تفسير سورة سورة مريم من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
﴿كهيعص﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ﴾ أي إن في هذه السورة ذكر رحمة ربك لعبده زكريا
﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾ سراً: لم يسمعه سوى مولاه
﴿قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ ضعف لشيخوختي وكبر سني ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ أي كنت سعيداً بإجابة دعائي فيما مضى؛ فلا تخيب رجائي فيما يأتي
﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ﴾ الذين يلوني في النسب ﴿مِن وَرَآئِي﴾ من بعدي. وخوفه منهم: إهمالهم للدين، وعدم تمسكهم به، وتضييعهم له؛ كما ضيعته بنو إسرائيل في غيبة موسى، وبعد وفاته ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً﴾ عقيماً لا تلد؛ لكبر سنها ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ﴾ من عندك ﴿وَلِيّاً﴾ يلي أمري من بعدي، ويدعو الناس لمعرفتك وعبادتك
﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ أي يرث ما أوتيناه من علم، ودين، وحكمة ﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً﴾ أي مرضياً عندك في دينه، ومرضياً عند الناس في خلقه
﴿لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً﴾ أي لم نجعل له نظيراً. وقيل: لم نجعل مسمى بيحيى قبله
﴿قَالَ رَبِّ إِنَّي﴾ كيف ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً﴾ عقيماً لا تلد ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً﴾ من عتا: إذا يبس. أي بلغت نهاية السن. قيل: كان عمره وقتذاك مائة وعشرين سنة.
﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً﴾ علامة على ذلك ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ أي بأيامها. وقد كانوا يتقربون إلى الله تعالى بالصوم عن الطعام والكلام، والتفرغ للعبادة؛ ولا يزال - ولن يزال - الصيام والتفرغ للعبادة من موجبات إجابة الدعاء، وتحقق الرجاء
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ﴾
وهو موضع الصلاة ﴿فَأَوْحَى﴾ أشار وأومأ ﴿إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ﴾ انقطعوا لعبادة الله تعالى وذكره ﴿بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ أوائل النهار وأواخره
﴿بِقُوَّةٍ﴾ بجد واجتهاد ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾ أي آتيناه الرشاد والسداد؛ اللذين يؤهلانه لأن يحكم بين الناس. قيل: كان وهو ابن ثلاث سنين يدعوه الصبيان للعب معهم؛ فيقول: ما للعب خلقت
﴿وَحَنَاناً﴾ أي وآتيناه ﴿مِّن لَّدُنَّا﴾ حناناً؛ وهو الرأفة، والشفقة، والمحبة ﴿وَزَكَاةً﴾ طهارة، وبركة
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ ابنة عمران ﴿إِذِ انتَبَذَتْ﴾ اعتزلت وانفردت ﴿مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً﴾ قيل: حاضت؛ فاعتزلت المحراب، وذهبت قبل المشرق
﴿فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم﴾ ناحيتهم ﴿حِجَاباً﴾ ستراً يسترها عن الناس. قيل: لتغتسل من حيضتها ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا﴾ هو جبريل عليه السلام ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً﴾ أي كالبشر. والملائكة: أجسام نورانية؛ تتشكل - بأمر الله تعالى - كيف شاءت ﴿سَوِيّاً﴾ أي مستوي الخلقة؛ فلا هو بالكسيح، ولا الأعمى؛ بل حسن الوجه، مستوي الجسم ﴿قَالَتْ﴾ مريم؛ لما رأته معترضاً طريقها ﴿أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ أي إن كنت ممن يتقي الله ويخافه، ويخشى غضبه وعذابه: فلا تتعرض لي بسوء ﴿قَالَ﴾ جبريل: لا تخافي يا مريم، ولا تخشى سوءاً ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ﴾ إليك ﴿لأًّهَبَ لَكِ﴾ بأمره وقدرته ﴿غُلاَماً زَكِيّاً﴾ طاهراً مباركاً وقرىء «ليهب لك» أي ربك
﴿قَالَتْ إِنِّي﴾ كيف ﴿يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي﴾ أنا عذراء ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾
بتزوج
﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾ زانية
﴿قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ وقوله قضاء وأمر. قيل: لما رأى يوسف النجار مظاهر الحمل على مريم - وقد كان لا يشك في طهرها وصلاحها - سألها قائلاً: هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت مريم: نعم. قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم؛ ألم تعلم بأن الله تبارك وتعالى أنبت الزرع - يوم خلقه ابتداء - من غير بذر؟ والبذر يومئذٍ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر أولم تعلم أن الله تعالى بقدرته أنبت الشجر بغير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر؛ بعد ما خلق كل واحد منهما وحده؟ أم تقول: لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء؛ ولولا ذلك لم يقدر على إنباته؟ أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وزوجه من غير أنثى ولا ذكر؟ قال يوسف: بلى ووقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله تبارك وتعالى ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً﴾ علامة للناس؛ دالة على قدرتنا، وتصديقاً لرسالته ﴿وَرَحْمَةً مِّنَّا﴾ بهم؛ لأنه أرسل لهدايتهم وإرشادهم
﴿فَحَمَلَتْهُ﴾ حملت بعيسى عليه السلام؛ بعد أن نفخ جبريل في جيب درعها ﴿فَانْتَبَذَتْ﴾ اعتزلت ﴿بِهِ﴾ بحملها ﴿مَكَاناً قَصِيّاً﴾ بعيداً. قيل: كانت مدة الحمل ساعة واحدة
﴿فَأَجَآءَهَا﴾ ألجاها ﴿الْمَخَاضُ﴾ وجع الولادة ﴿إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ أصلها. قيل: كانت يابسة غير مثمرة ﴿قَالَتْ﴾ حين رأت ما يجر عليها ذلك من الفضيحة ﴿يلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾ لا يذكرني أحد بخير أو بشر وهنا ظهرت آية الله تعالى، ونزل عيسى عليه الصلاة والسلام للوجود؛ ليكون شاهداً على قدرته تعالى، هادياً إلى دينه، مبشراً بخاتم رسله
﴿فَنَادَاهَا﴾ عيسى ﴿مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي﴾ ففزعت مريم وأجابته: وكيف لا أحزن وأنت معي؟ لا ذات زوج فأقول: من زوجي، ولا مملوكة فأقول: من سيدي فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام. وقيل المنادي جبريل عليه الصلاة واسلام
﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً﴾ سيداً كريماً. وقيل: نهر ماء؛ كان منقطعاً وأجراه الله تعالى إرهاصاً لولادة عيسى عليه السلام
﴿وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً﴾ ولو شاء ربك لأنزل الرطب من غير هز الجذع؛ ولكنه تعالى أراد أن يجعل لكل شيء سبباً. والرطب من أَفضل الأغذية والأدوية للوالدات (انظر آية ٨١ من سورة النساء)
﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً﴾ أي فإن رأيت آدمياً ﴿فَقُولِي﴾ لمن ترينه، ويسألك عن هذا الغلام ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً﴾ صمتاً ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً﴾ بعد ذلك وكان صومهم عن الطعام والكلام
﴿قَالُواْ يمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً﴾ عجيباً عظيماً؛ وقد أرادوا بذلك الزنا؛
-[٣٦٩]- لأن الولد من الزنا: كالشيء المفترى؛ قال تعالى: ﴿وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ﴾ أريد به الولد؛ يقصد إلحاقه بالزوج وليس منه
﴿يأُخْتَ هَارُونَ﴾ في العفة، والصلاح، والتقى. وكان رجلاً مشهوراً بالدين، مشهوداً له بالطهر، منقطعاً إلى عبادة الله تعالى. وقيل: قصد به هرون أخو موسى عليهما السلام ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ﴾ أي ما كان زانياً: فتطلعين مثله ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾ زانية
﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ أي إلى عيسى: أن كلموه هو ولا تكلموني ﴿قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً﴾ المهد: فراش الطفل. وبينما هم في جدالهم مع مريم؛ إذا بعيسى يرد عليهم
﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ الإنجيل، وقال: ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ وهو لم يؤته بعد؛ بمعنى سيؤتيني: وذلك لتحقق الإيتاء؛ ولأن الله تعالى قضى أزلاً بنزول الكتاب عليه، واختياره للنبوة ﴿وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ أي سيجعلني. وقال بعضهم: إن الله تعالى آتاه الكتاب، وجعله نبياً في هذه السن؛ كما علم آدم الأسماء كلها وهو لم يعد طور التكوين بعد
﴿ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ﴾ أي القول الحق: إنه عيسى ابن مريم؛ لا ابن الله كما زعم الكافرون؛ ﴿الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ﴾ يختلفون
﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ كما يزعمون ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزه وتقدس عما يقولون (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) ﴿إِذَا قَضَى أَمْراً﴾ أراده ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ من غير تعب، ولا نصب، ولا مثال سبق
﴿هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ طريق قويم؛ مؤد إلى الجنة
﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ أي ما أسمعهم، وما أبصرهم في الآخرة؛ رغم تصامهم في الدنيا عن سماع آيات الله تعالى، وتعاميهم عن رؤية الحق، والنظر إلى حجج الله تعالى الدالة على وحدانيته وقدرته؛ ويقولون في الآخرة ﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾
﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾ يوم القيامة: يتحسر فيه الكافر على كفره، والظالم على ظلمه، والمسيء على إساءته، ﴿إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ﴾ بدخولهم النار ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ عن ذلك في الدنيا
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ﴾ القرآن ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ جد رسولنا عليهما الصلاة والسلام، ورأس الملة الحنيفية
-[٣٧٠]- ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً﴾ مبالغاً في الصدق
﴿إِذْ قَالَ لأًّبِيهِ﴾ آزر ﴿يأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ﴾ من الأصنام؛ وتدع الخالق الرازق، السميع البصير
﴿فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً﴾ طريقاً مستوياً مستقيماً؛ موصلاً للسعادة الأبدية.
﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يإِبْرَاهِيمُ﴾ أي أتاركها ومنصرف عنها؟ يقال رغب في الشيء: إذا أراده. ورغب عنه: إذا لم يرده ﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً﴾ أي دهراً طويلاً
﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾ مكرماً
﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ﴾ أي وما تعبدون من الأصنام ﴿مِن﴾ غيره ﴿وَأَدْعُو رَبِّي﴾ أعبده ﴿عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً﴾ أي عسى ألا أشقى بعبادة ربي، كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام
﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ﴾ فارقهم، وترك معاشرتهم
﴿وَوَهَبْنَا لَهٍّمْ مِّن رَّحْمَتِنَا﴾ النبوة، والمال، والولد ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً﴾ وهو الثناء الطيب، والذكر الحسن من جميع أهل الأديان
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً﴾ خلصه الله تعالى من دنس الشرك
﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ﴾ أي من جانب الجبل الذي يلي يمين موسى؛ قائلين له «يا موسى إني أنا الله رب العالمين» ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ مناجياً لنا؛ أي مكلماً؛ والمناجاة: المسارّة
﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ﴾ يحثهم عليها. أثنى الله تعالى عليه بأنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة؛ فيجب على كل مؤمن أن يأمر بهما أهله وأقرباءه، وخلانه، وجيرانه، وأصدقاءه وأحباءه؛ ليفوز بالقرب، من حضرة الرب
﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً﴾ مبالغاً في الصدق
﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ في الدنيا بتشريفه بالنبوة، وإعزازه بالصدق وقيل: رفع بعد موته إلى السماء، أو إلى الجنة
﴿وَإِسْرَائِيلَ﴾ هو يعقوب عليه السلام ﴿وَاجْتَبَيْنَآ﴾ اخترنا
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ﴾ هذه الآية من المغيبات التي انفرد بها القرآن الكريم: فها هو ذا الخلف الذي أضاع الصلاة، واتبع الشهوات: تقوم إلى الصلاة فلا ترى سوى مستهزىء بك، ضاحك عليك، ساخر من فعلك وهو يرتكب في نفس الوقت من المناكير والشهوات؛ ما يتعفف عن إتيانه أحط المخلوقات، وأحقر الكائنات؛ فلا حول ولا قوة إلا ب الله ﴿فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً﴾ عذاباً شديداً، أو يلقون شراً وخيبة؛ وعاقبتهم العذاب الشديد
﴿إِلاَّ مَن تَابَ﴾ عن إضاعة الصلاة، واتباع الشهوات ﴿وَآمَنَ﴾ إيماناً صحيحاً ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً﴾ من ثواب أعمالهم
﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ أي جنات الإقامة؛ من عدن في المكان: إذا أقام فيه
﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً﴾ كما يسمعون في الدنيا. واللغو: فحش القول، والباطل من الكلام الذي لا فائدة فيه ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ أي صباحاً ومساءً. والمعنى: أن رزقهم في الجنة دائم أبداً لا ينقطع؛ والجنة ليس فيها نهار وليل؛ بل هي ضوء ونور دائمان
﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ﴾ أي ما ننزل ﴿إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ لنا بالنزول، وليس النزول وفقاً لإرادتنا ومشيئتنا. أو لا ننزل إلا حاملين أمر ربك لك. وهذا من قول جبريل عليه الصلاة والسلام للنبي حين استوحش له، وطلب منه الإكثار من زيارته، أو هو من قول المتقين عند دخولهم الجنة. أي ما ننزل الجنة بعملنا؛ بل بأمر ربنا وفضله
﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾ داوم عليها ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ شبيهاً في القدرة، والقوة، والرحمة
﴿وَيَقُولُ الإِنْسَانُ﴾ الكافر، المنكر للبعث ﴿مَا مِتُّ لَسَوْفَ﴾ وصار جسمي عظاماً نخرة، ورفاتاً مبعثرة ﴿لَسَوْفَ أُخْرَجُ﴾ من قبري ﴿حَياً﴾ كما كنت في الدنيا
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ﴾ أي نجمعهم يوم القيامة مع الشياطين الذين أطاعوهم، واتبعوا إضلالهم ﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً﴾ جاثين باركين على الركب؛ وهو نهاية الإذلال
﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ﴾ لنخرجن ﴿مِن كُلِّ شِيعَةٍ﴾ أمة وجماعة ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً﴾ أي أشد جرأة على الله تعالى، وانتهاكاً لحرماته
﴿أَوْلَى بِهَا﴾ أحق بجهنم ﴿صِلِيّاً﴾ دخولاً
﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ المراد بالورود: الدخول؛ فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً؛ كما كانت على إبراهيم
﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً﴾ نتركهم في النار باركين على ركبهم. وقيل: المراد بالورود: دخول الكافر فيها، ومرور المؤمن عليها؛ ليؤمن بالعذاب الأليم: من آمن بالنعيم المقيم
﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ﴾ نحن أم أنتم ﴿خَيْرٌ مَّقَاماً﴾ إقامة في الدنيا ﴿وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾ بمعنى النادي؛ وهو مجتمع القوم: يتحدثون فيه ويتسامرون. أي نحن كنا أحسن حالاً منكم قال تعالى رداً عليهم وعلى أمثالهم
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ﴾ أمة من الأمم الماضية ﴿هُمْ أَحْسَنُ﴾ من هؤلاء المكذبين المتعالين ﴿أَثَاثاً﴾ مالاً ومتاعاً ﴿وَرِءْياً﴾ منظراً وهيئة
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ﴾ منغمساً فيها، مستمرئاً لها. و «الضلالة» الكفر ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ في كفره، وفي عمره، وفي رزقه، وفي ولده، وفي ماله ﴿مَدّاً﴾ طويلاً في الدنيا؛ يستدرجه به (انظر آية ٢٤ من سورة ص) ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ﴾ ما أوعدهم به رسولهم ﴿إِمَّا العَذَابَ﴾ في الدنيا: بالقتل، والأسر، والقحط ﴿وَإِمَّا السَّاعَةَ﴾ القيامة؛ المشتملة على جهنم المعدة لهم ﴿فَسَيَعْلَمُونَ﴾ حينئذٍ ﴿مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ أهم أم المؤمنون؟ ﴿وَأَضْعَفُ جُنداً﴾ وجندهم الشياطين، وجند المؤمنين الملائكة المكرمون
﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ﴾ الطاعات؛ يبقى ثوابها لصاحبها ﴿وَخَيْرٌ مَّرَدّاً﴾ خير مرجعاً وعاقبة
﴿وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾ معتمداً على فنه وقوته؛ ولم يعتمد على ربه ومشيئته
﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ﴾ أي هل اطلع على الغيب؛ فعلم أنه سيؤتى المال والولد ﴿أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً﴾ بأن يؤتيه كل ما يريد
﴿كَلاَّ﴾ أي لن يؤتى المال والولد كما زعم: معانداً ربه. و «كلا» لم تجىء في النصف الأول من القرآن الكريم، وجاءت في ثلاثة وثلاثين موضعاً في النصف الأخير منه؛ وهذه أولاها. وهي تجيء بمعنيين: أحدهما: حقاً؛ ويكون متعلقاً بما بعده. وثانيهما: بمعنى: لا؛ ويكون متعلقاً بما قبله. وقد تحتمل المعنيين معاً في بعض المواضع: كهذا الموضع الذي نحن بصدده؛ فيجوز أن يكون المعنى: لا، لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهداً. ويجوز أن يكون المعنى: حقاً ﴿سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾ لنعاقبه عليه. والمعنى الأول أوضح، وأجدر بالاتباع. وقال الفراء: «كلا» حرف رد؛ فكأنها نعم، ولا؛ في الاكتفاء، وإن جعلتها صلة لما بعدها: لم تقف عليها؛ كقوله تعالى ﴿كَلاَّ وَالْقَمَرِ﴾ وقال الأكثرون: لا يوقف على «كلا» في جميع القرآن؛ لأنها جواب؛ والفائدة تقع فيما بعدها ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً﴾ نزيده عذاباً فوق العذاب
﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾ أي نورثه جزاء ما قاله من الكبر والكفر، أو نسلبه يوم القيامة ما آتيناه في الدنيا من مال وولد ﴿وَيَأْتِينَا
-[٣٧٤]- فَرْداً﴾ منفرداً، بغير مال، ولا ولد، ولا معين
﴿وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً﴾ يعتزون بهم، ويشفعون لهم عند ربهم
﴿كَلاَّ﴾ لن تتحقق أمانيهم؛ بل ﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ﴾ أي ستكفر هذه الآلهة بمن عبدها ﴿وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً﴾ يوم القيامة؛ إذ يتبرأون منهم ومن عبادتهم
﴿تَؤُزُّهُمْ أَزّاً﴾ تغريهم إغراء، وتهيجهم تهييجاً؛ لأن الأزيز: شدة الغليان
﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً﴾
أي نعد لهم ذنوبهم، لنعاقبهم عليها ﴿وَفْداً﴾ جماعة: ركباناً
﴿وِرْداً﴾ جمع وارد؛ وهو الماشي العطشان، الباحث عن الماء
﴿إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً﴾ بطاعته وإيمانه؛ فاستوجب رحمته ونعمته
﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً﴾ أي عظيماً منكراً
﴿يَتَفَطَّرْنَ﴾ يتشققن ﴿فَرْداً﴾ منفرداً؛ لا أهل معه، ولا مال، ولا ولد ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾ مودة في قلوب العباد: يحبهم الله تعالى، ويحببهم إلى الناس
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ﴾ أي القرآن بلسانك العربي: لتستطيع تبليغه وتفهيمه ﴿وَتُنْذِرَ﴾ تخوف ﴿قَوْماً لُّدّاً﴾ شديدي الخصومة؛ من اللدد: وهو التخاصم، والجدال بالباطل
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ﴾ أمة
﴿هَلْ تُحِسُّ﴾ تجد
﴿أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾ صوتاً؛ ولو خفياً.
375
سورة طه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
375