سورة إبراهيم مكية، عدد آياتها اثنتان وخمسون آية، وموضوع السورة الأساسي كبقية السور المكية هو العقيدة في أصولها الكبيرة : الوحي والرسالة والتوحيد والبعث والجزاء، ولها نهج خاص في عرض هذا الموضوع، وحقائقه الأصلية، يميزها عن غيرها من السور.
ولجوّ هذه السورة من اسمها نصيب، إبراهيم، أبو الأنبياء، المبارك الشاكر الأواه المنيب، وهذه الصفات ملحوظة في جو السورة، وفي الحقائق التي تبرزها، وفي طريقة الأداء، وفي التعبير والإيقاع.
وتتضمن السورة عدة حقائق رئيسة في العقيدة، ولكن حقيقتين كبيرتين تخيمان على جوّها، وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل، ووحدة دعوتهم، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة بدين الله، على اختلاف الأمكنة والأزمنة، وحقيقة نعمة الله على البشر وزيادتها بالشكر، ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران.
فأما الحقيقة الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء، إذ تجمع الأنبياء كلهم في صف، وتجمع الجاهليين كلهم في وصف، وتجري المعركة بينهم في الأرض، ثم لا تنتهي هنا بل تتابع خطواتها في يوم الحساب.
ونبصر مشهد أمة الرسل، وأمة الجاهلية، في صعيد واحد، على تباعد الزمان والمكان. فالزمان والمكان عرضان زائلان، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون، حقيقة الإيمان والكفر، فهي أكبر من الزمان والمكان، ويلخص ذلك قوله تعالى :﴿ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود إلى قوله تعالى.... ومن ورائه عذاب غليظ ﴾. الآيات من ٩- ١٧.
فهنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل، ويتلاشى الزمان والمكان، وتبرز الحقيقة الكبرى : حقيقة الرسالة الواحدة، واعتراضات الجاهلين الواحدة، وحقيقة نصر الله للمؤمنين وهي واحدة، وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة أيضا.
ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة، فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة.
وأما الحقيقة الثانية المتعلقة بالنعمة والشكر والبطر فتطبع جوّ السورة كله، وتتناثر في سياقه. إذ يعدد الله بنعمه على البشر كافة، مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم، طائعهم وعاصيهم، وإنها لرحمة من الله وسماحة وفضل أن يتيح للكافر والعاصي نعمه في هذه الأرض، كالمؤمن والطائع، لعلهم يشكرون. وهو يعرض هذه النعمة في أضخم مجالي الكون وأبرزها، ويضعها داخل إطار من مشاهد الوجود العظيمة. وفي إرسال الرسل للناس نعمة تعدل النعم السابقة أو تربو عليها، والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل النور. وهنا تبرز حقيقة زيادة النعمة بالشكر.
وتنقسم السورة إلى مقطعين حلقاتهما متماسكة :
الأول : يتضمن بيان حقيقة الرسالة والرسول، ويصور المعركة بين أمة الرسل وفرقة المكذبين في الدنيا والآخرة، ويعقّب عليها بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة.
الثاني : يتحدث عن نعم الله على البشر، سواء الذين كفروا بهذه النعم وبطروا، أو الذين آمنوا وشكروا. ونموذج هؤلاء الأول هو إبراهيم. ثم يعمد إلى تصوير مصير الظالمين الكافرين بنعمة الله في سلسلة من أعنف مشاهد القيامة وأجلّها، وأحفلها بالحركة والحياة. وأخيرا يختم السورة ختاما يتسق مع مطلعها :﴿ هذا بلاغ للناس لينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد، وليذّكر أولوا الألباب ﴾ :
﴿ في ظلال القرآن ﴾ بتصرف.
وإبراهيم هو خليل الله بن تارح بن ناحور من نسل نوح عليه السلام، وهو من بلد اسمها " فدان آرام " بالعراق. كان قومه أهل أوثان، وكان أبوه نجّارا ينحت الأصنام ويبيعها ممن يعبدها، ولكن الله أنار بصيرة إبراهيم وهداه إلى الرشد، فعلم أن الأصنام لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، وحاول أن يهدي أباه وقومه فلم يستطع، لعنادهم وإصرارهم على الكفر. وقد جفاه قومه وألقوه في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما. وهدده أبوه أن يرجمه إذا استمر على جحد الأصنام فلم يأبه لذلك. وقد استمر يدعو قومه إلى الهدى، لكنه لم يؤمن منهم سوى زوجته سارة ولوط ابن أخيه.
ولما يئس من قومه هاجر إلى أور الكلدانيين، وهي مدينة قرب الشاطئ الغربي للفرات، ثم إلى حرّان، وهي الآن في تركية، وبعد ذلك إلى فلسطين ومعه زوجته سارة وابن أخيه لوط وزوجته. وفي القدس استقبله ملك القدس من الكنعانيين واسمه ملكي صادق، فدعا لإبراهيم بالبركة فأعطاه إبراهيم جزية العشر من كل ما يملك.
وقد جاء ذكره في القرآن الكريم في خمس وعشرين سورة ذكر فيها ثلاثا وستين مرة، تارة باختصار، وتارة بتطويل، وتارة بذكر شأن من شؤونه في سورة، ثم شأن آخر في سورة أخرى، وسيمر معنا ذلك التفسير.
بسم الله الرحمان الرحيم
ﰡ
ألف. لام. را. لقد أنزلنا إليك يا محمد، هذا الكتاب المؤلف من جنس هذه الأحرف لتخرجَ به البشريةَ من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم، وذلك بإذن الله وتوفيقه ولطفه بهم، وتقودهم إلى الطريق إلى الله.
ثم وصف الله أولئك الكافرين بصفات ثلاث.
والثانية : يمنعونِ الناس عن شريعة الله.
والثالث : ويريدون أن تكون الشريعة معوجّة لا استقامة فيها لينفّروا الناس منها.
أولئك الموصوفون بهذه الصفات قد ضلّوا عن الحق، وبعُدوا عن الطريق المستقيم.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر :«الله » بالرفع، والباقون «الله » بالجر كما هو في المصحف.
يذكُر الله تعالى هنا بعضَ قَصصَ الأنبياء، وما لا قوه من أقوامهم من الأذى والتمرَد والعناد تسليةً للرسول الكريم والمؤمنين، وأنّ المقصودَ من إرسالِ الرسُل هو هدايةُ الناس وإخراجهم من الظُلمات والضلال إلى النور والإيمان.
ولقد أرسلْنا موسى مؤيَّداً بمعجزاتنا، وقلنا له : يا موسى، أخرج قومك من ظلمات الكفر والجهل إلى نور العلم والإيمان، وذكّرهم بوقائع الله في الأمم السابقة، إن في ذلك التنبيه والتذكير دلائل عظيمةً على وحدانية الله، تدعو كلَّ من تحلَّى بالصبر والشكر إلى الإيمان.
ويستحيون : يبقون نساءكم أحياء للخدمة والاسترقاق.
واذكر أيها النبي، لقومك لعلّهم يعتبرون : اذكر ما قاله موسى لقومه يذكّرهم بنعمة الله عليهم يوم أنجاهم من سوء العذاب الذي كانوا يلقونه من آل فرعون. فقد كان هؤلاء يذبحون الذكور من أولادهم حتى لا يتكاثروا، ويُبقون الإناث أحياء للخدمة والاسترقاق... وفي ذلك كله ابتلاء واختبار شديد.
ويمضي موسى يبين لقومه ما رتّبه الله جزاءً على الشكر والكفران،
واذكروا يا بني إسرائيلَ، حين أَعلمَكم ربُّكم أن الشكر على ما أنعمَ يجلبُ زيادةَ الخير، وأن جحود النعمة يوجبُ العذابَ الشديد.
مريب : مقلق.
ويستمر موسى في بيانه وتذكيره لقومه فيقول : ألم يصِلْكم خبرُ الأقوام الماضين من قبلِكم مثل قوم نوح وعاد وثمود، والأمم الذين جاؤوا من بعدِهم، أمم كثيرة لا يعلمها إلا الله، وقد جاءتهم رسُلهم بالحجج الظاهرة والمعجزات فوضعوا أيديَهم على أفواهِهم استغراباً واستنكارا وقالوا للرسل : إنّا كفرنا بما جئتم به من أديان جديدة، وإنا لَنَشُكُّ في كل ما تدعوننا إليه من الإيمان والتوحيد.
قالت لهم رسُلهم : أفي وجودِ الله شك ! إنه خالقُ السماوات والأرض على غير مثال، وهو يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم بعضَ ذنوبكم، ويؤخركم إلى وقت محدَّد معلوم لديه.
فردّ أولئك المنكِرون الجاحدون على الرسل بتعنّت :
كيف نصدِّقكم وأنتم بشر مثلنا لا فضلَ لكم علينا، وتريدون أن تمنعونا من عبادِة الآلهة التي كان آباؤُنا يعبدونها ! ؟ إن كنتم صادقين في دعواكم فأْتونا بدليلٍ ظاهر واضح.
ثم ختموا كلامهم بمدح التوكل وبيان أن إيذاءهم لا يثنيهم عن تبليغ رسالة ربهم فقالوا :﴿ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون ﴾.
بعد أن ذكر اللهُ ما دار من الحِوار والجَدَل بين الرسُل وأَقوامهم، وبيّن الحججَ المقْنعة التي جاء بها الرسل الكرام، ولم يستطع الذين كفروا أن يردّوا عليها، لم يجدوا وسيلةً إلا استعمال القوّة مع أنبيائهم، وتلك حجة المغلوب، فخيّروا رسُلَهم بين أمرين : الخروج من الديار، أو العودة إلى ملّة الآباء والأجداد. فأوحى الله تعالى إلى أنبيائه أن العاقبة لهم.
وقال الطغاة من زعماء الكافرين لما أعْيَتْهُم الحيلةُ، وعجزوا عن مقاومة الدليل.. قالوا لرسلهم : لكم أحد أمرين، إما أن نُخرجَكم من أرضِنا،
أو أن تعودوا إلى عبادةِ الأوثان، ديننا القائم، فأوحى الله إلى رسُله مثبتا لهم : لا تخافوا، سنُهلك الظالمين.
كل جبار عنيد : كل عال متكبر معاند.
ووقف الطغاة المتجبّرون، ووقف الرسُل المتواضِعون ومعهم قوة الله، ودعا كلاهما بالنصر والفتح، وكانت العاقبة للرسُل.
وطلب الرسُلُ النصر على أقوامهم من الله لما يئسوا من إيمانهم، وطلبت تلك الأقوامُ النصر لنفسِها، فنصر اللهُ رسله، وخسِر كلُّ جبار متكبر عنيد.
إن جهنم لذلك الجبَّار الخاسر بالمرصاد، سيصلاها يوم القيامة وشرابُه فيها ماء كريه.
عذاب غليظ : شديد.
إنها صورةٌ مرعبة وخيبة أمل لهؤلاء الكفار المعاندين، يتجرّعون ذلك الماء الكريه فلا يكادون يستسيغونه لقذارته، وتحيط بهم أسبابُ الموت من كل جهة، وما هم بميتين في جهنم، ولهم عذابٌ مؤلم شديد.
ومثل هذا السعي والعملِ على غير أساسٍ ولا استقامة، هو الضلالُ البعيد عن الحق.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«خالق السماوات والأرض » والباقون «خلق » كما هو في المصحف.
تبع : جمع تابع.
مغنون عنا : دافعون عنا.
محيص : مهرب.
هذه صورة حيّة لموقف هؤلاء المجرمين وأتباعهم والحوارِ بينهم، فحين يقفون جميعاً بين يدي الله يوم القيامة، يقول الضعفاءُ التابعون للزعماءِ المستكبرين : لقد كُنا تابعين لكم في تكذيب الرسُل ومحاربتهم، فهل تدافعون عنا اليومَ في هذا الموقف الرهيب ؟ فيقول المستكبرون : لو أن الله هدانا لأرشدناكم، ولكن ليس بيدِنا أيةُ حيلة، وليس لنا مهربٌ ولا خلاصٌ مما نحن فيه جميعا، وسِيّان الجزعُ والصبر، فلا نجاةَ لنا من عذاب الله.
ما أنا بمصرخكم : ما أنا بمغيثكم. استصرخني : استغاثني.
وجاء دورُ الشيطان، كل عظَمته وحِيَله قد ذهب الآن، وهو يقف موقف الذليل ويتنصل من أتباعه. إنه يعترف بصراحةٍ أنه كان كذّابا، وعد أتباعه كذباً وزوراً ويسترسل قائلا :
ما كان لي عليكم قوةٌ أُجبِركم بها على اتّباعي، لقد دعوتُكم إلى الضلال فأسرعتم إلى إجابتي، فلا تلوموني بِوَسْوَستي ولوموا أنفسَكم لأنكم استجبتم لي.
ثم يتبرأ منهم ويتنصّل.
أنا لا أستطيع اليوم أن أُغيثكم، ولا أنتم تستطيعون إغاثتي من العذاب.
ثم يتبرّأ من كفرهم وإشراكهم ويكفرُ بهذا الإشراك فيقول :
فأنا لا أقبلُ أن أكونَ شريكاً لله فيما أشركتُموني فيه من قبلِ هذا اليوم، إن الكافرين لهم عذابٌ شديد مؤلم.
قراءات :
قرأ حمزة :«وما أنتم بمصرخيِّ » بكسر الياء المشددة. والباقون بفتحها. «بمصرخيَّ » كما هو في المصحف.
﴿ وَأُدْخِلَ الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾.
وهكذا يقابل الله تعالى بين حال الأشقياء والسّعداء، ويبيّن أن الذين آمنوا وصدّقوا وعملوا الأعمالَ الصالحة في جنّاته ناعمين مسرورين، خالدين فيها على أحسن حالٍ بإذن الله تعالى، تحّييهم الملائكةُ بالسلام، وهو شعارُ الإسلام.
بعد أن بيّن اللهُ حالَ الأشقياء وحالَ السعداء ومآل كلٍ منهم ضربَ هنا مثلا يبيّن فيه الحقَّ من الباطل، ويوضح الفرقَ بين الفئتين.
هنا شبّه اللهُ تعالى كلمةَ الإيمان التي هي كلمةُ الحقّ بشجرةٍ طيبةٍ ثبتَت جذورها في الأرض وارتفعت أغصانها في السماء.
يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا بكلمةِ الإيمان المستقرَّة في الضمائر، الثابتة في قلوبهم، المثمرةِ بالعمل الصالح، والفوزِ في الآخرة، ويُضلُّ الظالمينَ بظُلمهم وشِركهم، ويفعل ما يشاءُ بإرادته المطلقة.
وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات، وقد استغرقت الشطر الأكبر من سورة إبراهيم. والكلمةُ الطيبة تحتوي دائما على الحقيقة الكبرى، حقيقة الرسالة الواحدة التي لا تتبدّل، وحقيقة الدعوة التي لا تتغير، وحقيقة التوحيد لله.
ألم تَرَ وتعلم كيف تصرَّف هؤلاء القومُ ! لقد تنكروا لنعمة الله الممثَّلة في دعوة رسوله إلى الإيمان ونبذوها ( وأولئك هم السادة من قريش وكبراء قومهم )، بعد ما رأوا ما حلَّ بمن قبلَهم. وقد عرض القرآن عليهم مشاهدَ تلك القصة التي مرت في هذه السورة ! ! لقد استبدلوا بنعمة دعوة الرسول إياهم كفرا، وأنزلوا أتباعَهم من قومهم دارَ الهلاك.
جهنم يدخُلونها ويقاسُون حَرَّها وبئس المنزل والقرار.
وجعلوا لله الواحدِ في العبادة نظراءَ، ليُضلوا الناس عن دينه القويم فقل لهم أيها الرسول، تمتّعوا قليلاً في هذه الحياةِ إلى الأجلِ الذي قدّره الله لكم، وعاقبتُكم ومصيركُم إلى جهنّم.
بعد أن هدّد الله الكفارَ على جحودهم وانغماسهم في اللذات خاطبَ نبيَّه الكريمَ أن يأمر المؤمنين من عبادهِ أن أحسِنوا وأقيموا الصلاةَ وأنفقوا بعض ما رزقكم ربُّكم في وجوه البِر في السر والعلَن، من قبلِ أن يأتي يومُ القيامة الذي لا تنفع فيه صداقة ولا شفاعة ولا بيعٌ ولا عمل، إنما ينفع ما تقدّمون من أعمال طيبة.
في هذه الآية الكريمة يذكِّر اللهُ تعالى بنعمهِ الكثيرة التي لا تُحصى، فإنه خلَق السمواتِ والأرضَ لبني الإنسان ليتمتع بخيراتها، وأَنزل من السماءِ غيثاً عميماً أحيا به الشجر والزرعَ فأثمرت لكم رِزقاً تأكلون منه وتعيشون به، وسخّر لكم السفنَ لتجريَ في البحر بأمرِه، تحملُ أرزاقكم وتحملكم، وسخر لكم الأنهارَ العذبة لتنتفعوا بها في رَيِّ الأنفس والزروع.
﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ ﴾، لا يفتُران عن الدوران،
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار ﴾، يتعاقبان، تستريحون في اللّيل، وتعملون في النهار
وهيّأ لكم كل ما تحتاجون، سواء أسألتُموه أم لم تسألوه...
لأنه قد وضع في هذه الدنيا منافع يجهلُها الناس وهي معدَّة لهم، فلم يسأل الله أحدٌ قديما أن يعطيَهم الطائرات والكهرباء وغير ذلك من الأشياء الجديدة، ولم يزل هناك عجائب ستظهر فيما بعد، ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ٨ ].
وإن حاولتم أن تعدُّوا نعمةَ الله فإنكم لا تستطيعون حَصْرَها، فهي أكبرُ وأكثر من أن يحصيَها البشر.
وبعد هذا كلّه تجعلون لله أنداداً، ولا تشكرون نِعَم الله ﴿ إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ فالإنسان الذي بدّل نعمة الله كُفراً بعد كل هذه النعم لهو شديد الظلم والجحود.
في هذه الآية يتجلى النموذج الكامل للإنسان الذاكر الشاكر في شخصية أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فهو يدعو الله تعالى أن يجعل مكة بلداً آمناً مطمئنّاً، ويسأله أن يبعده هو وأبناءه عن عبادة الأصنام،
﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس ﴾
ويبين الدين الحق الذي هو عليه ويتابع الدعاء فيقول :
﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
فأما من تبع طريقي فهو منّي، ينتسب إليّ ويلتقي معي، وأما من عصاني منهم فأُفوّض أمره إليك، فأنتَ غفور رحيم.
وهنا تتجلّى رحمة إبراهيم وعطفه ورأفته، فهو لم يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله، كما أنه لا يستعجل العذاب لهم، وإنما يَكِلُهم إلى غفران الله ورحمته.
وهنا يمضي في دعائه : بأنه أسكنَ من ذرتيه بمكة، وهي بوادٍ قاحلٍ
لا زرعَ فيه عند بيت الله المحرّم، ثم يبين الوظيفةَ التي أسكنَهُم في هذا المكان القفر ليقوموا بها، وهي عبادةُ الله وإقامة الصلاة على حقيقتها.
ثم يدعو تلك الدعوة اللطيفة التي استجابها الله، بقوله :﴿ فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ ﴾ أي : تميل بشوقٍ إلى ذلك البيتِ العتيق وأهلِه في ذلك الجديب، ﴿ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾، وقد أجاب الله دعاءه، فألهم الناس الحجَّ منذ آلاف السنين إلى ما شاء الله، وفي أي وقت ذهب الإنسان إلى الحجاز يجِد فيه أنواع الثمار والخيرات.
وفي هذا إظهارٌ لقدرة الله وصِدق وعده.
﴿ الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعاء ﴾.
فإن هِبةَ الذرّية على الكِبَر أوقعُ في النفس، فهو يحمد اللهَ تعالى على هذه النِعم ويطمع في رحمته.
الخطاب في صورته للنبيّ عليه الصلاة والسلام، والمراد به جميع الناس. وفيه تسليةٌ للمؤمنين، وتهديد للكافرين... فإن الله لا يغفل عما يعمل الظالمون في محاربة الإسلام. ﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار ﴾.
إنما يُمْهِلهم ويمتّعهم بكثيرٍ من لذات الحياة، ليوم شديد الهول تبقى فيه أبصارُهم شاخصةً مفتوحة من الفزع.
قراءات :
قرأ أبو عمرو :«إنما نؤخرهم » بالنون والباقون «يؤخرهم ».
مقنعي رؤوسِهم : رافعين رؤوسهم كثيرا.
لا يرتد إليهم طرفهم : لا يرجع، كأن أبصارهم جامدة من الهول. وأفئدتهم هواء : خالية من العقل والفهم لفرط الدهش والحيرة.
إنها صورةٌ رهيبة وهم معرضون رافعين لرؤوسهم، وطرفهم جامد
لا يتحرك من شدة الهول، وأفئدتهم خاوية مضطربة لا إدراك فيها
ولا وعي... هذا هو اليوم الذي يؤخّرهم الله إليه، والذي ينتظُرهم بعد الإمهال.
وأنذِر الناس أيها الرسول، إنه إذا جاء ذلك اليوم فلا اعتذارَ ولا نكال، يوم يقول الظالمون الجاحدون حين يرون ذلك الهول : ربّنا ارجعْنا إلى الدنيا، وأمهلْنا أمداً قريبا حتى نجيب فيه دعوة الرسل إلى توحيدك، فيأتيهم الرد : ألم تَحلِفوا في الدنيا أنكم إذا متُّم لا تُخرَجون لبعثٍ
ولا حساب، فكيف ترون الآن، وأين قولكم «ما لنا من زوال » ؟ !
قراءات :
قرأ الكسائي :«لتزول » بفتح اللام الأولى، وضم اللام الأخيرة. وقرأ الباقون :«لتزول » بكسر اللام الأولى وفتح اللام الأخيرة كما هو في المصحف.
لا يدع الظالمَ يفلت، ولا يدع الماكر ينجو.
﴿ وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ ﴾ خرجوا من قبورهم، ووقفوا مكشوفين بارزين لا يستُرهم ساترٌ بينَ يدي الله الواحد القهار.
في الأصفاد : في القيود.
وبعد أن وصف نفسه بكونه القهار، بين عجز المجرمين وذلتهم فقال :
﴿ وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد ﴾ وهي صورة عن مَشاهدِ يوم القيامة فيها منظرٌ واقعي للمجرمين كأنك تراه، وهم يخبُّون في قُيودِهم.
من قطران : نوع من الزيوت شديدة الاشتعال أسود اللون تدهن به الإبل عندما يصيبها الجرب.
تغشى وجوههم النار : تعلوها وتغطيها.
وهذا مشهد آخر لباسهم فيه من هذا الزيت القبيح، والنارُ تغشى وجوههم، وفي ذلك ما فيه من الذل والتحقير.
لقد فعل الله بهم ذلك ليؤديّ إلى كل نفس جزاءَها بما فعلت، إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، إن الله سريع الحساب يوم القيامة.
هذا القرآن بلاغ لجميع الناس، لنُصحِهم وإنذارِهم من عذاب الله، وليكون لديهم العلمُ الحقيقي أن الله إلهٌ واحد لا عِدة آلهة كما يقول المشركون، وليتذكَّر أولو العقول عظَمةَ ربهم، ويتَّعظوا فيبتعدوا عما فيه هلاكهم، ويرجعوا إلى ربهم في كل أحوالهم.