تفسير سورة سورة مريم من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المعروف بـالوجيز للواحدي
.
لمؤلفه
الواحدي
.
المتوفي سنة 468 هـ
مكية تسعون وتسع آيات
ﰡ
﴿كهيعص﴾ معناه: الله كَافٌّ لِخَلْقِهِ هَادٍ لِعِبَادِهِ يَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ عالمٌ ببريَّته صادقٌ في وعده
﴿ذكر﴾ هذا ذكر ﴿رحمة ربك عبده زكريا﴾ أَيْ: هذا القول الذي أنزلت عليك ذكر رحمة الله سبحانه عبده بإجابة دعائه لمَّا دعاه وهو قوله:
﴿إذ نادى ربه﴾ دعا ربه ﴿نداء خفياً﴾ سرَّاً لم يطَّلعْ عليه غير الله
﴿قال رب إني وهن﴾ ضعف ﴿العظم مني﴾ أَيْ: عظمي ﴿واشتعل الرأس شيباً﴾ وكثر شيب رأسي جداً ﴿ولم أكن بدعائك﴾ بدعائي إيَّاك ﴿ربي شقياً﴾ أَيْ: كنت مستجاب الدَّعوة قد عوَّدتني الإِجابة
﴿وإني خفت الموالي﴾ الأقارب وبني العمِّ والعصبة ﴿من ورائي﴾ من بعدي ألاَّ يحسنوا الخلافة لي في دينك ﴿وكانت امرأتي﴾ فيما مضى من الزَّمان ﴿عاقراً﴾ لم تلد ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ ابناً صالحاً
﴿يرثني ويرث من آل يعقوب﴾ العلم والنُّبوَّة ﴿واجعله ربِّ رَضِيّاً﴾ مرضياً فاستجاب الله تعالى دعاءه وقال:
﴿يا زكريا إنا نبشرك بغلام﴾ ولدٍ ذكرٍ ﴿اسمه يحيى﴾ لأنَّه يحيا بالعلم والطَّاعة ﴿لم نجعل له من قبل سمياً﴾ لم يُسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم فأحبَّ زكريا أن يعلم من أيِّ جهةٍ يكون له الولد ومثلُ امرأته لا تلد ومثله لا يولد له فقال: ﴿رب أنى يكون لي غلام﴾ ولدٌ
﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عتياً﴾ أَيْ: يُبوساً وانتهاءً في السِّنِّ
﴿قال﴾ جبريل عليه السَّلام: ﴿كذلك﴾ أَيْ: الأمر كما قيل لك ﴿قال ربك هو عليَّ هيَّنٌ﴾ أردُّ عليك قوَّتك حتى تقوى على الجماع وأفتق رحم امرأتك بالولد ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قبل﴾ يعني: من قبل يحيى ﴿ولم تك شيئاً﴾
﴿قال رب اجعل لي آية﴾ على حمل امرأتي ﴿قال آيَتُكَ أن لا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سوياً﴾ أَيْ: تمنع الكلام وأنت سويٌّ صحيحٌ سليمٌ فتعلم بذلك أنَّ الله قد وهب لك الولد
﴿فخرج على قومه﴾ وذلك أنَّهم كانوا ينتظرونه فخرج عليهم ولم يقدر أن يتكلَّم ﴿فأوحى إليهم﴾ أشار إليهم ﴿أن سبحوا﴾ صلُّوا لله تعالى ﴿بكرة وعشياً﴾ فوهبنا له يحيى وقلنا:
﴿يا يحيى خذ الكتاب﴾ التوارة ﴿بقوة﴾ أعطيتكها وقوَّيتك على حفظها والعمل بما فيها ﴿وآتيناه الحكم صبياً﴾ النُّبوَّة في صباه
﴿وحناناً﴾ وآتيناه حناناً: رحمةً ﴿من لدنا وزكاةً﴾ تطهيراً وقوله:
﴿جباراً﴾ أيْ قتَّالاً مُتكبِّراً ﴿عصياً﴾ عاصياً لربِّه
﴿وسلامٌ عليه﴾ سلامةٌ له منَّا في الأحوال التي ذكرها يريد أنَّ الله سبحانه سلَّمه في هذه الأحوال
﴿واذكر﴾ يا محمَّد ﴿في الكتاب مريم إِذِ انتبذت﴾ تنحَّت من أهلها ﴿مكاناً شرقياً﴾ من جانب الشَّرق وذلك أنَّها أرادت الغسل من الحيض فاعتزلت في ناحيةٍ شرقيةٍ من الدَّار
﴿فاتخذت من دونهم حجاباً﴾ تتستَّر به عنهم ﴿فأرسلنا إليها روحنا﴾ جبريل عليه السَّلام ﴿فتمثَّل﴾ فتصوَّر ﴿لها بشراً﴾ آدمياً ﴿سويَّاً﴾ تامَّ الخلق
﴿قالت إني أعوذ بالرحمن منك﴾ أيُّها البشر ﴿إن كنت تقيّاً﴾ مُؤمناً مُطيعاً فستنتهي عني بتعوُّذي بالله سبحانه منك
﴿قال﴾ جبريل عليه السَّلام: ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زكياً﴾ ولداً صالحاً نبيَّاً
﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بشر﴾ ليس لي زوجٌ ﴿ولم أك بغيا﴾ وليس بزانيةٍ
﴿قال كذلك﴾ أَيْ: الأمر كما وصفت لك ﴿قال ربك هو علي هين﴾ أن أهب لكِ غلاماً من غير أبٍ ﴿ولنجعله آية﴾ علامةً للنَّاس على قدرة الله تعالى ﴿ورحمةً منا﴾ لمّنْ تبعه على دينه ﴿وكان﴾ ذلك ﴿أمراً مقضيّاً﴾ قضيت به في سابق علمي فرفع جبريل عليه السَّلام جانب درعها فنفخ في جيبها فحملت بعيسى عليه السَّلام وذلك قوله سبحانه:
﴿فحملته فانتبذت به﴾ تباعدت بالحمل ﴿مكاناً قصياً﴾ بعيداً من أهلها في أقصى وادي بيت لحم وذلك أنَّها لمَّا أحسَّت بالحمل هربت من قومها مخالفة اللائمة
﴿فَأَجاءَها المخاض﴾ وجع الولادة ﴿إلى جذع النخلة﴾ وذلك أنَّها حين أخذها الطَّلق صعدت أكمة فإذا عليها جذع نخلةٍ وهو ساقها ولم يكن لها سعفٌ فسارت إليها وقالت جزعاً ممَّا أصابها: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا﴾ اليوم وهذا الأمر ﴿وكنت نسياً منسياً﴾ شيئاً متروكاً لا يُعرف ولا يُذكر فلمَّأ رأى جبريل عليه السَّلام وسمع جزعها وناداها من تحت الأكمة وهو قوله:
﴿فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً﴾ نهر ماءٍ جارٍ وكان تحت الأكمة نهرٌ قد انقطع الماء منه فأرسل الله سبحانه الماء فيه لمريم
﴿وهزي﴾ وحرِّكي ﴿إليك﴾ إلى نفسك ﴿بجذع النخلة تُسَاقط﴾ النَّخلة ﴿عليك رطباً جنياً﴾ غضَّاً ساعةَ جُني وذلك أنَّ الله تعالى أحيا لها تلك النَّخلة بعد يبسها فأورقت وأثمرت وأرطبت
﴿فكلي﴾ من الرُّطب ﴿واشربي﴾ من الماء السَّري ﴿وقري عيناً﴾ بولدك ﴿فإمَّا ترينَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا﴾ فسألك عن ولدك ولامَك عليه ﴿فقولي إني نذرت للرحمن صوماً﴾ صمتاً أَيْ: قولي له: إني أوجبت على نفسي لله سبحانه أن لا أتكلَّم وذلك أنَّ الله تعالى أراد أن يظهر براءتها من جهة عيسى عليه السَّلام يتكلَّم ببراءة أمِّه وهو في المهد فذلك قوله: ﴿فلن أكلم اليوم إنسياً﴾
﴿فأتت به﴾ بعيسى بعد ما طهرت من نفاسها ﴿قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شيئاً فرياً﴾ عظيماً منكراً ولداً من غير أبٍ!
﴿يا أخت هارون﴾ كان لها أخٌ صالحٌ من جهة أبيها يسمَّى هارون وقيل: هارون رجلٌ صالحٌ كان من أمثل بني إسرائيل فقيل لمريم: يا شبيهته في العفاف ﴿ما كان أبوك﴾ عمران ﴿امْرَأَ سوء﴾ زانٍ ﴿وما كانت أمك﴾ حنَّة ﴿بغياً﴾ زانيةً فمن أين لك هذا الولد من غير زوجٍ؟
﴿فأشارت﴾ إلى عيس بأن يجعلوا الكلام معه فتعجَّبوا من ذلك وقالوا: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ يعني: رضيعاً في الحِجْر
﴿قال﴾ عيسى عند ذلك: ﴿إني عبد الله﴾ أقرَّ عل نفسه بالعبوديَّة لله سبحانه وتعالى ﴿آتاني الكتاب﴾ علَّمني التَّوراة وقيل: الخطَّ
﴿وجعلني نبياً * وجعلني مباركاً﴾ معلِّماً للخير أدعو إلى الله تعالى ﴿أين ما كنت وأوصاني بالصلاة﴾ أمرني بالصلاة ﴿والزَّكاة﴾ الطَّهارة ﴿ما دمت حيَّاً﴾
﴿وبرَّاً﴾ لطيفاً ﴿بوالدتي﴾
﴿والسلام عليَّ يوم ولدت﴾ الآية أَيْ: السَّلامة عليَّ من الله تعالى في هذه الأحوال
﴿ذلك عيسى ابنُ مريم﴾ أَيْ: الذي قَالَ: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ الآية هو عيسى ابن مريم لا ما يقول النَّصارى مِنْ أنَّه إله وإنَّه ابن الله ﴿قول الحق﴾ أيْ: هذا الكلام قول الحقِّ والحقُّ: هو الله سبحانه وقيل: معنى قوله الحقِّ: أنَّه كلمةُ الله ﴿الذي فيه يمترون﴾ يشكُّون يعني: اليهود يقولون: إنَّه لِزَنيةٍ وإنَّه كذَّاب ساحر ويقول النَّصارى: إنَّه ابن الله
﴿وما كان لله﴾ ما ينبغي له سبحانه ﴿أن يتخذ من ولد﴾ أَيْ: ولداً ﴿سبحانه﴾ تنزيهاً له عن ذلك ﴿فإذا قضى أمراً﴾ أراد كونه ﴿فإنما يقول له كن فيكون﴾ كما قال لعيسى: كن فكان من غير أبٍ
﴿وإنَّ الله ربي وربكم﴾ هذا راجعٌ إلى قوله تعالى: ﴿وأوصاني بالصَّلاة﴾ وأوصاني بأنَّ الله ربِّي وربُّكم ﴿فاعبدوه﴾ ﴿هذا﴾ الذي ذكرت ﴿صراط مستقيم﴾
﴿فاختلف الأحزاب﴾ يعني: فرق النَّصارى ﴿من بينهم﴾ فيما بينهم وهم النّسطورية واليعقوبيَّة والملكانية ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ يريد: مشهدهم يوم القيامة
﴿أسمع بهم وأبصر﴾ ما أبصرهم بالهدى يوم القيامة وأطوعهم أنَّ عيسى ليس الله ولا ابن الله سبحانه ولا ثالث ثلاثة ولكن لا ينفعهم ذلك مع ضلالتهم في الدُّنيا وهو قوله: ﴿لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين﴾ من أمر عيسى والقول فيه
﴿وأنذرهم﴾ خوِّفهم يا محمَّد ﴿يوم الحسرة﴾ يوم القيامة حين يُذبح الموت بين الفريقين ﴿إذْ قضي الأمر﴾ أُحكم وفرغ منه ﴿وهم في غفلة﴾ في الدُّنيا من ذلك اليوم ﴿وهم لا يؤمنون﴾ لا يُصدِّقون به
﴿إنا نحن نرث الأرض﴾ لأنَّا نُميت سُكَّانها ﴿و﴾ نرث ﴿مَنْ عليها﴾ لأنَّا نميتهم ﴿وإلينا يرجعون﴾ للثَّواب والعقاب
﴿واذكر﴾ لقومك ﴿في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً﴾ مؤمناً مُؤقناً ﴿نبياً﴾ رسولاً رفيعا
﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يسمع﴾ الدُّعاء ﴿ولا يبصر﴾ العبادة ﴿ولا يغني﴾ ولا يدفع ﴿عنك﴾ من عذاب الله ﴿شيئاً﴾
﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾
﴿يا أبت لا تعبد الشيطان﴾ لا تُعطه ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ عاصياً
﴿يا أبت إني أخاف﴾ إن متَّ على ما أنت عليه أن يصيبك ﴿عذابٌ من الرحمن فتكون للشيطان ولياً﴾ قريناً في النار
﴿قال﴾ أبوه محببا له: ﴿أراغب أنت عن آلهتي﴾ أَزاهدٌ فيها وتارك لعبادتها؟ ! ﴿لئن لم تنته﴾ لئن لم يرجع عن مقالتك في عيبها ﴿لأرجمنك﴾ لأشتمنَّك ﴿واهجرني ملياً﴾ زماناً طويلاً من الدَّهر
﴿قال﴾ إبراهيم: ﴿سلام عليك﴾ أَيْ: سلمتَ مني لا أصيبك بمكروه وهذا جواب الجاهل كقوله: ﴿وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً﴾ ﴿سأستغفر لك ربي﴾ كان هذا قبل أن نُهي عن استغفاره وعده ذلك رجاء أن يُجاب فيه ﴿إنه كان بي حفياً﴾ بارَّاً لطيفاً
﴿وأعتزلكم وما تدعون﴾ أُفارقكم وأُفارق ما تعبدون من أصنامكم ﴿وأدعو ربي﴾ أعبده ﴿عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا﴾ بعبادته ﴿شقياً﴾ كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام يريد: إنَّه يتقبَّل عبادتي ويُثيبني عليها
﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ وذهب مهاجراً إلى الشَّام ﴿وهبنا له﴾ بعد الهجرة ﴿إسحاق ويعقوب وكلاً﴾ منهما ﴿جعلنا﴾ هُ ﴿نبياً﴾
﴿ووهبنا لهم من رحمتنا﴾ يعني: النُّبوَّة والكتاب ﴿وجعلنا لهم لسان صدق علياً﴾ ثناءً حسناً رفيعاً في كلِّ أهل الأديان
﴿واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً﴾ مُوحِّداً قد أخلص دينه لله
﴿وناديناه من جانب الطور الأيمن﴾ حيث أقبل من مدين يريد مصر فنودي من الشَّجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى ﴿وقرَّبناه نجيَّاً﴾ قرَّبة الله تعالى من السماوات للمناجاة حتى سمع صرير القلم يكتب له في الألواح
﴿ووهبنا له من رحمتنا﴾ من نعمتنا عليه ﴿أخاه هارون نبيَّاً﴾ حين سأل ربَّه فقال: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي﴾
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد﴾ إذا وعد وفَّى وانتظر إنساناً في مكانٍ وعده عنده حتى حال الحول عليه ﴿وكان رسولاً نبيَّاً﴾ قد بعث إلى جرحهم
﴿وكان يأمر أهله﴾ يعني: قومه ﴿بالصلاة والزكاة﴾ المفروضة عليهم ﴿وكان عند ربِّه مرضياً﴾ لأنَّه قام بطاعته
﴿واذكر في الكتاب﴾ القرآن ﴿إدريس﴾ وقصَّته ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾
﴿ورفعناه مكاناً علياً﴾ رُفع إلى السَّماء الرَّابعة وقيل: إلى الجنَّة
﴿أولئك الذين﴾ يعني: الذين ذكرهم من الأنبياء كانوا ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ ومن ذرية من حملنا مع نوح في سفينته ﴿ومن ذرية إبراهيم﴾ يعني: إسحاق وإسماعيل ويعقوب ﴿وإسرائيل﴾ يعني: موسى وهارون ﴿وممَّن هدينا﴾ أرشدنا ﴿واجتبينا﴾ اصطفينا ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبكياً﴾ جمع باكيا أخبر الله سبحانه أنَّ هؤلاء الأنبياء كانوا إذا سمعوا بآيات الله سبحانه ويكوا من خشية الله تعالى
﴿فَخَلفَ من بعدهم﴾ قفا بعد هؤلاء ﴿خلف﴾ قوم سوء يعني: اليهود والنَّصارى والمجوس ﴿أضاعوا الصلاة﴾ تركوا الصَّلاة المفروضة ﴿واتبعوا الشهوات﴾ اللَّذات من شرب الخمر والزِّنا ﴿فسوف يلقون غياً﴾ وهو وادٍ في جهنم
﴿إلاَّ من تاب﴾ من الشِّرك ﴿وآمن﴾ وصدَّق النَّبيِّين ﴿وعمل صالحاً﴾ أدَّى الفرائض ﴿فأولئك يدخلون الجنَّة ولا يظلمون شيئاً﴾ لا يُنقصون من ثواب أعمالهم شيئاً
﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ﴾ بالمغيب عنهم ولم يروها ﴿إنَّه كان وعده مأتياً﴾ يؤتي ما وعده لا محالة تأتيه أنت كما يأتيك هو
﴿لا يسمعون فيها لغواً﴾ قبيحاً من القول ﴿إلاَّ﴾ لكن ﴿سلاماً﴾ قولاً حسناً يسلمون منه والسَّلام: اسمٌ جامعٌ للخير ﴿ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً﴾ على قدر ما يعرفون في الدُّنيا من الغداء والعشاء
﴿تلك الجنة التي نورث﴾ نعطي وننزل ﴿من عبادنا مَنْ كان تقياً﴾ يتَّقي الله بطاعته واجتناب معاصيه
﴿وما نتنزل﴾ كان جبريل عليه السَّلام قد احتبس عن النبي ﷺ أيَّاماً فلمَّا نزل قال له: ألاَّ زرتنا فأنزل الله سبحانه: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بين أيدينا﴾ من أمر الآخرة ﴿وما خلقنا﴾ ما مضى من أمر الدُّنيا ﴿وما بين ذلك﴾ ما يكون من هذا الوقت إلى قيام السَّاعة وقيل: ﴿له ما بين أيدينا﴾ : يعني: الدُّنيا ﴿وما خلفنا﴾ يعني: السماوات ﴿وما بين ذلك﴾ : الهواء ﴿وما كان ربك نسياً﴾ تاركاً لك منذ أبطأ عنك الوحي وقوله:
﴿هل تعلم له سمياً﴾ ت هل تعلم أحداً يُسمَّى الله غيره؟
﴿ويقول الإِنسان﴾ يعني: أُبيَّ بن خلف ﴿أإذا ما متُّ لسوف أخرج حياً﴾ يقول: هذا استهزاءً وتكذيباً بالبعث يقول: لسوف أخرج حيَّاً من قبري بعد ما مت! ؟
﴿أو لا يذكر﴾ يتذكَّر ويتفكَّر هذا ﴿الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شيئاً﴾ فيعلم أنَّ مَنْ قدر على الابتداء قدر على الإِعادة ثمَّ أقسم بنفسه أنَّه يبعثهم فقال:
﴿فوربك لنحشرنَّهم﴾ يعني: منكري البعث ﴿والشياطين﴾ قرناءهم الذين أضلوا ﴿ثمَّ لنحضرنَّهم حول جهنم جثياً﴾ جماعات جمع: جُثوة
﴿ثمَّ لننزعنَّ﴾ لنخرجنَّ ﴿من كلِّ شيعة﴾ أُمَّةٍ وفرقةٍ ﴿أيُّهم أشدُّ على الرحمن عتياً﴾ الأعتى فالأعتى منهم وذلك أنَّه يبدأ في التعذيب بأشدهم عتيَّا ثمَّ الذي يليه
﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صلياً﴾ أحقُّ بدخول النَّار
﴿وإنْ منكم﴾ وما منكم من أحدٍ ﴿إلاَّ واردُها﴾ إلاَّ وهو يرد النَّار ﴿كان على ربك﴾ كان الورود على ربِّك ﴿حتماً مقضياً﴾ حتم بذلك وقضى
﴿ثمَّ نُنَجِّي﴾ من النَّار ﴿الذين اتقوا﴾ الشِّرك ﴿ونذر الظالمين﴾ المشركين ﴿فيها جثياً﴾ أَيْ: جميعاً
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ يعني: القرآن وما بيَّن الله فيه ﴿قال الذين كفروا﴾ يعني: مشركي قريش ﴿للذين آمنوا أَيُّ الفريقين﴾ منَّا ومنكم ﴿خيرٌ مقاماً﴾ منزلاً ومسكناً ﴿وأحسن ندياً﴾ مجلساً وذلك أنَّهم كانوا أصحاب مالٍ وزينةٍ من الدُّنيا وكان المؤمنون أصحاب فقر ورثاثة فقال لهم: نحن أعظم شأناً وأعزُّ مجلساً وأكرم منزلاً أم أنتم؟ فقال الله تعالى:
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أثاثاً﴾ متاعاً ﴿ورئياً﴾ منظراً من هؤلاء الكفَّار فلم يُغن ذلك عنهم شيئاً
﴿قل مَنْ كان في الضلالة﴾ الشِّرك والجهالة ﴿فليمدد له الرحمن مدَّاً﴾ فإنَّ الله تعالى يمدُّ له فيها ويمهله في كفره وهذا لفظ أمرٍ معناه الخبر ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ﴾ في الدُّنيا ﴿وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وأضعف جنداً﴾ أَهم أم المؤمنون؟ وذلك أنَّهم إن قُتلوا ونُصر المؤمنون عليهم علموا أنَّهم أضعف جنداً وإن ماتوا فدخلوا النَّار علموا أنَّهم شرٌّ مكاناً
﴿ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً﴾ يزيدهم في يقينهم ورشدهم ﴿والباقيات الصالحات﴾ الأعمال الصالحة ﴿خير عند ربك ثواباً﴾ ممَّا يملك الكفَّار من المال ﴿وخيرٌ مردَّاً﴾ أَيْ: في المرَدِّ وهو الآخرة
﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا﴾ يعني: العاص بن وائل ﴿وقال لأوتين مالاً وولداً﴾ وذلك أن خبايا اقتضى ديناً له عليه فقال: ألستم تزعمون أنَّ في الجنة ذهبا وفضة؟ ولئن كان ما تقولون حقَّاً فإنِّي لأفضلُ نصيباً منك فأَخِّرني حتى أقضيك في الجنَّة استهزاءً فذلك قوله: ﴿لأوتين مالاً وولداً﴾ يعني: في الجنَّة فقال الله تعالى:
﴿أطلع الغيب﴾ أعلمَ علم الغيب حتى عرف أنَّه في الجنَّة ﴿أم اتخذ عند الرحمن عهداً﴾ أم قال: لا إله إلاَّ الله حتى يستحقَّ دخول الجنَّة؟
﴿كلا﴾ ليس الأمر كما يقول: ﴿سنكتب ما يقول﴾ سيحفظ عليه ما يقول من الكفر والاستهزاء لنجاريه به ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ نزيده عذاباً فوق العذاب
﴿ونرثه ما يقول﴾ من أنَّ في الجنَّة ذهباً وفضةً فنجعله لغيره من المسلمين ﴿ويأتينا فرداً﴾ خالياً من ماله وولده وخدمه
﴿واتخذوا من دون الله﴾ يعني: أهل مكَّة ﴿آلهة﴾ وهي الأصنام ﴿ليكونوا لهم عزَّاً﴾ أعواناً يمنعونهم مني
﴿كلا﴾ ليس الأمر على ما ظنُّوا ﴿سيكفرون بعبادتهم﴾ لأنَّهم كانوا جماداً لم يعرفوا أنَّهم يُعبدون ﴿ويكونون عليهم ضداً﴾ أعواناً وذلك أنَّ الله تعالى يحشر آلهتهم فينطقهم ويركِّب فيهم العقول فتقول: يا ربِّ عذّب هؤلاء الذين عبدونا من دونك
﴿ألم تر﴾ يا محمد ﴿إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين﴾ سلَّطناهم عليهم بالإِغواء ﴿تؤزهم أزَّاً﴾ تُزعجهم من الطَّاعة إلى المعصية
﴿فلا تعجل عليهم﴾ بالعذاب ﴿إنما نعدُّ لهم﴾ الأيَّام واللَّيالي والأنفاس ﴿عدَّاً﴾ إلى انتهاء أجل العذاب
﴿يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً﴾ ركباناً مُكرمين
﴿ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً﴾ عطاشاً
﴿لا يملكون الشفاعة إلاَّ من اتَّخذ﴾ لكم ﴿عند الرحمن عهداً﴾ اعتقد التَّوحيد وقال: لا إله إلاَّ الله فإنه يملك الشَّفاعة والمعنى: لا يشفع إلاَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولدا﴾ يعني: اليهود والنَّصارى ومَنْ زعم أنَّ الملائكة بنات الله
﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدَّاً﴾ عظيما فظيعا
﴿تكاد السماوات﴾ تقرب من أن ﴿يتفطرن﴾ يتشقَّقْن ﴿منه﴾ من هذا القول ﴿وتخرُّ﴾ وتسقط ﴿الجبال هدَّاً﴾ سقوطاً
﴿أن دعوا﴾ لأنْ دعوا ﴿للرحمن ولداً﴾
﴿وما ينبغي للرحمن أن يتَّخذ ولداً﴾ لأنَّه لا يليق به الولد ولا مجانسة بينه وبين أحد
﴿إن كل﴾ ما كل ﴿من في السماوات والأرض إلاَّ﴾ وهو يأتي الله سبحانه يوم القيامة مُقرَّاً له بالعبوديَّة
﴿لقد أحصاهم وعدَّهم عدَّاً﴾ أَيْ: علمهم كلَّهم فلا يخفى عليه أحدٌ ولا يفوته
﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فرداً﴾ من ماله وولده وليس معه أحدٌ
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وداً﴾ محبَّةً في قلوب المؤمنين قيل: نزلت في عليّ بن أبي طالب وقيل: في عبد الرَّحمن بن عوف
﴿فإنما يسرناه﴾ سهَّلنا القرآن ﴿بلسانك﴾ بلغتك ﴿لتبشر به المتقين﴾ الذين صدَّقوا وتركوا الشرك ﴿وتنذر به قوماً لداً﴾ شداد الخصومة
﴿وكم أهلكنا قبلهم﴾ قبل قومك ﴿من قرن﴾ جماعةٍ ﴿هل تحس﴾ تجد ﴿مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾ صوتاً