تفسير سورة الأنفال

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قال أبو بكر رحمة الله عليه : قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة وعطاء :" الأنفال الغنائم ". ورُوي عن ابن عباس رواية أخرى عن عطاء :" أنّ الأنفال ما يصل إلى المسلمين عن المشركين بغير قتال من دابّة أو عبد أو متاع، فذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يضمّه حيث يشاء ".
ورُوي عن مجاهد :" أن الأنفال الخُمْسُ الذي جعله الله لأهل الخمس ". وقال الحسن :" كانت الأنفال من السرايا التي تتقدم أمام الجيش الأعظم ". والنفل في اللغة الزيادة على المستحق، ومنه النافلة وهي التطوع ؛ وهو عندنا إنما يكون قبل إحراز الغنيمة فأما بعده فلا يجوز إلا من الخمس، وذلك بأن يقول للسَّرِيّة : لكم الربع بعد الخمس أو الربع حيز من الجميع قبل الخمس، أو يقول : من أصاب شيئاً فهو له، على وجه التحريض على القتال والتَّضْرِيَةِ على العدو ؛ أو يقول : من قتل قتيلاً فله سَلَبُه. وأما بعد إحراز الغنيمة فغير جائز أن ينفل من نصيب الجيش، ويجوز له أن ينفل من الخمس.
وقد اختلف في سبب نزول الآية، فرُوي عن سعد قال : أصبت يوم بدر سيفاً، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : نَفِّلنِيهِ ! فقال :" ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَ " فنزلت :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ ﴾. قال : فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" اذْهَبْ وخُذْ سَيْفَكَ ". وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ ﴾ قال :" الأنفال الغنائم التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّة ليس لأحد فيها شيء، ثم أنزل الله تعالى :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] الآية " ؛ قال ابن جريج : أخبرني بذلك سليمان عن مجاهد. وروى عبادة بن الصامت وابن عباس وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل يوم بدر أنفالاً مختلفة وقال :" مَنْ أَخَذَ شَيْئاً فهو له " فاختلف الصحابة فقال بعضهم نحو ما قلنا، وقال آخرون : نحن حَمَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا رِدْءاً لكم، قال : فلما اختلفنا وساءت أخلاقنا انتزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله فقسمه عن الخمس، وكان في ذلك تقوى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين لقوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لله والرَّسُولِ ﴾ ؛ قال عبادة بن الصامت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليَرُدَّ قَوِيُّ المُسْلِمِينَ عَلَى ضَعِيفِهِمْ ". ورَوى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَمْ تَحلَّ الغَنِيمَةُ لقَوْمٍ سُودِ الرُّؤُوسِ قَبْلَكُمْ، كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهَا " فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم، فأنزل الله تعالى :﴿ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً ﴾ [ الأنفال : ٦٨ ]. وقد ذكر في حديث عبادة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر قبل القتال :" مَنْ أَخَذَ شَيئاً فَهُوَ لَهُ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ كَذَا "، ويقال إن هذا غلط، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين :" مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ " وذلك لأنه قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لم تحلّ الغَنائِمُ لقَوْمٍ سُودِ الرؤوس غَيْركُمْ " وأن قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ ﴾ نزلت بعد حيازة غنائم بدر، فعلمنا أن رواية من رَوَى أن النبي صلى الله عليه وسلم نَفّلهم ما أصابوا قبل القتال غلطٌ، إذ كانت إباحتها إنما كانت بعد القتال. ومما يدل على غلطه أنه قال :" مَنْ أَخَذَ شَيْئاً فهو له ومَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَله كذا " ثم قسمها بينهم بالسواء ؛ وذلك لأنه غير جائز على النبي صلى الله عليه وسلم خلف الوعد ولا استرجاع ما جعله لإنسان وأخْذُه منه وإعطاؤه غيره ؛ والصحيح أنه لم يتقدم من النبي صلى الله عليه وسلم قول في الغنائم قبل القتال، فلما فرغوا من القتال تنازعوا في الغنائم فأنزل الله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ ﴾ فجعل أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أن يجعلها لمن شاء، فيقسمها بينهم بالسواء، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] على ما رُوي عن ابن عباس ومجاهد، فجعل الخمس لأهله المسمَّيْن في الكتاب، والأربعة الأخماس للغانمين، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل، وبقي حكم النفل قبل إحراز الغنيمة بأن يقول :" مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَله سَلَبُهُ ومَنْ أَصَابَ شيئاً فهو له " ومن الخمس وما شذَّ من المشركين من غير قتال فكلّ ذلك كان نفلاً للنبي صلى الله عليه وسلم يجعله لمن يشاء ؛ وإنما وقع النسخ في النفل بعد إحراز الغنيمة من غير الخمس. ويدلّ على أن قسمة غنائم بدر إنما كانت على الوجه الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم قسمتها لا على قسمتها الآن أن النبي صلى الله عليه وسلم قسمها بينهم بالسواء ولم يخرج منها الخمس، ولو كانت مقسومة قسمة الغنائم التي استقرَّ عليها الحكم لعزل الخمس لأهله ولفضل الفارس على الراجل ؛ وقد كان في الجيش فرسان أحدهما للنبي صلى الله عليه وسلم والآخر للمقداد، فلما قسم الجميع بينهم بالسوية علمنا أن قوله تعالى :﴿ قُلِ الأَنْفَالُ لله وَالرَّسُولِ ﴾ قد اقتضى تَفْويضَ أَمْرِهَا إليه ليعطيها من يرى، ثم نسخ النفل بعد إحراز الغنيمة وبقي حكمه قبل إحرازها على جهة تحريض الجيش والتضرية على العدو وما لم يُوجف عليه المسلمون وما لا يحتمل القسم ومن الخمس على ما شاء.
ويدل على أن غلط الرواية في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر :" من أصَابَ شَيْئاً فَهُوَ لَهُ " وأنه نفل القاتل وغيره ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا هناد بن السري عن أبي بكر عن عاصم عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف فقلت : يا رسول الله إن الله قد شَفَى صدري اليوم من العدو فهَبْ لي هذا السيف ! فقال :" إِنَّ هَذَا السَّيْفَ لَيْسَ لي ولا لَكَ "، فذهبت وأنا أقول يُعْطَاهُ اليوم من لم يُبْلِ بلائي ؛ فبينا أنا إِذْ جاءني الرسول فقال : أجب ! فظننت أنه نزل فيَّ شيء بكلامي، فجئت فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم :" إِنَّكَ سَأَلْتَني هَذَا السَّيْفَ ولَيْسَ هُوَ لي ولا لَكَ وإِنّ الله قَدْ جَعَلَهُ لي فَهُوَ لَكَ " ثم قرأ :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لله والرَّسُولِ ﴾. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن له ولا لسعد قبل نزول سورة الأنفال، وأخبر أنه لما جعله الله له آثره به ؛ وفي ذلك دليل على فساد رواية من رَوَى أن النبي صلى الله عليه وسلم نفّلهم قبل القتال وقال مَنْ أخذ شيئاً فهو له.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ﴾. في هذه القصة ضروب من دلائل النبوة، أحدها : إخباره إياهم بأن إحدى الطائفتين لهم، وهي عِيرُ قريش التي كانت فيها أموالهم وجيشهم الذين خرجوا لحمايتها، فكان وعده على ما وعده.
وقوله تعالى :﴿ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ﴾ يعني أن المؤمنين كانوا يودّون الظفر لما فيها من الأموال وقلة المقاتِلَة ؛ وذلك لأنهم خرجوا مُسْتَخْفِينَ غير مستعدّين للحرب، لأنهم لم يظنّوا أن قريشاً تخرج لقتالهم.
وقوله :﴿ ويُرِيدُ الله أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ ﴾، وهو إنجاز موعده لهم في قطع دابر الكافرين وقتلهم.
قوله تعالى :﴿ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ﴾، فوجد مخبر هذه الأخبار على ما أخبر به، فكان من طمأنينة قلوب المؤمنين ما أخبر به.
قال تعالى :﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ﴾ فألقى عليهم النعاس في الوقت الذي يطير فيه النعاس بإظلال العدو عليهم بالعدة والسلاح وهم أضعافهم. ثم قال :﴿ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ يعني من الجنابة ؛ لأن فيهم من كان احتلم وهو رجز الشيطان لأنه من وسوسته في المنام ﴿ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ ﴾ بما صار في قلوبهم من الأمنة والثقة بموعود الله ﴿ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ﴾ يحتمل من وجهين، أحدهما : صحة البصيرة والأمن والثقة الموجبة لثبات الأقدام، والثاني : أن موضعهم كان رملاً دهساً لا تثبت فيه الأقدام فأنزل الله تعالى من المطر ما لبّد الرمل وثبت عليه الأقدام ؛ وقد رُوي ذلك في التفسير.
قوله تعالى :﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى المَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ ﴾ أي أنصركم ﴿ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ وذلك يحتمل وجهين، أحدهما : إلقاؤهم إلى المؤمنين بالخاطر والتنبيه أن الله سينصرهم على الكافرين فيكون ذلك سبباً لثباتهم وتحزّبهم على الكفار، ويحتمل أن يكون التثبيت بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سينصره والمؤمنين فيخبر النبي عليه السلام بذلك المؤمنين فيدعوهم ذلك إلى الثبات.
الكلام في الفرار من الزحف قال الله تعالى :﴿ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ ﴾. روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر، قال أبو نضرة :" لأنهم لو انحازوا يومئذ لانحازوا إلى المشركين ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم ". وهذا الذي قاله أبو نضرة ليس بسديد ؛ لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار ولم يأمرهم النبي عليه السلام بالخروج ولم يكونوا يَرَوْنَ أنه يكون قتال، وإنما ظنوا أنها العِيرُ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خفَّ معه. فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم غيرهم وإنهم لو انحازوا انحازوا إلى المشركين غلط لما وصفنا. وقد قيل إنهم لم يكن جائزاً لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن الانحياز جائزاً لهم عنه، قال الله تعالى :﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ﴾ [ التوبة : ١٢٠ ] فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وينصرفوا عنه ويسلّموه، وإن كان الله قد تكفّل بنصره وعَصَمَهُ من الناس كما قال الله تعالى :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ [ المائدة : ٦٧ ]، وكان ذلك فرضاً عليهم قلّت أعداؤهم أو كثروا. وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان فئة المسلمين يومئذ، ومن كان بمنحاز عن القتال فإنما كان يجوز له الانحياز على شرط أن يكون انحيازه إلى فئة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم فئتهم يومئذ ولم تكن لهم فئة غيره. قال ابن عمر : كنت في جيش فَحَاصَ الناسُ حَيْصَةً واحدة، ورجعنا إلى المدينة فقلنا : نحن الفرَّارون، فقال النبي عليه السلام :" أنا فِئَتُكُمْ ". فمن كان بالبعد من النبي صلى الله عليه وسلم إذا انحاز عن الكفار فإنما كان يجوز له الانحياز إلى فئة وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان معهم في القتال لم يكن هناك فئة غيره ينحازون إليه فلم يكن يجوز لهم الفرار.
وقال الحسن في قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ﴾ قال :" شُدِّدَتْ عَلَى أهل بدر "، وقال الله تعالى :﴿ إن الذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلَّهم الشيطان ببعض ما كسبوا ﴾ [ آل عمران : ١٥٥ ] وذلك لأنهم فرّوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يوم حنين فرّوا عن النبي صلى الله عليه وسلم فعاقبهم الله على ذلك في قوله تعالى :﴿ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ﴾ [ التوبة : ٢٥ ] ؛ فهذا كان حكمهم إذ كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قلَّ عدد العدو أو كثر، إذْ لم يحد الله فيه شيئاً، وقال الله تعالى في آية أخرى :﴿ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا ﴾ [ الأنفال : ٦٥ ] هذا والله أعلم في الحال التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حاضراً معهم، فكان على العشرين أن يقاتلوا المائتين ولا يهربوا عنهم، فإذا كان عدد العدو أكثر من ذلك أباح لهم التحيّز إلى فئة من المسلمين فيهم نصرة لمعاودة القتال. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ]، فرُوي عن ابن عباس أنه قال : كتب عليكم أن لا يفرّ واحد من عشرة، ثم قال :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] الآية، فكتب عليكم أن لا يفرّ مائة من مائتين. وقال ابن عباس : إن فر رجل من رجلين فقد فرّ وإن فرّ من ثلاثة فلم يفرّ. قال الشيخ : يعني بقوله :" فقد فر " الفرار من الزحف المراد بالآية، والذي في الآية إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار، فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيّز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة، فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله ﴾ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أنا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ ". وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم : رحم الله أبا عبيد لو انحاز إليّ لكنت له فئة ! فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال : أنا فئة لكم، ولم يعنفهم. وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفاً لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلاّ متحرّفين لقتال، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم من نحو خروج من مضيق إلى فسحة أو من سعة إلى مضيق أو يكمنوا لعدوهم ونحو ذلك مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب، أو متحيّزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم. فإذا بلغوا اثني عشر ألفاً فإن محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفرّوا من عدوهم وإن كثر عددهم، ولم يذكر خلافاً بين أصحابنا فيه، واحتجّ بحديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله أن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خَيْرُ الأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ وخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُ مِائَةٍ وخَيْرُ الجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلافٍ، ولن يُؤْتَى اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً مِنْ قِلَّةِ ولَنْ يُغْلَبَ "، وفي بعضها :" مَا غُلِبَ قَوْمٌ يَبْلُغُونَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً إذا اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ ". وذكر الطحاوي أن مالكاً سئل فقيل له : أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها ؟ فقال له مالك : إن كان معك اثنا عشر ألفاً مثلك لم يسعك التخلف وإلا فأنت في سعة من التخلف ؛ وكان السائل له عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر. وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن. والذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفاً فهو أصل في هذا الباب وإن كثر عدد المشركين، فغير جائز لهم أن يَفِرُّوا منهم وإن كانوا أضعافهم، لقوله صلى الله عليه وسلم :" إِذا اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ " وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم.
ثم قال :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى ﴾ ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كفّاً من تراب ورمى به وجوههم فانهزموا ولم يبق منهم أحد إلا دخل من ذلك التراب في عينيه. وعَنَى بذلك أن الله بلغ بذلك التراب وجوههم وعيونهم، إذ لم يكن في وُسْعِ أحد من المخلوقين أن يبلغ ذلك التراب عيونهم من الموضع الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه كلها من دلائل النبوة. ومنها وجود مخبرات هذه الأخبار على ما أخبر به، فلا يجوز أن يتفق مثلها تخرُّصاً وتخميناً. ومنها ما أنزل من المطر الذي لبّد الرمل حتى ثبتت أقدامهم عليه وصاروا وبالاً على عدوهم ؛ لأن في الخبر أن أرضهم صارت وَحَلاً حتى منعهم من المسير. ومنها الطمأنينة التي صارت في قلوبهم بعد كراهتهم للقاء الجيش. ومنها النعاس الذي وقع عليهم في الحال التي يطير فيها النعاس، ومنها رَمْيُه للتراب وهزيمة الكفار به.
قوله تعالى :﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ قيل في الفتنة وجوه، فرُوي عن عبدالله أنه من قوله تعالى :﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾ [ التغابن : ١٥ ]. وقال الحسن :" الفتنة البلية ". وقيل : هي العذاب. وقيل : هي الفرح الذي يركب الناس فيه بالظلم. وروي عن ابن عباس أنه قال :" أمر الله المؤمنين أن لا يُقِرُّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب ". ونحوه ما رُوي أنه قيل : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال :" نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ ". ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالمَعَاصِي وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُ فلم يُنْكِرُوا إلاَّ عَمَّهُمُ الله بِعَذَابٍ "، فحذّرنا الله من عذاب يعم الجميع من العاصين ومن لم يعص إذا لم ينكره. وقيل إنما يعم من قبل أن الفرح والفتنة إذا وقعا دخل ضررهما على كل واحد منهم.
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ يعني ما كان ليعذبهم عذاب الاستيصال وأنت فيهم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة للعالمين ولا يُعذَّبون وهو فيهم حتى يستحقوا سلب النعمة فيعمهم بالعذاب بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم، ألا ترى أن الأمم السالفة لما استحقوا الاستيصال أمر الله أنبياءه بالخروج من بينهم نحو لوط وصالح وشعيب صلوات الله عليهم ؟ وقوله تعالى :﴿ ومَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ قال ابن عباس :" لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بقيت فيها بقية من المؤمنين " وقال مجاهد وقتادة والسدي :" أنْ لو استغفروا لم يعذبهم ".
قوله تعالى :﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ ﴾. وهذا العذاب غير العذاب المذكور في الآية الأولى ؛ لأن هذا عذاب الآخرة والأول عذاب الاستيصال في الدنيا.
وقوله تعالى :﴿ ومَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ﴾ قيل فيه وجهان، أحدهما : ما قال الحسن أنهم قالوا نحن أولياء المسجد الحرام فرد الله ذلك عليهم ؛ والوجه الآخر : ما كانوا أولياء الله إن أولياء الله إلاّ المتّقون. فإذا أريد به أولياء المسجد ففيه دلالة على أنهم ممنوعون من دخول المسجد الحرام والقيام بعمارته، وهو مثل قوله تعالى :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ [ التوبة : ١٧ ].
قوله عز وجل :﴿ ومَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وتَصْدِيَةً ﴾. قيل : المكاء الصفير والتصدية التصفيق. رُوي ذلك عن ابن عباس وابن عمر والحسن ومجاهد وعطية وقتادة والسدّي. ورُوي عن سعيد بن جبير أن التَّصْدِيَةَ صَدُّهم عن البيت الحرام. وسمّى المكاء والتصدية صلاة لأنهم كانوا يقيمون الصفير والتصفيق مقام الدعاء والتسبيح. وقيل : إنهم كانوا يفعلون ذلك في صلاتهم.
قوله تعالى :﴿ وقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلهُ لله ﴾. قال ابن عباس والحسن :" حتى لا يكون شِرْك ". وقال محمد بن إسحاق :" حتى لا يفتتن مؤمن عن دينه ". والفتنة ههنا جائز أن يريد بها الكفر وجائز أن يريد بها البغي والفساد ؛ لأن الكفر إنما سمي فتنةً لما فيه من الفساد، فتنتظم الآية قتال الكفار وأهل البغي وأهل العَيْثِ والفساد، وهي تدلّ على وجوب قتال الفئة الباغية. وقوله تعالى :﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله ﴾ يدلّ على وجوب قتال سائر أصناف أهل الكفر إلا ما خصَّه الدليل من الكتاب والسنّة، وهم أهل الكتاب والمجوس، فإنهم يُقَرَّوْنَ بالجزية. ويحتج به من يقول لا يقر سائر الكفار على دينهم بالذمة إلا هؤلاء الأصناف الثلاثة، لقيام الدلالة على جواز إقرارها بالجزية.
الكلام في قسمة الغنائم
قال الله تعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ ﴾، وقال في آية أخرى :﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ﴾، فرُوي عن ابن عباس، ومجاهد أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى :﴿ قُلِ الأَنْفَالُ لله والرَّسُولِ ﴾ ؛ وذلك لأنه قد كان جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينفل ما أحرزوه بالقتال لمن شاء من الناس، لا حقَّ لأحد فيه إلا من جعله النبي صلى الله عليه وسلم له، وأن ذلك كان يوم بدر ؛ وقد ذكرنا حديث سعد في قصة السيف الذي استوهبه من النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" هَذَا السَّيْفُ لَيْسَ لي ولا لَكَ "، ثم لما نزل :﴿ قُلِ الأَنْفَالُ لله وَالرَّسُولِ ﴾ دعاه، وقال :" إِنَّكَ سَأَلْتَنِي هَذَا السَّيْفَ وَلَيْسَ هُوَ لي ولا لَكَ وقَدْ جَعَلَهُ الله لي وجَعَلْتُهُ لَكَ "، وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا عبدالله بن صالح قال : حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : كان يوم بدر تعجَّل ناسٌ من المسلمين فأصابوا من الغنائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لم تَحِلَّ الغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّؤوس قَبْلَكُمْ، كان النَّبِيُّ إذا غَنِمَ هو وأَصْحَابُهُ جَمَعُوا غَنَائِمَهُمْ فَتَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ نَارٌ فَتَأْكُلُهَا "، فأنزل الله تعالى :﴿ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ﴾. وقال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبو نوح قال : أخبرنا عكرمة بن عمار قال : حدثنا سماك الحنفي قال : حدثني ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفداء فأنزل الله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ إلى قوله :﴿ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ ﴾ من الفداء، ثم أحل لهم الغنائم. فأخبر في هذين الخبرين أن الغنائم إنما أُحِلَّت بعد وقعة بدر، وهذا مرتب على قوله تعالى :﴿ قُلِ الأَنْفَالُ لله والرَّسُولِ ﴾ وأنها كانت موكولة إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الآية أول آية أبيحت بها الغنائم على جهة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم في إعطائها من رأى، ثم نزل قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ ﴾ ؛ وقوله تعالى :﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ﴾ وأن فداء الأسارى كان بعد نزول قوله تعالى :﴿ قُلِ الأَنْفَالُ لله والرَّسُولِ ﴾، وإنما كان النكير عليهم في أخذ الفداء من الأسرى بديّاً، ولا دلالة فيه على أن الغنائم لم تكن قد أحلت قبل ذلك على الوجه الذي جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه جائز أن تكون الغنائم مباحة، وفداء الأسرى محظوراً، وكذلك يقول أبو حنيفة : إنه لا تجوز مفاداة أسرى المشركين. ويدل على أن الجيش لم يكونوا استحقوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر إلا بجَعْلِ النبي ذلك لهم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يخمس غنائم بدر، ولم يبين سهام الفارس والراجل إلى أن نزل قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ ﴾، فجعل بهذه الآية أربعة أخماس الغنيمة للغانمين والخمس للوجوه المذكورة، ونسخ به ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الأنفال إلا ما كان شرطه قبل إحراز الغنيمة، نحو أن يقول : من أصاب شيئاً فهو له، ومن قتل قتيلاً فله سلبه ؛ لأن ذلك لم ينتظمه قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ إذ لم يحصل ذلك غنيمة لغير آخذه أو قاتله.
وقد اختلف في النفل بعد إحراز الغنيمة.
ذكر الخلاف فيه
قال أصحابنا، والثوري :" لا نفل بعد إحراز الغنيمة إنما النفل أن يقول : من قتل قتيلاً فله سَلَبُهُ ومن أصاب شيئاً فهو له ". وقال الأوزاعي :" في رسول الله أسوة حسنة، كان ينفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث ". وقال مالك والشافعي :" يجوز أن ينفّل بعد إحراز الغنيمة على وجه الاجتهاد ". قال الشيخ : ولا خلاف في جواز النفل قبل إحراز الغنيمة، نحو أن يقول : من أخذ شيئاً فهو له، ومن قتل قتيلاً فله سَلَبُه، وقد رَوَى حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ في بدأته الربع، وفي رجعته الثلث بعد الخمس، فأما التنفيل في البدأة فقد ذكرنا اتفاق الفقهاء عليه، وأما قوله : في الرجعة الثلث، فإنه يحتمل وجهين، أحدهما : ما يصيب السرية في الرجعة بأن يقول لهم : ما أصبتم من شيء فلكم الثلث بعد الخمس ؛ ومعلوم أن ذلك ليس بلفظ عموم في سائر الغنائم وإنما هي حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء بعينه لم يبين كيفيته، وجائز أن يكون معناه ما ذكرناه من قوله للسرية في الرجعة ؛ وجعل لهم في الرجعة أكثر مما جعله في البدأة ؛ لأن في الرجعة يحتاج إلى حفظ الغنائم وإحرازها ويكون من حواليهم الكفار متأهّبين مستعدين للقتال لانتشار الخبر بوقوع الجيش إلى أرضهم. والوجه الآخر : أنه جائز أن يكون ذلك بعد إحراز الغنيمة، وكان ذلك في الوقت الذي كانت الغنيمة كلها للنبي صلى الله عليه وسلم فجعلها لمن شاء منهم، وذلك منسوخ بما ذكرنا.
فإن قيل : ذكر في حديث حبيب بن مسلمة الثلث بعد الخمس، فهذا يدل على أن ذلك كان بعد قوله :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأَنَّ لله خُمُسَهُ ﴾. قيل له : لا دلالة فيه على ما ذكرت ؛ لأنه لم يذكر أنه الخمس المستحق لأهله من جملة الغنيمة بقوله تعالى :﴿ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ ﴾، وجائز أن يكون ذلك على خمس من الغنيمة لا فرق بينه وبين الثلث والنصف. ولما احتمل حديث حبيب بن مسلمة ما وصفنا لم يجز الاعتراضُ به على ظاهر قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ ﴾ إذ كان قوله ذلك يقتضي إيجاب الأربعة الأخماس للغانمين اقتضاءه إيجاب الخمس لأهله المذكورين، فمتى أُحرزت الغنيمة فقد ثبت حق الجميع فيها بظاهر الآية، فغير جائز أن يجعل شيء منها لغيره على غير مقتضى الآية إلا بما يجوز بمثله تخصيص الآية. وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن عبيد الله قال : حدثني نافع عن عبدالله بن عمر قال :" بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرِيَّةٍ فبلغت سهامنا اثني عشر بعيراً ونَفَّلَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً "، فبيّن في هذا الحديث سُهْمَانَ الجيش، وأخبر أن النفل لم يكن من جملة الغنيمة وإنما كان بعد السهمان وذلك من الخمس.
ويدل على أن النفل بعد إحراز الغنيمة لا يجوز إلا من الخُمْسِ ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الوليد بن عتبة قال : حدثنا الوليد قال : حدثنا عبدالله بن العلاء أنه سمع أبا سلام بن الأسود يقول، قال : سمعت عمرو بن عبسة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المَغْنَم، فلما سلّم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال :" ولا يَحِلُّ لي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا إِلاّ الخُمُسُ والخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ "، فأخبر عليه السلام أنه لم يكن جائز التصرف إلا في الخمس من الغنائم، وأن الأربعة الأخماس للغانمين، وفي ذلك دليل على أن ما أُحرز من الغنيمة فهو لأهلها لا يجوز التنفيل منه. وفي هذا الحديث دليل على أن ما لا قيمة له ولا يتمانعه الناس من نحو النواة والتبنة والخِرَقِ التي يُرْمَى بها يجوز للإنسان أن يأخذه وينفله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذه وبرة من جنب بعير من المغنم وقال :" لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا " يعني في أن يأخذه لنفسه وينتفع به أو يجعله لغيره دون جماعتهم، إذ لم تكن لتلك الوبرة قيمة.
فإن قيل : فقد قال :" لا يحل لي مثل هذا ". قيل له : إنما أراد مثل هذا فيما يتمانعه الناس لا ذاك بعينه ؛ لأنه قد أخذه. ويدل على ما ذكرنا ما رواه ابن المبارك قال : حدثنا خالد الحذَّاءُ عن عبدالله بن شقيق، عن رجل من بَلْقَيْنِ ذكر قصة قال : قلنا : يا رسول الله ما تقول في هذا المال ؟ قال :" خُمُسُهُ لله وأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ للجَيْشِ " قال : قلت : هل أحق أحد به من أحد ؟ قال :" لو انْتَزَعْتَ سَهْمَكَ مِنْ جَنْبِكَ لَم تَكُنْ بأَحَقَّ بهِ مِنْ أَخِيكَ المُسْلِمِ ". وروى أبو عاصم النبيل، عن وهب أبي خالد الحمصي قال : حدثتني أم حبيبة عن أبيها العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ وبرة فقال :" ما لي فِيكُمْ هَذِهِ ما لي فيه إلاّ الخُمُس، فأدُّوا الخَيْطَ والمَخِيطَ فإنّهُ عَارٌ ونَارٌ وشَنَارٌ على صَاحِبِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ذكر غنائم هوازن وقال : ثم دنا النبي صلى الله عليه وسلم من بعير فأخذ وبرة من سنامه ثم قال :" يا أيُّها النَّاسُ إنّه لَيْسَ لي مِنْ هَذَا الفَيْءِ شَيْءٌ، ولا هذا " ورفع أصبعيه :" إِلاّ الخُمُسُ والخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدُّوا الخَيْطَ والمَخِيط "، فقام رجل في يده كُبَّةٌ من شَعَرٍ فقال : أخذت هذه لأصلح بها بُرْدَةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أَمَّا ما كانَ لي ولبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ فهو لَكَ " فقال : إذ بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها، ونبذها. فهذه الأخبار موافقة لظاهر الكتاب، فهو أوْلى مما يخالفه من حديث حبيب بن مسلمة مع احتمال حديثه للتأويل الذي وصفناه، وجمعنا يمنع أن يكون في الأربعة الأخماس حقّ لغير الغانمين، وبخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنه لا حقّ له فيها.
وروى محمد بن سيرين : أن أنس بن مالك كان مع عبيدالله بن أبي بكرة في غزاة فأصابوا سبياً، فأراد عبيدالله أن يعطي أَنَساً من السَّبْي قبل أن يُقْسَم، فقال أنس : لا، ولكن اقسم ثم أعطني من الخمس ! فقال عبيدالله : لا، إلا من جميع الغنائم ! فأبى أنس أن يقبل، وأبى عبيدالله أن يعطيه من الخمس. وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن عبدالله : حدثنا حجاج : حدثنا حماد عن محمد بن عمرو، عن سعيد بن المسيب أنه قال :" لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم ". قال الشيخ أيده الله : يجوز أن يريد به من جملة الغنيمة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كانت له الأنفال ثم نسخ بآية القسمة. وهذا مما يحتج به لصحة مذهبنا لأن ظاهره يقتضي أن لا يكون لأحد نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم في عموم الأحوال، إلا أنه قد قامت الدلالة في أن الإمام إذا قال من قتل قتيلاً فله سَلَبُه، أن يصير ذلك له بالاتفاق، فخصصناه وبقي الباقي على مقتضاه في أنه إذا لم يقل ذلك الإمام فلا شيء له، وقد رُوي عن سعيد بن المسيب قال : كان الناس يُعْطَوْنَ النفل من الخمس.
فإن قيل : قد أَعْطَى النبي صلى الله عليه وسلم م
قوله تعالى :﴿ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا الله كَثِيراً ﴾. قيل إن الفئة هي الجماعة المنقطعة عن غيرها، وأصله من فَأَوْتُ رأسه بالسيف إذا قطعته، والمراد بالفئة ههنا جماعة من الكفار، فأمرهم بالثبات لهم وقتالهم ؛ وهو في معنى قوله تعالى :﴿ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفَاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ﴾ الآية، ومعناه مرتَّبٌ على ما ذكر في هذه من جواز التحرّف للقتال أو الانحياز إلى فئة من المسلمين ليقاتل معهم، ومرتّب أيضاً على ما ذُكر بعد هذا من قوله تعالى :﴿ الآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله ﴾، فإنما هم مأمورون بالثبات لهم إذا كان العدو مثليهم، فإن كانوا ثلاثة أضعافهم فجائز لهم الانحياز إلى فئة من المسلمين يقاتلون معهم.
وقوله تعالى :﴿ وَاذْكُرُوا الله كَثِيراً ﴾ يحتمل وجهين، أحدهما : ذكر الله تعالى باللسان، والآخر : الذكر بالقلب ؛ وذلك على وجهين، أحدهما : ذكر ثواب الصبر على الثبات لجهاد أعداء الله المشركين وذكر عقاب الفرار، والثاني : ذكر دلائله ونِعَمِهِ على عباده وما يستحقه عليهم من القيام بفرضه في جهاد أعدائه. وضُرُوبُ هذه الأذكار كلّها تُعِينُ على الصبر والثبات ويُسْتَدْعَى بها النصر من الله والجرأة على العدو والاستهانة بهم، وجائز أن يكون المراد بالآية جميع الأذكار لشمول الاسم لجميعها ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق معنى الآية، ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا خلاد بن يحيى قال : حدثنا سفيان الثوري عن عبدالرّحمن بن زياد عن عبدالله بن زيد عن عبدالله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ وَاسْأَلُوا الله العَافِيَةَ فإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فاثْبُتُوا واذْكُرُوا الله كَثِيراً وإنْ أجْلَبُوا أَوْ ضَجُّوا فَعَلَيْكُمْ بالصَّمْتِ ".
قوله تعالى :﴿ وأَطِيعُوا الله ورَسُولَهُ ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ أمر الله تعالى في هذه الآية بطاعته وطاعة رسوله ونَهَى بها عن الاختلاف والتنازع وأخبر أن الاختلاف والتنازع يؤدي إلى الفشل وهو ضعف القلب من فزع يلحقه، وأمر في آية أخرى بطاعة ولاة الأمر لنفي الاختلاف والتنازع المؤدّيين إلى الفشل في قوله :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ [ النساء : ٥٩ ]، وقال في آية أخرى :﴿ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ في الأَمْرِ ﴾، فأخبر تعالى أنه أراهم في منامهم قليلاً لئلا يتنازعوا إذا رأوهم كثيراً فيفشلوا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ولَنْ يُغْلَبَ اثني عَشَرَ أَلْفاً مِنْ قِلَّةٍ إِذَا اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ ". فتضمنت هذه الآيات كلها النهي عن الاختلاف والتنازع، وأخبر أن ذلك يؤدي إلى الفشل وإلى ذهاب الدولة بقوله :﴿ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾. وقيل إن المعنى ريح النصر التي يبعثها الله مع من ينصره على من يخذله. ورُوي ذلك عن قتادة. وقال أبو عبيدة :" تذهب دولتكم، من قولهم : ذهبت ريحه أي ذهبت دولته ".
قوله تعالى :﴿ فإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ في الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ﴾ تثقفنّهم معناه تصادفهم. وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير :﴿ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ﴾ :" إذا أسرتهم فنكِّل بهم تنكيلاً تشرد غيرهم من ناقضي العهد خوفاً منك ". وقال غيرهم :" افعل بهم من القتل ما تفرّق به من خلفهم عن التعاون على قتالك ". ويشبه أن يكون ما أمر به أبو بكر الصديق رضي الله عنه من التنكيل بأهل الردّة وإحراقهم بالنيران ورَمْيِهم من رؤوس الجبال وطَرْحِهم في الآبار ذهب فيه إلى أن تأويل الآية في تشريد سائر المرتدين عن التعاون والاجتماع على قتال المسلمين.
قوله تعالى :﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ﴾ الآية. يعني والله أعلم : إذا خِفْتَ غدرهم وخدعتهم وإيقاعهم بالمسلمين وفعلوا ذلك خفيّاً ولم يظهروا نقض العهد فانْبِذْ إليهم على سواء، يعني ألْقِ إليهم فَسْخَ ما بينك وبينهم من العهد والهدنة حتى يستوي الجميع في معرفة ذلك، وهو معنى قوله :﴿ عَلَى سَوَاءٍ ﴾، لئلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب. وقيل :﴿ عَلَى سَوَاءٍ ﴾ على عدل، من قول الراجز :
* فاضْرِبْ وُجُوهَ الغَدْرِ للأعْدَاءِ * حَتَّى يُجِيبُوكَ إلى السَّوَاءِ *
ومنه قيل للوسط سواء لاعتداله، كما قال حسان :
* يا وَيْحَ أَنْصَارِ النبيِّ ورَهْطِهِ * بَعْدَ المُغَيَّبِ في سَوَاءِ المَلْحَدِ *
أي في وسطه. وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة بعد الهدنة من غير أن يَنْبِذَ إليهم ؛ لأنهم قد كانوا نقضوا العهد بمعاونتهم بني كنانة على قَتْلِ خزاعة وكانت حلفاء للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء أبو سفيان إلى المدينة يسأل النبي صلى الله عليه وسلم تجديد العهد بينه وبين قريش فلم يُجِبْهُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فمن أجل ذلك لم يحتجْ إلى النبذ إليهم إذ كانوا قد أظهروا نقض العهد بنصب الحرب لحلفاء النبي صلى الله عليه وسلم.
ورُوي نحو معنى الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا حفص بن عمر النمري قال : حدثنا شعبة عن أبي الفيض عن سليم وقال غيره سليم بن عامر رجل من حمير قال : كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو بِرْذَوْنٍ وهو يقول : الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر ! فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فلا يَشُدَّ عُقْدَةً ولا يَحُلَّها حَتَّى يَنْقَضي أَمَدُهَا أَو يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ على سَوَاءٍ " فرجع معاوية.
قوله تعالى :﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ ﴾ أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بإعداد السلاح والكُرَاع قبل وقت القتال إرهاباً للعدو والتقدم في ارتباط الخيل استعداداً لقتال المشركين. وقد رُوي في القوة أنها الرمي، حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا عبدالله بن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي علي ثمامة بن شُفَيّ الهمداني أنه سمع عقبة بن عامر الجهني يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول :" وأَعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ألا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ ألا إنّ القُوَّةَ الرَّمْيُ ألا إنّ القُوَّةَ الرَّمْيُ ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إسماعيل بن الفضل قال : حدثنا فضل بن سحتب قال : حدثنا ابن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن عمرو عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ارْمُوا وارْكَبُوا، وأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، وكُلُّ لَهْوِ المُؤْمِنِ بَاطِلٌ إِلاّ رَمْيهُ بِقَوْسِهِ أو تَأْدِيبهُ فَرَسَهُ أو مُلاعَبَتهُ امْرأَتَهُ فإنّهنّ مِنَ الحَقِّ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا عبدالله بن المبارك قال : حدثني عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال : حدثني أبو سلام عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إنّ الله يُدْخِلُ بالسَّهْمِ الوَاحِدِ ثَلاثَةَ نَفَرٍ الجَنَّةَ ! صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، والرَّامي بهِ، ومُنْبِلَهُ ؛ وارْمُوا وارْكَبُوا وأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ ثَلاثَةٌ : تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ ومُلاعَبَتُهُ أَهْلَهُ ورَمْيُهُ بقَوْسِهِ ونَبْلِهِ، ومَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَإِنّها نِعْمَةٌ تَرَكَهَا " أو قال :" كَفَرَهَا ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا حسين بن إسحاق قال : حدثنا المغيرة بن عبدالرحمن قال : حدثنا عثمان بن عبدالرحمن قال : حدثنا الجراح بن منهال عن ابن شهاب عن أبي سليمان مولى أبي رافع عن أبي رافع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مِنْ حَقِّ الوَلَدِ عَلى الوَالِدِ أَنْ يُعَلِّمَهُ كِتَابَ الله والسِّبَاحَةَ والرَّمْيَ ". ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم :" ألا إنّ القُوَّةَ الرَّمْيُ " أنه من معظم ما يجب إعداده من القوة على قتال العدو، ولم يَنْفِ به أن يكون غيره من القوة، بل عموم اللفظ شامل لجميع ما يُستعان به على العدو من سائر أنواع السلاح وآلات الحرب. وقد حدثنا عبدالباقي قال : حدثنا جعفر بن أبي القتيل قال : حدثنا يحيى بن جعفر قال : حدثنا كثير بن هشام قال : حدثنا عيسى بن إبراهيم الثمالي عن الحكم بن عمير قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نحفي الأظفار في الجهاد وقال :" إِنَّ القُوَّةَ في الأَظْفَارِ "، وهذا يدل على أن جميع ما يقوّي على العدو فهو مأمور باستعداده. وقال الله تعالى :﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ﴾ [ التوبة : ٤٦ ] فذمهم على ترك الاستعداد والتقدم قبل لقاء العدو.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ارتباط الخيل ما يواطىءُ معنى الآية، وهو ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري قال : حدثنا أحمد بن عمر قال : حدثنا ابن وهب عن ابن لهيعة عن عبيد بن أبي حكيم الأزدي عن الحصين بن حرملة المهري عن أبي المصبح قال : سمعت جابر بن عبدالله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْرُ والنَّيْلُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ وأصْحَابُها مُعَانُونَ، قَلِّدُوها ولا تُقَلِّدُوها الأوْتَارَ ". قال أبو بكر : بيّن في الخبر الأول أن الخير هو الأجر والغنيمة، وفي ذلك ما يوجب أن ارتباطها قربة إلى الله تعالى، فإذاً أريد به الجهاد ؛ وهو يدل أيضاً على بقاء الجهاد إلى يوم القيامة إذ كان الأجر مستحقّاً بارتباطها للجهاد في سبيل الله عز وجل. وقوله صلى الله عليه وسلم :" ولا تُقَلِّدُوها الأوْتَارَ " قيل فيه معنيان، أحدهما : خشية اختناقها بالوتر، والثاني : أن أهل الجاهلية كانوا إذا طلبوا بالأوتار والذّحول قلّدوا خيلهم الأوتار يدلّون بها على أنهم طالبون بالأوتار مجتهدون في قتل من يطلبونهم بها، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم الطلب بذحول الجاهلية ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة :" ألا إنَّ كُلَّ دَمٍ ومَأْثَرَةٍ فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمَ رَبِيعَةَ بْنِ الحَارِثِ ".

باب الهدنة والموادعة


قال الله تعالى :﴿ وَإِنْ جَنَحُوا للسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ﴾ ؛ والجنوح الميل، ومنه يقال : جَنَحَتِ السفينةُ إذا مالت، والسَّلْمُ المسالمة. ومعنى الآية أنهم إن مالوا إلى المسالمة، وهي طلب السلامة من الحرب، فسالِمْهُمْ وَاقْبَلْ ذلك منهم. وإنما قال :﴿ فَاجْنَحْ لَها ﴾ لأنه كناية عن المسالمة.
وقد اخْتُلف في بقاء هذا الحكم، فروى سعيد ومعمر عن قتادة أنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ]، ورُوي عن الحسن مثله. ورَوَى ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس :﴿ وَإِنْ جَنَحُوا للسَّلْم فَاجْنَحْ لَهَا ﴾ قال : نسختها. ﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ إلى قوله :﴿ وهم صاغرون ﴾ [ التوبة : ٢٩ ]. وقال آخرون :" لا نَسْخَ فيها لأنها في موادعة أهل الكتاب، وقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ [ التوبة : ٥ ] في عبدة الأوثان ".
قال أبو بكر : قد كان النبي صلى الله عليه وسلم عاهد حين قدم المدينة أصنافاً من المشركين، منهم النَّضِيرُ وبنو قَيْنُقَاع وقريظة، وعاهد قبائل من المشركين، ثم كانت بينه وبين قريش هدنة الحديبية إلى أن نقضت قريش ذلك العهد بقتالها خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولم يختلف نقلة السِّيَرِ والمغازي في ذلك، وذلك قبل أن يكثر أهل الإسلام ويَقْوَى أهله، فلما كثر المسلمون وقَوِيَ الدين أمر بقتل مشركي العرب ولم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف بقوله عز وجل :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] وأمر بقتال أهل الكتاب حتى يُسْلِمُوا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ إلى قوله :﴿ وهم صاغرون ﴾ [ التوبة : ٢٩ ]. ولم يختلفوا أن سورة براءة من أواخر ما نزل من القرآن، وكان نزولها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحجّ في السنة التاسعة من الهجرة، وسورة الأنفال نزلت عقيب يوم بدر بيَّن فيها حكم الأنفال والغنائم والعهود والموادعات، فحُكْمُ سورة براءة مستعمل على ما ورد وما ذكر من الأمر بالمسالمة إذا مال المشركون إليها حكم ثابت أيضاً. وإنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف الحالين، فالحال التي أمر فيها بالمسالمة هي حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوّهم، والحال التي أمر فيها بقتل المشركين وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية هي حال كثرة المسلمين وقوتهم على عدوهم، وقد قال تعالى :﴿ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ﴾ [ محمد : ٣٥ ] فنهى عن المسالمة عند القوة على قهر العدوِّ وقتلهم ؛ وكذلك قال أصحابنا : إذا قدر بعض أهل الثغور على قتال العدو ومقاومتهم لم تَجُزْ لهم مسالمتهم ولا يجوز لهم إقرارهم على الكفر إلا بالجزية، وإن ضعفوا عن قتالهم جاز لهم مسالمتهم كما سالم النبيُّ صلى الله عليه وسلم كثيراً من أصناف الكفار وهادنهم على وضع الحرب بينهم من غير جزية أخذها منهم ؛ قالوا : فإن قووا بعد ذلك على قتالهم نَبَذُوا إليهم على سَوَاءٍ ثم قاتلوهم ؛ قالوا : وإن لم يمكنهم دفع العدو عن أنفسهم إلا بمال يبذلونه لهم جاز لهم ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان صالح عيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب على نصف ثمار المدينة، حتى لما شاور الأنصار قالوا : يا رسول الله أهو أمْرٌ أمر الله به أم الرأي والمكيدة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا بَلْ هُوَ رَأْيٌ لأنّي رَأَيْتُ العَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْفَعَهُمْ عَنْكُمْ إلى يَوْمٍ ما " فقال السعدان سعد بن عبادة وسعد بن معاذ : والله يا رسول الله إنهم لم يكونوا يطمعون فيها منا إلا قرى وشرى ونحن كفار، فكيف وقد أعزَّنا الله بالإسلام ؟ لا نعطيهم إلا السيف وشقاء الصحيفة ! فهذا يدل على أنهم إذا خافوا المشركين جاز لهم أن يدفعوهم عن أنفسهم بالمال. فهذه أحكام بعضها ثابت بالقرآن وبعضها بالسنة، وهي مستعملة في الأحوال التي أمر الله تعالى بها، واستعملها النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها، وهذا نظير ما ذكرنا في ميراث الحليف أنه حكم ثابت بقوله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] في حال عدم ذوي الأنساب وولاء العتاق، فإذا كان هناك ذو نسب أو ولاء عتاقة فهو أوْلى من الحليف كما أن الابن أوْلى من الأخ ولم يخرج من أن يكون من أهل الميراث.
قوله تعالى :﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ الآية. رُوي أنه أراد به الأوْسَ والخزرج، وكانوا على غاية العداوة والبغضاء قبل الإسلام، فألَّف الله بين قلوبهم بالإسلام ؛ رُوي ذلك عن بشير بن ثابت الأنصاري وابن إسحاق والسدي. وقال مجاهد : هو في كل متحابّين في الله.
قوله تعالى :﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾ إلى آخر القصة. حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مَائَتَيْنِ ﴾ قال :" أمر الله تعالى الرجل من المسلمين أن يقاتل عشرة من الكفار فشقّ ذلك عليهم فرحمهم فقال :﴿ فإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ﴾. وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال :" أيما رجل فرَّ من ثلاثة فلم يفرَّ ومن فرَّ من اثنين فقد فرَّ ". وإنما عنى ابن عباس ما ذُكر في هذه الآية، وكان الفرض في أول الإسلام على الواحد قتال العشرة من الكفار لصحة بصائر المؤمنين في ذلك الوقت وصدق يقينهم، ثم لما أسلم قوم آخرون خالطهم من لم يكن لهم بصائرهم ونيَّاتهم خَفَّف عن الجميع وأجراهم مجرى واحداً ففرض على الواحد مقاومة الاثنين.
قوله تعالى :﴿ الآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ﴾. لم يرد به ضعف القُوَى والأبدان وإنما المراد ضعف النية لمحاربة المشركين، فجعل فرض الجميع فرض ضعفائهم. وقال عبدالله بن مسعود : ما ظننت أن أحداً من المسلمين يريد بقتاله غير الله حتى أنزل الله تعالى :﴿ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ﴾ [ آل عمران : ١٥٢ ]، فكان الأوّلون على مثل هذه النيات، فلما خالطهم من يريد الدنيا بقتاله سَوَّى بين الجميع في الفرض.
وفي هذه الآية دلالة على بطلان من أَبَى وجود النَّسْخِ في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن قائله مُعْتَدّاً بقوله ؛ لأنه قال تعالى :﴿ الآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾، والتّخفيف لا يكون إلا بزوال بعض الفرض الأول أو النقل عنه إلى ما هو أخفّ منه، فثبت بذلك أن الآية الثانية ناسخة للفرض الأول. وزعم القائل بما ذكرنا من إنكار النسخ لأنه ليس في الآية أمرٌ وإنما فيه الوعد بشريطة، فمتى وَفَى بالشرط أنجز الوعد. وإنما كُلِّف كل قوم من الصبر على قدر استطاعتهم فكان على الأوّلين ما ذُكر من مقاومة العشرين للمائتين والآخرون لم يكن لهم من نفاذ البصيرة مثل ما للأوّلين فكلفوا مقاومة الواحد للاثنين والمائة للمائتين ؛ قال : ومقاومة العشرين للمائتين غير مفروضة وكذلك المائة للمائتين، وإنما الصبر مفروض على قدر الإمكان والناس مختلفون في ذلك على مقادير استطاعاتهم، فليس في الآية نسخ ؛ زَعَمَ.
قال أبو بكر : هذا كلام شديد الاختلال والتناقض خارج عن قول الأمة سَلَفِها وخَلَفِها ؛ وذلك لأنه لا يختلف أهل النقل والمفسرون في أن الفرض كان في أول الإسلام مقاومة الواحد للعشرة، ومعلوم أيضاً أن قوله تعالى :﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾ وإن كان لفظه لفظ الخبر فمعناه الأمر، كقوله تعالى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن ﴾ [ البقرة : ٣٣ ] وقوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ]، وليس هو إخباراً بوقوع ذلك وإنما هو أمر بأن لا يفرَّ الواحد من العشرة، ولو كان هذا خبراً لما كان لقوله :﴿ الآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ ﴾ معنًى ؛ لأن التخفيف إنما يكون في المأمور به لا في المخبر عنه. ومعلوم أيضاً أن القوم الذين كانوا مأمورين بأن يقاوم الواحد منهم العشرة من المشركين داخلون في قوله :﴿ الآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ﴾ فلا محالة قد وقع النسخ عنهم فيما كانوا تُعُبِّدُوا به من ذلك، ولم يكن أولئك القوم قد نقصت بصائرهم ولا قلّ صبرهم وإنما خالطهم قوم لم يكن لهم مثل بصائرهم ونياتهم، وهم المعنيون بقوله تعالى :﴿ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ﴾، فبطل بذلك قول هذا القائل بما وصفنا ؛ وقد أقرَّ هذا القائل أن بعض التكليف قد زال منهم بالآية الثانية، وهذا هو معنى النسخ ؛ والله أعلم بالصواب.

باب الأسارى


قال الله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأَرْضِ ﴾. حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبو نوح قال : أخبرنا عكرمة بن عمار قال : حدثنا سماك الحنفي قال : حدثني ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال :" لما كان يوم بدر فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم الفداء فأنزل الله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ إلى قوله :﴿ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ ﴾ من الفداء، ثم أحلّ الله الغنائم ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا عبدالله بن صالح قال : حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : كان يوم بدر تعجَّل ناسٌ من المسلمين فأصابوا من الغنائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لم تحلَّ الغَنَائِمُ لقَوْمٍ سُودِ الرُّؤوسِ قَبْلَكُمْ، كَانَ النَّبِيُّ إِذَا غَنِمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ جَمَعُوا غَنَائِمَهُمْ فَتَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ نَارٌ فَتَأْكُلُهَا "، فأنزل الله تعالى :﴿ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ﴾ ". ورُوي فيه وجه آخر، وهو ما رواه الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبدالله قال : شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدر، فأشار أبو بكر بالاستبقاء وأشار عمر بالقتل وأشار عبدالله بن رواحة بالإحراق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَثَلُكَ يا أبا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قال :﴿ فمن تَبِعَنِي فَإِنّه مِنّي ومَنْ عَصَانِي فإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ] ومَثَلُ عِيسَى إذْ قال :﴿ إن تُعَذِّبْهُمْ فإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ﴾ [ المائدة : ١١٨ ] الآية، ومَثَلُكَ يا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ إِذْ قالَ :﴿ لا تَذَرْ على الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ] ومَثَلُ مُوسَى إِذْ قال :﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ﴾ [ يونس : ٨٨ ] الآية، أَنْتُمْ عَالةٌ فلا يَنْفَلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاّ بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ " فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فإنه ذكر الإسلام ! فسكت ثم قال :" إلاّ سُهَيْلَ بن بَيْضَاءَ " فأنزل الله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾ إلى آخر الآيتين. ورُوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أبا بكر وعمر وعليّاً في أسارى بدر، فأشار أبو بكر بالفداء، وأشار عمر بالقتل، فهَوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يَهْوَ ما قال عمر، فلما كان من الغذ جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فقال :" أبكي للَّذي عَرَضَ عَليَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَليَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ " شَجَرَةٍ قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ إلى آخر القصة. فذكر في حديث ابن عباس المتقدم في الباب وحديث أبي هريرة أن قوله :﴿ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ إنما نزل في أخْذِهم الغنائم، وذكر في حديث عبدالله بن مسعود وابن عباس الآخر أن الوعيد إنما كان في عرضهم الفداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإشارتهم عليه به ؛ والأول أولى بمعنى الآية لقوله تعالى :﴿ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ ﴾ ولم يقل فيما عرضتم وأشرتم، ومع ذلك فإنه يستحيل أن يكون الوعيد في قول قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يُوحَى، ومن الناس من يُجيزُ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم من طريق اجتهاد الرأي. ويجوز أيضاً أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أباح لهم أخْذَ الفداء وكان ذلك معصية صغيرة، فعاتبه الله والمسلمين عليها ؛ وقد ذكر في الحديث الذي في صدر الباب أن الغنائم لم تحلّ قبل نبينا لأحد، وفي الآية ما يدل على ذلك وهو قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهْ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾ فكان في شرائع الأنبياء المتقدمين تحريم الغنائم عليهم وفي شريعة نبينا تحريمها حتى يثخن في الأرض، واقتضى ظاهره إباحة الغنائم والأسرى بعد الإثخان، وقد كانوا يوم بدر مأمورين بقتل المشركين بقوله تعالى :﴿ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾، وقال تعالى في آية أخرى :﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ﴾ وكان الفرض في ذلك الوقت القتل حتى إذا أُثخن المشركون فحينئذ إباحة الفداء، وكان أخذ الفداء قبل الإثخان محظوراً. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حازوا الغنائم يوم بدر وأخذوا الأسرى وطلبوا منهم الفداء، وكان ذلك من فعلهم غير موافق لحكم الله تعالى فيهم في ذلك ؛ ولذلك عاتبهم عليه. ولم يختلف نَقَلَهُ السِّيَرِ ورُوَاةُ المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم الفداء بعد ذلك، وأنه قال :" لا يَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ " وذلك يوجب أن يكون حظر أخذ الأسرى ومفاداتهم المذكورة في هذه الآية وهو قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ منسوخاً بقوله :﴿ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم منهم الفداء.
فإن قيل : كيف يجوز أن يكون ذلك منسوخاً وهو بعينه الذي كانت المعاتبة من الله للمسلمين وممتنع وقوع الإباحة والحظر في شيء واحد ؟ قيل له : إن أخذ الغنائم والأسرى وقع بدياً على وجه الحظر فلم يملكوا ما أخذوا، ثم إن الله تعالى أباحها لهم وملّكهم إياها، فالأخذ المباح ثانياً هو غير المحظور أولاً.
وقد اخْتُلف في معنى قوله تعالى :﴿ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، فروى أبو زميل عن ابن عباس قال :" سبقت لهم الرحمة قبل أن يعملوا المعصية "، ورُوي مثله عن الحسن روايةً. وهذا يدل على أنهما رأيا ذلك معصية صغيرة، وقد وعد ا لله غفرانها باجتنابهم الكبائر وكتب لهم ذلك قبل عملهم للمعصية الصغيرة. ورُوي عن الحسن أيضاً ومجاهد :" أن الله تعالى كان مطعماً لهذه الأمّة الغنيمة، ففعلوا الذي فعلوا قبل أن تحلّ لهم الغنيمة ". قال أبو بكر : حُكْمُ الله تعالى بأنه ستحلُّ لهم الغنيمة في المستقبل لا يزيل عنهم حكم الحظر قبل إحلالها ولا يخفّف من عقابه، فلا يجوز أن يكون التأويل أن إزالة العقاب لأجل أنه كان في معلومه إباحة الغنائم لهم بعده. ورُوي عن الحسن أيضاً وعن مجاهد قالا :" سبق من الله أن لا يعذب قوماً إلا بعد تقدمه ولم يكن تقدّم إليهم فيها ". وهذا وجه صحيح ؛ وذلك لأنهم لم يعلموا بتحريم الغنائم على أمم الأنبياء المتقدمين وبقاء هذا الحكم عليهم من شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، فاستباحوها على ظنٍّ منهم أنها مباحة، ولم يكن قد تقدم لهم من النبي صلى الله عليه وسلم قول في تحريمها عليهم ولا إخبارٌ منه إياهم بتحريمها على الأمم السالفة، فلم يكن خطؤهم في ذلك معصية يستحق عليها العقاب.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٧:باب الأسارى
قال الله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأَرْضِ ﴾. حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبو نوح قال : أخبرنا عكرمة بن عمار قال : حدثنا سماك الحنفي قال : حدثني ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال :" لما كان يوم بدر فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم الفداء فأنزل الله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ إلى قوله :﴿ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ ﴾ من الفداء، ثم أحلّ الله الغنائم ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا عبدالله بن صالح قال : حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : كان يوم بدر تعجَّل ناسٌ من المسلمين فأصابوا من الغنائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لم تحلَّ الغَنَائِمُ لقَوْمٍ سُودِ الرُّؤوسِ قَبْلَكُمْ، كَانَ النَّبِيُّ إِذَا غَنِمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ جَمَعُوا غَنَائِمَهُمْ فَتَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ نَارٌ فَتَأْكُلُهَا "، فأنزل الله تعالى :﴿ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ﴾ ". ورُوي فيه وجه آخر، وهو ما رواه الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبدالله قال : شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدر، فأشار أبو بكر بالاستبقاء وأشار عمر بالقتل وأشار عبدالله بن رواحة بالإحراق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَثَلُكَ يا أبا بَكْرٍ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قال :﴿ فمن تَبِعَنِي فَإِنّه مِنّي ومَنْ عَصَانِي فإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ] ومَثَلُ عِيسَى إذْ قال :﴿ إن تُعَذِّبْهُمْ فإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ﴾ [ المائدة : ١١٨ ] الآية، ومَثَلُكَ يا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ إِذْ قالَ :﴿ لا تَذَرْ على الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ] ومَثَلُ مُوسَى إِذْ قال :﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ﴾ [ يونس : ٨٨ ] الآية، أَنْتُمْ عَالةٌ فلا يَنْفَلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاّ بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ " فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فإنه ذكر الإسلام ! فسكت ثم قال :" إلاّ سُهَيْلَ بن بَيْضَاءَ " فأنزل الله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾ إلى آخر الآيتين. ورُوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أبا بكر وعمر وعليّاً في أسارى بدر، فأشار أبو بكر بالفداء، وأشار عمر بالقتل، فهَوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يَهْوَ ما قال عمر، فلما كان من الغذ جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فقال :" أبكي للَّذي عَرَضَ عَليَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَليَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ " شَجَرَةٍ قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ إلى آخر القصة. فذكر في حديث ابن عباس المتقدم في الباب وحديث أبي هريرة أن قوله :﴿ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ إنما نزل في أخْذِهم الغنائم، وذكر في حديث عبدالله بن مسعود وابن عباس الآخر أن الوعيد إنما كان في عرضهم الفداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإشارتهم عليه به ؛ والأول أولى بمعنى الآية لقوله تعالى :﴿ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ ﴾ ولم يقل فيما عرضتم وأشرتم، ومع ذلك فإنه يستحيل أن يكون الوعيد في قول قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يُوحَى، ومن الناس من يُجيزُ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم من طريق اجتهاد الرأي. ويجوز أيضاً أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أباح لهم أخْذَ الفداء وكان ذلك معصية صغيرة، فعاتبه الله والمسلمين عليها ؛ وقد ذكر في الحديث الذي في صدر الباب أن الغنائم لم تحلّ قبل نبينا لأحد، وفي الآية ما يدل على ذلك وهو قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهْ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾ فكان في شرائع الأنبياء المتقدمين تحريم الغنائم عليهم وفي شريعة نبينا تحريمها حتى يثخن في الأرض، واقتضى ظاهره إباحة الغنائم والأسرى بعد الإثخان، وقد كانوا يوم بدر مأمورين بقتل المشركين بقوله تعالى :﴿ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾، وقال تعالى في آية أخرى :﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ﴾ وكان الفرض في ذلك الوقت القتل حتى إذا أُثخن المشركون فحينئذ إباحة الفداء، وكان أخذ الفداء قبل الإثخان محظوراً. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حازوا الغنائم يوم بدر وأخذوا الأسرى وطلبوا منهم الفداء، وكان ذلك من فعلهم غير موافق لحكم الله تعالى فيهم في ذلك ؛ ولذلك عاتبهم عليه. ولم يختلف نَقَلَهُ السِّيَرِ ورُوَاةُ المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم الفداء بعد ذلك، وأنه قال :" لا يَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ " وذلك يوجب أن يكون حظر أخذ الأسرى ومفاداتهم المذكورة في هذه الآية وهو قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ منسوخاً بقوله :﴿ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم منهم الفداء.
فإن قيل : كيف يجوز أن يكون ذلك منسوخاً وهو بعينه الذي كانت المعاتبة من الله للمسلمين وممتنع وقوع الإباحة والحظر في شيء واحد ؟ قيل له : إن أخذ الغنائم والأسرى وقع بدياً على وجه الحظر فلم يملكوا ما أخذوا، ثم إن الله تعالى أباحها لهم وملّكهم إياها، فالأخذ المباح ثانياً هو غير المحظور أولاً.
وقد اخْتُلف في معنى قوله تعالى :﴿ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، فروى أبو زميل عن ابن عباس قال :" سبقت لهم الرحمة قبل أن يعملوا المعصية "، ورُوي مثله عن الحسن روايةً. وهذا يدل على أنهما رأيا ذلك معصية صغيرة، وقد وعد ا لله غفرانها باجتنابهم الكبائر وكتب لهم ذلك قبل عملهم للمعصية الصغيرة. ورُوي عن الحسن أيضاً ومجاهد :" أن الله تعالى كان مطعماً لهذه الأمّة الغنيمة، ففعلوا الذي فعلوا قبل أن تحلّ لهم الغنيمة ". قال أبو بكر : حُكْمُ الله تعالى بأنه ستحلُّ لهم الغنيمة في المستقبل لا يزيل عنهم حكم الحظر قبل إحلالها ولا يخفّف من عقابه، فلا يجوز أن يكون التأويل أن إزالة العقاب لأجل أنه كان في معلومه إباحة الغنائم لهم بعده. ورُوي عن الحسن أيضاً وعن مجاهد قالا :" سبق من الله أن لا يعذب قوماً إلا بعد تقدمه ولم يكن تقدّم إليهم فيها ". وهذا وجه صحيح ؛ وذلك لأنهم لم يعلموا بتحريم الغنائم على أمم الأنبياء المتقدمين وبقاء هذا الحكم عليهم من شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، فاستباحوها على ظنٍّ منهم أنها مباحة، ولم يكن قد تقدم لهم من النبي صلى الله عليه وسلم قول في تحريمها عليهم ولا إخبارٌ منه إياهم بتحريمها على الأمم السالفة، فلم يكن خطؤهم في ذلك معصية يستحق عليها العقاب.

قوله تعالى :﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ﴾ ؛ فيه إباحة الغنائم وقد كانت محظورة قبل ذلك ؛ وقد ذكرنا حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لم تحلَّ الغَنَائِمُ لقَوْمٍ سُودِ الرُّؤوسِ قَبْلَكُمْ ". وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أُعْطَِيتُ خَمْساً لم يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي : جُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِداً وطَهُوراً، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ، وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، وأُرْسِلْتُ إلى الأَحْمَرِ والأَبْيَضِ، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ " ؛ فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذين الخبرين أن الغنائم لم تحلّ لأحد من الأنبياء وأممها قبله.
وقوله تعالى :﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ ﴾ قد اقتضى وقوع ملك الغنائم لهم إذا أخذوا وإن كان المذكور في لفظ الآية هو الأكل، وإنما خص الأكل بذلك لأنه معظم منافع الأملاك إذْ به قوام الأبدان وبقاء الحياة، وأراد بذلك تمليك سائر وجوه منافعها ؛ وهو كما قال تعالى :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ﴾ [ المائدة : ٣ ] فخصَّ اللحمَ بذلك والمراد جميع أجزائه لأنه مبتغى منافعه ومعظمها في لحومه، وكما قال تعالى :﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذورا البيع ﴾ [ الجمعة : ٩ ]، فخصَّ البيع بالحظر في تلك الحال والمراد سائر ما يشغل عن الصلاة ؛ وكان وجه تخصيصه أنه معظم منافع التصرف في ذلك الوقت، فإذا كان معظمه محظوراً فما دونه أوْلى بذلك، وذلك في مفهوم اللفظ ؛ ومثله قوله تعالى :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ﴾ [ النساء : ١٠ ] فخصَّ الأكْلَ بالذكر ودلَّ به على حظر الأخذ والإتلاف من غير جهة الأكل. فهذا حكم اللفظ إذا ورد في مثله، ولولا قيام الدلالة وكون المعنى معقولاً من اللفظ على الوجه الذي ذكرنا لما كانت إباحة الأكل موجبة للتمليك ؛ ولذلك قال أصحابنا فيمن أباح لرجل أكل طعامه : إنه ليس له أن يتملكه ولا يأخذه وإنما له الأكل فحسب ؛ ولكنه لما كان في مفهوم خطاب الآية التمليك على الوجه الذي ذكرنا أوجب التمليك، وقد قال الله تعالى في آية أخرى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ ﴾ فجعل الأربعة الأخماس غنيمة لهم، وذلك يقتضي التمليك، وكذلك ظاهر قوله تعالى :﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ ﴾ لما أضاف الغنيمة إليهم فقد أفاد تمليكها إياهم بإطلاقه لفظ الغنيمة فيه، ثم عطفه الأكل عليها لم يَنْفِ ما تضمنه من التمليك كما لو قال : كلوا مما ملكتم، لم يكن إطلاق لفظ الأكل مانعاً من صحة الملك. ويدل على ذلك دخول " الفاء " عليه، كأنه قال : قد ملكتكم ذلك فَكُلُوا.
والغنيمةُ اسمٌ لما أُخذ من أموال المشركين بقتال، فيكون خمسه لله تعالى وأربعة أخماسه للغانمين بقوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ ﴾. وأما الفيءُ فهو كل ما صار من أموال المشركين إلى المسلمين بغير قتال ؛ رُوِيَ هذا الفرقُ بينهما عن عطاء بن السائب وعن سفيان الثوري أيضاً.
قال أبو بكر : الفيء كل ما صار من أموال المشركين إلى المسلمين بقتال أو بغير قتال، إذ كان سبب أخذه الكفر ؛ قال أصحابنا : الجزية فيءٌ والخراج وما يأخذه الإمام من العدو على وجه الهدنة والموادعة فهو فيءٌ أيضاً. وقال الله عز وجل :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ﴾ [ الحشر : ٧ ] الآية ؛ فقيل : إن هذا فيما لم يوجف عليه المسلمون مثل فَدَكَ وما أُخذ من أهل نجران، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم صرفه في هذه الوجوه. وقيل : إن هذه كانت في الغنائم فنسخت بقوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأَنَّ لله خُمُسَهُ ﴾. وجائز عندنا أن لا تكون منسوخة وأن تكون آية الغنيمة فيما أوْجَفَ عليه المسلمون بخيل أو رِكَابٍ وظهر عليهم بالقتال، وآية الفيء التي في الحشر فيما لم يوجف عليه المسلمون وأخذ منهم على وجه الموادعة والهدنة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأهل نجران وفَدَكَ وسائر ما أخذه منهم بغير قتال ؛ والله أعلم بالصواب.

باب التوارث بالهجرة


قال الله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وجَاهَدُوا بأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾ الآية. حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله ﴾ الآية، قال :" كان المهاجر لا يتولّى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن ولا يرث الأعرابي المهاجر، فنسختها :﴿ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتَابِ الله ﴾ ". وروى عبدالرحمن بن عبدالله المسعودي عن القاسم قال :" آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصحابة وآخى بين عبدالله بن مسعود والزبير بن العوام أخوَّة يتوارثون بها لأنهم هاجروا وتركوا أقرباءهم، حتى أنزل الله آية المواريث ".
قال أبو بكر : اختلف السلف في أن التوارث كان ثابتاً بينهم بالهجرة والأخُوَّة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم دون الأرحام، وأن ذلك مراد هذه الآية، وأن قوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ قد أُريد به إيجاب التوارث بينهم، وأن قوله :﴿ مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾ قد نفى إثبات التوارث بينهم بنفيه الموالاة بينهم ؛ وفي هذا دلالة على أن إطلاق لفظ الموالاة يوجب التوارث وإن كان قد يختص به بعضهم دون جميعهم على حسب وجود الأسباب المؤكدة له، كما أن النسب سببٌ يستحق به الميراث. وإن كان بعض ذوي الأنساب أوْلى به في بعض الأحوال لتأكد سببه ؛ وفي هذا دليل على أن قوله تعالى :﴿ ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ﴾ [ الإسراء : ٣٣ ] موجبٌ لإثبات القَوَدِ لسائر ورثته وأن النساء والرجال في ذلك سواء لتساويهم في كونهم من مستحقي ميراثه. ويدل أيضاً على أن الولاية في النكاح مستحقة بالميراث، وأن قوله صلى الله عليه وسلم :" لا نِكَاحَ إِلاّ بوَلِيّ " مثبتٌ للولاية لجميع من كان من أهل الميراث على حسب القرب وتأكيد السبب، وأنه جائز للأمّ تزويج أولادها الصغار إذا لم يكن لهم أبٌ على ما يذهب إليه أبو حنيفة، إذ كانت من أهل الولاية في الميراث.
وقد كانت الهجرة فرضاً حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة فقال :" لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ولَكِنْ جِهَادٌ ونِيَّةٌ " فنسخ التوارث بالهجرة بسقوط فرض الهجرة وأثبت التوارث بالأنساب بقوله تعالى :﴿ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتَابِ الله ﴾. قال الحسن :" كان المسلمون يتوارثون بالهجرة حتى كثر المسلمون فأنزل الله تعالى :﴿ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ فتوارثوا بالأرحام ". وروى الأوزاعي عن عبدة عن مجاهد عن ابن عمر قال :" انقطعت الهجرة بعد الفتح ". وروى الأوزاعي أيضاً عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة مثله، وزاد فيه :" ولكن جهاد ونية ". وإنما كانت الهجرة إلى الله ورسوله والمؤمنون يفرّون بدينهم من أن يفتنوا عنه وقد أذاع الله الإسلام وأفشاه، فتضمنت هذه الآية إيجاب التوارث بالهجرة والمواخاة دون الأنساب وقطع الميراث بين المهاجر وبين من لم يهاجر، واقتضى أيضاً إيجاب نصرة المؤمن الذي لم يهاجر إذا استنصر المهاجر على من لم يكن بينهم وبينه عهد، بقوله تعالى :﴿ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ﴾. وقد رُوي في قوله تعالى :﴿ مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾ ما قد بيّنا ذِكْرَهُ في نفي الميراث عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة في آخرين. وقيل : إنه أراد نفي إيجاب النصرة، فلم تكن حينئذ على المهاجر نصرة من لم يهاجر إلا أن يستنصر فتكون عليه نصرته، إلا على من كان بينه وبينه عهد فلا ينقض عهده. وليس يمتنع أن يكون نفي الولاية مقتضياً للأمرين جميعاً من نفي التوارث والنصرة، ثم نُسِخَ نفي الميراث بإيجاب التوارث بالأرحام مهاجراً كان أو غير مهاجر وإسقاطه بالهجرة فحسب، ونسخ نفيُ إيجاب النصرة بقوله تعالى :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾ [ التوبة : ٧١ ].
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾. قال ابن عباس والسدي :" يعني في الميراث ". وقال قتادة :" في النصرة والمعاونة "، وهو قول ابن إسحاق.
قال أبو بكر : لما كان قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وجَاهَدُوا ﴾ إلى قوله :﴿ أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ موجباً لإثبات التوارث بالهجرة، وكان قوله :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾ نافياً للميراث، وجب أن يكون قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ موجباً لإثبات التوارث بينهم ؛ لأن الولاية قد صارت عبارة عن إثبات التوارث بينهم فاقتضى عمومه إثبات التوارث بين سائر الكفار بعضهم من بعض مع اختلاف مللهم ؛ لأن الاسم يشملهم ويقع عليهم ؛ ولم تفرق الآية بين أهل الملل بعد أن يكونوا كفاراً. ويدل أيضاً على إثبات ولاية الكفار على أولادهم الصغار، لاقتضاء اللفظ له في جواز النكاح والتصرف في المال في حال الصغر والجنون.
وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ يعني والله أعلم : إن لا تفعلوا ما أمرتم به في هاتين الآيتين من إيجاب الموالاة والتناصر والتوارث بالأخُوَّةِ والهجرة ومن قطعها بترك الهجرة تَكُنْ فتنةٌ في الأرض وفساد كبير. وهذا مخرجه مخرج الخبر ومعناه الأمر ؛ وذلك لأنه إذا لم يَتَوَلَّ المؤمن الفاضل على ظاهر حاله من الإيمان والفضل بما يدعو إلى مثل حاله ولم يتبرأ من الفاجر والضالّ بما يصرف عن ضلاله وفجوره أدَّى ذلك إلى الفساد والفتنة.
قوله تعالى :﴿ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتَابِ الله ﴾ نسخ به إيجاب التوارث بالهجرة والحلف والموالاة ولم يفرق فيه بين العَصَبَاتِ وغيرهم، فهو حجة في إثبات ميراث ذوي الأرحام الذين لا تسمية لهم ولا تعصيب. وقد ذكرنا فيما سلف في سورة النساء، وذهب عبدالله بن مسعود إلى أن ذوي الأرحام أوْلى من مَوْلَى العتاقة، واحتجَّ فيه بظاهر الآية ؛ وليس هو كذلك عند سائر الصحابة. وقد رُوي أن ابنة حمزة أعتقت عبداً ومات وترك بنتاً، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم نصف ميراثه لابنته ونصفه لابنة حمزة بالولاية فجعلها عصبة، والعصبة أوْلى بالميراث من ذوي الأرحام. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" الوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لا يُبَاعُ ولا يُوهَبُ ".
وقوله تعالى :﴿ فِي كِتَابِ الله ﴾ قيل فيه وجهان، أحدهما : في اللوح المحفوظ، كما قال :﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ﴾ [ الحديد : ٢٢ ]، والثاني : في حكم الله تعالى.
Icon