تفسير سورة مريم

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة مريم من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وهي ثمان وتسعون آية، وسبعمائة واثنان وستون كلمة، وثلاثة آلاف وثمانمائة حرف وحرفان.
﴿ بسم اللّه ﴾ المنزه عن كل شائبة نقص القادر على كل ما يريد ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم نواله سائر مخلوقاته ﴿ الرحيم ﴾ بسائر خلقه.

واختلف في تفسير قوله تعالى :﴿ كهيعص ﴾ قال ابن عباس : هو اسم من أسماء اللّه تعالى، وقال قتادة : هو اسم من أسماء القرآن، وقيل : هو اسم اللّه الأعظم، وقيل : هو اسم السورة، وقيل : قسم أقسم اللّه به. وعن الكلبي : هو ثناء أثنى اللّه به على نفسه، وعنه معناه كاف لخلقه هاد لعباده يده فوق أيديهم عالم ببريته صادق في وعده.
وعن ابن عباس قال : الكاف من كريم وكبير، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق، وقيل : إنه من المتشابه الذي استأثر اللّه تعالى بعلمه، وقد تقدّم الكلام على ذلك في أوّل سورة البقرة، وقرأ نافع بإمالة الهاء والياء بين بين وأمالهما محضة شعبة والكسائي وأمال الهاء محضة أبو عمرو وابن عامر وحمزة، وللسوسي في الياء خلاف في الإمالة محضة والفتح والباقون، وهم ابن كثير وحفص بفتحهما بلا خلاف ولجميع القراء في العين المدّ والتوسط.
وقوله تعالى :﴿ ذكر ﴾ مبتدأ محذوف الخبر تقديره : مما يتلى عليكم أو خبر محذوف المبتدأ تقديره : المتلو ذكر أو هذا ذكر ﴿ رحمت ربك ﴾ وقوله تعالى :﴿ عبده ﴾ مفعول رحمة لأنها مصدر بني على التاء لأنها دالة على الوحدة ورسمت بتاء مجرورة، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ووقف بالتاء على الرسم الباقون وقوله تعالى :﴿ زكريا ﴾ بيان له.
تنبيه : اعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة قصص جملة من الأنبياء.
الأولى : هذه القصة وهي قصة زكريا فيحتمل أن المراد من قوله تعالى :﴿ رحمة ربك ﴾ أنه عني عبده زكريا في كونه رحمة وجهان : أحدهما : أنه يكون رحمة على أمته لأنه هداهم إلى الإيمان والطاعة، والثاني : أن يكون رحمة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن اللّه تعالى لما شرع له صلى الله عليه وسلم طريقته في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى اللّه تعالى صار ذلك لطفاً داعياً له ولأمته إلى تلك الطريقة، فكان زكريا رحمة ويحتمل أن يكون المراد أن هذه السورة فيها ذكر الرحمة التي يرحم بها عبده زكريا.
﴿ إذ نادى ربه نداء ﴾ مشتملاً على دعاء ﴿ خفياً ﴾ أي : سراً جوف الليل ؛ لأنه أسرع إلى الإجابة وإن كان الجهر والإخفاء عند اللّه سيان، وقيل : أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في زمن الشيخوخة، وقيل : أسره من مواليه الذين خافهم، وقيل : خفت صوته لضعفه وهرمه، كما جاء في صفة الشيخ صوته خفات وسمعه تارات.
فإن قيل : من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء وخفياً ؟.
أجيب : بوجهين، الأول : أنه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلا أن صوته كان ضعيفاً لنهاية ضعفه بسبب الكبر فكان نداءً نظراً إلى القصد خفياً نظراً إلى الواقع، الثاني : أنه دعا في الصلاة لأن اللّه تعالى أجابه في الصلاة لقوله تعالى :﴿ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن اللّه يبشرك ﴾ [ آل عمران، ٣٩ ] وكون الإجابة في الصلاة يدلّ على كون الدعاء فيها فيكون النداء فيها خفياً.
تنبيه : في ناصب إذ ثلاثة أوجه، أحدها : أنه ذكر ولم يذكر الحوفي غيره، والثاني : رحمة ولم يذكر الجلال المحلى غيره وذكر الوجهين أبو البقاء، والثالث : أنه بدل من زكريا بدل اشتمال لأن الوقت مشتمل عليه.
ثم كأنه قيل : ما ذلك النداء ؟ فقيل :﴿ قال ربّ ﴾. بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب ﴿ إني وهن ﴾ أي : ضعف جداً ﴿ العظم مني ﴾ أي : هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها وقوله :﴿ واشتعل الرأس ﴾ أي : مني ﴿ شيباً ﴾ تمييز محوّل عن الفاعل أي : انتشر الشيب في شعره كما ينتشر شعاع النار في الحطب وإني أريد أن أدعوك ﴿ ولم أكن بدعائك ﴾ أي : بدعائي إياك ﴿ رب شقياً ﴾ أي : خائباً فيما مضى فلا تخيبني فيما يأتي وإن كان ما أدعو به في غاية البعد في العادة لكنك فعلت مع أبي إبراهيم مثله فهو دعاء وشكر واستعطاف،
ثم عطف على قوله :﴿ إني وهن ﴾ قوله :﴿ وإني خفت الموالي ﴾. أي : الذين يلوني في النسب كبني العم أن يسيئوا الخلافة ﴿ من ورائي ﴾ أي : في بعض الزمان الذي بعدي ﴿ وكانت امرأتي عاقراً ﴾ لا تلد أصلاً بما دل عليه فعل الكون ﴿ فهب لي ﴾ أي : فتسبب عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة وخوفي من سوء خلافة أقاربي ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي وبلوغي من الكبر حدّاً لا حراك بي معه أني أقول لك : يا قادر على كل شيء هب لي ﴿ من لدنك ﴾ أي : من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات ﴿ ولياً ﴾ أي : ابناً من صلبي.
﴿ يرثني ﴾ في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوّة والعمل ﴿ ويرث ﴾ زيادة على ذلك ﴿ من آل يعقوب ﴾ جزءاً مما خصصتهم به من المنح وفضلتهم به من النعم ومحاسن الأخلاق ومعالي الشيم فإن الأنبياء لا يورثون المال، وقيل : يرثني الحبورة أي : العلم بتحبير الكلام وتحسينه فإنه كان حبراً هو بالفتح والكسر وهو أفصح، يقال : للعالم بتحبير الكلام وتحسينه وهو يعقوب بن إسحاق عليهما السلام.
وقيل : يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوّة ولفظ الإرث يستعمل في المال وفي العلم والنبوّة، أما في المال فلقوله تعالى :﴿ وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ﴾ [ الأحزاب، ٢٧ ]، وأما في النبوة فلقوله تعالى :﴿ وأورثنا بني إسرائيل الكتاب ﴾ [ غافر، ٥٣ ] الآية، وقال صلى الله عليه وسلم :«العلماء ورثة الأنبياء » ولأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما يورثون العلم وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليه السلام :﴿ ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب ﴾ [ يوسف، ٦ ] ولأن إسرائيل قد صار علماً على الأسباط كلهم وكانت قد غلبت عليهم الأحداث، وقرأ أبو عمرو والكسائي بجزم الثاء المثلثة فيهما على أنهما جواب الأمر إذ تقديرهما إن تهب يرث والباقون بالضم فيهما على أنهما صفة واعتراض بأن زكريا دعا اللّه تعالى أن يهبه ولداً يرثه مع أن يحيى قتل قبله فلم يجبه إلى أرثه منه وأجيب : بأن إجابة دعاء الأنبياء غالبة لا لازمة فقد يتخلف لقضاء اللّه تعالى بخلافه كما في دعاء إبراهيم عليه السلام في حق أبيه وكما في دعاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله :«وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها »، ولما كان من قضاء اللّه تعالى وقدره أن يوجد يحيى نبياً صالحاً ثم يقتل استجيب دعاء زكريا في إيجاده دون إرثه. ولما ختم دعاءه بقوله :﴿ واجعله رب ﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿ رضياً ﴾ أي : مرضياً عندك، أجابه اللّه تعالى بقوله تعالى :﴿ يا زكريا إنا نبشرك بغلام ﴾.
﴿ يا زكريا إنا نبشرك بغلام ﴾ يرث كما سألت ﴿ اسمه يحيى ﴾ وقرأ حمزة بفتح النون وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة والباقون بضم النون وفتح الموحدة وكسر الشين مشددة وكذلك في آخر السورة.
تنبيه : يحيى اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل : منقول من الفعل المضارع كما سموا بيعمر، وإنما تولى تعالى تسميته تشريفاً له قال تعالى :﴿ لم نجعل له من قبل سمياً ﴾ أي : مسمى بيحيى، قال قتادة والكلبي : لم يسمّ أحد قبله بيحيى.
تنبيه :﴿ سمياً ﴾ مأخوذ من السمّو وفيه دلالة لقول البصريين إن الاسم من السمو، ولو كان من الوسم لقيل وسيماً، وقال سعيد بن جبير وعطاء : لم نجعل له شبهاً ومثلاً كما قال تعالى :﴿ هل تعلم له سمياً ﴾ [ مريم : ٦٥ ] أي : مثلاً والمعنى أنه لم يكن له مثل لأنه لم يعص ولم يهمّ بمعصية قط، وردّ هذا لأن هذا يقتصي تفضيله على الأنبياء قبله كإبراهيم وموسى وليس كذلك، وقيل : لم يكن له ميل إلى أمر النساء لأنه كان سيداً وحصوراً، وعن ابن عباس لم تلد العواقر مثله ولداً،
ثم كأنه قيل : فما قال في جواب هذه البشارة العظيمة ؟ فقيل :﴿ قال ﴾. عالماً بصدقها طالباً لتأكيدها وللتلذذ بترديدها وهل ذلك من امرأته أو من غيرها ؟ وهل إذا كان منها يكونان على حالتهما من الكبر أو غيرها غير طائش ولا عجل ؟ ﴿ رب ﴾ أيها المحسن إليّ بإجابة الدعاء دائماً ﴿ أنّى ﴾ أي : من أين وكيف وعلى أي : حال ﴿ يكون لي غلام ﴾ يولد في غاية القوة والنشاط والكمال في الذكورة ﴿ وكانت ﴾ أي والحال أنه كانت ﴿ امرأتي ﴾ إذ كانت شابة ﴿ عاقراً ﴾ غير قابلة للولد وأنا وهي شابان فلم يأتنا ولد لاختلال أحد السبيلين فكيف بها وقد أيست ؟ قال الجلال المحلي : بلغت ثمان وتسعين سنة ﴿ وقد بلغت ﴾ أنا ﴿ من الكبر عتياً ﴾ من عتا يبس أي : نهاية السنّ، قال الجلال المحلي : مائة وعشرين سنة وبما تقرر سقط ما قيل لم تعجب زكريا بقوله :﴿ أنى يكون لي غلام ﴾ مع أنه هو الذي طلب الغلام، وقرأ حفص وحمزة والكسائي عتياً وصلياً وجثياً بكسر عين الأوّل وصاد الثاني وجيم الثالث وضم الباقون، وأما بكياً فكسر الباء الموحدة حمزة والكسائي وضمها الباقون، وأصل عتي عتو وكسرت التاء تخفيفاً وقلبت الواو الأولى ياء لمناسبة الكسرة، والثانية ياء لتدغم فيها وإنما استعجب للولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافاً بأن المؤثر فيه كامل القدرة وأن الوسايط عند المحققين ملغاة ولذلك ﴿ قال ﴾.
﴿ قال ﴾ أي : اللّه تعالى كما قال الأكثرون لأن زكريا إنما كان يخاطب اللّه ويسأله بقوله :﴿ رب إني وهن العظم مني ﴾ أو الملك المبلغ للبشارة تصديقاً له لقوله تعالى :﴿ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن اللّه يبشرك بيحيى ﴾ [ آل عمران، ٣٩ ] وأيضاً فإنه لما قال :﴿ وقد بلغت من الكبر عتياً ﴾ قال :﴿ كذلك ﴾ أي : الأمر كذلك فهو خبر مبتدأ محذوف ثم علله بقوله :﴿ قال ربك ﴾ أي : الذي عوّدك بالإحسان فدل ذلك على أنه كلام الملك، قال ابن عادل : ويمكن أن يجاب بأنه يحتمل أن يحصل النداآن نداء اللّه تعالى ونداء الملك، ثم ذكر مقول القول فقال :﴿ هو ﴾ أي : خلق يحيى منكما على هذه الحالة ﴿ عليّ ﴾ أي : خاصة ﴿ هين ﴾ أي : بأن أردّ عليك قوّة الجماع وأفتق رحم امرأتك للعلوق ﴿ وقد خلقتك ﴾ أي : قدّرتك وصوّرتك وأوجدتك ﴿ من قبل ولم ﴾ أي : والحال أنك لم ﴿ تك شيئاً ﴾ بل كنت معدوماً صرفاً وفيه دليل على أنّ المعدوم ليس بشيء ولإظهار اللّه تعالى هذه القدرة العظيمة ألهمه السؤال ليجاب بما يدل عليها، وقرأ حمزة والكسائي بعد القاف بنون بعدها ألف والباقون بعد القاف بتاء مضمومة.
ولما تاقت نفسه إلى سرعة المبشر به ﴿ قال رب اجعل لي ﴾ على ذلك ﴿ آية ﴾ أي : علامة تدلني على وقوعه ﴿ قال آيتك ﴾ على وقوع ذلك ﴿ أن لا تكلم الناس ﴾ أي : لا تقدر على كلامهم بخلاف ذكر اللّه تعالى ﴿ ثلاث ليال ﴾ أي : بأيامها كما في آل عمران ثلاثة أيام حال كونك ﴿ سوياً ﴾ من غير خرس ولا مرض وجعلت الآية الدالة عليه سكوت ثلاثة أيام ولياليهن من غير ذكر اللّه دلالة على إخلاصه وانقطاعه بكليته إلى اللّه تعالى دون غيره.
﴿ فخرج ﴾ عقب إعلام اللّه تعالى له بهذا ﴿ على قومه من المحراب ﴾ أي : من المسجد وهم ينتظرونه أن يفتح لهم الباب متغيراً لونه فأنكروه وهو منطلق اللسان بذكر اللّه تعالى منحبسه عن كلام الناس فقالوا : مالك يا نبيّ اللّه ؟ ﴿ فأوحى إليهم ﴾ أي : أشار بشفتيه من غير نطق، وقال مجاهد : كتب لهم في الأرض ﴿ أن سبحوا ﴾ أي : أوجدوا التنزيه والتقديس للّه تعالى بالصلاة وغيرها ﴿ بكرة وعشياً ﴾ أي : أوائل النهار وأواخره على العادة فعلم بمنعه من كلامهم حمل امرأته بيحيى،
قال الجلال المحلي : وبعد ولادته بسنين قال اللّه تعالى له :﴿ يا يحيى خذ الكتاب ﴾.
أي : التوراة ﴿ بقوة ﴾ أي : جدّ ثم إن اللّه تعالى وصفه بصفات الأولى قوله تعالى :﴿ وآتيناه الحكم ﴾ قال ابن عباس النبوّة ﴿ صبياً ﴾ قال الجلال المحلي : تبعاً للبغوي ابن ثلاث سنين أي : أحكم اللّه عقله في صباه واستنبأه وقيل : المراد بالحكم الحكمة وفهم التوراة فقرأ التوراة وهو صغير. قال البغوي : وعن بعض السلف من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو ممن أوتي الحكم صبياً.
الصفة الثانية قوله تعالى :﴿ وحناناً ﴾ أي : وآتيناه رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة ﴿ من لدنّا ﴾ أي : من عندنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة. الصفة الثالثة قوله تعالى :﴿ وزكاة ﴾ أي : وآتيناه طهارة في دينه، قال ابن عباس : يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص، وقال قتادة : هي العمل الصالح، وقال الكلبي : يعني صدقة تصدّق اللّه بها على أبويه. الصفة الرابعة قوله تعالى :﴿ وكان ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ تقياً ﴾ أي : مخلصاً مطيعاً، روي أنه لم يعمل خطيئة ولم يهمّ بها.
الصفة الخامسة قوله تعالى :﴿ وبراً بوالديه ﴾ أي : بارّاً لطيفاً بهما محسناً إليهما لأنه لا عبادة بعد تعظيم اللّه تعالى أعظم من برّ الوالدين يدل عليه قوله تعالى :﴿ وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحساناً ﴾ [ الإسراء، ٢٣ ]. الصفة السادسة قوله تعالى ﴿ ولم يكن جباراً ﴾ أي : متكبراً والمراد وصفه بالتواضع ولين الجانب وذلك من صفات المؤمنين قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ واخفض جناحك للمؤمنين ﴾ [ الحجر، ٨٨ ]، وقال تعالى :﴿ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ [ آل عمران، ١٥٩ ] ولأن رأس العبادة معرفة الإنسان نفسه بالذل ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ومن عرف نفسه بالذل وعرف ربه بالكمال كيف يليق به التجبر والترفع ولذلك لما تجبر إبليس وتمرد صار مبعداً عن رحمة اللّه تعالى وعن المؤمنين، وقيل : الجبار هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقاً وهو من التعظيم والذهاب بنفسه من أنه لا يلزمه قضاء حق لأحد، وقيل : هو كل من عاقب على غضب نفسه. الصفة السابعة قوله تعالى :﴿ عصياً ﴾ أي : عاقاً أو عاصي ربه وهو أبلغ من العاصي كما أن العليم أبلغ من العالم.
الصفة الثامنة قوله تعالى :﴿ وسلام عليه ﴾ منا ﴿ يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً ﴾. فإن قيل : لم خص هذه الأوقات الثلاثة ؟ أجيب : بوجوه :
الأول : قال محمد بن جرير الطبري :﴿ وسلام عليه يوم ولد ﴾ أي : أمان من اللّه تعالى عليه يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم ﴿ ويوم يموت ﴾ أي : أمان من اللّه من عذاب القبر، ﴿ ويوم يبعث ﴾ أي : ومن عذاب اللّه يوم القيامة.
الثاني : قال ابن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن ؛ يوم ولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً ما شاهدهم قط ويوم يبعث فيرى في محشر عظيم، فأكرم اللّه تعالى يحيى فخصه بالسلام في هذه المواطن.
الثالث : قال عبد اللّه بن نفطوية :﴿ وسلام عليه يوم ولد ﴾ أي : أوّل ما يرى في الدنيا ﴿ ويوم يموت ﴾ أي : أول يوم يرى فيه أمر الآخرة، ﴿ ويوم يبعث حياً ﴾ أي : أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة وإنما قال :﴿ حياً ﴾ تنبيهاً على كونه من الشهداء لأنه قتل، وقد قال تعالى ﴿ أحياء عند ربهم يرزقون ﴾ [ آل عمران، ١٦٩ ].
فروع : الأول : هذا السلام يمكن أن يكون من اللّه وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين ففيه دلالة على تشريفه لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر اللّه تعالى.
الثاني : ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء لقوله تعالى :﴿ سلام على نوح ﴾ [ الصافات، ٧٩ ]
﴿ سلام على إبراهيم ﴾ [ الصافات، ١٠٩ ] لأنه تعالى قال :﴿ يوم ولد ﴾ وليس كذلك سائر الأنبياء.
الثالث : روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى : أنت أفضل مني لأن اللّه تعالى قال :﴿ سلام عليه ﴾ وأنا سلمت على نفسي، قال الرازي : وهذا ليس بقوي لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام اللّه تعالى على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمر اللّه تعالى انتهى ولكن بين السلامين مزية.
تنبيه : هذه القصة قد ذكرت في آل عمران بقوله تعالى :﴿ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً ﴾ [ آل عمران، ٣٧ ] إلى أن قال :﴿ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ٣٨ فنادته الملائكة وهو قائم ﴾ [ آل عمران، ٣٨، ٣٩ ] لأن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم طمع في حق نفسه فدعا وقد وقعت المخالفة في ذكر ما هنا وهناك في الألفاظ من وجوه، الأول منها : أن اللّه تعالى صرّح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة بقوله تعالى :﴿ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ﴾ [ آل عمران، ٣٩ ] وفي هذه السورة الأكثر على أن المنادي بقوله :﴿ يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ﴾ هو اللّه تعالى وأجيب : بأن اللّه تعالى هو المبشر سواء كان بواسطة أم لا، الثاني : أنه قال تعالى في آل عمران :﴿ أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ﴾ [ آل عمران، ٤٠ ] فذكر أولاً كبر سنه ثم عقر امرأته، وفي هذه السورة قال :﴿ أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً ﴾، وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب، الثالث : قال في آل عمران ﴿ وقد بلغني الكبر ﴾، وقال هنا :﴿ وقد بلغت من الكبر عتياً ﴾ وأجيب بأن ما بلغك فقد بلغته، الرابع : قال في آل عمران :﴿ آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً ﴾ [ آل عمران، ٤١ ]، وقال هنا :﴿ ثلاث ليال سوياً ﴾ وأجيب : بأن الآيتين دلتا على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهنّ كما مرّ.
القصة الثانية : قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام ولما كانت قصة عيسى عليه السلام أغرب من قصة يحيى لأن خلق الولد من شخصين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من خلق الولد لا من أب البتة وأحسن طرق التعليم والفهم الأخذ من الأقرب فالأقرب مرتقياً إلى الأصعب فالأصعب، أشار إلى ذلك بتغيير السياق فقال عاطفاً على ما تقديره اذكر هذا لهم.
﴿ واذكر ﴾ بلفظ الأمر ﴿ في الكتاب ﴾ أي : القرآن ﴿ مريم ﴾ أي : قصتها وهي ابنة عمران خالة يحيى كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك بن صعصعة الأنصاري في حديث الإسراء «فلما خلصت فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة » ثم أبدل من مريم بدل اشتمال فقال :﴿ إذ ﴾ أي : اذكر ما اتفق لها حين ﴿ انتبذت ﴾ أي : كلفت نفسها أن اعتزلت وانفردت ﴿ من أهلها ﴾ حالة ﴿ مكاناً شرقياً ﴾ أي : شرقي بيت المقدس. وقال الرازي : شرقي دارها، وعن ابن عباس إني لأعلم خلق اللّه تعالى لأي شيء اتخذت النصارى الشرق قبلة لقوله تعالى :﴿ مكاناً شرقياً ﴾ فاتخذت ميلاد عيسى قبلة، واقتصر الجلال المحلي على الشرق من الدار وتردّد البيضاوي بينهما فقال : شرقيّ بيت المقدس أو شرقي دارها انتهى، ويحتمل أن يكون شرقي بيت المقدس هو شرقي دارها فلا مخالفة.
﴿ فاتخذت ﴾ أي : أخذت بقصد وتكلف ودل على قرب المكان بالإتيان بالجارّ فقال :﴿ من دونهم ﴾ أي : أدنى مكان من مكانهم ﴿ حجاباً ﴾ أي : أرسلت ستراً تستتر به لغرض صحيح وليس بمذكور، واختلف المفسرون فيه على وجوه :
أحدها : أنها طلبت الخلوة كيلا تشتغل عن العبادة.
ثانيها : أنها عطشت فخرجت إلى المفازة تستقي.
ثالثها : أنها كانت في منزل زوج أختها زكريا وفيه محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها وثوبها فانفجرت لها الشمس فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك كما قال تعالى :﴿ فأرسلنا ﴾ لأمر يدل على عظمتنا ﴿ إليها روحنا ﴾ أي : جبريل عليه السلام ليعلمها بما يريد بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب لئلا يشتبه عليها الأمر فتقتل نفسها غماً ﴿ فتمثل لها ﴾ أي : تشبح بشين معجمة ثم باء موحدة ثم حاء مهملة وهو روحاني بصورة الجسماني ﴿ بشراً سوياً ﴾ في خلقه حسن الشكل.
رابعها : أنها قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض متحجبة بشيء يسترها، وكانت تتحول من المسجد إلى بيت خالتها إذا حاضت وتعود إليه إذا طهرت فبينما هي في مغتسلها أتاها جبريل بعد لبسها ثيابها متمثلاً بصورة شاب أمرد سوي الخلق تستأنس بكلامه إذ لو أتاها في الصورة الملكية لنفرت منه ولم تقدر على استماع كلامه، قال البيضاوي : ولعله لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها أي : مع أمنها الفتنة لعفتها، قال الرازي : وكل هذه الوجوه محتملة وليس في اللفظ ما يدل على ترجيح واحد منها.
ولما رأت مريم جبريل نحوها ﴿ قالت إني أعوذ ﴾ أي : أعتصم ﴿ بالرحمن ﴾ ربي الذي رحمته عامة لجميع خلقه ﴿ منك ﴾ أي : أن تقربني وفتح ياء ﴿ إني ﴾ نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون وهم على مراتبهم في المدّ، ولما تفرست فيه بما أنار اللّه تعالى من بصيرتها وأصفى من سريرتها التقوى قالت ﴿ إن كنت تقياً ﴾ أي : مؤمناً مطيعاً، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي : إني عائذة منك أو نحو ذلك دل تعوذها من تلك الصورة الحسنة على عفتها وورعها فإن قيل : إنما يستعاذ من الفاجر فكيف قالت :﴿ إن كنت تقياً ﴾ ؟ أجيب : بأن هذا كقول القائل إن كنت مؤمناً فلا تظلمني أي : ينبغي أن يكون إيمانك مانعاً لك من الظلم كذلك هنا ينبغي أن تكون تقواك مانعة لك من الفجور وهذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنها لا تؤثر الاستعاذة إلا في التقي وهو كقوله تعالى :﴿ وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ﴾ [ البقرة، ٢٧٨ ] أي : إن شرط الإيمان يوجب هذا لا أن اللّه تعالى يخشى في حال دون حال، وقيل : كان في ذلك الزمان إنسان فاجر يتبع النساء اسمه تقي فظنت مريم أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك فاستعاذت منه، قال الرازي : والأول هو الوجه.
ولما علم جبريل عليه السلام خوفها ﴿ قال ﴾ مجيباً لها بما معناه : إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً مؤكداً لأجل استعاذتها ﴿ إنما أنا رسول ربك ﴾ أي : الذي عذت به فأنا لست متهماً بل متصف بما ذكرت وزيادة الرسالة وعبر باسم الرب المقتضى للإحسان لطفاً بها، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده وقوله :﴿ ليهب لك ﴾ قرأ ورش وأبو عمرو وقالون بخلاف عنه بالياء أي : ليهب اللّه تعالى لك، وقرأ الباقون بالهمز أي : لأهب أنا لك وفي مجازه وجهان، الأول : أن الهبة لما جرت على يده بأن كان هو الذي ينفخ في جيبها بأمر اللّه تعالى جعل نفسه كأنه هو الذي وهب لها وإضافة الفعل إلى من هو سبب مستعمل، قال اللّه تعالى في الأصنام :﴿ رب إنهن أضللن كثيراً من الناس ﴾ [ إبراهيم، ٣٦ ]، الثاني : أن جبريل عليه السلام لما بشرها بذلك كانت البشارة الصادقة جارية مجرى الهبة. ثم بيّن الموهوب بقوله :﴿ غلاماً ﴾ أي : ولداً ذكراً في غاية القوة والرجولية ثم وصفه بقوله :﴿ زكياً ﴾ أي : نبياً طاهراً من كل ما يدنس البشر نامياً على الخير والبركة.
﴿ قالت ﴾ مريم ﴿ أنّى ﴾ أي : من أين وكيف ﴿ يكون لي غلام ﴾ ألده ﴿ ولم يمسسني بشر ﴾ بنكاح ﴿ ولم أك بغياً ﴾ أي : زانية فتعجبت مما بشرها به جبريل عليه السلام لأنها قد عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل، والعادة عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداءً وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدّ ولأنها كانت منفردة للعبادة ومن يكون كذلك لا بدّ أن يعرف قدرة اللّه تعالى على ذلك وبما تقرر سقط ما قيل، قولها :﴿ ولم يمسسني بشر ﴾ يدخل تحته قولها :﴿ ولم أك بغياً ﴾ ولهذا اقتصر عليه في سورة آل عمران بقولها :﴿ قالت رب أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ﴾ [ آل عمران، ٤٧ ] فلم تذكر البغي، ويجوز أن يقال : إنها أفردت ذكر البغي مع دخوله في الكلام الأول لأنه أعظم ما في بابه فهو نظير قوله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ [ البقرة، ٢٣٨ ] وقوله تعالى :﴿ وملائكته ورسله وجبريل وميكال ﴾ [ البقرة، ٩٨ ].
﴿ قال ﴾ لها جبريل الأمر ﴿ كذلك ﴾ من خلق غلام منك بغير أب. ولما كان لسان الحال قائلاً كيف يكون بغير سبب أجاب جبريل بقوله :﴿ قال ربك هو ﴾ أي : المذكور وهو إيجاد الولد على هذه الهيئة ﴿ عليّ ﴾ وحدي لا يقدر عليه غيري ﴿ هيّن ﴾ أي : بأن ينفخ بأمري جبريل فيك فتحملي به ولكون ما ذكر في معنى العلة عطف عليه ﴿ ولنجعله ﴾ بما لنا من العظمة ﴿ آية للناس ﴾ أي : علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام وبه تمام القسمة الرباعية في خلق البشر فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر وحواء من ذكر بلا أثنى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً ﴿ ورحمة منا ﴾ على العباد يهتدون به ﴿ وكان ﴾ ذلك كله ﴿ أمراً مقضياً ﴾ به في علمي.
وقوله تعالى :﴿ فحملته ﴾ فيه حذف تقديره فنفخنا فيها فحملته دل على ذلك قوله تعالى في سورة التحريم :﴿ ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا ﴾ [ التحريم، ١٢ ]، واختلف في النافخ فقال بعضهم : كان النفخ من اللّه تعالى لهذه الآية ولأنه تعالى قال :﴿ إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم ﴾ [ آل عمران، ٥٩ ] ومقتضى التشبيه حصول المشابهة إلا فيما أخرجه الدليل، وفي حق آدم النافخ هو اللّه تعالى قال تعالى :﴿ ونفخت فيه من روحي ﴾ [ الحجر، ٢٩ ] فكذا هاهنا، وقال بعضهم : النافخ جبريل لأن الظاهر من قول جبريل عليه السلام :﴿ لأهب لك ﴾ على أحد القراءتين أنه النافخ، واختلف في كيفية نفخه فقيل : إن جبريل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبها فحملت حين لبسته، وقيل : مدّ إلى جيب درعها أصابعه ونفخ في الجيب، وقيل : نفخ في كمّ قميصها، وقيل : في فيها، وقيل : نفخ جبريل نفخاً من بعيد فوصل النفخ إليها فحملت بعيسى في الحال، وقيل : نفخ في ذيلها فدخلت النفخة في صدرها فحملت فجاءت أختها امرأة زكريا تزورها فلما التزمتها عرفت أنها حبلى وذكرت مريم حالها فقالت امرأة زكريا : إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى :﴿ مصدقاً بكلمة من اللّه ﴾ [ آل عمران، ٣٩ ] وقيل : حملت وهي بنت ثلاث عشرة سنة، وقيل : بنت عشرين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل، قال الرازي : وليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقوال المذكورة. ثم عقب بالحمل قوله :﴿ فانتبذت به ﴾ أي : فاعتزلت به وهو في بطنها حالة ﴿ مكاناً قصياً ﴾ أي : بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي.
وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله :﴿ فأجاءها ﴾ أي : فأتى بها وألجأها ﴿ المخاض ﴾ وهو تحرك الولد في بطنها للولادة ﴿ إلى جذع النخلة ﴾ وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان وكأنّ تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها فكانت كالعلم لما فيها من العجب لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها لأنها لا تحمل إلا باللقاح من ذكر النخل فحملها بمجرّد هزها أنسب شيء بإتيانها بولد من غير والد فكيف إذا كان ذلك في غير وقته، وكانت يابسة مع مالها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك والخرسة بخاء معجمة مضمومة طعام النفساء وهو مراد الجوهري بقوله : طعام الولادة.
قال ابن عباس : الحمل والولادة في ساعة واحدة، وقيل : ثلاث ساعات حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وقيل : كانت مدته تسعة أشهر كحمل سائر النساء، وقيل : كانت مدة حملها ثمانية أشهر وذلك آية أخرى له لأنه لا يعيش من ولد لثمانية أشهر وولد عيسى لهذه المدّة وعاش، وقيل : ولد لستة أشهر. ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً كان كأنه قيل : يا ليت شعري ما كان حالها ؟ فقيل :﴿ قالت ﴾ لما حصل عندها من خوف العار ﴿ يا ليتني مت ﴾ وأشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جارّ ﴿ قبل هذا ﴾ أي : الأمر العظيم، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي مت بكسر الميم والباقون بالضم ﴿ وكنت نسياً ﴾ أي : شيئاً من شأنه أن يطرح وينسى ﴿ منسياً ﴾ أي : متروكاً بالفعل لا يخطر على بالٍ.
فإن قيل : لم قالت ذلك مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام إليها ووعدها بأن يجعلها وولدها آية للعالمين ؟.
أجيب عن ذلك بأجوبة : الأول : أنها تمنت ذلك استحياء من الناس فأنساها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى. الثاني : أنّ عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا ذلك كما روي عن أبي بكر رضي اللّه عنه أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال : طوبى لك يا طائر تقع على الشجر وتأكل من الثمر وددت أني ثمرة ينقرها الطائر، وعن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تبنة من الأرض فقال : يا ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئاً، وعن علي رضي اللّه عنه يوم الجمل : ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة، وعن بلال : ليت بلالاً لم تلده أمه فثبت أن هذا الكلام يذكره الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم. الثالث : لعلها قالت ذلك لئلا يقع في المعصية من يتكلم فيها وإلا فهي راضية بما بشرت به، وقرأ حفص وحمزة نسياً بفتح النون والباقون بالكسر.
وقوله تعالى :﴿ فناداها من تحتها ﴾ قرأه نافع وحفص وحمزة بكسر ﴿ من ﴾ وجر التاء من تحتها والباقون بفتح ﴿ من ﴾ ونصب تحتها وأمال ألف ناداها حمزة والكسائى إمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح، وفي المنادي أوجه :
أحدها : أنه عيسى وهو قول الحسن وسعيد بن جبير.
ثانيها : أنه جبريل عليه السلام وأنه كالقابلة للولد.
ثالثها : أن المنادي على القراءة بالفتح هو عيسى وعلى القراءة بالكسر هو جبريل وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم، قال الرازي : والأول أقرب وصدر به البيضاوي واقتصر الجلال المحلي على الثاني، والمعنى على الأول أن اللّه تعالى أنطقه لها حين ولدته تطييباً لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل من علو شأن ذلك الولد، وعلى الثاني أن اللّه تعالى أرسله إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أوّل الأمر تذكيراً للبشارات المتقدمة والضمير في تحتها للسيدة مريم وعلى تقدير أن يكون المنادي هو عيسى فهو ظاهر، وإن كان جبريل فقيل : إنه كان تحتها يقبل الولد كالقابلة، وقيل : تحتها أسفل من مكانها، وقيل : الضمير فيه للنخلة أي : ناداها من تحتها ﴿ أن لا تحزني ﴾ يجوز في ﴿ أن ﴾ أن تكون مفسرة لتقدمها ما هو بمعنى القول ولا على هذا ناهية وحذف النون للجزم وأن تكون الناصبة و﴿ لا ﴾ حينئذٍ نافية وحذف النون للنصب ومحل ﴿ أن ﴾ إما نصب أو جرّ لأنها على حذف حرف الجر أي : فناداها بكذا ﴿ قد جعل ربك ﴾ أي : المحسن إليك ﴿ تحتك ﴾ في هذه الأرض التي لا ماء جار فيها ﴿ سرياً ﴾ أي : جدولاً من الماء تطيب به نفسك، قال الرازي : اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري : هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه، وأما الحسن وابن زيد فإنهما جعلا السري هو عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال : فلان من سروات قومه أي : أشرافهم، واحتج من قال : هو النهر بأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السري فقال :«هو الجدول » وبقوله تعالى :﴿ فكلي واشربي ﴾ فدل على أنه النهر حتى يضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب، واحتج من قال : إنه عيسى بأن النهر لا يكون تحتها بل إلى جنبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كقول فرعون :﴿ وهذه الأنهار تجري من تحتي ﴾ [ الزخرف، ٥١ ] لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى لم يحتج إلى هذا المجاز وأيضاً فإنه موافق لقوله :﴿ وجعلنا ابن مريم وأمه آية ﴾ [ المؤمنون، ٥٠ ] وأجيب : بأن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان تحت.
تنبيه : إذا قيل بأن السري هو النهر ففيه وجهان ؛ الأول : قال ابن عباس : إن جبريل ضرب برجله الأرض، وقيل : عيسى فظهر عين ماء عذب وجرى، وقيل : كان هناك ماء جار، قال ابن عادل : والأول أقرب لأن قوله :﴿ قد جعل ربك تحتك سرياً ﴾ يدل على الحدوث في ذلك الوقت ولأن اللّه تعالى ذكره تعظيماً لشأنها، وقيل : كان هناك نهر يابس أجرى اللّه فيه الماء وحييت النخلة اليابسة وأورقت وأثمرت وأرطبت، قال أبو عبيدة والفراء : السري هو النهر مطلقاً، وقال الأخفش : هو النهر الصغير.
﴿ وهزي إليك ﴾ أي : أوقعي الهز وهو جذب بتحريك ﴿ بجذع النخلة ﴾ أي : التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها ﴿ تساقط عليك ﴾ من أعلاها ﴿ رطباً جنياً ﴾ طرياً آية أخرى عظيمة روي أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر، وكان الوقت شتاء فهزتها فجعل اللّه تعالى لها رأساً وخوصاً ورطباً، وقرأ حمزة بفتح التاء والسين مخففة وفتح القاف وحفص بضم التاء وفتح السين مخففة وكسر القاف والباقون بفتح التاء وتشديد السين مفتوحة وفتح القاف.
تنبيه : الباء في ﴿ بجذع ﴾ زائدة والمعنى هزّي إليك جذع النخلة كما في قوله تعالى :﴿ ولا تلقوا بأيديكم ﴾ [ البقرة، ١٩٥ ] قال الفراء : تقول العرب : هزه وهزيه وخذ الخطام وخذ بالخطام وزوجتك فلانة وبفلانة، وقال الأخفش : يجوز أن يكون على معنى هزي إليك رطباً بجذع النخلة أي : على جذعها و﴿ رطباً ﴾ تمييز و﴿ جنياً ﴾ صفته والرطب اسم جنس بخلاف تخم فإنه جمع لتخمة والفرق : أنهم التزموا تذكيره فقالوا : هو الرطب وتأنيث ذلك فقالوا : هي التخم فذكروا الرطب باعتبار الجنس وأنثوا التخم باعتبار الجمعية، قال ابن عادل : وهو فرق لطيف والرطب ما قطع قبل يبسه وجفافه وخص الرطب بالذكر قال الربيع بن خيثم : ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل وهذه الأفعال الخارقة للعادة كرامات لمريم أو إرهاص لعيسى، وفي ذلك تنبيه على أنّ من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير فحل وتطييب لنفسها فلذلك قال :﴿ فكلي ﴾.
﴿ فكلي ﴾ أي : من الرطب ﴿ واشربي ﴾ من السري أو كلي من الرطب واشربي من عصيره، ﴿ وقرّي عيناً ﴾ أي : وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنها، وقدّم الأكل على الشرب لأن حاجة النفساء إلى الرطب أشدّ من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال منها من الدم.
فإن قيل : إن مضرة الخوف أشدّ من مضرة الجوع والعطش لأن الخوف ألم الروح والجوع ألم البدن وألم الروح أقوى من ألم البدن، روي أنه أجيعت شاة فقدّم إليها علف وعندها ذئب فبقيت الشاة مدّة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها خوفاً من الذئب، ثم كسر رجلها وقدم إليها العلف فتناولت العلف مع ألم البدن فدل ذلك على أن ألم الخوف أشدّ من ألم البدن، وإذا كان كذلك فلم قدّم ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف ؟
أجيب : بأنّ هذا الخوف كان قليلاً لأنّ بشارة جبريل عليه السلام كانت قد تقدّمت فما كانت تحتاج إلا إلى التذكير مرة أخرى، وقيل : قرّي عيناً بولدك عيسى وقيل : بالنوم فإنّ المهموم لا ينام، وقوله :﴿ فإمّا ﴾ فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة ﴿ ترينّ ﴾ حذفت منه لام الفعل وعينه وألقيت حركتها على الراء وكسرت ياء الضمير لالتقاء الساكنين، ﴿ من البشر أحداً ﴾ ينكر عليك ﴿ فقولي ﴾ يا مريم لذلك المنكر جواباً له مع التأكيد تنبيهاً على البراءة لأن البريء يكون ساكناً لاطمئنانه والمرتاب يكثر كلامه وحلفه، ﴿ إني نذرت للرحمن ﴾ أي : الذي عمت رحمته ﴿ صوماً ﴾ أي : إمساكاً عن الكلام في شأنه وغيره مع الإناسي بدليل ﴿ فلن أكلم اليوم إنسياً ﴾ فإنّ كلامي يقبل الردّ والمجادلة، ولكن يتكلم عني المولود الذي كلامه لا يقبل الدفع وأمّا أنا فأنزه نفسي عن مجادلة السفهاء، قالوا : ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً فلا أكلم إلا الملائكة أو الخالق بالتسبيح والتقديس وسائر أنواع الذكر.
وقيل : صياماً لأنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم فعلى هذا كان ذكر الصوم دالاً على الصمت وهذا النوع من النذر كان جائزاً في شرعهم، وهل يجوز مثل هذا النذر في شرعنا ؟ قال القفال : لعله يجوز لأنّ الاحتراز عن كلام الآدميين وتجريد الفكر بذكر اللّه تعالى قربة ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق وتعذيب النفس كنذر القيام في الشمس، وروي أنه دخل أبو بكر رضي اللّه عنه على امرأة قد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر : إنّ الإسلام قد هدم هذا فتكلمي.
تنبيه : اختلفوا في أنها هل قالت لهم :﴿ إني نذرت للرحمن صوماً ﴾ ؟ فقال قوم : إنها ما تكلمت معهم بذلك لأنها كانت مأمورة بأنها تأتي بهذا النذر فلو تكلمت معهم بعد ذلك لوقعت في المناقضة ولكنها سكتت وأشارت برأسها وقال آخرون : إنها ما نذرت في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم أنها نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا بعد هذا الكلام.
﴿ فأتت ﴾ أي : فلما سمعت هذا الكلام اشتدّ قلبها وزال حزنها فأتت ﴿ به ﴾ أي : عيسى ﴿ قومها ﴾ وإن كان فيهم قوّة المحاولة لكل ما يريدون إتيانه البريء الموقن بأنّ الله معه حالة كونها ﴿ تحمله ﴾ غير مبالية بأحد ولا مستحيية واختلفوا في أنها كيف أتت به ؟ فقيل : ولدته ثم حملته في الحال إلى قومها، وقيل : احتمل يوسف النجار مريم وابنها إلى غار ومكثت فيه أربعين يوماً حتى طهرت من نفاسها ثم حملته إلى قومها فكلمها في الطريق فقال يا أمّاه أبشري فإني عبد الله ومسيحه فلما دخلت على أهلها ومعها الصبيّ بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين قال الرازي وليس في القرآن ما يدل على التعيين ثم كأنه قيل فلما أتت به قومها ماذا قالوا لها فقيل :﴿ قالوا يا مريم ﴾ ما هذا الولد ؟ لأنّ حالها في إتيانها به أمر عجيب ﴿ لقد جئت شيئاً فرياً ﴾ أي : عظيماً منكراً فيكون ذلك منهم على وجه الذمّ فهو من أفرى الجلد يقال أفريت الأديم إذا قطعته على جهة الإفساد لا من فريته يقال فريته قطعته على جهة الإصلاح ويدل على أنّ مرادهم الأوّل قولهم بعده.
﴿ يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء ﴾ أي : زانياً ﴿ وما كانت أمّك بغياً ﴾ أي : زانية فمن أين لك هذا الولد لأنّ هذا القول ظاهره التوبيخ وفي هارون هذا أربعة أقوال :
أحدها : أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح والمراد أنك كنت في الزهد كهارون فكيف صرت هكذا ؟ وروي أنّ هارون هذا لما مات تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل تبركاً باسمه، سوى سائر الناس شبهوها به على معنى إنا ظننا أنك مثله في الصلاح وليس المراد منه الأخوّة في النسب كقوله تعالى :﴿ إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين ﴾ [ الإسراء، ٢٧ ] وروى المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت نجران سألوني فقالوا : إنكم تقرؤون ﴿ يا أخت هارون ﴾ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال :«إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم » قال ابن كثير : وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهارون نسباً فإنّ بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على من عنده أدنى علم وكأنه غرّه في أوّل التوراة أنّ مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجى الله تعالى موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه وجنوده فاعتقد أنّ هذه هي تلك وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح المتقدّم.
الثاني : أنه هارون أخو موسى لأنها كانت من نسله كما يقال التميمي يا أخا تميم وللهمداني يا أخا همدان أي : يا واحداً منهم.
الثالث : أنه كان فاسقاً في بني إسرائيل فنسبت إليه أي : شبهوها به.
الرابع : أنه كان لها أخ من أبيها يسمى هارون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به قال الرازي وهذا هو الأقرب لوجهين ؛ الأول : أنّ الأصل في الكلام الحقيقة فيحمل الكلام على أخيها المسمى بهارون الثاني : أنها أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح فحينئذٍ يصير التوبيخ أشدّ لأن من كان حال أبويه وأخيه بهذا الحال يكون صدور الذنب منه أفحش.
﴿ فأشارت إليه ﴾ أي : لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إلى عيسى عليه السلام أنه هو الذي يجيبكم قال ابن مسعود لما لم يكن لها حجة أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا وقالوا سخريتها بنا أشدّ من زناها ثم ﴿ قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ﴾ لم يبلغ سنّ هذا الكلام الذي لا يقوله إلا الأكابر العقلاء بل الأنبياء والتعبير بكان يدل على أنه عند الإشارة إليه لم يحوجهم إلا أن يكلموه بل حين سمع المحاورة ورأى الإشارة بدا منه قول خارق لعادة الرضعاء بل الصبيان روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابة يمينه وقيل : كلمهم ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان.
تنبيه : في كان هذه أقوال أحدها : إنها زائدة وهو قول أبي عبيد أي : كيف نكلم من في المهد وصبياً على هذا نصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع صلة.
ثانيها : أنها تامّة بمعنى حدث ووجد والتقدير كيف نكلم من وجد صبياً ؟ وصبياً حال من الضمير في كان قال الرازي وهذا هو الأقرب.
الثالث : أنها بمعنى صار أي : كيف نكلم من صار في المهد صبياً وصبياً على هذا خبرها، فإن قيل : كيف عرفت مريم من حال عيسى أنه يتكلم ؟ أجيب : بأنّ جبريل أو عيسى عليه السلام لما ناداها من تحتها أن لا تحزني وأمرها عند رؤية الناس بالسكوت صار ذلك كالتنبيه لها على أنّ المجيب هو عيسى عليه السلام أو لعلها عرفت ذلك بالوحي إلى زكريا أو إليها على سبيل الكرامة واختلفوا في المهد فقيل : هو حجرها لما روي أنها أخذته عليه السلام في خرقة فأتت به قومها فلما رأوها قالوا لها ما قالوا فأشارت إليه وهو في حجرها ولم يكن لها منزل بعد حتى يعد لها المهد وقيل : هو المهد بعينه والمعنى كيف نكلم صبياً سبيله أن ينام في المهد وقال وهب : أتى زكريا مريم عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى : انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فوصف نفسه بثمان صفات الصفة الأولى :﴿ قال إني عبد الله ﴾.
﴿ قال إني عبد الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لا أتعبد لغيره وفي ذلك إشارة إلى أنّ عبد الله لا يتخذ إلهاً من دونه ولا يستعبده شيطان ولا هوى.
الصفة الثانية : قوله تعالى ﴿ آتاني الكتاب ﴾ واختلف في ذلك الكتاب فقال بعضهم هو التوراة لأنّ الألف واللام في الكتاب تنصرف للمعهود والكتاب المعهود لهم هو التوراة وقال أبو مسلم هو الإنجيل لأنّ الألف واللام هاهنا للجنس وقال قوم التوراة والإنجيل لأنّ الألف واللام تفيد الاستغراق واقتصر البيضاوي على الأوّل والبقاعي على الثالث وزاد عليه والزبور وغيرها من الصحف.
الصفة الثالثة : قوله ﴿ وجعلني نبيا ﴾ واختلف في معنى ذلك فقيل معناه سيؤتيني الكتاب ويجعلني نبياً وأتى بلفظ الماضي بجعل المحقق وقوعه كالواقع كما في قوله تعالى :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ﴾ [ النحل، ١ ] وقيل : هو إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم متى كنت نبياً قال :" كنت وآدم بين الروح والجسد " وقال الأكثرون أوتي الإنجيل وهو صغير طفل وكان يعقل عقل الرجال وقال الحسن أُلهم التوراة وهو في بطن أمه.
الصفة الرابعة قوله :﴿ وجعلني مباركاً ﴾ بأنواع البركات ﴿ أينما ﴾ أي في أي مكان ﴿ كنت ﴾ وذكروا في تفسير المبارك وجوها :
أحدها : أنّ البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير ومعناه وجعلني ثابتاً على دين الله تعالى مستمرّاً عليه.
ثانيها : إنما كان مباركاً لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله، روى الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" سلمت أم عيسى عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم اكتب فقال : أيّ شيء أكتب ؟ فقال : اكتب أبجد، فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال هل تدري ما أبجد ؟ فعلاه بالدرّة ليضربه فقال : يا مؤّدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فإنني أعلمك ؛ الألف من آلاء الله والباء من بهائه والجيم من جماله والدال من أداء الحق إلى الله تعالى ".
ثالثها : البركة الزيادة والعلوّ فكأنه قال : جعلني في جميع الأحوال منجحاً مفلحاً لأني ما دمت أتقي الله في الدنيا أكون مستعلياً على الغير بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم أكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء.
رابعها : مباركاً على الناس من حيث يحصل بسبب دعائه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وعن قتادة أنّ امرأة رأته وهو يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص فقالت طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به فقال عيسى مجيباً لها : طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً.
تنبيه : قوله :﴿ أينما كنت ﴾ يدل على أنّ حاله لم يتغير كما قيل أنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف.
الصفة الخامسة قوله :﴿ وأوصاني بالصلاة ﴾ له طهرة للنفس ﴿ والزكاة ﴾ طهرة للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري ﴿ ما دمت حيا ﴾ ليكون ذلك حجة على من ادّعى أنه إله لأنه لا شبهة في أنّ من يصلي إلى إله ليس بإلاه.
فإن قيل : كيف يؤمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلاً والقلم مرفوع عن الصغير لقوله صلى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاث » الحديث. أجيب بوجهين : الأوّل : أنّ ذلك لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فيكون المعنى أوصاني بأدائهما في وقت وجوبهما عليّ وهو وقت البلوغ، الثاني : أنّ عيسى لما انفصل صيره الله بالغاً عاقلاً تامّ الخلقة ويدل عليه قوله تعالى :﴿ إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم ﴾ [ آل عمران، ٥٩ ] فكما أنه تعالى خلقه آدم تاماً كاملاً دفعة فكذا القول في عيس عليه السلام، قال الرازي : وهذا أقرب إلى ظاهر اللفظ لقوله :﴿ ما دمت حياً ﴾ فهذا يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه جميع زمان حياته.
فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه رأوا شخصاً كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجباً فكان ينبغي أن لا يتعجبوا.
أجيب : بأنه تعالى جعله مع صغر جثته قويّ التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء الصلاة والزكاة والآية دالة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل.
الصفة السادسة قوله :﴿ وبرّا ﴾ أي : وجعلني بارا ولما كان السياق لبراءة والدته قال :﴿ بوالدتي ﴾ أي : التي أكرمها الله تعالى بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر وفي ذلك إشارة إلى تنزيه أمّه عن الزنا إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأموراً بتعظيمها.
الصفة السابعة : قوله :﴿ ولم يجعلني جباراً ﴾ متعاظماً ﴿ شقياً ﴾ أي : عاصياً بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق إنما أفعل ذلك بمن يستحق وروي عن عيسى عليه السلام أنه قال قلبي لين وإني ضعيف في نفسي وعن بعض العلماء لا أجد العاق إلا جباراً شقياً ولا أجد سيء الملكة إلا مختالاً فخوراً وتلا ﴿ وما ملكت أيمانكم أنّ الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً ﴾ [ النساء : ٣٦ ].
الصفة الثامنة : قوله :﴿ والسلام ﴾ من الله ﴿ عليّ ﴾ فلا يقدر أحد على ضرّى ﴿ يوم ولدت ﴾ فلا يضرني شيطان ﴿ ويوم أموت ﴾ فلا يضرني أيضاً ومن يولد ويموت فليس بإلاه ﴿ ويوم أبعث حياً ﴾ يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام وفي ذلك إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلاً إلا في كونه من غير ذكر وإذا كان جنس السلام عليه كان اتباعه كذلك ولم يبق لأعدائه إلا اللعن، ونظيره قول موسى عليه السلام ﴿ والسلام على من اتبع الهدى ﴾ [ طه، ٤٧ ] بمعنى أنّ العذاب على من كذب وتولى.
﴿ ذلك ﴾ أي : الذي تقدّم نعته بقوله :﴿ إني عبد الله ﴾ إلى آخره هو ﴿ عيسى بن مريم ﴾ لا ما يصفه النصارى بقولهم أنه الله أو ابنه أو إله ثالث فهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني حيث جعل الموصوف بأضداد ما يصفونه وفي ذلك تنصيص على أنه ابن هذه المرأة وقوله تعالى :﴿ قول الحق ﴾ قرأ عاصم وابن عامر بنصب اللام على أنه مصدر مؤكد والباقون بالرفع على أنه خبر محذوف أي : هو قول الحق الذي لا ريب فيه والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة ثم عجب تعالى من ضلالهم فيه بقوله تعالى ﴿ الذي فيه يمترون ﴾ أي : يشكون شكاً يتكلفونه ويجادلون فيه فتقول اليهود ساحر وتقول النصارى ابن الله مع أنّ أمه امرأة في غاية الوضوح ليس موضعاً للشك أصلاً.
ثم دل على كونه حقاً في كونه ابناً لأمّه مريم لا غيرها بقوله رداً على من ضلّ :﴿ ما كان ﴾ أي : ما صح ولا يتأتى ولا يتصوّر في العقول ولا يصح ولا يأتي لأنه من المحال لكونه يلزم منه الحاجة ﴿ لله ﴾ الغني عن كل شيء ﴿ أن يتخذ من ولد ﴾ وأكده بمن لأنّ المقام يقتضي النفي العام، ولما كان اتخاذ الولد من النقائص أشار إلى ذلك بالتنزيه العام بقوله تعالى :﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزه عن كل نقص أي : من احتياج إلى ولد أو غيره ثم علل ذلك بقوله عز وجل ﴿ إذا قضى أمراً ﴾ أي : أيّ أمر كان أي : أراد أن يحدثه ﴿ فإنما يقول له كن ﴾ أي : يريده ويعلق قدرته به وقوله تعالى :﴿ فيكون ﴾ قرأه ابن عامر بنصب النون بتقدير أن أو على الجواب والباقون بالرفع بتقدير هو.
وقوله :﴿ وإنّ الله ربي وربكم ﴾ إخبار عن عيسى عليه السلام أنه قال ذلك وقرأ ابن عامر والكوفيون بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بفتحها بتقدير حذف حرف الجرّ متعلق بما بعده والتقدير ولأنّ الله ربي وربكم ﴿ فاعبدوه ﴾ وحده لتفرده بالإحسان كما أعبده كقوله تعالى :﴿ وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ﴾ [ الجن، ١٨ ]، والمعنى لوحدانيته أطيعوه وقيل : إنه عطف على الصلاة والتقدير وأوصاني بالصلاة وبأنّ الله وإليه ذهب الفراء ﴿ هذا ﴾ أي : الذي أمرتكم به ﴿ صراط ﴾ أي : طريق ﴿ مستقيم ﴾ أي : يقود إلى الجنة وقرأ قنبل بالسين وخلف بإشمام الصاد والباقون بالصاد الخالصة.
واختلف في قوله تعالى :﴿ فاختلف الأحزاب من بينهم ﴾ فقيل هم النصارى واختلافهم في عيسى أهو ابن الله أو إله معه أو ثالث ثلاثة وسموا أحزاباً لأنهم تحزبوا ثلاث فرق في أمر عيسى النسطورية والملكانية واليعقوبية، وقيل : هم اليهود والنصارى فجعله بعضهم ولداً وبعضهم كذاباً، وقيل : هم الكفار الشامل لليهود والنصارى وغيرهم من الذين كانوا في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ابن عادل : وهذا هو الظاهر لأنه لا تخصيص فيه ويؤيده قوله تعالى :﴿ فويل للذين كفروا ﴾ أي : شدّة عذاب لهم ﴿ من مشهد يوم عظيم ﴾ أي : حضور يوم القيامة وأهواله.
وقوله تعالى :﴿ أسمع بهم وأبصر ﴾ أي : بهم، صيغتا تعجب بمعنى ما أسمعهم وما أبصرهم ﴿ يوم يأتوننا ﴾ في الآخرة لأنّ حالهم في شدّة السمع والبصر جديرة بأن يتعجب منها فيندمون حيث لا ينفعهم الندم ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك بل يسلك بهم في كل ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم وقوله تعالى :﴿ لكن الظالمون ﴾ من إقامة الظاهر مقام المضمر إشعاراً بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر والأصل ولكنهم ﴿ اليوم ﴾ أي : في الدنيا ﴿ في ضلال مبين ﴾ أي : بين بذلك الضلال صموا عن سماع الحق وعموا عن إبصاره أي : اعجب منهم يا مخاطب في سمعهم وإبصارهم في الآخرة بعد أن كانوا في الدنيا صماً وعمياً، وقيل : معناه التهديد بما سيسمعونه وسيبصرون ما يسوءهم ويصدع قلوبهم.
ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه بقوله :﴿ وأنذرهم ﴾ أي : خوّفهم ﴿ يوم الحسرة ﴾ هو يوم القيامة يتحسر فيه المسيء على ترك الإحسان والمحسن على عدم الازدياد من الإحسان لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من أحد يموت إلا ندم " قالوا : وما ندمه يا رسول الله ؟ قال :" إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نزع » وفي قوله تعالى :﴿ إذ قضى الأمر ﴾ وجوه :
أحدها : إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب.
ثانيها : إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف.
ثالثها : قضى الأمر فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت كما روى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى :﴿ إذ قضي الأمر ﴾ فقال :«حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح وأهل النار غماً إلى غم » وقوله تعالى :﴿ وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ﴾ جملتان حاليتان وفيهما قولان ؛ أحدهما : أنهما حالان من الضمير المستتر في قوله :﴿ في ضلال مبين ﴾ أي : استقرّوا في ضلال مبين على هاتين الحالتين السيئتين، والثاني : أنهما حالان من مفعول ﴿ أنذرهم ﴾ أي : أنذرهم على هذه الحالة وما بعدها وعلى الأوّل يكون قوله :﴿ وأنذرهم ﴾ اعتراضاً والمعنى وهم في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة وهم لا يصدّقون بذلك اليوم ولما كان الإرث هو حوز الشيء بعد موت أهله وكان سبحانه وتعالى قد قضى بموت الخلائق أجمعين وأنه تعالى يبقى وحده عبّر عن ذلك بالإرث مقرّراً به مضمون الكلام السابق فقال مؤكداً تكذيباً لقولهم : إنّ الدهر لا يزال هكذا حياة لناس وموت لآخرين.
﴿ إنّا نحن ﴾ بعظمتنا التي اقتضت ذلك ﴿ نرث الأرض ﴾ فلا ندع بها شيئاً من عاقل ولا غيره ولما كان العاقل أقوى من غيره صرح به بعد دخوله فقال ﴿ ومن عليها ﴾ أي : من العقلاء بأن نسلبهم جميع ما في أيديهم ﴿ وإلينا ﴾ لا إلى غيرنا ﴿ يرجعون ﴾ فنجازيهم بأعمالهم.
القصة الثالثة : قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ واذكر في الكتاب إبراهيم ﴾ أي : خبره وقرأ هشام إبراهام بألف بعد الهاء والباقون بالياء وإنما أمر الله تعالى نبيه بالذكر لذلك ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان هو ولا قومه ولا أهل بلده مشتغلين بالتعليم ومطالعة الكتب فإذا أخبر عن هذه القصة كما كانت من غير زيادة ولا نقصان كان ذلك إخباراً عن الغيب ومعجزاً باهراً دالاً على نبوّته، وإنما ذكر الاعتبار بقصة إبراهيم عليه السلام لوجوه :
الأوّل : أنّ منكري التوحيد والذين أثبتوا توحيداً ومعبوداً سوى الله تعالى فريقان منهم من أثبت معبوداً غير الله تعالى حياً عاقلاً وهم النصارى، ومنهم من أثبت معبوداً غير الله تعالى جماداً ليس بحيّ ولا عاقل وهم عبدة الأوثان والفريقان وإن اشتركا في الضلال، إلا أنّ ضلال عبدة الأوثان أعظم فلما بين الله تعالى ضلال الفريق الأوّل تكلم في ضلال الفريق الثاني وهم عبدة الأوثان.
الثاني : أنّ إبراهيم عليه السلام كان أبا العرب وكانوا مقرّين بعلوّ شأنه وطهارة دينه على ما قال تعالى أبيكم إبراهيم، وقال تعالى :﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾ [ البقرة، ١٣٠ ] فكأنه تعالى قال للعرب : إن كنتم مقلدين لأبيكم على قولكم :﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة ﴾ [ الزخرف، ٢٢ ] فأشرف آبائكم وأعلاهم قدراً هو إبراهيم عليه السلام فقلدوه في ترك عبادة الأصنام والأوثان، وإن كنتم مستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان وبالجملة فاتبعوا إبراهيم إمّا تقليداً وإمّا استدلالاً.
الثالث : أنّ كثيراً من الكفار في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون نترك دين آبائنا وأجدادنا فذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وهو أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ثم قال تعالى في صفة إبراهيم ﴿ إنه كان ﴾ جبلةً وطبعاً ﴿ صدّيقاً ﴾ أي : بليغ الصدق في نفسه في أقواله وأفعاله أي : كان من أوّل وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصيانة وسيأتي الكلام على قوله :﴿ بل فعله كبيرهم هذا ﴾ [ الأنبياء، ٦٣ ] و﴿ إني سقيم ﴾ [ الصافات، ٨٩ ] في محله.
ولما كانت مرتبة النبوّة أرفع من مرتبة الصدّيقية قال تعالى :﴿ نبيا ﴾ أي : استنبأه الله تعالى : إذ لا رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه وبين عباده.
وقوله تعالى ﴿ إذ قال ﴾ بدل من إبراهيم وما بينهما اعتراض أو متعلق بكان أو بصدّيقاً نبياً أي : كان جامعاً لخصائص الصدّيقين والأنبياء حين قال ﴿ لأبيه ﴾ آزر هادياً له من تيه الضلال بعبادة الأصنام مستعطفاً له في كل جملة بقوله :﴿ يا أبت ﴾ والتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يجمع بينهما وقرأ ابن عامر بفتح التاء في الوصل والباقون بكسرها وأمّا الوقف فوقف ابن كثير وابن عامر بالهاء والباقون بالتاء، ثم إنّ الله تعالى حكى عنه أيضاً : أنه تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام النوع الأوّل قوله :﴿ لم تعبد ﴾ مريداً بالاستفهام المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل في نصحه له كاشفاً الأمر غاية الكشف بقوله :﴿ ما لا يسمع ولا يبصر ﴾ أي : ليس عنده قابلية لشيء من هذين الوصفين ليرى ما أنت فيه من خدمته أو يجيبك إذا ناديته حالاً أو مآلاً ﴿ ولا يغني عنك شيئاً ﴾ في جلب نفع ودفع ضرّ فوصف الأوثان بصفات ثلاث كل واحدة منها قادحة في الإلهية وبيان ذلك من وجوه :
أحدها : أنّ العبادة غاية التعظيم فلا تستحق إلا لمن له غاية الإنعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما تقرّر في تفسير قوله :﴿ وإنّ الله ربي وربكم ﴾ [ مريم، ٣٦ ] وكما أنه لا يجوز الاشتغال بشكر ما لم تكن منعمة وجب أن لا يجوز الاشتغال بعبادتها.
وثانيها : أنها إذا لم تسمع ولا تبصر ولا تميز من يطيعها عمن يعصيها فأيّ فائدة في عبادتها ؟ وهذا تنبيه على أنّ الإله يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات.
وثالثها : أنّ الدعاء مخ العبادة فإذا لم يسمع الوثن دعاء الداعي فأيّ منفعة في عبادته وإذا لم يبصر تقرّب من يتقرّب إليه فأيّ منفعة في ذلك التقرّب.
ورابعها : أنّ السامع المبصر الضارّ النافع أفضل ممن كان عارياً عن كل ذلك والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبودية الأخس.
وخامسها : إن كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى بها منفعة ولا يخاف من ضررها فأيّ فائدة في عبادتها ؟.
وسادسها : إذا كانت لا تحفظ نفسها عن الكسر والإفساد حين جعلها إبراهيم عليه السلام جذاذاً فأي رجاء فيها للغير ؟ فكأنه عليه السلام قال : ليست الإلهية إلا لرب يسمع ويبصر ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
النوع الثاني : قوله :﴿ يا أبت إني قد جاءني ﴾ من المعبود الحق ﴿ من العلم ما لم يأتك ﴾ منه ﴿ فاتّبعني ﴾ أي : فتسبب من ذلك أني أقول لك وجوباً عليّ للنهي عن المنكر ونصيحة لمالك عليّ من الحق اجتهد في تبعي ﴿ أهدك صراطاً ﴾ أي : طريقاً ﴿ سوياً ﴾ أي : مستقيماً كما أني لو كنت معك في طريق محسوس وأخبرتك أنّ أمامنا مهلكاً لا ينجو منه أحد وأمرتك أن تسلك مكاناً غير ذلك لأطعتني ولو عصيتني فيه عدّك كل أحد غاوياً.
النوع الثالث : قوله :﴿ يا أبت لا تعبد الشيطان ﴾ فإنّ الأصنام ليس لها دعوة أصلاً والله تعالى قد حرّم عبادة غيره مطلقاً على لسان كل وليّ فتعين أن يكون الآمر بذلك الشيطان فكأنه هو المعبود بعبادتها في الحقيقة ثم علل هذا النهي بقوله ﴿ إنّ الشيطان ﴾ البعيد من كل خير المحترق باللعنة ﴿ كان للرحمن عصياً ﴾ بالقوّة من حين خلق وبالفعل من حين أمره بالسجود لأبيك آدم عليه السلام فأبى فهو عدوّ لله وله والمطيع للعاصي لشيء عاص لذلك الشيء لأنّ صديق العدوّ عدوّ.
فإن قيل : هذا القول يتوقف على إثبات أمور ؛ أحدها : إثبات الصانع، وثانيها : إثبات الشيطان، وثالثها : أنّ الشيطان عاص، ورابعها : أنه لما كان عاصياً لم تجز طاعته، وخامسها : أن الاعتقاد الذي كان عليه آزر مستفاد من طاعة الشيطان ومن شأن الدلالة التي تورد على الشخص أن تكون مركبة من مقدّمات معلومة ليسلمها الخصم ولعلّ إبراهيم كان منازعاً في هذه المقدّمات وكيف والمحكي عنه أنه ما كان يثبت إلهاً سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الرحمن وإذا لم يسلم وجوده فكيف يسلم أنّ الشيطان عاص للرحمن وبتقدير تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرّد هذا الكلام أنّ مذهبه مقتبس من الشيطان بل لعله يغلب ذلك على خصمه ؟ وأجيب : بأنّ الحجة المعوّل عليها في إبطال مذهب آزر هو قوله :﴿ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئاً ﴾ وهذا الكلام جرى مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة فيسقط السؤال.
النوع الرابع قوله :﴿ يا أبت إني أخاف ﴾ لمحبتي لك وعزتي عليك ﴿ أن يمسك عذاب ﴾ أي : كائن ﴿ من الرحمن ﴾ الذي هو مولى كل من تولاه لعصيانك إياه ﴿ فتكون ﴾ أي : فتسبب عن ذلك أن تكون ﴿ للشيطان ولياً ﴾ أي : ناصراً وقريناً في النار.
ولما دعا إبراهيم عليه السلام أباه إلى التوحيد وذكر الدلائل على فساد عبادة الأوثان وأردف تلك الدلائل بالوعظ البليغ وأورد كل ذلك مقروناً بالرفق واللطف قابله أبوه بجواب يضاد ذلك فقابل حجته بالتقليد فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا أن ﴿ قال أراغب أنت عن آلهتي ﴾ بإضافتها إلى نفسه فقط إشارة إلى مبالغته في تعظيمها والرغبة عن الشيء تركه عمداً فأصر على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً وقابل قوله بالرفق يا أبت بالعنف حيث لم يقل يا بنيّ بل قال ﴿ يا إبراهيم ﴾ وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم بقوله مقسماً ﴿ لئن لم تنته ﴾ عما أنت عليه ﴿ لأرجمنك ﴾ أي : لأقتلنك أو لأرجمنك بالحجارة حتى تموت أو تبعد عني أو بالكلام القبيح فاحذرني ﴿ واهجرني ﴾ أي : بعد عني بالمفارقة من الدار والبلد وهي كهجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أي : تباعد عني ﴿ ملياً ﴾ أي : دهراً طويلاً لكي لا أراك، وقيل : اهجرني بالقول ولا تخاطبني دهراً طويلاً لأجل ما صدر منك من هذا الكلام وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى ويقاسي من قومه من العناد ومن عمه أبي لهب من الشدائد بأعظم آبائه وأقربهم به شبهاً.
فلما سمع إبراهيم عليه السلام كلام أبيه أجاب بأمرين أحدهما : أن ﴿ قال ﴾ له مقابلاً لما كان منه من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العقل والعلم ﴿ سلام عليك ﴾ توديع ومتاركة أي : سلمت مني لا أصيبك بمكروه ما لم أؤمر فيك بشيء فإنه لم يؤمر بقتاله على كفره كقوله :﴿ لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ﴾ [ القصص، ٥٥ ] ﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ﴾ [ الفرقان، ٦٣ ] وهذا يدل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج وعلى أنه يحسن مقابلة الإساءة بالإحسان ويجوز أن يكون دعاء له بالسلامة استمالة، ألا ترى أنه وعده بالاستغفار فيكون سلام برّ ولطف وهو جواب الحليم للسفيه كقوله تعالى :﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ﴾ [ الفرقان، ٦٣ ] ثم استأنف قوله :﴿ سأستغفر لك ربي ﴾ أي : المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للإسلام ﴿ إنه كان بي حفياً ﴾ أي : مبالغاً في إكرامي مرّة بعد مرّة وكرّة في إثر كرّة وقد وفىّ بوعده بقوله المذكور في الشعراء :﴿ واغفر لأبي ﴾ [ الشعراء، ٨٦ ] وهذا قبل أن يتبين له أنه عدوّ لله كما ذكره في براءة.
وثانيهما : أنه قال له انقياداً لأمر أبيه ﴿ وأعتزلكم ﴾ أي : جميعاً بترك بلادكم وأشار إلى أنّ من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله ﴿ وما تدعون ﴾ أي : تعبدون ﴿ من دون الله ﴾ الذي له الكمال كله فمن أقبل عليه وحده أصاب ومن أقبل على غيره ولو طرفة عين فقد خاب وخسر ﴿ وأدعو ﴾ أي : أعبد ﴿ ربي ﴾ وحده لاستحقاقه ذلك مني ولم يقيد الاعتزال بزمن بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم ثم دعا لنفسه بما ينبههم به على خسة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه ﴿ عسى أن لا أكون بدعاء ربي ﴾ المنفرد بالإحسان إليّ ﴿ شقياً ﴾ أي : كما شقيتم بعبادة الأصنام فإنها لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضرّكم ولما رأى من أبيه ومعاشرته ما رأى عزم على غربة مشقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي :
وما غربة الإنسان في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكل
وإني غريب بين بست وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وحقق ما عزم عليه فبين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال :﴿ فلما اعتزلهم ﴾ أي : بالهجرة إلى الأرض المقدّسة ﴿ وما يعبدون من دون الله ﴾ لم يضرّه ذلك ديناً ولا دنيا بل نفعه وعوّضه الله أولاداً كما قال تعالى ﴿ وهبنا له ﴾ كما هو الشأن في كل من ترك شيئاً لله ﴿ إسحاق ﴾ ولداً له لصلبه من زوجته العاقر العقيم بعد تجاوزها سنّ اليأس وأخذه هو في السنّ إلى حد لا يولد لمثله ﴿ ويعقوب ﴾ ولداً لإسحاق وخصهما بالذكر للزومهما محل إقامته وقيامهما بعد موته بخلافته فيه وأمّا إسماعيل عليه السلام فكان الله سبحانه وتعالى هو المتولي لتربيته بعد نقله رضيعاً إلى المسجد الحرام وإحيائه تلك المشاعر العظام فأفرده بالذكر جاعلاً له أصلاً برأسه بقوله بعد ﴿ واذكر في الكتاب إسماعيل ﴾ فترك ذكره مع إسحاق الذي هو أخوه لذلك ثم صرح بما وهب لأولاده جزاءً على هجرته بقوله تعالى :﴿ وكلاً ﴾ أي : منهما ﴿ جعلنا نبياً ﴾ عالي المقدار ويخبر بالأخبار العظيمة كما جعلنا إبراهيم نبياً.
﴿ ووهبنا لهم ﴾ كلهم ﴿ من رحمتنا ﴾ أي : شيئاً منها عظيماً من النسل الطاهر والذرّية الطيبة وإجابة الدعاء واللطف في القضاء والبركة في المال والأولاد وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة ﴿ وجعلنا لهم لسان صدق علياً ﴾ وهو الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهو العطية واستجاب الله تعالى دعوته في قوله تعالى :﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ﴾ [ الشعراء، ٨٤ ] فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم فقال تعالى :﴿ ملة أبيكم إبراهيم ﴾ [ الحج، ٨٧ ] وقد اجتمعت فيه خصال لم تجتمع في غيره أوّلها أنه اعتزل عن الخلق على ما قال ﴿ وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ﴾ فلا جرم بارك الله له في أولاده فقال :﴿ ووهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبياً ﴾. ثانيها : أنه تبرأ من أبيه كما قال عز وجل :﴿ فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرّأ منه ﴾ [ التوبة، ١١٤ ] لا جرم سماه الله أبا المسلمين فقال :﴿ ملة أبيكم إبراهيم ﴾ ثالثها : تلّ ولده للجبين ليذبحه في الله على ما قال تعالى :﴿ وتله للجبين ﴾ [ الصافات، ١٠٣ ] لا جرم فداه الله تعالى على ما قال ﴿ وفديناه بذبح عظيم ﴾ [ الصافات، ١٠٧ ]. رابعها : أسلم نفسه فقال :﴿ أسلمت لرب العالمين ﴾ [ البقرة، ١٣١ ] فجعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه فقال :﴿ يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ﴾ [ الأنبياء، ٦٩ ] خامسها : أشفق على هذه الأمّة فقال :﴿ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم ﴾ [ البقرة، ١٢٩ ] لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات في قوله تعالى :﴿ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ﴾ سادسها : وفي حق سارة في قوله تعالى :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾ [ النجم، ٣٧ ] لا جرم جعل موطئ قدميه مباركاً ﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ [ البقرة، ١٢٥ ] سابعها : عادى كل الخلق في الله فقال :﴿ فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين ﴾ فاتخذه الله خليلاً كما قال :﴿ واتخذ الله إبراهيم خليلاً ﴾ [ النساء، ١٢٥ ] ليعلم صحة قولنا ما خير على الله أحداً.
القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى ﴿ واذكر في الكتاب ﴾ أي : الذي لا كتاب مثله في الكمال ﴿ موسى ﴾ أي : الذي أنقذ الله به بني إسرائيل من العبودية ثم إنّ الله تعالى وصفه بأمور أحدها قوله تعالى :﴿ إنه كان مخلصاً ﴾ قرأه عاصم وحمزة والكسائي بفتح اللام أي : مختاراً اختاره الله تعالى واصطفاه وقيل أخلصه الله تعالى من الدنس والباقون بالكسر أي : أخلص التوحيد لله والعبادة ومتى ورد القرآن بقراءتين فكل منهما ثابت مقطوع به فجعل الله تعالى من صفة موسى عليه السلام كلا الأمرين. ثانيها : قوله تعالى :﴿ وكان رسولاً ﴾ إلى بني إسرائيل والقبط ﴿ نبياً ﴾ ينبئه الله بما يريد من وحيه لينبئ به المرسل إليهم فيرتفع بذلك قدره فلذلك صرح بها بعد دخولها في الرسالة ضمناً إذ كل رسول نبيّ وليس كل نبيّ رسولاً خلافاً للمعتزلة فإنهم زعموا كونهما متلازمين فكل رسول نبيّ وكل نبيّ رسول وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة الحج عند قوله :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ ﴾ [ الحج، ٥٢ ].
ثالثها : قوله تعالى :﴿ وناديناه ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ من جانب الطور ﴾ هو اسم جبل ﴿ الأيمن ﴾ أي : الذي يلي يمين موسى حين أقبل من مدين فأنبأناه هناك حين كان متوجهاً إلى مصر بأنه رسولنا ثم واعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون فكان لبني إسرائيل به من العجائب في رحمتهم بإنزال الكتاب والإلذاذ بالخطاب من جوف السحاب وفي إماتتهم لما طلبوا الرؤية ثم إحيائهم وغير ذلك ما يجل عن الوصف. رابعها : قوله تعالى ﴿ وقرّبناه ﴾ بما لنا من العظمة تقريب تشريف حالة كونه ﴿ نجياً ﴾ نخبره من أمرنا بلا واسطة من النجوى وهي السر والكلام بين اثنين كالسر وقيل قرب مكان أي : مكانا عالياً، عن أبي العالية أنه قرب حتى سمع صرير القلم حيث يكتب التوراة في الألواح وقيل أنجيناه من أعدائه.
خامسها : قوله تعالى :﴿ ووهبنا له ﴾ أي : هبة تليق بعظمتنا ﴿ من رحمتنا ﴾ أي : من أجل رحمتنا أو بعض رحمتنا ﴿ أخاه ﴾ أي : معاضدة أخيه وموازرته لا شخصه وإخوته وذلك إجابة لدعوته ﴿ واجعل لي وزيراً من أهلي ٢٩ هارون ﴾ [ طه : ٢٩، ٣٠ ] فإنه كان أسن من موسى.
تنبيه : أخاه مفعول أو بدل على تقدير أن تكون من للتبعيض وقوله :﴿ هارون ﴾ عطف بيان وقوله ﴿ نبياً ﴾ حال منه هي المقصودة بالهبة.
القصة الخامسة : قصة إسماعيل عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ واذكر في الكتاب إسماعيل ﴾ بن إبراهيم عليهما السلام الذين هم معترفون بنبوّته ومفتخرون برسالته وأبوّته فلزم من ذلك فساد تعليلهم إنكار نبوّتك بأنك من البشر ثم إنّ الله تعالى وصف إسماعيل بأمور :
أوّلها : قوله تعالى :﴿ إنه كان ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ صادق الوعد ﴾ في حق الله وفي حق غيره لمعونة الله له على ذلك بسبب أنه لا يعد وعداً إلا مقروناً بالاستثناء كما قال لأبيه حين أخبره بأمر ذبحه :﴿ ستجدني إن شاء الله من الصابرين ﴾ [ الصافات، ١٠٢ ] وخصه بالمدح به وإن كان الأنبياء كلهم كذلك لقصة الذبح فلا يلزم منه تفضيله مطلقاً وروي عن ابن عباس أنه وعد صاحباً له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة وروي أنّ عيسى عليه السلام قال له رجل انتظرني حتى آتيك فقال عليه السلام نعم وانطلق الرجل ونسي الميعاد فجاء إلى حاجته إلى ذلك المكان وعيسى عليه السلام هناك للميعاد، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أنه واعد رجلاً ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى غروب الشمس » وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاداً إلى أيّ وقت ينتظره ؟ قال : فإن واعده نهاراً فكل النهار وإن واعده ليلاً فكل الليل، وسئل إبراهيم بن زيد عن ذلك فقال : إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى.
ثانيها : قوله تعالى :﴿ وكان رسولاً نبياً ﴾ قد مرّ تفسيره.
وثالثها : قوله تعالى :﴿ وكان يأمر أهله بالصلاة ﴾ أي : التي هي طهرة البدن وقرّة العين وخير العون على جميع المآرب ﴿ والزكاة ﴾ أي : التي هي طهرة المال كما أوصى الله تعالى بذلك جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمراد بالأهل قومه، وقيل : أهله جميع أمته كان رسولاً إلى جرهم قاله الأصفهاني وإلى أهل تلك البراري بدين أبيه إبراهيم والمراد بالصلاة قال ابن عباس : يريد التي افترضها الله تعالى عليهم قال البغوي وهي الحنيفية التي افترضت علينا قيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم كما قال تعالى :﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾ [ الشعراء، ٢١٤ ] ﴿ وأمر أهلك بالصلاة ﴾ [ طه، ١٣٢ ] ﴿ قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ﴾ [ التحريم، ٦ ] وبالزكاة قال ابن عباس إنها طاعة الله والإخلاص فكأنه تأوّله على ما يزكو به الفاعل عند ربه تعالى والظاهر كما قال ابن عادل إنّ الزكاة إذا قرنت بالصلاة أن يراد بها الصدقات الواجبة.
رابعها : قوله تعالى :﴿ وكان عند ربه ﴾ بعبادته على حسب ما أمره به ﴿ مرضياً ﴾ وهذا في نهاية المدح لأنّ المرضي عند الله هو الفائز في كل طاعة بأعلى الدرجات فاقتد أنت به فإنه من أجلّ آبائك لتجمع بين طهارة القول والبدن والمال فتنال رتبة الرضا.
القصة السادسة : قصة إدريس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ واذكر في الكتاب ﴾ أي : الجامع لكل ما يحتاج إليه حتى ما يحتاج إليه من قصص المتقدّمين والمتأخرين ﴿ إدريس ﴾ وهو جدّ أبي نوح عليه السلام قيل : سمي إدريس لكثرة دراسته الكتب واسمه أحنوخ بمهملة ونون وآخره خاء معجمة وصفه الله تعالى بأمور أحدها : وثانيها : قوله تعالى :﴿ إنه كان صدّيقاً نبياً ﴾ أي : صادقاً في أفعاله وأقواله ومصدّقاً بما آتاه الله من آياته وعلى ألسنة الملائكة.
ثالثها : قوله تعالى :﴿ ورفعناه مكاناً علياً ﴾ وفيه قولان :
أحدهما : أنه من رفع المنزلة كقوله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ ورفعنا لك ذكرك ﴾ [ الانشراح، ٤٠ ]
فإنّ الله تعالى شرّفه بالنبوّة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أوّل من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب وأوّل من خاط الثياب ولبسها وكانوا من قبله يلبسون الجلود وأوّل من اتخذ السلاح وقاتل الكفار.
وثانيهما : أنه من رفعة المكان ثم اختلفوا فقال بعضهم : رفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة وهي التي رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم بها ليلة الإسراء وقيل : إلى الجنة وهو حيّ لا يموت وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض الخضر وإلياس واثنان في السماء عيسى وإدريس وقال وهب كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه فعجبت منه الملائكة واشتاق له ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس وقال له الليلة الثالثة : إني أريد أن أعلم من أنت، قال أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك فقال : لي إليك حاجة قال ما هي قال تقبض روحي فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه، فقبض روحه وردّها إليه بعد ساعة، فقال له ملك الموت : ما الفائدة في سؤالك قبض الروح ؟ قال لأذوق كرب الموت وغمته فأكون أشدّ استعداد له، ثم قال له إدريس : إنّ لي إليك حاجة أخرى، قال : وما هي قال ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن الله تعالى له في ذلك فرفعه فلما قرب من النار قال : لي إليك حاجة، قال : وما تريد ؟ قال : تسأل مالكاً أن يفتح أبوابها فأردها، ففعل ثم قال : كما أريتني النار فأرني الجنة فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتح أبوابها فأدخله الجنة ثم قال له ملك الموت اخرج لتعود إلى مكانك فتعلق بشجرة وقال ما أخرج منها فبعث الله تعالى ملكاً حكماً بينهما، فقال له الملك : ما لك لا تخرج ؟ قال : إنّ الله تعالى قال :﴿ كل نفس ذائقة الموت ﴾ [ آل عمران، ١٨٥ ] وقد ذقته، وقال :﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾ [ مريم، ٧١ ] وقد وردتها وقال :﴿ وما هم منها بمخرجين ﴾ [ الحجر، ٤٨ ]
فلست أخرج فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبإذني لا يخرج فهو حيّ هناك، وقال آخرون : بل رفع إلى السماء وقبض روحه.
وقال كعب الأحبار : إنّ إدريس سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال يا رب إني مشيت يوماً فكيف يمشي من يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهمّ خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرّها ما لا يعرفه فقال : يا رب خففت عني حرّ الشمس فما الذي قضيت فيه ؟ فقال تعالى : إنّ عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرّها فأجبته قال يا رب اجعل بيني وبينه خلة، فأذن له حتى أتى إدريس فكان إدريس يسأله فكان مما سأله أن قال له : إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي ليؤخر أجلي فازداد شكراً وعبادة، فقال الملك : لا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك الموت فقال لي حاجة إليك لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله فقال ليس ذلك إليّ ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدّم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال : إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً، قال : وكيف ذلك ؟ قال : لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، قال : إني أتيتك وتركته هناك، قال : فانطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فو الله ما بقي من أجل إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتاً.
ولما انقضى كشف هذه الأخبار العلية المقدار الجليلة الأسرار شرع سبحانه وتعالى ينسب أهلها بأشرف نسبهم ويذكر المنن بينهم، فقال عز من قائل :﴿ أولئك ﴾ أي : العالو الرتبة الشرفاء النسب المذكورون في هذه السورة من لدن زكريا إلى إدريس وهو مبتدأ وقوله ﴿ الذين أنعم الله عليهم ﴾ بما خصهم به من مزيد القرب إليه وعظيم المنزلة لديه صفة له وقوله تعالى ﴿ من النبيين ﴾ أي : المصطفين بالنبوّة الذين أنبأهم الله تعالى بدقائق الحكم ورفع محالهم بين الأمم بيان لهم وهو في معنى الصفة وما بعده إلى جملة الشرط صفة للنبيين فقوله :﴿ من ذرية آدم ﴾ أي : إدريس لقربه منه لأنه جدّ أبي نوح ﴿ وممن حملنا مع نوح ﴾ في السفينة أي : إبراهيم ابن ابنه سام ﴿ ومن ذرية إبراهيم ﴾ أي : إسماعيل وإسحاق ويعقوب ﴿ و ﴾ من ذرية ﴿ إسرائيل ﴾ وهو يعقوب أي : موسى وهارون وزكريا ويحيى وكذا عيسى لأنّ مريم من ذريته ﴿ وممن هدينا ﴾ إلى أقوم الطرق ﴿ واجتبينا ﴾ للنبوّة والكرامة أي : من جملتهم. وخبر أولئك ﴿ إذا تتلى عليهم ﴾ من أيّ : تالٍ كان ﴿ آيات الرحمن خرّوا سجداً ﴾ للمنعم عليهم تقرّباً إليه لما لهم من البصائر النيرة في ذكر نعمه عليهم وإحسانه إليهم ﴿ وبكياً ﴾ خوفاً منه وشوقاً إليه فكونوا مثلهم.
تنبيه : سجداً حال مقدرة قال الزجاج لأنهم وقت الخرور ليسوا سجداً وهو جمع ساجد وبكيا جمع باك وليس بقياس بل قياس جمعه على فعلة كقاض وقضاة ولم يسمع فيه هذا الأصل وأصل بكيا بكوياً قلبت الواو ياء والضمة كسرة، واختلف في هذا السجود فقال بعضهم : إنه الصلاة وقال بعضهم : سجود التلاوة على حسب ما تعبدوا به. قال الرازي : ثم يحتمل أن يكون المراد سجود القرآن ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بسجود فيفعلون ذلك لأجل ذكر السجود في الآية انتهى.
وروى ابن ماجه وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :«اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا » وعن صالح المزني قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي :" يا صالح هذه القراءة فأين البكاء ؟ " وعن ابن عباس : إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«ما غرغرت عين بماء إلا حرّم الله تعالى على النار جسدها » وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«إن القرآن نزل محزناً فإذا قرأتموه فتحازنوا » وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :«لا يلج النار من بكى من خشية الله ».
وقال العلماء : يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بآيتها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال : اللهمّ اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المتكبرين عن أمرك، وإذا قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك الآسفين لك، وإن قرأ هذه قال : اللهمّ اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الباكين عند تلاوة آيات كتابك وقرأ حمزة والكسائي ﴿ بكيا ﴾ بكسر الباء والباقون بضمها.
ولما وصف سبحانه وتعالى هؤلاء الأنبياء بصفة المدح ترغيباً لنا في التأسي بهم ذكر بعدهم من هو بالضدّ منهم فقال :﴿ فخلف من بعدهم ﴾ أي : في بعض الزمان الذي بعد هؤلاء الأصفياء سريعاً ﴿ خلف ﴾ في غاية الرداءة من أولادهم يقال خلفه إذا عقبه خلف سوء بإسكان اللام والخلف بفتح اللام الصالح كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر وفي الحديث :«في الله خلف من كل هالك » وفي الشعر :
ذهب الذي يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقال السدي : أراد بهم اليهود ومن لحق بهم وقال قتادة : في ﴿ أضاعوا الصلاة ﴾ تركوا الصلاة المفروضة، وقال ابن مسعود وإبراهيم : أخروها عن وقتها، وقال سعيد بن المسيب : هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا يصلي العصر حتى تغرب الشمس. ﴿ واتبعوا الشهوات ﴾ أي : المعاصي قال ابن عباس : هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمور واستحلوا نكاح الأخت من الأب، وقال مجاهد : هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة ﴿ فسوف يلقون غياً ﴾ وهو كما قال وهب وابن عباس : واد في جهنم بعيد قعره تستعيذ منه أوديتها كما رواه الحاكم وصححه، وقيل : هو الخسران وقيل هو الشر كقول القائل :
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
على الغيّ متعلق بلائماً وقيل : يلقون جزاء الغي كقوله :﴿ يلق أثاماً ﴾ [ الفرقان، ٦٨ ] أي : مجازاة الآثام.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ يلقون ﴾ ليس معناه يرون فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية.
ولما أخبر تعالى عن هؤلاء بالخيبة فتح لهم باب التوبة وحداهم إلى غسل هذه الحوبة بقوله :﴿ إلا من تاب ﴾ أي : مما هو عليه من الضلال وبادر بالأعمال وحافظ على الصلوات وكف نفسه عن الشهوات ﴿ وآمن ﴾ بما أخذ عليه به العهد ﴿ وعمل ﴾ بعد إيمانه تصديقاً له ﴿ صالحاً ﴾ من الصلوات والزكوات وغيرها ﴿ فأولئك ﴾ العالو الهمم الطاهرو الشيم ﴿ يدخلون الجنة ﴾ التي وعد المتقون ﴿ ولا يظلمون ﴾ من ظالم ما ﴿ شيئاً ﴾ من أعمالهم. فإن قيل : الاستثناء دل على أنه لا بدّ من التوبة والإيمان والعمل الصالح وليس الأمر كذلك لأنّ من تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإنه لا يجب عليهم الصلاة والزكاة أيضاً غير واجبة وكذلك الصوم فهذا لو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر منه عمل فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح ؟ أجيب بأنّ هذه الصورة نادرة والأحكام إنما تناط بالأعمّ الأغلب.
تنبيه : في هذا الاستثناء وجهان قال ابن عادل أظهرهما : أنه متصل وقال الزجاج : هو منقطع وهذا بناءً منه على أنّ المضيع للصلاة من الكفار ووافق الزجاج الجلال المحلي.
ولما ذكر تعالى في التائب أنه يدخل الجنة وصفها بأمور أحدها قوله تعالى :﴿ جنات عدن ﴾ أي : إقامة لا يظعن عنها بوجه من الوجوه وصفها بالدوام على خلاف وصف الجنان في الدنيا التي لا تدوم ثم بيّن تعالى أنها ﴿ التي وعد الرحمن عباده ﴾ الذين هو أرحم بهم وقوله ﴿ بالغيب ﴾ فيه وجهان ؛ أحدهما : أنّ الباء حالية وفي صاحب الحال احتمالان ؛ أحدهما : ضمير الجنة وهو عائد الموصول أي : وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها، والثاني : عباده أي : وهم غائبون عنها لا يرونها إنما آمنوا بها بمجرّد الأخبار منه. والوجه الثاني : أنّ الباء سببية أي : بسبب تصديق الغيب وسبب الإيمان به ولما كان من شأن الوعود الغائبة على ما يتعارفه الناس بينهم احتمال عدم الوقوع بيّن أنّ وعده ليس كذلك بقوله تعالى :﴿ إنه كان ﴾ أي : كوناً هو سنة ماضية ﴿ وعده مأتياً ﴾ أي : مقصوداً بالفعل فلا بدّ من وقوعه فهو كقوله :﴿ إن كان وعد ربنا لمفعولا ﴾ [ الإسراء، ١٠٨ ].
ثانيها قوله تعالى :﴿ لا يسمعون فيها لغواً ﴾ وهو فضول الكلام وما لا طائل تحته وفيه تنبيه ظاهر على تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله تعالى عنه الدار الآخرة التي لا تكليف فيها، وقد مدح الله تعالى أقواماً بقوله :﴿ وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً ﴾ [ الفرقان، ٧٢ ] ﴿ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ﴾ [ القصص، ٥٥ ] نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا وقوله تعالى :﴿ إلا سلاما ﴾ استثناء منقطع أي : ولكن يسمعون قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة أو سلاماً من الله أو من الملائكة أو من بعضهم على بعض ويجوز أن يراد باللغو مطلق الكلام قال في القاموس لغا لغواً تكلم، فيكون الاستثناء متصلاً أي : لا يسمعون فيها كلاماً إلا كلاماً يدل على السلامة أو سلاماً من الله أو من الملائكة أو من بعضهم على بعض.
ثالثها : قوله تعالى :﴿ ولهم رزقهم فيها ﴾ أي : على ما يتمنونه ويشتهونه على وجه لا بدّ من إتيانه ولا كلفة عليهم فيه ولا منة عليهم به ﴿ بكرةً وعشياً ﴾ أي : على قدرهما في الدنيا وليس في الجنة نهار ولا ليل بل ضوء ونور أبداً وقيل : إنهم يعرفون النهار برفع الحجب والليل بإرخائها، فإن قيل : المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بأحوال مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرةً وعشياً ليس من الأمور المستعظمة أجيب بوجهين ؛ الأوّل : قال الحسن : أراد الله تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة ولبس الحرير التي كانت عادة العجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرّة وكانت عادة أشراف اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك الثاني أنّ المراد دوام الرزق تقول أنا عند فلان صباحاً ومساءً وبكرةً وعشياً تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين، وقيل : المراد رفاهية العيش وسعة الرزق أي : لهم رزقهم متى شاؤوا، ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل أشار إلى علوّ رتبتها وما هو سببها بقوله تعالى :﴿ تلك الجنة ﴾.
﴿ تلك الجنة ﴾ بأداة البعد لعلو قدرها وعظم أمرها ﴿ التي نورث من عبادنا ﴾ أي : نعطي عطاء الإرث الذي لا كدّ فيه ولا استرجاع وتبقى له الجنة كما يبقى للوارث مال الموروث وقيل تنقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل النقل إرثاً قاله الحسن ﴿ من كان تقياً ﴾ أي : المتقين من عباده.
فإن قيل : الفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك الوصف فلا يدخلها ؟.
أجيب : بأن الآية تدل على أن الجنة يدخلها المتقي وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها وأيضاً صاحب الكبيرة متق عن الكفر ومن صدق عليه أنه متق عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متق وجب أن يدخل الجنة فدلالة الآية على أنّ صاحب الكبيرة يدخلها أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها.
واختلف في سبب نزول قول جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم :﴿ وما نتنزل إلا بأمر ربك ﴾ فقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا » فنزلت الآية وقال مجاهد : أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال لعلى أبطأت قال : قد فعلت، قال : ولم لا أفعل وأنتم لا تتسوّكون ولا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم وقال :﴿ وما نتنزل إلا بأمر ربك ﴾ فنزلت، وقال قتادة والكلبي : احتبس جبريل عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح وسبب سؤالهم عن ذلك ما روي «أنّ قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهل يجدونه في كتابهم وسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه وقالت اليهود نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن ثلاث فلم يعرف فسلوه عنهنّ فإن أخبركم عن خصلتين فاتبعوه فسألوه عن قصة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً وقيل خمسة عشر يوماً فشقّ ذلك عليه مشقة عظيمة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم أبطأت حتى ساء ظني واشتقت إليك، قال إني إليك أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت هذه الآية وأنزل قوله تعالى :﴿ ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً ٢٣ إلا أن يشاء الله ﴾ [ الكهف، ٢٢ - ٢٣ ] وسورة الضحى » فإن قيل : قوله :﴿ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً ﴾ كلام الله وقوله :﴿ وما نتنزل إلا بأمر ربك ﴾ كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل ؟ أجيب : بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كقوله تعالى :﴿ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ﴾ [ البقرة، ١١٧ ] وهذا كلام الله تعالى ثم عطف عليه قوله :﴿ وأنّ الله ربي وربكم فاعبدوه ﴾ [ مريم، ٣٦ ] ثم علل جبريل قوله ذلك بقوله :﴿ له ما بين أيدينا ﴾ أي : أمامنا من أمور الآخرة ﴿ وما خلفنا ﴾ أي : من أمور الدنيا ﴿ وما بين ذلك ﴾ أي : ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة أي : له علم ذلك جميعه وقيل :﴿ ما بين ذلك ﴾ ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة وقيل :﴿ ما بين أيدينا ﴾ ما بقي من الدنيا ﴿ وما خلفنا ﴾ ما مضى منها ﴿ وما بين ذلك ﴾ مدّة حياتنا وقيل :﴿ ما بين أيدينا ﴾ بعد أن نموت ﴿ وما خلفنا ﴾ قبل أن نخلق ﴿ وما بين ذلك ﴾ مدّة الحياة وقيل : ما بين أيدينا الأرض إذا أردنا النزول إليها وما خلفنا السماء وما ينزل منها وما بين ذلك الهواء يريد أنّ ذلك كله لله فلا نقدر على شيء إلا بأمره ﴿ وما كان ربك ﴾ المحسن إليك ﴿ نسياً ﴾ بمعنى ناسيا أي : تاركاً لك بتأخير الوحي عنك لقوله تعالى :﴿ ما ودّعك ربك وما قلى ﴾ [ الضحى، ٣ ] أي : وما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به وما كان ذلك عن ترك الله تعالى لك وتوديعه إياك
ثم استدل على ذلك بقوله :﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما ﴾ فلا يجوز عليه النسيان إذ لا بدّ أن يمسكهما حالاً بعد حال وإلا لبطل الأمر فيهما وفيمن يتصرّف، والآية دالة على أنّ الله تعالى رب لكل شيء حصل بينهما ففعل العبد مخلوق له تعالى لأنّ فعل العبد حاصل بين السماء والأرض.
تنبيه : يجوز في رب أن يكون بدلاً من ربك وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : هو رب وقوله تعالى :﴿ فاعبده واصطبر لعبادته ﴾ خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم مرتب على ما تقدّم أي : لما عرفت أنّ ربك لا ينساك فاعبده بالمراقبة الدائمة على ما ينبغي من مثلك واصطبر عليها ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفار بك.
فإن قيل : لم لم يقل واصطبر على عبادته لأنها صلته فكان حقه تعديه بعلى ؟ أجيب : بأنه ضمن معنى الثبات لأنّ العبادة ذات تكاليف قلّ من يثبت لها فكأنه قيل اثبت لها مصطبراً كقولك للمحارب اصبر لقرنك ثم علل ذلك بقوله :﴿ هل تعلم له سمياً ﴾ قال ابن عباس : هل تعلم له مثلاً أي : نظيراً فيما يقتضي العبادة والذي يقتضيها كون منعماً بأصول النعم وفروعها وهي خلق الأجسام والحياة والعقل وغيرها، فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه وتعالى وإذا كان قد أنعم عليك بغاية الإنعام وجب أن تعظمه بغاية التعظيم وهي العبادة.
وقال الكلبي هل تعلم أحداً تسمى الله غيره فإنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله تعالى على شيء.
ولما أمر تعالى بالعبادة والمصابرة عليها فكأنّ سائلاً سأل وقال : هذه العبادة لا منفعة فيها في الدنيا وأمّا في الآخرة فقد أنكرها بعضهم فلا بدّ من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى يظهر أنّ الاشتغال بالعبادة يفيد فلهذا حكى الله سبحانه وتعالى قول منكري الحشر فقال تعالى :﴿ ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً ﴾ قال الكلبيّ : نزلت في أبيّ بن خلف حين أخذ عظاماً بالية فتتها بيديه ويقول زعم لكم محمد أنا نبعث بعدما نموت وقيل : نزلت في أبي جهل، وقيل : المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث.
ثم إنّ الله تعالى أقام الدليل على صحة البعث بقوله :﴿ أولا يذكر الإنسان ﴾ أي : المجترئ بهذا الإنكار على ربه ﴿ أنّا خلقناه من قبل ﴾ أي : من قبل جدله ﴿ ولم يك شيئاً ﴾ أصلاً وأنا بمقتضى ذلك قادرون على إعادته فلا ينكر ذلك قال بعض العلماء لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه إذ لا شك أن الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أوّلاً. ونظيره قوله تعالى :﴿ قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة ﴾ [ يس، ٧٩ ] وقوله تعالى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ﴾ [ الروم، ٢٧ ] وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بسكون الذال وضم الكاف مخففة والباقون بفتح الذال مشدّدة وكذا الكاف.
فإن قيل : كيف أمر الله الإنسان بالتذكر مع أنّ التذكر هو العلم بما علمه من قبل ثم تخللهما سهو ؟ أجيب : بأنّ المراد أولاً يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرئ أولا يذكر مشدّداً، أمّا إذا قرئ مخففاً فالمراد أولاً يعلم ذلك من حال نفسه لأنّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حياً في الدنيا ثم صار حياً.
ثم إنه تعالى لما قرّر المطلوب بالدليل أردفه بالتهديد من وجوه أوّلها قوله تعالى :﴿ فوربك ﴾ أي : المحسن إليك بالانتقام منهم ﴿ لنحشرنهم ﴾ بعد البعث ﴿ والشياطين ﴾ الذين يضلونهم بأن نحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة وفائدة القسم أمران :
أحدهما : أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين والثاني : في إقسام الله باسمه مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تفخيم لشأنه ورفع منه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى :﴿ فورب السماء والأرض أنه لحق ﴾ [ الذاريات، ٢٣ ] والواو في ﴿ والشياطين ﴾ يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهو أولى. ثانيها : قوله تعالى ﴿ ثم لنحضرنهم ﴾ بعد طول الوقوف ﴿ حول جهنم ﴾ من خارجها ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله تعالى منها وخلصهم فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطتهم وسروراً إلى سرورهم ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغبطهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم وقوله تعالى :﴿ جثياً ﴾ حال مقدرة من مفعول ﴿ لنحضرنهم ﴾ وهو جمع جاث جمع على فعول نحو قاعد وقعود وجالس وجلوس وأصله جثوو بواوين أو جثوى من جثاً يجثو ويجثى لغتان.
فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى :﴿ وترى كل أمّة جاثية ﴾ [ الجاثية، ٢٨ ] ولأنّ العادة جارية بأنّ الناس في مواقف مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق أو لما يدهمهم من شدّة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم، وإذا كان هذا حاصلاً للكل فكيف يدل على مزيد ذل الكفار ؟ أجيب : بأنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور على هذه الحالة وذلك يوجب مزيد ذلهم وقرأ حفص وحمزة والكسائي ﴿ جثياً ﴾ و﴿ عتياً ﴾ و﴿ صلياً ﴾ بكسر أوّلها والباقون بضمه.
ثالثها : قوله تعالى :﴿ ثم لننزعنّ ﴾ أي : لنأخذن أخذاً بشدّة وعنف ﴿ من كل شيعة ﴾ أي : فرقة مرتبطة بمذهب واحد ﴿ أيهم أشدّ على الرحمن ﴾ الذي غمرهم بالإحسان ﴿ عتياً ﴾ أي : تكبراً مجاوزاً للحدّ والمعنى أنّ الله تعالى يحضرهم أوّلاً حول جهنم ثم يميز البعض من البعض فمن كان أشدّهم تمرّداً في كفره خص بعذاب عظيم لأنّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره وليس عذاب من يتمرّد ويتجبر كعذاب المقلد ففائدة هذا التمييز التخصيص بشدّة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب، ولذلك قال تعالى في جميعهم :﴿ ثم لنحن أعلم ﴾.
﴿ ثم لنحن أعلم ﴾ من كل عالم ﴿ بالذين هم ﴾ بظواهرهم وبواطنهم ﴿ أولى بها ﴾ أي : بجهنم ﴿ صلياً ﴾ أي : دخولاً واحتراقاً فنبدأ بهم ولا يقال أولى إلا مع اشتراكهم وأصله صلوى من صلى بكسر اللام وفتحها.
تنبيه : في إعراب ﴿ أيهم أشدّ ﴾ أقوال كثيرة أظهرها عند جمهور المعربين وهو مذهب سيبويه أن ﴿ أيهم ﴾ موصولة بمعنى الذي وإن حركتها حركة بناء بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر و﴿ أشدّ ﴾ خبر مبتدأ مضمر والجملة صلة لأيهم وأيهم وصلتها في محل نصب مفعول بها، ولأيّ أحوال أربعة ذكرتها في شرح القطر.
ولما كانوا بهذا الإعلام المؤكد بالإقسام من ذي الجلال والإكرام جديرين بإصغاء الأفهام إلى ما توجه إليها من الكلام التفت إلى مقام الخطاب إفهاماً للعموم فقال تعالى :﴿ وإن ﴾ أي : وما ﴿ منكم ﴾ أيها الناس أحد ﴿ إلا واردها كان ﴾ ذلك الورود ﴿ على ربك ﴾ الموجد لك المحسن إليك ﴿ حتماً مقضياً ﴾ أي : حتمه وقضى به لا يتركه والورود موافاة المكان فاختلفوا في معنى الورود هنا. فقال ابن عباس والأكثرون : الورود هاهنا هو الدخول والكناية راجعة إلى النار وقالوا يدخلها البرّ والفاجر ثم ينجي الله المتقين فيخرجهم منها ويدل على أنّ الورود هو الدخول قوله تعالى :﴿ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ﴾ [ هود، ٩٨ ] وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنّ نافع بن الأزرق مارى ابن عباس في الورود فقال ابن عباس : هو الدخول وقال نافع ليس الورود الدخول، فتلا ابن عباس ﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ﴾ [ الأنبياء، ٩٨ ] أدخلها هؤلاء أم لا ؟ ثم قال : يا نافع أما والله أنا وأنت سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله منها وما أرى الله يخرجك منها بتكذيبك، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ ثم ننجي الذين اتقوا ﴾.
﴿ ثم ننجي الذين اتقوا ﴾ أي : الكفر منها ولا يجوز أن يقول ثم ننجي الذين اتقوا ﴿ ونذر الظالمين ﴾ بالكفر ﴿ فيها جثياً ﴾ على الركب ألا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول روي أنّ عبد الله بن رواحة قال أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصدر فقال صلى الله عليه وسلم :«يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ﴿ ثم ننجي الذين اتقوا ﴾ » فدلّ على أنّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول ولم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك وعن جابر أنه سأل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«الورود الدخول ولا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً حتى أنّ للنار ضجيجاً من بردها » ولأنّ حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله تعالى محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأجزاء المؤمنين يجعلها برداً وسلاماً كما في حق إبراهيم عليه السلام وكما أنّ الملائكة الموكلين بها لا يجدون ألمها وكما في الكوز الواحد من الماء كان يشربه القبطي فيكون دماً ويشربه الإسرائيلي فيكون ماء عذباً.
وعن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال :«إذا دخل أهل الجنة الجنة وقال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهي خامدة » وخامدة بخاء معجمة أي : ساكنة وروي بالجيم أي : باردة ولا بدّ من ذلك في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين.
فإن قيل : فإذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم فما الفائدة في ذلك الدخول ؟ أجيب بوجوه ؛ أحدها : أنّ ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منها.
ثانيها : أنّ فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها.
ثالثها : أنّ فيه مزيد غم على أهل النار حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين.
رابعها : أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة، وقيل : المراد بالذين يردونها من تقدّم ذكرهم من الكفار فكنى عنهم أوّلاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة وعلى هذا القول فلا يدخل النار مؤمن واستدل له بقوله تعالى :﴿ إنّ الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ١٠١ لا يسمعون حسيسها ﴾ [ الأنبياء : ١٠١، ١٠٢ ] والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها بقوله تعالى :﴿ وهم من فزع يومئذٍ آمنون ﴾ [ النمل، ٨٩ ] وروي عن مجاهد من حمّ من المؤمنين فقد وردها وفي الخبر " الحمى كير من جهنم وهي حظ المؤمن من النار " وفي رواية " الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء " وقوله : من فيح جهنم أي : وهجها وحرّها وقال ابن مسعود :﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾ يعني القيامة والكناية راجعة إليها قال البغوي والأوّل أصح وعليه أهل السنة وروي " أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير وفي رواية من إيمان " وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل يخرج من النار حبواً فيقول الله له : اذهب فادخل الجنة قال فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول وجدتها ملأى فيقول الله : له اذهب فادخل الجنة فإنّ لك مثل الدنيا وعشر أمثالها فيقول له أتسخر بي وأنت الملك فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه » فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة قوله حتى بدت نواجذه أي : أنيابه وأضراسه وقيل : هي أعلى الأسنان.
وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً ثم تدركهم الرحمة قال فيخرجون فيطرحون على باب الجنة قال فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل الحمم الفحم والغثاء كل ما جاء به السيل » وقرأ الكسائي ننجي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون الثانية وتشديد الجيم.
ولما أقام تعالى الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث قال تعالى عطفاً على قوله ويقول الإنسان :﴿ وإذا تتلى عليهم ﴾ أي : الناس من المؤمنين والكفار من أيّ تال كان ﴿ آياتنا ﴾ أي : القرآن حال كونها ﴿ بينات ﴾ أي : واضحات وقيل مرتبات الألفاظ ملخصات المعاني وقيل : ظاهرات الإعجاز ﴿ قال الذين كفروا ﴾ بآيات ربهم البينة جهلاً منهم ونظراً إلى ظاهر الحياة الدنيا الذي هو مبلغهم من العلم ﴿ للذين آمنوا ﴾ أي : لأجلّهم أو مواجهة لهم إعراضاً عن الاستدلال بالآيات بالإقبال على هذه الشبهة الواهية وهي المفاخرة بالمكاثرة في الدنيا من قولهم ﴿ أي الفريقين ﴾ نحن بما لنا من الاتساع أم أنتم بما لكم من خشونة العيش ورثاثة الحال ولو كنتم أنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن من حالنا لأنّ الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في الذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة وإنما كان الأمر بالعكس فإنّ الكفار كانوا في النعمة والراحة والاستعلاء والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والقلة هذا حاصل شبهتهم والقائل ذلك هو النضر بن الحارث وذووه من قريش للذين آمنوا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويلبسون خير ثيابهم فقالوا للمؤمنين أيّ الفريقين ﴿ خير مقاماً ﴾ أي : موضع قيام أو إقامة على قراءة ابن كثير بضم الميم والباقون بفتحها ففي كلتا القراءتين يحتمل أن يكون اسم مصدر أو اسم مكان إما من قام ثلاثياً أو من أقام.
تنبيه : قالوا زيد خير من عمرو وشر من بكر ولم يقولوا أخير منه ولا أشرّ منه لأنّ هاتين اللفظتين كثر استعمالهما فحذفت همزتاهما ولم يثبتا إلا في فعل التعجب فقالوا أخير بزيد وأشرر بعمرو وما أخير زيداً وما أشر عمراً، والعلة في إثباتهما في فعلي التعجب أنّ استعمال هذين اللفظين اسماً أكثر من استعمالهما فعلاً فحذفت الهمزة في موضع الكثرة وبقيت على أصلها في موضع القلة ﴿ وأحسن ندياً ﴾ أي : مجمعاً ومتحدثاً والنديّ المجلس يقال نديّ وناد والجمع الأندية منه ﴿ وتأتون في ناديكم المنكر ﴾ [ العنكبوت، ٢٩ ] وقال تعالى :﴿ فليدع ناديه ﴾ [ العلق، ١٧ ] ويقال ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في مجلس ومنه دار الندوة وكانت تجمع القوم فجعلوا ذلك الامتحان بالإنعام والإحسان دليلاً على رضا الرحمن مع التكذيب والكفران وغفلوا عن أنّ في ذلك مع التكذيب بالبعث تكذيباً بما يشاهدون منا من القدرة على العقاب بإحلال النقم وسلب النعم ولو شئنا لأهلكناهم وسلبنا جميع ما يفتخرون به.
﴿ وكم أهّلكنا قبلهم ﴾ ثم بيّن إبهام كم بقوله :﴿ من قرن ﴾ شاهدوا ديارهم ورأوا آثارهم ﴿ هم ﴾ أي : أهل تلك القرون ﴿ أحسن ﴾ من هؤلاء ﴿ أثاثاً ﴾ أي : أمتعة ﴿ ورئياً ﴾ أي : ومنظراً فلو دلّ حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيب الله لوجب أن لا يصل إلى هؤلاء غمّ في الدنيا وقرأ قالون وابن ذكوان بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء وقفاً ووصلاً وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياءً وله فيها الإدغام والإظهار.
تنبيه :﴿ كم ﴾ مفعول ﴿ أهلكنا ﴾ مقدّم واجب التقديم لأنّ له صدر الكلام لأنها إمّا استفهامية أو خبرية وهي محمولة على الاستفهامية أي : كثيراً من القرون أهلكنا و﴿ من قرن ﴾ تمييز لكم مبين لها وإنما سمى أهل كل عصر قرناً لأنهم يتقدّمون من بعدهم وقول البيضاوي وهم أحسن صفة لكم تبع فيه الزمخشريّ وغيره ورد بأن كم الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها فهم أحسن في محل جر صفة لقرن وجمعه نظراً للمعنى لأنّ القرن مشتمل على أفراد كثيرة.
ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ لهؤلاء المبعدين ردّاً عليهم وقطعاً لمعاذيرهم وهتكاً لشبههم هذا الذي افتخرتم به لا يدل على حسن الحال في الآخرة بل على عكس ذلك فقد جرت عادته تعالى أنه ﴿ من كان في الضلالة ﴾ مثلكم كوناً راسخاً بسط له في الدنيا وطيب عيشه في ظاهر الحال فيها ونعم بأنواع الملاذ وقوله ﴿ فليمدد له الرحمن مدّاً ﴾ أمر بمعنى الخبر معناً فندعه في طغيانه ونمهله في كفره بالبسط في الآثار والسعة في الديار والطول في الأعمال وإنفاقها فيما يستلذ به من الأوزار ولا يزال يمدّ له استدراجاً ﴿ حتى إذا رأوا ﴾ أي : كل من كفر بأعينهم ﴿ ما يوعدون ﴾ من قبل الله ﴿ إمّا العذاب ﴾ في الدنيا بأيدي المؤمنين وغيرهم أو في البرزخ ﴿ وإما الساعة ﴾ أي : القيامة التي هم بها مكذبون وعن الاستعداد لها معرضون ولا شيء يشبه أهوالها وخزيها ونكالها ﴿ فسيعلمون ﴾ إذا رأوا ذلك ﴿ من هو شرّ مكاناً ﴾ أي : من جهة المكان الذي قوبل به المقام في قولهم :﴿ خير مقاماً ﴾ ﴿ وأضعف جنداً ﴾ أي : أقل ناصراً أهم أم المؤمنون أي : أضعف من جهة الجند أي : الذي أشير به إلى النديّ في قولهم :﴿ وأحسن ندياً ﴾ لأنهم في النار والمؤمنون في الجنة فهذا ردّأ عليهم في قولهم :﴿ أيّ الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً ﴾.
﴿ ويزيد الله الذين اهتدوا ﴾ إلى الإيمان ﴿ هدى ﴾ بما ينزل عليهم من الآيات عوض ما زوي عنهم من الدنيا لكرامتهم عنده مما بسط للضلال لهوانهم عليه وأشار إلى أنّ مثل ما خذل أولئك بالنوال وفّق هؤلاء لمحاسن الأعمال بإقلال الأموال فقال عز من قائل :﴿ والباقيات الصالحات ﴾ أي : الطاعات والمعارف التي شرحت لها الصدور وأنارت بها القلوب وأوصلت إلى علام الغيوب ﴿ خير عند ربك ﴾ مما متع به الكفرة والخيرية هنا في مقابلة قولهم :﴿ أي الفريقين خير مقاماً ﴾ وقيل :﴿ الباقيات الصالحات ﴾ هي الصلوات وقيل : التسبيح روى أبو الدرداء قال :«جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأخذ عوداً يابساً وأزال الورق عنه ثم قال : إنّ قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله تحط الخطايا كما يحط ورق هذه الشجرة الريح خذهنّ يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهنّ الباقيات الصالحات وهي من كنوز الجنة » فكان أبو الدرداء يقول : لأعملنّ ذلك ولأكثرنّ عمله حتى إذا رآني الجهال حسبوا أني مجنون. قال الرازي : والقول الأوّل أولى لأنه تعالى إنما وصفها بالباقيات الصالحات من حيث يدوم ثوابها فلا تختص ببعض العبادات فهي بأسرها باقية صالحة نظراً إلى أثرها الذي هو الهداية ثم بيّن تعالى خيريتها بقوله تعالى ﴿ ثواباً ﴾ أي : من جهة الثواب ﴿ وخيرٌ مرداً ﴾ أي : من جهة العاقبة يوم الحسرة.
فإن قيل : لا يجوز أن يقال هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره والذي عليه الكفار لا خير فيه أصلاً أجيب بأنّ المراد خير مما ظنه الكفار بقولهم :﴿ خير مقاماً وأحسن ندياً ﴾، وقيل : هو كقولهم الصيف أحرّ من الشتاء بمعنى أنه في حرّه أبلغ منه في برده فالكفرة يردّون إلى فناء وخسارة والمؤمنون إلى ربح وبقاء.
ولما ذكر تعالى الدلائل أوّلاً على صحة البعث ثم أورد شبهة المنكرين وأجاب عنها أورد عليهم الآن ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعناً في القول بالحشر فقال تعالى :﴿ أفرأيت الذي ﴾ أي : الذي يعرض عن هذا اليوم ويزيد على ذلك بأن ﴿ كفر بآياتنا ﴾ الدالات على عظمتنا بالدلالات البينات ﴿ وقال ﴾ جرأة منه وجهلاً ﴿ لأوتينّ ﴾ أي : والله لأوتين في الساعة على تقدير قيامها ﴿ مالاً وولداً ﴾ أي : عظيمين فلم يكفه في جهله تعجيز القادر حتى ضم إليه إقدار العاجز وقرأ حمزة والكسائي وولداً وكذا ولداً في جميع ما في هذه السورة بضم الواو وسكون اللام والباقون بفتح الواو واللام في الجميع يقال ولد وولد كما يقال عرب وعرب وعدم وعدم أما القراءة بفتحتين فواضحة وهو اسم مفرد قائم مقام الجمع وأما قراءة الضم والإسكان فقيل : هي كالتي قبلها في المعنى وقيل : بل هي جمع لولد نحو أسد وأسد وأنشدوا على ذلك
ولقد رأيت معاشراً *** قد أثمروا مالاً وولداً
وأنشدوا شاهداً على أنّ الولد والولد مترادفان قول الآخر
فليت فلاناً كان في بطن أمه *** وليت فلاناً كان ولد حمار
ولما كان ما ادعاه لا علم به إلا بأحد أمرين لا علم له بواحد منهما أنكر قوله ذلك بقوله تعالى :﴿ أطلع الغيب ﴾ الذي هو غائب عن كل مخلوق فهو في بعد عن الخلق كالعالي الذي لا يمكن أحداً منهم الاطلاع إليه وتفرد به الواحد القهار ﴿ أم اتخذ ﴾ أي : بغاية جهده ﴿ عند الرحمن عهداً ﴾ عاهده عليه بأن يؤتيه ما ذكر بطاعة فعلها على وجهها ليقف سبحانه فيه عند قوله وقيل في العهد كلمة الشهادة، وعن قتادة هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول، وعن الكلبي هل عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك وعن الحسن رحمه الله تعالى نزلت في الوليد بن المغيرة والمشهور أنها في العاص بن وائل قال خباب بن الأرت كان لي عليه دين فاقتضيته فقال : لا والله حتى تكفر بمحمد فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد حياً ولا ميتاً ولا حين تبعث قال : فإني إذا مت بعثت قلت : نعم قال : إذا بعثت جئني وسيكون لي ثمّ مال وولد فأعطيك وقيل : صاغ له خباب حُلياً فاقتضاه الأجر فقال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأنّ في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثم فإني أوتي مالاً وولداً فأعطيك حينئذٍ
ثم إنه سبحانه وتعالى بيّن من حاله ضدّ ما ادعاه فقال تعالى :﴿ كلا ﴾ وهي كلمة ردع وتنبيه على الخطأ أي : هو مخطئ فيما يقول ويتمناه ﴿ سنكتب ﴾ أي : نحفظ عليه ﴿ ما يقول ﴾ فنجازيه به في الآخرة وقيل : نأمر الملائكة حتى يكتبوا عليه ما يقول ﴿ ونمدّ له من العذاب مدّاً ﴾ أي : نزيده بذلك عذاباً فوق عذاب كفره وقيل : نطيل مدّة عذابه.
﴿ ونرثه ﴾ بموته ﴿ ما يقول ﴾ أي : ما عنده من المال والولد ﴿ ويأتينا ﴾ يوم القيامة ﴿ فرداً ﴾ لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا فضلاً أن يؤتى ثمّ زائداً قال تعالى :﴿ ولقد جئتمونا فرادى ﴾ [ الأنعام، ٩٤ ] وقيل : فرداً رافضاً لهذا القول منفرداً عنه.
ولما تكلم سبحانه وتعالى في مسألة الحشر والنشر تكلم الآن في الردّ على عباد الأصنام فقال :﴿ واتخذوا ﴾ أي : كفار قريش ﴿ من دون الله ﴾ أي : الأوثان ﴿ آلهة ﴾ يعبدونها ﴿ ليكونوا لهم عزاً ﴾ أي : منفعة بحيث يكونون لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك ثم أجاب تعالى بقوله تعالى :﴿ كلا ﴾.
﴿ كلا ﴾ ردع وإنكار لتعززهم بها ﴿ سيكفرون بعبادتهم ﴾ أي : تستجحد الآلهة عبادتهم ويقولون ما عبدتمونا كقوله تعالى :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ﴾ [ البقرة، ١٦٦ ] وفي آية أخرى :﴿ ما كانوا إيانا يعبدون ﴾ [ القصص، ٦٣ ] وقيل : أراد بذلك الملائكة لأنهم كانوا يكفرون بعبادتهم ويتبرؤون منهم ويخصمونهم وهو المراد من قوله تعالى :﴿ أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ﴾ [ سبأ، ٤٠ ] وقيل : إنّ الله تعالى يحي الأصنام يوم القيامة حتى يوبخوا عبادهم ويتبرؤوا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم ويجوز أن يراد الملائكة والأصنام ﴿ ويكونون عليهم ضدّا ﴾ أي : أعواناً وأعداءً.
فإن قيل : لم وحده وهو خبر عن جمع ؟ أجيب : بأنه إما مصدر في الأصل والمصادر موحدة مذكرة وإما لأنه مفرد في معنى الجمع قال الزمخشري : والضدّ العون وحد توحيد قوله عليه الصلاة والسلام :«وهم يد على من سواهم لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامّهم وتوافقهم » انتهى. والحديث رواه أبو داوود وغيره والشاهد فيه قوله يد حيث لم يقل أيد. ولما ذكر تعالى ما لهؤلاء الكفار مع آلهتهم في الآخرة ذكر بعده ما لهم مع الشياطين في الدنيا وأنهم يتولونهم وينقادون إليهم فقال تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم.
﴿ ألم تر ﴾ أي : تنظر ﴿ أنّا أرسلنا ﴾ أي : سلطنا ﴿ الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً ﴾ الأز والهز والاستفزاز أخوات ومعناها التهييج وشدّة الإزعاج أن تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات.
﴿ فلا تعجل عليهم ﴾ أي : تطلب عقوبتهم بأن يهلكوا ويبيدوا حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم ﴿ إنما نعدّ لهم عدّاً ﴾ أي : ليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة، ونظيره قوله تعالى :﴿ ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ ﴾ [ الأحقاف، ٣٥ ]
وعن ابن عباس كان إذا قرأها بكى وقال آخر العدد خروج نفسك آخر العدد دخول قبرك آخر العدد فراق أهلك.
وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها فقال إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد، وقيل : نعدّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها، وقيل نعدّ الأوقات إلى وقت الأجل المعين لكل أحد الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان.
ثم بيّن تعالى ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين والمجرمين في كيفية الحشر فقال :﴿ يوم ﴾ أي : واذكر يوم ﴿ نحشر المتقين ﴾ بإيمانهم ﴿ إلى الرحمن ﴾ أي : إلى محل كرامته وقوله تعالى ﴿ وفداً ﴾ حال أي : وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم والوفد الجماعة الوافدون يقال وفد يفد وفداً ووفوداً ووفادة أي : قدم على سبيل التكرمة فهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالصف، وقال أبو البقاء وفد جمع وافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب وهذا الذي قاله ليس بمذهب سيبويه لأنّ فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه وأجازه الأخفش وجرى عليه الجلال المحلي فقال : وفد جمع وافد بمعنى راكب انتهى.
وقال ابن عباس : وفداً ركباناً، وقال أبو هريرة على الإبل وقال عليّ رضي الله تعالى عنه والله ما يحشرون على أرجلهم ولكن فوق نوق رحالها الذهب ونجائب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن هموا بها طارت.
﴿ ونسوق المجرمين ﴾ بكفرهم ﴿ إلى جهنم ﴾ وقوله تعالى :﴿ ورداً ﴾ حال أي : مشاة بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء وقيل : عطاش قد تقطعت أعناقهم من شدّة العطش لأنّ من يرد الماء لا يرد إلا بعطش وحقيقة الورد المسير إلى الماء.
وقوله تعالى :﴿ لا يملكون الشفاعة ﴾ الضمير فيه للعباد المدلول عليهم بذكر المتقين والمجرمين وقيل للمتقين وقيل : للمجرمين وقوله تعالى :﴿ إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً ﴾ استثناء متصل على القولين الأوّلين، منقطع على الثالث والمعنى أنّ الشافعين لا يشفعون إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهداً كقوله تعالى :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ [ الأنبياء، ٢٨ ] ويدخل في ذلك أهل الكبائر من المسلمين إذ كل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً وهو التوحيد فوجب دخوله تحته ويؤيده ما روى عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم :«أيعجز أحدكم أن يتخذ عند كل صباح ومساء عند الله عهداً قالوا : وكيف ذلك قال : يقول كل صباح ومساء : اللهمّ فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأنّ محمداً عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهد توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة » فظهر أنّ المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر.
ولما ردّ سبحانه وتعالى على عبدة الأوثان عاد إلى الردّ على من أثبت له ولداً بقوله تعالى :﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولداً ﴾ أي : قالت اليهود : عزير ابن الله وقالت النصارى : المسيح ابن الله وقالت العرب : الملائكة بنات الله.
﴿ لقد جئتم شيئاً إدّاً ﴾ قال ابن عباس أي : منكراً وقال قتادة أي : عظيماً وقال ابن خالويه : الأدّ والإدّ العجب وقيل : العظيم المنكر والإدة الشدّة وأدّني الأمر وأدني أثقلني وعظم عليّ
وقرأ :﴿ تكاد السماوات ﴾ نافع والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وقرأ ﴿ يتفطرن منه ﴾ أبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة بعد الياء بنون ساكنة وكسر الطاء مخففاً والباقون بعد الياء بتاء وفتح الطاء مشدّدة يقال انفطر الشيء وتفطر أي : تشقق وقراءة التشديد أبلغ لأنّ التفعل مطاوع فعل والانفعال مطاوع فعل ولأنّ أصل التفعل التكلف ﴿ وتنشق الأرض ﴾ أي : تنخسف بهم ﴿ وتخرّ الجبال هدّاً ﴾ أي : تسقط وتنطبق عليهم.
﴿ أن ﴾ أي : من أجل أن ﴿ دعوا للرحمن ولداً ﴾ قال ابن عباس وكعب : فزعت السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا اتخذ الله ولداً.
فإن قيل : كيف يؤثر القول في انفطار السماوات وانشقاق الأرض وخرور الجبال ؟ أجيب بوجوه ؛ الأوّل : أنّ الله تعالى يقول كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوّه بها لولا حلمي وإني لا أعجل بالعقوبة، الثاني : أن يكون استعظاماً للكلمة وتهويلاً وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لقواعده وأركانه الثالث : أنّ السماوات والأرض والجبال تكاد أن تفعل كذلك لو كانت تعقل هذا القول.
ثم نفى الله تعالى عن نفسه الولد بقوله تعالى :﴿ وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً ﴾ أي : ما يليق به اتخاذ الولد ؛ لأنّ ذلك محال أما الولادة المعروفة فلا مقالة في امتناعها وأمّا التبني فإنّ الولد لا بدّ وأن يكون شبيهاً بالوالد ولا شبيه لله تعالى لأنّ اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض إمّا من سرور أو استعانة أو ذكر جميل وكل ذلك لا يصح في حق الله تعالى.
﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ كل من في السماوات والأرض ﴾ أي : أنّ كل معبود من الملائكة في السماوات والأرض من الناس منهم العزير وعيسى ﴿ إلا آتي الرحمن ﴾ أي : ملتجئ إلى ربوبيته ﴿ عبداً ﴾ منقاداً مطيعاً ذليلاً خاضعاً كما يفعل العبيد ومن المفسرين كالجلال المحلي من حمله على يوم القيامة خاصة والأوّل أولى لأنه لا تخصيص في الآية.
﴿ لقد أحصاهم ﴾ أي : حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يخرجون عن حوزه وعلمه وقبضته وقدرته وكلهم تحت تدبيره وقهره ﴿ وعدّهم عدّاً ﴾ أي : عدّ أشخاصهم وأيامهم وأنفاسهم وأفعالهم فإنّ كل شيء عنده بمقدار لا يخفى عليه شيء من أمورهم.
﴿ وكلهم آتيه ﴾ أي : كل واحد منهم يأتيه ﴿ يوم القيامة فرداً ﴾ أي : وحيداً ليس معه من الدنيا شيء من مال أو نصير يمنعه.
ولما رد سبحانه وتعالى على أصناف الكفرة وبالغ في شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال :﴿ إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً ﴾ أي : سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرّض منهم لأسبابها من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك. روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال :«إذا أحب الله عبداً يقول لجبريل أحببت فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء قد أحبّ الله فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم توضع له المحبة في الأرض » وإذا أبغض الله العبد قال مالك لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك والسين في سيجعل إما لأنّ السورة مكية وكان المؤمنون حينئذٍ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا قوي الإسلام والمعنى سيحدث لهم في القلوب مودة وإمّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم الله إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم، وروي عن كعب قال مكتوب في التوراة لا محبة لأحدٍ في الأرض حتى يكون ابتداؤها من السماء من الله عز وجل ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض ومصداق ذلك في القرآن قوله :﴿ سيجعل لهم الرحمن ودّاً ﴾ وقال أبو مسلم : معناه يهب لهم ما يحبون والودّ والمحبة سواء.
ولما ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة التوحيد والنبوّة والحشر والردّ على فرق المبطلين بيّن تعالى أنه يسر ذلك بلسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ فإنما يسرناه ﴾ أي : القرآن ﴿ بلسانك ﴾ أي : العربي أي : لولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك لك ﴿ لتبشر به المتقين ﴾ أي : المؤمنين ﴿ وتنذر ﴾ أي : تخوّف ﴿ به قوماً لدّاً ﴾ جمع ألد أي : جدل بالباطل وهم كفار مكة.
ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة عظيمة بليغة فقال تعالى :﴿ وكم ﴾ أي : كثيراً ﴿ أهلكنا قبلهم من قرن ﴾ أي : أمّة من الأمم الماضية بتكذيب الرسل لأنهم إذا تأمّلوا وعلموا أنه لا بدّ من زوال الدنيا وأنه لا بدّ فيها من الموت وخافوا سوء العاقبة في الآخرة كانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب. ثم أكد ذلك بقوله تعالى :﴿ هل تحس ﴾ أي : ترى وقيل : تجد ﴿ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ﴾ أي : صوتاً خفياً لا قال الحسن : بادوا جميعاً فلم يبق منهم عين ولا أثر أي : فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء.
تنبيه : الركز الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم ومنه ركز الرمح أي : غيبه في الأرض وأخفاه ومنه الركاز وهو المال المدفون لخفائه واستتاره.
Icon