ﰡ
مَكِّيَّةٌ، إلا من قوِله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠)﴾، وآيُها: ثلاث وخمسونَ، وحروفُها ثلاثةُ آلافٍ وأربعُ مئةٍ وأربعة وثلاثون حرفًا، وكَلِمُها: ثمانُ مئةٍ وثلاثون كلمةً.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)﴾.[١] ﴿الر﴾ تقدَّمَ الكلامُ عليه، ومذاهبُ القراءِ فيه في أولِ سورة يونَس (١) ﴿كِتَابٌ﴾ رفعٌ على خبرِ ابتداءِ مضمرٍ تقديرُه: هذا كتابٌ.
﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ صفةٌ لكتاب ﴿إِلَيْكَ﴾ يا محمُد، وهو القرآنُ.
﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾ بالدعاءِ والإنذارِ، وعَمَّ الناسَ؛ إذ هو مبعوثٌ إلى جميعِ الخلقِ.
﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾ الكفرِ ﴿إِلَى النُّورِ﴾ الإيمانِ ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ أي: بتسهيلِه وتمكينِه لهم.
﴿الْحَمِيدِ﴾ المستحقِّ للحمدِ.
...
﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٢)﴾.
[٢] ﴿اللَّهِ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (الله) بالرفع على القطعِ على الابتداءِ، وخبرُه (الذي)، ويصحُّ رفعُه على تقديرِ: هو الله الذي، وافقَهم رويسٌ راوي يعقوبَ في الابتداءِ خاصة، وإذا وصلَ خَفَضَ، وقرأ الباقون: بالخفضِ في الحالين نعتًا للعزيزِ الحميدِ، وقال أبو عمروٍ: والخفض على التقديمِ والتأخيرِ، مجازُه: إلى صراطِ اللهِ العزيزِ الحميدِ (١).
﴿الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ﴾ أي: شِدَّةٌ وبلاءٌ ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ يلقونَهُ.
﴿مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ وعيدٌ لمن كفرَ ولم يخرجْ من الظلماتِ إلى النور.
...
﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٣)﴾.
[٣] ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ﴾ يؤثرون.
﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يمنعونَ الناسَ عن الإيمان ﴿وَيَبْغُونَهَا﴾ يطلبونَها؛ أي: سبيلَ اللهِ ﴿عِوَجًا﴾ زَيْغًا ومَيْلًا عن الحقِّ.
﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ ووصفُ الضلالِ بالبعدِ عبارةٌ عن تعمُّقِهم فيه، وصعوبةِ خروجهم.
...
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)﴾.
[٤] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ بلغتِهم؛ ليفهموا عنه، وقد بُعث النبيُّ - ﷺ - من العربِ بلسانِهم، والناسُ تبعٌ لهم، وبَعَثَ رسلَه منهم إلى الأطرافِ يترجمون لكلِّ قومٍ بلغتِهم.
﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ ما أُمروا به، فتلزمُهم الحجةُ ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ بالخذلانِ ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ بالتوفيقِ.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ فلا يُغْلَبُ على مشيئتهِ.
﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يُضِلُّ ولا يَهْدي إلا بحكمةٍ.
...
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾.
[٥] ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾ وهي العصا، واليدُ، وسائرُ التسعِ.
﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ تقدَّمَ تفسيرُهما قريبًا.
﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ أي: وقائعِه في الأممِ الماضيةِ من الكفارِ، وأَنْعُمِهِ عليهم وعلى غيِرهم من أهلِ طاعتِه، وعَبَّرَ عن النعمِ والنقمِ بأيامِ؛ إذْ هي في أيام.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾ على البلاءِ.
﴿شَكُورٍ﴾ للنعماءِ، وفيه تنبيهٌ على أَن الصبرَ والشكرَ عنوانُ المؤمنِ.
...
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ﴾ يُذيقونَكُم ﴿سُوءَ الْعَذَابِ﴾ أشدَّهُ وأسوأَهُ.
﴿وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ وقال هنا (يَذُبِّحُونَ)، وفي البقرةِ بغيرِ واو؛ فحيثُ طرحَ الواوَ، فَسَّرَ العذابَ بالتذبيحِ، وحيثُ أثبَتها، جعلَ التذبيحَ جنسًا مستقلًا بنفسِه، فعطفه على العذابِ يوضِّحُه.
﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ يتركوهن أحياءً.
﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ البلاءُ في هذهِ الآيةِ يحتملُ أن يريدَ به المحنةَ، ويحتملُ أن يريدَ به الاختبارَ، والمعنى متقاربٌ.
[٧] ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ﴾ أي: أعلمَ ﴿رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ﴾ يا بني إسرائيل نِعَمي، ووَحَّدْتُموني ﴿لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ هو من فَضْلي وثَوابي.
﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ﴾ إحساني إليكم ﴿إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ فَلَعَلِّي أُعَذِّبُكم على الكفرِ عذابًا شديدًا، ومن عادةِ أكرمِ الأكرمينَ أن يصرِّحَ بالوعدِ، ويُعرِّضَ بالوعيدِ.
...
﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)﴾.
[٨] ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ من الثقلينِ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ﴾ عن خلقِه ﴿حَمِيدٌ﴾ يستوجبُ المحامدَ كلَّها، دائمٌ في ذلكَ في ذاتِه وهذا القولُ يتضمَّنُ عظمتَه تعالى، وتحقيرَهم وتوبيخَهم.
...
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)﴾.
[٩] ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ من كلامِ
﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالدلالاتِ الواضحات. قرأ أبو عمروٍ: (رُسْلُهُمْ) (لِرُسْلِهِمْ) وشبهَه بإسكانِ السين، والباقون: بضمها (٣).
﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾ عَضُّوا أناملَهم غيظًا على الرسلِ.
﴿وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ على زعْمِكم.
﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ﴾ من الإيمان ﴿مُرِيبٍ﴾ موجبٍ الريبةَ.
...
﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ هذا استفهامٌ بمعنى نفيِ
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٥٤٧).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٥)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٦٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٣٠ - ٢٣١).
﴿فَاطِرِ﴾ أي: خالقِ ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ﴾ إلى الإيمانِ والتوبةِ ﴿لِيَغْفِرَ لَكُمْ﴾ شيئًا ﴿مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ وهو ما بينَكُم وبينَه تعالى؛ فإنَّ الإسلامَ يَجبُّهُ دونَ المظالمِ.
﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وورشٌ عن نافعٍ: (ويُوَخِّرَكُمْ) وشبهَه بفتحِ الواوِ بغير همزٍ، والباقونَ: بالهمز (١).
﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وهو الموتُ، فلا يعاجلُكم بالعذابِ والهلاكِ ﴿قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ لا فضلَ لكم علينا، وإنما.
﴿تُرِيدُونَ﴾ بقولكم ﴿أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ﴾ برهانٍ ﴿مُبِينٍ﴾ ظاهرٍ على صدقِكم.
...
﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)﴾.
[١١] فَثَمَّ ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ﴾ معترفةً بالبشريةِ.
﴿وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي: ليسَ في استطاعتِنا أن نأتيَ بما اقْتَرحْتُموه، وإنما هو أمرٌ متعلِّقٌ بمشيئةِ الله تعالى، فيخُصُّ كلَّ نبىِّ بنوعٍ من الآياتِ.
﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ واللامُ في قوله (فَلْيَتَوكَّلِ) لاُم الأمرِ، وسُكِّنَتْ طلبا للتخفيف، ولِكثرةِ استعمالِها، وللفرقِ بينها وبين لامِ (كَيْ) التي أُلزمَتِ الحركةَ إجماعًا.
...
﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ﴾ المعنى: وأيُّ عذرٍ لنا في تركِ التوكل.
﴿عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ بَيَّنَ لنا طرقَ النجاة. قرأ أبو عمرٍو: (سُبْلَنَا) بإسكانِ الباءِ، والباقون: بضمها (١). ثم أقسموا أن يقعَ منهم الصبرُ على الأذيَّةِ في ذاتِ الله فقالوا:
﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا﴾ في أبدانِنا وأعراضِنا.
﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ لِيَثبُتَ الثابتونَ.
[١٣] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ﴾ لَتَصِيرُنَّ.
﴿فِي مِلَّتِنَا﴾ حَلَفوا على أن يكونَ أحدُ الأمرين، وليسَ المرادُ الرجوعَ، لأنهم لم يكونوا في مِلَّتهم قَطُّ، وإنما هو بمعنى الصيرورة.
﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ﴾ أي: إلى رسلهِم: ﴿لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾.
...
﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ﴾ أي: أرضَهم.
﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ من بعدِ هلاكِهم ﴿ذَلِكَ﴾ أي: الإسكانُ.
﴿لِمَنْ خَافَ مَقَامِي﴾ أي: موقفَ الحسابِ.
﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾ بالعذابِ. قرأ ورشٌ عن نافعٍ (وَعِيديِ) بإثباتِ الياءِ وصلًا، ويعقوبُ: بإثباتها في الحالين، وحذفَها الباقونَ فيهما (١).
...
[١٥] ﴿وَاسْتَفْتَحُوا﴾ أي: سأل الأنبياءُ النصرَ ﴿وَخَابَ﴾ خسرَ.
﴿كُلُّ جَبَّارٍ﴾ الذي يجبرُ الخلق على مرادِه ﴿عَنِيدٍ﴾ معاندٍ للحق. قرأ حمزةُ: (خَافَ) و (خَابَ) بالإمالةِ (١).
...
﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿مِنْ وَرَائِهِ﴾ أي: أمامِه ﴿جَهَنَّمُ﴾ يُلْقى فيها.
﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾ هو ما يسيلُ من جلودِ أهلِ النارِ من القيحِ والدَّمِ.
...
﴿يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ يَتكَلَّفُ جَرْعَهُ.
﴿وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ أي: يُجَوِّزُه حَلْقَهُ.
﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ أي: كأن أسبابَ الموتِ أحاطَتْ به من جميعِ جهاتِه.
﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ فيستريح.
﴿عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ وهو الخلودُ في النار.
...
﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿مَثَلُ﴾ أي: صفةُ.
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ﴾ التقديرُ: مثلُ أعمالِ الذين كفروا.
﴿كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ﴾ أي: قَوِيَتْ عليه ففرَّقَتْهُ.
﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ ريحُهُ، فحُذِفَتِ الريحُ، ووُصِفَ اليومُ بالعصوفِ مجازًا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (الرِّيَاحُ) على الجمع، والباقون: بالإفراد (١). وهذا مثلٌ ضربَهُ اللهُ لأعمالِ الكفارِ، يريدُ أنهم لا ينتفعون بأعمالِهم التي عملوها في الدنيا؛ من الصدقةِ، وصلةِ الرحمِ، وإغاثةِ الملهوفِ، لأنهم أشركوا فيها غيرَ الله، فهي كالرمادِ الذي ذرتْهُ الريحُ، لا ينتفعُ به، فذلك قوله:
﴿لَا يَقْدِرُونَ﴾ في الآخرةِ ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ في الدنيا ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾ أي: لا ينتفعون ثَمَّ بما صنعوا هنا.
﴿ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾ الذي لا تُدْركُ غايتُه فَيُرجَى الخلوصُ منه.
[١٩] ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ خطابٌ للنبيِّ - ﷺ -، والمرادُ به أُمَّتُهُ.
﴿أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (خَالِقُ) بألفٍ وكسرِ اللام ورفعِ القافِ على وزن فاعِل، وجَرِّ ما بعدَهُ إِضافةً، وقرأ الباقون: (خَلَقَ) بفتح اللام والقافِ بغيرِ ألفٍ على وزن فَعَلَ، ونصبِ ما بعدَه، إلا أن التاء من السمواتِ تكسر لأنها تاءُ جمع المؤنث (١).
﴿بِالْحَقِّ﴾ لم يخلْقهُنَّ عبثًا سبحانَهُ ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ يُعْدِمْكُم.
﴿وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ يخلقُه مكانَكم أطوعَ له منكم.
...
﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ ممتنعٍ، بل هو سهلٌ يسيرٌ.
...
{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ
[٢١] ﴿وَبَرَزُوا﴾ أي: ويبرزُ الكفارُ من قبورِهم.
﴿لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ أي: لحسابِه.
﴿فَقَالَ﴾ أي: فيقولُ ﴿الضُّعَفَاءُ﴾ هم الأتباعُ ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ عن الإيمانِ، وهم المتبوعون: ﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا﴾ جمعُ تابعٍ، وهو المستَنُّ بآثارِ مَنْ يتبعُه.
﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ﴾ دافعونَ.
﴿عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي: هل أنتم مُغْنونَ عنا بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذابِ اللهِ، فَثَمَّ.
﴿قَالُوا﴾ يعني: القادةَ المتبوعين.
﴿لَوْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ إلى الإيمان ﴿لَهَدَيْنَاكُمْ﴾ إليه.
﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا﴾ الألفُ للتسويةِ، وليستْ بألفِ استفهامٍ، بل هي كقولِه: (أَأَنْذَرْتُهُمْ أَمْ لَمْ تنذِرْهُمْ)، المعنى: مستوٍ علينا الجزعُ والصبرُ ﴿مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ مخلصٍ.
...
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٢)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ الذي لا ريبَ فيه، وهو البعثُ والحسابُ، والجنةُ والنارُ، فوفى لكم به.
﴿وَوَعَدْتُكُمْ﴾ وعدَ الباطلِ، وهو أنْ لا بعثَ ولا حسابَ، ولا جنةَ ولا نارَ.
﴿فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ كَذَبْتكم.
﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ تسلُّطٍ أُلْجِئكُم به إلى الكفرِ. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (لِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١) ﴿إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ﴾ إلَّا دعائي إياكُم، وهو استثناءٌ منقطعٌ، تقديره: لكنْ دعوتُكم.
﴿فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ أسرعْتُم إجابتي.
﴿فَلَا تَلُومُونِي﴾ بوسوستي.
﴿وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ حيثُ أطعتموني، ولم تُطيعوا رَبَّكم.
﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ﴾ بمغيثِكم.
﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ قراءة العامةِ: (بِمُصْرِخِيَّ) بفتحِ الياء، وقرأ حمزةُ: بكسرِها، قالَ ابنُ الجزريِّ: وهو لغةُ بني يربوعٍ، نصَّ على ذلك
﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: بإشراكِكم إيايَ في الدنيا معَ اللهِ في الطاعة؛ أي: تبرأْتُ منهُ واستنكرتُه. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (أَشْرَكْتُمُوني) بإثباتِ الياءِ وَصْلًا، ويعقوبُ: بإثباتِها في الحالينِ، وحَذَفَها الباقون فيهما.
﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ تتمةُ كلامِ الخبيثِ.
...
﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي:
﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ المعنى: أدخلَتْهم الملائكةُ الجنةَ بأمرِ الله تعالى.
﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ أي: يسلِّمُ بعضُهم على بعض، ويسلِّمُ الملائكةُ عليهم.
...
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ هو ألم تعلَمْ.
﴿كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ هي كلمةُ التوحيدِ.
﴿كَشَجَرَةٍ﴾ أي: كثمرةِ شجرةٍ ﴿طَيِّبَةٍ﴾ هي النخلةُ.
﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ متمكِّنٌ في الأرضِ ﴿وَفَرْعُهَا﴾ أغصانُها مرتفعةٌ.
﴿فِي السَّمَاءِ﴾ أي: نحوَ السماءِ، كذلك أصلُ هذهِ الكلمةِ راسخٌ في قلبِ المؤمنِ بالمعرفةِ والتصديقِ، فإذا تكلَّمَ بها، صَعِدَتْ نحوَ السماءِ كصعودِ هذهِ الشجرة.
...
﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا﴾ تُعطي جَناها. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو:
﴿كُلَّ حِينٍ﴾ أَقَّتَهُ اللهُ لإثمارِها، والحينُ في اللغةِ: الوقتُ، واختلفوا في معناهُ هنا، فقيل: هو سنةٌ؛ لأنَّ النخلةَ تحملُ كلَّ سنةٍ مرةً، وقيلَ: ستةُ أشهرٍ؛ لأن ذلكَ مدةُ إطلاعِها إلى وقتِ صِرامِها.
﴿بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ بإرادةِ خالقِها، كذلكَ عملُ المؤمنِ يصعدُ كلَّ وقتٍ، وشُبِّهَ الإيمانُ بالشجرةِ؛ لأنَّ الشجرةَ لا بدَّ لها من أصلٍ ثابتٍ، وفرعٍ قائمٍ، ورأسٍ عالٍ، كذلكَ الإيمانُ لا بدَّ له من تصديقٍ بالقلبِ، وقولٍ باللسانِ، وعملٍ بالأبدانِ.
﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ بضربِ الأمثالِ؛ لأن فيها زيادةَ إفهامٍ لذوي العقولِ والأفهامِ.
...
﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ هي كلمةُ الشِّرْكِ.
﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ هي الحَنْظَلُ. قرأ الكسائيُّ: (خَبِيثَةٍ) بإمالةِ التاءِ حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيثِ.
﴿اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ﴾ اسْتُؤْصِلَت قَلْعًا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ
﴿مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ استقرارٍ.
...
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ هو قولُ: لا إلهَ إلا اللهُ ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قبلَ الموتِ ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾ يعني: في القبرِ، وردَ في الحديثِ: "إِنَّ الرُّوحَ تَعُودُ إِلَى الْمَيِّتِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فِي قَبْرِهِ، فَيَقُولاَنِ: مَا رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَدِينيَ الإِسْلاَمُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّد، فَيَنْتَهِرَانِهِ الثَّانِيَةَ وَيَقُولاَنِ: مَا رَبَّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ وَهِيَ آخِرُ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ، فَيَقُولُ: اللهُ رَبِّي، وَمُحَمَّد نَبِيِّي، وَالإِسْلاَمُ دِيِني، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ قَدْ صدَقَ عَبْدِي"، وذلكَ قولُه: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ الآية (٢)، وكانَ - ﷺ - إذا فرغَ من دفنِ الميتِ، وقفَ عليهِ وقالَ: "اسْتَغْفِرُوا لِأخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التَّثْبيتَ؛ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ" (٣).
(٢) رواه البخاري (١٣٠٣)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في عذاب القبر، ومسلم (٢٨٧١)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- نحوه.
(٣) رواه أبو داود (٣٢٢١)، كتاب: الجنائز، باب: الاستغفار عند القبر للميت في =
﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ من توفيقٍ وخذلانٍ وغيرِهما، لا اعتراضَ عليه.
...
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ أي: شكرَ نعمتِه عليهم في محمدٍ - ﷺ -.
﴿كُفْرًا﴾ كفروا به. واختلافُ القراء في الهمزتينِ من (يَشَاءُ أَلَمْ) كاختلافِهم فيهما من (السُّفَهاءُ أَلاَ) في سورة البقرة [الآية: ١٣]، و (نِعْمَت) رُسِمَتْ بالتاءِ في أحدَ عشرَ موضعًا، وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ، ويعقوبُ (١).
﴿وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ﴾ الذينَ شايعَوهم في الكفرِ.
﴿دَارَ الْبَوَارِ﴾ الهلاكِ. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، وورشٌ عن نافعٍ، والدوريُّ عن الكسائيِّ، وابنُ ذكوانَ عنِ ابنِ عامرٍ: (البَوَارِ) بالإمالةِ، واختلِفَ فيه عن حمزةَ، وابنِ ذكوانَ، فرُوي عن الأولِ الإمالةُ بينَ بينَ، وعنِ الثاني الإمالةُ والفتحُ، وقرأ الباقون: بالفتح (٢).
(١) انظر: الآية (٢٣٢) من سورة البقرة.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٥٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٧٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٣٦).
[٢٩] ثمَّ بَيَّنَ دارَ البوارِ فقالَ: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا﴾ يدخلونها، فَيُقاسونَ حَرَّها.
﴿وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ المستقرُّ.
...
﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ أمثالًا، وليسَ للهِ نِدٌّ.
﴿لِيُضِلُّوا﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (لِيَضِلُّوا) بفتحِ الياءِ على اللزومِ، واختلِفَ عن رويسٍ راوي يعقوبَ، وليسَ الضلالُ ولا الإضلالُ غرضهم في اتخاذِ الأنداد، لكنْ لما كانَ نتيجتَه، كانَ كالغرضِ، وقرأ الباقونَ: بالضمِّ؛ أي: لِيُضلوا هم الناسَ (١).
﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾ الذي هو التوحيدُ.
﴿قُلْ تَمَتَّعُوا﴾ في الدنيا بشهواتِكم ﴿فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾ وعيدٌ وتهديدٌ، كقوله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠].
...
[٣١] ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وروحٌ عن يعقوبَ: (لِعِبَادِي) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (١).
﴿يُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي: الصلواتِ الخمسَ.
﴿وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا﴾ صدقةَ التنفُّلِ.
﴿وَعَلَانِيَةً﴾ الزكاةَ المفروضةَ، ونصبُهما على المصدرِ؛ أي: إنفاقَ سرٍّ وعلانيةٍ، وقولُه: (يُقِيمُوا) قالتْ فرقةٌ من النحويينَ: جزمُه بإضمارِ لامِ الأمرِ، وقال فرقةٌ: وهو فعلٌ مضارعٌ يبنى لما كانَ في معنى فعلِ الأمرِ، لأنَّ المرادَ: أقيموا.
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ﴾ مُخَالَّةٌ؛ أي: مصادَقَةٌ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (لاَ بَيع)، (وَلا خِلاَلَ) بالفتحِ وعدمِ التنوينِ، والباقون: بالرفعِ والتنوينِ (٢).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٢)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٥٦٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٧٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٣٧).
[٣٢] ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ، خبرُه ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ تعيشون به، وهو يشملُ المطعومَ والملبوسَ.
﴿وَسَخَّرَ﴾ ذَلَّل ﴿لَكُمُ الْفُلْكَ﴾ السفنَ.
﴿لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ حيثُ توجَّهْتم.
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ﴾ لانتفاعِكم.
...
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ﴾ أي: مُتَّصِلَي السيرِ ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ يتعاقبان بالزيادةِ والنقصانِ، والإضاءةِ والإظلامِ، والحركةِ والسكون فيهما.
...
﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ﴾ أي: بعضِ جميعِ ﴿مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ فإنَّ الموجودَ من كل صنفٍ بعضُ ما في قدرةِ الله.
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ﴾ بالمعصيةِ ﴿كَفَّارٌ﴾ لِنِعَمِ ربِّهِ.
...
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿وَإِذْ قَالَ﴾ أي: واذكرْ إذْ قالَ ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾ قرأ هشامٌ عن ابنِ عامرِ (إبْرَاهَامَ) بالألف (١)، ومعنى إبراهيم بالسريانية: الأبُ الرحيمُ.
﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ﴾ مكةَ ﴿آمِنًا﴾ يُؤْمَنُ فيه، والفرقُ بينَه وبينَ قوله: ﴿اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ [البقرة: ١٢٦] أن المسؤولَ في الأولِ إزالةُ الخوفِ عنه، وتصييرهُ آمِنًا، وفي الثانيةِ جعلُه من البلادِ الآمنة.
﴿وَاجْنُبْنِي﴾ بَعِّذني.
﴿وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ جمعُ صَنَمٍ، وهو ما كانَ مُصَوَّرًا، والوثنُ ما كانَ غيرَ مصوَّرٍ.
...
﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦)﴾.
﴿فَمَنْ تَبِعَنِي﴾ على الإسلامِ ﴿فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ من أهلِ ديني.
﴿وَمَنْ عَصَانِي﴾ ولم يؤمنْ بي ﴿فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ بتوبتِكَ على الكفرةِ حتى يؤمنوا. قرأ الكسائيُّ (عَصانِي) بالإمالة (١).
...
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿رَبَّنَا إِنِّي﴾ قرأ نافعُ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، (إِنِّيَ) بفتحِ الياءِ، والباقون: بإسكانها (٢).
﴿أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ أي: بعضَ ذريتي، وهم إسماعيلُ ومَنْ وُلِدَ منه، وذلك أن إبراهيمَ عليه السلام لما سارَ إلى مصرَ، ومعه زوجتُه سارةُ، وهبهَا فرعونُ مصرَ هاجرَ، فلما قدمَ إلى الشام، وأقامَ بينَ الرملةِ وإيليا، وكانت سارةُ لا تحمل، فوهبَتْ هاجرَ لإبراهيمَ عليه السلام، فوقعَ عليها، فولدَتْ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٦٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٣٩).
﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ يعني: وادي مكةَ؛ لأنها حجريةٌ لا تنُبتُ ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ سماه محرَّمًا لأنه يحرم عندَهُ ما لا يحرُمُ عندَ غيرِه.
﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ واللامُ لامُ (كي)، وهي متعلقة بـ (أسكنتُ).
﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً﴾ أي: قلوبًا ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ قرأ هشامٌ عن ابنِ عامرٍ (أَفْئِيدَةً) بياءٍ بعدَ الهمزةِ (١)، و (مِنْ) للتبعيضِ؛ أي: أفئدةً من أفئدةِ الناسِ، قالَ مجاهدٌ: لوقالَ: (أَفْئِدَةَ النَّاسِ)، لزاحَمَتْهم فارسُ والرومُ والتركُ
﴿تَهْوِي﴾ تميلُ ﴿إِلَيْهِمْ﴾ وتقصدُهم بسرعة.
﴿وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ ما رزقْتَ سكانَ القرى ذواتِ الماءِ.
﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ تلكَ النعمةَ، فأجابَ اللهُ دعوتَهُ، وجعله حَرَمًا آمنًا يُجبى إليه ثمراتُ كلِّ شيءٍ.
ورُويَ أنَّ الطائفَ كانتْ من مدائنِ الشامِ بأُرْدُنّ، فلما دعا إبراهيمُ بهذا الدعاء، أمرَ اللهُ جبريلَ عليه السلام حتى قَلَعَها من أصلِها، فأدارَها حولَ البيتِ سَبْعًا، ووضعَها قريبَ مكةَ، وبهذهِ القصَّةِ سُمِّيَت الطائفَ، وهو موضعُ ثَقيف، ومنها أكثرُ ثمراتِ مكةَ.
وجعلَتْ أمُّ إسماعيلَ تُرضعه وتشربُ من ذلكَ الماءِ حتَّى إذا نَفِدَ ما في السقاءِ، وعطشَتْ، وعطشَ ابنُها، وجعلَتْ تنظرُ إليه يتلوَّى، فانطلقتْ كراهةَ أن تنظرَ إليه، فوجدتِ الصفا أقربَ جبلٍ في الأرض يَليها، فقامَتْ عليه، ثم استقبلتِ الواديَ تنظُر إليهِ هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطَتْ من الصفا، حتى إذا بلغتِ الواديَ رفعتْ طرفَ درعِها، ثم سَعَتْ سعيَ الإنسانِ المجهودِ حتَّى جاوزتِ الواديَ، ثم أَتَتِ المروةَ، فقامتْ عليها ونظرتْ هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، ففعلتْ ذلكَ سبعَ مراتٍ، قالَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنه: قالَ النبيُّ - ﷺ -: "فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا"، فلما أشرفتْ على المروةِ، سمعتْ صوتًا فقالت: مَهْ؛ تريدُ نفسَها، ثم تسمَّعَتْ،
قال: فشربتْ وأرضعتْ ولدَها، فقالَ لها الملَكُ: لا تخافي الضَّيْعَةَ؛ فإنَّ هاهنا بيتَ اللهِ عز وجل يَبْنيه هذا الغلامُ وأبوه، وإن اللهَ عز وجل لا يُضيِّعُ أهلَه، وكان البيتُ مرتفعًا من الأرضِ كالرابيةِ تأتيهِ السيولُ فتأخذُ عن يمينِه وشمالِه، فكانَ كذلكَ حتَّى مَرَّتْ بهم رُفْقَةٌ من جُرْهُم مُقبلينَ من طريقِ كُدَيٍّ، فنزلوا في أسفلِ مكةَ، فرأوا طائرًا عائِفًا، فقالوا: إن هذا الطائرَ لَيدورُ على ماءٍ، لَعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماءٌ، فأرسلوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا وأمُّ إسماعيلَ عندَ الماءِ، فقالوا: أتأذنينَ لنا أن ننزلَ عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حَقَّ لكم في الماء، قالوا: نعم، ورُوي أنهم قالوا: أَشْرِكينا في مائك نشرِككِ في ألبانِنا، ففعلتْ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كانَ بها أهلُ أبياتٍ منهم، وشبَّ إسماعيلُ عليه السلام وتعلَّمَ العربيةَ منهم، أعجَبَهم حينَ شَبَّ، فلما أدركَ زَوَّجوهُ امرأةً منهم، وماتتْ هاجرُ، وجاءَ إبراهيمُ عليه السلام مكةَ (١)، وتقدَّمَ ذكرُ قصتِه مستوفىً، وبناءُ الكعبةِ
...
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي﴾ من فراقِ إسماعيلَ وأُمِّهِ.
﴿وَمَا نُعْلِنُ﴾ نُظْهِرُ من التجلُّدِ لِسارةَ.
﴿وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ لأنه العالِمُ بعلمٍ ذاتِيٍّ تستوي نسبتُه إلى كلِّ معلومٍ، و (مِنْ) للاستغراق.
...
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي﴾ أَعْطاني.
﴿عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ وتقدَّمَ أن إسماعيلَ وُلِدَ لمضيِّ ستٍّ وثمانينَ سنةً من عمرِ أبيه، وأما إسحاقُ ولدَ لمضيِّ تسعينَ سنةً من عمرِ أبيه، وقيلَ غيرُ ذلك، وتقدَّم ذكرُ إسماعيلَ وإسحاقَ، ومقدارُ عمرِهما في سورةِ البقرة ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ لَمجيبُهُ.
...
﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ﴾ مُتَمِّمَها.
﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ وبعضِ؛ لأنه علمَ أنَّ من ذُرِّيته من لا يؤمنُ.
...
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ قيل: استغفرَ لهما وهما حَيَّانِ رجاءَ إسلامِهما، وقيلَ: إن أُمَّهُ أسلمَتْ، فأرادَ إسلامَ أبيه.
﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ﴾ أي: يَثْبُتُ ﴿الْحِسَابُ﴾.
...
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (٤٢)﴾.
[٤٢] ثم وعدَ المظلومَ وأوعدَ الظالم فقالَ: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ الخطابُ للنبيِّ - ﷺ -، والمرادُ بالنهيِ غيرُه ممَّنْ يليقُ به أن يحسبَ مثلَ هذا، والغفلةُ معنىً تمنعُ الإنسانَ منَ الوقوفِ على حقيقةِ الأمورِ، واستدلَّ بعضُهم على قيامِ الساعةِ بموتِ المظلومِ مظلومًا، ورُوي أنه وُجِدَ على جدارِ صَخْرَةِ بيتِ المقدسِ:
نَامَتْ عُيُونُكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ | يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لِمْ تنَمِ |
﴿لِيَوْمٍ تَشْخَصُ﴾ أي: لا تغمضُ.
﴿فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ من هولِ ما تراهُ من ذلكَ اليوم.
...
﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿مُهْطِعِينَ﴾ مسرعينَ في خوفٍ ﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾ أي: رافعِيها.
﴿لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ أي: لا تغمضُ عينُهم فهي شاخصةٌ.
﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ أي: صِفْرٌ من الخير، لا تعي شيئًا؛ لخوفِها، ويقالُ لكلِّ أجوفٍ خالٍ: هواءٌ، فكأنه سُمِّي بذلكَ لحلولِ الهواءِ فيه.
...
﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ﴾ يا محمدُ ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾ وهو يومُ القيامةِ.
﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أشركوا.
﴿نُجِبْ دَعْوَتَكَ﴾ إلى التوحيدِ.
﴿وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ فيما جاؤونا به، فيجابون توبيخًا على إنكارِهم البعثَ:
﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ﴾ حلفتُم ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ في الدنيا.
﴿مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾ عنها؟!
...
﴿وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَسَكَنْتُمْ﴾ قُرِّرْتُمْ ﴿فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ كقومِ نوحٍ وعادٍ ﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ عَرَفْتُم عقوبتَنا إياهم ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾ من أحوالِهم؛ أي: بَيَّنَّا لكم أنكم مثلُهم في الكفرِ واستحقاقِ العذابِ.
...
﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾ وهو تكذيبُ الرسل.
﴿وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ أي: محفوظٌ عندَهُ يجازيهم عليه.
﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ﴾ أي: قريشٍ ومتقدمي الكفارِ.
﴿لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ قراءة العامة: (لِتَزُولَ) بكسرِ اللامِ الأولى وفتح
وروي أن الآيةَ نزلَتْ في نمرود الجبارِ الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه، قال النمرودُ: إنْ كانَ ما يقولُ إبراهيمُ حقًّا، فلا أنتهي حتى أعلمَ ما في السمواتِ، فبنى صرحًا عظيمًا ببابلَ، ورامَ الصعودَ إلى السماءِ ينظرُ إلى إله إبراهيمَ، واختلِفَ في طولِ الصَّرحِ في السماء، فقيل: خمسةُ آلافِ ذراعٍ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ، ووَهْبٍ، وقيل: فرسخانِ، وهو قولُ كعبٍ، ومقاتلٍ، ثم عمدَ إلى أربعةِ أفراخٍ من النسورِ، وأطعمَها اللحمَ والخبزَ حتى كبَرتْ، ثم قعدَ في تابوتٍ ومعه غلامٌ له، وقد حملَ القوسَ والنشَّابَ، وجعلَ لذلكَ التابوتِ بابًا من أعلاه، وبابًا من أسفلِه، ثم ربطَ التابوتَ بأرجلِ النسورِ، وعلَّق اللحمَ على عصًا فوقَ التابوتِ، ثم خَلَّى عن النسورِ فَطِرْنَ طمَعًا في اللحمِ حتى أَبْعَدْنَ في الهواءِ، وحالتِ الريحُ بينَها وبينَ الطيرانِ، وقالَ لغلامه: افتحِ البابَ الأعلى فانظرْ ففتحَ، فإذا السماءُ كهيئتِها، وفتحَ البابَ الأسفلَ فإذا الأرضُ سوداءُ مظلمةٌ، ونودي: أيها الطاغي! أين تريد؟! فأمرَ عند ذلكَ غلامَه فرمى بسهمٍ، فعادَ إليه السهمُ متلطِّخًا بالدم، فقال: كُفِيتُ شُغْلَ إلهِ السماءِ، واختلِفَ في ذلكَ السهمِ بأيِّ شيءٍ تَلَطَّخَ؟ فقيل: من سمكةٍ في السماءِ، من بحرٍ معلَّقٍ في الهواء، وقيل: أصابَ طيرًا من الطيورِ فتلطخ بدمِه، ثم أمرَ نمرودُ غلامَه أن يضربَ العصا، وينكسَ اللحمَ، ففعل
...
﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ تقديُره: فلا تحسبنَّ اللهَ مخلِفَ رسلِه وعدَهُ من النصرِ لأوليائِه، وهلاكِ أعدائِه، وهذا تثبيتٌ للنبيِّ - ﷺ - ولغيرِه من أُمَّتهِ، المعنى: لا تحسَبْ يا محمدُ أنتَ ومن اعتبرَ بالأمرِ من أمتكَ أنَّ اللهَ لا ينجِزُ ميعادَه في نصرةِ رسلهِ ومعاقبةِ مَنْ كفرَ بهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ غالبٌ لا يُدَافَعُ.
﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾ من الكَفَرَةِ، لا سبيلَ إلى عفوِه عنهم.
...
[٤٨] ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ﴾ أي: تبدَّلُ أوصافُها بتغيرِ آكامِها وآجامِها وأشجارِها ﴿وَالسَّمَاوَاتُ﴾ أيضًا تبُدَّلُ بزوالِ شمسِها وقمرِها، وكونِها مرةً كالدِّهانِ، ومرةً كالمُهْلِ.
﴿وَبَرَزُوا﴾ خرجوا من قبورِهم ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ أي: لحسابه. قرأ أبو عمرٍو، وورشٌ عن نافعٍ، والدوريُّ عن الكسائي: (القَهَّارِ) بالإمالةِ حيثُ وقعَ، واختلِفَ عن حمزةَ وابنِ ذكوانَ (١).
...
﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ﴾ أي: مقرونينَ مع شياطينِهم.
﴿فِي الْأَصْفَادِ﴾ القيودِ، واحِدُه صَفَدٌ.
...
﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿سَرَابِيلُهُمْ﴾ قُمُصُهُمْ.
﴿مِنْ قَطِرَانٍ﴾ وهو عصارةُ شجرٍ تسمَّى الأَبْهُلَ يُستخرَجُ بالنارِ، وهو كريهُ اللونِ والطعمِ والرائحةِ، سريعُ الالتهابِ، تُطْلَى به الإبلُ الجَرْبى، فيحرقُ الجربَ والجلدَ، تُطلى به جلودُ الكفارِ فيصيرُ قُمُصًا لهم، فيضطرِمُ عليهم
﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ﴾ أي: تُغَطِّيها.
﴿النَّارُ﴾ لأنهم لم يتوجَّهوا بها إلى الحقِّ.
...
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ من خيرٍ وشرٍّ، تلخيصُه: برزوا للجزاءِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ أي: فاصلُه بينَ خلقِه بالإحاطةِ التي له بدقيقِ أمورِهم وجليلِها.
...
﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿هَذَا﴾ أي: القرآنُ ﴿بَلَاغٌ لِلنَّاسِ﴾ كفايةٌ لهم ﴿وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٤٤).
﴿أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ لا شريكَ له ﴿وَلِيَذَّكَّرَ﴾ ليتَّعِظَ ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ذَوو العقولِ.
روي أن قولَه: ﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ نزلت في أبي بكرٍ الصديقِ رضي الله عنه (١)، واللهُ أعلمُ.
...