تفسير سورة الأنفال

تفسير الثعلبي
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعلبي .
لمؤلفه الثعلبي . المتوفي سنة 427 هـ
مدنيّة، وهي خمسة الآف ومئتان وأربعة وتسعون حرفاً، وألف ومئتان وإحدى وثلاثون كلمة
زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَنْ قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له وشاهد يوم القيامة أنّه برئ من النفاق وأُعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات ومُحي عنه عشر سيّئات ورُفع له عشر درجات وكان العرش وحملته يصلّون عليه أيام حياتهِ في الدنيا ).

سورة الأنفال
مدنيّة، وهي خمسة آلاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفا، وألف ومائتان وإحدى وثلاثون كلمة
زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ «من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له وشاهد يوم القيامة أنّه برىء من النفاق وأعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات ومحي عنه عشر سيّئات ورفع له عشر درجات وكان العرش وحملته يصلّون عليه أيام حياته في الدنيا» [٢١٢] «١».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية
قال ابن عباس: أن النبيّ ﷺ قال يوم بدر: «من أتى مكان كذا وكذا فله من الفضل كذا، ومن قتل قتيلا فله كذا، ومن أسر أسيرا فله كذا» [٢١٣]، فلمّا التقوا سارع إليه الشبّان والفتيان وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات، فلمّا فتح الله على المسلمين جاءوا يطلبون ما جعل النبيّ ﷺ فقال لهم الأشياخ: كنّا ردءا لكم ولو انهزمتم فلا تستأثروا علينا، ولا تذهبوا [بالغنائم دوننا].
وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال: يا رسول الله إنّك وعدت من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا وإنّا قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين، فقام سعد بن معاذ فقال: والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الآخرة ولا جبن عن العدو لكن كرهنا أن يعرّي مصافك فيعطف عليه خيل من خيل المشركين فيصيبوك، فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١) تفسير مجمع البيان: ٤/ ٤٢٢
.
324
ثمّ عاد أبو اليسر بمثل مقالته وقام سعيد بمثل كلامه وقال: يا رسول الله إنّ الناس كثير وإن الغنيمة دون ذلك وإن تعط هؤلاء التي ذكرت لا يبق لأصحابك كثير شيء فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ
الآية. فقسّم رسول الله ﷺ بينهم بالسويّة «١».
وروى مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال:
فينا معاشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في الفعل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله ﷺ فقسّمه بين المسلمين عن سواء على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلاح ذات البين.
وقال سعد بن أبي وقاص: نزلت في هذه الآية ذلك أنّه لمّا كان يوم بدر وقتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص بن أميّة وأخذت سيفه وكان يسمّى ذا الكثيفة فأعجبني فجئت به النبيّ ﷺ فقلت: يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال ليس هذا لي ولا لك اذهب فاطرحه في القبض فطرحته ورجعت وبي ما لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ من قتل أخي وأخذ بيدي قلت: عسى أن يعطي من لم يبل بلائي فما جاوزت إلّا قليلا حتّى جاءني الرسول ﷺ وقد أنزل الله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فخفت أن يكون قد نزل فيّ شيء، فلما انتهيت إلى رسول الله ﷺ قال: «يا سعد إنّك سألتني السيف وليس لي وإنّه قد صار»
ليّ فاذهب فخذه فهو لك» [٢١٤] «٣».
وقال أبو [أميّة] مالك بن ربيعة: أصبت سيف ابن زيد يوم بدر وكان السيف يدعى المرزبان فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول الله ﷺ الناس أن يردّوا ما في أيديهم من النفل فأقبلت به وألقيته في النفل وكان رسول الله ﷺ لا يمنع شيئا يسأله فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله ﷺ فأعطاه إيّاه.
وقال ابن جريج: نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرا فاختلفوا فكانوا أثلاثا فنزلت هذه الآية وملّكها الله رسوله يقسّمها كما أراه الله.
عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس [قال:] كانت المغانم لرسول الله ﷺ خاصة ليس لأحد فيها شيء وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو ملكا فهو غلول فسألوا رسول الله أن يعطيهم منها فأنزل الله عزّ وجلّ يَسْئَلُونَكَ يا محمد عَنِ الْأَنْفالِ أي حكم الأنفال وعلمها وقسمها.
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٩٦ وأسباب النزول للواحدي، ونصب الراية: ٤/ ٢٩٧
. (٢) في تفسير ابن كثير: وهب لي
. (٣) تفسير الطبري: ٩/ ٢٣٠، وتفسير ابن كثير: ٢/ ٢٩٥
.
325
وقيل: معناه يسألونك من الأنفال (عن) بمعنى (من).
وقيل: «من» صلة أي يسألونك الأنفال. وهكذا قرأ ابن مسعود بحذف (عن) وهو قول الضحاك وعكرمة.
والأنفال الغنائم واحدها نفل. قال لبيد:
إن تقوى ربّنا خير نفل وبإذن الله ريثي والعجل «١»
وأصله الزيادة يقال: نفلتك وأنفلتك أي: زدتّك.
واختلفوا في معناها:
فقال أكثر المفسّرين: معنى الآية يسألونك عن غنائم بدر لمن هي.
وقال عليّ بن صالح بن حيي: هي أنفال السرايا «٢».
وقال عطاء: فأنشد من المشركين إلى المسلمين بغير قبال من عبد أو أمة أو سلاح فهو للنبي ﷺ يصنع به ما يشاء.
وقال ابن عباس: هي ما يسقط من المتاع بعد ما يقسم من الغنائم فهي نفل لله ولرسوله.
وقال مجاهد: هي الخمس وذلك أنّ المهاجرين سألوا النبيّ ﷺ عن الخمس بعد الأربعة الأخماس وقالوا: لم يرفع منّا هذا الخمس، لم يخرج منّا فقال الله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يقسّمانها كما شاءا أو ينفلان فيها ما شاءا أو يرضخان منها ما شاءا.
واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة أم منسوخة:
فقال مجاهد وعكرمة والسدي: هي منسوخة نسخها قوله وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ «٣» الآية.
وكانت الغنائم يومئذ للنبيّ ﷺ خاصّة فنسخها الله بالخمس.
وقال عبد الرحمن بن أيد: هي ثابتة وليست منسوخة وإنّما معنى ذلك قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ. وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة. وَالرَّسُولِ يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيها ثمّ أنزل حكم الغنائم بعد أربعين آية فإنّ لله خمسه ولكم أربعة أخماس.
وقال النبيّ ﷺ «هذا الخمس مردود على فقرائكم»
[٢١٥] «٤»، وكذلك يقول في تنفيل
(١) لسان العرب: ١١/ ٦٧٠
. (٢) تفسير الطبري: ٩/ ٢٢٥ [.....]
. (٣) سورة الأنفال: ٤١
. (٤) مسند أحمد: ٢/ ١٨٤
.
326
الأيام بعض القوم واقتفائه إياه ليلا، وعلى هذه يفرق بين الأنفال والغنائم بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وذلك حين اختلفوا في الغنيمة أمرهم بالطاعة والجماعة ونهاهم عن المفارقة والمخالفة.
قال قتادة وابن جريج: كان نبيّ الله ﷺ ينفل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفّار إذا قتله وكان ينفل على قدر عنائه وبلائه حتّى إذا كان يوم بدر ملأ الناس أيديهم غنائم، فقال أهل الضعف: ذهب أهل القوّة بالغنائم فنزلت قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ليرد أهل القوّة على أهل الضعف فأمرهم رسول الله ﷺ أن يرد بعضهم على بعض فأمرهم الله بالطاعة فيها فقال وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
«١» واختلفوا في تأنيث ذات البين فقال أهل البصرة أضاف ذات البين وجعله ذات لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم المؤنث وبعضها يذكر نحو الدار والحائط أنّث الدار وذكّر الحائط.
وقال أهل الكوفة: إنّما أراد بقوله ذاتَ بَيْنِكُمْ الحال التي للبين فكذلك ذات العشاء يريد الساعة التي فيها العشاء.
قالوا: ولم يضعوا مذكّرا لمؤنّث ولا مؤنّثا لمذكّر إلّا لمعنى به وقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآية يقول الله تعالى ليس المؤمنون من الذي يخالف الله ورسوله إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فرقّت به قلوبهم وهكذا هو في مصحف عبد الله.
وقال السدي: هو الرجل يريد أن يهتم بمعصية فينزع عنه وَإِذا تُلِيَتْ قرئت عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وقال ابن عباس: تصديقا، وقال الضحاك: يقينا. وقال الربيع بن أنس: خشية.
وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة: إن للإيمان زيادة ونقصان، قيل: فما زيادته؟
قال: إذا ذكرنا الله وجدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وقصّرنا وغفلنا فذلك نقصان.
وقال عدي بن عدي: كتب إلى عمر بن عبد العزيز أن للإيمان سننا وفرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، [قال عمر بن عبد العزيز:
فإن أعش فسأبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص] «٢».
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي يفوّضون إليه أمورهم ويتّقون به فلا يرجون غيره ولا يخافون سواه والتوكل الفعل من الوكول الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أي حقّوا حقا يعني يقينا صدقا. وقال ابن عباس: يقول برأوا من الكفر. وقال مقاتل:
حَقًّا لا شك في إيمانهم كشك المنافقين «٣».
(١) انظر: جامع البيان للطبري: ٩/ ٢٣٦
. (٢) مستدرك عن تفسير القرطبي: ٨/ ٢٩٨
. (٣) زاد المسير: ٣/ ٢١٧
.
327
وقال قتادة: استحقّوا الإيمان بحق فأحقّه الله لهم. وقال ابن عباس: من لم يكن منافقا فهو مؤمن حقّا.
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله الرازي، قال: أخبرنا عليّ بن محمد بن عمير قال:
إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا هشام بن عبيد الله قال: حدّثنا عبيد [الله هشام] بن حاتم عن عمرو بن [درّ] عن إبراهيم قال: إذا قيل لأحدكم أمؤمن أنت حقّا، فليقل: إنّي مؤمن حقّا فإن كان صادقا فإنّ الله لا يعذّب على الصدق ولكن يثيب عليه.
فإن كان كاذبا فما فيه من الكفر أشد عليه من قوله له: إنّي مؤمن حقّا. وقال ابن أبي نجيح: سأل رجل الحسن فقال: أمؤمن أنت؟
فقال: الإيمان إيمانان فإنّ كنت تسأل عن الإيمان بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ والجنّة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
إلى قوله تعالى عِنْدَ رَبِّهِمْ فوالله ما أدري أمنهم أنا أم لا.
وقال علقمة: كنّا في سفر فلقينا قوما فقلنا: من القوم؟ فقالوا: نحن الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، فلم ندر ما نجيبهم حتّى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا فقال: فما رددتم عليهم؟ قلنا: لم نرد عليهم شيئا.
قال: أفلا قلتم أمن أهل الجنّة أنتم؟ إن المؤمنين من أهل الجنّة.
وقال سفيان الثوري: من زعم أنّه مؤمن حقّا أمن عند الله ثمّ [وجد] أنّه في الجنّة بعد إيمانه بنصف الآية دون النصف، ووقف بعضهم على قوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ.
وقال: تم الكلام هاهنا.
ثمّ قال: حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ فجعل قوله حَقًّا تأكيدا لقوله لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وقال مجاهد: أعمال رفيعة. وقال عطاء: يعني درجات الجنّة يرقونها بأعمالهم.
هشام بن عروة: يعني ما أعدّ لهم في الجنّة من لذيذ المأكل والمشارب وهني العيش.
وقال ابن محيريز: لَهُمْ دَرَجاتٌ سبعون درجة كلّ درجة لحافر الفرس الجواد المغير سبعين عاما وَمَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي حسن [وعظيم وهو] الجنّة.
328
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ اختلفوا في الجالب لهذه الكاف التي في قوله: كَما، فإما الذي شبه «١» بإخراج الله نبيّه من بيته بِالْحَقِّ قال عكرمة: معنى ذلك فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ فإن ذلك خير لكم كما كان إخراج الله تعالى محمد من بيته بالحق خيرا لكم وإن كرهه فريق منكم.
وقال مجاهد: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ يا محمد مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ على كره فريق من المؤمنين كذلك يكرهون القتال ويجادلونك فيه، أي أنّهم يكرهون القتال ويجادلونك فيه كما فعلوا ببدر.
وقال بعضهم: أمر الله تعالى رسوله عليه السلام أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون.
وقيل: معناه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ مجادلة كما جادلوك يوم بدر فقالوا: أخرجت العير ولم تعلمنا قتالا [فنسخطه].
وقيل: معناه أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ.
وقال بعضهم: الكاف بمعنى (على) تقديره: أمض على الذي أخرجك ربّك.
قال ابن حيّان: عن الكلبي وقال أبو عبيدة: هي بمعنى القسم مجازها: الذي أخرجك من بيتك بالحق. وقيل: الكاف بمعنى (إذ) تقديره: وإذا أخرجك ربّك من بيتك بالمدينة إلى بدر بالحق «٢».
وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ لطلب المشركين يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ أي في القتال وذلك
أن المؤمنين لمّا أيقنوا [الشوكة] والحرب يوم بدر وعرفوا أنّه القتال كرهوا ذلك وقالوا: يا رسول الله إنّه لم تعلمنا إنّا نلقي العدو فنستعد لقتالهم وإنّما خرجنا للعير فذلك جدالهم من بعد ما تبين لهم إنّك لا تصنع إلّا ما أمر الله به.
(١) وتكون الكاف للتشبيه راجع تفسير القرطبي: ٧/ ٣٦٨
. (٢) راجع زاد المسير لابن الجوزي: ٣/ ٢١٨
.
329
وقال ابن زيد: هؤلاء المشركون يجادلونه في الحق كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ [يعني] من يدعون للإسلام لكراهتهم إيّاه.
وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ الآية.
قال ابن عباس وابن الزبير وابن يسار والسدي: أغار كرز بن جابر القرشي على سرح المدينة حتّى بلغ الصفراء فبلغ النبيّ ﷺ فركب في أثره فسبقه كرز فرجع النبيّ ﷺ فأقام سنة وكان أبو سفيان أقبل من الشام في عير لقريش فيها عمرو بن العاص وعمرو بن هشام ومخرمة بن نوفل الزهري في أربعين راكبا من كبار قريش وفيها تجارة عظيمة. وهي اللطيمة. حتّى إذا كان قريبا من بدر بلغ النبيّ ﷺ فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلّة الجنود فقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلّ الله عزّ وجلّ ينفلكموها» [٢١٦] فخرجوا لا يريدون إلّا أبا سفيان والركب لا يرونها إلّا غنيمة لهم وخفّ بعضهم وثقل بعض.
وذلك أنّهم كانوا لم يظنّوا أنّ رسول الله ﷺ يلقي حربا فلمّا سمع أبو سفيان بمسير النبيّ ﷺ استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم وأصحابه.
فخرج ضمضم سريعا إلى مكّة وخرج الشيطان معه في صورة سراقة بن خثعم فأتى مكّة فقال: إنّ محمدا وأصحابه قد عرضوا لعيركم ف لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ، فغضب أهل مكّة وانتدبوا وتنادوا لا يتخلف عنا أحد إلّا هدمنا داره واستبحناه، وخرج رسول الله ﷺ في أصحابه حتّى بلغ واديا يقال له: وفران، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم، فخرج رسول الله عليه السلام حتّى إذا كانوا بالروحاء أخذ عينا للقوم فأخبره بهم وبعث رسول الله ﷺ أيضا عينا له من جهينة حليفا للأنصار يدعى ابن الأريقط فأتاه بخبر القوم، وسبقت العير رسول الله ﷺ فنزل جبرئيل فقال: إن الله وعدكم إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إمّا العير وإمّا قريش، وكان العير أحب إليهم فاستشار النبيّ ﷺ أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال وأحسن وقام عمر وقال وأحسن، ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله ونحن معك والله ما نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «١»، ولكن اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إنّا معكم مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتّى نبلغه.
فقال له رسول الله ﷺ خيرا ودعا له بخير، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا عليّ أيّها الناس» [٢١٧].
وإنّما يريد الأنصار، وذلك أنّهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنّا براء من ذمامك
(١) سورة المائدة: ٢٤
.
330
حتّى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلى دارنا فأنت في ذمامنا فنمنعك ممّا نمنع عنه أبناءنا ونساءنا، وكان رسول الله ﷺ يتخوّف أن تكون الأنصار لا ترى عليها نصرته إلّا على من داهمه بالمدينة من عدّوه فإن ليس عليهم أن يسيّرهم إلى عدوّهم من بلادهم، فلمّا قال ذلك رسول الله ﷺ فقال له سعد بن معاذ: والله كأنّك تريدنا يا رسول الله؟
قال صلى الله عليه وسلم: «أجل».
قال: فقد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله ما أردت فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضت لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن يلقانا بنا عدوّنا غدا إنّا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء لعل الله عزّ وجلّ يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله، ففرح بذلك النبيّ ﷺ ونشّطه قول سعد ثمّ قال: سيروا على بركة الله وابشروا فإنّ الله قد وعدكم إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم
«١» وذلك قوله وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ أي الفريقين أحدهما أبو سفيان مع العير والأخرى أبو جهل مع النفير وَتَوَدُّونَ تريدون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ يعني العير التي ليس فيها قتال والشوكة الشدة والقوة وأصلها من الشوك وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يحققه ويعلنه بِكَلِماتِهِ بأمره إيّاكم بقتال الكفّار وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ فيستأصلهم لِيُحِقَّ الْحَقَّ الإسلام وَيُبْطِلَ الْباطِلَ الكفر.
وقيل: الحق القرآن والباطل الشيطان وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أي المشركون.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ أي تستجيرون به من عدوّكم وتسألونه النصر عليهم،
قال عمر ابن الخطاب. رضي الله عنه: لمّا كان يوم بدر ونظر رسول الله ﷺ إلى كثرة المشركين وقلّة المسلمين دخل العرش هو وأبو بكر واستقبل القبلة وجعل يدعو ويقول: اللهمّ أنجز لي ما وعدتني اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فلم يزل كذلك حتّى سقط رداؤه وأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبيه ثمّ التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفا مناشدتك ربّك فإن الله سينجز لك ما وعدك
فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي أي بأنّي. وقرأ عيسى: إِنِّي بكسر الألف وقال إنّي مُمِدُّكُمْ وزائدكم ومرسل إليكم مددا بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ قرأ أهل المدينة: مُرْدَفِينَ بفتح الدال والباقون بكسره، لغتان متتابعين بعضهم في أثر بعض يقال: اردفه وردفته بمعنى تبعته قال الشاعر:
إذا الجوزاء أردفت الثريّا ظننت بآل فاطمة الظنونا «٢»
(١) بطوله متفرقا في تفسير الطبري: ٩/ ١٤٥. ٢٤٨، ودلائل البيهقي: ٣/ ١١٠
. (٢) تاج العروس: ٦/ ١١٥، وتفسير الطبري: ٩/ ٢٤٥
.
331
أراد ردفت جاءت بعدها، لأن الجوزاء تطلع بعد الثريا ومن فتح فعلى المفعول، أي
أردف الله المسلمين وجاءهم به فأمدّهم الله بالملائكة ونزل جبرئيل في خمسمائة ملك مجنبة على الميمنة فيها أبو بكر- رضي الله عنه- ونزل ميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها عليّ- كرّم الله وجهه- وهم في صورة الرجال عليهم ثياب بيض، وعمائم بيض أرخوا ما بين أكتافهم، فقاتلت الملائكة يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ولا يوم حنين ولا تقاتل أبدا إنّما يكونون حددا أو مددا.
وقال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتدّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت لفارس يقول قدم حيزوم ونظر إلى المشرك أمامه خرّ مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فجاء الرجل فحدّث بذلك رسول الله ﷺ فقال: «صدقت ذلك من مدد السماء» فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين [٢١٨].
قال مجاهد: ما مدّ النبيّ ﷺ فيما ذكر الله تعالى غير الألف من الملائكة مُرْدِفِينَ التي ذكر الله في الأنفال وأمّا الثلاثة والخمسة فكانت بشرى وَما جَعَلَهُ اللَّهُ يعني الإمداد.
الفراء: يعني الأرداف.
إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً قرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو: يَغْشيكم بفتح الياء النعاسُ رفع على أن الفعل له واحتجّوا بقوله في سورة آل عمران أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ «١» فجعل الفعل له.
وقرأ أهل المدينة يُغْشِيكُمُ بضم الياء مخففة على أن الفعل الله عزّ وجلّ ليكون موافقا لقوله (وَيُنَزِّلُ ولِيُطَهِّرَكُمْ) واحتجّوا بقوله تعالى كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ «٢».
وقرأ عروة بن الزبير والحسن وأبو رجاء وعكرمة والجحدري وعيسى وأهل الكوفة:
يُغَشِّيكُمُ بضمّ الياء مشدّدا.
فاختاره أبو عبيد وأبو حاتم: لقوله فَغَشَّاها ما غَشَّى «٣» والنعاس النوم تخفيف. وقال أبو عبيدة: هو ابتداء القوم: أَمَنَةً بفتح الميم قراءة العامّة، وقرأ أبو حياة وابن محيصن: أَمْنَةً بسكون الميم وهو مصدر قولك: أمنت من كذا أمنا وأمنة وأمانة وكلّها بمعنى واحد فلذلك نصب.
قال عبد الله بن مسعود: النعاس في القتال أمنة من الله عزّ وجلّ وفي الصلاة من الشيطان
(١) سورة آل عمران: ١٥٤
. (٢) سورة يونس: ٢٧
. (٣) سورة النجم: ٥٤
.
332
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً وذلك أن المسلمين نزلوا كثيبا أخضر ببدر يسوخ فيه الأقدم وحوافر الدواب وسبقهم المشركون إلى ماء بدر العظمى وغلبوهم عليه وأصبح المسلمون بعضهم محدّثين وبعضهم مجنبين وأصابهم الظمأ ووسوس لهم الشيطان فقال تزعمون أن فيكم نبي الله وأنّكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلّون مجنبين ومحدثين فكيف ترجون أن يظفركم عليهم.
قال: فأرسل الله عزّ وجلّ مطرا سال منه الوادي فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضّأوا وسقوا الركاب وملؤوا الأسقية وأطفى الغبار ولبّد الأرض حتّى ثبّت عليه الأقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت أنفسهم فذلك قوله وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الأحداث والجنابة.
وقرأ سعيد بن المسيب: لِيُطْهِرَكُمْ بطاء ساكنة من أطهره الله وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسة الشيطان.
وقرأ ابن محيصن: رجزُ بضم الراء. وقرأ أبو العالية: رجس بالسين والعرب تعاقب بين السين والزاء فيقول بزق وبسق.
والسراط والزراط والأسد والأزد وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ اليقين والصبر وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ حتّى لا يسرح في الرمل بتلبيد الأرض.
وقيل: بالصبر وقوّة القلب إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ للذين أمدّ بهم المؤمنين أَنِّي مَعَكُمْ بالعون والنصر فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي نوّروا قلوبهم وصحّحوا عزائمهم وثباتهم في الجهاد، فقيل: إنّ ذلك المثبت بحضورهم الحرب معهم.
وقيل: معونتهم إياهم في قتال عدوهم، وقال أبو روق: هو أن الملك كان يشبّه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي الرجل من أصحاب النبيّ ﷺ فيقول: إنّي قد دنوت من المشركين فسمعتهم يقولون والله لئن حملوا علينا [لنكشفنّ].
فتحدّث بذلك المسلمون بعضهم بعضا فيقوّي أنفسهم ويزدادون جرأة، قال ابن إسحاق والمبرد: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي ووازروهم سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ثمّ علّمهم كيف الضرب والقتل فقال فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ قال بعضهم: هذا الأمر متّصل بقوله: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا.
وقال آخرون: هو أمر من الله عزّ وجلّ للمؤمنين واختلفوا في قوله فَوْقَ الْأَعْناقِ فقال عطيّة والضحاك: معناه: فاضربوا الأعناق لقوله فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ «١».
(١) سورة محمد: ٤ [.....]
.
333
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنّما بعثت لضرب الرقاب وشدّ الوثاق» [٢١٩].
وقال بعضهم: معناه: فاضربوا على الأعناق، (فَوْقَ) بمعنى على. وقال عكرمة: معناه فاضربوا الرؤوس فوق الأعناق. وقال ابن عباس: معناه واضربوا فوق الأعناق أي على الأعناق، نظيره قوله فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ «١» أي اثنتين فما فوقهما.
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ قال عطيّة: يعني كل مفصل.
وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك: يعني الأطراف والبنان جمع بنانه، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين واشتقاقه من أبن بالمقام إذا قام به «٢».
قال الشاعر:
ألا ليتني قطعت منه بنانه ولاقيته في البيت يقظان حاذرا «٣»
وقال يمان بن رئاب: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ يعني الصناديد وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ يعني السفلة، والصحيح: القول الأوّل. قال أبو داود المازني وكان شهد بدرا: اتّبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يديّ قبل أن يصل سيفي فعرفت أنّه قتله غيري.
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: لقد رأيت يوم بدر وأن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وقال ابن عباس: حدثني رجل عن بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتّى صعدنا في جبل ليشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الواقعة على من يكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب.
قال: فبينما نحن في الجبل إذ دنت منّا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل. فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم «٤» قال فأمّا ابن عمّي فانكشف قناع قلبه فمات أمّا أنا فكدت أهلك ثمّ تماسكت.
وقال عكرمة: قال أبو رافع مولى رسول الله ﷺ كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالفهم وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرّق في قومه وكان أبو لهب عدوّ الله قد تخلّف
(١) سورة النساء: ١١
. (٢) راجع تفسير القرطبي: ٢/ ٣٠٥
. (٣) البيت لعباس بن مرداس كما في اللسان: ١٣/ ٥٩
. (٤) هو اسم فرس جبرائيل
.
334
عن بدر فقد بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكذلك صنعوا لم يتخلّف رجل إلّا بعث مكانه رجلا فلمّا جاء الخبر عمّا أصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوّة وحزما فكان رجلا ضعيفا قال: وكنت أعمل الأقداح أنحتها في حجرة زمزم فوالله إنّي لجالس فيها أنحت الأقداح وعندي أم الفضل جالسة وقد سرّنا ما جاء من الخبر إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتّى جلس على طنب الحجرة وكان ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب قد قدم، فقال أبو لهب: هلم إلي يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس، قال: لا شيء والله كأن الآن لقينا فمنحناهم أكتافا يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا وأيم الله مع تلك ما لمّت الناس:
لقينا رجالا بيضا على خيل [معلّق] بين السماء والأرض [ما تليق] شيئا ولا يقوم لها شيء.
قال أبو رافع: فرفعت طرف الحجرة بيدي ثمّ قلت: تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة فناورته فاحملني فضرب بي الأرض، ثمّ برك عليّ فضربني وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل الى عمود من عمد البيت فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيّده، فقام مولّيا ذليلا فوالله ما عاش إلّا سبع ليال حتّى رماه الله بالعدسة «١» فقتله.
ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما يدفناه حتّى أنتن في بيته، وكانت قريش تتقي العدسة كما تتّقي الناس الطاعون حتّى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان أنّ أباكما قد أنتن في بيته لا تغسّلانه فقالا: إنّا نخشى هذه القرحة، قال: فانطلقا فإنّا معكما فما غسلوه إلّا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يمسّونه ثمّ حملوه فدفنوه بأعلى مكّة إلى جدار وقذفوا عليه الحجارة حتّى واروه «٢».
وروي مقسّم عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة وكان أبو اليسر رجلا مجموعا وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول الله ﷺ لأبي اليسر: يا أبا اليسر كيف أسرت العباس؟
فقال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعانك عليه ملك كريم «٣».
ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
خالفوا الله رَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
(١) العدسة: حبة تشبه العدسة تخرج على الجسد من جنس الطاعون تقتل غالبا
. (٢) مستدرك الصحيحين: ٣/ ٣٢٢، ومجمع الزوائد: ٦/ ٨٩
. (٣) جامع البيان للطبري: ٤/ ١٠٣
.
335
أي هذا العقاب الذي أعجلته لكم أيّها الكفّار فَذُوقُوهُ عاجلا وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ في المعاد عَذابَ النَّارِ وفي فتح (أن) وجهان من الإعراب أحدهما الرفع والأخر النصب:
فأمّا الرفع فعلى تقدير ذلكم تقديره: ذلكم فذوقوه، وذلك أن للكافرين عذاب النار.
وأمّا النصب فعلى وجهين: أحدهما: بمعنى فعل مضمر: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وأعلموا وأيقنوا أَنَّ لِلْكافِرِينَ.
والآخر بمعنى: وما للكافرين فلما حذف الياء نصب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً أي [مخفقين] متزاحفين بعضكم إلى بعض والتزاحف التداني والتقارب.
قال الأعشى:
لمن الضغائن سيرهن زحيف عرم السفين إذا تقاذف مقذف
والزحف مصدر ولذلك لم يجمع كقولهم: قوم عدل ورضى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ يقول:
فلا تولّوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم ولكن اثبتوا لهم وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ظهره وقرأ الحسن ساكنة إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أي متعطّفا مستطردا لقتال عدوّه بطلب عورة له تمكنه إصابتها فيكرّ عليه «١».
أَوْ مُتَحَيِّزاً منضمّا صابرا إِلى فِئَةٍ جماعة من المؤمنين يفيئون به بسهم الى القتال فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ واختلف العلماء في حكم قوله وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الآية هل هو خاص في أهل بدر أم هو في المؤمنين جميعا.
فقال أبو سعيد الخدري: إنّما كان ذلك يوم بدر خاصة لم يكن لهم أن ينحازوا ولو
(١) تفسير الطبري: ٩/ ٢٦٥
.
336
انحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ في الأرض مسلم غيرهم ولا للمسلمين فيه غير النبيّ ﷺ فأمّا بعد ذلك فإنّ المسلمين بعضهم فئة لبعض ممثّلة، قاله الحسن والضحاك وقتادة.
قال يزيد ابن أبي حبيب: أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النار.
فقال مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الآية. فلمّا كان يوم أحد بعد ذلك قال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ «١» ثمّ كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين. فقال:
ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ... ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ «٢». وقال عطاء بن أبي رباح: هذه الآية منسوخة بقوله الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ «٣» الآية فليس لقوم أن يفروا من مثليهم فنسخت تلك الآية إلّا هذه العدّة.
وقال الكلبي: من قبل اليوم مقبلا أو مدبرا فهو شهيد ولكن سبق المقبل المدبر الى الجنة.
وروي جرير عن منصور عن إبراهيم قال: انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة الى عمر.
فقال: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف، فقال عمر- رضي الله عنه- أنا فئتك «٤».
وقال محمد بن سيرين: لمّا قتل أبو عبيد جاء الخبر إلى عمر- رضي الله عنه- فقال لو أنحاز إليّ فكنت له فئة [فأنا فئة] كل مسلم «٥».
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر قال: كنّا في مصيل بعثنا رسول الله ﷺ فخاض الناس خيضة فانهزمنا وكنّا نفر، قلنا نهرب في الأرض حياء ممّا صنعنا فدخلنا البيوت.
ثمّ قلنا: يا رسول الله نحن الفارون. قال رسول الله ﷺ «بل أنتم الكرارون وإنّا فئة المسلمين»
[٢٢٠] «٦».
وقال بعضهم: بل حكمنا عام في كل من ولى عن العدو وفيهم من
روى ما قال رسول الله ﷺ لبعض أهله: « [إياك والفرار] من الزحف فإن هلكوا فاثبتوا فما [... ] »
إلّا على ارتكاب الكبائر وإلّا الشرك بالله والفرار من الزحف لأن الله تعالى يقول وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ.» الآية.
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ الآية
فقال أهل التفسير والمغازي لمّا ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١) سورة آل عمران: ١٥٥
. (٢) سورة التوبة: ٢٥. ٢٧
. (٣) سورة الأنفال: ٦٦
. (٤) تفسير القرطبي: ٧/ ٣٨٣
. (٥) المصدر السابق
. (٦) بدائع الصنائع: ٧/ ٩٩، والبداية والنهاية: ٤/ ٢٨٣ [.....]
. (٧) كلام غير مقروء ولم نجده في المصادر
.
337
بدرا قال: «هذه مصارع القوم إن شاء الله»، فلمّا طلعوا عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللهمّ إنّي أسألك ما وعدتني فأتاه جبرئيل وقال:
خذ حفنة من تراب فارمهم بها»
[٢٢١].
فقال رسول الله ﷺ لمّا التقى الجمعان لعلّي رضي الله عنه: «أعطني قبضة من حصا الوادي» فناوله من حصى عليه تراب فرمى رسول الله ﷺ به في وجوه القوم وقال: «شاهت الوجوه».
فلم يبق مشرك إلّا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ثمّ ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب الهزيمة «١».
وقال حكيم بن حزام: لمّا كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء كأنّه صوت حصاة وقعت في طست ورمي رسول الله ﷺ تلك الرمية فانهزمنا.
وقال قتادة وابن زيد: ذكر له أنّ رسول الله ﷺ أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى حصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم.
وقال: «شاهت الوجوه» فانهزموا [٢٢٢] «٢».
الزهري عن سعيد بن المسيب قال: نزلت هذه الآية في قتل أبي بن كعب الجمحي. وذلك أنّه أتى رسول الله ﷺ بعظم حائل وهو يفتّه فقال: يا محمد الله يحيي هذا وهو رميم؟
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يحيه الله ثمّ يميتك ثمّ يدخلك النار فلمّا كان يوم بدر أسره ثمّ فدي، فلمّا افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي فرسا أعلفها كل يوم [فرق] ذرة لكي أقتلك عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلمّا كان يوم أحد أقبل أبيّ بن خلف يركض بفرسه ذلك حتّى دنا من رسول الله ﷺ فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استاخروا» [٢٢٣]، فاستأخروا فقام رسول الله ﷺ بحربة في يده فرمى بها أبي بن خلف فكسرت الحربة ضلعا من أضلاعه فرجع أبي إلى أصحابه ثقيلا فاحتملوه وطفقوا يقولون:
لا بأس، فقال أبي: والله لو كانت الناس لقتلهم، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله، فانطلق به أصحابه ينعونه حتّى مات ببعض الطريق فدفنوه ففي ذلك أنزل الله هذه الآية وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى الآية «٣».
وروى صفوان بن عمرو عن عبد العزيز بن [جبير] أنّ رسول الله ﷺ يوم خيبر دعا بقوس
(١) تفسير الطبري: ٩/ ٢٧٠. ٢٧١
. (٢) المصدر السابق
. (٣) الطبقات الكبرى: ٢/ ٤٦
.
338
فأتي بقوس طويلة فقال: جيئوني بغيرها، فجاءوا بقوس كبداء فرمى النبيّ ﷺ الحصن فأقبل السهم يهوي حتّى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه فأنزل الله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ فهذا سبب نزول الآية «١».
فأمّا معناها فإن الله تعالى أضاف القتل والرمي إلى نفسه لأنّه كان منه تعالى التسبيب والتسديد ومن رسوله والمؤمنين الضرب والحذف. وكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة من الله تعالى الإنشاء والإيجاد بالقدرة القديمة التامّة ومن الخلق الاكتساب بالقوى المحدثة، وفي هذا القول دليل على ثبوت مذهب أهل الحق وبطلان قول القدريّة.
وقيل: إنّما أضافها إلى نفسه لئلّا يعجب القوم.
قال مجاهد: قال هذا: قتلت، وقال هذا: قتلت، فأنزل الله هذه الآية.
وقال الحسن: أراد فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم وأنتم جرحتموهم لأن إخراج الروح إليه لا إلى غيره.
قال وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي [قتل] يبلغ إلى المشركين بها وملأ عيونهم منها.
وقال ابن إسحاق: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي لم يكن ذلك رميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك وما ألقى في صدور عدوك منها حتّى هزمهم.
وقال أبو عبيده: تقول العرب: رمى الله لك، أي نصرك. قال الأعمش: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي وفّقك وسدّد رميتك «٢».
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ولينعم على المؤمنين نعمه عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والثواب.
وقال ابن إسحاق: ليعرف المؤمنين نعمة نصرهم وإظهارهم على عدوهم مع قلّة عددهم وكثرة عدوّهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا نعمه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بأفعالهم سميع بأسرارهم عليم بإضمارهم ذلِكُمْ يعني: ذكرت من القتل والرمي والأجل الحسن وَأَنَّ اللَّهَ
(١) أسباب النزول: ١٥٦، وتفسير ابن كثير: ٢/ ٣٠٨
. (٢) أقول هذا حاصل من الآية، إنما الآية تريد أن تنزل ضربة الرسول الأعظم منزلة ضربة الباري عز وجل، ففي عين أن الرسول هو الرامي الله تعالى هو الرامي، وهو في قوة
الحديث القدسي المشهور: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل [والعبادات] حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده الذي يبطش بها ورجله التي يمشي بها»
راجع غوالي اللئالي: ٤/ ١٠٣ ح ١٥٢، وكنز العمال: ١/ ٢٢٩ ح ١١٥٥
.
339
أي: وأعلموا أن الله، وفي فتح (أن) من الوجوه ما في قوله تعالى ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [وقد بيناه هناك] «١».
مُوهِنُ مضعف كَيْدِ الْكافِرِينَ قرأ الحجازي والشامي والبصري: مُوَهِّنٌ بالتشديد والتنوين (كَيْدَ) نصبا وقرأ أكثر أهل الكوفة (مُوهِنٌ) بالتخفيف والتنوين (كَيْدَ) نصبا واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن محيصن و [الأعمش] وحفص: مُوهِنُ كَيْدِ، مخفّفة مضافة بالجر فمن نوّن معناه: وهن، ومن خفّف وأضاف قصر الخفّة كقوله مُرْسِلُوا النَّاقَةِ «٢» وكاشِفُوا الْعَذابِ «٣» ووهن وأوهن لغتان صحيحتان فصيحتان إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وذلك أنّ أبا جهل قال يوم بدر: اللهمّ أينا كان أفجر وأقطع للرحم وآتانا بما لا نعرف فانصرنا عليه، فاستجاب الله دعاءه وجاء بالفتح وضربه ابنا عفراء: عوف ومسعود، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود «٤».
وقال السدي والكلبي: كان المشركون حين خرجوا الى النبيّ ﷺ من مكّة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهمّ انصرنا على الحزبين وأهدى القبتين وأكرم الجندين وأفضل الدينين فأنزل الله هذه الآية.
وقال عكرمة: قال المشركون اللهمّ لا نعرف ما جاء به محمد فأفتح بيننا وبينه بالحق فأنزل الله تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أي أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
وقال أبي بن كعب وعطاء الخراساني: هذا خطاب أصحاب رسول الله قال الله للمسلمين: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أي تستنصروا الله وتسألوه الفتح فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أي بالنصرة.
وقال خبّاب بن الأرت: شكونا الى رسول الله عليه السلام فقلنا: لا تستنصر لنا، فاحمر وجهه وقال: «كان الرجل قبلكم يؤخذ ويحفر له في الأرض، ثمّ يجاء بالمنشار فيقطع بنصفين ما يصرفه عن دينه شيء، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه عن دينه، وليتمنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت ولا يخشى إلّا الله عزّ وجلّ والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون» [٢٢٤] «٥».
(١) عبارة المخطوط غير مقروء والظاهر ما أثبتناه، وهو موافق لما في تفسير الطبري الحرف بالحرف: ٩/ ٢٧٣
. (٢) سورة القمر: ٢٧
. (٣) سورة الدخان: ١٥
. (٤) تفسير الطبري: ٩/ ٢٧٤
. (٥) مسند أحمد: ٥/ ١٠٩، والمعجم الكبير: ٤/ ٦٣
.
340
ثمّ قال للكفّار وَإِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر بالله وقتال نبيّه ﷺ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا لقتاله وحربه نَعُدْ بمثل الواقعة التي أوقعت لكم يوم بدر «١».
وقيل: وَإِنْ تَعُودُوا إلى هذا القول وقتال محمد ﷺ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [قرأ] أهل المدينة والشام: وَأَنَّ اللَّهَ بفتح الألف، والمعنى: ولأن الله، وقيل: هو عطف على قوله وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ.
وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف، واختلفوا فيه وقراءة أبي حاتم (لأن) في قراءة عبد الله: والله مع المؤمنين.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ ولا تدبروا عن رسول الله ﷺ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أمره وليّه.
قال ابن عباس: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ القرآن ومواعظه وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا يعني المنافقين والمشركين الذين سمعوا كتاب الله بآذانهم فقالوا سمعنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ يعني لا يتّعظون بالقرآن ولا ينتفعون بسماعهم وكأنهم لم يسمعوا الحقيقة.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ يعني أن شرّ [الدواب] على وجه الأرض من خلق الله عِنْدَ اللَّهِ فقال الأخفش: كل محتاج إلى غذا فهو دابة.
الصُّمُّ الْبُكْمُ عن الحق كأنّهم لا يسمعون ولا ينطقون.
قال ابن زيد: هم صم القلوب وبكمها وعميها. وقرأ فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «٢».
وقال ابن عباس وعكرمة: هم بنو عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صمّ بكم عمّي عن
(١) راجع تفسير القرطبي: ٧/ ٣٨٧
. (٢) سورة الحج: ٤٦
.
341
مخاطبة محمد لا نسمعه ولا نجيبه، [فكانوا] جميعا [بأحد]، وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلّا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أمر الله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً صدقا وإسلاما لَأَسْمَعَهُمْ لرزقهم الفهم والعلم بالقرآن وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا عن القرآن وَهُمْ مُعْرِضُونَ عن الإيمان بالقرآن لعلم الله فيهم وحكمه عليهم بالكفر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ اختلفوا في قوله (لِما يُحْيِيكُمْ) :
فقال السدي: هو الإيمان يحييهم بعد موتهم أي كفرهم. وقال مجاهد: للحق. وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والفقه والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة.
وقال ابن إسحاق: لِما يُحْيِيكُمْ يعني الحرب والجهاد التي أعزكم الله بها بعد الذل.
وقوّاكم بها بعد الضعف ومنعكم بها عن عدوكم بعد القهر منهم لكم.
وقال [القتيبي] : لِما يُحْيِيكُمْ: لما يتقيكم، يعني الشهادة. وقرأ قوله بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «١» فاللام في قوله (لِما) بمعنى إلى ومعنى الاستجابة في هذه الآية الطاعة يدلّ عليه ما
روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: مرّ رسول الله ﷺ على أبي بن كعب وهو قائم يصلّي فصاح له فقال: «تعال إلي»، فعجل أبي في صلاته ثمّ جاء الى رسول الله ﷺ فقال: «ما منعك يا أبي أن تجيبني إذا دعوتك؟ أليس الله يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ».
قال: لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلّا أجبتك وإن كنت مصليا.
قال: «تحب أن أعلّمك سورة لم تنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها» ؟
قال أبي: نعم يا رسول الله.
قال: «لا تخرج من باب المسجد حتّى تعلمها» والنبيّ ﷺ يمشي يريد أن يخرج من المسجد فلما بلغ الباب ليخرج قال له أبي: يا رسول الله، فوقف فقال: «نعم كيف تقرأ في صلاتك» فقرأ أبي أمّ القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن «٢» [مثلها] وإنّها لهي السبع المثاني التي أتاني الله عزّ وجلّ [٢٢٥] «٣».
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ قال سعيد بن جبير: معناه يحول بين الكافر أن يؤمن وبين المؤمن أن يكفر.
(١) سورة آل عمران: ١٦٩ [.....]
. (٢) وهي سورة الفاتحة
. (٣) السنن الكبرى للبيهقي: ٢/ ٣٧٦
.
342
ابن عباس: بين الكافر وبين طاعته ويحول بين المؤمن وبين معصيته.
وقال مجاهد: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فلا يعقل ولا يدري ما يفعل، وروى خصيف عنه قال: يحول بين قلب الكافر وبين أن يعمل خيرا.
وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلّا بإذنه.
وقال قتادة: معنى ذلك أنّه قريب من قلبه ولا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره. وهي كقوله عزّ وجلّ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «١».
وقيل: هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في الحال الصعبة جاءت ظنونهم واختلجت صدورهم فقيل [فيهم] قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «٢» وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وبين ما في قلبه فيبدّل الخوف أمنا والجبن جرأة «٣».
وقيل: يحول بينه وبين مراده، لأن الأجل حال دون الأمل. والتقدير منع من التدبير.
وقرأ الحسن: بين المرّء، وبتشديد الراء من غير همزة.
وقرأ الزهري: بضم الميم والهمزة وهي لغات صحيحة.
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ويجزيكم بأعمالكم.
قال أنس بن مالك: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول: يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك، قلنا: يا رسول الله أمنّا بك فهل تخاف علينا؟
قال: «إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف شاء إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه» [٢٢٦] «٤».
والإصبع في اللغة الأثر الحسن، فمعنى قوله: بين إصبعين: بين أثرين من أثار الربوبية وفيها الإزاغة والإقامة.
قال الشاعر:
صلاة وتسبيح والخطأ نائل وذو رحم تناله منك إصبع
أي أثر حسن.
وقال آخر:
(١) سورة ق: ١٦
. (٢) سورة آل عمران: ١٦٧
. (٣) تفسير القرطبي: ٧/ ٣٩١
. (٤) جامع البيان للطبري: ٣/ ٢٥٦
.
343
من يجعل الله عليه إصبعا في الشر أو في الخير يلقه معا
فالإصبع أيضا في اللغة الإصبع.
فمعنى الحديث بين مملكتين من ممالكه، وبين الإزاغة والإقامة والتوفيق والخذلان.
قال الشاعر:
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الإصبع «١»
وَاتَّقُوا فِتْنَةً أي اختبار وبلاء يصيبكم.
وقال ابن زيد: الفتنة الضلالة لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً واختلفوا في وجه قوله لا تُصِيبَنَّ من الاعراب.
فقال أهل البصرة: قوله (لا تُصِيبَنَّ) ليس بجواب ولكنّه نهي بعد أمره، ولو كان جوابا ما دخلت النون.
وقال أهل الكوفة: أمرهم ثمّ نهاهم وفيه تأويل الجزاء فإن كان نهيا كقوله: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ «٢». أمرهم ثمّ نهاهم، وفيه تأويل الجزاء وتقديره: واتقوا الله إن لم تنتهوا أصابتكم.
وقال الكسائي: وقعت النون في الجر بمكان التحذير، فلو قلت: قم لا أغضب عليك لم يكن فيه النون لأنّه جزاء محض.
وقال الفراء: هو جزاء فيه طرف من النهي كما تقول: أنزل عن الدابة لا يطرحك. ولا يطرحنك فهذا [جزاء من] الأمر بلفظ النهي. ومعناه: إن تنزل عنه لا يطرحنّك.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أصحاب النبيّ ﷺ خاصة. وقال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب.
وقال الحسن: نزلت في عليّ وعمار وطلحة والزبير قال الزبير بن العوّام: يوم الجمل لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها.
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً. فحلفنا حتّى أصابتنا خاصّة. قال السدي:
هذه الآية نزلت في أهل بدر خاصّة فأصابتهم يوم الجمل فأقبلوا.
وقال عبد الله بن مسعود ما منكم من أحد إلّا هو مشتمل على الفتنة إنّ الله يقول:
(١) البيت أنشده أبو عبيد للكلابي كما في اللسان: ١٣/ ١٤٤، وتاج العروس: ٩/ ١٩٤
. (٢) سورة النمل: ١٨
.
344
أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
«١» فأيّكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلّات الفتن.
حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون من ناس من أصحابي إساءة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي يستنّ بهم فيها ناس يعذبهم فيدخلهم الله بها النار» [٢٢٧] «٢».
يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «لا تقوم الساعة حتّى تأتي فتنة [عمياء مظلمة] المضطجع فيها خير من الجالس والجالس فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي» «٣».
فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن أدركتني [وأنا مضطجع] قال:
«فامش».
قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا أمشي. قال «ارقد» قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا راقد فأجلس. قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا جالس.
قال: «فقل هكذا بيدك، وضم يديه الى جسده، حتّى تكون عند الله المظلوم ولا تكون عند الله الظالم» [٢٢٨].
عن زيد بن أبي زياد عن زيد بن الأصم عن حذيفة قال: أتتكم فتن كقطع الليل المظلم يهلك فيها كل شجاع بطل وكل راكب موضع وكل خطيب مشفع وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ في العدد مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ أرض مكّة في عنفوان الإسلام تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ يذهب بكم النَّاسُ كفّار مكّة، وقال وهب: فارس والروم فَآواكُمْ إلى المدينة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ يوم بدر أيديكم بالانتصار وأمدّكم بالملائكة وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني الغنائم أجالها لكم ولم يجلها لأحد قبلكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
قال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس ذلّا وأشقاهم عيشا وأجوعهم بطنا وأغراهم جلودا وآمنهم ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات منهم ردى في النار معكوبين على رأس الحجرين الأشدين فارس والروم.
يؤكلون ولا يأكلون وما في بلادهم شيء عليه يحسدون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا شر منزلا منهم حتّى جاء الله عزّ وجلّ بالإسلام فمكن في البلاد ووسع به في الرزق وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس.
(١) سورة الأنفال: ٢٨
. (٢) مجمع الزوائد: ٧/ ٢٣٤
. (٣) إلى هنا في مسند أحمد: ٥/ ٣٩
.
345
وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يجب الشكر له [وأجمل] الشكر في مزيد من الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
قال عطاء ابن أبي رباح: حدّثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكّة فأتى جبرئيل (عليه السلام) النبيّ ﷺ فقال: إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا.
فقال النبيّ ﷺ لأصحابه: «إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا» [٢٢٩] قال: فكتب رجلا من المنافقين إليه أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله تعالى الآية «١».
وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من النبيّ ﷺ فيفشونه حتّى بلغ المشركين.
وقال الزهري والكلبي: نزلت هذه الآية في أبي لبابة واسم أبي لبابة هارون بن عبد المنذر الأنصاري من بني عوف بن مالك وذلك أن رسول الله ﷺ حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النظير على أن يسيروا الى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله ﷺ إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم، لأن عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول الله ﷺ فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أنزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى طقه أنّه الذبح فلا تفعلوا.
قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أن قد خنت الله والرسول فلمّا نزلت هذه الآية شد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتّى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتّى خرّ مغميّا عليه ثمّ تاب الله عليه، فقيل له: يا أبا لبابة قد تبت عليك.
قال: لا والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يحلّني فجاءه فحله بيده، ثمّ قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب. وأن أنخلع من
(١) جامع البيان للطبري: ٩ ٢٩١
.
346
مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجزيك الثلث إن تصدقت» [٢٣٠] «١».
فقال المغيرة بن شعبة: نزلت هذه الآية في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه «٢».
قال محمد بن إسحاق: معنى الآية لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ثمّ تخالفونه في السر إلى غيره.
وقال ابن عباس: لا تَخُونُوا اللَّهَ بترك فرائضه، وَالرَّسُولَ بترك سنته، وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ.
قال السدي: إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم.
وعلى هذا التأويل يكون قوله (وَتَخُونُوا) نصبا على جواب النهي.
والعرب تنصب جواب النهي وقالوا كما ينصب بالفاء.
وقيل: هو نصب على الصرف كقول الشاعر:
لا تنهى عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم «٣»
وقال الأخفش: هو عطف على ما قبله من النهي، تقديره: ولا تخونوا أماناتكم.
وقرأ مجاهد: أمانتكم واحدة. واختلفوا في هذه [الآية] فقال ابن عباس: هو ما يخفي عن أعين الناس من فرائض الله عزّ وجلّ والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد يقول لا تنقضوها.
وقال ابن زيد: معنى الأمانات هاهنا الدين وهؤلاء المنافقون ائتمنهم الله على دينه فخانوا، إذ أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر.
قال قتادة: إنّ دين الله أمانة فأدّوا الى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده. ومن كانت عليه أمانة فليردّها إلى من أئتمنه عليها.
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
التي عند بني قريظةتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ
بطاعته وترك معصيته واجتناب خيانته يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً قال مجاهد: مخرجا في الدنيا والآخرة.
وقال مقاتل بن حيان: مخرجا في الدين من الشبهات. وقال عكرمة: نجاة. وقال الضحاك: بيانا. وقال مقاتل: منقذا.
(١) راجع جامع البيان للطبري: ٩/ ٢٩٢، والمعروف أن فاطمة بنت النبي عليهما السلام جاءت لتحلّه فأبى فقال رسول الله «فاطمة بضعة مني» فحلّته، راجع عمدة الأخبار: ٩٩ الباب الرابع، فصل في فضل المسجد الشريف، والروض الأنف للسهيلي: ١/ ١٦٠ كتاب المبعث، فصل في قوله لخديجة: إنّ جبرائيل يقرئك السلام، و ٢/ ١٩٦ فصل في خبر أبي لبابة
. (٢) المصدر السابق [.....]
. (٣) قال في اللسان: ٧/ ٤٤٧: البيت للمتوكل الليثي ويروى لأبي الأسود الدؤلي
.
347
قال الكلبي: بصرا، وقال ابن إسحاق: فصلا بين الحق والباطل، يظهر الله به حقكم ويطفئ به باطل من خالفكم.
وقال ابن زيد: فرقا يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل حتّى يعرفوه ويشهدوا به.
والفرقان مصدر كالرحمان والنقصان.
تقول: فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما فرقا وفروقا وفرقانا، وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ ما سلف من ذنوبكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ هذه الآية معطوفة على قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ «١». وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ «٢» لأن هذه السورة مدينة.
وهذا القول والمكر كان بمكة، ولكن الله تعالى ذكرهم ذلك بالمدينة كقوله إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ «٣» وكان هذا المكر على ما
ذكره ابن عباس وغيره من المفسّرين أن قريشا لمّا أسلمت الأنصار فرقوا أن تتفاقم أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاجتمع نفر من مشايخهم وكبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت رؤسائهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبا جهل وأبا سفيان وطعمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام وبنيه ومنبّه ابنا الحجاج وأميّة بن خلف فاعترض لهم إبليس في صورة شيخ فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا من رأي ونصح، قالوا: ادخل فدخل.
فقال أبو البحتري: أمّا أنا فأرى أن تأخذوه وتحبسوه في بيته وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت فتتركوه وتقدموا إليه طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتّى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، وإنّما هو كأحدهم.
فصرخ. إبليس. الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي رأيتم تعمدون إلى الرجل وتحبسونه فيتم أجره، وقد سمع به من حولكم، [فأوشكوا أن يشبّوا فينتزعوه من أيديكم] «٤» ويقاتلونكم عنه حتّى يأخذوه منكم.
قالوا: صدق الشيخ. فقال هشام بن عمرو وهو من بني عامر بن لؤي: أمّا أنا فأرى أن تحملوه على بعير فيخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم [ما ضر من] وقع إذا غاب عنكم
(١) سورة الأنفال: ٢٦
. (٢) سورة الأنفال: ٣٠- ٣٢
. (٣) سورة التوبة: ٤٠
. (٤) زيادة عن تاريخ الطبري: ٢/ ٩٨
.
348
واسترحم وكان أمره في غيركم. فقال إبليس بئس الرأي رأيكم تعمدون الى رجل قد أفسد سفهاءكم فتخرجوا به الى غيركم يفسدهم كما أفسدكم، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقه لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه. والله لئن فعلتم، ثمّ استعرض العرب لتجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم فيخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم.
قالوا: صدق والله الشيخ.
فقال أبو جهل: لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره: إني أرى أن نأخذ واحدا من كل بطن من قريش غلاما وسبطا ثمّ يعطى كل رجل منهم سيفا صارما ثمّ يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلّها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلّها وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدّي قريش ديته واسترحنا، فقال إبليس: صدق هذا الفتى و [هذا] أجودكم رأيا، القول ما قاله لا أرى غيره.
فتفرقوا على قول أبي جهل، وهم مجتمعون فأتى جبرئيل النبيّ ﷺ وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت على مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج الى المدينة وأمر رسول الله ﷺ عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه فنام في مضجعه فقال: اتشح ببردي فإنّه لن يخلص إليك أمر تكرهه.
ثمّ خرج النبيّ ﷺ وأخذ قبضه من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه وجعل ينثر التراب على رؤسهم وهو يقرأ إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ومضى إلى الغار من ثور فدخله هو وأبو بكر وخلّف عليّا. رضي الله عنه. بمكّة حتّى يؤدّي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقة وأمانته وكان المشركون يتحرسون عليّا. رضي الله عنه.
وهو على فراش رسول الله ﷺ يحسبون أنّه النبيّ، فلمّا أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليّا. رضي الله عنه.
وقد ردّ الله مكرهم وما ترك منهم رجلا إلّا وضع على رأسه التراب.
فقالوا: أين صاحبك؟
قال: لا أدري فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الجبل، فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، وقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث أيام ثمّ قدم المدينة فذلك قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ «١».
قال ابن عباس ومجاهد ومقسم والسدي: ليوثقوك. وقال قتادة: ليشدوك وثاقا.
(١) راجع تفسير ابن كثير: ٢/ ٣١٥، وتاريخ الطبري: ٢/ ٩٧. ٩٩
.
349
وقال عطاء. وعبد الله بن كثير: ليسجنوك. وقال أبان بن ثعلب. وأبو حاتم: ليثخنوك بالجراحات والضرب. وأنشد:
فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم قالوا الخليفة امسى مثبتا وجعا «١»
وقيل: معناه ليسخروك.
وروى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عبد المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تدري ما أضمر بك قومك؟
قال: «نعم [يريدون] أن يسخروا بي ويقتلوني أو يخرجوني» فقال: من أخبرك بهذا؟
قال: «ربّي».
قال: نعم الرب ربّك فاستوص ربّك خيرا.
فقال رسول الله ﷺ «أنا استوصي به بل هو يستوصي بي خيرا» [٢٣١] «٢».
وقرأ إبراهيم النخعي (ليبيتوك) من البيات أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ قال الحسن: فيقولون ويقول الله.
وقال الضحاك: ويصنعون ويصنع الله وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ خير من استنقذك منهم وأهلكهم وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا يعنى النضر بن الحرث قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا وذلك
أنّه كان [يختلف] تاجرا إلى فارس والحيرة فيسمع سجع أهلها وذكرهم أخبار العجم وغيرهم من الأمم، فمر باليهود والنصارى فرآهم يقرءون التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون، فجاء مكّة فوجد محمدا يقرأ القرآن ويصلّي. فقال النضر: قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أخبار الأمم الماضية وأعمارهم
، قال السدي: أساجيع أهل الحيرة.
والأساطير جمع الجمع وأصلها من قوله: سطرت أي كتبت، وواحدها سطر ثمّ تجمع أسطار أو سطور ثمّ فيجمعان أساطر وأساطير. وقيل: الأساطير واحدها أسطورة وأسطار.
والجمع القليل: أسطر.
(١) نسبه ابن كثير في البداية والنهاية: ٨/ ١٥٣، ليزيد بن معاوية
. (٢) تفسير الطبري: ٩/ ٢٩٩، وتفسير ابن كثير: ٢/ ٣١٤
.
350
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ الآية نزلت أيضا في النضر بن الحرث بن علقمة بن كندة من بني عبد الدار.
قال ابن عباس: لمّا قصّ رسول الله ﷺ شأن القرون الماضية، قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ في كتبهم.
فقال عثمان بن مظعون: اتق الله فإن محمدا يقول الحق. قال: فأنا أقول الحق. قال: فإن محمدا يقول: لا إله إلّا الله. قال: فأنا أقول لا إله إلّا الله. ولكن هذه شأن الله يعني الأصنام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «١» قال النضر: ألا ترون أن محمدا قد صدقني فيما أقول يعني قوله إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ.
قال له المغيرة بن الوليد: والله ما صدّقك ولكنه يقول ما كان للرحمن ولد.
ففطن لذلك النضر فقال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ.
إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ... (هُوَ) عمادا «٢» وتوكيد وصلة في الكلام، و (الْحَقَّ) نصب بخبر كان فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ كما أمطرتها على قوم لوط.
قال أبو عبيدة: ما كان من العذاب. يقال: فينا مطر ومن الرحمة مطر أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي بنفس ما عذبت به الأمم وفيه نزل: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «٣».
قال عطاء: لقد نزل في النضر بضعة عشرة آية من كتاب الله فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر.
قال سعيد بن جبير: قال رسول الله ﷺ يوم بدر: «ثلاثة صبروا منكم من قريش المطعم بن عدي. وعقبة بن أبي معيط. والنضر بن الحرث».
وكان النضر أسير المقداد فلمّا أمر بقتله قال المقداد: أسيري يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّه كان يقول في كتاب الله ما يقول» قال المقداد: أسيري يا رسول الله، قالها ثلاث مرّات. فقال رسول الله ﷺ في الثالثة: «اللهمّ اغن المقداد من فضلك» [٢٣٢].
فقال المقداد: هذا الذي أردت «٤».
(١) سورة الزخرف: ٨١
. (٢) العماد: الذي يكون بين كلامين لا يتم المعنى إلّا به، ويسمى عند البصريين ضمير الفصل
. (٣) سورة المعارج: ١
. (٤) تاريخ دمشق: ٦٠/ ١٦٧
.
351
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ اختلفوا في معنى هذه الآية فقال محمد بن إسحاق بن يسار: هذه حكاية عن المشركين، إنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأولى، [وقيل] : إن المشركين كانوا يقولون: والله إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أمة ونبيّها معهم، وذلك من قولهم ورسول الله بين أظهرهم، فقال الله تعالى لنبيّه ﷺ يذكر له جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم إذ قالوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ وقالوا: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ثمّ قال ردّا عليهم وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وإن كنت بين أظهرهم أن كانوا يستغفرون وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
وقال آخرون: هذا كلام مستأنف وهو قول الله تعالى حكاية عن نفسه ثمّ اختلفوا في وجهها وتأويلها:
فقال ابن أبزي وأبو مالك والضحاك: تأويلها: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ مقيم بين أظهرهم.
قالوا: فأنزلت هذه الآية على النبيّ ﷺ وهو مقيم بمكّة ثمّ خرج النبيّ من بين أظهرهم.
وبقيت منها بقية من المسلمين يستغفرون. فأنزل الله بعد خروجه عليه حين استغفر أولئك بها وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
ثمّ خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم فعذبوا وأذن الله بفتح مكّة، فهو العذاب الذي وعدهم.
ابن عباس: لم يعذب أولئك حتّى يخرج النبيّ منها والمؤمنون. قال الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني المسلمين فلما خرجوا قال الله:
وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ يعذبهم يوم بدر.
وقال بعضهم: هذا الاستغفار راجع الى المشركين: وما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين ما دمت فيهم وما داموا يستغفرون. وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويقولون لبيك لبيك لا شريك هو لك إلّا شريك هو لك بملكه لو ما ملك، ويقولون غفرانك غفرانك. هذه رواية أبي زميل عن ابن عباس.
وروى ابن معشر عن يزيد بن روحان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض:
محمد أكرمه الله من بيننا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ. الآية فلمّا أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: غفرانك اللهم. فأنزل الله عزّ وجلّ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
وقال أبو موسى الأشعري: إنّه كان فيكم أمانا لقوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
352
وأمّا النبيّ ﷺ فقد مضى وأمّا الاستغفار فهو كائن إلى يوم القيامة.
وقال قتادة [وابن عباس] وابن يزيد معنى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ: أن لو استغفروا، يقول إن القوم لو كانوا يستغفرون لما عذبوا ولكنهم لم يكونوا استغفروا ولو استغفروا فأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين.
وقال مجاهد وعكرمة: (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي يسلمون، يقول: لو أسلموا لمّا عذّبوا.
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي وفيهم من سبق له من الله الدخول في الإيمان.
وروى عن ابن عباس ومجاهد والضحاك: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي يصلّون. وقال الحسن: هذه الآية منسوخة بالآية التي تلتها: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ إلى قوله: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فقاتلوا بمكّة فأصابوا فيها الجوع والخير.
وروى عبد الوهاب عن مجاهد (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي في [أصلابهم] من يستغفره.
قال وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي: ما يمنعهم من أن يعذّبوا. قيل: [إنّ (أن) هنا زائدة] «١».
وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ المؤمنون من حيث كانوا ومن كانوا، يعني النبيّ ﷺ ومن آمن معه.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً والمكاء الصفير. يقال مكاء تمكّوا مكا ومكوا. وقال عنترة:
وحليل غانية تركت مجدّلا تمكوا فريصته كشدق الأعلم «٢»
ومنه قيل: مكت اسم الدابة مكأ إذا نفخت بالريح. (وَتَصْدِيَةً) يعني التصفيق.
قال جعفر بن ربيعة: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فجمع كفيه ثمّ نفخ فيها صفيرا.
وقال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون.
و [قال] مجاهد: كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبيّ ﷺ في الطواف يستهزئون به فيدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون، يخلطون عليه صلاته وطوافه.
وقال مقاتل: كان النبيّ ﷺ إذا صلّى في المسجد قام رجلان من المشركين عن يمينه
(١) المخطوط مشوش والظاهر ما أثبتناه وهو موافق لما في تفسير القرطبي: ٧/ ٤٠٠
. (٢) لسان العرب: ١١/ ١٦٤ [.....]
.
353
فيصفران ويصفقان ورجلان كذلك عن يساره ليخلطوا على النبيّ ﷺ صلاته. وهم بنو عبد الدار فقتلهم الله ببدر.
وقال السدي: المكاء الصفير على لحن طائر أبيض يكون بالحجاز يقال له: المكا.
قال الشاعر:
إذا غرّد المكاء في غير روضة قيل لأهل الشاء والحمرات «١»
وقال سعيد بن جبير وابن إسحاق وابن زيد: التصدية صدهم عن بيت الله وعن دين الله، والتصدية على هذا التأويل التصديد فقلبت إحدى الدالين تاء كما يقال تظنيت من الظن.
قال الشاعر:
تقضي البازي إذا البازي كسر «٢»
يريد: تظنيت وتفضض.
وقرأ الفضل عن عاصم: وما كان صلاتَهم بالنصب إلا مكاءٌ وتصديةٌ بالرفع محل الخبر في الصلاة كما قال القطامي:
قفي قبل التفرق يا ضباعا ولا يك موقف منك الوداعا «٣»
وسمعت من يقول: كان المكاء أذانهم والتصفيق إقامتهم فَذُوقُوا الْعَذابَ يوم بدر بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ليصرفوا عن دين الله الناس.
قال سعيد بن جبير: وابن ابزى نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من [الأحابيش] يقاتل بهم النبيّ ﷺ [سوى] من أشخاص من العرب. وفيهم يقول كعب بن مالك:
(١) كتاب العين للفراهيدي: ٤/ ٣٩١، ولم ينسبه
. (٢) هذا من رجز للعجاج كما في اللسان: ٤/ ٣٥٨
. (٣) لسان العرب: ٨/ ٢١٨
.
354
فجينا إلى موج البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنع
وفينا رسول الله نتبع قوله إذ قال فينا القول لا ينقطع
ثلاثة الألف ونحن نظنه ثلاث مئين أن كثرن فاربع «١»
وقال الحكم بن عيينة: نزلت في أبي سفيان بن حرب حيث أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية وكانت أوقيته اثنين وأربعين مثقالا.
وقال ابن إسحاق عن رجاله: لما أصيبت قريش من أصحاب القليب يوم بدر، فرجع فيلهم إلى مكّة ورجع أبو سفيان ببعيره إلى مكّة [مشى] عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أميّة في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم [بدر] فكلّموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه أملنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا، ففعلوا فأنزل الله فيهم هذه الآية «٢».
وقال الضحاك: هم أهل بدر.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وبنيه ومنبه ابنا الحجّاج البحتري بن هشام والنضر بن حارث وحكم بن حزام وأبي بن خلف، وزمعة بن الأسود والحرث بن عامر ونوفل والعباس بن عبد المطلب كلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم عشر جزر.
قال الله فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ولا يظفرون وَالَّذِينَ كَفَرُوا منهم خصّ الكفّار لأجل من أسلم منهم إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ بذلك الحشر الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الكافر من المؤمن فيدخل الله المؤمن الجنان والكافر النيران.
وقال الكلبي: يعني العمل الخبيث من العمل الطيب الصالح فيثيب على الأعمال الصالحة الجنّة ويثيب على الأعمال الخبيثة النار.
قرأ أهل الكوفة والحسن وقتادة والأعمش وعيسى: لِيَمِيزَ اللَّهُ بالتشديد.
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
وقال ابن زيد: يعني الإنفاق الطيب في سبيل الله من الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان فجعل نفقاتهم في قعر جهنم ثمّ يقال لهم: الحقوا بها.
(١) تفسير الطبري: ٩/ ٣٢٢، والبداية والنهاية ٤/ ٦٢ وذكر بقية الأبيات
. (٢) عين العبرة: ٥٤، وعيون الأثر: ١/ ٣٩٢
.
355
وقال مرّة الهمداني: يعني يميز المؤمن في علمه السابق الذي خلقه حين خلقه طيبا من الخبيث الكافر في علمه السابق الذي خلقه خبيثا، وذلك أنّهم كانوا على ملة الكفر فبعث الله الرسول بالكتاب لِيَمِيزَ [اللَّهُ] الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فمن [أطاع] استبان أنّه طيب ومن خالفه استبان أنّه خبيث «١» وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ بعضه فوق بعض فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً أي يجمعه حتّى يصيّره مثل السحاب الركام وهو المجتمع الكثيف فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ فوحد الخبر عنهم لتوحيد قول الله تعالى لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ ثمّ قال أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فجمع، رده إلى أول الخبر «٢»، يعني قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ... أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين غنيت صفقتهم وخسرت تجارتهم لأنّهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أبي سفيان وأصحابه إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ان ينتهوا من الشرك وقال محمد: يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من عملهم قبل الإسلام وَإِنْ يَعُودُوا لقتال محمد ﷺ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ في نصر الأنبياء والأولياء وهلاك الكفّار والأعداء مثل يوم بدر.
قال الأستاذ الإمام أبو إسحاق: سمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول: سمعت أبي يقول: سمعت عليّ بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: إنّي لأرجو أنّ توحيدا لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي بذلك أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد الزيدي:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ثمّ انتهى عمّا أتاه واقترف «٣»
لقوله سبحانه [في المعترف:] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ.
... وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي شرك، وقال أبو العالية: بلاء، وقال الربيع: حتّى لا يفتن مؤمن عن دينه وَيَكُونَ الدِّينُ التوحيد خالصا كُلُّهُ لِلَّهِ عزّ وجلّ ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد.
وقال قتادة: حتّى يقال: لا إله إلّا الله، عليها قاتل نبي الله وإليها دعا.
وقيل: حتّى تكون الطاعة والعبادة لله خالصة دون غيره «٤» فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر والقتال فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان وعادوا إلي فقال أهله فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ناصركم ومعينكم نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ الناصر.
(١) تفسير القرطبي: ٧/ ٤٠١
. (٢) تفسير الطبري: ٩/ ٣٢٥
. (٣) تفسير القرطبي: ٧/ ٤٠١
. (٤) تفسير الطبري: ٢/ ٢٦٢
.
356
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ حتّى الخيط والمخيط.
واختلف العلماء في معنى الغنيمة والفيء، ففرّق قوم بينهما:
قال الحسن بن صالح: سألت عطاء بن السائب عن الفيء والغنيمة فقال: إذا ظهر المسلمون على المشركين على أرضهم فأخذوه عنوة فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو غنيمة.
وأمّا الأرض فهو في سواد هذا الفيء.
وقال سفيان الثوري: الغنيمة ما أصاب المسلمون عنوة بقتال، والفيء ما كان من صلح بغير قتال.
وقال قتادة: هما بمعنى واحد ومصرفهما واحد وهو قوله تعالى فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ.
اختلاف أهل التأويل في ذلك فقال بعضهم قوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مفتاح الكلام. ولله الدنيا والآخرة فإنّما معنى الكلام: فإنّ للرسول خمسه وهو قول الحسن وقتادة وعطاء، فإنّهم جعلوا سهم الله وسهم الرسول واحدا، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس. قالوا: كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس فأربعة أخماس لمن قاتل عليها، وقسّم الخمس الباقي على خمسة أخماس: خمس للنبيّ ﷺ كان له ويصنع فيه ما شاء وسهم لذوي القربى، وخمس اليتامى وخمس للمساكين وخمس لابن السبيل. فسهم رسول الله ﷺ خمس الخمس.
وقال بعضهم: معنى قوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ) فإن لبيت الله خمسه. وهو قول الربيع وأبي العالية
قالا: كان يجاء بالغنيمة فيقسمها رسول الله ﷺ خمسة أسهم، فجعل أربعة لمن شهد القتال ويعزل أسهما [فيضرب يده] في جميع ذلك فما قبض من شيء جعله للكعبة وهو الذي سمّي لله ثمّ يقسّم ما بقي على خمسة أسهم: سهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وسهم لذي القربى، وسهم اليتامى، وسهم للمساكين، وخمس لابن السبيل، وسهم رسول الله ﷺ خمس الخمس.
357
وقال ابن عباس: سهم الله وسهم رسوله جميعا لذوي القربى وليس لله ولا لرسوله منه شيء.
وكانت الغنيمة تقسّم على خمسة أخماس فأربعة منها لمن قاتل عليها وخمس واحد تقسّم على أربعة، فربع لله والرسول ولذي القربى. فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ النبيّ من الخمس شيئا. والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل.
وأمّا قوله (وَلِذِي الْقُرْبى) فهم رسول الله ﷺ لا يحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس مكان الصدقة واختلفوا فيهم.
فقال مجاهد وعليّ بن الحسين وعبد الله بن الحسن: هم بنو هاشم.
وقال الشافعي: هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب خاصّة. واحتج في ذلك بما
روى الزهري عن سعيد بن جبير بن مطعم قال: لما قسم رسول الله ﷺ سهم لذوي القربى من خيبر على بني هاشم والمطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك بنو هاشم لا تنكر فضلهم مكانك الذي حملك الله منهم أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنّما نحن وهم بمنزلة واحدة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام. إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» ثمّ أمسك رسول الله ﷺ إحدى يديه بالأخرى [٢٣٣] «١».
وقال بعضهم: هم قريش كلّها.
كتب نجدة الى ابن عباس وسأله عن ذوي القربى فكتب إليه ابن عباس: قد كنا نقول: إنا هم، فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا: قريش كلّها ذو قربى «٢».
واختلفوا في حكم النبيّ ﷺ وسهم ذي القربى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان ابن عباس والحسن يجعلانه في الخيل والسلاح، والعدّة في سبيل الله ومعونة الإسلام وأهله.
وروى الأعمش عن إبراهيم. قال: كان أبو بكر رضي الله عنه وعمر يجعلان سهم النبيّ ﷺ في الكراع والسلاح، فقلت لإبراهيم: ما كان لعليّ رضي الله عنه قول فيه. قال: كان أشدهم فيه.
قال الزهري: إنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر الصديق يطلبان ميراثهم من فدك وخيبر. فقال
(١) مسند أحمد: ٤/ ٨١
. (٢) الأم للشافعي: ٤/ ١٦٠، والمصنف لابن أبي شيبة: ٧/ ٧٠٠
.
358
لهم أبو بكر- رضي الله عنه-: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركنا صدقة» فانصرفا «١» [٢٣٤]. «٢».
(١) مسند أحمد: ١/ ٤، وليس فيه فانصرفا.
(٢) قال ابن طاوس في الطرائف: ومن الطرائف العجيبة ما تجدّدت على فاطمة (عليها السلام) بنت محمّد (صلى الله عليه وآله) نبيّهم من الأذى والظلم وكسر حرمتها وحرمة أبيها والاستخفاف بتعظيمه لها وتزكيتها، كما تقدّمت رواياتهم عنه في حقّها من الشهادة بطهارتها وجلالتها وشرفها على سائر النسوان وأنّها سيّدة نساء أهل الجنّة.
فذكر أصحاب التواريخ في ذلك رسالة طويلة تتضمّن صورة الحال أمر المأمون الخليفة العباسي بإنشائها وقراءتها في موسم الحج. وقد ذكرها صاحب التاريخ المعروف بالعبّاسي وأشار الروحي الفقيه صاحب التاريخ إلى ذلك في حوادث سنة ثماني عشرة ومائتين جملتها:
أن جماعة من ولد الحسن والحسين (عليهما السلام) رفعوا قصة إلى المأمون الخليفة العباسي من بني العبّاس يذكرون أن فدك والعوالي كانت لأمّهم فاطمة بنت محمّد (صلى الله عليه وآله) نبيّهم، وان أبا بكر أخرج يدها عنها بغير حق، وسألوا المأمون انصافهم وكشف ظلامتهم، فأحضر المأمون مائتي رجل من علماء الحجاز والعراق وغيرهم وهو يؤكّد عليهم في أداء الأمانة واتباع الصدق، وعرفهم ما ذكره ورثة فاطمة في قضيتهم وسألهم عمّا عندهم من الحديث الصحيح في ذلك.
فروى غير واحد منهم عن بشير بن الوليد والواقدي وبشر بن عتاب في أحاديث يرفعونها إلى محمّد (صلى الله عليه وآله) نبيّهم لما فتح خيبر اصطفى لنفسه قرى من قرى اليهود، فنزل عليه جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) (الإسراء: ٢٦.).
فقال محمّد (صلى الله عليه وآله) : ومن ذو القربى وما حقّه؟
قال: فاطمة (عليها السلام) تدفع إليها فدك، فدفع إليها فدك.
ثم أعطاها العوالي بعد ذلك، فاستغلتها حتى توفي أبوها محمّد (صلى الله عليه وآله) فلمّا بويع أبو بكر منعها أبو بكر منها، فكلّمته فاطمة (عليها السلام) في ردّ فدك والعوالي عليها وقالت له: انها لي وان أبي دفعها إليّ.
فقال أبو بكر: ولا أمنعك ما دفع إليك أبوك.
فأراد أن يكتب لها كتابا فاستوقفه عمر بن الخطاب وقال: إنها امرأة فادعها بالبيّنة على ما ادّعت، فأمر أبو بكر أن تفعل، فجاءت بأمّ أيمن وأسماء بنت عميس مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) فشهدوا لها جميعا بذلك، فكتب لها أبو بكر، فبلغ ذلك عمر فأتاه فأخبره أبو بكر الخبر، فأخذ الصحيفة فمحاها (ذكره في السيرة الحلبية:
٣/ ٣٦٢ ط. بيروت المكتبة الاسلامية ومصر ١٣٢٠ هـ- نعم بلفظ: شق عمر الكتاب) فقال: إن فاطمة امرأة وعلي بن أبي طالب زوجها وهو جار إلى نفسه ولا يكون بشهادة امرأتين دون رجل.
فأرسل أبو بكر إلى فاطمة (عليها السلام) فأعلمها بذلك، فحلفت بالله الذي لا إله إلّا هو أنّهم ما شهدوا إلّا بالحق.
فقال أبو بكر: فلعل أن تكوني صادقة ولكن احضري شاهدا لا يجر إلى نفسه.
فقالت فاطمة: ألم تسمعا من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قول: أسماء بنت عميس وأم أيمن من أهل الجنّة؟ فقالا: بلى.
فقالت: امرأتان من الجنة تشهدان بباطل! فانصرفت صارخة تنادي أباها وتقول: قد أخبرني أبي بأنّي أوّل من يلحق به، فوالله لأشكونهما، فلم تلبث أن مرضت فأوصت عليا أن لا يصلّيا عليها وهجرتهما فلم تكلّمهما حتى ماتت، فدفنها علي (عليه السلام) والعباس ليلا فدفع المأمون الجماعة عن مجلسه ذلك اليوم، ثم أحضر في اليوم الآخر ألف رجل من أهل الفقه والعلم وشرح لهم الحال وأمرهم بتقوى الله ومراقبته، فتناظروا واستظهروا ثم افترقوا فرقتين، فقالت طائفة منهم: الزوج عندنا جار إلى نفسه فلا شهادة له، ولكنّا نرى يمين فاطمة قد أوجبت لها ما ادّعت مع شهادة الامرأتين، وقالت طائفة:
نرى اليمين مع الشهادة لا توجب حكما ولكن شهادة الزوج عندنا جائزة ولا نراه جارا إلى نفسه، فقد وجب بشهادته مع شهادة الامرأتين لفاطمة (عليها السلام) ما ادّعت، فكان اختلاف الطائفتين إجماعا منهما على استحقاق فاطمة (عليها السلام) فدك والعوالي.
فسألهم المأمون بعد ذلك عن فضائل لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، فذكروا منها طرفا جليلة قد تضمّنه رسالة المأمون، وسألهم عن فاطمة (عليها السلام) فرووا لها عن أبيها فضائل جميلة، وسألهم عن أمّ أيمن وأسماء بنت عميس فرووا عن نبيّهم محمّد (صلى الله عليه وآله) انّهما من أهل الجنّة، فقال المأمون: أيجوز أن يقال أو يعتقد أن علي بن أبي طالب مع ورعه وزهده يشهد لفاطمة بغير حق؟
وقد شهد الله تعالى ورسوله بهذه الفضائل له، أو يجوز مع علمه وفضله أن يقال إنه يمشي في شهادة وهو يجهل الحكم فيها؟
وهل يجوز أن يقال إن فاطمة مع طهارتها وعصمتها وانها سيّدة نساء العالمين وسيّدة نساء أهل الجنّة كما رويتم تطلب شيئا ليس لها، تظلم فيه جميع المسلمين وتقسم عليه بالله الذي لا إله إلّا هو؟
أو يجوز أن يقال عن أمّ أيمن وأسماء بنت عميس انّهما شهدتا بالزور وهما من أهل الجنّة؟ إن الطعن على فاطمة وشهودها طعن على كتاب الله وإلحاد في دين الله، حاشا الله أن يكون ذلك كذلك.
ثم عارضهم المأمون بحديث رووه أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أقام مناديا بعد وفاة محمّد (صلى الله عليه وآله) نبيّهم ينادي: من كان له على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دين أو عدّة فليحضر، فحضر جماعة فأعطاهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) ما ذكروه بغير بيّنة، وان أبا بكر أمر مناديا ينادي بمثل ذلك فحضر جرير بن عبد الله وادّعى على نبيّهم عدّة فأعطاها أبو بكر بغير بيّنة، وحضر جابر بن عبد الله وذكر أن نبيّهم وعده أن يحثو له ثلاث حثوات من مال البحرين، فلما قدم مال البحرين بعد وفاة نبيّهم أعطاه أبو بكر الثلاث الحثوات بدعواه بغير بيّنة.
(قال عبد المحمود) : وقد ذكر الحميدي هذا الحديث في الجمع بين الصحيحين في الحديث التاسع من أفراد مسلم من مسند جابر وان جابرا قال: فعددتها فإذا هي خمسمائة فقال أبو بكر خذ مثليها (راجع صحيح مسلم: ٤ ١٨٠٧ كتاب الفضائل ح ٤٢٧٨، وفتح الباري بشرح البخاري: ٤/ ٥٩٨ ح ٢٢٩٦ كتاب الكفالة باب من تكفل عن يتيم).
قال رواة رسالة المأمون: فتعجّب المأمون من ذلك وقال: أما كانت فاطمة وشهودها يجرون مجرى جرير بن عبد الله وجابر بن عبد الله، ثم تقدّم بسطر الرسالة المشار طليها وأمر أن تقرأ بالموسم على رؤوس الاشهاد، وجعل فدك والعوالي في يد محمد بن يحيى بن الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) يعمرها ويستغلها ويقسم دخلها بين ورثة فاطمة بنت محمّد (صلى الله عليه وآله) نبيّهم. انتهى. (ذكر بعض هذه الأمور المسعودي في مروج الذهب: ٢/ ٤٠٢ ط. مصر و ٤/ ٥١ ط. بيروت، والسقيفة وفدك: ١٠٣. ١٤٦، وشرح النهج لابن أبي الحديد: ١/ ٥٦ شرح الخطبة ٢٦ و ١٦/ ٢١٠ إلى ٢٨٦، وسيرة ابن هشام: ٣/ ٣٠١، وبلاغات النساء: ٢٦. ٢٨. ٣٠: وتاريخ الذهبي: ٣/ ٢١، وكنز العمال: ٥/ ٥٨٥ و ٦٣٦ ح ١٤٠٤٠ و ١٤١٠١ و ١٤٠٤٥ و ١٤١٢٠ و ١٤٠٩٧)
.
359
وقال قتادة: كان سهم ذي القربى طعمة لرسول الله ﷺ ما كان حيّا. فلمّا توفي جعل لولي الأمر بعده.
360
وقال عليّ كرم الله وجهه: يعطى كل إنسان نصيبه من الخمس لا يعطى غيره، ويلي الإمام سهم الله ورسوله.
وقال بعضهم: سهم رسول الله ﷺ مردود بعده في الخمس. والخمس بعده مقسوم على ثلاث أسهم: على اليتامى والمساكين وابن السبيل وهو قول جماعة من أهل العراق.
وقال عمرو عن عيينة: صلّى رسول الله ﷺ إلى بعير من المغنم فلمّا فرغ أخد وبره من جسد البعير فقال: «إنّه لا يحلّ لي من هذا المغنم مثل هذا إلّا الخمس، والخمس مردود فيكم» [٢٣٥] «١».
وقال آخرون: الخمس كلّه لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال المنهال ابن عمرو: سألت عبد الله بن محمد بن عليّ وعليّ بن الحسين عن الخمس فقالا: هو لنا، فقلت لعلي رضي الله عنه: إن الله تعالى يقول وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فقال: يتامانا ومساكيننا.
وأمّا اليتامى فهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم، والمساكين أهل الفاقة والحاجة من المسلمين، وابن السبيل المسافر المنقطع.
وقال ابن عباس: هو الفتى الضعيف الذي ترك المسلمين إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا محمد ﷺ يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم فرق فيه بين الحق والباطل ببدر يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين وجمع المشركين وهو يوم بدر وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة وكان يوم الجمعة لسبع عشر مضت من شهر رمضان وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِذْ أَنْتُمْ يا معشر المسلمين بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا شفير الوادي الأدنى إلى المدينة وَهُمْ يعني عدوكم من المشركين بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى من الوادي الأقصى من المدينة وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ إلى ساحل البحر كان رسول الله ﷺ بأعلى الوادي والمشركين بأسفله والعير قد [انهرم] به أبو سفيان على الساحل حتّى قدم مكّة.
وفي العدوة قراءتان: كسر العين وهو قراءة أهل مكّة والبصرة.
وضم العين وهو قرأ الباقين واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وهما لغتان مشهورتان كالكسوة والكسوة. والرشوة والرّشوة. وينشد بيت الراعي:
وعينان حمر مآقيهما... كما نظر العدوة الجؤذر
بكسر العين «٢».
(١) مسند أحمد: ٥/ ٣١٦ [.....]
. (٢) من العدوة
.
361
وينشد بيت أوس بن حجر:
وفارس لو تحل الخيل عدوته ولّوا سراعا وما همّوا بإقبال
بالضم «١».
والدنيا تأنيث الأدنى، والقصوى تأنيث الأقصى.
وكان المسلمون خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها فالتقوا من غير ميعاد قال الله وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ لقلّتكم وكثرة عدوكم وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه لِيَهْلِكَ هذه اللام مكررة على اللام في قوله لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا ويهلك مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ أي ليموت من يموت على بينة [ولها وعبرة] عاينها وحجّة قامت عليه، وكذلك حياة من يحيى لوعده وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
وقال محمد بن إسحاق: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت معذرته ويؤمن من آمن على [مثواك].
وقال قتادة: ليضل من ضل عن بينة ويهتدي من اهتدى على بيّنة.
وقال عطاء: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ عن علم بما دخل فيه من الفجور وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ عن علم ويقين بلا إله إلّا الله. وفي (حَيَّ) قولان، قرأ أهل المدينة: (حيي) بيائين مثل خشيي على الإيمان، وقرأ الباقون (حَيَّ) بياء واحدة مشددة على الإدغام، لأنّه في الكتاب بياء واحدة وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ يا محمد يعني المشركين فِي مَنامِكَ أي في نومك، وقيل: في موضع نومك يعني عينك قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ لجبنتم وَلَتَنازَعْتُمْ اختلفتم فِي الْأَمْرِ وذلك أن الله تعالى أراهم إياه في منامه قليلا فأخبر ﷺ بذلك، فكان تثبيتا لهم ونعمة من الله عليهم شجعهم بها على عدوهم فدلك قوله عزّ وجلّ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ قال ابن عباس: سلم الله أمرهم حين أظهرهم على عدوهم وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا
قال مقاتل: ذلك أن النبيّ ﷺ رأى في المنام أن العدو قليل قبل [لقاء] العدو فأخبر النبيّ ﷺ أصحابه بما رأى. فقالوا: رؤيا النبيّ حق، القوم قليل، فلما التقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين المؤمنين وأصدق رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله بن مسعود: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتّى قلت لرجل إلى جنبي: [نراهم سبعين] قال أراهم مائة فأسرنا رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال: ألفا. وَيُقَلِّلُكُمْ يا معشر المؤمنين فِي أَعْيُنِهِمْ.
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ١٥
.
362
قال السدي: قال أناس من المشركين: إن العير قد انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل:
الآن إذا [ينحدر لكم] محمد وأصحابه فلا ترجعوا حتّى تستأصلوهم ولا تقتلوهم بالسلاح خذوهم أخذا كي لا يعبد الله بعد اليوم، إنّما محمد وأصحابه أكلة جزور فاربطوهم بالجبال.
كقوله من القدرة على نفسه.
قال الكلبي: استقلّ المؤمنون المشركين والمؤمنين، البحتري: بعضهم على بعض. لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا كائنا في علمه، نصير الإسلام وأهله ذل الشرك وأهله.
وقال محمد بن إسحاق: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا بالانتقام من أعدائه والإنعام على أوليائه وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً أي جماعة كافرة (فَاثْبُتُوا) لقتالهم ولا تنهزموا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي ادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم، وقال قتادة: أمر الله بذكره [أثقل] ما يكونون عند الضراب بالسيوف لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تنجحون بالنصر والظفر وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا ولا تختلفوا فَتَفْشَلُوا أي تخسروا وتضعفوا.
وقال الحسن: فَتَفْشِلُوا بكسر الشين وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قال مجاهد: نصركم وذهبت ريح أصحاب محمد ﷺ حين نازعوه يوم أحد «١».
وقال السدي: جماعتكم وحدتكم، وقال مقاتل: [حياتكم]، وقال عطاء: جلدكم.
وقال يمان: غلبتكم، وقال النضر بن شميل: قوتكم، وقال الأخفش: دولتكم، وقال ابن زيد: هو ريح النصر لم يكن نصر قط إلّا بريح يبعثه الله في وجوه العدو، فإذا كان كذلك لم
(١) تفسير الطبري: ١٠/ ٢١
.
363
يكن لهم قوام، ومنه
قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» [٢٣٦] «١».
يقال للرجل إذا أقبلت الدنيا عليه بما يهواه: الريح اليوم لفلان.
قال عبيد بن الأبرص:
كما حميناك يوم النعف من شطب والفضل للقوم من ريح ومن عدد «٢»
وقال الشاعر:
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي إلا عبيد وأم بين أذواد «٣»
أتنتظران قليلا ريث غفلتهم أو تعدوان فإن الريح للعادي «٤»
أنشدني أبو القاسم المذكور قال: أنشدني أبا نصر بن منصور الكرجي الكاتب:
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكلّ خافقة سكون
ولا يغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون «٥»
قوله تعالى وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً فخرا وأشرا وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ معطوف على قوله: (بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) ومعناه ينظرون ويرون، إذ لا يعطف مستقبل على ماض، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
وهؤلاء أهل مكّة خرجوا يوم بدر ولهم بغي وفخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ إن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها ليحادك ورسولك» [٢٣٧] «٦».
قال ابن عباس: لمّا رأى أبو سفيان أنّه أحرز عيره أرسل إلى قريش أنّكم خرجتم لتمنعوا عليكم فقد نجاها الله فارجعوا فوافى الركب الذي فيه أبو سفيان ليأمروا قريشا بالرجعة إلى مكّة فقال لهم: انصرفوا، فقال أبو جهل: والله لا ننصرف حتّى نرد بدرا. وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام. فنقيم بها ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمور ونعزف عليها القيان «٧» وتسمع بها العرب. فلا يزالون يهابوننا أبدا فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان «٨».
(١) مسند أحمد: ١/ ٢٢٨، وصحيح البخاري: ٢/ ٢٢
. (٢) تفسير الطبري: ١٠/ ٢١، ومعجم البلدان: ٣/ ٣٤٣
. (٣) تاج العروس: ١٠/ ٢٢
. (٤) الصحاح: ١/ ٣٦٨، والبيت لامرئ القيس في معلقته
. (٥) تاج العروس: ٢/ ١٤٩، وتفسير القرطبي: ٥/ ٣٨٤
. (٦) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٤
. (٧) القيان: جمع القينة وهي الفتيات المغنيات
. (٨) زاد المسير: ٣/ ٢٤٩
.
364
ونهى الله عباده المؤمنين بأن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النيّة والخشية في نصرة دينه وموأزرة نبي صلى الله عليه وسلم.
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وكانت الزينة لهم على ما قاله ابن عباس وابن إسحاق والسدي والكلبي وغيرهم: إن قريشا لمّا أجمعت المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحرب التي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فكان ذلك أن يثبتهم، فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رأيته فتبدّى في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني، وكان من أشراف كنانة «١».
قال الشاعر:
يا ظالمي أنّى تروم ظلامتي والله من كل الحوادث خالي
فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي التقى الجمعان ورأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء وعلم أنّه لا طاقة له بهم نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ قال الضحاك. ولّى مدبرا. قال النضر بن شميل رجع القهقري على قفاه هاربا، وقال قطرب وابان بن ثعلبة: رجع من حيث جاء.
قال الشاعر:
نكصتم على أعقابكم يوم جئتم وترجون أنفال الخميس العرمرم
وقال عبد الله بن رواحة: فلمّا رأيتم رسول الله نكصتم على أعقابكم هاربينا.
قال الكلبي: لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن كنانة آخذا بيد الحرث بن هشام، ف نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وقال له الحرث: يا سراقة أين؟ أتخذلنا على هذه الحالة؟
فقال له إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ فقال: والله ما نرى إلا جواسيس يثرب. فقال: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ.
قال الحرث: فهلّا كان هذا أمس، فدفع في صدر الحرث فانطلق وانهزم الناس، فلمّا قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس، فو الله ما شعرت حتى بلغني هزيمتكم، فقالوا أما أتيتنا في يوم كذا فحلف لهم، فلمّا تابوا علموا أن ذلك كان الشيطان.
وقال الحسن في قوله: (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) فأتى إبليس جبرئيل معتجرا بردة يمشي بين يدي النبي ﷺ وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب.
سمعت أبا القاسم الحبيبي سمعت أبا زكريا العنبري، سمعت أبا عبد الله محمد بن
(١) تفسير مجمع البيان: ٤/ ٤٧٧
.
365
إبراهيم البوشنجي يقول أفخر بيت قيل في الإسلام قوله بغيض الأنصاري يوم بدر:
وببئر بدر إذ نردّ وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد «١»
وقال قتادة وابن إسحاق. قال إبليس: إِنِّي أَرى ما- لا تَرَوْنَ وصدق الله في عدوّه، وقال:
إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، وكذب عدوّ الله، والله ما به مخافة الله ولكن علم أنّه لا قوة له ولا منعة فأيّدهم وأسلمهم، وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرّأ منهم.
قال عطاء إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أن يهلكني فيمن هلك، وقال الكلبي: خاف أن يأخذه جبرئيل ويعرّفهم حاله فلا يطيعوه من بعد، وقال معناه: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه على ثقة من أمره.
قال الأستاذ الامام أبو إسحاق، رأيت في بعض التفاسير: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ عليكم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ. قال بعضهم هذا حكاية عن إبليس، وقال آخرون: انقطع الكلام عند قوله: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ قال الله وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ.
إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله ﷺ قال: «ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدجر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لمّا رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر» [٢٣٨]، وذلك أنه رأى جبرائيل وهو يزع الملائكة «٢».
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك ونفاق غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ يعني المؤمنين هؤلاء قوم بمكة مستضعفين حبسهم آباؤهم وأقرباؤهم من الهجرة، فلمّا خرجت قريش إلى بدر أخرجوهم كرها، فلمّا نظروا إلى حلة المسلمين ارتابوا وارتدّوا وقالوا: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ فقتلوا جميعا منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان والحرث بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج والوليد بن عتبة وعمرو بن بن أمية، فلما قتلوا مع المشركين ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم فذلك قوله تعالى: وَلَوْ تَرى تعاين يا محمد إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ أي يقبضون أرواحهم ببدر يَضْرِبُونَ حال أي ضاربين وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ قال سعيد بن جبير، ومجاهد: يريد أستاههم ولكن الله تعالى كريم [يكني].
وقال مرّة الهمذاني وابن جريج: وُجُوهَهُمْ ما أقبل عنهم، وَأَدْبارَهُمْ ما أدبر عنهم،
(١) انظر البداية والنهاية لابن كثير: ١/ ٣٩١، وقد نسب البيت فيه إلى حسّان بن ثابت. ونسبه البكري الأندلسي لكعب بن مالك انظر: معجم ما استعجم: ١/ ٢٣٢
. (٢) تفسير القرطبي: ٢/ ٤١٩، وتاريخ دمشق: ٤٣/ ٥٣٩، وموطأ مالك: ١/ ٤٢٢، ح ٢٤٥ [.....]
.
366
وتقديره: يضربون أجسادهم كلها، وقال ابن عباس: كانوا إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولّوا أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم،
وقال الحسن: قال رجل: يا رسول الله رأيت بظهراني رجل مثل الشراك، قال: ذلك ضرب الملائكة
، وقال الحسين بن الفضل: ضرب الوجه عقوبة كفرهم، وضرب الأدبار عقوبة معاصيهم.
وَذُوقُوا فيه إضمار، أي ويقولون لهم ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ في الآخرة، ورأيت في بعض التفاسير: كان مع الملائكة مقامع من حديد كلّما ضربوا التهب النار في الجراحات فذلك قوله تعالى: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، ومعنى قوله ذُوقُوا: قاسوا واحتملوا. قال الشاعر:
فذوقوا كما ذقنا غداة محجر من الغيظ في أكبادنا والتحوب «١»
ويجوز ذُوقُوا بمعنى موضع الابتلاء والاختبار يقول العرب اركب هذا الفرس فذقه، وانظر فلانا وذق ما عنده. قال الشماخ في وصف قوس:
فذاق وأعطاه من اللين جانبا كفى ولها أن يغرق السهم حاجز «٢»
وأصله من الذوق بالفم ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ كسبت وعملت أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أخذهم من غير جزم، وفي محل «أنّ» وجهان من الاعراب: أحدهما النصب عطفا على قوله (بِما قَدَّمَتْ) تقديره: وأن الله، والآخر: الرفع عطفا على قوله (ذلِكَ) معناه: وذلك أن الله.
(١) البيت لطفيل الغنوي كما في لسان العرب: ١/ ٣٣٩
. (٢) لسان العرب: ١٠/ ١١٢ وفيه: النيل حاجز
.
367
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ قال ابن عباس: كفعل آل فرعون، وقال الضحاك: كصنيعهم، وقال مجاهد، وعطاء: كسنّتهم، وقال يمان: كمثلهم يعني أن أهل بدر فعلوا كفعل آل فرعون من الكفر والذنوب، ففعل الله بهم كما فعل بآل فرعون من الهلاك والعذاب، وقال الكسائي: كما أن آل فرعون جحدوا كما جحدتم وكفروا كما كفرتم. قال الأخفش، والمؤرخ، وأبو عبيدة:
كعادة آل فرعون.
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ فعاقبهم الله بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.
قال الكلبي: يعني أهل مكة، أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ، وبعث إليهم محمدا (عليه السلام) فغيّروا نعم الله، وتغييرها أن كفروا بها وتركوا شكرها، وقال السدّي: نعمة الله محمد ﷺ أنعم به على قريش فكذبوه وكفروا به فنقله إلى الأنصار.
وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ بعضا بالرجفة وبعضا بالخسف وبعضا بالمسخ وبعضا بالحصى وبعضا بالماء، فكذلك أهلكنا كفار مكة بالسيف والذل وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ الآية الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ.
سمعت أبا القاسم بن حبيب، سمعت أبا بكر عبدش يقول: من هاهنا صلة الذين عاهدتهم، وسمعته يقول سمعت المنهل بن محمد بن محمد بن الأشعث يقول: دخلت بين لأن المعنى: الذين أخذت منهم العهد، وقيل: عاهدت منهم أي معهم ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وهم بنو قريظة، نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قبال النبي ﷺ وأصحابه، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالوا إلى الكفار على رسول الله يوم الخندق، وكتب كعب بن الأشرف إلى مكة يوافقهم على مخالفة رسول الله ﷺ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ لا يخافون الله في نقض العهد.
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ ترينّهم وتجدنّهم فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ قال ابن عباس:
فنكّل بهم من ورائهم، وقال قتادة: عظ بهم من سواهم من الناس، وقال سعيد بن جبير: أنذر بهم من خلفهم، وقال ابن زيد: أخفهم بهم.
وقيل: فرّق جمع كل ناقض مما بلغ من هؤلاء، وقال عطاء: أثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم من أهل مكة وأهل اليمن، وقال ابن كيسان: اقتلهم فلا من يهرب عنك من بعدهم.
وقال القتيبي: سمّع بهم، وأنشد:
368
وأصل التشريد: التطريد والتفريق والتبديد، وقرأ أبن مسعود (وشرّذ) بالذال معجم وهو واحد. قال قطرب التشريذ بالذال التنكيل، وبالدال للتفريق من خلفهم أي من ورائهم، وقيل من يأتي خلفهم، وقرأ الأعمش مِنْ خَلْفِهِمْ بكسر الميم والفاء تقديره: فشرّد بهم من خلفهم من عمل قبل عملهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يعتبرون العهد فلا ينقضون العهد.
وَإِمَّا تَخافَنَّ تعلمنّ يا محمد مِنْ قَوْمٍ معاهدين لك خِيانَةً نكث عهد ونقض عقد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر والخيانة كما ظهر من قريظة والنضير فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم عهدهم عَلى سَواءٍ وهذا من الحان القرآن، ومعناه: فناجزهم الحرب، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك فسخت العهد بينك وبينهم حتى تصير أنت وهم على سواء من العلم بأنك محارب، فيأخذوا للحرب أهبتها وتبرؤوا من الغدر، وقال الوليد بن مسلم: عَلى سَواءٍ أي على مهل وذلك قوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ «١».
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ وَلا يَحْسَبَنَّ قرأ أبو جعفر، وابن عامر بالباء على معنى لا تحسبن الذين كفروا انهم أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ قرأ العامة بالكسر على الابتداء، وقرأ أهل الشام وفارس بالفتح ويكون لا صلة، تقديره: ولا تحسبن الذين كفروا أن سبقوا أنّهم يعجزون أي يفوتون.
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أي من الآلات يكون قوة له عليهم من الخيل والسلاح والكراع.
صالح بن كيسان عن رجل عن عقبة بن مسافر الجهني أن النبي ﷺ قرأ على المنبر، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، فقال: ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي
، وروى ضمرة بن ربيعة عن رجاء بن أبي سلمة فقال: لقي رجل مجاهدا بمكة ومع مجاهد جوالق فقال مجاهد هذا من القوة، ومجاهد يتجهز للغزو «٢»، وقال عكرمة القوة الحصون.
وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الإناث] «٣» تُرْهِبُونَ بِهِ تخوفون، ابن عباس: تخزون، وقرأ يعقوب: تُرَهِّبُونَ بتشديد الهاء وهما لغتان: أرهبته ورهّبته عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ قال مجاهد: بنو قريظة. السدّي: أهل فارس. ابن زيد: المنافقون لا تَعْلَمُونَهُمُ لأنهم منكم يقولون: لا إله إلا الله، ويغزون معكم، وقال بعضهم: هم كفار الجن، وقال بعضهم: هم كل عدو من المسلمين غير الذي أمر النبي ﷺ أن يشردّ بهم.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يدّخر ويوفّر لكم أجره وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ.
(١) سورة التوبة: ٢
. (٢) تفسير الطبري: ١٠/ ٤٠
. (٣) تفسير الطبري: ١٠/ ٤٠
.
369
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها أي فمن إليها وصالحهم، قالوا: وكانت هذه قبل (براءة) ثم مسخت بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، الآية وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ يغدروا ويمكروا بك، قال مجاهد: يعني قريظة فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ كافيك الله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ قال السدّي: يعني الأنصار وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ جمع بين قلوبهم. وهم الأوس والخزرج. على دينه بعد حرب سنين، فصيّرهم جميعا بعد أن كانوا أشتاتا، وإخوانا بعد أن كانوا أعداء لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً إلى قوله تعالى حَكِيمٌ.
روى ابن عفّان عن عمير بن إسحاق، قال: كنّا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس الالفة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ.
[... ] «١»
أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، قال: أسلم مع النبي ﷺ ثلاثة وثلاثون رجلا وستّ نسوة، ثم أسلم عمر (رضي الله عنه) فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ
قال اكثر المفسرين: محل مَنِ نصب عطفا على الكاف في قوله حَسْبُكَ، ومعنى الآية: وحسب من أتبعك، وقال بعضهم رفع عطفا على اسم الله تقديره: حسبك الله ومتّبعوك من المؤمنين.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ حثّهم عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ رجلا صابرون محتسبون يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من عدوّهم ويقهروهم وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابرة محتسبة تثبت عند اللقاء وقتال العدو يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير احتساب، ولا طلب ثواب، فهم لا يثبتون إذا صدقتموهم القتال
(١) كلمة غير مقروءة
.
370
خشية أن يقتلوا، وصورة الآية خبر ومعناه أمر.
وكان هذا يوم بدر قرن على الرجل من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين، فثقلت على المؤمنين وضجّوا فخفّف الله الكريم عنهم وأنزل الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً أي في الواحد عن قتال عشرة والمائة عن قتال الألف، وقرأ أبو جعفر ضَعْفاً بفتح الضاد، وقرأ بعضهم: ضعفاء بالمد على جمع ضعيف مثل شركاء.
فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من الكفّار وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [أي عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد فكسر أول عشرين كما كسر اثنان] «١»، وإذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ [لهم أن يفروا منهم، وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم] القتال وجاز لهم أن [يتحوزوا] «٢» عنهم.
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى
روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: لما كان يوم بدر جيء بالأسرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء؟
فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم فاستعن بهم، لعلّ الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية [تكن] لنا قوة على الكفار.
وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم، ومكّن عليا من عقيل يضرب عنقه، ومكّني من فلان. نسيب لعمر. أضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارا، فقال العباس، قطعتك رحمك، فسكت رسول الله ﷺ فلم يجبهم. ثم دخل فقال أناس: يأخذ بقول أبو بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة.
ثم خرج رسول الله ﷺ فقال: إن الله يلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، وأن الله يشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال:
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى. قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ومثلك يا عمر مثل نوح قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، ومثلك كمثل موسى قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ «٣» الآية.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم عالة فلا يفلتنّ أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق، قال
(١) زيادة عن تفسير القرطبي: ٨/ ٤٤ والمخطوط ممسوح
. (٢) تفسير الطبري: ١٠/ ٥٠ وتصويب العبارة منه والمخطوط ممسوح
. (٣) سورة يونس: ٨٨
.
371
عبد الله بن مسعود إلا سهيل بن البيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما رأيتني في يوم أخوف أن يقع عليّ الحجارة من السماء مني ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا سهيل بن البيضاء» «١».
قال: فلمّا كان من الغد جئت رسول الله ﷺ وإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء ما بكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض عليّ عذابكم، ودنا من هذه الشجرة شجرة، قريبة من نبي الله فأنزل الله تعالى ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى
بالتاء بصري الباقون بالياء، أَسْرى: جمع أسير مثل قتيل وقتلى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي يبالغ في قتل المشركين وأسرهم وقهرهم، أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ، وأثخنته معرفة بمعنى قلته معرفة.
قال قتادة هذا يوم بدر، فاداهم رسول الله بأربعة آلاف بأربعة آلاف، ولعمري ما كان أثخن رسول الله ﷺ يومئذ، وكان أول قتال قاتل المشركين.
قال ابن عباس كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلمّا كثروا واشتد سلطانهم، أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً فجعل الله نبيه والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وأن شاءوا فادوهم وإن شاؤوا رفقوا بهم.
تُرِيدُونَ أيها المؤمنين عَرَضَ الدُّنْيا بأخذكم الفداء وَاللَّهُ يُرِيدُ ثواب الْآخِرَةَ بقهركم المشركين ونصركم دين الله وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
(١) انظر: مسند أحمد: ١/ ٣٨٤. وجامع البيان للطبري: ١٠/ ٥٧
.
372
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الآية، قال ابن عباس كانت الغنائم قبل أن يبعث النبي ﷺ حرام على الأنبياء والأمم كلهم كانوا إذا أصابوا مغنما جعلوه للنيران «١» وحرّم عليه أن يأخذوا منه قليلا أو كثيرا، وكان الله عز وجل كتب في أم الكتاب أن الغنائم والأسارى حلال لمحمد وأمته، فلمّا كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم، فأنزل الله تعالى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لولا قضاء من الله سبق لكم يا أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله تعالى أحل لكم الغنيمة.
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أنه لا يعذّب أحدا شهد بدر مع النبي ﷺ وقال: لولا كتاب سبق أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر، وقال ابن جريج: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أنه لا يضل قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ، وأنه لا يأخذ قوما فعلوا شيئا بجهالة لَمَسَّكُمْ لنالكم وأصابكم فِيما أَخَذْتُمْ من الغنيمة والفداء قبل أن يؤمروا به عَذابٌ عَظِيمٌ.
روى محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال: قال رسول الله ﷺ لأصحابه في أسارى بدر: «إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدّتهم»، وكانت الأسارى سبعون. فقالوا: بل نأخذ الفداء ونتمتع به ونقوى على عدونا ويستشهد منا بعدتهم، قال عبيدة طلبوا الخيرتين كليهما فقتل منهم يوم أحد سبعون
، قال ابن إسحاق وابن زيد: لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر إلّا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه، وقال لرسول الله: ما لنا والغنائم! نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله، وأشار على رسول الله بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال: يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ
فقال الله فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
همان بن منبه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن محمد قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لم تحل الغنائم لمن كان قبلنا» ذلك أن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا.
عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ نبي قبلي من الأنبياء وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى بلغ محرابه وأعطيت الرعب مسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين شهر فيقذف الله الرعب في قلوبهم وكان النبي ﷺ يبعث إلى خاصة قومه، وبعثت إلى الجن والإنس، وكان الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله، وأمرت أن أقاسمها في فقراء أمتي ولم يبق نبي إلا قد أعطي سؤله وأخّرت
(١) في المخطوط: للقرآن
.
373
شفاعتي لأمتي» [٢٣٩].
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى
نزلت في العباس بن عبد المطلب وكان أسيرا يومئذ، وكان العباس أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر فبلغته التوبة يوم بدر، وكان خرج بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها الناس، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا قبل ذلك وبقيت العشرون أوقية مع العباس فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي ﷺ أن يحسب العشرون أوقية من فدائه فأبى، وقال: أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك، وكلّفه فداء بني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال العباس: يا محمد تركتني اتكفف قريشا ما بقيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل أوّل خروجك من مكة، فقلت لها:
إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله ولعبيد الله والفضل وقثم يعني بنيه»
فقال له العباس: وما يدريك؟
قال: «أخبرني ربي» فقال العباس: فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله الا الله وأنك عبده ورسوله، ولم يطلع عليه أحد إلا الله فذلك قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الذين أخذتم منهم الفداء [٢٤٠] «١».
وقرأ أبو محمد وأبو جعفر: من الأسارى وهما لغتان إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي إيمانا يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم، قال العباس: فأبدلني الله مكانها عشرين عبدا كلهم يضرب بمال كثير، فأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين الأوقية، وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي،
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا، وقد توضأ لصلاة الظهر، فما أعطى يومئذ ساكنا ولا حرم سائلا حتى فرّقه، فأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ، فكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منا، وأرجوا المغفرة.
وَإِنْ يُرِيدُوا يعني الأسرى خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا قومهم وعشيرتهم ودورهم يعني المهاجرين وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا رسول الله ﷺ والمهاجرين رضي الله عنهم، أي أسكنوهم منازلهم وَنَصَرُوا على أعدائهم، وهم الأنصار أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ دون أقربائهم من الكفار، وقال ابن عباس: هذا في الميراث، كانوا يتوارثون بالهجرة، وجعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث لأنه لم يهاجر، ولم ينصر، وكانوا يعملون بذلك، حتى أنزل الله عز وجل: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
(١) أسباب النزول للواحدي: ١٦٢
.
374
أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فنسخت هذا وصار الميراث لذوي الأرحام المؤمنين ولا يتوارث أهل ملّتين.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني الميراث حَتَّى يُهاجِرُوا وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بكسر الواو، والباقون بالفتح وهما واحد، وقال الكسائي: الولاية بالنصب: الفتح، والولاية بالكسر: الإمارة.
وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ لأنهم مسلمون إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ عهد وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في العون والنصرة.
قال ابن عباس: نزلت في مواريث مشركي أهل العهد وقال السدّي: قالوا نورث ذوي أرحامنا من المشركين فنزلت هذه الآية، وقال ابن زيد: كان المهاجر والمؤمن الذي لم يهاجر لا يتوارثان. وإن كانا أخوين مؤمنين، وذلك لأن هذا الدين بهذا البلد كان قليلا، حتى كان يوم الفتح وانقطعت الهجرة توارثوا بالأرحام حيثما كانوا،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح إنّما هي الشهادة» [٢٤١].
وقال قتادة: كان الرجل ينزل بين المسلمين والمشركين فيقول إن ظهر هؤلاء كنت معهم، وإن ظهر هؤلاء كنت معهم فأبى، الله عليهم ذلك، وأنزل فيه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «١» فلا تراءى نار مسلم و] نار [مشرك إلا صاحب جزية مقرّا بالخراج «٢».
إِلَّا تَفْعَلُوهُ قال عبد الرحمن بن زيد: إلّا تتركهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون، وقال ابن عباس: إلّا تأخذوه في الميراث ما أمرتكم به، وقال ابن جريج: إلّا تعاونوا وتناصروا، وقال ابن إسحاق: جعل الله سبحانه المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال: إِلَّا تَفْعَلُوهُ، هو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن.
تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ إلى قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا قال ابن كيسان حققوا ايمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في دين الله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ الذي عنده وهو اللوح المحفوظ، وقيل: كتاب الله في قسمته التي قسمها وبيّنها في القرآن في سورة النساء.
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وقال قتادة: كان الاعرابي لا يرث المهاجر فأنزل الله هذه الآية، وقال ابن الزبير: كان الرجل يعاقد الرجل ويقول: ترثني وأرثك فنزلت هذه الآية.
(١) سورة الأنفال: ٧٣
. (٢) تفسير الطبري: ١٠/ ٧٢ [.....]
.
375
محتوى الجزء الرابع من كتاب تفسير الثعلبي
سورة المائدة ٥ سورة الأنعام ١٣١ سورة الأعراف ٢١٤ سورة الأنفال ٣٢٤
376

[الجزء الخامس]

سورة التوبة
مدنية، وهي عشرة آلاف وأربعمائة وثمانون حرفا، وأربعة آلاف وثمان وتسعون كلمة، ومائة وثلاثون آية
هشام بن عامر عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّه ما نزل عليّ القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا خلا سورة براءة، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فإنّهما أنزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة كل يقول: يا محمد استوص بنسبة الله خيرا» «١».
يزيد الرقاشي عن ابن عباس. قال: قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: ما حملكم على أن [عمدتم] إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، ووضعتموها في السبع الطوال؟.
قال عثمان رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فلا انزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وينزل عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال مما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزلت، وكانت قصتها شبيهة بقصتها [فظننت أنها منها]، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يبين لنا أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم اكتب سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتها في السبع الطوال «٢».
وسمعت أبا القاسم الحبيبي، سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع السجزي بهراة يقول:
سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي، سمعت عبد الجبار بن العلاء العطار يقول: سئل سفيان بن عيينة: لم لم يكن في صدر براءة: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال: لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين.
(١) تفسير مجمع البيان: ٥/ ٦.
(٢) تفسير الطبري: ١٠/ ٧٠.
5
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
أطوّف في الأباطح كل يوم مخافة أن يشردّ بي حكيم