستقبل في كل وقت عذاباً أشد مما هو عليه، وقيل : هو الخلود في النار، وقيل : حبس الأنفاس في الأجساد. قاله الفضيل بن عياض. وقيل : قوله :﴿ واستفتحوا ﴾ : كلام منقطع عن قصة الرسل، بل نزل في أهل مكة حين استفتحوا بطلب المطر في السنة التي أخذتهم بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فخيب الله رجاءهم ولم يسقهم، وأوعدهم أن يسقيهم بَدَلاً من سقياهم المطر صديدَ أهل النار. قال معناه البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما خوَّفت الكفارُ به، رسلَهم خوفت به العوام فقراءَهم وأولياءهم، قال التجيبي، في الإنالة، لما تكلم على خفاء الأولياء، قال : ومعلوم أن العصمة لم تثبت إلا للنبيين والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأنَّ غيرهم يصيب ويخطئ، ويذنب ويتوب، لكن لمن سُطرت مناقب الرجال، وكراماتهم، ولم تذكر سيئاتهم، وطال العهد بهم، ظن أكثر الخلق أن ليس لهم سيئات، وقد كان لهم في أزمانهم المُحب والمبغض، والمسلّم والمنتقد. ثم قال : فمن يرضى يقول أحسن ما يعلم، ومن يسخط يقول أقبح ما يعلم، وقد رأى أولئك في أزمانهم من الأذى والتنقص، وإساءة الظن بهم ما كان يقصر عنه صبر غيرهم، وقد أُخْرِجَ أبو زيد البسطامي من بسطام مراراً، ورُفِع الشبلي والخواص والنوري للسلطان، وتستر الجنيد بالفقه حين ضُيِّقَ على الفقراء، وقُبض على الحلاج، وضُرب، ومُثَّل به، على أنه ساحر زنديق. هـ. المراد منه.
قلت : وقد وقع بنا في مدينة تِطوان أيام التجريد أمثال هذا، فقد خُوفنا بالضرب مراراً، وسُجِنا وأُخرجنا من زاويتنا، وقال لنا محتسبُهُم : والله لنخرجنكم من مدينتنا، ونركبكم في سفينة إلى بر النصارى، فقلت له : حبّاً وكرامة، ولعلّنا نُذكرهم الله حتى يسلموا، ولما وصل الخبر بهذه المقالة إلى شيخنا، كتب لنا بهذه الآية :﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم... ﴾ الخ. وكل آية في الكفار تجر ذيلها على من تشبه بهم، وإن كان مُسلماً. وبالله التوفيق.


١ أخرجه أحمد في المسند ٥/٢٦٥، والحاكم في المستدرك ٢/٣٥١..
ثم ضرب مثلا لعمل الكفار، فقال :
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ﴾
قلت :( مثل ) : مبتدأ، والخبر محذوف عند سيبويه، أي : فيما يتلى عليكم مثلهم. وقال الفراء : الخبر ما بعده، وهو جملة :( أعمالهم كرمادٍ )، أو ( أعمالهم ) : بدل، والخبر :( كرماد )، وعلى قول سيبويه تكون جملة :( أعمالهم ) : مستأنفة لبيان مثلهم.
يقول الحق جل جلاله :﴿ مَّثلُ ﴾ أعمال ﴿ الذين كفروا بربهم ﴾ ؛ في عدم الانتفاع بها وذهابها :﴿ كرمادٍ اشتدت به الريحُ ﴾ في الهوى بسرعة ﴿ في يومٍ عاصفٍ ﴾ : شديد ريحه. والعصْف : اشتداد الريح. وصف به زمانه ؛ للمبالغة، كقولهم : نهاره صائم، وليله قائم. شبه صنائعهم ؛ من الصدقة، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، وعتق الرقاب، ونحو ذلك من مكارمهم ؛ في حبوطها لبنائها على غير أساس من الإيمان بالله، والتوجه بها إليه بغبار طارت به الريح العاصفة ﴿ في يوم عاصفٍ، لا يقْدرونَ ﴾ يوم القيامة ﴿ مما كسبوا ﴾ من أعمالهم ﴿ على شيءٍ ﴾ من الانتفاع بها ؛ لحبوطها، وتلاشيها، فلا يقدرون منها على شيء، ولا يجدون ثوابها، وحيل بينهم وبين النفع، كما حالت الرياح بينك وبين ما تنسفه، فهو كما قيل : فذلكة التمثيل. ﴿ ذلك ﴾ ؛ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون، ﴿ هو الضلال البعيد ﴾ أي : هو الغاية في البُعد عن طريق الحق.
الإشارة : العمل الذي يثبت لصاحبه هو الذي يصحبه الإخلاص في أوله، والإسرار في آخرِه، والتبري فيه من الحول والقوة، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إنَّ الإبقَاءَ عَلَى العمل أشَدُّ مِنَ العمل، وإنَّ الرجلَ لَيَعْمَلُ العمل فيُكتب له عَمَلٌ صالحٌ، معمول به في السر، يضعِّف أجره بسبعين ضِعفاً، فلا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويُعْلنه، فيكتب علانيته، ويمحى تضعيف أجره كله، ثم لا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويُحب أن يُحمد عليه، فيُمحى من العلانية، ويكتب رياء، فاتقى الله امرؤ صان دينه، وإن الرياء شرك ". رواه البيهقي١.
وبهذا تظهر فضيلة عمل القلوب، كعبادة التفكر والاعتبار، أو الشهود والاستبصار، أو نية صالحة وهدى صالح، أو زهد في القلب، وورع وصبر، وشكر وحلم، وغير ذلك من أعمال القلوب، التي لا يطلع عليها ملك فيكتبه، ولا شيطان فيُفسده، بل يتولى جزاءه أكرمُ الأكرمين. ولذلك قيل : ذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح. وقال عليه الصلاة والسلام :" تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة " ولهذا أمر به أي : بالتفكر بعد ضرب المثل للعمل الظاهر، فقال :
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ * ﴿ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾.
١ انظر شعب الإيمان الحديث ٦٨١٣، ٦٨٦٤..
يقول الحق جل جلاله :﴿ ألم تَرَ ﴾ يا محمد، أو أيها السامع ﴿ أن الله خلق السماوات والأرض بالحق ﴾ ؛ لتدل على الحق، أو بالوجه الذي يحقَّ أن تُخلق لأجله، وهو التعريف بخالقها، وبقدرته الباهرة التي تقدر على الإيجاد والإعدام، ولذلك قال :﴿ إن يشأ يُذهبكم ويأت بخَلْقٍ جديدٍ ﴾، أي : إن يشأ يعدمكم ويستبدل مكانكم خلقاً آخر. فإنَّ من قدر على إيجاد صورهم، وما تتوقف عليه مادتهم، قادر على أن يبدلهم بخلق آخر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ألم تر أن الله خلق سماوات الأرواح، لشهود الحق في مقام التعريف، وأرض النفوس لعبادة الحق في مقام التكليف. الأرواح مستقرها سماء الحقائق، والأشباح مقرها أرض الشرائع. عالم الأرواح محل التعريف، وعالم الأشباح محله التكليف. والأرواح لا تنفك عن الأشباح في الصورة الخلقية، غير أنها تعرج عنها بالتصفية والذكر، حتى تترقى إلى عالم الأرواح، فلا تشهد إلا الأرواح في محل الأشباح ؛ وهذا من أعظم أسرار الربوبية، التي يطلع عليها العارفون بالله، فإذا أطلعهم الله على هذا المقام، كُوشفوا بأسرار الذات العلية، وبعالم الأرواح الذي هو مظهر أرواح الأنبياء والرسل، فلا يغيبون عن الله ساعة، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن مقام أرواح الأنبياء والأولياء. وفي هذا المقام قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : لي ثلاثون سنة، ما غاب عني الحق طرفة عين. وقال أيضاً : لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ما عددت نفسي من المسلمين. وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه : مما منَّ الله به عليَّ أني ما ذكرتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا خطر على قلبي إلا وجدتني بين يديه... الخ كلامه. نفعنا الله بهم.
وأهل هذا المقام موجودون في كل زمان، فإن القادر في زمانهم هو القادر في زماننا، وفي قوله تعالى :﴿ إن يشأ يذهبكم... ﴾ الآية، إشارة إلى هذا، أي : إن يشأ يذهبكم عن شهود أنفسكم، ويأت بخلق جديد، تُشاهدون به أسرار ربكم، وما ذلك على الله بعزيز. قال أبو المواهب التونسي رضي الله عنه : حقيقة الفناء محو واضمحلال، وذهاب عنك وزوال. هـ.

﴿ وما ذلك على الله بعزيز ﴾ أي : بمتعذر، أو ممتنع ؛ لأن قدرته عامة التعلق، لا تختص بمقدور دون آخر، ومن كان هذا شأنه كان حقيقاً بأن يُفرد بالعبادة والقصد ؛ رجاء لثوابه، وخوفاً من عقابه يوم الجزاء، الذي أشار إليه بقوله :﴿ وبرزوا لله. . . ﴾ إلخ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ألم تر أن الله خلق سماوات الأرواح، لشهود الحق في مقام التعريف، وأرض النفوس لعبادة الحق في مقام التكليف. الأرواح مستقرها سماء الحقائق، والأشباح مقرها أرض الشرائع. عالم الأرواح محل التعريف، وعالم الأشباح محله التكليف. والأرواح لا تنفك عن الأشباح في الصورة الخلقية، غير أنها تعرج عنها بالتصفية والذكر، حتى تترقى إلى عالم الأرواح، فلا تشهد إلا الأرواح في محل الأشباح ؛ وهذا من أعظم أسرار الربوبية، التي يطلع عليها العارفون بالله، فإذا أطلعهم الله على هذا المقام، كُوشفوا بأسرار الذات العلية، وبعالم الأرواح الذي هو مظهر أرواح الأنبياء والرسل، فلا يغيبون عن الله ساعة، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن مقام أرواح الأنبياء والأولياء. وفي هذا المقام قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : لي ثلاثون سنة، ما غاب عني الحق طرفة عين. وقال أيضاً : لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ما عددت نفسي من المسلمين. وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه : مما منَّ الله به عليَّ أني ما ذكرتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا خطر على قلبي إلا وجدتني بين يديه... الخ كلامه. نفعنا الله بهم.
وأهل هذا المقام موجودون في كل زمان، فإن القادر في زمانهم هو القادر في زماننا، وفي قوله تعالى :﴿ إن يشأ يذهبكم... ﴾ الآية، إشارة إلى هذا، أي : إن يشأ يذهبكم عن شهود أنفسكم، ويأت بخلق جديد، تُشاهدون به أسرار ربكم، وما ذلك على الله بعزيز. قال أبو المواهب التونسي رضي الله عنه : حقيقة الفناء محو واضمحلال، وذهاب عنك وزوال. هـ.

فيبرزون من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، كما قال تعالى :
﴿ وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ﴾
قلت :( تَبعاً ) : جمع تابع، أو مصدر نُعت به ؛ للمبالغة على حذف مضاف، أي : كنا لكم ذا تبع، و( من عذاب الله من شيء ) : من، الأولى ؛ للبيان، والثانية : زائدة، هذا المختار. و عليه الصلاة والسلام و( محيص ) : إما مصدر، أو اسم مكان.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وبرزوا لله ﴾ أي : لأمر الله ﴿ جميعاً ﴾، فيبرزون من قبورهم يوم القيامة حفاةً عراةً، لفصل القضاء، أو : برزوا لله على ظنهم ؛ فإنهم كانوا يرتكبون الفواحش خفية، ويظنون أنها تخفى على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم. وإنما عبَّر بالماضي ؛ لتحقق وقوعه. فيقول حينئذٍ ﴿ الضعفاءُ ﴾ وهم : الأتباع، لضعف رأيهم عندهم، ﴿ للذين استكبروا ﴾ وهم الرؤساء الذين استتبعوهم وغووهم :﴿ إنا كنا لكم تَبَعاً ﴾ في الكفر، وتكذيب الرسل، والإعراض عن نصحهم، ﴿ فهل أنتم مُغْنون عنا من عذابِ الله من شيء ﴾ أي : فهل أنتم دافعون عنا شيئاً من عذاب الله ؟.
﴿ قالوا ﴾، أي : رؤساؤهم، في جوابهم واعتذارهم :﴿ لو هدانا الله لهديناكم ﴾ أي : لو هدانا الله للإيمان، ووفقنا إليه لهديناكم ولكن ضللنا فأضللناكم، أي : اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا، ولو هدانا الله لطريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم، لكن سُدَّ دوننا طريق الخلاص، ﴿ سواءٌ علينا أجزِعْنَا أمْ صَبَرنا ﴾، أي : مستوٍ علينا الجزع والصبر، ﴿ ما لنا من محيص ﴾ : من مهرب ومنجى، ويحتمل أن يكون قوله :﴿ سواءٌ علينا. . . ﴾ إلخ، من كلام الفريقين معاً، ويؤيده ما رُوي أنهم يقولون : تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام، فلا ينفعهم، فيقولون : تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك، ثم يقولون :﴿ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ﴾. نسأل الله العصمة بمنَّه وكرمه.
الإشارة : إذا ترقى العارفون، ومن تعلق بهم، عن عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، وبرزوا لشهود الله في كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وعند كل شيء، وتنزهوا في حضرة الأسرار، ورُفعوا يوم القيامة مع المقربين الأبرار، بقي ضعفاء اليقين ؛ الذين تعوقوا عن صُحبتهم، في غم الحجاب، وتعب الحس والخواطر، مسجونين في سجن الأكوان، فيقولون لمن عَوَّقهم عن صحبة العارفين من أهل الرئاسة والجاه : إنا كنا لكم تبعاً، فهل تمنعون شيئاً مما نحن فيه من غم الحجاب، وسقوط الدرجة ؟ فيقولون : لو هدانا الله لصحبتهم لهديناكم. فإذا نظروا يوم القيامة إلى ارتفاع درجاتهم ضجوا، وفزعوا على ما فاتهم، فلا ينفعهم ذلك ؛ فما لهم من محيص عن تخلفهم عن مقام المقربين. رُوي أن أهل عليين إذا أشرفوا على الأسفلين تشرق منازلهم من أنوار وجوههم. وسيأتي إن شاء الله الحديث عند قوله :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [ السجدة : ١٧ ].
ثم ذكر خطبة الشيطان على أهل النار، فقال :
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
قلت :( إلا أن دعوتُكم ) : الاستثناء منقطع، ويجوز الاتصال، و( بما أشركتمون ) : مصدرية، أو موصولة اسمية، و( من قبل ) : يتعلق بأشركتمون، وعلى الثاني : بكفرت.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقال الشيطانُ ﴾، أي إبليس الأقدم ﴿ لمَّا قُضِي الأمرُ ﴾ أي : أمر الحساب، وفرغ منه، ودخل أهل الجنةِ الجنة، وأهلُ النارِ النارَ. رُوي أنه يُنصب له منبر من نار، فيقوم خطيباً في النار على أهل النار، يعني على الأشقياء من الثقَلين، فيقول في خطبته :﴿ إن الله وعدكم وعدَ الحق ﴾، أي : وعداً حقاً أنجزه لكم، وهو وعد البعث والجزاء، ﴿ ووعدتكم ﴾ وعد الباطل، وهو : ألاَّ بعث ولا حساب، وإن كان واقعاً شيء من ذلك فالأصنام تشفع لكم، ﴿ فأخْلَفتكم ﴾، أي : فظهر خلاف ما وعدتكم، جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه، مجازاً. ﴿ وما كان لِيَ عليكم من سلطان ﴾ ؛ من تسلط، فألجئكم إلى الكفر والمعاصي، ﴿ إلا أن دعوتُكم ﴾ ؛ إلا دعائي إياكم بتسويل وتزيين، ﴿ فاستجبْتمْ لِي ﴾، وهو ليس من جنس التسلط، لكنه تهكم بهم، على طريقة قوله١ :
. . . *** تَحِيَّةُ بَيْنِهِم ضَرْبٌ وَجِيعُ
ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً، أي : ما تسلطت عليكم بالقهر، لكن دعوتكم فأسرعتم إجابتي، ﴿ فلا تلوموني ﴾ ؛ فإنَّ من اشتهر بالعداوة لا يُلام على أمثال ذلك، ﴿ ولُوموا أنفسكم ﴾ ؛ حيث أطعتموني حين دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم. ولا حجة للمعتزلة في الآية على أن العبد يخلق أفعاله ؛ لأن كسب العبد مقدر في ظاهر الأمر، لقيام عالم الحكمة، وهو رداء لعالم القدرة، فالقدرة تبرز، والحكمة تستر، وهو ما يظهر من اختيار العبد، ولا اختيار له في الحقيقة ؛ قال تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ [ الإنسان : ٣٠، التكوير : ٢٩ ] ﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ].
ثم قال لهم :﴿ ما أنا بمُصْرخِكُم ﴾ : بمغيثكم من العذاب، ﴿ وما أنتم بمُصْرخِيَّ ﴾ : بمغيثي، ﴿ إني كفرت بما أشركتمونِ من قبلُ ﴾، أي : إني كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم في دار الدنيا، بمعنى : تبرأت منه واستنكرته، كقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ﴾ [ فاطر : ١٤ ]. أو : أني كفرت بالله الذي أشركتموني معه في طاعته من قبل، حين امتنعْت من السجود. والأول أظهر.
قال تعالى :﴿ إنَّ الظالمين لهم عذابٌ أليم ﴾. ويحتمل أن يكون من تتمة خطبة الشيطان، قال البيضاوي : وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين، وإيقاظ لهم، حتى يُحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم. ه.
الإشارة : ينبغي لك أيها العبد الصالح الناصح لنفسه أن تصغي بسمع قلبك إلى هذه المقالة، التي تصدر من الشيطان عند فوات الأوان، فتبادر إلى خلاص نفسك ما دمت في قيد حياتك، قبل حلول رمسك٢، قبل أن تزل بك القدم، حيث لا ينفعك الندم، فتحاسب نفسك، وتتدبر في عواقب أمرك، وتصحح عقائد توحيدك، وتعمل جهدك في طاعة ربك، وتجتنب مواقع غرور الشيطان، وتعتمد على فضل الكريم المنان، وتجعل الموت نصب عينيك، وما هو مستقبل تجعله حاصلاً، وما هو متوقع تجعله واقعاً ؛ فكل ما هو آت قريب، و﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٣٤ ]. وفي الحِكَم :" لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدنيا وكسفة الفناء ظاهرة عليها ". وبالله التوفيق.
١ صدر البيت:
وخيل قد دلفت لها بخيل ***...
والبيت لعمرو بن معد يكرب في ديوانه ص ١٤٩، وخزانة الأدب ٩/٢٥٢، وشرح أبيات سيبويه ٢/٢٠٠، والكتاب ٣/٥٠، ونوادر أبي زيد ص ١٥٠..

٢ الرمس: القبر..
ثم شفع بأضداد من غرهم الشيطان، فقال :
﴿ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وأدخل الذين آمنوا ﴾، أي : أدخلهم الله على أيدي الملائكة ﴿ جنات تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ﴾، فيدخلونها ﴿ بإذن ربهم ﴾ ؛ بأمره، فيأذن للملائكة أن تُدخلهم حين يقضي بينهم. ﴿ تحيتُهم فيها سلامٌ ﴾ أي : تحييهم الملائكة، أو الخدام، حين يتلقونهم يسلمون عليهم، ويهنئونهم، على ما في الحديث.
الإشارة : في ذكر هذه الآية بعد خطبة الشيطان تنبيه على وجه الخلاص منه، حتى لا يكون من أهل خطبته، وهو تصحيح الإيمان وتقوية مواده، وهو ما ذكرنا قبل في مواد طمأنينة أهل الإيمان، وإن أسعده الله بصحبة عارف رقَّاه إلى شهود العيان، فلا يكون للشيطان ولا لغيره عليه سلطان، لتحقيق عبوديته، وارتقائه إلى شهود عظمة ربوبيته ؛ قال تعالى :﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ [ الحجر : ٤٢ ]، وهم الذين رسخت في قلوبهم شجرة الإيمان، وارتفعت أغصانها إلى الرحمان، الذي أشار إليها بقوله :
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ ﴾ * ﴿ تُؤْتِيا أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ * ﴿ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ﴾ * ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ ﴾.
قلت :( كلمة طيبة ) : يجوز أن يكون مفعولاً بمحذوف، أي : جعل كلمة، وتكون الجملة تفسيرية لضرب المثل، وأن تكون ( كلمة ) : بدلاً من ( مَثَلاً )، و( شجرة ) : صفة لها، أو خبر عن مضمر، أي : هي شجرة.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ألم تَرَ ﴾ يا محمد، أو أيها السامع، ﴿ كيف ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً ﴾ لأهل " لا إله إلا الله "، وهم : أهل التوحيد، الذين رسخ التوحيد في قلوبهم، وعبّروا عنه بألسنتهم. فمثال الكلمة الطيبة التي نطقوا بها، ورسخ معناها في قلوبهم ﴿ كشجرةٍ طيبةٍ ﴾ : كالنخلة مثلاً، ﴿ أصلُها ثابت ﴾ في الأرض، غائص بعروقه فيها، ﴿ وفروعها في السماء ﴾ ؛ أي : أعلاها. أي : يريد الجنس، أي : فروعها وأفنانها في السماء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الكلمة الطيبة، هي كلمة التوحيد، والشجرة الطيبة هي شجرة الإيمان، وأصلها هو : التوحيد الثابت في القلب، وفروعها : الفرائض والواجبات، وأغصانها : السنن المؤكدات، وأوراقها : المندوبات والمستحبات، وأزهارها : الأحوال والمقامات، وأذواقها : الوجدان وحلاوة المعاملات، وانتهاء طيب أثمارها : العلوم وكشف أسرار الذات، الذي هو مقام الإحسان، وهي معرفة الشهود والعيان. فمن لم يبلغ هذا المقام لم يجْن ثمرة شجرة إيمانه. ومن نقص شيئاً من هذه الفروع نقص بقدرها من شجرة إيمانه، إما من فروعها، أو من أغصانها، أو من ورقها، أو من حلاوة أذواقها، أو مِنْ عَرْف أزهارها، أو من طيب ثمرتها. ومعلوم أن الشجرة إذا نبتت بنفسها في الخلاء، ولم تُلَقَّح كانت ذَكَّارة، تورق ولا تثمر، فهي شجرة إيمان من لا شيخ له يصلح للتربية، فإن الفروع والأوراق كثيرة، والثمار ضعيفة، أيُّ ريح هاج عليها أسقطها. وراجع ما تقدم في إشارة قوله تعالى :﴿ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ [ المائدة : ٣٥ ]. وبالله التوفيق.
﴿ تُؤتي أًكُلُها ﴾ : تُعطى ما يؤكل من ثمرها ﴿ كل حين ﴾ وقَّته الله لإثمارها، فقيل : سنة، وبه قال ابن عباس وجماعة من المفسرين والفقهاء، واستدلوا بها على من حلف لا يُكلم أخاه حيناً لزمه سنة، وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وغيرهما :﴿ كل حين ﴾ ؛ أي : غدوة وعشية، ومتى أريد جناها، قلت : وهذا هو الظاهر.
واخْتُلف في هذه الشجرة الطيبة، التي ضرب الله بها المثل لكلمة الإخلاص، فقيل : غير معينة، وقيل : النخلة، وبه قال الجمهور. قال الشطيبي : وقيل : جوزة الهند، فإنها ثابتة الأصل، متصلة النفع، يكون طعمها أولاً لبناً، ثم عسلاً، ثم تنعقد طعاماً، ويصنع بلبنها ما يصنع بلبن المواشي، ثم يكون كالخل، ثم كالخمر، ثم كالزيت، كل هذا قبل عقد الطعم، وأما النخلة فهي : ستة أشهر طلع رخص، وستة أشهر رطب طيب، فنفعه متصل. وقال أبو حنيفة : إنه ببلاد اليمن نوعٌ من التمر، يقال له : الباهين، يطعم السنة كلها. ه. قلت : وقد ذكر ابن مقشب جوزة الهند، ووصفها كما قال الشطيبي، وقوله :" في النخلة ستة أشهر. . . " الخ، فيه نظر، وصوابه : ثلاثة، فإن المعاينة ترده.
والمشبه بهذه الشجرة : المؤمن الكامل الدائم نفعه، المتصل علمه، أوقاته معمورة بذكر الله، أو تذكير عباد الله، وحركاته وسكناته في طاعة الله، حيث أراد بها وجه الله، فكل حين وساعة يصعد منه عمل إلى الله.
ثم قال تعالى :﴿ ويضربُ الله الأمثال للناس لَعلهم يتذكرون ﴾ ؛ لأن في ضربها زيادة إيضاح وإفهام وتذكير ؛ فإنه تصوير للمعاني وتقريبها من الحس، لتفهم سريعاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الكلمة الطيبة، هي كلمة التوحيد، والشجرة الطيبة هي شجرة الإيمان، وأصلها هو : التوحيد الثابت في القلب، وفروعها : الفرائض والواجبات، وأغصانها : السنن المؤكدات، وأوراقها : المندوبات والمستحبات، وأزهارها : الأحوال والمقامات، وأذواقها : الوجدان وحلاوة المعاملات، وانتهاء طيب أثمارها : العلوم وكشف أسرار الذات، الذي هو مقام الإحسان، وهي معرفة الشهود والعيان. فمن لم يبلغ هذا المقام لم يجْن ثمرة شجرة إيمانه. ومن نقص شيئاً من هذه الفروع نقص بقدرها من شجرة إيمانه، إما من فروعها، أو من أغصانها، أو من ورقها، أو من حلاوة أذواقها، أو مِنْ عَرْف أزهارها، أو من طيب ثمرتها. ومعلوم أن الشجرة إذا نبتت بنفسها في الخلاء، ولم تُلَقَّح كانت ذَكَّارة، تورق ولا تثمر، فهي شجرة إيمان من لا شيخ له يصلح للتربية، فإن الفروع والأوراق كثيرة، والثمار ضعيفة، أيُّ ريح هاج عليها أسقطها. وراجع ما تقدم في إشارة قوله تعالى :﴿ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ [ المائدة : ٣٥ ]. وبالله التوفيق.
ثم ذكر ضدها فقال :﴿ وَمَثَلُ كلمة خبيثة ﴾ ؛ كلمة الكفر ﴿ كشجرة ﴾ كمثل شجرة ؛ ﴿ خبيثة ﴾ ؛ كالحنظلة مثلاً، ﴿ اجْتُثتْ ﴾ : استؤصلت، وأُخذت جثتها، وقُلعت بالكلية ﴿ من فوق الأرض ﴾، أي : قطعت من فوق الأرض ؛ لأن عروقها قريبة منه، ﴿ ما لها من قرارٍ ﴾ استقرار. وهذا في مقابلة قوله :﴿ أصلها ثابت ﴾. قال البيضاوي : واختُلف في الكلمة والشجرة ؛ ففُسرت الكلمة الطيبة بكلمة التوحيد أي :( لا إله إلا الله )، ودعوة الإسلام والقرآن، والكلمة الخبيثة بالإشراك بالله تعالى، والدعاء إلى الكفر، وتكذيب الحق. ولعل المراد بهما ما يعم ذلك، فالكلمة الطيبة : ما أعرب عن حق، أو دعا إلى صلاح، والكلمة الخبيثة : ما كان على خلاف ذلك، وفُسرت الشجرة الطيبة بالنخلة، ورُوي ذلك، مرفوعاً، وبشجرة في الجنة، والخبيثة بالحنظلة، ولعل المراد بهما أيضاً ما يعم ذلك. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الكلمة الطيبة، هي كلمة التوحيد، والشجرة الطيبة هي شجرة الإيمان، وأصلها هو : التوحيد الثابت في القلب، وفروعها : الفرائض والواجبات، وأغصانها : السنن المؤكدات، وأوراقها : المندوبات والمستحبات، وأزهارها : الأحوال والمقامات، وأذواقها : الوجدان وحلاوة المعاملات، وانتهاء طيب أثمارها : العلوم وكشف أسرار الذات، الذي هو مقام الإحسان، وهي معرفة الشهود والعيان. فمن لم يبلغ هذا المقام لم يجْن ثمرة شجرة إيمانه. ومن نقص شيئاً من هذه الفروع نقص بقدرها من شجرة إيمانه، إما من فروعها، أو من أغصانها، أو من ورقها، أو من حلاوة أذواقها، أو مِنْ عَرْف أزهارها، أو من طيب ثمرتها. ومعلوم أن الشجرة إذا نبتت بنفسها في الخلاء، ولم تُلَقَّح كانت ذَكَّارة، تورق ولا تثمر، فهي شجرة إيمان من لا شيخ له يصلح للتربية، فإن الفروع والأوراق كثيرة، والثمار ضعيفة، أيُّ ريح هاج عليها أسقطها. وراجع ما تقدم في إشارة قوله تعالى :﴿ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ [ المائدة : ٣٥ ]. وبالله التوفيق.
﴿ يُثبت اللهُ الذين آمنوا بالقول الثابت ﴾ وهو : لا إله إلا الله، أو كل ما يثبت في القلب، ويتمكن فيه من الحق، بالحجة الواضحة، ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ مدة حياتهم، فلا يزالون إذا افتتنوا في حياتهم، أو عند موتهم، وهي حسن الخاتمة، ﴿ وفي الآخرة ﴾ عند السؤال، فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في القبر، وعند الموقف، فلا تدهشهم أهوال القيامة. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال :" ثُمَّ تُعَادُ رُوحه في جَسَدِهِ، فَيَأتيهِ مَلَكانِ، فيُجْلِسَانهِ فِي قَبْرهِ، ويَقُولاَنِ لَه : مَنْ رَبُّكَ، وَمَا دِينُكَ، وَمَنْ نَبِيكَ ؟ فيقول : رَبي الله، ودِيني الإسْلاَمُ، ونَبيي محمد صلى الله عليه وسلم. فينادي مُنَادٍ من السَّماءِ : أنْ صَدَقَ عَبْدِي. فذلك قوله تعالى :﴿ يُثَبِتُ اللهُ الذينَ آمنُوا بِالقَولِ الثابتِ ﴾١. قلت : والقدرة صالحة لهذا كله. قال الغزالي : هو أشبه شيء بحال النائم.
﴿ ويُضِلُّ اللهُ الظالمين ﴾ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتقليد، فلا يهتدون إلى الحق، ولا يثبتون في مواقف الفتن. ﴿ ويفعلُ الله ما يشاء ﴾ ؛ من تثبيت بعض، وإضلال آخرين، من غير اعتراض عليه، ولا تعقيب لحكمه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الكلمة الطيبة، هي كلمة التوحيد، والشجرة الطيبة هي شجرة الإيمان، وأصلها هو : التوحيد الثابت في القلب، وفروعها : الفرائض والواجبات، وأغصانها : السنن المؤكدات، وأوراقها : المندوبات والمستحبات، وأزهارها : الأحوال والمقامات، وأذواقها : الوجدان وحلاوة المعاملات، وانتهاء طيب أثمارها : العلوم وكشف أسرار الذات، الذي هو مقام الإحسان، وهي معرفة الشهود والعيان. فمن لم يبلغ هذا المقام لم يجْن ثمرة شجرة إيمانه. ومن نقص شيئاً من هذه الفروع نقص بقدرها من شجرة إيمانه، إما من فروعها، أو من أغصانها، أو من ورقها، أو من حلاوة أذواقها، أو مِنْ عَرْف أزهارها، أو من طيب ثمرتها. ومعلوم أن الشجرة إذا نبتت بنفسها في الخلاء، ولم تُلَقَّح كانت ذَكَّارة، تورق ولا تثمر، فهي شجرة إيمان من لا شيخ له يصلح للتربية، فإن الفروع والأوراق كثيرة، والثمار ضعيفة، أيُّ ريح هاج عليها أسقطها. وراجع ما تقدم في إشارة قوله تعالى :﴿ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ [ المائدة : ٣٥ ]. وبالله التوفيق.

١ أخرجه أبو داود في السنة (باب المسألة في القبر)، والحاكم في المستدرك١ /٣٧..
ثم ذكر وبال من أنكر هذه النعمة –أعني نعمة الإيمان- فقال :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ﴾ * ﴿ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ * ﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ألم تَرَ ﴾ يا محمد ﴿ إلى الذين بدَّلوا ﴾ شكر ﴿ نعمةَ الله كفراً ﴾ ؛ بأن وضعوا الكفر مكان الشكر، أو : بدلوا نفس النعمة كفراً ؛ فإنهم لما كفروها سُلبت منهم، فصاروا تاركين لها مُحصلين للكفر مكانها ؛ كأهل مكة، خلقهم الله من نسل إسماعيل عليه السلام، وأسكنهم حَرَمه، وجعلهم خُدَّام بيته، وَوَسَّع عليهم أبواب رزقه، وعطف عليهم قلوب خلقه، وتمم شرفهم ببعْثة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا ذلك، فقحطوا، وجاعوا حتى أكلوا الميتة، وأُسروا وقُتلوا يوم بدر، وصاروا كذلك مسلوبي النعمة، موصوفين بالكفر ؛ وعن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما : أنها نزلت في الأفجريْن من قريش : بني المغيرة، وبني أمية ؛ فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمُتِّعُوا إلى حين. ﴿ وأحَلَّوا قومَهم ﴾ : من أطاعهم في الكفر والتبديل، أي : أنزلوهم ﴿ دارَ البوار ﴾ : دار الهلاك، بحملهم على الكفر معهم، ثم فسرها بقوله :﴿ جهنم يصلونها ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ظهور أهل التربية في زمان الغفلة والجهل نعمة عظيمةُ، لكن لا يعرفها إلا من سقط عليها، ومن أنكرها، وسدَّ بابها، وعوَّق الناس عن الدخول في طريقها، فقد بدل نعمة الله كفراً، وأحلَّ الناس ـ من تبعه ـ دار البوار، وهي : الإقبال على الدنيا، والانهماك في الغفلة، وخراب الباطن من نور اليقين، وكثرة الخواطر والوساوس، والحرص والجزع والهلع، وغير ذلك من أمراض القلوب. وأيُّ عذاب المؤمن أشد من هذا في الدنيا ؟ ويسقط في الآخرة عن درجة المقربين، ومن لم يصحب أهل التوحيد الخالص لا يخلو من عبادة أنداد وأشباه ؛ بمحبته لهم والركون إليهم. ومن أحب شيئاً فهو عبد له. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ذات يوم : إنا لا نحب إلا الله، ولا نحب معه شيئاً سواه. فقال له بعض الحاضرين : قال جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم :" النفس مجبولة على حب من أحسن إليها ". فقال له الشيخ : إنا لا نرى الإحسان إلا من الله، ولا نرى معه غيره. هـ. بالمعنى.
﴿ جهنم يصلونها ﴾ : يحترقون فيها، و﴿ بئس القرارُ ﴾ ؛ وبئس المستقر جهنم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ظهور أهل التربية في زمان الغفلة والجهل نعمة عظيمةُ، لكن لا يعرفها إلا من سقط عليها، ومن أنكرها، وسدَّ بابها، وعوَّق الناس عن الدخول في طريقها، فقد بدل نعمة الله كفراً، وأحلَّ الناس ـ من تبعه ـ دار البوار، وهي : الإقبال على الدنيا، والانهماك في الغفلة، وخراب الباطن من نور اليقين، وكثرة الخواطر والوساوس، والحرص والجزع والهلع، وغير ذلك من أمراض القلوب. وأيُّ عذاب المؤمن أشد من هذا في الدنيا ؟ ويسقط في الآخرة عن درجة المقربين، ومن لم يصحب أهل التوحيد الخالص لا يخلو من عبادة أنداد وأشباه ؛ بمحبته لهم والركون إليهم. ومن أحب شيئاً فهو عبد له. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ذات يوم : إنا لا نحب إلا الله، ولا نحب معه شيئاً سواه. فقال له بعض الحاضرين : قال جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم :" النفس مجبولة على حب من أحسن إليها ". فقال له الشيخ : إنا لا نرى الإحسان إلا من الله، ولا نرى معه غيره. هـ. بالمعنى.
ثم بيَّن كفرهم، فقال :﴿ وجعلوا لله أنداداً ﴾ : أشباهاً وأمثالاً، يعبدونها معه، ﴿ ليُضِلوا عن سبيله ﴾ ؛ عن طريق التوحيد، أي : لتكون عاقبتهم الضلال أو الإضلال، على القراءتين، أي : ليضلوا في أنفسهم، أو ليضلوا غيرهم. وليس الضلال كان غرضهم في اتخاذ الأنداد، ولكن لمَّا كان نتيجته وعاقبته جُعل كالغرض. ﴿ قل تمتعوا ﴾ بشهواتكم الدنيوية، فإنها فانية، أو بعبادتكم الأوثان، فإنها من قبيل الهوى والأمر للتهديد. وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب ؛ لإفضائه إلى المهدد به، وأن الأمرين كائنان لا محالة، فلا بد من وقوع تمتعهم، ولا بد من إفضائهم إلى النار. ولذلك علقه بقوله :﴿ فإنَّ مصيرَكم إلى النار ﴾، وأن المخاطب، لانهماكه فيه، كالمأمور به من آمر مطاع. قاله البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ظهور أهل التربية في زمان الغفلة والجهل نعمة عظيمةُ، لكن لا يعرفها إلا من سقط عليها، ومن أنكرها، وسدَّ بابها، وعوَّق الناس عن الدخول في طريقها، فقد بدل نعمة الله كفراً، وأحلَّ الناس ـ من تبعه ـ دار البوار، وهي : الإقبال على الدنيا، والانهماك في الغفلة، وخراب الباطن من نور اليقين، وكثرة الخواطر والوساوس، والحرص والجزع والهلع، وغير ذلك من أمراض القلوب. وأيُّ عذاب المؤمن أشد من هذا في الدنيا ؟ ويسقط في الآخرة عن درجة المقربين، ومن لم يصحب أهل التوحيد الخالص لا يخلو من عبادة أنداد وأشباه ؛ بمحبته لهم والركون إليهم. ومن أحب شيئاً فهو عبد له. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه ذات يوم : إنا لا نحب إلا الله، ولا نحب معه شيئاً سواه. فقال له بعض الحاضرين : قال جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم :" النفس مجبولة على حب من أحسن إليها ". فقال له الشيخ : إنا لا نرى الإحسان إلا من الله، ولا نرى معه غيره. هـ. بالمعنى.
ثم ذكر ضد أهل الشرك، فقال :
﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ﴾
قلت :( يُقيموا ) : جواب شرط مقدر، يتضمنه قوله :( قل )، تقديره : إن تقل لهم أقيموا يقيموا، ومعمول القول، على هذا، محذوف. وفيه تنبيه على أنهم لفرط مطاوعتهم للرسول عليه الصلاة والسلام، بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره، وأنه كالسبب الموجب له، أي : مهما قلت أقاموا وأنفقوا. وقيل جزم بإضمار لام الأمر. ولا يصح أن يكون جواب الأمر من غير حذف ؛ لأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة. انظر البيضاوي : وقال ابن عطية : إلا إن ضمّن ( قل ) معنى : بلّغ أو أدَّ، فيصح أن يكون ( يقيموا ) : جواب أمره. و( سراً وعلانية ) : حالان، أو ظرفان، ومن قرأ :" لا بيع " بالبناء فقد بنى " لا " مع اسمها بناء للتركيب، ومن قرأ بالرفع فقد أهملها.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قل لعباديَ الذين آمنوا ﴾، خصهم بالإضافة إليه ؛ تشريفاً لهم، وتنويهاً بقدرهم، وتنبيهاً على أنهم الذين قاموا بحقوق العبودية. قل لهم يا محمد :﴿ يُقيموا الصلاة ﴾ التي هي عنوان الإيمان، بإتقان شروطها وأركانها وآدابها، ﴿ ويُنفقوا مما رزقناهم ﴾ من الأموال، فرضاً ونفلاً، ﴿ سراً وعلانيةً ﴾ أي : مُسرين ومعلنين، أو في سر وعلانية، والأحب : إعلان الواجب، وإخفاء المُتَطَوَّع به، إلا في محل الاقتداء لأهل الإخلاص. ﴿ من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه ﴾ فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره، أو ما يفدي به نفسه، ﴿ ولا خلالٌ ﴾ : ولا مخاللة ومودة تنفع في ذلك اليوم، حتى ينفع الخليلُ خليلَه، وإنما ينفع العملُ الصالح، كالإنفاق لوجه الله، وإقام الصلاة، وغير ذلك.
الإشارة : قد مدح الله هاتين الخصلتين : الصلاة والإنفاق، وأمر بهما في مواضع من القرآن ؛ لأنهما عنوان الصدق، أحدهما، عمل بدني، والآخر : عمل مالي. أما الصلاة فإنها طهارة للقلوب، واستفتاح لباب الغيوب، وهي محل المناجاة ومعدن المصافاة، تتسع فيها ميادين الأسرار، وتُشرق فيها شوارق الأنوار، كما في الحِكَم. وفي بعض الأخبار :( إن العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الله الحُجُبَ بينه وبينه، وواجهه بوجهه، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء، يُصلون بصلاته، ويُؤَمَّنُونَ على دعائه، وإن المصلي لينثر عليه البر من عنان السماء إلى مفرق رأسه، ويناديه مناد : لو يعلم المناجي من يناجي ما انفتل )١. وإن أبواب السماء لتفتح للمصلي. وإن الله تعالى يباهي ملائكته بصفوف المصلين. وفي التوراة : يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يَدَيَّ مصلياً باكياً، فأنا الذي اقتربتُ من قلبك، وبالغيب رأيتَ نوري. ه. فكانوا يرون أن تلك المراقبة والبكاء، وتلك الفتوح التي يجدها المصلي في قلبه من دنو الرب من القلب.
وأما الصدقة فإنها برهان على إيمان صاحبها، وفي الحديث :" الصَّدقةُ بُرْهانٌ "، فهي تدل على خروج حب الدنيا من القلب، وعلى اتصاف صاحبها بمنقبة السخاء، التي هي أفضل الخصال، وفي الحديث :" السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ من النَّاس قريبٌ من الجَنَّةِ، بَعِيدٌ من النارِ، والبَخِيلُ بَعيدٌ من اللهِ، بَعِيدٌ من النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ من النَّارِ، ولجَاهلٌ سَخِيٌ أَحَبُ إلى اللهِ من عَالمٍ بخيلٍ ".
١ ما نفتل: ما انصرف..
ثم ذكرهم بالنعم، ليقيدوها بالشكر قبل أن تسلب منهم، كما سلبت ممن ذكر قبل، فقال :
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ ﴾ * ﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ * ﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾
قلت :( الله ) : مبتدأ، و( الذي )، وما بعده : خبر، و( رزقاً لكم ) : مفعول أخرج، و( من الثمرات ) : بيان له، حال، ويجوز العكس، ويجوز أن يراد بالرزق : المصدر، فينصب على العلة أو المصدر ؛ لأن ( أخرج ) فيها معنى " رَزَقَ ".
يقول الحق جل جلاله :﴿ اللهُ الذي خلق السماوات والأرض ﴾ من أجلكم، السماء تُظلكم، والأرض تُقلكم، ﴿ وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمراتِ رزقاً لكم ﴾، تعيشون به وتتفكهون منه. ويشمل الملبوس، كالقطن، والكتان، وشبه ذلك ﴿ سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ﴾ : بمشيئته وقدرته، إلى حيث توجههم مع أسباب حكمته، تغطية لقدرته، وهو ما يتوقف عليه جريها وإرساؤها، من الجبال والقلاع، ﴿ وسخّر لكم الأنهار ﴾ مطردة لانتفاعكم بالسفن والشرب، وسائر منافعها، فجعلها مُعدَّة لانتفاعكم وتصرفكم. وقيل : تسخير هذه الأشياء : تعليم كيفية اتخاذها والانتفاع بها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الله الذي أنزل من سماء الملكوت علوماً وأسراراً، تحيا به القلوب والأرواح، فأخرج به من أرض النفوس، ثمرة اليقين والطمأنينة، رزقاً لأرواحكم. وسخر لكم فلك الفكرة تجري في بحر التوحيد، وفضاء التفريد بأمره. وسخر لكم أنهار العلوم، منها ما هو علم الرسوم لإصلاح الظواهر، ومنها ما هو علم الحقائق لإصلاح الضمائر. وسخر لكم شمس العرفان وقمر الإيمان، دائبين، يستضيء بقمر التوحيد في السير إلى معرفة أنوار الصفات، وبشمس العرفان إلى أسرار الذات. وسخَّر لكم ليل القبض لتسكنوا فيه، ونهار البسط لتنتشروا في اقتباس العلوم، وربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في نهار البسط، ( لا تدرون أيهم أقرب نفعاً ). وآتاكم من كل ما سألتموه حين كمل تهذيبكم، وصح وصلكم، فيكون أمركم بأمر الله. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصُوها ؛ إذ نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد لا حدَّ لهما في هذه الدار وفي تلك الدار، ففي كل نَفَس يمدهم بمَددٍ جديد، ومع هذا كله يغفل العبد عن هذه النعم ! ! إن الإنسان لظلوم كفار، وشكرها : نسبتها لمعطيها، وحمد الله عليها. وفي الحكم :" لا تدهشك واردات النعم عن القيام بحقوق شكرك ؛ فإنَّ ذلك مما يحط من وجود قدرك ".
قال سهل بن عبد رضي الله عنه : ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها، والنعمة التي ألهم بها الحمد أفضل من الأولى، لأن الشكر يستوجب المزيد. وفي أخبار داود عليه السلام أنه قال : إلهي، ابنُ آدمَ ليس فيه شعرة إلا وتحتها نعمة، وفوقها نعمة، فمن أين يكافئها ؟ فأوحى الله تعالى إليه : يا داود، إني أُعْطِي الكثير وأرْضَى باليسير، وإنَّ شكر ذلك أن تعلم أن ما بك من نعمة فمني. هـ.

و( دائبينْ ) : حال، والدؤوب : الدوام على عمل واحد.
﴿ وسخَّر لكم الشمسَ والقمرَ دائبين ﴾ ؛ متماديين في الطلوع والغروب، يدأبان في سيرهما وإنارتهما، وإصلاح ما يصلحانه من المكونات، بقدرة خالقهما، ﴿ وسخَّر لكم الليلَ والنهارَ ﴾ يتعاقبان لسكناتكم ومعايشكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الله الذي أنزل من سماء الملكوت علوماً وأسراراً، تحيا به القلوب والأرواح، فأخرج به من أرض النفوس، ثمرة اليقين والطمأنينة، رزقاً لأرواحكم. وسخر لكم فلك الفكرة تجري في بحر التوحيد، وفضاء التفريد بأمره. وسخر لكم أنهار العلوم، منها ما هو علم الرسوم لإصلاح الظواهر، ومنها ما هو علم الحقائق لإصلاح الضمائر. وسخر لكم شمس العرفان وقمر الإيمان، دائبين، يستضيء بقمر التوحيد في السير إلى معرفة أنوار الصفات، وبشمس العرفان إلى أسرار الذات. وسخَّر لكم ليل القبض لتسكنوا فيه، ونهار البسط لتنتشروا في اقتباس العلوم، وربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في نهار البسط، ( لا تدرون أيهم أقرب نفعاً ). وآتاكم من كل ما سألتموه حين كمل تهذيبكم، وصح وصلكم، فيكون أمركم بأمر الله. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصُوها ؛ إذ نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد لا حدَّ لهما في هذه الدار وفي تلك الدار، ففي كل نَفَس يمدهم بمَددٍ جديد، ومع هذا كله يغفل العبد عن هذه النعم ! ! إن الإنسان لظلوم كفار، وشكرها : نسبتها لمعطيها، وحمد الله عليها. وفي الحكم :" لا تدهشك واردات النعم عن القيام بحقوق شكرك ؛ فإنَّ ذلك مما يحط من وجود قدرك ".
قال سهل بن عبد رضي الله عنه : ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها، والنعمة التي ألهم بها الحمد أفضل من الأولى، لأن الشكر يستوجب المزيد. وفي أخبار داود عليه السلام أنه قال : إلهي، ابنُ آدمَ ليس فيه شعرة إلا وتحتها نعمة، وفوقها نعمة، فمن أين يكافئها ؟ فأوحى الله تعالى إليه : يا داود، إني أُعْطِي الكثير وأرْضَى باليسير، وإنَّ شكر ذلك أن تعلم أن ما بك من نعمة فمني. هـ.

و( من كل ما سألتموه ) : يحتمل أن تكون " ما " مصدرية، أو موصولة، أو موصوفة.
﴿ وآتاكم من كل ما سألتموه ﴾ أي : وآتاكم بعض جميع ما سألتموه، وهو ما يليق بكم، وما سبق لكم في مشيئته وعلمه. قال البيضاوي : ولعل المراد بما سألتموه : ما كان حقيقاً بأن يسأل ؛ لاحتياج الناس إليه، سُئل أو لم يسأل. ه. وقرأ الضحاك وابن عباس :" من كُلِّ " ؛ بالتنوين، أي : وآتاكم من كل شيء احتجتم إليه، وسألتموه بلسان الحال. ويجوز على هذا أن تكون " ما " نافية، في موضع الحال، أي : وآتاكم من كل شيء غير سائليه.
﴿ وإن تعدوا نعمةَ الله لا تُحصوها ﴾ : لا تحصروها، ولا تطيقوا عدَّ أنواعها، فضلاً عن أفرادها، فإنها غير متناهية ؛ فمنها ظاهرة، ومنها باطنة، كالهداية والمعرفة. قال طلق بن حبيب : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، ونعمة أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توابين، وأمسوا توابين. ه. وقال أبو الدرداء : من لم ير نعمة الله إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلَّ علمه، وحضر عذابه. ه. ﴿ إنَّ الإنسانَ لظلوم ﴾ ؛ بظلم النعمة لمَّا غفل عن شكرها، أو بظلم نفسه لمَّا عرضها للحرمان، بارتكاب المعاصي، ﴿ كفارٌ ﴾ : شديد الكفران، وقيل : ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفّار في النعمة يجمع ويمنع. قاله البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الله الذي أنزل من سماء الملكوت علوماً وأسراراً، تحيا به القلوب والأرواح، فأخرج به من أرض النفوس، ثمرة اليقين والطمأنينة، رزقاً لأرواحكم. وسخر لكم فلك الفكرة تجري في بحر التوحيد، وفضاء التفريد بأمره. وسخر لكم أنهار العلوم، منها ما هو علم الرسوم لإصلاح الظواهر، ومنها ما هو علم الحقائق لإصلاح الضمائر. وسخر لكم شمس العرفان وقمر الإيمان، دائبين، يستضيء بقمر التوحيد في السير إلى معرفة أنوار الصفات، وبشمس العرفان إلى أسرار الذات. وسخَّر لكم ليل القبض لتسكنوا فيه، ونهار البسط لتنتشروا في اقتباس العلوم، وربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في نهار البسط، ( لا تدرون أيهم أقرب نفعاً ). وآتاكم من كل ما سألتموه حين كمل تهذيبكم، وصح وصلكم، فيكون أمركم بأمر الله. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصُوها ؛ إذ نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد لا حدَّ لهما في هذه الدار وفي تلك الدار، ففي كل نَفَس يمدهم بمَددٍ جديد، ومع هذا كله يغفل العبد عن هذه النعم ! ! إن الإنسان لظلوم كفار، وشكرها : نسبتها لمعطيها، وحمد الله عليها. وفي الحكم :" لا تدهشك واردات النعم عن القيام بحقوق شكرك ؛ فإنَّ ذلك مما يحط من وجود قدرك ".
قال سهل بن عبد رضي الله عنه : ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها، والنعمة التي ألهم بها الحمد أفضل من الأولى، لأن الشكر يستوجب المزيد. وفي أخبار داود عليه السلام أنه قال : إلهي، ابنُ آدمَ ليس فيه شعرة إلا وتحتها نعمة، وفوقها نعمة، فمن أين يكافئها ؟ فأوحى الله تعالى إليه : يا داود، إني أُعْطِي الكثير وأرْضَى باليسير، وإنَّ شكر ذلك أن تعلم أن ما بك من نعمة فمني. هـ.

ومن جملة النعم التي يجب الشكر عليها – وهي التي بدلها الكفار كفرا – عمارة بيت الله الحرام، ودعاء إبراهيم عليه السلام، الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله :
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾ * ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ * ﴿ رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِيا إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ * ﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ ﴾
قلت : قال هنا :﴿ اجعل هذا البلد ﴾ بالتعريف، وقال في سورة البقرة :﴿ بَلَداً ﴾ [ البقرة : ١٢٦ ] بالتنكير، قال البيضاوي : الفرق بينهما أن المسؤول في الأول أي : في التعريف إزالة الخوف وتصييره أمناً، وفي الثانية جعله من البلاد الآمنة. ه. وفرَّق السهيلي : بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة حين نزول آية إبراهيم، لأنها مكية ؛ فلذلك قال فيه :" البلد " ؛ بلام التعريف التي للحضور، بخلاف آية البقرة، فإنما هي مدينة، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها، فلم يُعرفها بلا تعريف الحضور. ه. قال ابن جزي : وفيه نظر ؛ لأن ذلك كان حكاية عن إبراهيم عليه السلام، ولا فرق بين كونه بالمدينة أو بمكة. ه.
قلت : لا نظر فيه ؛ لأن الحق تعالى لم يحك لنا قصص الأنبياء بألفاظهم، وإنما ترجم عنها بلسان عربي، فينزل على رعاية مقتضى الحال. ولذلك اختلفت الألفاظ في قصص الأنبياء، لأن كل قصة تنزل على ما يقتضيه المقام والحال، من تعريف وتنكير، واختصار وإطناب. وقد ذكر أبو السعود في سورة الأعراف ما يؤيد هذا، فانظره. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذْ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد ﴾ يعني : مكة، ﴿ آمناً ﴾ لمن فيها من أغدرة الناس عليها، أو من الخسف والعذاب، أو من الطاعون والوباء، ﴿ واجنُبني ﴾ أي : امنعني واعصمني، ﴿ وبَنيَّ ﴾ من بعدي، من ﴿ أن نعبد الأصنامَ ﴾ أي : اجعلنا منهم من جانب بعيد. قال البيضاوي : وفيه دليل على أن العصمة للأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم، وهو بظاهره لا يتناول أحفاده وجميع ذريته، وغم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم، محتجاً به، وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها، ويسمونها الدوار، ويقولون : البيت حجر، وحيثما نصبت حجراً فهو بمنزلته. ه. قال ابن جزي : و﴿ بَنِيَّ ﴾ يعني : من صُلبه، وفيهم أجيبت دعوته، وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام. ه. وقد قال في الإحياء : عنى إبراهيمُ عليه السلام بالأصنام، الذهب والفضة، بمعنى : حبهما والاغترار بهما، والركون إليهما. قال عليه الصلاة والسلام :" تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ والدِّرْهَم. . . " الحديث ؛ لأن رتبة النبوة أجل من أن يُخْشى عليها أن تعتقد الألوهية في شيء من الحجارة. ه.
قلت : الظاهر أن يبقى اللفظ على ظاهره، في حقه وفي حق بنيه. أما في حقه فلسعة علمه وعدم وقوفه مع ظاهر الوعد، كما هو شأن الأكابر، لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم، وهذا كقوله :﴿ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً ﴾ [ الأنعام : ٨٠ ]. وتقدم هذا المعنى مراراً. وأما في حق بنيه فإنما قصد العموم في نسله لكن لم يجب إلا فيما كان صلبه ؛ فإن دعاء الأنبياء عليهم السلام لا يجب أن يكون كله مجاباً، فقد يُجابون في أشياء، ويُمنعون من أشياء.
وقد سأل نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته أشياء، فأجيب في البعض، ومُنع البعض، كما في الحديث١.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي للعبد أن يكون إبراهيمياً، فيدعو بهذا الدعاء على طريق الإشارة، فيقول : رب اجعل هذا القلب آمناً من الخواطر والوساوس، واجنبني وبَنِيَّ، أي : بَعِّدْنِي ومن تعلق بي، أن نعبد الأصنام، التي هي الدنانير والدراهم، وكل ما يُعشق من دون الله، ﴿ رب إنهن أضللن كثيراً من الناس ﴾ فتلفوا في حبها والحرص عليها، فلا فكرة لهم إلا فيهما، ولا شغل لهم إلا جمعهما، فمن تبعني في الزهد فيهما، والغنى بك عنهما، فإنه مني، ومن عصاني، واشتغل بمحبتهما وجمعهما، ﴿ فإنك غفور رحيم ﴾.
وقوله :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع ﴾ فيه : تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم، ونِعْم التربية ذلك فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة، الخليلية الحبيبية، الأحمدية المصطفوية ـ صلوات الله عليهما ـ أن العارف الصادق ينبغي له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب ـ في حياته وبعد وفاته ـ لتربية عياله، فإنه تعالى حسبه، وزاد في تربيتهم بأن يؤدبِّهم بإقامة الصلاة إظهاراً للعبودية، وإخلاصاً في المعرفة، وطلباً للمشاهدة، ومناجاة في القربة بقوله :﴿ ربنا ليقيموا الصلاة ﴾ الخ.
وقال القشيري : أخبر عن صدق توكله وتفويضه، أي : أسكنت قوماً من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع، عند بيتك المحرّم. وإنما رد الرِّفق لهم في الجِوارِ فقال :﴿ عند بيتك المحرم ﴾، ثم قال :﴿ ليقيموا الصلاة ﴾. أي : أسكنتُهم لإقامة حقَّكَ، لا لِطَلَبِ حظوظهم. ويقال : اكتفى بأن يكونوا في ظلال عنايته، عن أن يكونوا في ظلال نعيمهم، ثم قال : قوله :﴿ بوادٍ غير ذي زرع ﴾ أي : أسكنتُهم هذا الوادي، ولا متعلق من الأغيار لقلوبهم، ولا متناول لأفكارهم وأسرارهم، فهم مطروحون ببابِكَ مُقيمون بحضرتك، جار فيهم حُكمك، إن رَاعَيتَهُم كَفَيْتَهم، وكانوا أعَزَّ خلقِ اللهِ، وإن أقصيتهم وأوبقتهم كانوا أضعف وأذلَّ خَلْقِكَ. هـ.
وقوله تعالى :﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾ : قال القشيري : ليشتغلوا بعبادتك، فأفُرد قوماً يقومون لهم بكفايتهم، وارزقهم من الثمرات، فإنَّ من قام بحقِّ الله قام الله بحقِّه. فاستجاب الله دعاءَه فيهم، فصارت القلوبُ من أهل كل بَر وبحرٍ كالمجبولة على محبة ذلك البيت، ومحبة أولئك المصلين من سُكانه. وقال الورتجبي : سأل أن يجعلهم مرادي جلاله وجماله، ويجعلهم آية الصادقين والعاشقين، بقوله :﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾، تميل بوصف الإرادة والمحبة لك، والاقتداء بهم في إقامة سُنتك، وألبسهم لباس أنوارك، وألق في قلوب خلقك محبتهم بمحبتك. هـ. ومعنى قوله : مرادي جلاله وجماله : أي : مظهراً لجلاله وجماله، يعشقهم البَرُّ والفاجر، والكامل والناقص، فقد ظهر فيهم الجلال والجمال. والله تعالى أعلم.


١ لفظ الحديث: "سألت ربي ثلاثا، فأعطاني ثنتين..." أخرجه مسلم في الفتن حديث ٢٠، وابن ماجه في الفتن باب ٩، ٢٢، ومالك في القرآن حديث ٣٥، وأحمد في المسند ٥/٢٤٠، ٢٤٣، ٢٤٧، ٢٤٨..
ثم قال إبراهيم عليه السلام :﴿ ربِّ إنهن أضللن كثيراً من الناس ﴾ أي : إن الأصنام أتلفت كثيراً من الخلق عن طريق الحق، فلذلك سألتُ منك العصمة، واستعذتُ بك من إضلالهن، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية، كقوله :﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾
[ الأنعام : ٧٠ ]. ﴿ فمن تبعني ﴾ على ديني ﴿ فإنه مني ﴾ ؛ لا ينفك عني في أمر الدين، ﴿ ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾، تقدر أن تغفر له ابتداء، أو بعد التوفيق للتوبة. وفيه دليل على أن كل ذنب فللَّه أن يغفره، حتى الشرك، إلا أن الوعيد فرَّق بينه وبين غيره، قاله البيضاوي. قال ابن جزي :﴿ ومن عصاني ﴾ ؛ يريد : بغير الكفر، أو عصاه بالكفر ثم تاب منه، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة، ولكنه ذكر اللفظ بالعموم ؛ لما كان فيه عليه السلام من التخلْق بالرحمة للخلق، وحسن الخُلق. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي للعبد أن يكون إبراهيمياً، فيدعو بهذا الدعاء على طريق الإشارة، فيقول : رب اجعل هذا القلب آمناً من الخواطر والوساوس، واجنبني وبَنِيَّ، أي : بَعِّدْنِي ومن تعلق بي، أن نعبد الأصنام، التي هي الدنانير والدراهم، وكل ما يُعشق من دون الله، ﴿ رب إنهن أضللن كثيراً من الناس ﴾ فتلفوا في حبها والحرص عليها، فلا فكرة لهم إلا فيهما، ولا شغل لهم إلا جمعهما، فمن تبعني في الزهد فيهما، والغنى بك عنهما، فإنه مني، ومن عصاني، واشتغل بمحبتهما وجمعهما، ﴿ فإنك غفور رحيم ﴾.
وقوله :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع ﴾ فيه : تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم، ونِعْم التربية ذلك فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة، الخليلية الحبيبية، الأحمدية المصطفوية ـ صلوات الله عليهما ـ أن العارف الصادق ينبغي له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب ـ في حياته وبعد وفاته ـ لتربية عياله، فإنه تعالى حسبه، وزاد في تربيتهم بأن يؤدبِّهم بإقامة الصلاة إظهاراً للعبودية، وإخلاصاً في المعرفة، وطلباً للمشاهدة، ومناجاة في القربة بقوله :﴿ ربنا ليقيموا الصلاة ﴾ الخ.
وقال القشيري : أخبر عن صدق توكله وتفويضه، أي : أسكنت قوماً من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع، عند بيتك المحرّم. وإنما رد الرِّفق لهم في الجِوارِ فقال :﴿ عند بيتك المحرم ﴾، ثم قال :﴿ ليقيموا الصلاة ﴾. أي : أسكنتُهم لإقامة حقَّكَ، لا لِطَلَبِ حظوظهم. ويقال : اكتفى بأن يكونوا في ظلال عنايته، عن أن يكونوا في ظلال نعيمهم، ثم قال : قوله :﴿ بوادٍ غير ذي زرع ﴾ أي : أسكنتُهم هذا الوادي، ولا متعلق من الأغيار لقلوبهم، ولا متناول لأفكارهم وأسرارهم، فهم مطروحون ببابِكَ مُقيمون بحضرتك، جار فيهم حُكمك، إن رَاعَيتَهُم كَفَيْتَهم، وكانوا أعَزَّ خلقِ اللهِ، وإن أقصيتهم وأوبقتهم كانوا أضعف وأذلَّ خَلْقِكَ. هـ.
وقوله تعالى :﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾ : قال القشيري : ليشتغلوا بعبادتك، فأفُرد قوماً يقومون لهم بكفايتهم، وارزقهم من الثمرات، فإنَّ من قام بحقِّ الله قام الله بحقِّه. فاستجاب الله دعاءَه فيهم، فصارت القلوبُ من أهل كل بَر وبحرٍ كالمجبولة على محبة ذلك البيت، ومحبة أولئك المصلين من سُكانه. وقال الورتجبي : سأل أن يجعلهم مرادي جلاله وجماله، ويجعلهم آية الصادقين والعاشقين، بقوله :﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾، تميل بوصف الإرادة والمحبة لك، والاقتداء بهم في إقامة سُنتك، وألبسهم لباس أنوارك، وألق في قلوب خلقك محبتهم بمحبتك. هـ. ومعنى قوله : مرادي جلاله وجماله : أي : مظهراً لجلاله وجماله، يعشقهم البَرُّ والفاجر، والكامل والناقص، فقد ظهر فيهم الجلال والجمال. والله تعالى أعلم.

﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي ﴾ أي : بعض ذريتي، وهو : إسماعيل عليه السلام، أو : أسكنت ذرية من ذريتي، وهو إسماعيل ومن وُلِد منه ؛ فإن إسكانه متضمن لإسكانهم، ﴿ بوادٍ غير ذي زرع ﴾ يعني : وادي مكة، لأنها حجرية لا تنبت، والوادي : ما بين الجبلين، وإن لم يكن فيه ماء. ولم يقل : ولا ماء، ولعله علم بوحي أنه سيكون فيه الماء، ﴿ عن بيتك المحرَّم ﴾ الذي حَرَّمه على الجبابرة من التعرض له والتهاون به، أو : لم يزل محترماً تهابُه الجبابرة، أو مُنع منه الطوفان، فلم يستأصله ويمح أثره. وهذا الدعاء وقع منه أول ما قدم، ولم يكن موجوداً، فلعله قال ذلك باعتبار ما كان، أي : عند أثر بيتك المحرم، أو باعتبار ما يؤول إليه من بنائه وعمارته واحترامه.
وقصةُ إنزاله ولده بمكة : أن هاجر كانت مملوكة لسارة، وهبها لها جبارٌ من الجبابرة ؛ وذلك أن إبراهيم عليه السلام دخل مدينة، وكان فيها جبار يغصب النساء الجميلات، فأخذها، وأدخلها بيتاً، فلما دخل عليها دعت عليه، فسقط، ثم قالت : يا رب إن مات قتلوني فيه، فقام، فلما دنا منها، دعت عليه، فسقط، فقال في الثالثة : ما هذه إلا شيطانة، أخرجوها عني، وأعطوها هاجر، فعصمها الله منه، وأخدمها هاجر، ثم وهبتها لإبراهيم، فوطئها فحملت بإسماعيل، فلما ولدته غارت منها فتعب إبراهيم معها، ثم ناشدته، سارةُ أن يخرجها من عندها، فركب البراق، وخرج بها تحمل ولدها حتى أنزلها مكة، تحت دوحة، قريباً من موضع زمزم، فلما ولي تبعته، وهي تقول : لِمنْ تتركنا في هذه البلاد، وليس بها أنيس ؟ ثم قالت :" أألله أمرك بهذا ؟ قال : نعم، قالت : إذاً لا يُضيعنا. فرجعت تأكل من مِزود، تم تركها لها، وتشرب من قربة ماء، فلما فرغ الماء نشف اللبن، وجعل الولدُ يتخبط من العطش، فجعلت تطوف من الصفا، وكان جبلاً صغيراً قريباً منها، وتذهب إلى المروة، وتسعى بينهما، لعلها ترى أحداً، فلما بلغت سبعة أطواف وسمعت صوتاً في الهواء، فقالت : أغِثْ إن كان معك غياث، فتبدَّى جبريلُ بين يديها حتى وصل إلى موضع زمزم، فهمز بعقبه ففار الماء. فلما رأته دهشت، وخافت عليه يذهب ؛ فجعلت تحوطه، وتقول : زم زم، فانحصر الماء. قال صلى الله عليه وسلم :" يَرْحمُ اللهُ أُمَّ إسمَاعِيل، لَوْ تَركَتْهُ، كَانَ عَيْناً مَعِيناً " ١ فشربت، ودرَّ لبنُها.
ثم إن جرهم رأوا طيوراً تحوم، فقالوا : لا طيور إلا على الماء. فقصدوا الموضع، فوجدوها مع ابنها، وعندها عين، فقالوا لها : أتشركيننا في مائك، ونشركك في ألباننا ؟ ففعلت. وفي حديث البخاري :" قالوا لها : أتحبين أن نسكن معك ؟ قالت : نعم، ولكن لا حق لكم في الماء ". فرحلوا إليها، وسكنوا معها، ثم زوجوا ولدها منهم. وحديث إتيان إبراهيم يتعاهد ابنه، وبنائهما الكعبة، مذكور في البخاري٢ والسَّيَر.
ثم قال :﴿ ربنا ليُقيموا الصلاة ﴾ أي : ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع٣ من كل مرتفق ومرتزق، إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم. وتكرير النداء وتوسيطه، للإشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثَمَّةَ. والمقصود من الدعاء : توفيقهم لها، وقيل : اللام للأمر، وكأنه طلب منهم الإقامة، وسأل من الله أن يوفقهم لها. ﴿ فاجعل أفئدة من الناس ﴾ أي : اجعل أفئدة من بعض الناس، ﴿ تهوي إليهم ﴾ أي : تسرع إليهم شوقاً ومحبة، و " من " : للتبعيض، ولذلك قيل : لو قال : أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم، ولحجت اليهودُ والنصارى. وقيل : للبيان، أي : أفئدة ناسٍ. ﴿ وارزقهم من الثمرات ﴾ مع كونهم بوادٍ لا نبات فيه، ﴿ لعلهم يشكرون ﴾ تلك النعمة، فأجاب دعوته، فجعله حرماً آمناً تُجبى إليه ثمرات كل شيء، حتى أنه يوجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية، في يوم واحد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي للعبد أن يكون إبراهيمياً، فيدعو بهذا الدعاء على طريق الإشارة، فيقول : رب اجعل هذا القلب آمناً من الخواطر والوساوس، واجنبني وبَنِيَّ، أي : بَعِّدْنِي ومن تعلق بي، أن نعبد الأصنام، التي هي الدنانير والدراهم، وكل ما يُعشق من دون الله، ﴿ رب إنهن أضللن كثيراً من الناس ﴾ فتلفوا في حبها والحرص عليها، فلا فكرة لهم إلا فيهما، ولا شغل لهم إلا جمعهما، فمن تبعني في الزهد فيهما، والغنى بك عنهما، فإنه مني، ومن عصاني، واشتغل بمحبتهما وجمعهما، ﴿ فإنك غفور رحيم ﴾.
وقوله :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع ﴾ فيه : تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم، ونِعْم التربية ذلك فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة، الخليلية الحبيبية، الأحمدية المصطفوية ـ صلوات الله عليهما ـ أن العارف الصادق ينبغي له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب ـ في حياته وبعد وفاته ـ لتربية عياله، فإنه تعالى حسبه، وزاد في تربيتهم بأن يؤدبِّهم بإقامة الصلاة إظهاراً للعبودية، وإخلاصاً في المعرفة، وطلباً للمشاهدة، ومناجاة في القربة بقوله :﴿ ربنا ليقيموا الصلاة ﴾ الخ.
وقال القشيري : أخبر عن صدق توكله وتفويضه، أي : أسكنت قوماً من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع، عند بيتك المحرّم. وإنما رد الرِّفق لهم في الجِوارِ فقال :﴿ عند بيتك المحرم ﴾، ثم قال :﴿ ليقيموا الصلاة ﴾. أي : أسكنتُهم لإقامة حقَّكَ، لا لِطَلَبِ حظوظهم. ويقال : اكتفى بأن يكونوا في ظلال عنايته، عن أن يكونوا في ظلال نعيمهم، ثم قال : قوله :﴿ بوادٍ غير ذي زرع ﴾ أي : أسكنتُهم هذا الوادي، ولا متعلق من الأغيار لقلوبهم، ولا متناول لأفكارهم وأسرارهم، فهم مطروحون ببابِكَ مُقيمون بحضرتك، جار فيهم حُكمك، إن رَاعَيتَهُم كَفَيْتَهم، وكانوا أعَزَّ خلقِ اللهِ، وإن أقصيتهم وأوبقتهم كانوا أضعف وأذلَّ خَلْقِكَ. هـ.
وقوله تعالى :﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾ : قال القشيري : ليشتغلوا بعبادتك، فأفُرد قوماً يقومون لهم بكفايتهم، وارزقهم من الثمرات، فإنَّ من قام بحقِّ الله قام الله بحقِّه. فاستجاب الله دعاءَه فيهم، فصارت القلوبُ من أهل كل بَر وبحرٍ كالمجبولة على محبة ذلك البيت، ومحبة أولئك المصلين من سُكانه. وقال الورتجبي : سأل أن يجعلهم مرادي جلاله وجماله، ويجعلهم آية الصادقين والعاشقين، بقوله :﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾، تميل بوصف الإرادة والمحبة لك، والاقتداء بهم في إقامة سُنتك، وألبسهم لباس أنوارك، وألق في قلوب خلقك محبتهم بمحبتك. هـ. ومعنى قوله : مرادي جلاله وجماله : أي : مظهراً لجلاله وجماله، يعشقهم البَرُّ والفاجر، والكامل والناقص، فقد ظهر فيهم الجلال والجمال. والله تعالى أعلم.


١ أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ٩، وأحمد في المسند ٥/١٢١..
٢ انظر الحاشية السابق..
٣ البلقع: هي الأرض القفر التي لا شيء بها..
﴿ ربنا إنك تعلم ما نُخفي وما نُعلن ﴾ أي : تعلم سرنا، كما تعلم علانيتنا. والمعنى : إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وأرحم منا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب، لكننا ندعوك إظهاراً لعبوديتك، وافتقاراً إلى رحمتك، واستجلاباً لنيل ما عندك. قاله البيضاوي : أي : فيكون مناسباً لحاله في قوله :" علمه بحالي يُغني عن سؤالي ". وقيل : ما نُخفي من وَجْدِ الفرقة، وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليه. وتكرير النداء ؛ للمبالغة في التضرع واللجوء إلى الله تعالى. ﴿ وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ﴾ ؛ لأن علمه أحاط بكل معلوم. و " من " : للاستغراق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي للعبد أن يكون إبراهيمياً، فيدعو بهذا الدعاء على طريق الإشارة، فيقول : رب اجعل هذا القلب آمناً من الخواطر والوساوس، واجنبني وبَنِيَّ، أي : بَعِّدْنِي ومن تعلق بي، أن نعبد الأصنام، التي هي الدنانير والدراهم، وكل ما يُعشق من دون الله، ﴿ رب إنهن أضللن كثيراً من الناس ﴾ فتلفوا في حبها والحرص عليها، فلا فكرة لهم إلا فيهما، ولا شغل لهم إلا جمعهما، فمن تبعني في الزهد فيهما، والغنى بك عنهما، فإنه مني، ومن عصاني، واشتغل بمحبتهما وجمعهما، ﴿ فإنك غفور رحيم ﴾.
وقوله :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع ﴾ فيه : تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم، ونِعْم التربية ذلك فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة، الخليلية الحبيبية، الأحمدية المصطفوية ـ صلوات الله عليهما ـ أن العارف الصادق ينبغي له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب ـ في حياته وبعد وفاته ـ لتربية عياله، فإنه تعالى حسبه، وزاد في تربيتهم بأن يؤدبِّهم بإقامة الصلاة إظهاراً للعبودية، وإخلاصاً في المعرفة، وطلباً للمشاهدة، ومناجاة في القربة بقوله :﴿ ربنا ليقيموا الصلاة ﴾ الخ.
وقال القشيري : أخبر عن صدق توكله وتفويضه، أي : أسكنت قوماً من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع، عند بيتك المحرّم. وإنما رد الرِّفق لهم في الجِوارِ فقال :﴿ عند بيتك المحرم ﴾، ثم قال :﴿ ليقيموا الصلاة ﴾. أي : أسكنتُهم لإقامة حقَّكَ، لا لِطَلَبِ حظوظهم. ويقال : اكتفى بأن يكونوا في ظلال عنايته، عن أن يكونوا في ظلال نعيمهم، ثم قال : قوله :﴿ بوادٍ غير ذي زرع ﴾ أي : أسكنتُهم هذا الوادي، ولا متعلق من الأغيار لقلوبهم، ولا متناول لأفكارهم وأسرارهم، فهم مطروحون ببابِكَ مُقيمون بحضرتك، جار فيهم حُكمك، إن رَاعَيتَهُم كَفَيْتَهم، وكانوا أعَزَّ خلقِ اللهِ، وإن أقصيتهم وأوبقتهم كانوا أضعف وأذلَّ خَلْقِكَ. هـ.
وقوله تعالى :﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾ : قال القشيري : ليشتغلوا بعبادتك، فأفُرد قوماً يقومون لهم بكفايتهم، وارزقهم من الثمرات، فإنَّ من قام بحقِّ الله قام الله بحقِّه. فاستجاب الله دعاءَه فيهم، فصارت القلوبُ من أهل كل بَر وبحرٍ كالمجبولة على محبة ذلك البيت، ومحبة أولئك المصلين من سُكانه. وقال الورتجبي : سأل أن يجعلهم مرادي جلاله وجماله، ويجعلهم آية الصادقين والعاشقين، بقوله :﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾، تميل بوصف الإرادة والمحبة لك، والاقتداء بهم في إقامة سُنتك، وألبسهم لباس أنوارك، وألق في قلوب خلقك محبتهم بمحبتك. هـ. ومعنى قوله : مرادي جلاله وجماله : أي : مظهراً لجلاله وجماله، يعشقهم البَرُّ والفاجر، والكامل والناقص، فقد ظهر فيهم الجلال والجمال. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر بقية كلام إبراهيم عليه السلام، فقال :
﴿ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ ﴾ * ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ ﴾ * ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾
قلت :( لسميعُ الدعاء ) : من إضافة أمثلة المبالغة إلى مفعوله، أي : لسميع دعاء من دعاءه.
يقول الحق جل جلاله : حاكياً عن خليله عليه السلام :﴿ الحمدُ لله الذي وهبَ لي على الكِبَر ﴾ أي : مع كبر سني عن الولد، ﴿ إسماعيل وإسحاق ﴾، رُوي أنه وُلد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة، وإسحاق لمائة وثنتي عشرة سنة، وقيل : غير ذلك. وإنما ذكر كبر سنه ؛ ليكون أعظم في إظهار النعمة، وإظهاراً لما فيه من الآية، ولذلك قال :﴿ إنَّ ربي لسميعُ الدعاء ﴾ أي : يجيب من دعاه، من قولك : سمع الملك كلامي، إذا اعتنى به. وفيه إشعارٌ بأنه تقدم منه سؤال الولد، فسمع منه، وأجابه حين وقع اليأس منه، ليكون من أجلِّ النعم وأجلاها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إتيان النسل البشري، أو الروحاني، من أجلِّ النعم وأكملها على العبد، وفي الحديث :" إذَا مَاتَ العَبْدُ انْقََطََعَ عَمَلُه إِلاَّ مَن ثَلاثٍَ : صدقةٍ جَاريةٍ، أو عَلْم بَثَه في صُدُور الرِّجالِ، أو وَلدٍ صالح يدعُو له بَعدَ مَوتهِ ". والولد الروحاني أتم، لتحقق استقامته في الغالب. وطلب ذلك محمود كما فعل الخليل وزكريا، وغيرهما، وقد مدح الله مَنْ فعل ذلك بقوله :﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [ الفرقان : ٧٤ ]. وقرة عين في الذرية : أن يكونوا على الاستقامة في الدين، وسلوك منهاج الصالحين. وكل ما أتوا به من الطاعة والإحسان فللوالدين حظ ونصيب من ذلك، ولا فرق بين الولد الروحاني والبشري، وفي ذلك يقول الشاعر :
والمَرْءُ في ميزانه أَتْبَاعُهُ فاقْدِرْ إذنْ قَدْرَ النبيّ مُحَمَّدِ
والله تعالى أعلم.

ثم طلب الاستقامة له ولولده بقوله :﴿ ربِّ اجعلني مقيم الصلاة ﴾ أي : مُتقناً لها، مواظباً عليها، ﴿ ومن ذريتي ﴾ فاجعل من يُقيمها. والتبعيض ؛ لعلمه بالوحي أنَّ مِنْ ولده من لا يقيمها، أو باستقرار عادته في الأمم الماضية أن منهم من يكون كفاراً. ﴿ ربنا وتقبل دعاء ﴾ أي : استجب، أو تقبل عبادتي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إتيان النسل البشري، أو الروحاني، من أجلِّ النعم وأكملها على العبد، وفي الحديث :" إذَا مَاتَ العَبْدُ انْقََطََعَ عَمَلُه إِلاَّ مَن ثَلاثٍَ : صدقةٍ جَاريةٍ، أو عَلْم بَثَه في صُدُور الرِّجالِ، أو وَلدٍ صالح يدعُو له بَعدَ مَوتهِ ". والولد الروحاني أتم، لتحقق استقامته في الغالب. وطلب ذلك محمود كما فعل الخليل وزكريا، وغيرهما، وقد مدح الله مَنْ فعل ذلك بقوله :﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [ الفرقان : ٧٤ ]. وقرة عين في الذرية : أن يكونوا على الاستقامة في الدين، وسلوك منهاج الصالحين. وكل ما أتوا به من الطاعة والإحسان فللوالدين حظ ونصيب من ذلك، ولا فرق بين الولد الروحاني والبشري، وفي ذلك يقول الشاعر :
والمَرْءُ في ميزانه أَتْبَاعُهُ فاقْدِرْ إذنْ قَدْرَ النبيّ مُحَمَّدِ
والله تعالى أعلم.

و( من ذريتي ) : عطف على مفعول " اجعل "، أي : اجعلني وبعض ذريتي مقيمين للصلاة.
﴿ ربنا اغفر لي ولوالدي ﴾، وكان هذا الدعاء قبل النهي، أو قبل تحقق موتهما على الكفر، أو يريد آدم وحواء. ﴿ وللمؤمنين يوم يقول الحسابُ ﴾ أي : يثبت ويتحقق وجوده، مستعار من القيام على الرِّجل، كقولهم : قامت الحرب على ساق. أو يقوم إليه أهله، فحذف المضاف، أي : يقوم أهل الحساب إليه، وأسند إليه قيامهم ؛ مجازاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إتيان النسل البشري، أو الروحاني، من أجلِّ النعم وأكملها على العبد، وفي الحديث :" إذَا مَاتَ العَبْدُ انْقََطََعَ عَمَلُه إِلاَّ مَن ثَلاثٍَ : صدقةٍ جَاريةٍ، أو عَلْم بَثَه في صُدُور الرِّجالِ، أو وَلدٍ صالح يدعُو له بَعدَ مَوتهِ ". والولد الروحاني أتم، لتحقق استقامته في الغالب. وطلب ذلك محمود كما فعل الخليل وزكريا، وغيرهما، وقد مدح الله مَنْ فعل ذلك بقوله :﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [ الفرقان : ٧٤ ]. وقرة عين في الذرية : أن يكونوا على الاستقامة في الدين، وسلوك منهاج الصالحين. وكل ما أتوا به من الطاعة والإحسان فللوالدين حظ ونصيب من ذلك، ولا فرق بين الولد الروحاني والبشري، وفي ذلك يقول الشاعر :
والمَرْءُ في ميزانه أَتْبَاعُهُ فاقْدِرْ إذنْ قَدْرَ النبيّ مُحَمَّدِ
والله تعالى أعلم.

ثم تمم قوله :﴿ يوم يقوم الحساب ﴾ بذكر أهواله، فقال :
﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ﴾ * ﴿ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ ﴾ * ﴿ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ ﴾ * ﴿ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوااْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولا تحسبنَّ ﴾ أيها السامع، أن ﴿ اللَّهَ غافلاً عما يعملُ الظالمون ﴾، أو أيها الرسول، بمعنى : دُمْ على ما أنت عليه من أن الله مطلع على أفعالهم، لا تخفى عليه خافية، غير غافل عنهم. وهو وعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة. وقيل : إنه تسلية للمظلوم ؛ وتهديد للظالم ؛ فالحق تعالى يمهل ولا يهمل. ﴿ إنما يؤخرهم ﴾، أي : يؤخر عذابهم ﴿ ليوم تشخص فيه الأبصارُ ﴾، أي : تحد فيه النظر، من غير أن تطرف ؛ من هول ما ترى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أمهل، سبحانه الظالمين إلى دار الشدائد والأهوال، أمهل عباده الصالحين إلى دار الكرامة والنوال ؛ لأن هذه الدار لا تسع ما أراد أن يعطيهم من الخيرات ؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان، فقد أجلَّ مقدارهم أن يجازيهم في دار لا بقاء لها، وتلك الدار باقية لا نفاذ لها، ففيها يتمحض الجمال والجلال. فبقدر ما ينزل على أهل الجلال من الأهوال ينزل على أهل الجمال من الكرامة والنوال. وتأمل ما تمناه أهل الجلال حين نزلت بهم الأهوال من قولهم :﴿ ربنا أخرنا إلى أجل قريب نُجب دعوتك ونتبع الرسل ﴾، ثم بادر إلى إجابة الداعي، واتباع الرسول الهادي، في كل ما جاء به من الأوامر والنواهي، واعتبر بمساكن الذين ظلموا أنفسهم، كيف فعل بهم الزمان ؟ وكيف غرتهم الأماني وخدعهم الشيطان، حتى أسكنهم دار الذل والهوان ؟ فشد يدك على الطاعة والإحسان والشكر لله على الهداية لنعمة الإسلام، والإيمان، وعلق قلبك بمقام الإحسان ؛ فإن الله يرزق العبد على قدر نيته، وبالله التوفيق.
﴿ مُهطعين ﴾ : مسرعين إلى الداعي ؛ مذلة واستكانة، كإسراع الأسير والخائف ونحوه، أو مقبلين بأبصارهم، لا يطرفون ؛ هيبة وخوفاً، ﴿ مُقنعي رؤوسهم ﴾ رافعيها إلى السماء كرفع الإبل رأسها عند رعيها أعالي الشجر. وذلك من شدة الهول، أو من أجل الغل الذي في عنقه، كقوله :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِيا أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ﴾
[ يس : ٨ ]. وقال الحسن في هذه الآية : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. ه. ﴿ لا يرتدُّ إليهم طرفهم ﴾، بل تقف أعينهم شاخصة لا تطرف، أو : لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم، ﴿ وأفئدتهم هواء ﴾ : خلاء، محترقة، فارغة من الفهم، لا تعي شيئاً ؛ لفرط الحيرة والدهشة. ومنه يُقال للأحمق وللجبان : قلبه هواء، أي : لا رأي فيه ولا قوة. وقيل : خالية من الخير، خاوية من الحق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أمهل، سبحانه الظالمين إلى دار الشدائد والأهوال، أمهل عباده الصالحين إلى دار الكرامة والنوال ؛ لأن هذه الدار لا تسع ما أراد أن يعطيهم من الخيرات ؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان، فقد أجلَّ مقدارهم أن يجازيهم في دار لا بقاء لها، وتلك الدار باقية لا نفاذ لها، ففيها يتمحض الجمال والجلال. فبقدر ما ينزل على أهل الجلال من الأهوال ينزل على أهل الجمال من الكرامة والنوال. وتأمل ما تمناه أهل الجلال حين نزلت بهم الأهوال من قولهم :﴿ ربنا أخرنا إلى أجل قريب نُجب دعوتك ونتبع الرسل ﴾، ثم بادر إلى إجابة الداعي، واتباع الرسول الهادي، في كل ما جاء به من الأوامر والنواهي، واعتبر بمساكن الذين ظلموا أنفسهم، كيف فعل بهم الزمان ؟ وكيف غرتهم الأماني وخدعهم الشيطان، حتى أسكنهم دار الذل والهوان ؟ فشد يدك على الطاعة والإحسان والشكر لله على الهداية لنعمة الإسلام، والإيمان، وعلق قلبك بمقام الإحسان ؛ فإن الله يرزق العبد على قدر نيته، وبالله التوفيق.
قلت :( يوم يأتيهم ) : مفعول ثانٍ لأَنذِر، ولا يصح أن يكون ظرفاً. و( نُجبْ دعوتك ) ؛ جواب الأمر.
﴿ وأنذر الناس ﴾ يا محمد، أي : خوفهم هذا اليوم، وهو :﴿ يوم يأتيهم العذابُ ﴾، يعني يوم القيامة، أو يوم الموت ؛ فإنه أول مطلع عذابهم، ﴿ فيقول الذين ظلموا ﴾ بالشرك والتكذيب :﴿ ربنا أخِّرنا إلى أجل قريب ﴾ أي : أخِّر العذاب عنا، وردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى أجل قريب، ﴿ نُجب دعوتك ﴾ حينئذٍ ﴿ ونتبع الرسلَ ﴾ ونظيره :﴿ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ المنافقون : ١٠ ]. قال تعالى لهم :﴿ أو لم تكونوا أقسمتم من قبلُ ﴾ أنكم باقون في الدنيا، ﴿ ما لكم من زوال ﴾ عنها بالموت ولا بغيره، ولعلهم أقسموا بطراً وغروراً. أو دل عليه حالهم ؛ حيث بنوا مشيداً، وأمَّلوا بعيداً. أو أقسموا أنهم لا يُنقلون إلى دار أخرى، وأنهم إذا ماتوا لا يُزالون عن تلك الحالة، ولا ينقلون إلى دار الجزاء، كقوله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾ [ النحل : ٣٨ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أمهل، سبحانه الظالمين إلى دار الشدائد والأهوال، أمهل عباده الصالحين إلى دار الكرامة والنوال ؛ لأن هذه الدار لا تسع ما أراد أن يعطيهم من الخيرات ؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان، فقد أجلَّ مقدارهم أن يجازيهم في دار لا بقاء لها، وتلك الدار باقية لا نفاذ لها، ففيها يتمحض الجمال والجلال. فبقدر ما ينزل على أهل الجلال من الأهوال ينزل على أهل الجمال من الكرامة والنوال. وتأمل ما تمناه أهل الجلال حين نزلت بهم الأهوال من قولهم :﴿ ربنا أخرنا إلى أجل قريب نُجب دعوتك ونتبع الرسل ﴾، ثم بادر إلى إجابة الداعي، واتباع الرسول الهادي، في كل ما جاء به من الأوامر والنواهي، واعتبر بمساكن الذين ظلموا أنفسهم، كيف فعل بهم الزمان ؟ وكيف غرتهم الأماني وخدعهم الشيطان، حتى أسكنهم دار الذل والهوان ؟ فشد يدك على الطاعة والإحسان والشكر لله على الهداية لنعمة الإسلام، والإيمان، وعلق قلبك بمقام الإحسان ؛ فإن الله يرزق العبد على قدر نيته، وبالله التوفيق.
﴿ وسكنتمُ في مساكن الذين ظلموا أنفسَهم ﴾ بالكفر والمعاصي، من الأمم السالفة كعاد وثمود، ﴿ وقد تبيّنَ لكم كيف فعلنا بهم ﴾ بما تُشاهدون من آثارهم الدارسة، وديارهم الخربة، وما تواتر عندكم من أخبارهم، ﴿ و ﴾ قد ﴿ ضربنا لكم الأمثالَ ﴾ من أحوالهم، أي : بيَّنا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب، أو بيَّنا لكم صفات ما فعلوا، وما فُعل بهم، التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما أمهل، سبحانه الظالمين إلى دار الشدائد والأهوال، أمهل عباده الصالحين إلى دار الكرامة والنوال ؛ لأن هذه الدار لا تسع ما أراد أن يعطيهم من الخيرات ؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان، فقد أجلَّ مقدارهم أن يجازيهم في دار لا بقاء لها، وتلك الدار باقية لا نفاذ لها، ففيها يتمحض الجمال والجلال. فبقدر ما ينزل على أهل الجلال من الأهوال ينزل على أهل الجمال من الكرامة والنوال. وتأمل ما تمناه أهل الجلال حين نزلت بهم الأهوال من قولهم :﴿ ربنا أخرنا إلى أجل قريب نُجب دعوتك ونتبع الرسل ﴾، ثم بادر إلى إجابة الداعي، واتباع الرسول الهادي، في كل ما جاء به من الأوامر والنواهي، واعتبر بمساكن الذين ظلموا أنفسهم، كيف فعل بهم الزمان ؟ وكيف غرتهم الأماني وخدعهم الشيطان، حتى أسكنهم دار الذل والهوان ؟ فشد يدك على الطاعة والإحسان والشكر لله على الهداية لنعمة الإسلام، والإيمان، وعلق قلبك بمقام الإحسان ؛ فإن الله يرزق العبد على قدر نيته، وبالله التوفيق.
ثم ذكر ما فعل بأهل المكر والخذلان، فقال :
﴿ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ * ﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ * ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ * ﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ﴾ * ﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ﴾ * ﴿ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ * ﴿ هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾
قلت :( وإن كان مكرُهم ) ؛ " إن " نافية، واللام للجحود، ومن قرأ " لّتزول " ؛ بفتح اللام، فإن مخففة، واللام فارقة.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقد مكروا ﴾ بك يا محمد ﴿ مكرَهُم ﴾ الكلي، واستفرغوا جهدهم في إبطال الحق وتقرير الباطل، ﴿ وعند الله مكرُهُم ﴾ أي : مكتوب عنده فعلهم، فيجازيهم عليه. أو عند الله ما يمكرهم به جزاء لمكرهم، وإبطالاً له، ﴿ وإن كان مكرُهُم ﴾ في العظم والشدة، ﴿ لِتزولَ منه الجبال ﴾ الثوابت لو زالت ؛ تقديراً، أو ما كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال، أي : الشرائع والنبوات الثابتة كالجبال الرواسي. والمعنى على هذا تحقير مكرهم ؛ لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة، أو : وإن مكرهم لَتزولُ منه الجبال من شدته، ولكن الله عصم ووقى. وقيل : الآية متصلة بما قبلها، أي وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، ومكروا مكرهم في إبطال الحق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء، قديماً وحديثاً، واحتالوا على إطفاء نورهم، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم ؛ ﴿ إن الله عزيز ذو انتقام ﴾ فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسول والأشكال، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات ؛ فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار، وبمحيطات أفلاك الأسرار، فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون، ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
[ النور : ٣٥ ]. وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.
وقال الورتجبي : يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر، تبدل من هذه الأوصاف، وظلمة الخلقية، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته، بوصف الجبارية والقهارية بقوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ﴾ [ الزمر : ٦٩ ] وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم ؛ من استيلاء قهر أنوار القدم، قال :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]. وقيل : فأين الأشياء إذ ذاك ؟ قال : عادت إلى مصادرها. وقال : متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء ؟ ! لأنهم أقل من البهاء في الهواء في جنب الحق. هـ.
وترى المجرمين، وهم الغافلون، مقرنين في قيود الأوهام، والشكوك، مسجونين في محيطات الأكوان، سرابيلهم ظلمة الغفلة، تغشى وجوههم نارُ القطيعة، لا تظهر عليها بهجة المحبين، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم ؛ ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس، وليُنذروا به وبال الغفلة والحجاب، وليتحقق أولو الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

قلت : و( يوم تُبدل ) : بدل من ( يوم يأتيهم )، أو ظرف للانتقام، أو مقدر باذكر، أو ( بمخلف وعده ). ولا يجوز أن ينتصب بمخلف ؛ لأن ما قبل " إن " لا يعمل فيما بعدها. و( السماوات ) : عطف على ( الأرض )، أي : وتبدل السماوات.
﴿ فلا تحسبن اللهَ مخلفَ وعدِهِ رسلَه ﴾، يعني : وعد النصر على الأعداء، وقدَّم المفعول الثاني، والأصل : مخلف رسله وعده، فقدَّم الوعد ؛ ليُعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً على الإطلاق، ثم قال :﴿ رسله ﴾ ؛ ليعلم أنه لم يخلف وعد أحد من الناس، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه ؟ ! فقدَّم الوعد أولاً بقصد الإطلاق، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص. ﴿ إن الله عزيز ﴾ : غالب لا يماكر، قادر لا يدافع، ﴿ ذو انتقام ﴾ لأوليائه من أعدائه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء، قديماً وحديثاً، واحتالوا على إطفاء نورهم، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم ؛ ﴿ إن الله عزيز ذو انتقام ﴾ فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسول والأشكال، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات ؛ فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار، وبمحيطات أفلاك الأسرار، فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون، ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
[ النور : ٣٥ ]. وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.
وقال الورتجبي : يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر، تبدل من هذه الأوصاف، وظلمة الخلقية، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته، بوصف الجبارية والقهارية بقوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ﴾ [ الزمر : ٦٩ ] وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم ؛ من استيلاء قهر أنوار القدم، قال :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]. وقيل : فأين الأشياء إذ ذاك ؟ قال : عادت إلى مصادرها. وقال : متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء ؟ ! لأنهم أقل من البهاء في الهواء في جنب الحق. هـ.
وترى المجرمين، وهم الغافلون، مقرنين في قيود الأوهام، والشكوك، مسجونين في محيطات الأكوان، سرابيلهم ظلمة الغفلة، تغشى وجوههم نارُ القطيعة، لا تظهر عليها بهجة المحبين، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم ؛ ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس، وليُنذروا به وبال الغفلة والحجاب، وليتحقق أولو الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

قلت : و( يوم تُبدل ) : بدل من ( يوم يأتيهم )، أو ظرف للانتقام، أو مقدر باذكر، أو ( بمخلف وعده ). ولا يجوز أن ينتصب بمخلف ؛ لأن ما قبل " إن " لا يعمل فيما بعدها. و( السماوات ) : عطف على ( الأرض )، أي : وتبدل السماوات.
يظهر ذلك ﴿ يوم تُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرضِ ﴾، أو اذكر ﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض ﴾، فتبدل أرض الدنيا يوم القيامة بأرض بيضاء عفراء، كقُرْصَة النقِيّ، كما في الصحيح١. ﴿ و ﴾ تبدل ﴿ السماوات ﴾ بأن تنشق وتُطوى كطي السجل للكتب، ويبقى العرش بارزاً، وهو سماوات الجنة.
قال البيضاوي : والتبديل يكون في الذات، كقوله : بدلت الدراهم بالدنانير، وعليه قوله :﴿ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ﴾ [ النساء : ٥٦ ]، وفي الصفة، كقولك : بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وغيرت شكلها. وعليه قوله :﴿ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [ الفرقان : ٧٠ ]. والآية تحتملها، فعن علي رضي الله عنه : تبدل أرضاً من فضة وسماوات من ذهب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي تلك الأرض، وإنما تغير صفاتها، ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِِ فَتبْسَط، وتُمَدّ مد الأديم العكَاظيّ، " لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتا " ٢.
قال ابن عطية : وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عَفراءَ لم يُعْصَ اللهُ فيها، ولا سُفِكَ فيها دم، وليس فيها مَعْلم لأحد. ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" المُؤْمِنُ في وَقْتِ التبديلِ في ظل العرْشِ ". ورُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الناسُ، وقتَ التبديل، على الصِّرَاط ". ورُوي أنه قال :" الناس حينئذٍ أضْيَافُ الله ؛ فلا يُعجزهم ما٣ ".
وفي سراج المريدين لابن العربي : أن الله خلق الأرض مختلفة محدودبة ؛ ويخلقها يوم القيامة مستوية، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، متماثلة بيضاء كخبرة النقى، كما في الصحيح، وأما تبديل السماوات فليس في كيفيتها حديث، وإنما هو مجهول. وفي حديث مسلم :" أين يكون الناس يوم تبدل الأرض ؟ قال : هم على الصراط " ٤. قال : يحتمل أنه الصراط المعروف، ويحتمل أنه اسم لموضع غيره، تستقر الأقدام عليه، وكأنه الأظهر ؛ للحديث الآخر. وقد سألته عائشة رضي الله عنها أين يكون الناس يوم تبدل الأرض ؟ قال صلى الله عليه وسلم :" هُمْ في الظُّلْمَةِ دُونَ الجسْر " ٥. والجسر : الصراط. ه.
أما تبديل الأرض : فظاهر الآيات أنها قبل البعث والحشر، فلا يقع البعث والحشر، إلا على الأرض المبدلة ؛ كقوله :﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ ﴾ [ الكهف : ٤٧ ]، وقوله :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ( ١٠٥ ) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً( ١٠٦ ) ﴾ [ طه : ١٠٥ ١٠٦ ]. . ثم قال :﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ ﴾ [ طه : ١٠٨ ]. وقوله :﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ [ الواقعة : ١ ]، ثم قال :﴿ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً ( ٤ ) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً( ٥ ) ﴾ [ الواقعة : ٤ ٥ ] إلى غير ذلك من الآيات. والأرواح حينئذٍ أضياف الله، أو في ظل العرش، أو دون الجسر، حيث يعلم الله. وأما تبديل السماوات فظاهر الأخبار أنه وقت وقوف الناس في المحشر، حيث تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة تنزيلاً. والله تعالى أعلم.
﴿ وبرزوا للهِ الواحدِ القهار ﴾، أي : وبرزوا من أجداثهم ؛ لمحاسبة الواحد القهار، أو لمجازاته. وتوصيفه بالوصفين ؛ للدلالة على أنه في غاية الصعوبة، كقوله :﴿ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ غافر : ١٦ ]، وأن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره، ولا مستجار.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء، قديماً وحديثاً، واحتالوا على إطفاء نورهم، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم ؛ ﴿ إن الله عزيز ذو انتقام ﴾ فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسول والأشكال، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات ؛ فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار، وبمحيطات أفلاك الأسرار، فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون، ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
[ النور : ٣٥ ]. وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.
وقال الورتجبي : يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر، تبدل من هذه الأوصاف، وظلمة الخلقية، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته، بوصف الجبارية والقهارية بقوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ﴾ [ الزمر : ٦٩ ] وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم ؛ من استيلاء قهر أنوار القدم، قال :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]. وقيل : فأين الأشياء إذ ذاك ؟ قال : عادت إلى مصادرها. وقال : متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء ؟ ! لأنهم أقل من البهاء في الهواء في جنب الحق. هـ.
وترى المجرمين، وهم الغافلون، مقرنين في قيود الأوهام، والشكوك، مسجونين في محيطات الأكوان، سرابيلهم ظلمة الغفلة، تغشى وجوههم نارُ القطيعة، لا تظهر عليها بهجة المحبين، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم ؛ ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس، وليُنذروا به وبال الغفلة والحجاب، وليتحقق أولو الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.


١ لفظ الحديث: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد". أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٤، ومسلم في المنافقين حديث ٢٨، وأرض بيضاء عفراء: أي أرض ليست بناصعة البياض، والعفرة: بياض ليس بالناصع. وقرصة النقي: الدقيق من الغش والنخال..
٢ أخرجه القرطبي في تفسيره ٩/٣٨٣، وابن كثير في تفسيره ٢/٢٩٦..
٣ كذا بالأصل، الحديث غير مكتمل ولعله هناك سقط من قلم الناسخ..
٤ أخرجه مسلم في المنافقين حديث ٢٩، والترمذي في تفسير سورة ١٤، باب ٣، وابن ماجه في الزهد، باب ٣٣، والدارمي في الرقاق باب ٨٨، وأحمد في المسند ٦/٣٥، ١٠١، ١٣٤، ٢١٨..
٥ أخرجه مسلم في الحيض حديث ٣٤..
﴿ وترى المجرمين يومئذٍ مُقَرَّنين ﴾ : قرن بعضهم إلى بعض ﴿ في الأصفاد ﴾ : في القيود، أو الأغلال، كل واحد قُرن مع صاحبه، على حسب مشاركتهم في العقائد والأعمال، كقوله :﴿ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾ [ التكوير : ٧ ] : أو قُرنوا مع الشياطين، أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائفة والأهوية الفاسدة، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. فقوله :﴿ في الأصفاد ﴾ : متعلق بمقرنين، أو حال من ضميره. والصفد : القيد أو الغل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء، قديماً وحديثاً، واحتالوا على إطفاء نورهم، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم ؛ ﴿ إن الله عزيز ذو انتقام ﴾ فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسول والأشكال، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات ؛ فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار، وبمحيطات أفلاك الأسرار، فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون، ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
[ النور : ٣٥ ]. وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.
وقال الورتجبي : يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر، تبدل من هذه الأوصاف، وظلمة الخلقية، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته، بوصف الجبارية والقهارية بقوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ﴾ [ الزمر : ٦٩ ] وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم ؛ من استيلاء قهر أنوار القدم، قال :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]. وقيل : فأين الأشياء إذ ذاك ؟ قال : عادت إلى مصادرها. وقال : متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء ؟ ! لأنهم أقل من البهاء في الهواء في جنب الحق. هـ.
وترى المجرمين، وهم الغافلون، مقرنين في قيود الأوهام، والشكوك، مسجونين في محيطات الأكوان، سرابيلهم ظلمة الغفلة، تغشى وجوههم نارُ القطيعة، لا تظهر عليها بهجة المحبين، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم ؛ ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس، وليُنذروا به وبال الغفلة والحجاب، وليتحقق أولو الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

﴿ سرابيلُهُم ﴾ : قُمصانُهم، والسربال : القميص، ﴿ من قَطرانٍ ﴾، وهو الذي يهنأ به الإبل، أي : تدهن به. وللنار فيه اشتعال شديد، فلذلك جُعِل قَميصَ أهل النار. قال البيضاوي : وهو أسود منتن، تشتعل فيه النار بسرعة، يُطلى به جلود أهل النار، حتى يكون طلاؤه لهم كالقميص، ليجتمع عليهم لذغ القطران ووحشة لونه ونتن ريحه، مع إسراع النار في جلودهم. على أنَّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. ه.
﴿ وتغشى وجوهَهُم النار ﴾، أي : تكسوها وتأكلها ؛ لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق، ولم يخضعوا بها إلى الخالق، كما تطلع على أفئدتهم ؛ لأنها فارغة من المعرفة والنور، مملوءة بالجهالات والظلمة. ونظيره قوله :﴿ أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُواءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ الزمر : ٢٤ ]، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ﴾ [ القمر : ٤٨ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء، قديماً وحديثاً، واحتالوا على إطفاء نورهم، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم ؛ ﴿ إن الله عزيز ذو انتقام ﴾ فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسول والأشكال، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات ؛ فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار، وبمحيطات أفلاك الأسرار، فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون، ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
[ النور : ٣٥ ]. وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.
وقال الورتجبي : يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر، تبدل من هذه الأوصاف، وظلمة الخلقية، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته، بوصف الجبارية والقهارية بقوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ﴾ [ الزمر : ٦٩ ] وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم ؛ من استيلاء قهر أنوار القدم، قال :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]. وقيل : فأين الأشياء إذ ذاك ؟ قال : عادت إلى مصادرها. وقال : متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء ؟ ! لأنهم أقل من البهاء في الهواء في جنب الحق. هـ.
وترى المجرمين، وهم الغافلون، مقرنين في قيود الأوهام، والشكوك، مسجونين في محيطات الأكوان، سرابيلهم ظلمة الغفلة، تغشى وجوههم نارُ القطيعة، لا تظهر عليها بهجة المحبين، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم ؛ ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس، وليُنذروا به وبال الغفلة والحجاب، وليتحقق أولو الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

فعل ذلك بهم ؛ ﴿ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ من الإجرام، أو ما كسبت مطلقاً ؛ لأنه إذا بيَّن أن المجرمين معاقبون لأجرامهم ؛ علم أن المطيعين يُثابون لطاعتهم. ويتعين ذلك إذا علق اللام ببرزوا. ﴿ إن الله سريع الحساب ﴾، فيحاسب الناس في ساعة واحدة ؛ لأنه لا يشغله حسابٌ عن حساب، فكل شخص يظهر له أنه واقف بين يديه، يُحاسب في وقتِ حسابِ الآخر ؛ لأن ذلك وقت خرق العوائد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء، قديماً وحديثاً، واحتالوا على إطفاء نورهم، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم ؛ ﴿ إن الله عزيز ذو انتقام ﴾ فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسول والأشكال، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات ؛ فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار، وبمحيطات أفلاك الأسرار، فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون، ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
[ النور : ٣٥ ]. وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.
وقال الورتجبي : يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر، تبدل من هذه الأوصاف، وظلمة الخلقية، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته، بوصف الجبارية والقهارية بقوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ﴾ [ الزمر : ٦٩ ] وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم ؛ من استيلاء قهر أنوار القدم، قال :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]. وقيل : فأين الأشياء إذ ذاك ؟ قال : عادت إلى مصادرها. وقال : متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء ؟ ! لأنهم أقل من البهاء في الهواء في جنب الحق. هـ.
وترى المجرمين، وهم الغافلون، مقرنين في قيود الأوهام، والشكوك، مسجونين في محيطات الأكوان، سرابيلهم ظلمة الغفلة، تغشى وجوههم نارُ القطيعة، لا تظهر عليها بهجة المحبين، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم ؛ ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس، وليُنذروا به وبال الغفلة والحجاب، وليتحقق أولو الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

﴿ هذا ﴾ القرآن، أو ما فيه من الوعظ والتذكير، أو ما وصفه من قوله :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً. . . ﴾ [ إبراهيم : ٤٢ ] إلخ، ﴿ بلاغ للناس ﴾ ؛ أي : كفاية لهم عن غيره في الوعظ وبيان الأحكام، يقال : أعطيته من المال ما فيه بلاغ له، أي : كفاية، أو بلاغ ؛ أي : تبليغ لهم، كقوله :﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ ﴾ [ الشورى : ٤٨ ] ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ ﴾
[ النور : ٥٤ ]. وقوله :﴿ وليُنذروا به ﴾ : عطف على محذوف، أي : ليُنصحوا به، ولينذروا به، أو متعلق بمحذوف، أي : ولينذروا به أنزلناه، ﴿ وليعلموا أنما هو إله واحد ﴾ بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى، أو المنبهة على ما يدل عليه. ﴿ وليذَّكَّر ﴾ أي : ليتعظ به ﴿ أولو الألباب ﴾ أي : القلوب الصافية بالتدبر في أسرار معانيه وعجائب علومه وحكمه، فيرتدعوا عما يُرديهم، ويتذرعوا بما يحظيهم. واعلم أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتاب : تكميل الرسل للناس، واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، وإصلاح القوة العملية التي هي التدرع بكمال التقوى. جعلنا الله من الفائزين بغايتها. قال معناه البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء، قديماً وحديثاً، واحتالوا على إطفاء نورهم، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم ؛ ﴿ إن الله عزيز ذو انتقام ﴾ فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسول والأشكال، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات ؛ فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار، وبمحيطات أفلاك الأسرار، فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون، ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
[ النور : ٣٥ ]. وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.
وقال الورتجبي : يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر، تبدل من هذه الأوصاف، وظلمة الخلقية، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته، بوصف الجبارية والقهارية بقوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ﴾ [ الزمر : ٦٩ ] وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم ؛ من استيلاء قهر أنوار القدم، قال :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]. وقيل : فأين الأشياء إذ ذاك ؟ قال : عادت إلى مصادرها. وقال : متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء ؟ ! لأنهم أقل من البهاء في الهواء في جنب الحق. هـ.
وترى المجرمين، وهم الغافلون، مقرنين في قيود الأوهام، والشكوك، مسجونين في محيطات الأكوان، سرابيلهم ظلمة الغفلة، تغشى وجوههم نارُ القطيعة، لا تظهر عليها بهجة المحبين، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم ؛ ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس، وليُنذروا به وبال الغفلة والحجاب، وليتحقق أولو الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

Icon