أخبرنا أبو الحسين بن علي بن محممد بن الحسن المقري غير مرة قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا : أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، أحمد بن يونس اليربوعي عن سلام بن سليم المدائني، عن عمرو بن كثير عن يزيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أبي بن كعب، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة إبراهيم والحجر أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها ).
ﰡ
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
الر ابتدأ كِتابٌ خبره وإن قلت هذا كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يا محمد يعني القرآن لِتُخْرِجَ النَّاسَ لتدعوهم [إليه] «١» مِنَ الظُّلُماتِ الضلالة والجهالة إِلَى النُّورِ العلم والإيمان بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتوفيق ربهم إياهم ولطفه بهم «٢» إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
قرأ أهل المدينة والشام: اللَّهُ، برفع الهاء على الاستئناف وخبره: «الَّذِي» وقرأ الآخرون:
بالخفض نعتا ل الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
وقال أبو عمر: بالخفض على التقديم والتأخير، مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد الله الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. كقول القائل مررت بالظريف عبد الله
لو كنت ذا نبل وذا شريب | ما خفت شدات الخبيث الذيب «٣» |
والعوج بفتح العين في كل ما كان قائما كالحائط والرمح ونحوهما أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ بلغتهم ليفهموا لبنية، بيانه قوله لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بالدعوة وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ.
قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة: بنعم الله.
قال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة وما كان في أيام الله الخالية من النقمة والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه لأنها كانت معلومة عندهم.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
(٢) تفسير الطبري: ١٣/ ٢٣٤.
(٣) تفسير الطبري: ١٣/ ٢٣٥.
(٤) راجع تفسير القرطبي: ٩/ ٣٣٩.
قال الفراء: العلّة الجالبة لهذه الواو إن الله تعالى أخبرهم إن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير الذبح والتذبيح وإن طرح الواو في قوله وَيُذَبِّحُونَ ويقتلون فإنه أراد تفسير صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يتركونهن حبالى لأنفسهنّ ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم»
[١٥٧] «١» أي دعوا شبانهم أحياء وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ أي أعلم ودليله قراءة عبد الله بن مسعود وإذ قال ربكم به وأذن ويأذن بمعنى واحد مثل أوعد وتوعد.
لَئِنْ شَكَرْتُمْ نعمتي وآمنتم وأطعتم لَأَزِيدَنَّكُمْ في النعمة قال ابن عيينة: الشكر بقاء النعمة ومن الزيادة ومرضاة المؤمن، وقيل الشكر قيد للموجود وقيد للمفقود.
وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ نعمتي فصددتموها ولم تشكروها.
إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ إلى قوله فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن خلقه حَمِيدٌ محمود في أفعاله لأنه فيها سيفصل أو يعدل.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٩ الى ١٧]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
وكان ابن مسعود يقرأها: وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ثم يقول كذب النسابون جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ.
قال ابن مسعود: يعني عضوا على أيديهم غيظا.
قال ابن زيد وقرأ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ «١».
ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا فرجعوا بأيديهم إلى أفواههم.
مجاهد وقتادة: كذبوا الرسل وردّوا ما حلوا به.
الأخفش وأبو عبيدة: أي تركوا ما أمروا به وكفوا عنه ولم يمضوه ولم يؤمنوا.
تقول العرب للرجل إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وسكت: قد ردّ يده في فيه.
قال القيسي: إنا لم نسمع واحدا من العرب يقول ردّ يده في فيه إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى إنهم عضوا على الأيدي حيفا وغيظا.
كقول الشاعر:
تردون في فيه غش الحسود «٢»
يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أنامله العشر وقال الهذلي:
قد أفنى أنامله أزمة | فأضحى يعض على الوظيفا «٣» |
وأنشد
لو أن سلمى أبصرت تخددي | ودقة في عظم ساقي ويدي |
وبعد أهلي وجفاء عودي | عضت من الوجد بأطراف اليد «٥» |
(٢) تفسير القرطبي: ٩/. [.....]
(٣) لسان العرب: ١٥/ ٤٢٤.
(٤) سورة آل عمران: ١١٩.
(٥) لسان العرب: ١٤/ ٣٤٨، ومعاني القرآن للنحاس: ٣/ ٥٣٠.
مقاتل: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ على أفواه الرسل حين يسكتونهم بذلك وَقالُوا يعني الأمم للرسل، إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ موجب الريبة موقع للتهمة قالَتْ رُسُلُهُمْ إلى قوله تعالى مِنْ ذُنُوبِكُمْ من تعجله وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني الموت فلا يعاجلكم بالعذاب والعقاب قالُوا الرسل إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا في الصورة والهيئة ولستم بملائكة وإنما يريدون بقولكم أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بينة على صحة دعواكم، والسلطان في القرآن على وجهين وجه ملائكة ووجه بينة كقوله وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «١» وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ «٢» فصحة قوله إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «٣» بهذا وقوله: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «٤».
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوة والحكمة إلى قوله وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا بيّن لنا الرشد وبصرنا طريق النجاة، وَلَنَصْبِرَنَّ اللام للقسم مجازه لنصبرن عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله تعالى فِي مِلَّتِنا يعنون الآن ترجعوا وحتى ترجعوا إلى ديننا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هلاكهم ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أي مقامه وقيامه بين يدي، فأضاف قيام العبد إلى نفسه، كما يقول يذهب على ضربك أي ضربي إياك، وسوف رويتكك أي برويتي إياك. قال الله وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «٥» أي رزقي إليكم فإن شئت قلت ذلك لمن يخاف قيامي عليه ومراقبتي له، مثاله قوله أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «٦».
وقال الأخفش: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أي عذابي.
وَخافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُوا واستنصروا الله عليها «٧».
قال ابن عباس ومقاتل: يعني الأمم، وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل
(٢) سورة سبأ: ٢١.
(٣) سورة يونس: ٦٨.
(٤) سورة إبراهيم: ١٠.
(٥) سورة الواقعة: ٨٢.
(٦) سورة الرعد: ٣٣.
(٧) تفسير الطبري: ١٣/ ٢٥٣.
وقال مجاهد وقتادة: يعني الرسل وذلك أنهم لما تبينوا من إيمان قومهم استنصروا عدوّهم ودعوا على قومهم بالعذاب.
بيانه قوله تعالى في قصة نوح ولوط وموسى وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.
مجاهد: معاند للحق ويجانبه.
وقال إبراهيم: الناكب عن الحق.
ابن عباس: المعرض.
وقتادة: العنيد الذي لا يقول لا إله إلّا الله.
مقاتل: المستكبر.
ابن كيسان: الشامخ بالحق.
ابن زيد: المخالف للحق.
والعرب تقول: شر الإبل العنيد الذي يخرج من الطريق خيره، المريد العاصي، ويقال عند العرب إذا لم يرقا دمه «٣».
وقال أهل المعاني: المعاند والعنيد هو المعارض لك بالخلاف وأصله من العند وهو الناحية.
قال الشاعر:
إذا نزلت فاجعلوني وسطا | إني كبير لا أطيق العندا «٤» |
قال الشاعر:
(٢) سورة الأنفال: ٣٢.
(٣) كذا في المخطوط.
(٤) تاج العروس: ١/ ١٠٨. [.....]
(٥) سورة الكهف: ٧٩.
أتوعدني وراء بني رياح | كذبت لتقصرن يداك دوني «١» |
أبو عبيدة: من الأضداد.
وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الآخر من ورائك أي سوف يأتيك وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه «٢».
وقال الشاعر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه | يكون وراءه فرج قريب «٣» |
مقاتل: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ يعني بعده.
وكان أستاذنا أبو القاسم الحبيبي يقول: الأصل في هذا أنّ كل ما ورائي عندك شيء من خلفك وقدام فهو [....] «٤»، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ ثم بين ذلك لنا فقال صَدِيدٍ وهو القيح والدم.
قتادة: هو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه.
محمد بن كعب والربيع بن أنس: هو غسالة أهل النار وذلك ما يسيل من ابن الزنا يسقى الكافر يَتَجَرَّعُهُ يتحساه ويشربه ويجرع لا بمرة واحدة لمرارته وحرارته وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ لا يكاد أستقبله مجازه ولا يستسيغه كقوله لَمْ يَكَدْ يَراها «٥» أي لم يرها.
قال ابن عباس: لم يحبوه، وقيل لا يحبّونه.
وروى أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية يعطى إليه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه فقطع أمعاءه وحتى يخرج من دبره.
يقول الله وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ «٦» وقال يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ «٧» وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من أعضائه فيجد ألم الموت وسقمه.
(٢) راجع تفسير القرطبي: ٩/ ٣٥٠. ٣٥١.
(٣) المعني: ١/ ١٥٢.
(٤) كلمة غير مقروءة.
(٥) سورة النور: ٤٠.
(٦) سورة محمد: ١٥.
(٧) سورة الكهف: ٢٩.
الضحاك: حتى من إبهام رجله.
الأخفش: يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سمّاها موتا.
وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ولا يخرج نفسه فيستريح.
وقال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا يرجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة، نظيره قوله لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى «١» وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ شديد.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٨ الى ٢٧]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ «٢» اختلفت النحاة في رفع مثل، قال الفراء: أضاف المثل إلى الكافرين والمثل للأعمال لأن العرب تقدم الأسماء لأنها أعرف ثم تأتي بالخبر الذي يخبر عنه مع صاحبه، ومجاز الآية مثل الذين كفروا بربهم كَرَمادٍ، قوله: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ «٣» أي أحسن خلق كل شيء وقوله
(٢) سورة إبراهيم: ١٨.
(٣) سورة السجدة: ٧.
أعمالهم كَرَمادٍ وإن شئت جعلت المثل صفة فقلت الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ وصف اليوم بالعصوف وهو من صفة الريح لأن الريح تكون فيه كما يقال يوم بارد وحار لأن البرد والحر يكونان فيه، وليل نائم ونهار صائم. قال الله وَالنَّهارَ مُبْصِراً «٢» ويدلّ عليه الليل والنهار.
قال الشاعر:
يومين غيمين ويوما شمسا «٣»
وقال الفراء: إن شئت قلت: في يوم في عصوف وإن شئت قلت: في يوم عاصف الريح، تحذف الريح لأنها قد ذكرت قبل ذلك.
كقول الشاعر:
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف «٤»
أراد كاسف الشمس.
وقيل هو من نعت الريح غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل (حجر ضب خرب) ونحوه، وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكافر يعني هم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها كما أنّ الرماد الذي فرّقه الريح لا ينتفع به. فذلك قوله لا يَقْدِرُونَ يعني الكفار مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا عَلى شَيْءٍ في الآخرة ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
قرأ أهل الكوفة إلّا عامر: خالق السماوات والأرض على التعظيم «٥».
وقرأ الآخرون: خَلَقَ السَّماواتِ على الفصل بِالْحَقِّ قال المفسرون: لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمر عظيم.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يبدلكم أحسن وأفضل وأطوع منكم، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ منيع متعذر وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً خرجوا من قبورهم وظهروا لله جميعا،
(٢) سورة يونس: ٦٧.
(٣) جامع البيان للطبري: ١٣/ ٢٥٨. [.....]
(٤) لسان العرب: ٩/ ٢٤٨، جامع البيان للطبري: ١٣/ ٢٥٨.
(٥) على وزرن: فاعل، راجع تفسير الطبري: ١٣/ ٢٦٠.
فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي هل أنتم ودافعون عذاب الله عنا، قال المتبوعين قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ إلى قوله مِنْ مَحِيصٍ مهرب ولا منجى، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر وبمعنى الإسم.
يقال حاص فلان عن كذا أي فرّ وزاغ عنه يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا.
قال مقاتل: إنهم يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع.
يقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فحينئذ يقولون سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ يعني إبليس لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من الأمر فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
قال مقاتل: يوضع له منبر من نار فيرقاه ويجتمع الكفار عليه بالأئمة إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ يوفى لكم وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ولاية ومملكة وحجة وبصيرة إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ هذا من الاستثناء المنقطع مجازه لمن يدعونكم فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان وغير برهان ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ بمعينكم وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ بمغنيّ وبمغيثي.
قرأه العامة: بِمُصْرِخِيَّ بفتح الياء.
وقرأ الأعمش وحمزة: بكسر الياء، والأصل فيه بمصرخيين فذهبت النون لأجل الإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، فمن نصب فلأجل التضعيف ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر لأن الياء أخت الكسرة «٢» إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ به مِنْ قَبْلُ أي لا يمكن أن أكون شريكا لله فيما أشركتموني به من طاعتكم إياي واستهزأت من ذلك إِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين الواضعين للعباد الطاعة في غير موضعها لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
روى عتبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة قال: يقول عيسى (عليه السلام) :
ذلكم النبي الأمي فيأتونني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي فيشفّعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي.
ثم يقول الكفار: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو غير
(٢) تفسير القرطبي: ٩/ ٣٥٧.
... وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله فِيها سَلامٌ يسلم الله ويسلم الملائكة عليهم أَلَمْ تَرَ يا محمد يعني فإن الله يعلم بإعلامي إياك كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً يعني ما بين الله شبهها كلمة طيبة شهادة أن لا إله إلّا الله كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهي النخلة يدل عليه
حديث عتيب الحجاب قال: كان أبو العالية أميني فأتاني يوما في منزلي بعد ما صليت الفجر فانطلقت معه إلى أنس بن مالك فدخلت عليه فجيء بطبق عليه رطب.
فقال أنس: كل يا أبا العالية فإنّ هذه من الشجرة التي قال الله في كتابه أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ. ثم قال أنس أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقناع بسر، فقرأ «٢» هذه الآية
، ومعنى الآية: كشجرة طيبة الثمرة، فترك ذكر الثمرة استغناء بدلالة الطعام عليه.
وقال أبو ظبيان عن ابن عباس: هذه شجرة في الجنة أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض وَفَرْعُها عال فِي السَّماءِ كذلك أصل هذه الكلمة راجع في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق والإخلاص.
وإذا تكلم بالشهادة تذهب في السماء فلا يكتب حتى ينتهي إلى الله تعالى. قال الله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
وروى مقاتل بن حيان عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لله عمودا من نور أسفله تحت الأرض السابعة ورأسه تحت العرش، فإذا قال العبد أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله اهتز ذلك العمود، فيقول الله عزّ وجلّ: اسكن، فيقول: كيف أسكن؟ ولم تغفر لقائلها فيقول الرب: قد غفرت له فيسكن عند ذلك» [١٥٨].
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أكثروا من هز ذلك العمود» [١٥٩] «٣».
تُؤْتِي أُكُلَها تعطي ثمرها كُلَّ حِينٍ اختلفوا في الحين.
فقال مجاهد وعكرمة وابن زيد: كل سنة.
قال عكرمة: أرسلت إلى عمر بن عبد العزيز إني نذرت أن أقطع يد رجل من هكذا سنة وحينا، ما عندك فيه. قال ابن عباس: فقلت له: لا تقطع يده واحبسه سنة «٤».
(٢) تفسير الطبري: ١٣/ ٢٦٨.
(٣) الموضوعات لابن الجوزي: ٣/ ١٦٧، ومجمع الزوائد باختصار: ١٠/ ٨٢.
(٤) تفسير الطبري: ١٣/ ٢٧٤.
فقال: أصبت يا مولى ابن عباس وأحسنت «٢».
وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن: كل ستة أشهر ما بين عرامها «٣» إلى حملها.
وروى طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن رجل حلف ألّا يكلم أخاه حينا فقال: الحين سبعة أشهر، وقرأ هذه الآية.
فقال سعيد بن المسيب: الحين شهران لأن النخلة لا يكون فيها أكلها إلّا شهرين.
وقال الربيع بن أنس: كُلَّ حِينٍ كل غدوة وعشية، كذلك يصعد عمل المؤمن عن أول النهار وآخره، وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس.
قال الضحاك: كل ساعة ليلا ونهارا، شتاء وصيفا يؤكل في جميع الأوقات. كذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها «٤».
وقرأ أبو الحكم في تمثيل الله الإيمان بالشجرة فهي أن الشجرة لا تكون شجرة إلّا بثلاثة أشياء عود راسخ وأصل قائم وفرع عال. كذلك الإيمان لا يتم ولا يقوم إلّا بثلاثة أشياء تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان.
يدل عليه ما
روى جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالإيمان» [١٦٠].
لحميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن مثل هذا الدين مثل شجرة ثابتة، الإيمان أصلها، والزكاة فرعها، والصيام عروقها، والداعي في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن محارم الله خضرتها، فكما لا- يكمل هذه الشجرة إلّا بثمر طيبة، لا يكمل الإيمان إلّا بالكف عن محارم الله» [١٦١] «٥».
والحكمة في تشبهها إياه بالحنطة من بين سائر الأشجار أنها لما كانت أشبه الأشجار بالإنسان شبهت به وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت بالغصون عن جوانبها والنخلة إذا
(٢) معاني القرآن للنحاس باختصار: ٣/ ٥٢٨.
(٣) العرام: الغشر، راجع لسان العرب: ١٢/ ٣٩٥.
(٤) راجع زاد المسير: ٤/ ٢٦٣. ٢٦٤.
(٥) تفسير القرطبي: ٩/ ٣٦٠.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير المال سكة مأبورة ومهدة مأمورة» [١٦٢] «١».
ومنه
حديث ابن عمر: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم لأصحابه: «إن شجرة من الشجر لا يطرح ورقها وهي مثل المؤمن فأخبرني ما هي؟» قال: فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم فاستحييت وسكت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هي النخلة» [١٦٣] فذكرت ذلك لأبي فقال: يا بني لو كنت قلتها لكانت أحبّ إليّ من فضلة لأنها من شجرة آدم «٢».
يروى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكرموا عمتكم» فقيل ومن عمتنا يا رسول الله؟ قال:
«النخلة» [١٦٤] «٣» وذلك أنّ الله تعالى لما خلق آدم فصلت من طينه فصلة فخلق منها النخلة قال الله: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي الشرك كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ هي الحنظلة.
قال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله ولم يخلق هذه الشجرة على وجه الأرض.
اجْتُثَّتْ اقتلعت. قال ابن عباس، والسدي: استرخت.
الضحاك: استوصلت. المؤرخ: أخذت حيث ما هي يقينا مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ يحقق الله إيمانهم وأعمالهم بالقول والتثبيت، وهو شهادة أن لا إله إلّا الله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ يعني في القبر، وقيل: فِي الْحَياةِ في القبر عند الله تعالى وَفِي الْآخِرَةِ إذا بعث.
مقاتل: ذلك أنّ المؤمن إذا مات بعث الله إليه ملكا يقال له: رومان فيدخل قبره فيقول له:
إنه يأتيك الآن ملكان أسودان فيسألانك من ربك ومن نبيك وقادتك فأجبهما بما كنت عليه في حياتك، ثم يخرج فيدخل الملكان وهما منكر ونكير أسودان أزرقان فظان غليظان أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالريح العاصف معهما مهزبة، فيقعدان ويسألانه لا يشعران بدخول رومان فيقول ربي الله ونبيي محمد وديني الإسلام، فيقولان له عند الله سعيد ثم يقولان: اللهم فأرضه كما أرضاك، ويفتح له في قبره باب من الجنة يأتيه منها التحف، فإذا انصرفا عنه قال له: نم
(٢) صحيح ابن حبان: ١/ ٤٨١ ح ١٢٤٦٠.
(٣) كنز العمال: ١٢/ ٣٣٨ ح ٣٥٣٠٠، تفسير القرطبي: ٩/ ٣٦٠.
روى البراء بن عازب أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر قبض روح المؤمن فقال: «فيعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره، ويقولان من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد، وينتهرانه ويقولان الثانية من ربك وما دينك ومن نبيك؟ وهو آخر أسئلة الملكان فيثبته الله فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلّى الله عليه وسلّم فينادي مناد في السماء أن ثبت عبدي»
[١٦٥] «٢» فنزل قوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا الآية.
وقال ابن عباس في هذه الآية: إنّ المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة فإذا مات مشوا مع جنازته وصلوا عليه مع الناس، فإذا دفن جلس في قبره فيقال له من ربك؟ فيقول ربي الله. فيقال له من رسولك؟ فيقول محمد. فيقال له ما شهادتك؟ فيقول أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله فيوسع له في قبره حد بصره، وذلك قوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.
وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جنازة فقال: «يا أيها الناس إنّ هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن ويتفرق عنه أحباؤه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله. فيقول له: صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له: هذا منزلك كان لو كفرت بربك، فأما إذا آمنت به فإنّ الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له فيقال له اسكن ثم يفتح له في قبره، وأما الكافر أو المنافق فيقال له ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا كان منزلك لو آمنت بربك، فأما إذا كفرت فإنّ الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلّا الثقلين».
قال بعض أصحابه: يا رسول الله ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلّا هيل جزعا لذلك، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» الآية [١٦٦] «٣».
(٢) جامع البيان للطبري: ١٣/ ٢٨١، ومسند أحمد: ٤/ ٢٨٧، بتفاوت يسير.
(٣) كنز العمال: ١٥/ ٦٣٧ ح ٤٢٥٠٩، جامع البيان للطبري: ١٣/ ٢٨١.
وعن أبي نافع قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشي بغدير وأنا أمشي خلفه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا هديت لا هديت ثلاثا» [١٦٧] «٢».
قال أبو نافع قلت: يا رسول الله مالي؟ قال: ليس إياك أريد، وإنما أريد صاحب هذا القبر، يسأل عني فيزعم أنه لا يعرفني فإذا هو قبر قد رشّ عليه الماء حين دفن صاحبه.
وأخبرنا أبو القاسم السلمي عن أبي الطيب محمد بن علي الخياط يقول: سمعت سهيل بن جابر العتكي يقول: رأيت يزيد بن عثمان بعد موته في المنام، فقلت له ما فعل الله بك فقال: إنه أتاني في قبري ملكان فظان غليظان فقالا من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت لهما ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة فذهبا وقالا أكتبت عن جرير بن عثمان؟ قلت: نعم. قالا: إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله «٣».
(٢) المعجم الكبير: ١/ ٣٢٥.
(٣) تفسير القرطبي: ٩/ ٣٦٣.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٤]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢)وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً يعني غيّروا نعمة الله عليهم في تكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا به وكذبوه فيصيروا نعمة الله عليهم كفرا وَأَحَلُّوا وأنزلوا قَوْمَهُمْ ممن تابعهم على كفرهم دارَ الْبَوارِ الهلاك ثم [ترجم] «١» عن دار البوار ما هي. فقال: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يدخلونها وَبِئْسَ الْقَرارُ المستقر.
عامر بن واثلة سمعت علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) يقول في قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا الآية قال: هم كفار قريش الذين نحروا يوم بدر «٢».
قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : هما الأفجران من قريش بني امية، فأما بنو امية فمتعوا إلى حين، وأما بنو مخزوم فاهلكوا يوم بدر «٣».
ابن عباس: هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه «٤».
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا قرأ الكوفيون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس عن سبيله، وقرأ الباقون بفتح الياء على اللزوم «٥» قُلْ تَمَتَّعُوا عيشوا متاع الدنيا.
فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وهذا وعيد.
قوله: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ. قال الفراء: «٦» جزم: يقيموا بتأويل الجزاء ومعناه الأمر «٧».
وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً إلى قوله وَلا خِلالٌ مخالة فيقال خلت فلانا فأنا أخاله مخالة وخلال وخلّة «٨».
(٢) تفسير القرطبي: ٩/ ٣٦٤.
(٣) تفسير القرطبي: ٩/ ٣٦٤، ونسبه لعمر وعلي معا.
(٤) تفسير القرطبي: ٩/ ٣٦٤.
(٥) أي عاقبتهم إلى الإضلال والضلال، فهذه لام العاقبة.
(٦) في جزم: يقيموا أوجه هذا أحدها، وقيل إنه على حذف لام الأمر أي: ليقيموا، وقيل أنه جواب الأمر وهو قل. [.....]
(٧) زيادة عن تفسير الطبري: ١٣/ ٢٩٤، وعبارة المخطوط مشوشة.
(٨) المصدر السابق.
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى | وخلت بمقليّ الخلال ولا قالي «١» |
قال ابن عباس: دؤوبهما في طاعة الله.
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ متعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان والزيادة وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئا فحذف الشيء الثاني اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض كقوله وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «٢» يعني وأوتيت من كل شيء في زمانها شيئا وقيل هو التكثير نحو قولك: فلان يعلم كل شيء وأتاه كل الناس، وأنت تعني بعضهم نظيره قوله فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ «٣».
وقال بعض المفسرين: معناه وآتاه من كل ما سألتموه وما لم تسألوه «٤»، وهذه قراءة العامة بالإضافة [.........] «٥».
وقرأ الحسن والضحاك وسلام: مِنْ كُلٍ، بالتنوين على النفي يعني من كل ما لم تسألوه فيكون ما يجد.
قال الضحاك: أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها، صدق الله لكم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطرنا ببال «٦».
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لا تطيقوا ذكرها ولا القيام بشركها لا بالجنان ولا باللسان ولا بالبيان إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ لشاكر غير من أنعم عليه واضع الشكر في غير موضعه كَفَّارٌ جحود لنعم الله، وقيل ظلمه لنفسه بمعصيته كفار لربه في نعمته، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع.
(٢) سورة النمل: ٢٣.
(٣) سورة الانعام: ٤٤.
(٤) المصدر السابق: ١٣/ ٢٩٧.
(٥) كلمة غير مقروءة.
(٦) المصدر السابق: ١٣/ ٢٩٧.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ الى ٤١]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً يعني الحرم مأمونا فيه وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ.
أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ويقال جنبته أجنبه جنبا وأجنبته إجنابا بمعنى وأجنبّك وجنّبته تجنيبا.
قال الشاعر: وهو أمية بن الأشكر الليثي:
وتنفض مهده شفقا عليه | وتجنّبه فلا يصعي الصّعابا «١» |
وهنانة كالزون يجلي ضمه | تضحك عن أشنب عذب ملثمه «٢» |
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي على ديني وملتي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال السدي: معناه وَمَنْ عَصانِي فتاب.
مقاتل بن حيان: وَمَنْ عَصانِي فيما دون الشرك.
روى عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا قول إبراهيم (عليه السلام) فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وقول عيسى (عليه السلام) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «٤» الآية، فرفع يداه ثم قال: اللهم أمتي اللهم أمتي وبكى، فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسأله ما بك، فأتى جبرئيل فسأله فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال، فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد فقل:
إنا سنرضيك في أمتك ولا يسؤك.
(٢) تفسير الطبري: ١٣/ ٢٩٨.
(٣) سورة آل عمران: ١٧٥.
(٤) سورة المائدة: ١١٨.
قتادة: المحرم من المسجد محرم الله فيه، والاستخفاف بحقه، فإن قيل ما وجه قول إبراهيم عِنْدَ بَيْتِكَ وإنما بنى إبراهيم البيت بعد ذلك بمدة، وقيل معناه عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي كان قبل أن يرفعه من الأرض حتى رفعته في أيام الطوفان.
وقيل عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي قد مضى في علمك أنه يحدث في هذا البلد.
وكانت قصة الآية على ما ذكره سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنّ أول من سعى بالصفا والمروة هاجر أم إسماعيل، وإنّ أول ما أحدثت جرّ الذيول لهي وذلك أنها لما فرت من ساره فأرخت من ذيلها ليعفى أثرها فجاء بها إبراهيم ومعها ابنها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت فوضعهما ثم رجع فأثبتته فقالت: إلى من تكلنا، فجعل لا يرد عليها شيئا، فقالت:
الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا، فرجعت ومضى [إبراهيم] حتى إذا كان على ثنية كداء أقبل على الوادي. فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ الآية «١».
قال: ومع الإنسانة شنّة فيها ماء فنفذ الماء فعطشت فانقطع لبنها فعطش الصبي، فنظرت إلى الجبال أدنى من الأرض فصعدت الصفا فتسمّعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا فلم تسمع شيئا فانحدرت فلما نزلت على الوادي سعت وما تريد السعي كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد بذلك السعي، فنظرت أيّ الجبال أدنى من الأرض فصعدت المروة فتسمّعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا، فسمعت صوتا، فقالت: كالإنسان الذي يكذب سمعه: صه حتى استيقنت، فقالت: قد أسمعتني صوتك فأغثني فقد هلكت وهلك من معي، فإذا هو الملك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عينا فعجلت الإنسانة فجعلت تفرغ في شنتها،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرحم الله أم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عينا معينا
، وقال لها الملك: لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد فإنما هي عين لشرب ضيفان الله وقال: إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان لله بيتا هذا موضعه.
قال: ومرت رفقة من جرهم تريد الشام فرأوا الطير على الجبل وقال: إن هذا الطير لعائف على ماء فأشرفوا فإذا هم بالإنسانة فأتوا هاجر وقالوا إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك فأذنت لهم فنزلوا معها وكانوا هناك حتى شبّ إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل «٢»، وذكر الحديث في صفة مقام إبراهيم وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران.
(٢) تاريخ الطبري: ١/ ١٧٩. ١٨٠ وذكر بقية القصة. [.....]
قال سعيد بن جبير: لو يقال أفئدة الناس تهوى إليهم لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ منهم المسلمون.
وقال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند ولكنه أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ... وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ ما رزقت سكّان القرى ذوات المياه لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ من جميع أمورنا.
وقال ابن عباس ومقاتل من الوجد إسماعيل وأمه حيث أسكنها بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ... وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ.
قال بعضهم: هذه صلة فولد إبراهيم (عليه السلام).
وقال الآخرون: قال الله عزّ وجلّ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ وهو قول الله عزّ وجلّ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي أعطاني عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ.
قال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.
وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد اثنتي عشرة ومائة سنة.
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أيضا واجعلهم مقيمي الصلاة رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ.
قال المفسرون: أي عبادتي. نظيره
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الدعاء مخ العبادة»
[١٦٨] «١» ثم قرأ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي «٢» فسمى الدعاء عبادة.
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ إن آمنا وتابا، وقد أخبر الله عن عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة.
وَلِلْمُؤْمِنِينَ كلهم.
قال ابن عباس: من أمة محمّد يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي يبدو ويظهر. قال أهل المعاني:
أراد يوم يقوم الناس للحساب فاكتفى بذكر الحساب عن ذكر الناس إذ كان مفهوما.
(٢) سورة غافر: ٦٠.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٢ الى ٥٢]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦)فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ. قال ميمون بن مهران: فهذا وعيد للظالم وتعزية المظلوم «١» إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يمهلهم ويؤخر عذابهم.
وقرأه العامة: بالتاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ، وقرأ الحسن والسّلمي: بالنون.
لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم قاله الفراء.
مُهْطِعِينَ قال قتادة: مسرعين. سعيد بن جبير عنه: منطلقين.
عابد بن الأوزاعي وسعيد بن جبير: الإهطاع سيلان كعدو الذئب.
مجاهد: مديمي النظر.
الضحاك: شدّة النظر من غير أن يطرف، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، الكلبي:
ناظرين. مقاتل: مقبلين إلى النار.
ابن زيد: المهطع الذي لا يرفع رأسه، وأصل الإهطاع في كلام العرب البدار والإسراع، يقال: أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع «٢».
قال الشاعر:
وبمهطع سرح كأنّ زمامه | في رأس جذع من أراك مشذب |
(٢) تفسير القرطبي: ٩/ ٢٧٩.
بمستهطع رسل كأن جديله | بقدوم رعن من صوام ممنع «١» |
تعبدني نمر بن سعد، وقد أرى | ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع «٢» |
قال القتيبي: المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه، ومنه الإقناع في الصلاة.
قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وأصل الإقناع في كلام العرب رفع الرأس.
قال الشماخ
يباكرن العضاه بمقنعات | نواجذهن كالجدا الوقيع «٣» |
قال الراجز:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا | كأنما أبصر شيئا أطمعا «٤» |
مجاهد ومرة بن شرحبيل وابن زيد: منخرقة خربة ليس فيها خير ولا عقل، كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء: إنما هو هواء. هذه رواية العوفي عن ابن عباس «٥».
سعيد بن جبير: تمور في أجوافهم ليس لها مكان يستقر فيه.
قتادة: انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أمكنتها.
الأخفش: جوفاء لا عقول لها.
والعرب تسمي كلّ أجوف نخبا وهواء، ومنه أهواء وهو الخط الذي بين الأرض والسماء.
قال زهير يصف ناقه:
(٢) لسان العرب: ٣/ ٢٧٤.
(٣) تفسير الطبري: ١٣/ ٣١٣.
(٤) فتح الباري: ٥/ ٦٩.
(٥) لسان العرب: ٩/ ٣٥.
وقال حبان
ألا أبلغ أبا سفيان عنّى... فأنت مجوف نخب هواء «٢»
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ وهو يوم القيامة فَيَقُولُ عطف على يوم يأتيهم وليس بجواب فلذلك وقع الَّذِينَ ظَلَمُوا أشركوا رَبَّنا أَخِّرْنا أمهلنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهو الدنيا يعني أرجعنا إليها نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيجابون أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ حلفتم مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ فيها أي لا يبعثون، وهو قوله وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «٣»، ... وَسَكَنْتُمْ في الدنيا فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعصية قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ.
قرأه العامة: بالنون.
وقرأ عمر وعلي وأبن مسعود: وأبيّ: وإن كان مكرهم ما يزال.
لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. قرأه العامة: بكسر اللام الأول وفتح الثانية.
وقرأ ابن جريج والكسائي: بفتح الميم الأولى وضم الثانية بمعنى قراءة العامة الزجاج في قوله وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ، أي ما كان مكرهم لتزول.
أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمر الإسلام وثبوته كثبوت الجبال الراسخة لأن الله وعده إظهار دينه على الأديان كلّها، وقيل معناه: كان مكرهم.
قال الحسن: إن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن يزول منه الجبال، وقال خمس مواضع في القرآن (إن) بمعنى (ما) قوله وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ، وقوله: لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ «٤» وقوله: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «٥» فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ «٦» وقوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ «٧» ومن فتح اللام الأولى فعلى استعظام مكرهم «٨».
(٢) لسان العرب: ٩/ ٣٥.
(٣) سورة النحل: ٣٨.
(٤) سورة الأنبياء: ١٧.
(٥) سورة الزخرف: ٨١. [.....]
(٦) سورة الأحقاف: ٢٦.
(٧) سورة يونس: ٩٤.
(٨) تفسير القرطبي: ٩/ ٣٨٠.
ذكره علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وغيره قالوا: نمرود الجبار الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ قال: إن كان ما يقوله إبراهيم حقا فلا انتهي حتى أعلم ما في السماء، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور وعلفها اللحم وربّاها حتى شبت واستعلجت ثم قعد في تابوت وجعل معه رجلا آخر «١»، وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل وربط التابوت بأرجل النسور وعلق اللحم فوق التابوت على عصا ثم خلى النسور فطرن وصعدن طمعا في اللحم حتى بعدن في الهواء.
قال نمرود لصاحبه افتح الباب الأول وانظر في السماء هل ترى منه شيئا ففتح ونظر، فقال: إن السماء كهيئتها ثم قال: افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل ذلك فقال أرى الأرض مثل اللجة البيضاء، والجبال مثل الدخان، وطارت النسور وارتفعت حتى حالت بينها وبين التابوت فقال لصاحبه افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة، ونودي: أيها الطاغية أين تريد.
قال عكرمة: كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب فرمى عليهم فعاد إليه السهم متلطخا بدم. فقال: كفيت نفسك إله السماء واختلفوا في ذلك السهم من أي شيء تلطخ.
قال عكرمة: سمكة فدت نفسها لله من بحر في الهواء معلق.
وقال بعضهم: من طائر من الطيور أصابه السهم.
قالوا: ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم ففعل ذلك فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال حفيف التابوت في النسور ففزعت وظنت أن قد حدث بها حدث في السماء أو أن القيامة قد قامت فذلك قوله وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ.
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ بالنصر لأوليائه وهلاك أعدائه وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره: ولا يحسبن الله مخلف رسله وعده لأن الخلف يقع بالوعد.
يقول الشاعر:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه | وسائر باد إلى الشمس أجمع «٢» |
(٢) فتح القدير: ٣/ ١١٨، وتفسير الطبري: ١٣/ ٣٢٦.
وقال علي (رضي الله عنه) في هذه الآية: الأرض من فضة والسماء من ذهب.
وروى سهل بن سعيد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد» [١٦٩] «٢».
فقال سعيد بن جبير ونجد ومحمد بن كعب القرظي: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه «٣».
روى خيثمة عن ابن مسعود قال: تبدل الأرض نارا يصير الأرض كلها يوم القيامة نارا والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها وتلجم الناس العرق ولم يبلغوا الحساب بعد.
قال كعب: يصير السماوات جنانا ويصير مكان البحر نارا وتبدل الأرض غيرها.
ابن عباس: الأرض هي تلك الأرض وإنما تبدل كلها وجبالها وأنهارها.
ثم أنشد:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم | ولا بالدار الدار التي كنت أعرف «٤» |
عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا تَرى فِيها عِوَجاً وأمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأولى من كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها» [١٧٠] «٥».
وقيل: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ بأرض [بيضاء كالفضة].
الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى:
تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ أين يكون الناس يومئذ قال: «على الصراط» [١٧١] «٦».
وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي أسماء عن ثوبان قال: سأل نفر من اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أين الناس يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ؟
(٢) تفسير الطبري: ١٣/ ٣٢٩، وصحيح البخاري: ٧/ ١٩٤.
(٣) تفسير ابن كثير: ٢/ ٥٦٤.
(٤) تفسير القرطبي: ٥/ ٢٥٤.
(٥) تفسير القرطبي: ٩/ ٣٨٣.
(٦) مسند أحمد: ٦/ ٣٥.
وروى حكيم بن ثوبان الكلابي عن أبي أيوب الأنصاري قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم خبر من اليهود فقال: أرأيت إذ يقول الله عزّ وجلّ في كتابه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ فأين الخلق عند ذلك؟ فقال: أضياف الله فلم يعجزهم ما لديه.
وَبَرَزُوا ظهروا وخرجوا من قبورهم لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الغلاب الذي يفعل ما يشاء وقهر العباد بالموت وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ المشركين يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ مشدودين بعضهم ببعض، وقيل مقرنين بالشياطين. بيانه قوله احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ «٢» وهم الشياطين، فقال ابن زيد: مقرّنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم في الأصفاد بالقيود والأغلال، واحدها صفد والصفاد أيضا القيد وجمعه صفد يقال: صفدته صفدا وأصفادا التكثر، قلت:
صفدته تصفيدا.
قال عمرو بن كلثوم:
فأتوا بالنهاب وبالسبايا | وأبناء الملوك مصفدينا «٣» |
قال الحسن وقرأ عيسى بن عمر: قَطْرانٍ بفتح القاف وتسكين الطاء، وفيه لغة ثالثة قطران بكسر القاف وجزم الطاء، ومنه قول أبي النجم:
جون كأن العرق المنتوحا | لبسه القطران والمسوحا «٥» |
(٢) سورة الصافات: ٢٢.
(٣) تفسير الطبري: ١٣/ ٣٣٤. [.....]
(٤) راجع الصحاح: ٣/ ٧٤.
(٥) كتاب العين للفراهيدي: ٣/ ١٩٣.
(٦) سورة الكهف: ٩٦.
(٧) سورة الرحمن: ٤٤.