تفسير سورة مريم

تفسير الثعلبي
تفسير سورة سورة مريم من كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعلبي .
لمؤلفه الثعلبي . المتوفي سنة 427 هـ
مريم مكيّة كلّها، وهي ثمان وتسعون آية، تسع تسعون حجازي، وسبعمائة واثنتان وستّون كلمة، وثلاثة ألآف وثمانمائة حرف وحرفان
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرّة، قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا : قال أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، عن أحمد بن يونس اليربوعي، عن سلام بن سليم المدائني، عن عمرو بن كثير، عن يزيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة مريم أُعطي من الأجر حسنات بعدد من صدّق بزكريّا وكذب به، ويحيى ومريم وعيسى وموسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات، وبعدد من دعا لله ولداً، وبعدد من لم يدع له ولداً ).

سورة مريم
مريم مكيّة كلّها، وهي ثمان وتسعون آية، تسع تسعون حجازي، وسبعمائة واثنتان وستّون كلمة، وثلاثة ألاف وثمانمائة حرف وحرفان
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرّة، قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا: قال أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، عن أحمد بن يونس اليربوعي، عن سلام بن سليم المدائني، عن عمرو بن كثير، عن يزيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر حسنات بعدد من صدّق بزكريّا وكذب به، ويحيى ومريم وعيسى وموسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات، وبعدد من دعا لله ولدا، وبعدد من لم يدع له ولدا» [١١٤].

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ١٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤)
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
قوله عزّ وجلّ كهيعص قرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء، ضدّه شامي وحمزة وخلف، بكسرهما، والكسائي، بفتحهما، ابن كثير وعاصم ويعقوب، واختلفوا في معناها.
فقال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله عزّ وجلّ، وقيل: إنّه اسم الله الأعظم، وقال قتادة: هو اسم من اسماء القرآن، وقيل: هو اسم السورة،
وقال عليّ بن أبي طالب وابن عباس: هو قسم أقسم الله تعالى به
، وقال الكلبي: هو ثناء أثنى الله عزّ وجلّ به [على] نفسه.
205
أخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن محمد، قال أبو عبد الله محمد بن زياد القوقسي، قال أبو عمّار عن جرير، عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ كهيعص قال: الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من رحيم والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق، وقال الكلبي أيضا: معناه: كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، عالم ببريته، صادق في وعده ذِكْرُ رفع ب كهيعص وإن شئت قلت: هذا ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، وفيه تقديم وتأخير، معناه ذكر ربك عبده زكريا برحمته وزكريا في موضع نصب.
وقرأ بعضهم عَبْدُهُ زَكَرِيّا بالرفع على أنّ الفعل له إِذْ نادى دعا ربّه في محرابه حيث يقرب القربان نداء خفيّا دعاء سرّا من قومه في جوف الليل، مخلصا فيه لم يطلع عليه أحد إلّا الله عزّ وجلّ قال رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ضعف الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً شمطا، يقول:
شخت وضعفت، ومن الموت قربت وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا يقول: يا رب عوّدتني الإجابة فيما كنت تجيبني إذا دعوتك ولا تخيّبني.
قوله وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي قرأ عثمان ويحيى بن يعمر، (خَفَتِّ) بفتح الخاء والفاء وكسر التاء مشدّدا الْمَوالِي بسكون الياء بمعنى ذهب الموالي وقلّت، الباقون: (خِفْتُ) بكسر الخاء وضم التاء من الخوف، الموالي نصبا، خاف أن يرثه غير الولد، وقيل: خاف عليهم تبديل دين الله عزّ وجلّ وتغيير أحكامه وأن لا يحسنوا الخلافة له على أمّته، فسأل ربّه ولدا صالحا يأمنه على أمّته، والموالي بنو العمّ وقيل: الاولي والولي والمولى في كلام العرب واحد، وقال مجاهد: العصبة، وقال أبو صالح: الكلالة، وقال الكلبي: الورثة من ورائي من بعد موتي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً لا تلد فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أعطني من عندك وَلِيًّا ابنا يَرِثُنِي وَيَرِثُ وقرأ يحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب والأعمش وأبو عمرو والكسائي بالجزم فيهما على جواب الدّعاء، وقرأ الباقون بالرفع على الحال والصفة، أي وليّا وارثا، وقرأ ابن عبّاس ويحيى بن يعمر: يرثني، وأرث من آل يعقوب النبوّة، يعني يرث النبوّة والعلم، وقال الحسن: معناه يَرِثُنِي مالي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النبوّة والحبورة، وقال الكلبي: هو يعقوب بن ماثان أخو زكريا وليس يعقوب أب يوسف وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي صالحا برا تقيا مرضيّا، وقال أبو صالح: معناه: اجعله نبيا كما جعلت أباه نبيّا.
أخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني وشعيب بن محمد البيهقي قالا: أخبرنا: مكّي بن عبدان عن أحمد بن الأزهر عن روح بن عبادة عن سعيد عن قتادة عن بشر بن نهيك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يقول عند ذلك: «رحم الله زكريا، ما كان عليه من ورثة» «١».
(١) تفسير الطبري: ١٦/ ٦١.
206
قوله يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ فيه إضمار واختصار، يعني فاستجاب دعاءه فقال: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ ولد ذكر اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قال قتادة والكلبي: لم يسمّ أحد قبله يحيى، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس، وقال سعيد بن جبير وعطاء: لم نجعل له شبيها، ومثله دليله قوله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا «١» أي مثلا وعدلا، وهي رواية مجاهد عن ابن عباس، وتأويل هذا القول أنّه لم يكن له مثل لأنّه لم يهمّ بمعصيته قط وقيل:
لم يكن له مثل في أمر النساء لأنه كان سَيِّداً وَحَصُوراً
وقال علي بن أبي طالب عن ابن عباس: لم تلد العواقر مثله ولدا، وقيل: إن الله تعالى اشترط القبل لأنه جل ذكره أراد أن يخلق بعده من هو أفضل منه وهو محمّد عليه السلام
، وقيل: إنّ الله تعالى لم يرد بهذا القول جميع الفضائل كلّها ليحيى، وقيل: إنما أراد في بعضها لأن الخليل والكم عليهما السلام كانا قبله وكانا أفضل منه.
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي وامرأتي عاقر كقوله كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا «٢» أي من هو في المهد صبيّ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا أي يبسا، قال قتادة: نحول العظم يقال: ملك عات إذا كان قاسي القلب غير ليّن، وقال أبو عبيد: هو كل مبالغ في شر أو كفر فقد عتا وعسا، وقرأ أبيّ وابن عباس عسيّا، وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي عِتِيًّا بكسر العين ومثله جِثِيًّا وصِلِيًّا وبكيّا والباقون بالضم فيهما وهما لغتان.
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ، من قبل يحيى، وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً على حمل امرأتي قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا أي صحيحا سليما من غير ما بأس ولا خرس، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلّون إذ خرج عليهم زكريّا متغيرا لونه فأنكروه فقالوا له: ما لك يا زكريّا؟
فَأَوْحى أي أومى إِلَيْهِمْ، ويقال: كتب في الأرض أَنْ سَبِّحُوا وصلّوا لله عزّ وجلّ بُكْرَةً وَعَشِيًّا والسبحة الصلاة.
قوله يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ بجدّ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ يعني الفهم صَبِيًّا يعني في حال صباه، وقال معمّر: جاء صبيان إلى يحيى بن زكريّا فقالوا: اخرج بنا نلعب، فقال: ما للّعب خلقت، فأنزل الله عزّ وجلّ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا رحمة من عندنا، قال الحطيئة لعمر بن الخطّاب:
تحنّن علىّ هداك المليك فإن لكلّ مقام مقالا «٣»
(١) سورة مريم: ٦٥.
(٢) سورة مريم: ٢٩.
(٣) لسان العرب: ١١/ ٥٧٣.
207
أي ترحم، ومنه قوله: حنانيك مثل سعديك، قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض «١»
وأصله من حنين الناقة.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن عثمان عن حريز بن عبد الحميد عن أبي خالد عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ما أدري ما حَناناً إلا أن يكون بعطف رحمة الله عز وجلّ على عباده وأخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن هوذة عن عوف بلغني في قوله الله عزّ وجلّ وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا قال: الحنان: المحبّة وَزَكاةً قال ابن عباس يعني بالزكاة طاعة الله عزّ وجلّ والإخلاص.
وقال الضحاك: هي الفعل الزاكي الصالح، وقال الكلبي: يعني صدقة تصدق والده بها على أبويه، وقيل: بركة ونماء وزيادة. وقيل: جعلناه طاهرا من الذنوب.
وَكانَ تَقِيًّا مسلما مخلصا مطيعا.
أخبرنا سعيد بن محمد وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا علي بن عبدان، حدّثنا أبو الأزهر، حدّثنا ابن القطيعي قال: سمعت الحسن قال: إنّ رسول الله ﷺ قال: «والذي نفسي بيده ما من الناس عبد إلّا قد همّ بخطيئة أو عملها غير يحيى بن زكريا» «٢».
وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
بارا بهما لا يعصيهما وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً
قالا: متكبرا.
قال الحلبي: الجبّار الذي يضرب ويقتل على الغضب.
عَصِيًّا
شديد العصيان لربّه.
وَسَلامٌ عَلَيْهِ
قال الحلبي: سلام له منّا حين ولد وحين يموت وحين يبعث حيّا.
أخبرنا أبو محمد الأصفهاني وأبو صالح النيسابوري قالا: أنبأنا أبو حاتم التميمي، حدثنا أبو الأزهر السّليطيّ، حدثنا رؤبة، حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن أن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا فقال له عيسى: استغفر لي فأنت خير مني، وقال يحيى: استغفر لي، أنت خير منّي، فقال له عيسى: أنت خير مني، سلّمت على نفسي وسلّم الله عليك.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ٤٠]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
(١) الصحاح: ٥/ ٢١٠٤. [.....]
(٢) مسند أحمد: ١/ ٢٥٤، وكنز العمال: ١١/ ٥٢١.
208
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ
القرآن مَرْيَمَ
وهي ابنة عمران بن ماثان إِذِ انْتَبَذَتْ.
قال قتادة: انفردت. الكلبي: تنحّت وأصله من النبذة بفتح النون وضمّها وهي الناحبة، يعني إنها اعتزلت وجلست ناحية مَكاناً شَرْقِيًّا
يعني مشرقة، وهي مكان في الدار مما يلي المشرق، جلست فيها لأنها كانت في الشتاء.
قال الحسن: اتّخذت النصارى المشرق قبلة لأنّ مريم انتبذت مَكاناً شَرْقِيًّا
فَاتَّخَذَتْ
فضربت مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
قال ابن عباس: سترا، قال مقاتل: جعلت الجبل بينها وبين قومها، قال عكرمة: إن مريم كانت تكون في المسجد ما دامت طاهرا، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينا هي تغتسل من الحيض إذ عرض لها جبرئيل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سويّ الخلق.
فذلك قوله فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
يعني جبرئيل (عليه السلام) وقيل: روح عيسى ابن مريم اضافة إليه على التخصيص والتفضيل فَتَمَثَّلَ
فتصور لَها بَشَراً
آدميا سَوِيًّا
لم ينقص منه شيء وإنما أرسله في صورة البشر لتثبت مريم عليها السلام وتقدر على استماع كلامه، ولو نزّله على صورته التي هو عليها لفزعت ونفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه، فلمّا رأته مريم قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
مؤمنا مطيعا.
209
قال علي بن أبي طالب: علمت أن التقيّ ذو نهية
، وقيل: كان تقي رجل من أعدل الناس في ذلك الزمان فقالت: إن كنت في الصلاح مثل التقي ف إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
، كيف يكون رجل اجنبي وامرأة اجنبية في حجاب واحد؟ قال لها جبرئيل إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ
أي يقول لأهب لك، وقرأ أبو عمرو ليهب بالياء ولدا غُلاماً زَكِيًّا
صالحا تقيا قالَتْ مريم أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ولم يقربني روح وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا فاجرة وإنما حذفت الهاء منه لأنه مصروف عن وجهه.
قالَ جبرئيل كَذلِكِ كما قلت يا مريم ولكن قالَ رَبُّكِ وقيل هكذا قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ خلق ولد من غير أب وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً علامة هذه لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا لمن تبعه على دينه.
وَكانَ ذلك أَمْراً مَقْضِيًّا معدودا مسطورا في اللوح المحفوظ.
فَحَمَلَتْهُ وذلك أن جبرئيل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبسته، وقيل: نفخ جبرئيل من بعيد نفخا فوصل الريح إليها فحملت، فلمّا حملت فَانْتَبَذَتْ خرجت وانفردت مَكاناً قَصِيًّا بعيدا من أهلها من وراء الجبل، ويقال أقصى الدار.
قال الكلبي: قيل لابن عمّ لها يقال له يوسف: إن مريم حملت من الزنا لأن يقتلها الملك وكانت قد سميت له فأتاها فاحتملها، فهرب بها، فلما كان ببعض الطريق أراد يوسف ابن عمّها قتلها فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال له: إنّه من روح القدس فلا تقتلها، فتركها، ولم يقتلها فكان معها. واختلفوا في مدّة حملها ووقت وضعها، فقال بعضهم: كان مقدار حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء، ومنهم من قال: ثمانية أشهر وكان ذلك آية أخرى لأنّه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غير عيسى، وقيل: ستّة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: ساعة واحدة.
قال ابن عباس: ما هو إلّا أن حملت فوضعت ولم يكن بين الحمل والانتباذ إلّا ساعة:
لأنّ الله تعالى لم يذكر بينهما فصلا.
وقال مقاتل بن سليمان: حملته مريم في ساعة وصوّر في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وهي بنت عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى.
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ ألجأها وجاء بها المخاض، وفي قراءة عبد الله آواها المخاض يعني الحمل، وقيل: الطلق.
إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وكانت نخلة يابسة في الصحراء في شدة الشتاء ولم يكن لها سعف.
وروى هلال بن خبّاب عن أبي عبيد الله قال: كان جذعا يابسا قد جيء به ليبنى به بيت يقال له بيت لحم.
قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة:
210
نَسْياً بفتح النون، والباقون بالكسر، وهما لغتان مثل: الوتر والوتر والحجر والحجر والجسر والجسر، وهو الشيء المنسي.
قال ابن عباس: يعني شيئا متروكا، وقال قتادة: شيئا لا يذكر ولا يعرف، وقال عكرمة والضحاك ومجاهد: حيضة ملقاة.
قال الربيع: هو السقط وقال مقاتل: يعني كالشيء الهالك.
قال عطاء بن أبي مسلم: يعني لم أخلق، وقال الفرّاء: هو ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، وقال أبو عبيد: هو ما نسي وأغفل من شيء حقير. قال الكميت:
أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل «١»
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حاجب بن محمد قال: حدّثنا محمد بن حمّاد قال:
حدّثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها قالت: لوددت أني إذا مت كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا.
فَناداها مِنْ تَحْتِها قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي: مِنْ تَحْتِها بكسر الميم وهو جبرئيل (عليه السلام) ناداها من سفح الجبل، وقرأ الباقون مَنْ تَحْتُها بفتح الميم وهو عيسى لما خرج من بطنها ناداها: أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا قال الحسن: يعني عيسى كان والله عبدا سريا أي رفيعا، وقال سائر المفسّرين:
هو النهر الصغير، وقيل معنى قوله سبحانه تَحْتَكِ إنّ الله تعالى جعل النهر تحت أمرها إن أمرته أن يجري جرى وإن أمرته بالإمساك أمسك، كقوله عزّ وجلّ فيما أخبر عن فرعون وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «٢» أي من تحت أمري، قال ابن عباس: فضرب جبرئيل: ويقال عيسى: برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب وجرى وحييت النخلة بعد يبسها فأورقت وأثمرت وأرطبت، وقيل لمريم وَهُزِّي إِلَيْكِ أي حرّكي بِجِذْعِ النَّخْلَةِ يقول العرب: هزّه وهزّ به كما يقال: خذ الخطام وخذ بالخطام، وتعلّق بزيد وتعلق زيدا، وخذ رأسه وخذ برأسه، وامدد الحبل، وامدد بالحبل، والجذع: الغصن، والجذع: النخلة نفسها.
تُساقِطْ قرأ البراء بن عازب ويعقوب وأبو حاتم وحمّاد ونصير: يساقط بالياء، وقرأ حفص تُساقِطْ بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف، وقرأ الأعمش وحمزة وأبو عبيد: تَسّاقَط بفتح التاء والقاف وتشديد السين، فمن أنّث ردّه إلى النخلة ومن ذكّر ردّه ألى الجذع والتشديد على الإدغام
(١) تفسير القرطبي: ١١/ ٩٣.
(٢) سورة الزخرف: ٥١.
211
والتخفيف على الحذف.
رُطَباً جَنِيًّا غصنا رطبا ساعة جني.
وقال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض من العسل.
وقال عمرو بن ميمون: ما أدري للمرأة إذا عسر عليها ولدها خير من الرطب لقول الله سبحانه وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا.
وقالت عائشة رضي الله عنها: إنّ من السنّة أن يمضغ التمر ويدلك به فم المولود، وكذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمضغ التمر ويحنّك به أولاد الصحابة.
فَكُلِي يا مريم من الرطب وَاشْرَبِي من النهر وَقَرِّي عَيْناً وطيبي نفسا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا ولذلك كان بقراءة ابن مسعود وأنس والصوم في اللغة هو الإمساك عن الطعام والكلام، وفي الآية اختصار فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فسألك عن ولدك أو لامك عليه فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً يقال: إنّ الله أمرها أن تقول هذا اشارة ويقال: أمرها أن تقوله نطقا ثم تمسك عن الكلام بعد هذا.
فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا يقال: كانت تكلّم الملائكة ولا تكلّم الإنس.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قال الكلبي: احتمل يوسف النّجار مريم وابنها عيسى (عليه السلام) إلى غار فأدخلهما فيه أربعين يوما حتى تعالت من نفاسها ثم جاء بها فَأَتَتْ مريم بِهِ بعيسى تَحْمِلُهُ بعد أربعين يوما، فكلّمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلمّا دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا، وكانوا أهل بيت صالحين.
قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا فظيعا منكرا عظيما، قال أبو عبيدة: كل من عجب أو عمل فهو فري،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمر رضي الله عنه: «فلم أر عبقريا يفري فريه»
«١» أي يعمل عمله، قال الراجز:
قد أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا «٢»
قد كنت تفرين به الفريا.
أي كنت تكثرين فيه القول وتعظمينه.
يا أُخْتَ هارُونَ
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «انّما عنوا هارون النبي أخا موسى لأنها كانت من نسله».
(١) المعجم الكبير: ١٢/ ٢٣٢، وزاد المسير: ٥/ ١٥٩، ومسند أحمد: ٢/ ٢٨ بتفاوت.
(٢) الصحاح: ٢/ ٤٧١.
212
وقال قتادة وغيره: كان هارون رجلا صالحا من أتقياء بني إسرائيل وليس بهارون أخي موسى، ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون الفا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل،
وقال المغيرة بن شعبة: قال لي أهل نجران قوله: يا أُخْتَ هارُونَ وقد كان بين موسى وعيسى من السنين ما قد كان، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بالأنبياء والصالحين من قبلهم.
وقال الكلبي: كان هارون أخا مريم من أبيها ليس من أمها وكان أمثل رجل في بني إسرائيل، وقيل: إن هارون كان من أفسق بني إسرائيل وأظهرهم فسادا فشبّهوها به، وعلى هذا القول الأخت هاهنا بمعنى الشبه لا بمعنى النسبة، والعرب تسمي شبه الشيء أخته وأخاه، قال الله سبحانه وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها «١» أي شبهها.
ما كانَ أَبُوكِ عمران امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ حنّة بَغِيًّا زانية فمن أين لك هذا الولد؟ فَأَشارَتْ مريم إلى عيسى أن كلّموه ف قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي من هو في المهد وهو حجرها، وقيل: هو المهد بعينه وقد كان حشوا للكلام ولا معنى له كقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «٢» أي أنتم خير أمة وكقوله هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «٣» أي هل أنا، وكقول الناس إن كنت صديقي فصلني، قال زهير:
أجرت عليه حرّة أرحبيّة وقد كان لون الليل مثل الأرندج «٤»
وقال الفرزدق:
فكيف إذا رأيت ديار قومي وجيران لنا كانوا كرام «٥»
أي وجيران لنا كرام، قال وهب: فأتاها زكريا عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى: انطق بحجّتك إن كنت أمرت بها، فقال عند ذلك وهو ابن أربعين يوما. وقال مقاتل: هو يوم ولد.
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فأقرّ على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم تكذيبا للنصارى وإلزاما للحجة عليهم.
قال عمرو بن ميمون: إن مريم لما أتت قومها بعيسى أخذوا لها الحجارة ليرموها فلمّا تكلّم عيسى تركوها، قالوا: ثم لم يتكلّم عيسى بعد هذا حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان.
(١) سورة الزخرف: ٤٨.
(٢) سورة آل عمران: ١١٠.
(٣) سورة الإسراء: ٩٣.
(٤) تفسير الطبري: ١٦/ ١٠٠.
(٥) التبيان: ٧/ ١٢٣.
213
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: خمسة تكلّموا قبل إبان الكلام: شاهد يوسف، وولد ماشطة بنت فرعون، وعيسى، وصاحب جريح، وولد المرأة التي أحرقت في الأخدود.
فأمّا شاهد يوسف فقد مرّ ذكره، وأمّا ولد الماشطة،
فأخبرنا عبد الله بن حامد قال:
أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال:
حدّثنا الحسن بن موسى قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا أسري به مرّت به رائحة طيبة فقال: يا جبرئيل ما هذه الرائحة؟
قال: ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فوقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنته:
أبي؟ فقالت: لا بل ربّي وربّك وربّ أبيك.
فقالت: أخبر بذلك أبي قالت: نعم، فأخبرته فدعا بها فقال: من ربّك؟ قالت: ربّي وربّك في السماء، فأمر فرعون ببقرة من نحاس فأحميت فدعا بها وبولدها فقالت: إن لي إليك حاجة قال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها جميعا فقال: ذلك لك علينا من الحق، فأمر بأولادها فألقى واحدا واحدا حتى إذا كان آخر ولدها وكان صبيّا مرضعا فقال: اصبري يا أماه فإنّا على الحق، قال: ثم ألقيت مع ولدها.
وأمّا صاحب جريح
فأخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني قال: أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني قال: حدّثنا أحمد بن الخليل قال: حدّثنا يونس بن محمد المؤدّب، قال: حدّثنا الليث ابن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبرنا عبد الله [بن حامد] «١» قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدّثنا راشد بن سليمان قال:
حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا هاشم بن القاسم قال: حدّثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنّ رجلا يقال له جريح كان راهبا يتعبّد في صومعته فأتته أمّه لتسلّم عليه فنادته: يا جريح اطلع إليّ انظر إليك، فوافقته يصلّي فقال: أمّي وصلاتي لربّي، أوثر صلاتي لربّي على أمّي، فانصرفت ثم جاءت الثانية فنادته: يا جريح كلّمني فوافقته يصلّي فاختار صلاته، ثمّ جاءته الثالثة فاختار صلاته فقالت: إنّه أبى أن يكلّمني، اللهمّ لا تمته حتى تنظر في وجهه زواني المدينة، قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن».
قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلاما فقيل لها: ممّن هذا؟ فقالت: من صاحب الصومعة، فأتوه وهدّموا صومعته وانطلقوا به إلى ملكهم، فلمّا مرّ على حوانيت الزواني خرجن، فتبسم وعرف أنّه دعاء أمّه، فقالوا: لم يضحك حين مرّ على الزواني!؟ فلمّا أدخل على ملكهم قال جريح: أين الصبي
(١) في نسخة أصفهان: داود.
214
الذي ولدت؟ فأتي به فقال له جريح: من أبوك؟ قال: أبي فلان الراعي، فابرأ الله سبحانه جريحا وأعظمه الناس «١»، وقالوا: نبني لك ديرك بالذهب والفضة قال: لا ولكن أعيدوه كما كان، ثمّ علاه.
وأمّا ولد صاحبة الأخدود فسنذكرها في موضعها إن شاء الله.
آتانِيَ الْكِتابَ يعني يؤتيني الكتاب لفظه ماض ومعناه مستقبل، وقيل: إنه أخبر عمّا كتب له في اللوح المحفوظ كما
سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم: متى كتبت نبيا؟ قال: «كتبت نبيا وآدم بين الروح والجسد «٢» ».
وقيل: معناه علمني وألهمني التوراة في بطن أمّي.
وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً معلما للخير أَيْنَ ما كُنْتُ وقيل: مباركا على من اتّبع ديني وأمري وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا أي وجعلني برا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا.
أخبرنا شعيب بن محمد البيهقي وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا مكّي بن عبدان، قال:
حدّثنا أحمد بن الأزهر قال: حدّثنا روح بن عبادة قال: حدّثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا ان امرأة رأت عيسى ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات أذن الله له فيهنّ فقالت: طوبى للبطن الذي حملك والثدي الذي أرضعت به، فقال ابن مريم يجيبها: طوبى لمن تلا كتاب الله واتّبع ما فيه ولم يكن جَبَّاراً شَقِيًّا، وكان يقول: سلوني فإنّ قلبي ليّن وإنّي صغير في نفسي، ممّا أعطاه الله سبحانه من التواضع.
وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ يعني هو قول الحق، وقيل: رفع على التكرير يعني ذلك عيسى ابن مريم وذلك قول الحق، وقيل: هو نعت لعيسى يعني ذلك عيسى بن مريم كلمة الله، والحق هو الله سبحانه.
وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب قول بالنصب يعني قال قول الحق الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ يشكّون ويقولون غير الحق، فقالت اليهود: ساحر كذّاب، وقالت النصارى: ابن الله وثالث ثلاثة، ثمّ كذّبهم فقال: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أي ما كان من صفته اتّخاذ الولد، وقيل: اللام منقولة يعني ما كان الله ليتخذ من ولد سُبْحانَهُ نزّه نفسه إِذا قَضى أَمْراً كان في علمه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللَّهَ يعني وقضى أن الله، وقرأ أهل الكوفة إِنَّ اللَّهَ
(١) الأحاديث الطوال للطبراني: ١١٠.
(٢) مسند أحمد: ٥/ ٥٩.
215
بالكسر على الاستيناف رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا الذي ذكرت صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ يعني النصارى، وانّما سمّوا أحزابا لأنّهم تجزأوا ثلاث فرق في أمر عيسى: النسطورية والملكانيّة والمار يعقوبية.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني يوم القيامة أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يعني ما أسمعهم وأبصرهم، على التعجّب، وذلك أنهم سمعوا يوم القيامة حين لم ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر.
قال الكلبي: لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر حين يقول الله سبحانه وتعالى لعيسى أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ الآية.
يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار وذبح الموت وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ من الدنيا.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قال: أخبرنا مكّي بن عبدان قال: حدّثنا «١» عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنّة والنار فيقال:
يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت فيؤمر به فيذبح ثمّ ينادي المنادي «٢»
: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم»، ثمّ قرأ رسول الله ﷺ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وأشار بيده في الدنيا «٣».
قال مقاتل: لولا ما قضى الله سبحانه وتعالى من تخليد أهل النار وتعميرهم فيها لماتوا حسرة حين رأوا ذلك.
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها أي نميتهم ويبقى الرب عزّ وجلّ فيرثهم.
وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ فنجزيهم بأعمالهم.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٥٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
(١) في نسخة أصفهان: عبد الله بن حامد الوراق عن علي بن عبد الله عن. [.....]
(٢) في نسخة أصفهان: فيذبح فيقال.
(٣) مسند أحمد: ٣/ ٩ بتفاوت.
216
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً مؤمنا موقنا صدوقا نَبِيًّا رسولا رفيعا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
آزر وهو يعبد الأوثان لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
صوتا وَلا يُبْصِرُ
شيئا وَلا يُغْنِي عَنْكَ
لا ينفعك ولا يكفيك شَيْئاً
يعني الأصنام يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ والبيان بعد الموت وأنّ من غيره عذّبه ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي على ديني أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا مستويا.
يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ لا تطعه، لم تصل، له ولم تصم وإنّ من أطاع شيئا فقد عبده إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا عاصيا عاتيا، وكان بمعنى الحال أي هو، وقيل بمعنى: صار.
يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أعلم أَنْ يَمَسَّكَ يصيبك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ لقوله: إِلَّا أَنْ يَخافا «١» وقوله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما «٢» وقيل: معناه إنّي أخاف أن ينزل عليك عذابا في الدنيا فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قرينا في النار، فقال له أبوه مجيبا له أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ تارك عبادتهم وزاهد فيهم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لئن لم تسكت وترجع عن مقالتك لَأَرْجُمَنَّكَ قال الضحاك ومقاتل والكلبي: لأشتمنّك، وقال ابن عباس: لأضربنّك، وقيل لأظهرنّ أمرك وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قال الحسن وقتادة وعطاء: سالما، وقال ابن عباس: واعتزلني سالم العرض لا يصيبنّك منّي معرّة، وقال الكلبي: اتركني واجتنبني طويلا فلا تكلّمني، وقال سعيد بن جبير: دهرا، وقال مجاهد وعكرمة: حينا، وأصل الحرف المكث، ومنه يقال: تملّيت حينا، والملوان الليل والنهار.
قالَ إبراهيم سَلامٌ عَلَيْكَ أي سلمت منيّ لا أصيبك بمكروه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا قال ابن عباس ومقاتل: لطيفا رحيما، وقيل: بارّا، وقال مجاهد: عوّده الإجابة، وقال الكلبي: عالما يستجيب لي إذا دعوته.
(١) سورة البقرة: ٢٢٩.
(٢) سورة البقرة: ٢٢٩.
217
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني وأعتزل ما تعبدون من دون الله، قال مقاتل:
كان اعتزاله إياهم أنه فارقهم من كوثى فهاجر منها إلى الأرض المقدسة.
وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا يعني عسى أن يجيبني ولا يخيّبني، وقيل:
معناه عسى أن لا أشقى بدعائه وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام.
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ ما تدعون: تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام فذهب مهاجرا وَهَبْنا لَهُ بعد الهجرة إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا نعمتنا، قال الكلبي: المال والولد، وقيل: النبوّة والكتاب، بيانه قوله أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «١».
وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا يعني ثناء حسنا رفيعا في كلّ أهل الأديان، وكلّ أهل دين يتولّونهم ويثنون عليهم.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلِصاً يعني غير مرائي، قال مقاتل «٢» : مسلما موحدا، وقرأ أهل الكوفة: مُخْلَصاً بفتح اللام يعني أخلصناه واخترناه وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَنادَيْناهُ دعوناه وكلّمناه ليلة الجمعة مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ يعني يمين موسى، والطور:
جبل بين مصر ومدين وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا يعني رفعناه من سماء إلى سماء ومن حجاب إلى حجاب حتى لم يكن بينه وبينه إلّا حجاب واحد.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكّي بن عبدان قال: حدّثنا أبو الأزهر قال: حدّثنا أسباط عن عطاء بن السائب عن ميسرة وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا قال: قرّبه حتى سمع صريف القلم، والنجيّ: المناجي كالجليس والنديم.
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا وذلك حين سأل موسى ربّه عزّ وجلّ فقال:
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي «٣» وحين قال فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ «٤» فأجاب الله دعاءه.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ يعني ابن إبراهيم إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ كان إذا وعد أنجز، وذلك أنّه وعد رجلا أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه فأقام إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى يرجع إليه الرجل، قاله مقاتل، وقال الكلبي: انتظره حتى حال الحول عليه. وَكانَ رَسُولًا إلى قومه نَبِيًّا مخبرا عن الله سبحانه.
(١) سورة الزخرف: ٣٢.
(٢) في نسخة أصفهان: قتادة.
(٣) سورة طه: ٢٩- ٣٠.
(٤) سورة الشعراء: ١٣.
218
وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ يعني قومه وكذلك هو في حرف ابن مسعود بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا صالحا زاكيا.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٦ الى ٧٠]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ وهو جدّ أبي نوح، فسمّي إدريس لكثرة درسه الكتب، واسمه أخنوخ وكان خيّاطا، وهو أوّل من كتب بالقلم وأوّل من خاط الثياب ولبس المخيط وأول من تكلّم في علم النجوم والحساب إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا يعني الجنة.
وقال الضّحاك: رفع إلى السماء السادسة، وقيل: الرابعة.
أخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني وشعيب بن محمد البيهقي قالا: أخبرنا مكي بن عبدان التميمي قال: حدّثنا أحمد بن الأزهر قال: حدّثنا روح قال: حدّثنا سعيد عن قتادة في قوله وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قال: حدّثنا أنس بن مالك بن صعصعة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لما عرج به إلى السماء قال: «أتيت على إدريس في السماء: الرابعة» «١»...
وكان سبب رفعه على ما قاله ابن عباس وكعب وغيرهما أنّه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا ربّ أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد؟ اللهمّ خفّف عنه من ثقلها واحمل عنه حرّها، فلمّا أصبح الملك وجد من خفّة الشمس وحرّها ما لا يعرف، فقال: يا ربّ خلقتني لحمل الشمس فما الذي قضيت فيه؟ قال: أما إنّ عبدي إدريس سألني أن اخفّف عنك حملها وحرّها فأجبته، فقال: يا ربّ اجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه
(١) مسند أبي يعلى: ٥/ ٢٩٣.
219
خلّة، فأذن له حتى أتى إدريس وكان يسأله إدريس فكان ممّا سأله أن قال له: أخبرت أنّك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي فازداد شكرا وعبادة، فقال الملك:
لا يؤخّر الله نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها قال: قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي، فقال: نعم أنا مكلّمه لك فما كان يستطيع أن يفعل لأحد من بني آدم فهو فاعله لك، ثم حمله ملك الشمس على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثمّ أتى ملك الموت فقال: حاجة لي إليك، فقال:
أفعل كلّ شيء أستطيعه قال: صديق لي من بني آدم تشفّع بي إليك لتؤخّر أجله قال: ليس ذلك إليّ ولكن إن أحببت أعلمته أجله متى يموت فيقدّم في نفسه، قال: نعم، فنظر في ديوانه وأخبر باسمه فقال: إنك كلّمتني في إنسان ما أراه يموت أبدا، قال: وكيف؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، قال: إنّي أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق فما أراك تجده إلّا وقد مات، فو الله ما بقي من أجل إدريس شيء، فرجع الملك فوجده ميّتا وقال وهب: كان يرفع لإدريس كلّ يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه، فعجبت منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربّه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم، وكان إدريس صائما يصوم الدهر، فلمّا كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس فقال له الليلة الثالثة: إنّي أريد أن أعلم من أنت، قال: أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي، قال: فلي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: تقبض روحي، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن اقبض روحه، فقبض روحه وردّها الله عليه بعد ساعة.
قال له ملك الموت: ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال: لأذوق كرب الموت وغمّته فأكون له أشدّ استعدادا، ثم قال إدريس له: لي إليك حاجة أخرى، قال: وما هي؟ قال: ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنّة وإلى النار، فأذن الله له في رفعه إلى السماوات، فلمّا قرب من النار قال: حاجة قال: وما تريد؟ قال: تسأل مالكا حتى يفتح لي بابها فأردها، ففعل ثمّ قال: فكما أريتني النار فأرني الجنّة، فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنّة، ثم قال له ملك الموت: اخرج لتعود إلى مقرّك فتعلّق بشجرة وقال: لا أخرج منها، فبعث الله ملكا حكما بينهما ينظر في قولهما فقال له الملك: ما لك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى قال:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ «١» وقد ذقته، وقال وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «٢» وقد وردتها، وقال وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «٣» فلست أخرج، فأوحى الله سبحانه إلى ملك الموت: دخل الجنة وبأمري يخرج، فهو حيّ هناك فذلك قوله: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا.
(١) سورة آل عمران: ٨٥.
(٢) سورة مريم: ٧١.
(٣) سورة الحجر: ٤٨.
220
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السفينة وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا إلى الإسلام وَاجْتَبَيْنا على الأنام إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ يعني القرآن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا جمع باك تقديره من الفعل فعول مثل ساجد وسجود وراكع وركوع وقاعد وقعود، جمع على لفظ المصدر، نزلت في مؤمني أهل الكتاب، عبد الله سلام وأصحابه.
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعيني من بعد النبيّين المذكورين خَلْفٌ وهم قوم سوء، والخلف بالفتح الصالح، والخلف بالحزم الطالح، والخلف بسكون اللام الرديء من كلّ شيء، وهم في هذه الآية اليهود ومن لحق بهم. وقال مجاهد وقتادة: في هذه الأمّة.
أَضاعُوا الصَّلاةَ أي تركوا الصلوات المفروضة، قال ابن مسعود وإبراهيم والقاسم بن مخيمرة: أخّروها عن مواقيتها وصلّوها بغير وقتها.
وقال قرّة بن خالد: استبطأ الضحاك مرّة امتراء في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب فقرأ هذه الآية أَضاعُوا الصَّلاةَ ثمّ قال: والله لئن أدعها أحبّ إلىّ من أن اضيّعها، وقرأ الحسن: أضاعوا الصلوات وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ قال مقاتل: استحلّوا نكاح الأخت من الأب، وقال الكلبي: يعني اللذات وشرب الخمر وغيره، قال مجاهد: هذا عند اقتراب الساعة وذهاب صالحي أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقّة زناة.
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية قال: يكون خلف من بعد ستّين سنة أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ الآية «١».
وقال علىّ بن أبي طالب: «هذا إذا بني المشيد وركب المنظور ولبس المشهور»
، وقال وهب: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ شرّابون للقهوات، لعّابون بالكعبات، ركّابون للشهوات، متبعون للذّات، تاركون للجمعات «٢»، مضيّعون للصلوات، وقال كعب: يظهر في آخر الزمان أقوام بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس، ثمّ قرأ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ.
فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قال عبد الله بن مسعود: الغيّ نار «٣» في جهنّم، وقال ابن عباس:
الغىّ واد في جهنم وإنّ أودية جهنم لتستعيذ من حرّها، أعدّ ذلك الوادي للزاني المصرّ عليه، ولشارب الخمر المدمن عليها، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور،
(١) مسند أحمد: ٣/ ٣٨.
(٢) في نسخة أصفهان: للجماعات. [.....]
(٣) في نسخة أصفهان: نهر.
221
ولامرأة أدخلت على زوجها ولدا. وقال عطاء: الغىّ واد في جهنم يسيل قيحا ودما. وقال وهب: الغىّ نهر في النار بعيد قعره، خبيث طعمه، وقال كعب: هو واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدّها حرّا، فيه بئر تسمى البهيم كلّما خبت جهنّم فتح الله تلك البئر فسعّر بها جهنم، وقال الضحاك: خسرانا وقيل: عذابا، وقيل: ألما، وقيل: كفرا.
إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً. جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ ولم يروها إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا يعني آتيا، قال الأعشى:
وساعيت معصيّا إليها وشاتها
. أي عاصيا.
لا يَسْمَعُونَ فِيها في الجنة لَغْواً باطلا وفحشا وفضولا من الكلام، قال مقاتل: يمينا كاذبة إِلَّا سَلاماً استثناء من غير جنسه يعني بل يسمعون فيها سلاما أي قولا يسلمون منه، وقال المفسّرون: يعني تسليم بعضهم على بعض تسليم الملائكة عليهم وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا يعني على مقدار طرفي النهار.
أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن جعفر بقراءتي عليه قال: حدّثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سختويه قال: حدّثنا موسى بن هارون قال: حدّثنا بشر بن معاذ الضرير قال: حدّثنا عامذ بن سياق عن يحيى بن أبي كثير قال: كانت العرب في زمانها من وجد غداء مع عشاء فذلك هو الناعم، فأنزل الله سبحانه وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قدر ما بين غدائهم وعشائهم.
أخبرنا محمد بن أحمد بن جعفر قال: حدّثنا علي بن محمد بن سختويه قال: حدّثنا موسى ابن هارون قال: حدّثنا داود بن رشيد قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: سألت زهير بن محمد عن قول الله سبحانه وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قال: ليس في الجنة ليل، هم في نور أبدا وإنّما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب، ومقدار النهار برفع الحجب.
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا وقرأ يعقوب:
نورّث بالتشديد، والاختيار التخفيف لقوله ثُمَّ أَوْرَثْنَا مَنْ كانَ تَقِيًّا وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ الآية.
أخبرنا عبد الله بن حامد وشعيب بن محمد قالا: أخبرنا مكي بن «١» عبدان قال: حدّثنا أبو الأزهر قال: حدّثنا روح بن عبادة، قال: حدّثنا عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبرئيل ما يمنعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا؟ فأنزل الله سبحانه وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ.
وقال مجاهد: أبطأت الرّسل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أتاه جبرئيل فقال:
(١) في نسخة أصفهان زيادة: محمد بن.
222
ما حبسك؟ فقال: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصّون أظفاركم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون «١» ؟ فأنزل الله سبحانه وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ الآية.
وقال عكرمة والضّحاك ومقاتل وقتادة والكلبي: احتبس جبرئيل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والرّوح فلم يدر ما يجيبهم، ورجا أن يأتيه جبرئيل بجواب ما سألوه فأبطأ عليه قال عكرمة: أربعين يوما. وقال مجاهد: اثنتي عشرة ليلة وقيل:
خمس عشرة- فشقّ ذلك على رسول الله ﷺ مشقة شديدة، وقال المشركون:
ودّعه ربّه وقلاه، فلمّا أنزل جبرئيل قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبطأت عليّ حتى ساء ظنّي واشتقت إليك»، فقال له جبرئيل: إنّي كنت أشوق إليك ولكنّي عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست، فأنزل الله تعالى وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وأنزل وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «٢» «٣».
وقيل: هذا إخبار عن أهل الجنة، أنّهم يقولون عند دخولها: ما تتنزل هذه الجنان إلّا بأمر الله لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا قال مقاتل: له ما بين أيدينا من أمر الآخرة وَما خَلْفَنا من أمر الدنيا وَما بَيْنَ ذلِكَ يعني بين النفختين، وبينهما أربعون سنة، وقيل: كان له ابتداء خلقنا وله كان منتهى آجالنا، وله كان مدّة حياتنا.
ويقال: ما بَيْنَ أَيْدِينا من الثواب والعقاب وأمور الآخرة وَما خَلْفَنا ما مضى من أعمالنا في الدنيا وَما بَيْنَ ذلِكَ أي ما يكون منّا إلى يوم القيامة. ويقال: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا قيل أن يخلقنا وَما خَلْفَنا بعد أن يميتنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ما هو فيه من الحياة، ويقال لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا إلى الأرض إذا أردنا النزول إليها وَما خَلْفَنا أي السماء إذا نزلنا منها وَما بَيْنَ ذلِكَ يعني السماء والأرض، يريد أن كل ذلك لله سبحانه فلا تقدر على فعل إلّا بأمره.
وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أي واصبر على عبادته هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا قال ابن عباس:
مثلا، وقال سعيد بن جبير: عدلا، وقال الكلبي: هل تعلم أحدا يسمى الله غيره.
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ يعني أبي بن خلف الجمحي أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ من القبر حَيًّا استهزاء وتكذيبا منه بالبعث.
قال الله سبحانه أَوَلا يَذْكُرُ أي يتذكّر ويتفكّر، والأصل يتذكر، وقرأ ابن عامر ونافع
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ١٣٧.
(٢) تفسير القرطبي: ١١/ ١٢٩.
(٣) الضحى: ١- ٣.
223
وعاصم ويعقوب يَذْكُرُ بالتخفيف، والاختيار التشديد لقوله سبحانه إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «١» وأخواتها، يدل عليه قراءة أبي يتذكر الإنسان يعني أبي بن خلف الجمحي أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ثمّ أقسم بنفسه فقال فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ لنجمعنّهم في المعاد يعني المشركين المنكرين للبعث وَالشَّياطِينَ مع الشياطين يعني قرناءهم الذين أضلّوهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ يعني في جهنم جِثِيًّا قال ابن عباس: جماعات جماعات، وقال مقاتل: جميعا وهو على هذا القول جمع جثوة، وقال الحسن والضحاك: جاثية على الركب وهو على هذا التأويل جمع جاث. قال الكميت:
هم تركوا سراتهم جثيّا وهم دون السراة مقرنينا «٢»
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ لنخرجنّ من كلّ أمّة وأهل دين أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا عتوّا قال ابن عباس: يعني جرأة، وقال مجاهد: فجورا وكذبا، قال مقاتل: علوّا، وقيل: غلوّا في الكفر، وقيل: كفرا، وقال الكلبي: قائدهم رأسهم في الشرّ.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا الحسن بن علي قال:
حدّثنا أبو أسامة عن سفيان عن علي بن الأرقم عن أبي الأحوص قال: نبدأ بالأكابر فالأكابر ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أي أحقّ بدخول النار، يقال: صلي يصلى صليا مثل لقي يلقى لقيّا وصلى يصلى صليا مثل مضى يمضي مضيا.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧١ الى ٨٧]
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قيل: في الآية إضمار مجازه: والله إِنْ مِنْكُمْ يعني ما منكم من
(١) الرعد: ١٩.
(٢) تفسير القرطبي: ١١/ ١٣٣.
224
أحد إِلَّا وارِدُها يعني النار، واختلف الناس في معنى الورود حسب اختلافهم في الوعيد، فأمّا الوعيد فإنّهم قالوا «١» : إنّ من دخلها لم يخرج منها، وقالت المرجئة: لا يدخلها مؤمن، واتّفقوا على أنّ الورود هو الحضور والمرور، فأمّا أهل السنّة فإنّهم قالوا: يجوز أن يعاقب الله سبحانه العصاة من المؤمنين بالنار ثم يخرجهم منها، وقالوا: معنى الورود الدخول، واحتجّوا، بقول الله سبحانه حكاية «٢» عن فرعون يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ «٣» وقال في الأصنام وعبدتها إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «٤» لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها «٥» فلو لم يكن الورود في هذه الآيات بمعنى الدخول لوجب أن يدخل الأصنام وعبدتها وفرعون وقومه الجنّة لأن من مرّ على النار فلا بدّ له من الجنّة لأنه ليس بعد الدنيا دار إلّا الجنّة أو النار، والذي يدلّ على أنّ الورود هو الدخول قوله في سياق الآية ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا والنجاة لا تكون إلّا ممّا دخلت فيه وأنت ملقىّ فيه، قال الله سبحانه وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ «٦» واللغة تشهد لهذا، تقول العرب: ورد كتاب فلان، ووردت بلد كذا، لا يريدون جزت عليها وإنّما يريدون دخلتها، ودليلنا أيضا من السنّة.
وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله المزني قال:
حدّثنا محمد بن نصر بن منصور الصائغ الشيخ الصالح قال: حدّثنا سليمان بن حرب قال: حدّثنا أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سميّة قال: اختلفنا في الورود هاهنا بالبصرة فقال قوم: لا يدخلها مؤمن، وقال آخرون: يدخلونها جميعا، فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأهوى بإصبعيه إلى أذنيه وقال: صمّتا إن لم أكن سمعت النبي «٧» صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«الورود: الدخول، لا يبقى برّ ولا فاجر إلّا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى أنّ للنار- أو لجهنم- ضجيجا لمن تردهم ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا».
وأخبرنا شعيب بن محمد وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا أحمد بن الأزهر قال: حدّثنا روح بن عبدان قال: حدّثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنّ نافع بن الأزرق ما رأى ابن عباس يقول ابن عباس: الورود الدخول ويقول نافع ليس الورود الدخول فتلا
(١) في نسخة أصفهان: الوعيد به فقالوا.
(٢) في نسخة أصفهان: واحتجوا بقوله تعالى إخبارا عن.
(٣) سورة هود: ٩٨.
(٤) سورة الأنبياء: ٩٨.
(٥) سورة الأنبياء: ٩٩.
(٦) سورة الأنبياء: ٨٨.
(٧) مسند أحمد: ٣/ ٣٢٩. [.....]
225
ابن عباس حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «١» أدخل هؤلاء أم لا؟ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ «٢» أدخل هؤلاء أم لا؟ والله أنا وأنت فسنردها، وأنا أرجو أن يخرجني الله وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك.
وبإسناده عن ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد إلّا لم يلج النار إلّا تحلّة القسم ثم قرأ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.
وبإسناده عن روح قال: حدّثنا شعبة قال: أخبرني إسماعيل السدىّ عن مرّة الهمداني عن ابن مسعود في قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال: يردونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم.
وبه عن روح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال:
الصراط على جهنم مثل حد السيف، تمرّ الطائفة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثمّ يمرّون والملائكة يقولون: اللهمّ سلّم سلّم.
أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد الأصبهاني قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الهروي قال: حدّثنا الحسين بن إدريس قال: حدّثنا سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن سفيان بن عيينة عن رجل عن الحسن قال: قال رجل لأخيه: أي أخ هل أتاك أنّك وارد النار؟
قال: نعم، قال: فهل أتاك أنّك خارج منها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك إذا؟ قال: فما رؤي ضاحكا حتى مات.
وبإسناده عن عبد الله بن المبارك عن مالك بن معول عن أبي إسحاق عن ابن ميسرة أنّه أوى إلى فراشه فقال: يا ليت أمي لم تلدني، فقالت امرأته: يا أبا ميسرة، إنّ الله سبحانه قد أحسن إليك، هداك إلى الإسلام فقال: أجل، ولكنّ الله قد بيّن لنا أنّا واردو النار ولم يبيّن لنا أنّا صادرون منها، وأنشد في معناه:
لقد أتانا ورود النار ضاحية حقّا يقينا ولمّا يأتنا الصّدر «٣»
فإن قيل: فخبّرونا عن الأنبياء هل يدخلون النار؟ يقال لهم: لا تطلق هذه اللفظة بالتخصيص فيهم بل نقول: إنّ الخلق جميعا يردونها.
فإن احتجّوا بقوله وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «٤» يقال لهم: إنّ موسى لم يمرّ على تلك البئر،
(١) سورة الأنبياء: ٩٨.
(٢) سورة هود: ٩٨.
(٣) كتاب العين: ٣/ ٢٦٥.
(٤) سورة القصص: ٢٣.
226
وإنّما استقى لابنتي شعيب وروى الأغنام وأقام، وهو معنى الدخول، والعرب تعبر عن الحي وأماكنهم بذكر الماء، فتقول: ماء بني فلان.
فإن قيل: فكيف يجوز أن يدخلها من قد أخبر الله سبحانه أنّه لا يسمع حسيسها ولا يدخلها؟ قيل: إن الله سبحانه أخبر عن وقت كونهم في الجنة أنّهم لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها فيجوز أن يكونوا قد سمعوا ذلك قبل دخولهم الجنة لأن الله سبحانه لم يقل: لم يسمعوا حسيسها ويجوز أن لا يسمعوا حسيسها عند دخولهم إياها إذ الله عزّ وجلّ قادر على ان يجعلها عليهم بردا وسلاما.
وكذلك تأويل قوله لا يدخلون النّار أي لا يخلدون فيها، أو لا يتألّمون ويتأذّون بها، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا أبو الأزهر قال: حدّثنا مؤمّل بن إسماعيل عن أبي هلال عن قتادة عن أنس في قول الله سبحانه إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ «١» فقال: إنّك من تخلّد في النّار فقد أخزيته.
والدليل على أنّ الخلق جميعا يدخلون النار ثمّ ينجي الله المؤمنين بعضهم سالمين غير آلمين وبعضهم معذّبين معاقبين ثم يدخلهم جميعا الجنة برحمته، ما
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا حاجب بن محمد قال: حدّثنا محمد بن حامد الأبيوردي قال: حدّثنا أبو سعيد عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّي أرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدرا والحديبية قالت: قلت:
يا رسول الله أليس قد قال الله سبحانه وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا؟
قال: أفلم تسمعيه يقول ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا!؟ «٢».
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان قال: أخبرنا جبغوية بن محمد قال: أخبرنا صالح بن محمد بن عبد العزيز بن المسيّب عن الربيع بن بدر عن أبي مسعود عن العباس عن كعب أنّه قال في هذه الآية وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال: ترفع جهنّم يوم القيامة كأنّها متن اهالة وتستوي أقدام الخلائق عليها، فينادي مناد أن خذي أصحابك ودعي أصحابي، فتخسف بهم وهي أعرف بهم من الوالدة بولدها، ويمرّ أولياء الله عزّ وجلّ بندي ثيابهم، وقال خالد بن معدان: يقول أهل الجنة: ألم يعدنا ربّنا أن نرد النّار؟ فيقال: بلى ولكنّكم مررتم بها وهي خامدة.
وروى خالد بن أبي الدريك عن يعلى بن منبّه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» «٣».
(١) آل عمران: ١٩٢.
(٢) مسند أبي يعلى الموصلي: ١٢/ ٤٧٣.
(٣) كنز العمال: ١٤/ ٣٨٥.
227
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا أحمد بن عبد الحميد الحارثي قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّاد عن يحيى بن يمان عن عثمان الأسود عن مجاهد في قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال: من حمّ من المسلمين فقد وردها.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا يحيى بن سعيد القطان قال: حدّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج من النار من قال: لا إله إلّا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلّا الله وكان في قليه من الخير ما يزن برّة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلّا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرّة» «١».
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا يعني اتقوا الشرك وهم المؤمنون، وفي مصحف عبد الله: ثَمَّ نُنَجِّي بفتح الثاء يعني هناك وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ أي الكافرين فِيها في النار جِثِيًّا جميعا، وقيل: على الرّكب.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا سعيد بن عامر عن حشيش أبي محرز قال:
سمعت أبا عمران الجوني يقول: هبك ننجو بعد كم ننجو؟
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني النضر بن الحرث ودونه من قريش لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني فقراء أصحاب رسول الله ﷺ وكانت فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة، وكان المشركون يرجّلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم فقالوا للمؤمنين: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً منزلا ومسكنا، وقرأ أهل مكة مُقاماً بالضّم أي إقامة وَأَحْسَنُ نَدِيًّا يعني مجلسا، ومثله النادي، ومنه دار الندوة لأنّ المشركين كانوا يجلسون فيها ويتشاورون في أمورهم، قال الله تعالى مجيبا لهم وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً أي متاعا، وقال ابن عباس: هيئة وقال مقاتل: ثيابا. وَرِءْياً أي منظرا، وقرأ أبي: وزيّا بالزاي وهو الهيئة.
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي فليدعه في طغيانه ويمهله في كفره حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ من العذاب إِمَّا الْعَذابَ في الدنيا وَإِمَّا السَّاعَةَ يعني القيامة فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً أهم أم المؤمنون.
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً أي إيمانا ويقينا يعني المؤمنين، يقال: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ
(١) مسند أحمد: ٣/ ١١٦.
228
اهْتَدَوْا بالمنسوخ هُدىً بالناسخ وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا عاقبة ومرجعا أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا أبو معاوية قال: حدّثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن خبّاب بن الأرتّ قال: كان لي دين على العاص «١» فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد قلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإنّي إذا متّ ثم بعثت جئتني، وسيكون لي ثمّ مال وولد فأعطيك، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال الكلبي ومقاتل: كان خبّاب بن الأرتّ قينا وكان يعمل للعاص بن وائل السهمي وكان العاص يؤخّر حقّه الشيء بعد الشيء إلى الموسم، فكان حسن الطلب فصاغ له بعض الحلي فأتاه يتقاضاه الأجرة فقال العاص: ما عندي اليوم ما أقضيك، فقال له الخباب: لست مفارقك حتى تقضي، فقال له العاص: يا خبّاب ما لك؟ ما كنت هكذا وإن كنت حسن الطلب والمخالطة، فقال خبّاب: ذلك أنّي كنت على دينك فأمّا اليوم فأنا على الإسلام مفارق لدينك فلا، قال: أفلستم تزعمون أنّ في الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال الخبّاب: بلى، قال: فأخّرني حتى أقضيك في الجنة- استهزاء- فو الله لئن كان ما تقول حقا فإنىّ لأفضل فيها نصيبا منك، فأنزل الله سبحانه أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا يعني العاص وَقالَ لَأُوتَيَنَّ لأعطين «٢» مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ قال ابن عباس: أنظر في اللوح المحفوظ؟ وقال مجاهد: أعلم علم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعني أم قال: لا إله إلا الله، وقال قتادة: يعني عملا صالحا قدّمه، وقال الكلبي: عهد إليه أنّه يدخله الجنة. كَلَّا ردّ عليه يعني لم يفعل ذلك سَنَكْتُبُ سنحفظ عليه ما يَقُولُ «٣» يعني المال والولد. وَيَأْتِينا فَرْداً في الآخرة ليس معه شيء.
وَاتَّخَذُوا يعني مشركي قريش مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يعني الأصنام لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ في الآخرة ويتبرءون منهم وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أعداء وقيل: أعوانا.
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ يعني سلّطناهم عليهم وذلك حين قال لإبليس وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ الآية.
تَؤُزُّهُمْ أَزًّا قال ابن عباس: تزعجهم ازعاجا من الطاعة إلى المعصية. وقال الضحاك:
(١) في نسخة أصفهان زيادة: بن وائل.
(٢) في نسخة أصفهان زيادة: في الجنة.
(٣) في نسخة أصفهان زيادة: فنجازيه به في الآخرة وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أي نزيده عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ... وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ.
229
يأمرهم بالمعاصي أمرا، وقال سعيد بن جبير: تغريهم إغراء وقال مجاهد: تشليهم أشلاء وقال الأخفش: توهجهم، وقال المؤرّخ: تحرّكهم، وقال أبو عبيد: تغويهم وتهيجهم، وقال القتيبي:
تخرجهم إلى المعاصي، وأصله الحركة والغليان ومنه
الخبر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولجوفه أزيز كأزيز المرجل» «١».
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بالعذاب إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا قال الكلبي: يعني الليالي والأيام والشهور والسنين، وقيل: الأنفاس، يقال: إنّ المأمون كان يقرأ سورة مريم وعنده الفقهاء فلمّا انتهى إلى هذه الآية التفت إلى محمد بن السماك مشيرا عليه بأن يعظه فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد.
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ يعني الموحّدين إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي جماعات وهو جمع وافد مثل راكب وركب وصاحب وصحب.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن محمد قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال:
حدّثنا..... «٢»... وهب بن جرير عن شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن رجل عن أبي هريرة يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال: على الإبل، وقال ابن عباس: ركبانا يؤتون بنوق عليها رحال الذهب، وأزمّتها الزبرجد فيحملون عليها،
وقال علىّ بن أبي طالب:
«ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالها ذهب، ونجائب سرجها يواقيت، إن همّوا بها سارت، وإن همّوا بها طارت» «٣».
أخبرنا عبد الله بن حامد «٤»، أخبرنا أحمد بن شاذان عن صعوبة بن محمد، حدّثنا صالح ابن محمد عن إبراهيم بن عن صالح بن صدقة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال: قلت: يا رسول الله إني رأيت وفود الملوك فلم أر وفدا إلّا ركبانا فما وفد الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي إذا كان المنصرف من بين يدي الله تلقّت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزمّتها الذهب، على كلّ مركب حلّة لا تساويها الدنيا، فيلبس كلّ مؤمن حلّته ثم يستوون على مراكبهم فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة تتلقّاهم الملائكة سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ «٥».
(١) مسند أحمد: ٤/ ٢٥.
(٢) في نسخة أصفهان: عبد الله بن محمد عن الحسين.
(٣) كنز العمال: ٢/ ٤٦٥ بتفاوت. [.....]
(٤) في نسخة أصفهان زيادة: الوزان.
(٥) تفسير القرطبي: ١١/ ١٥٢.
230
وقال الربيع: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال: يفدون إلى ربهم فيكرمون ويعطون ويحيون ويشفعون وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ يعني الكافرين إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً قال المفسّرون: عطاشى، مشاة على أرجلهم قد تقطّعت أعناقهم من العطش، والورد جماعة يردون الماء، اسم على لفظ المصدر لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعني لا إله إلّا الله، ومن في موضع النصب على الاستثناء.
قال ابن عباس: يعني لا يشفع إلّا من شهد أن لا إله إلّا الله تبرّأ من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله عزّ وجلّ.
وقال بعضهم: معناه إلّا لمن اتخذ، نظيره وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى قال مقاتل إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعني اعتقد بالتوحيد.
وقال قتادة: عمل بطاعة الله،
وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله علائم يقول لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح ومساء عند الله عهدا؟
قالوا: كيف ذاك؟ قال: يقول كلّ صباح ومساء: اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ إنّي أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، وأنّ محمّدا عبدك ورسولك، وأنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ وتباعدني من الخير، وإنّي لا أثق إلّا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفّينيه يوم القيامة إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرّحمن عهد فيدخلون الجنة «١»
؟».
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ الى ٩٨]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً يعني اليهود والنصارى، ومن زعموا أنّ الملائكة بنات الله، وقرأ حمزة والكسائي وُلْداً بضم الواو وجزم «٢» اللام وهي أربعة مواضع هاهنا، وحرف في
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٦٢
(٢) في نسخة أصفهان: همز.
231
سورة الزخرف، وحرف في سورة نوح، والباقون بالفتح، وهما لغتان مثل العرب والعرب والعجم والعجم.
قال الشاعر:
فليت فلانا كان في بطن أمّه وليت فلانا كان ولد حمار «١»
مخففا وقيس بجعل الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا.
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا قال ابن عباس: منكرا، وقال قتادة ومجاهد: عظيما، وقال الضحاك: فظيعا وقال مقاتل: معناه لقد قلتم قولا عظيما، نظيره قوله أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً «٢» والإدّ في كلام العرب أعظم الدواهي، قال رؤبة:
نطح شىّ أد رؤوس الأداد
وفيه ثلاث لغات: إدّ بالكسر وهي قراءة العامة، وأدب الفتح وهي قراءة السلمي، وآد مثل ماد وهي لغة بعض العرب تَكادُ السَّماواتُ قرأ نافع والكسائي بالياء لتقديم الفعل، وقرأ الباقون بالتاء لتأنيث السموات يَتَفَطَّرْنَ يتشقّقن منه وقرأ «٣» أبو عمرو ينفطرن بالنون من الانفطار وهو اختيار أبي عبد الله «٤» لقوله عز وجل إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وقوله السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ الباقون بالتاء من التفطّر وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا قال ابن عباس: وقرأ مقاتل:
وقطعا وقال عطاء: هدما، أبو عبيد: سقوطا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً يعني لأن دعوا، ومن قرأ جعلوا وقالوا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «٥»، قال ابن عباس وأبي بن كعب: فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلّا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم وقالوا لله عزّ وجلّ ولد، ثم نفى سبحانه عن نفسه الولد فقال وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً يعني انه لا يفعل ذلك ولا يحتاج إليه ولا يوصف به إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لا ولدا لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أنفاسهم وأيامهم «٦» فلا يخفى عليه شيء وَكُلُّهُمْ آتِيهِ جائيه يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً وحيدا فريدا بعمله ليس معه شيء من الدنيا.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، حدّثنا محمد بن جعفر بن يزيد، حدّثنا أحمد بن عبيد
(١) تاج العروس: ٢/ ٥٤٠.
(٢) الإسراء: ٤٠.
(٣) في نسخة أصفهان زيادة: عاصم و.
(٤) في نسخة أصفهان: أبي عبيد، بدل أبي عبد الله.
(٥) في نسخة أصفهان: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً.
(٦) في نسخة أصفهان: أنفاسهم وآثامهم وآثارهم.
232
المؤدب، حدّثنا عبد الرزاق، وحدّثنا عبد الله، نبّأ محمد بن الحسن، نبّأ أحمد بن يوسف السلمي «١»، نبّأ عبد الرزاق، حدّثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن رسول الله ﷺ قال: قال الله عزّ وجلّ: «كذبني عبدي وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إيّاي فأن يقول: لن يعيدنا كما بدأنا، وأمّا شتمه إياي فأن يقول: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كُفُواً أَحَدٌ» «٢».
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي حبّا يحبّهم ويحبّبهم إلى عباده المؤمنين من أهل السموات والأرضين.
أخبرنا عبد الخالق بن علىّ بن عبد الخالق أبو القاسم العاصي أنبأ أبو علي محمد بن أحمد بن حمزه عن الحسن الصوّاف «٣» ببغداد، قال أبو جعفر الحسن بن علي الفارسي، عن إسحاق بن بشر الكوفي، عن خالد بن يزيد عن يزيد الزيات، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء عن عازب قال: قال رسول الله ﷺ لعلي بن أبي طالب: يا علي قل:
«اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة، فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» الآية «٤».
وأخبرنا عبد الله بن حامد، أنبأ عبدوس بن الحسين، نبّأ أبو حاتم بن أبي أويس، حدّثني مالك بن أنس عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: إذا أحبّ الله العبد قال لجبرئيل: يا جبرئيل قد أحببت فلانا فأحبّه، فيحبّه جبرائيل ثمّ ينادي في أهل السماء: إنّ الله عزّ وجلّ قد أحب فلانا فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء ثم يضع له المحبّة في الأرض وإذا أبغض العبد، قال مالك: لا أحسبه إلّا قال في البغض مثل ذلك «٥».
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن يعقوب عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة في قوله سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا قال: إي والله ودّ في قلوب أهل الإيمان، وان هرم بن حيّان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله عزّ وجلّ بقلوب أهل الإيمان إليه حتّى يورثه مودّتهم ورحمتهم.
(١) في نسخة أصفهان: وأخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن الحسين بن الحسن عن أحمد بن يوسف السلمي عن عبد الرزاق عن عبد الله، وأخبرنا محمد بن جعفر بن يزيد عن أحمد بن عبيد الله المؤدب.
(٢) صحيح ابن حبّان: ٣/ ١٢٨.
(٣) في نسخة أصفهان: عبد الخالق عن أبي علي محمد بن أحمد الصواف.
(٤) نظم درر السمطين- الزرندي الحنفي: ص ٨٥. [.....]
(٥) مسند أحمد: ٢/ ٥١٤ بتفاوت.
233
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ سهّلناه يعني القرآن بِلِسانِكَ يا محمد لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ يعني المؤمنين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا قال ابن عباس: شدادا في الخصومة وقال الضحاك: جدلا بالباطل، وقال مقاتل: خصما، وقال الحسن: صمّا، وقال الربيع: صمّ آذان القلوب، وهو جمع ألدّ يقال: رجل ألدّ إذا كان من عادته مخاصمة الناس.
وقال مجاهد: الألدّ الظالم الذي لا يستقيم، وقال أبو عبيد: الألدّ الذي لا يقبل الحق ويدّعي الباطل، قال الله تعالى وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ «١».
أخبرنا عبد الله بن حامد، أنبأ أحمد بن محمد بن الحسين بن السوقي، نبّأ أبو الأزهر نبّأ أبو أسامة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «٢» يقول: أبغض الرجال إلى الله تعالى الألدّ الخصم.
ثمّ خوّف أهل مكة فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ هل ترى، وقيل: تجد منهم مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً وهو الصوت الخفيّ، قال ذو الرمّة:
وقد توجّس ركزا من سنابكها إذ كان صاحب أرض أو به الموم
قال أبو عبيدة: الركز: الصوت والحركة الذي لا يفهمه «٣» كركز الكتيبة، وأنشد بيت لبيد:
وتوجّست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها «٤»
(١) البقرة: ٢٠٤.
(٢) مسند أحمد: ٦/ ٥٥.
(٣) في نسخة أصفهان: الصوت الخفىّ والحركة الذي يفهمه.
(٤) كتاب العين: ٧/ ٣٤٨٠ والعبارة: فتسمعت ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها.
234
Icon