تفسير سورة الأنفال

المنتخب
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم المعروف بـالمنتخب .
لمؤلفه مجموعة من المؤلفين .

١ - أُخرج النبى من مكة مهاجراً بسبب مكر المشركين وتدبيرهم أمر قتله، وليكون للمسلمين دولة، واستقر بالمدينة حيث النصرة، وكان لا بد من الجهاد لدفع الاعتداء، لكيلا يُفتَنَ أهل الإيمان، فكانت غزوة بدر الكبرى، وكان فيها النصر المبين والغنائم، وكان وراء الغنائم بعض الاختلاف والتساؤل فى توزيعها. يسألونك عن الغنائم: ما مآلها؟ ولمن تكون؟ وكيف تقسم؟ فقل لهم - أيها النبى -: إنها لله والرسول ابتداء، والرسول بأمر ربه يتولى تقسيمها، فاتركوا الاختلاف بشأنها، واجعلوا خوف الله وطاعته شعاركم، وأصْلحوا ما بينكم، فاجعلوا الصِّلاتِ بينكم محبة وعدلا، فإن هذه صفة أهل الإيمان.
٢ - إن المؤمنين حقاً وصدقاً يستشعرون دائماً خوف الله وطاعته، فإذا ذُكر سبحانه فزعت قلوبهم، وامتلأت هيبة، ولذا كلما قرئت عليهم آيات من القرآن ازداد إيمانهم رسوخاً، وازدادوا إذعاناً وعلماً، ولا يعتمدون إلا على الله الذى خلقهم ويحميهم وينميهم.
٣ - وأولئك المؤمنون الصادقون فى الإيمان، يؤدون الصلاة مستوفية الأركان، كاملة الخشوع والخضوع، ليكونوا على تذكر الله دائماً، وينفقون مقادير من المال الذى رزقهم الله - سبحانه وتعالى - فى الجهاد والبر ومعاونة الضعفاء.
٤ - إن هؤلاء المتصفين بتلك الصفات، هم الذين يوصفون بالإيمان حقاً وصدقاً، ولهم جزاؤهم درجات عالية عند الله، وهو الذى يمنحهم رضاه، ويغفر لهم هفواتهم ويرزقهم رزقاً طيباً فى الدنيا، ونعيماً دائماً فى الآخرة.
٥ - وإن النصر بيد الله، ومقاليد الأمور إليه، وإنَّ حال المؤمنين فى خلافهم حول الغنائم كحالهم عندما أمرك الله بالخروج لقتال المشركين ببدر، وهو حق ثابت، فإن فريقاً من أولئك المؤمنين كانوا كارهين للقتال مؤكدين كراهيتهم.
٦ - يناظرك أولئك الفريق، ويحاولون أن ينصروا قولهم فى الأمر الحق، وهو الخروج للجهاد، إذ كانوا مع إخوانهم الذين خرجوا لمصادرة أموال قريش الذاهبة إلى الشام، فلم يدركوها، فآثر هذا الفريق العودة من بعد ما تبين أنهم منصورون، لإعلام النبى لهم، ولذعر المشركين منهم، ولشدة كراهيتهم للقتال وعدم أمنهم من عواقبه، وكانوا فى ذهابهم إليه كالذى يساق إلى الموت، وهو ينظر أسبابه ويعاينها.
٧ - واذكروا - أيها المؤمنون - وعد الله تعالى لكم أن ينصركم على إحدى الطائفتين التى فيها الشوكة والقوة، وأنتم تودون أن تدركوا الطائفة الأخرى التى فيها المال والرجال، وهى قافلة أبى سفيان، فاخترتم المال ولا شوكة فيه، ولكن الله تعالى يريد أن يثبت الحق بإرادته وقدرته وكلماته المعلنة للإرادة والقدرة، ويستأصل الكفر من بلاد العرب بنصر المؤمنين.
٨ - ليثبت الحق ويزيل الباطل، ولو كره ذلك الكافرون الذين أجرموا فى حق الله، وفى حق المؤمنين وفى حق أنفسهم.
٩ - اذكروا - أيها المؤمنون، وأنتم تتقاسمون الغنائم وتختلفون - الوقت الذى كنتم تتجهون فيه إلى الله تعالى، طالبين منه الغوث والمعونة، إذ كتب عليكم أنه لا خلاص من القتال، فأجاب الله دعاءكم، وأمدَّكم بملائكة كثيرة تبلغ الألف متتابعة، يجئ بعضها وراء بعض.
١٠ - وما جعل الله تعالى ذلك الإمداد بالملائكة إلا بشارة لكم بالنصر، لتطمئنوا وتقدموا، والله يعينكم، والنصر لا يجئ إلا بمعونة الله القوى الغالب، الذى يضع الأمور فى مواضعها بمقتضى علمه الذى لا يغيب عنه شئ.
١١ - اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن خفتم من قلة الماء، ومن الأعداء، فوهبكم الله الأمن، وأصابكم النعاس فنمتم آمنين، وأنزل الماء من السماء لتتطهروا به، ولتذهبوا وساوس الشيطان عنكم، وثبت قلوبكم واثقة بعون الرحمن ولتتماسك به الأرض فتثبت الأقدام.
١٢ - اذكروا - أيها المؤمنون - أن الله أوحى للملائكة أن تودع فى نفوسكم أنى معكم بالتأييد والنصر، قائلاً لهم: قووا قلوب الذين آمنوا وأذعَنوا للحق وجاهدوا فى سبيل الله، وسأجعل الرعب يستولى على قلوب المشركين، فيفزعون هم دونكم، فاضربوا - أيها المؤمنون - رءوسهم التى فوق أعناقهم، وقطعوا أصابعهم التى يحملون بها السيوف.
١٣ - كان ذلك النصر والتأييد لكم، والرعب والفزع لهم، لأنهم تحدوا الله ورسوله، فكانوا فى جانب والله ورسوله فى جانب آخر، ومن يحاد الله ورسوله فإنه ينزل به العذاب الأليم لأن عقاب الله شديد.
١٤ - ذلكم أيها المؤمنون هو القتال فذوقوه مع اليقين بالنصر والتأييد وأن للجاحدين بآياته عقاباً آخر يوم القيامة، هو عذاب النار.
١٥ - أيها الذين صدقوا بالحق وأذعنوا له، إذا التقيتم بالذين كفروا فى الميدان، وهم زاحفون عليكم بكثرتهم، فلا تفروا منهم وتجعلوا ظهوركم أمام سيوفهم.
١٦ - ومن لا يلاقهم وجهاً لوجه فاراً منهم، فإن الله يغضب عليه، ومصيره إلى النار، وهى أسوأ مصير لكم، ومن لا يلاقهم بوجهه كيداً ومهارة حربية، أو يترك طائفة لينحاز إلى طائفة أخرى من المؤمنين، لتكون قوة للقاء فإنه لا إثم عليه.
١٧ - إذا كنتم - أيها المؤمنون - قد انتصرتم عليهم، وقتلتم من قتلتم منهم، فإنكم لم تقتلوهم بقوتكم، ولكن الله تعالى هو الذى نصركم وقتلهم بتأييده لكم وإلقاء الرعب فى قلوبهم، وما رميت - أيها الرسول - إذ كنت ترمى التراب والحصا فى وجوههم إفزاعاً لهم، ولكن الله تعالى هو الذى رمى فأفزعهم الرمى، وكان ذلك لينعم الله على المؤمنين نعماً حسنة، منها الابتلاء بالشدة، ليظهر إخلاصهم، وأن الله عليم بأمورهم، سميع لأقوالهم، وكذلك هو عليم بأمور أعدائهم وأقوالهم.
١٨ - ذلك هو النصر العظيم، مع أن الله تعالى مُضْعِفٌ لكل تدابير الكافرين.
١٩ - إن كنتم - أيها المشركون - تتعلقون بأستار الكعبة، طالبين الفصل بينكم وبين المؤمنين، فقد جاءكم الامر الفاصل، وليس نصراً لكم، بل هو نصر للمؤمنين، وإن تعودوا إلى الاعتداء نعد عليكم بالهزيمة، ولن تغنى عنكم جماعتكم المؤتلفة على الإثم شيئاً، ولو كان العدد عندكم كثيراً، فإن الله مع الذين صدقوا بالحق وأذعنوا له.
٢٠ - يا أيها الذين صدَّقتم بالحق وأذعنتم له، قد علمتم أن النصر كان بتأييد الله وطاعة رسوله، فاستمروا على طاعتكم لله وللرسول، ولا تعرضوا عن دعوة الرسول إلى الحق وأنتم تسمعون وتعون ما يقول.
٢١ - ولا تكونوا كالمنافقين الذين قالوا: سمعنا الحق ووعيناه، لكنهم لا يذعنون له ولا يؤمنون به، فكانوا كغير السامعين.
٢٢ - إن أولئك المشركين والمنافقين معهم، هم كشر الدواب التى أصيبت بالصمم فلا تسمع، وبالبكم فلا تتكلم، فهم صمُّوا عن الحق، فلم يسمعوه ولم ينطقوا به ولم يعقلوه.
٢٣ - ولو علم الله - بعلمه الأزلى - أن فيهم - وهم بهذه الحال - ما يكون خيراً لأنفسهم وللناس وللحق، لأسمعهم سماع هداية يوصل الحق إلى عقولهم، ولو سمعوه وفهموه لانصرفوا عن الاهتداء، وحال الإعراض الآن لا تفارقهم لغلبة الهوى.
٢٤ - يا أيها الذين صدَّقوا بالحق وأذعنوا له، أجيبوا الله فى اتجاه قلبى إلى ما يأمركم به، وأجيبوا الرسول فى تبليغه ما يأمر به الله إذا دعاكم إلى أوامر الله بالأحكام التى فيها حياة أجسامكم وأرواحكم وعقولكم وقلوبكم، واعلموا علم اليقين أن الله تعالى قائم على قلوبكم، يوجهها كما يشاء فيحول بينكم وبين قلوبكم إذا أقبل عليها الهوى، فهو منقذكم منه إن اتجهتم إلى الطريق المستقيم، وإنكم جميعاً ستجمعون يوم القيامة فيكون الجزاء.
٢٥ - واجعلوا وقاية بينكم وبين الذنب العظيم الذى يفسد جماعتكم، كالامتناع عن الجهاد، وكالشقاق، وكالامتناع عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن ذلك الذنب لا يصيب الذين ظلموا - وحدهم - بل يصيب الجميع واعلموا علماً جازماً أن عقاب الله شديد فى الدنيا والآخرة.
٢٦ - وتذكروا - أيها المؤمنون فى حال قوتكم - وقت أن كنتم عدداً قليلاً، وضعفاء يستغل أعداؤكم ضعفكم، وقد استولى عليكم الخوف من أن يتخطفكم أعداؤكم، فهاجرتم بأمر الله وجعل من يثرب مأوى لكم، وكان لكم النصر بتأييده وتوفيقه، ورزقكم الغنائم الطيبة رجاء أن تشكروا هذه النعم، فتسيروا فى طريق الجهاد لإعلاء كلمة الحق.
٢٧ - يا أيها الذين صدَّقوا بالحق وأذعنوا له، لا يصح أن تكون منكم خيانة لله ورسوله بموالاة أعداء الحق، أو بالخيانة فى الغنائم، أو بالقعود عن الجهاد، ولا تخونوا فى الأمانات التى تكون بينكم، وأنتم تعلمون أوامر الله ونواهيه.
٢٨ - واعلموا - أيها المؤمنون الصادقون - أن فتنة نفوسكم تجئ من فرط محبتكم لأولادكم، فلا تُغلِّبوا محبة المال والولد على محبة الله تعالى، فإن ذلك يفسد أموركم. واعلموا أن ثواب الله عظيم يجزيكم عن المال والولد.
٢٩ - يا أيها الذين صدَّقوا بالحق وأذعنوا له، إن تخضعوا لأوامر الله فى السر والعلن، يجعل الله تعالى فى أنفسكم قدرة تفرقون بها بين الحق والباطل، ويهبكم نصراً ليفصل بينكم وبين أعدائكم، ويستر سيئاتكم فتذهب ويغفرها لكم، وهو - سبحانه - صاحب الفضل الكبير دائماً.
٣٠ - واذكر - أيها النبى - نعمة الله عليك، إذ يمكر المشركون للإيقاع بك: إما بأن يحبسوك، وإما بأن يقتلوك، وإما بأن يخرجوك. إنهم يدبرون لك التدبير السيئ، والله تعالى يدبر لك الخروج من شرهم، وتدبير الله هو الخير وهو الأقوى والغالب.
٣١ - واذكر - أيها النبى - معاندة المشركين عندما كنت تقرأ عليهم آيات القرآن الكريم، وهى آياتنا، فيذهب بهم فرط الجهل والغرور إلى أن يقولوا: لو أردنا أن نقول مثل هذا القرآن لقلنا، فما هو إلا ما سطره الأولون من قصص.
٣٢ - واذكر - أيها النبى - كيف ذهبوا فى محادَّتك ومحادَّة الله أن قالوا معاندين موجهين النداء لله ربهم: إن كان ما تجئ به هو الأمر الثابت، فاجعل السماء تمطر حجارة، أو أنزل عذاباً شديداً أليماً.
٣٣ - وما كان من حكمة الله تعالى أن يعذبهم فى الدنيا بعذاب شديد وأنت فيهم تدعو إلى الحق راجياً إجابتهم، وما كان من شأن الله أن يعذب العصاة وهم يستغفرونه ويقلعون عما هم فيه.
٣٤ - وإن حالهم القائمة الآن تسوغ تعذيبهم، لأنهم يمنعون الناس من المسجد الذى حرم الله القتال حوله، ولكن يؤخرهم الله لما قدَّره فى علمه من إيمان الكثيرين منهم، وإنهم فى حالهم هذه ليسوا نصراء ذلك المسجد المكرم، لأنهم دنَّسوه بالوثنية، وإنما نصراؤه الحقيقيون هم المؤمنون الطائعون لله، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون الدين، ولا مقام ذلك البيت الكريم.
٣٥ - وما كان دعاؤهم وتضرعهم عند هذا البيت العظيم إلا صفيراً وصفقاً بالأيدى، وإذا كانت تلك حالكم فتلقوا الموت وذوقوه فى ميدان القتال، لينزاح الشرك عن البيت، وذلك القتل فيكم بسبب كفركم.
٣٦ - إن هؤلاء الذين جحدوا بالآيات وأشركوا بالله، ينفقون أموالهم ليمنعوا الناس عن الإيمان بالحق، وهم سينفقونها، ثم تكون الأموال بسبب ضياعها عليهم من غير جدوى موجبةً للندم والألم، وسيغلبون فى ميدان القتال فى الدنيا، ثم يجمعون إلى جهنم فى الآخرة إن استمروا على كفرهم.
٣٧ - وإن الهزيمة فى الدنيا، والعذاب بالنار فى الآخرة، ليفصل الله خبيث النفس والفعل والقول عن الطيب فى نفسه وقلبه وقوله وفعله، وليجعل الخبيث بعضه فوق بعض، فيجمعه ويضم أجزاءه ويجعله فى النار يوم القيامة، وأولئك المشركون المفسدون هم الخاسرون - وحدهم - فى الدنيا والآخرة.
٣٨ - وإن باب الرجاء مفتوح مع هذا الترهيب، فقل - يا نبى الرحمة - لهؤلاء الجاحدين: إنهم إن ينتهوا عن العناد والإشراك فإن الله يغفر لهم ما سبق من أعمالهم. وإن استمروا على ضلالهم وعادوا إلى قتالكم فقد تقررت الطريقة الحقة فى الأولين، وهى نصر الحق على الباطل إن التزم أهل الحق الطاعة وسبيل النصر.
٣٩ - واستمروا - أيها المؤمنون - فى قتال المشركين حتى يمتنعوا عن إفسادهم لعقائد المؤمنين بالاضطهاد والأذى، فإن انتهوا عن الكفر وإيذاء المؤمنين، وخلص الدين لله، فإن الله تعالى عليم بأعمالهم ومجازيهم عليها.
٤٠ - وإن استمروا على إعراضهم وإيذائهم للمؤمنين، فاعلموا - أيها المؤمنون - أنكم فى ولاية الله، وهى أحب ولاية وأقواها، وهو ناصركم، ونصرته أقوى نصرة وأعظمها.
٤١ - واعلموا - أيها المسلمون - أن ما ظفرتم به من مال الكفار فحكمه: أن يقسم خمسة أخماس، خُمس منها لله وللرسول ولقرابة النبى واليتامى: وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم وهم فقراء، والمساكين، وهم ذوو الحاجة من المسلمين، وابن السبيل: وهو المنقطع فى سفره المباح. والمخصص من خُمس الغنيمة لله وللرسول يرصد للمصالح العامة التى يقررها الرسول فى حياته، والإمام بعد وفاته، وباقى الخُمس يصرف للمذكورين. أما الأخماس الأربعة الباقية من الغنيمة - وسكتت عنها الآية - فهى للمقاتلين، فاعلموا ذلك، واعملوا به إن كنتم آمنتم بالله حقاً، وآمنتم بما أنزل على عبدنا محمد من آيات التثبيت والمدد، يوم الفرقان الذى فرَّقنا فيه بين الكفر والإيمان، وهو اليوم الذى التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر، والله عظيم القدرة على كل شئ، وقد نصر المؤمنين مع قلتهم، وخذل الكافرين مع كثرتهم.
٤٢ - واذكروا حين كنتم فى الوادى بأقرب الجانبين من المدينة، وهم بأبعد الجانبين، وركْب التجارة الذى تطلبونه أقرب إليكم مما يلى البحر، ولو تواعدتم أنتم على التلاقى للقتال لما اتفقتم عليه، ولكن الله دبر تلاقيكم على غير موعد ولا رغبة منهم. لينفذ أمراً كان ثابتاً فى علمه أنه واقع لا محالة، وهو القتال المؤدى إلى نصركم وهزيمتهم، لتنقطع الشبهات، فيهلك الهالكون عن حُجة بينة بالمشاهدة: وهى هزيمة الكثرة الكافرة، ويحيا المؤمنون عن حجة بينة: وهى نصر الله للقلة المؤمنة. إن الله لسميع عليم لا يخفى عليه شئ من أقوال الفريقين ولا نياتهم.
٤٣ - واذكر - أيها الرسول - حين تفضل الله عليك، فصور لك فى منامك جيش الأعداء فى قلة ليطمئنكم على أنكم ستغلبونهم، فتثبتوا أمام جمعهم ولو ترككم ترونهم كثيراً دون أن يثبتكم بهذه الرؤيا لهبتموهم، ولترددتم فى قتالهم، ولعجزتم، وكان التنازع فى الإقدام وعدمه، ولكن الله سلم من ذلك ونجَّى من عواقبه، إنه عليم بما فى القلوب التى فى الصدور.
٤٤ - واذكر - أيها الرسول - حينما كان الله يريكم أعداءكم عند التلاقى قلة فى أعينكم، كما يظهركم الله فى أعين أعدائكم قلة، ولما فى أنفسهم من الغرور بالكثرة، ليقدم كل منكم على قتال الآخر، فيتم تنفيذ أمر علمه الله، وكان لا بد أن يتم، وإلى الله ترجع أمور العالم كله، فلا ينفذ إلا ما قضاه وهيأ أسبابه.
٤٥ - يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم جماعة مقاتلة من أعدائكم فاثبتوا ولا تفروا، واذكروا الله متمثلين قدرته وحسن وعده بنصر المؤمنين، مكثرين فى ذلك الذكر مع الثبات والصبر، فإنكم إن فعلتم ذلك كان رجاؤكم للفلاح محققاً.
٤٦ - وأطيعوا الله ورسوله فيما أمرتم به أو نهيتم عنه، ودعوا التنازع والاختلاف، فإنهما مدعاة إلى ضياع القوة وإلى العجز، واصبروا على ما تلقون من مكاره الحرب، فإن الله مع الصابرين بالعون والتأييد والتثبيت وحسن الجزاء.
٤٧ - ولا تكونوا كأولئك الذين خرجوا من ديارهم، مغرورين بما لهم من قوة ونعمة، مفاخرين ومتظاهرين بهما أمام الناس، يريدون الثناء عليهم بالشجاعة والغلبة، وهم بذلك يصدون عن سبيل الله والإسلام، والله محيط بأعمالهم علماً وقدرة، وسوف يجازيهم عليها فى الدنيا والآخرة.
٤٨ - واذكروا - أيها المسلمون - حينما حَسَّن الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته قائلا لهم: إنه لا يستطيع أحد من الناس أن يغلبهم، ويؤكد لهم أنه مجير لهم، فلما تقابل الفريقان فى الحرب بطل كيده ووسوسته ورجع مدبراً، وتبرأ منهم، وخاف أن يهلكه الله، والله شديد العقاب على الذنوب.
٤٩ - واذكر - أيها الرسول - حينما يقول المنافقون من الكفار وضعفاء الإيمان عند رؤيتكم فى إقدامكم وثباتكم: غرَّ هؤلاء المسلمين دينهم، وإن مَنْ وكل إلى الله أمره مؤمناً به معتمداً عليه، فإن الله يكفيه ما أهمه، وينصره على أعدائه، لأن الله قوى السلطان حكيم فى تدبيره.
٥٠ - ولو ترى - أيها الرسول - ذلك الهول الخطير، الذى ينزل بهؤلاء الكفار حين تتوفاهم الملائكة فينزعون أرواحهم، وهم يضربونهم من أمام ومن خلف، ويقولون لهم: ذوقوا عذاب النار بسبب أفعالكم السيئة.
٥١ - وإنَّ الله ليس ظالماً لعبيده فى تعذيبهم على ما ارتكبوه، بل ذلك هو العدل، لأنه لا يستوى المسئ والمحسن، فعقابه على ما اقترفوا من أعمال سيئة.
٥٢ - إنَّ عادة هؤلاء المشركين وشأنهم فى الكفر، كشأن الفراعنة وسائر العتاة من قبلهم. جحوداً منهم بآيات الله، فعذبهم الله على ذنوبهم، وهو غير ظالم لهم إنَّ الله قوى فى تنفيذ حكمه، شديد المجازاة لمن يستحق عقابه.
٥٣ - وهذا عدل فى الجزاء، بسبب أن الله لا يُغير نعمة أنعم بها على قوم، كنعمة الأمن والرخاء والعافية، حتى يُغَيِّروا هم ما بأنفسهم من الأحوال والأسباب، وإنَّ الله سميع لما يقولون عليم بما يفعلون.
٥٤ - وكما أن دأب هؤلاء فى الإنكار لآيات الله ونعمه كدأب آل فرعون والذين من قبلهم فإن دأبهم وشأنهم فى الاستمرار على التكذيب برسله ودلائل نبوتهم، كدأب آل فرعون والذين من قبلهم فالشبه بينهم فى الكفر بالآيات، وجحود رسالة الرسل وتكذيبهم، وفى الاستمرار على ذلك. فكلاَّ أخذ اللَّه بذنبه أولئك بالصواعق والرياح ونحوها، وآل فرعون بالغرق، وكلهم كانوا ظالمين لأنفسهم، واستحقوا ما نزل بهم من العقاب.
٥٥ - إن شَر ما يدب على وجه الأرض عند اللَّه فى حكمه وعدله، هم الكفار المصرون على كفرهم.
٥٦ - الذين عقدت معهم العهود والمواثيق، ولا يزالون ينقضونها مرة بعد مرة، وهم اليهود لا يردعهم عن ذلك تعظيم لله، ولا خوف من نقمته وعذابه.
٥٧ - فإن تدرك - أيها الرسول - هؤلاء الناقضين لعهدهم، وتصادفهم فى الحرب ظافراً بهم، فنكل بهم تنكيلا يسوؤهم ويخيف مَنْ وراءهم، فتفرق جموعهم منْ خلفهم. فذلك التنكيل أرجى لتذكيرهم بنقض العهود، ولدفع غيرهم عن الوقوع فى مثل ما وقع فيه هؤلاء.
٥٨ - وإن تتوقع من قوم خيانة بأمارات تنبئ بنقضهم لما بينك وبينهم من العهد، فاقطع عليهم طريق الخيانة لك، بأن تعلن فسخك لعهدهم، حتى يكونوا على علم بأمرك، وحتى لا يستطيعوا خيانتك، إن اللَّه لايحب الخائنين ولا يرضى أن توصفوا بوصفهم.
٥٩ - ولا يظن الذين كفروا أنهم سبقوا ونجوا من عاقبة خيانتهم وغدرهم. إنهم لا يعجزون اللَّه عن الإحاطة بهم، بل هو القادر - وحده - وسيجزيهم بقوته وعدله.
٦٠ - وأعدوا - يا معشر المسلمين - لمواجهة أعدائكم ما استطعتم من قوة حربية شاملة لجميع عتاد القتال، من المرابطين فى الثغور وأطراف البلاد بخيلهم، لتخيفوا بهذا الإعداد والرباط عدو اللَّه وعدوكم من الكفار المتربصين بكم الدوائر، وتخيفوا آخرين لا تعلمونهم الآن واللَّه يعلمهم. لأنه لا يخفى عليه شئ. وكل ما أنفقتم من شئ فى سبيل إعداد القوة قاصدين به وجه اللَّه، فإن اللَّه يجزيكم عليه جزاء وافيا، دون أن ينقصهم مثقال ذرة مما تستحقون من فضل ربكم.
٦١ - وإن مآل الأعداء عن جانب الحرب إلى جانب السلم، فاجنح لها - أيها الرسول - فليست الحرب غرضاً مقصودا لذاته عندك إنما أنت قاصد بها الدفاع لعدوانهم، وتحديهم لدعوتك. فاقبل السلم منهم، وتوكل على اللَّه، ولا تخف كيدهم ومكرهم إنه سبحانه هو السميع لما يتشاورون به، العليم بما يدبرون ويأتمرون، فلا يخفى عليه شئ.
٦٢ - وإن أرادوا من تظاهرهم بالجنوح إلى السلم خدعة ومكرا بك، فإن اللَّه يكفيك أمرهم من كل وجه، وقد سبق له أن أيدك بنصره، حين هيأ لك من الأسباب الظاهرة والخفية ما ثبت به قلوب المؤمنين من المهاجرين والأنصار.
٦٣ - وجمع بينهم على المحبة بعد التفرق والتعادى، فأصبحوا ملتقين حولك، باذلين أرواحهم وأموالهم فى سبيل دعوتك، وإنك لو أنفقت جميع ما فى الأرض من الأموال والمنافع - فى سبيل هذا التأليف - لما أمكنك أن تصل إليه، لأن القلوب بيد اللَّه، ولكن اللَّه ألفَّ بينهم، بهدايتهم إلى الإيمان والمحبة والإخاء، وإنه تعالى قوى غالب، يدبر أمر العباد على مقتضى ما ينفعهم.
٦٤ - يأيها النبى كفاك وكفى أتباعك المؤمنين أن اللَّه لكم ناصراً ومؤيدا.
٦٥ - يأيها النبى حث المؤمنين على القتال لإعلاء كلمة اللَّه ورغبهم فيما وراءه من خير الدنيا والآخرة، لتقوى بذلك نفوسهم، وإنه إن يوجد منكم عشرون معتصمون بالإيمان والصبر والطاعة، يغلبوا مائتين من الذين كفروا، ذلك بأنهم قوم لا يدركون حقائق الأمور، فليس لهم إيمان ولا صبر ولا مطمع فى ثواب.
٦٦ - وإذا كان واجبكم - أيها المؤمنون - أن تصبروا على ملاقاة أعدائكم فى حال قوتكم، ولو كانوا أمثالكم، فقد رخَص اللَّه لكم فى غير حال القوة أن تصبروا أمام مثليكم فقط من الأعداء لعلمه أن فيكم ضعفا يقتضى التيسير عليكم والترخيص لكم، بعد أن تثبت هيبة الإسلام فى نفوس الكفار، فإن يكن منكم مائة مجاهد صابر يغلبوا مائتين من الكفار، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإرادة اللَّه ومعونته، واللَّه مع الصابرين بنصره وتأييده.
٦٧ - لا يسوغ لأحد من الأنبياء أن يكون له أسرى يحتجزهم، أو يأخذ منهم الفداء، أو يمن عليهم بالعفو عنهم حتى يتغلب ويظهر على أعدائه، ويثقلهم بالجراح، فلا يستطيعون قتالا فى الأرض، ولكنكم - يا جماعة المسلمين - سارعتم فى غزوة بدر إلى اتخاذ الأسرى قبل التمكن فى الأرض، تريدون منافع الدنيا واللَّه يريد لكم الآخرة بإعلاء كلمة الحق، وعدم الالتفاف إلى ما يشغلكم عن الدنيا، واللَّه قوى قادر غالب، يدبر الأمور لكم على وجه المنفعة.
٦٨ - لولا حكم سابق من اللَّه بالعفو عن المجتهد المخطئ لأصابكم فيما أخذتم عذاب كبير بسبب ما تعجلتم به.
٦٩ - فكلوا مما غنمتم من الفداء حلالاً لكم غير خبيث الكسب، واتقوا اللَّه فى كل أموركم، إن اللَّه عظيم الغفران والرحمة لمن شاء من عباده إذا أناب إلى ربه.
٧٠ - يأيها النبى، قل للذين وقعوا فى أيديكم من الأسرى: إن يكن فى قلوبكم خير يعلمه اللَّه، يخلف لكم خيرا مما أخذه المؤمنون منكم، ويغفر لكم ما كان من الشرك والسيئات، واللَّه كثير المغفرة والرحمة لمن تاب من كفره ومن ذنبه.
٧١ - وإن يُريدوا خيانتك بما يُظهر بعضهم من الميل إلى الإسلام مع انطواء صدروهم على قصد مخادعتك، فلا تبتئس، فسيمكنك اللَّه منهم، كما خانوا اللَّه من قبل باتخاذ الأنداد والشركاء والكفر بنعمته، فأمكن منهم إذ نصرك عليهم فى بدر، مع التفاوت بين قوتك فى القلة، وقوتهم فى الكثرة، واللَّه قوى غالب متصرف بحكمته، فأمكن من نصره عباده المؤمنين.
٧٢ - إن الذين صدَقوا بالحق وأذعنوا لحكمه، وهاجروا من مكه، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، والذين آووهم فى غربتهم، ونصروا رسول اللَّه يقاتلون من قاتله، ويعادون من عاداه، بعضهم نصراء بعض فى تأييد الحق وإعلاء كلمة اللَّه على الحق. والذين لم يهاجروا، لا يثبت لهم شئ من ولاية المؤمنين ونصرتهم، إذ لا سبيل إلى ولايتهم حتى يهاجروا، وإن طلبوا منكم النصر على من اضطهدوهم فى الدين، فانصروهم. فإن طلبوا النصر على قوم معاهدين لكم لم ينقضوا الميثاق معكم، فلا تجيبوهم، واللَّه بما تعملون بصير لا يخفى عليه شئ، فقفوا عند حدوده لئلا تقعوا فى عذابه.
٧٣ - والذين كفروا بعضهم أولياء بعض فهم متناصرون على الباطل، متعاونون فى عداوتكم، فلا توالوهم، فإن خالفتم وواليتموهم، تقع الفتنة فى صفوفكم والفساد الكبير فى الأرض.
٧٤ - والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل اللَّه، والذين آووهم ونصروا الحق وكلمة اللَّه، هم الصادقو الإيمان، واللَّه تعالى يغفر لهم، ولهم رزق كبير فى الدنيا والآخرة.
٧٥ - والذين آمنوا بعد الأولين وهاجروا أخيراً وجاهدوا مع السابقين، فأولئك منكم يا جماعة المهاجرين والأنصار، لهم من الولاية والحقوق ما لبعضكم على بعض. وذوو الأرحام من المؤمنين لهم - فضلا عن ولاية الإيمان - ولاية القرابة، فبعضهم أولى ببعض فى المودة والمال والنصرة والتأييد، وقد بين ذلك فى كتابه وهو العليم بكل شئ.
Icon