تفسير سورة الأنفال

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الأنفال مدنية وهي خمس وسبعون آية وعشر ركوعات.

﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ أي : حكم الغنائم نزلت١ حين اختلف كلام الشبان والشيوخ في غنائم بدر، والشبان ادعوا الأحقية بأنهم باشروا القتال ﴿ قل الأنفال لله والرسول ﴾ : فيضعها الرسول حيث يأمره الله، ولذلك قسم رسول الله - صلى عليه وسلم- غنائم بدر بين الشبان والشيوخ على السواء، وعن بعض : إن هذا في بدر ثم نسخت بقوله :" واعملوا أنما غنمتم " إلى آخره، فإن غنائم بدر قسمت من غير تخميس وفيه نظر ؛ لأن بعض الأحاديث يدل على تخميسها٢ صريحا ﴿ فاتقوا الله ﴾ : في الاختلاف ﴿ وأصلحوا ذات بينكم ﴾ : الحال٣ التي بينكم بترك المنازعة ﴿ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ﴾ فإن من مقتضى الإيمان طاعة الله ورسوله.
١ رواه الترمذي والحاكم، وقالا: حسن صحيح، وأبوا داود والنسائي وابن جرير وابن حبان/١٢ منه. [صححه الشيخ الألباني "في صحيح الترمذي" (٢٤٦٠)]..
٢ كحديث علي بن أبي طالب في شارفيه اللذين حصلا له من الخمس يوم بدر/١٢ منه. [أخرجه البخاري في "فرض الخمس"(٣٠٩١)، ومسلم في "الأشربة" (٤/٦٥٨) ط الشعب]..
٣ لما كانت الأحوال ملابسة للبين، قيل لها: ذات البين، كاسقني ذا إناءك، ونحو: ذات الصدور أي: مضمراتها/١٢ منه.
.

﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله ﴾ : بأن سمعوا الأذان والإقامة ﴿ وجلت قلوبهم ﴾ : من الله١ فأدوا فرائضه ﴿ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ﴾ : تصديقا ﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ : لا يرجون غيره وإن سألوا غيره، فإنهم يعلمون أنه المعطي والمانع.
١ قال السدي ومجاهد هو الرجل هم بمعصية، فيقال له: اتق الله فيجل قلبه/١٢ منه [ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(٣/٢٩٧) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في"شعب الإيمان"].
.

﴿ الذين يقيمون الصلاة ﴾ يديمونها ﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ يؤدون الصدقة الواجبة.
﴿ أولئك هم المؤمنون حقا ﴾ : صدق من غير شك، صفة مصدر محذوف أي : إيمانا حقا، أو مصدر مؤكد، بخلاف المنافق، فإنه لا يدخل في قلبه شيء من ذكر الله تعالى عند الصلوات، ولا يصدقون بآيات الله تعالى كلما نزلت، فلا يزداد إيمانهم، ولا يصلون إذا غابوا عن محضر المسلمين، ولا يؤدون الزكاة، فهم ليسوا بمؤمنين حقا، هكذا فسرها ابن عباس - رضي الله عنهما -، أو معناها المؤمن الكامل الإيمان من ضم إلى مكارم أعمال قلبه من الخشية عند ذكر الله تعالى من الإخلاص، واطمئنان النفس ورسوخ اليقين، ومن التوكل عليه في جميع الأمور، محاسن أفعال الجوارح، من الصدقة والصلاة ﴿ لهم درجات ﴾ : من الجنة ﴿ عند ربهم ﴾ يرتقونها بأعمالهم لا للمنافقين ﴿ ومغفرة ﴾ لسيئاتهم ﴿ ورزق كريم١ : حسن وهو رزق الجنة.
١ لما تقدمت ثلاث صفات: قلبية وبدنية ومالية، رتب عليه ثلاثة أشياء فقوبلت القلبية بالدرجات والرفعة، والبدنية بغفران الذنوب التي ارتكبتها الجوارح، والمالية بالرزق الكريم من مستلذات الجنة/١٢ وجيز..
﴿ كما أخرجك ربك من بيتك ﴾ خبر مبتدأ محذوف، أي : الحال في كراهتهم القتال كحال إخراجك من المدينة، أو متعلق بما بعده، وهو يجادلونك١ ومعنى الوجهين واحد، أو تقديره : حالهم في كراهة حكمنا بأن الأنفال لله تعالى كحالهم في حكمنا بإخراجك من المدينة ﴿ بالحق ﴾ أي : إخراجا متلبسا بالحكمة والصواب ﴿ وإن فريقا من المؤمنين ﴾ : بعضا منهم ﴿ لكارهون ﴾ : الخروج وحينئذ الجملة في موقع الحال، وذلك أن عير قريش أقبلت٢ من الشام في تجارة عظيمة، فخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في عقبهم، فبلغ الخير أهل مكة، فخرج أبو جهل مع عسكر عظيم، فأراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - القتال ووعد الأصحاب بالظفر فقال بعضهم : هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له، ثم واجهوا العدو وقاتلوا في بدر، والظفر للمسلمين.
١ أي: يجادلونك في إيثارك الجهاد جدالا مثل جدالهم حين أخرجك ربك... إلخ/١٢ منه..
٢ كذا نقل ابن مردويه وابن أبي حاتم وغير واحد من الرواة/١٢ منه [ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٢٩٩)]..
﴿ يجادلونك في الحق ﴾ : وهو إيثار الجهاد ﴿ بعد ما تبين ﴾ : نصرتهم بإعلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ﴿ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ﴾ أي : يكرهون القتال كراهة من يجر إلى القتل، وهو مشاهد ناظر إلى أسبابه.
﴿ وإذ يعدكم الله ﴾ أي : اذكر إذ يعدكم ﴿ إحدى الطائفتين ﴾ : العير التي فيها التجارة، أو النفير التي خرجت من مكة ﴿ أنها لكم ﴾ : بدل اشتمال من ثاني مفعوليه، وهو إحدى ﴿ وتودون أن غير ذات الشوكة ﴾ أي : العير التي ليس عدد كثير ولا عُدد ﴿ تكون لكم ويريد الله أن يحق ﴾ : أن يثبت ويظهر ﴿ الحق بكلماته ﴾ : بأمره إياكم بالقتال، قيل الباء بمعنى مع أي : يرفع كلمة الله ويجعل دينه عاليا غالبا ﴿ ويقطع دابرا لكافرين ﴾ : الدابر : الآخر، وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، يعني إرادتكم إصابة مال بلا مكروه، وإرادة الله إعلاء كلمته، وفوز الدارين لكم.
﴿ ليحق١ الحق ويبطل الباطل ﴾ متعلق بمحذوف أي : لهذين الجهتين فعلنا ما فعلنا أو متعلق بيقطع ﴿ ولو كره المجرمون ﴾ : ذلك.
١ قوله "يريد الله" لبيان الفرق بين الإرادتين، وقوله: "ليحق الحق ويبطل الباطل"، لبيان أنه لم يفعل ما فعل إلا لهذا الغرض الصحيح، والحكمة الباهرة كقوله: أريد أن أكرمك، لإكرامك أنعمت عليك بما أنعمت، فلا تكرار بوجه/١٢..
﴿ إذ تستغيثون ﴾ : هو إلحاح دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم - حين رأى شوكة الأعداء، وهو بدل من إذ يعدكم بأن يكون عبارة عن زمان واسع وقع الوعد في أجزائه والاستغاثة في بعض، أو متعلق ب " ليحق " ﴿ ربكم فاستجاب١ لكم أني ممدكم ﴾ أي : بأني ومن قرأ " إني " بالكسر فعلى إرادة القول، أو استجاب بمنزلة قال ﴿ بألف من الملائكة مردفين ﴾ : متتابعين بعضهم على اثر بعض، أو مردفين بألف آخر فقد نقل ٢ عن علي - رضي الله عنه - : إن جبريل في ألف عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر وميكائيل في ألف عن ميسرته وأنا فيها، ومن قرأ بفتح الدال فمعناه أردف الله المسلمين بهم، أو أردف الله ألفا بألف آخر وقد أنزل الله تعالى أولا ألفا ثم ألفا ثم ألفا إلى خمسة آلاف كما ذكرناه في سورة آل عمران.
١ هو إلحاح دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم - حين رأى شوكة لأعدائه، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب، أن عدد المشركين يوم بدر ألف، وعدد المسلمين ثلاث مائة وسبعة عشر رجلا، و أن النبي – صلى الله عليه وسلم- لما رأى ذلك استقبل القبلة ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، وآتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه: حتى سقط ردائه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك"، فأنزل الله عز وجل هذه الآية/١٢ [أخرجه مسلم في "الجهاد" (٣/٣٧٤) ط الشعب]..
٢ رواه بن جرير/١٢ منه.
.

﴿ وما جعله الله ﴾ أي : الإمداد ﴿ إلا بشرى ﴾ : بشارة ﴿ ولتطمئن به قلوبكم ﴾ : فيزول منها الوجل ﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ وإمداد الملائكة وكثرة العدد والعدد وسائط لا تأثير لها ﴿ إن الله عزيز ﴾ : لا يغالب ﴿ حكيم ﴾ في أفعاله.
﴿ إذ يغشيكم ﴾ : الله ﴿ النعاس ﴾ بدل ثان من إذ يعدكم أو بإضمار اذكر ﴿ أمنة ﴾ أمنا وهو مفعول له وفيه شرط١النصب ؛ لأن حاصل معنى يغشيكم النعاس تنعسون والآمنة فعل لفاعله ﴿ منه ﴾ أي حاصلة من الله تعالى وهذه السنة٢ في البدر أيضا ففي الصحيح أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - مع الصديق يدعوان يوم بدر في العريش أخذته سنة ثم استيقظ متبسما قال : أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع، وعن علي٣ – رضي الله عنه - قال لقد رأينا يوم بدر وما فينا إلا نائم إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي ويبكي حتى أصبح ﴿ وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ﴾ : من الجناة والحدث ﴿ ويذهب عنكم رجز الشيطان ﴾ وسوسته، فإنهم في البدر نزلوا على الماء، فاحتلم ٤ أكثرهم وقد غلب الكفار على الماء، وقد وسوس إليهم الشيطان بأنكم تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسول الله وحينئذ تصلون على جنابة، فأنزل الله تعالى المطر، وسال الوادي ﴿ وليربط على قلوبكم ﴾ بالصبر واليقين ﴿ ويثبت به ﴾ : بسبب المطر والربط ﴿ الأقدام٥ على المحاربة يعني قوى٦ قلوبهم، وشجعهم أو المطر لبد٧ الرمل بحيث لا يغوص أرجلهم فيه، فثبت أقدامهم، فإنهم في كثيب أعفر٨ تسوخ فيه الأقدام.
١ وهو أن يتخذ فاعله وفاعل عامله/١٢..
٢ يعني حكاية النعاس في أحد مشهورة، وفي البدر على ما نقلناه من الصحيح فهو نعاس خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما على ما نقل الحافظ أبو يعلى عن علي – رضي الله عنه - فالأمر ظاهر، وفي الجملة القرآن دال على أن النعاس في بدر أيضا كما كان في أحد، إلا كما قال الواحدي في الوجيز/١٢منه [ذكره السيوطي في الدر المنثور" (٣/٣١٣) وعزاه للبيهقي في "الدلائل" من طريق عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه]..
٣ رواه الحافظ أبو يعلى/١٢ منه [ذكره السيوطي في"الدر المنثور"(٣/٣١٠) وعزاه لأبي يعلى والبيهقي في "الدلائل"]..
٤ هذا ما روى عن ابن عباس، وفي الفتح: إن المشهور في كتب السير المعتمدة إن المشركين لم يغلبوا المؤمنين على الماء، بل المؤمنون هم الذين غلبوا عليه من الابتداء وهذا المروي عن ابن عباس في إسناده العوفي، وهو ضعيف جدا/١٢ [ذكره السيوطي في "الدر المنثور (٣ /٣١١) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ من طريق ابن جرير عن ابن عباس- رضي الله عنه]..
٥ بدأ بلام العلة في فعل جسماني هو التطهير، وعطف عليه من غير لام العلة ما هو من لازم التطهير، ثم عطف باللام ما هو فعل محله القلب، وعطف عليه بغير اللام ما هو من لازمه فما أفصح أداء/١٢ وجيز..
٦ على الوجه الأول: تثبيت الأقدام مجاز، وعلى الثاني: حقيقة/١٢ منه..
٧ هكذا روي عن عروة بن الزبير ومجاهد/١٢ منه[ ذكره السيوطي في"الدر المنثور" (٣/٣١١). وعزاه لابن إسحاق وابن أبى حاتم]..
٨ الأعفر: رمل ابيض يخالط حمرة، وتسوخ: تغيب/١٢..
﴿ إذ يوحي ﴾ بدل ثالث أو بإضمار اذكر ﴿ ربك إلى الملائكة أني معكم ﴾ : بالعون النصر، وهو مفعول يوحي، وعند بعضهم أن الخطاب مع المؤمنين أي : أوحى للملائكة أن يولوا للمؤمنين : إن الله معكم ﴿ فثبتوا الذين آمنوا ﴾ ببشارة النصر، أو بتكثير سوادهم، ومحاربة أعدائهم ﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ : الخوف ﴿ فاضربوا فوق الأعناق ﴾ أي : الرؤوس أو أعاليها، وهي المذابح، قال ربيع بن أنس : كان الناس يعرفون قتلى الملائكة من قتيلهم، بضرب فوق الأعناق، وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق بها ﴿ واضربوا منهم كل بنان ﴾ : أصابع أو كل طرف ومفصل، قيل : الخطاب في قوله فاضربوا للمؤمنين، والأكثرون على أنه للملائكة.
﴿ ذلك ﴾ أي : الضرب أو الأمر به ﴿ بأنهم شاقوا الله ورسوله ﴾ : خالفوهما، تركوا الشرع فصاروا في شق١ ﴿ ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ﴾ : له.
١ أي جانب غير شق المؤمنين/١٢..
﴿ ذلكم ﴾ : الخطاب مع الكفرة أي : الأمر ذلكم، أو ذلكم العذاب ﴿ فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ﴾ عطف على ذلكم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا ﴾ الزحف : الجيش الكثير منصوب على الحال ﴿ فلا تولوهم الأدبار ﴾ بالانهزام١.
١ ذهب الجمهور إلى أن الآية محكمة عامة غير خاصة، وأن الفرار من الزحف محرم، ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر، والإشارة في يومئذ إلى يوم ازحف كما يفيده السياق، ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف بل هذه الآية مفيدة بها، فيكون الفرار من الزحف محرما بشرط ما بينه الله تعالى في آية الضعف، ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها، فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي- صلى الله عليه وسلم - بالخروج؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم - ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال، ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر/١٢فتح [الحديث أخرجه البخاري في"الطب"(٥٧٦٤) وفي غير موضع من صحيحه، ومسلم في"الإيمان"]..
﴿ ومن يولهم يومئذ ﴾ : يوم القتال مطلقا، أو يوم قتال البدر خاصة ﴿ دبره ﴾ : فانهزم ﴿ إلا متحرفا لقتال ﴾ : يفر مكيدة، ليرى أنه خاف، فيتبعه العدو فيكر عليه ويقتله ﴿ أو متحيزا إلى فئة ﴾ فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونونه، حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إمامه الأعظم لجاز، ونصب متحرفا ومتحيزا على الحال، أو استثناء من المولين أي : إلا رجلا متحرفا ﴿ فقد باء ﴾ : رجع ﴿ بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ﴾ : جهنم، أكثر السلف على أن هذا في يوم البدر خاصة١، ولهذا قال٢ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيه :" اللهم إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدا "، وأما في سائر الحروب فجاز الفرار إذا كان الكفار أكثر من مثيلهم٣ وعن بعض الفرار مطلقا حرام وكبيرة إلا عن هذين السببين٤، وعن بعض هذا خاصة الصحابة.
١ فيه إشكال، فإن الآية نزولها إن كانت قبل وقعة بدر لها فائدة لكن ما قبل الآية وما بعدها صريح في أن نزولها بعد وقعته، إلا أن يقال: مضمونها وحكمها قبل كما في "فثبتوا الذين آمنوا سألقي" لكن لفظها للامتنان بعد بأمل فإنك لا ترى مفسرا حام حول تحقيقها/١٢ وجيز..
٢ تقديم تخريجه..
٣ كما قال تعالى: "علم أن فيكم ضعفا" الآية/١٢ وجيز..
٤ وفي الصحيحين وغيرهما أحاديث دالة على أن الفرار مطلقا من الكبائر/١٢ منه، وهذه الآية على دالة على أن تلك الكبيرة سبب لخلود جهنم فإن تلك العبارة لا يحتمل إلا بالخلود كما في صورة قتل المتعمد بغير حق، وصورة الحيف في الإرث/١٢ وجيز..
﴿ فلم تقتلوهم ﴾ : تقديره : إن فخرتم بقتلهم يوم بدر، فلم تقتلوهم بقوتكم ﴿ ولكن الله١ قتلهم ﴾ : بأن أظفركم عليهم، وأرسل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم، نزلت حين انصرفوا عن القتال يتفاخرون، يقولون : قتلنا فلانا أو أسرنا فلانا، فهو تعالى يبين أنه خالق أفعالهم وأنه المحمود على جميع خير صدر عنهم ﴿ وما رميت ﴾ : يا محمد قبضة التراب في أعينهم ﴿ إذ رميت ﴾ أتيت بصورة الرمي ﴿ ولكن الله رمى٢ أتى بما هو غاية الرمي، فصورة الرمي منك، وحقيقتها مني كأنه قال : ما رميت خلقا إذ رميت كسبا، " وذلك أن رسول الله – صلى عليه وسلم - أخذ قبضة من تراب، بتعليم جبريل عليه السلام فرمى بها وجوه الأعداء، قائلا :" شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا وامتلأت عينه منها " ٣، فاشتغلوا بأعينهم فردفهم المؤمنون بالقتل والأسر، وهذه الرمية ليست من جنس أفعال البشر وقوتهم ﴿ وليبلي ﴾ تقديره : ولكن الله رمى لفوائد كثيرة وليبلي ﴿ المؤمنين منه ﴾ : من الله ﴿ بلاء حسنا ﴾ أي : ولينعم عليهم نعمة حسنة عظيمة بالنصر، ومشاهدة الآيات فيشكروا ﴿ إن الله سميع ﴾ : بدعائهم ﴿ عليم ﴾ بضمائرهم.
١ فإن قتيل الملك يباين قتيل الصحابة/١٢ وجيز..
٢ إلى أعينهم، وأوصله إليها وأن هذا ليس ممن جنس أفعال البشر، هذا معنى القرآن إن شاء الله، وقد صح عن علي بن أبي طالب وبن عباس وغيرهما، أن الرمية كانت يوم بدر كما كانت يوم حنين مثلا بمثل/١٢ وجيز..
٣ أخرجه مسلم في "الجهاد والسير"(٣/٤٠٩ ) ط الشعب..
﴿ ذلكم ﴾ إشارة إلى البلاء الحسن، وتقديره : الأمر والحكمة ذلكم ﴿ وأن الله موهن كيد الكافرين ﴾ أي : الحكمة إبلاء المؤمنين، وإبطال حيل الكافرين.
﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ﴾ المشركون حين خرجوا تعلقوا بأستار الكعبة، وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الحزبين وأهدى الفئتين، أو قال أبو جهل يوم بدر : اللهم أهلك أيتنا١ أقطع للرحم، فيقول تعالى : إن طلبتم الفتح للأكرمين أو لواصل الرحم، فقد استجاب الله تعالى، فالخطاب على سبيل التهكم ﴿ وإن تنتهوا ﴾ عن الشرك ﴿ فهو خير لكم وإن تعودوا ﴾ : إلى الكفر والمحاربة ﴿ نعد ﴾ لكم بمثل وقعة بدر ﴿ ولن تغني ﴾ : ترفع ﴿ عنكم فئتكم ﴾ : جماعتكم ﴿ شيئا ﴾ من الإغناء أو المضار ﴿ ولو كثرت ﴾ فئتكم ﴿ وأن الله مع المؤمنين ﴾ : بالنصر٢، فلا يغلبون، ومن قرأ " أن " بفتح الهمزة تقديره : لأن الله مع المؤمنين وقعت تلك الواقعة.
١ رواه أحمد والنسائي، والحاكم وصححه/١٢ وجيز [أخرجه أحمد (٥/٤٣١) والحاكم (٢/٣٢٨) وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وأقره الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(٣/٣١٨) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم]..
٢ بالنصر في الدارين، ولما من على المؤمنين بإهلاك أعدائهم وتداوي دائهم، حثهم على الطاعة وعدم مشابهة الأعداء فقال "يا أيها الذين آمنوا" /١٢ وجيز..
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه ﴾ لا تتولوا عن الرسول، ولا تعرضوا عنه، فإن طاعته طاعة الله تعالى ﴿ وأنتم تسمعون ﴾ القرآن أي : بعد ما علمتم وأجبتم داعي الله.
﴿ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا ﴾ هم الكفرة أو المنافقون ﴿ وهم لا يسمعون ﴾ سماع انتفاع، فكأنهم ما سمعوا، أو معناه يقولون : أطعنا وهم لا يطيعون.
﴿ إن شر الدواب ﴾ : جميع الحيوانات ﴿ عند الله الصم ﴾ : عن الحق ﴿ البكم ﴾ عن التكلم به ﴿ الذين لا يعقلون ﴾ فهذا الضرب من آدم شر الخلائق.
﴿ ولو علم الله فيهم خيرا ﴾ : انتفاعا بالآيات ﴿ لأسمعهم ﴾ : إسماع تفهيم ﴿ ولو أسمعهم ﴾ وقد علم ألا خير فيهم ﴿ لتولوا ﴾ : ما صدقوا وما انتفعوا به، فكيف على تقدير عدم الإسماع، كقوله : نعم العبد صهيب، ولو يخف الله لم يعصه ﴿ وهم معرضون١ : عنه عنادا بعد الفهم، أو معناه وهم قوم عادتهم الإعراض عن الحق.
١ يعني هم على طبع لا يمكن أن يتأتي الإيمان، إلا إن أزال الله منهم هذا الطبع بالتبديل، فالأسباب لا دخل لها في إيمانهم ومجرد الإراءة من غير تبديل لا يفيد أيضا/١٢..
﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول ﴾ بالطاعة ﴿ إذا دعاكم ﴾ وحّد الرسول لأن دعوة الله تسمع من رسوله ﴿ لما يحييكم ﴾ أي : الإيمان فإنه يورث الحياة الأبدية : أو القرآن فيه الحياة والنجاة، أو الشهادة فإنهم أحياء عند الله يرزقون، أو الجهاد فإنه سبب بقائكم ﴿ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ﴾ : بين١ المؤمن كفره بين الكافر وإيمانه، أو يحول حتى لا يدري ما يعمل، أو حتى لا يستطيع أن يعزم على شيء إلا بإذنه، أو تمثيل بغاية قربه من كقوله :" ونحن اقرب إليه من حبل الوريد " ق : ١٦. ﴿ وأنه إليه تحشرون ﴾ لجزاء الأعمال.
١ عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يكثر من أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قالوا: يا رسول الله أمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء" أخرجه الترمذي، لباب التأويل المعروف بالخازن [وصححه الشيخ الألباني في "ظلال الجنة" وأخرجه الترمذي (٢٧٦٨ ) من حديث أم سلمة وصححه الشيخ الألباني وأصل الحديث عند مسلم (٥ /٩٠٥) ط الشعب من حديث عمر بن العاص]..
﴿ و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة١ حذر الله المؤمن عن محنة تعم المسيء وغيره، لا تخص من باشر الذنب، والفتنة إقرار المنكر بين أظهرهم والمساهلة في الحسبة، بمعنى لا تصيبن وبالها، أو نزلت في علي وعمار وطلحة الزبير وما وقع عليهم يوم الجمل بعد شهادة عثمان- رضي الله عنه - أو في قوم مخصوصين من الصحابة أصابتهم الفتنة يوم الجمل، والأول أصح، وقوله " لا تصيبن " إما جواب الأمر على مذهب الكوفيين فتقديره أن لا تتقوا لا تصب الظالمين خاصة، ودخول النون لما فيه من معنى النهي، كان إصابة الفتنة إليهم خاصة مطلوب، وإما صفة فتنة ولا للنهي ؛ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم بتقدير القول أي : فتنة مقولا في حقها ﴿ واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾.
١ في مسند الإمام أحمد، أنه – صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب العامة والخاصة" /١٢ وجيز [أخرجه أحمد في "مسنده" (٤/١٩٢) وذكره الهيثمي في "المجمع" (٧/٢٦٧) وقال: رواه أحمد من طريقين ورواه الطبراني وفيه رجل لم يسم وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات. وذكره الحافظ في "الفتح" (١٣/٦)، وحسنه وعزاه لأبي داود].
.

﴿ واذكروا ﴾ : يا معشر المهاجرين ﴿ إذ أنتم قليل ﴾ : في العدد ﴿ مستضعفون في الأرض ﴾ بمكة قبل الهجرة ﴿ تخافون أن يتخطفكم الناس ﴾ : يذهب بكم، ويعدمكم كفار قريش أو كفار سائر البلاد ﴿ فآواكم ﴾ إلى المدينة ﴿ وأيدكم بنصره ﴾ على الأعداء يوم بدر وغيره ﴿ ورزقكم من الطيبات ﴾ الغنائم، و كانت لا تحل للأمم السابقة ﴿ لعلكم١ تشكرون ﴾ : لكي تشكروا نعمة، والآية خطاب للعرب كافة لا للمهاجرين خاصة، فإن العرب كانوا أذل الناس وأجوعه وأعره وأضله، حتى جاء الله بالإسلام فمكنهم في البلاد، وسلطهم على العباد وجعلهم ملوكا شرفاء، وصيرهم مترفين أغنياء.
١ ولما من عليهم بما من بعد أن كانوا في قلة وذلة، نصحهم بألا يفتنوا بعده بإيثار المال والولد على محبة الله، فإنه ينافي الشكر فقال: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا" الآية /١٢ وجيز..
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ﴾ بترك فرائض الله وسننه، أو بما تضمروا خلاف ما تظهرون ﴿ وتخونوا ﴾ داخل في النهي، أو نصب بإضمار أن ﴿ أماناتكم ﴾ أي : لا تنقضوا كل عمل ائتمن الله عليه العباد، أو لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم بأن لا تحفظوها ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أنها أمانة، أو أنتم١ علماء، قال كثير من السلف : نزلت ٢ في أبي لبابة حين حاصر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قريظة وأمرهم أن ينزلوا على حكم سعد فاستشار قريظة من أبي لبابة في النزول على حكم سعد، وكان أهل أبي لبابة وأمواله فيهم فأشار إلى حلقه أنه الذبح٣ فتلك خيانة.
١ تميزون الحسن من القبيح/١٢..
٢ رواه سعيد بن منصور وغيره، عن عبد الله بن أبي قتادة/ ١٢ أسباب النزول للسيوطي [ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(٣/٣٢٢) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ]..
٣ فأشار إلى حلقه أنه الذبح، فنزلت، وعن الزهري نحوه بأطول منه، وعن الكلبي والسدى نحوه، ولما اشتد الحصار ببني قريظة أطاعوا وانقادوا أن ينزلوا على ما يحكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحكم فيه سعد بن معاذ، وقال: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال، وتسبي الذراري والنساء، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة"، وفي كتاب العلو المنسوب للإمام الذهبي، وعن سعد بن أبي وقاص "أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال لسعد يعني أن معاذ- رضي الله عنه -: "لقد حكمت فيهم – يعني بني قريظة - بحكم الملك من فوق سبع سماوات" هذا حديث صحيح، وقد رواه الأموي في المغازي عن ابن عباس عن معبد بن كعب بن مالك أن سعد بن معاذ لما حكم في بني قريظة "قال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع أرقعة"، وحديث سعد بن أبي وقاص أصح، انتهى بلفظه، وهذان الحديثان ذكرهما صاحب الفتح تحت هذه الآية عن المواهب اللدنية/١٢ [ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٣٢) أثر الزهرى والكلبى والسدى وحديث سعد بن معاذ أخرجه البخاري في "المغازي" (٤١٢١)].
.

﴿ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾ : اختبار وامتحان ليختبركم أنكم تشتغلون بها عن الله سبحانه، فتنسونه وتعصونه أو تذكرونه وتطيعونه فيها، فإن أبا لبابة خان بسبب الأولاد والأموال ﴿ وأن الله عنده أجر عظيم ﴾ : خير لكم من أموالكم وأولادكم، فحافظوا على حدود الله تعالى فيهم.
﴿ يا أيها الذين١ آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ﴾ : مخرجا ونجاة في الدنيا والآخرة، أو فصلا بين الحق والباطل أو يفرق بينكم وبين ما تخافون، أو ظهورا يعلى قدركم ﴿ ويكفر عنكم سيئاتكم ﴾ : يسترها عن أعين الناس ﴿ ويغفر لكم ﴾ لا يؤاخذكم بها ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ فبمحض إحسانه يفي بما وعدكم على التقوى.
١ ولما حذر عن فتنة الأموال والأولاد، وأطعمهم بما عنده مدخر للأتقياء، بين لهم فوائد التقوى ومنافع ترك الهوى فقال: "يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا" الآية/١٢ وجيز..
﴿ وإذ يمكر ﴾١ أي : واذكر هذا الزمان ﴿ بك الذين كفروا ليثبتوك ﴾ : ليقيدوك ويحبسوك ﴿ أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾ : من مكة، اجتمع قريش وشاور بعضهم بعضا في شأن محمد – صلى الله عليه وسلم -، فقيل : قيدوه حتى يموت. وقيل أخرجوه فتستريحوا من أذاه ثم اتفقوا على رأي أبي جهل وهو : أن يؤخذ من كل بطن رجل، يضربونه ضربة رجل واحد، فلا يقوى بنو هاشم على طلب قوده من قريش، وهذا بتصويب الشيطان فإنه بينهم في صورة شيخ جليل فأمر الله تعالى نبيه بالهجرة٢ ﴿ و يمكرون ويمكر الله ﴾ : يعاملهم الله تعالى معاملة الماكرين ﴿ و الله خير الماكرين ﴾ إذ مكره أنفذ تأثيرا.
١ ولما من على المسلمين أنهم ذو قلة فأعزهم وكثرهم، من على خاصة رسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم، وهذا في الحقيقة منة جليلة على أمته أعظم المنن فقال: "وإذ يمكر بك" الآية/١٢ وجيز..
٢ أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس/١٢ أسباب النزول [أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٨٩٩٤) من طريق محمد بن إسحاق عن ابن أبي ليلة عن مجاهد عن ابن عباس... فذكره]..
﴿ وإذا١ تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا لا أساطير الأولين ﴾ : ما هذا إلا ما سطره الأولون من القصص، هو اقتبسها وتعلم منها، نزلت٢ في نضر بن الحارث ومن وافقه ورضي بقوله حين ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم، فلما رجع يحدثهم من أخبار أولئك، ثم يقول : تالله أينا أحسن قصصا أنا أو محمد، وهذا غاية مكابرته وفرط عناده، فإنهم لا يجدون إلى أقصر سورة سبيلا.
١ ولما ذكر مكرهم بنبيه، عقبه بمكرهم في شأن كتابه وآياته فقال "وإذا تتلى" الآية/١٢ وجيز..
٢ أخرجه ابن جرير، عن سعيد بن جبير/١٢ [وذكره ابن كثير في "تفسيره" (٢/٣٠٥)]..
﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا ﴾ أي : القرآن ﴿ هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم ﴾ هذا قول نضر بن الحارث١ أيضا أو قول أبي جهل٢، وغرضه إظهار عدم الشك في بطلان القرآن، والتعريف في الحق إشارة إلى الحق الذي يدعيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه منزل من ربه، فإنهم يسلمون أنه قصص القرون الماضية، وقد نقل أن معاوية قال لرجل من سبأ ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة أي : بلقيس قال : أجهل من قومي قومك ؛ قالوا حين دعاهم إلى الحق :" إن كان هذا هو الحق " الآية، و لم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له.
١ روي عن أبي سعيد ومجاهد وعطاء/ ١٢ فتح [أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٩٠٠٨) عن ابن عباس- رضي الله عنه]..
٢ رواه البخاري وابن أبي حاتم والبيهقي، عن أنس بن مالك/١٢ فتح [ أخرجه البخاري في "التفسير(٤٦٤٨)].
.

﴿ وما كان١ الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ : مقيم بمكة، فإن الله تعالى لا يستأصل قوما وفيهم نبيهم، واللام لتأكيد النفي ﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون٢ أي : وفيهم من يستغفر كالمؤمنين الذين كانوا بمكة، وما استطاعوا الهجرة أو لما أمسوا ندموا على قولهم : اللهم إن كان هو الحق، فقالوا : غفرانك غفرانك، فنزلت، أو المراد من استغفارهم أنه في الله تعالى أن بعضهم يؤمنون، فالمعنى يمهلهم ؛ لأن فيهم من يستغفر بعد ذلك، وقد ورد :" أنزل عليّ أمانين٣ لأمتي :" وما كان الله ليعذبهم " الآية فإذا مضيت تركت فيكم الاستغفار "، قيل : هذا دعوتهم إلى الإسلام والاستغفار، أي : استغفروا لا أعذبكم كما تقول : لا أعاقبك وأنت تطيعني، أي : اطعني لا أعاقبك، وقيل معناه : وفي أصلابهم من يستغفر.
١ و لما دعوا على أنفسهم، وما استجاب الله مع استحقاقهم بين سبب عدم الاستجابة فقال: "وما كان الله ليعذبهم" الآية/١٢ وجيز..
٢ قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: كانوا يقولون: غفرانك ولبيك لا شريك لك، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار، فجعله الله أمنة منهم في الدنيا/١٢ وجيز [أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٩٠١٧)]..
٣ أخرجه الترمذي وضعفه/١٢ فتح [أخرجه الترمذي (٣٢٧٨ - تحفة) وقال: "حديث غريب" وإسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر يضعف في الحديث. وضعفه الشيخ الألباني في "ضعيف الترمذي"]..
﴿ و ما لهم١ ألا يعذبهم الله ﴾ قال بعضهم : قوله :" وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " نزل بمكة، فلما خرج عليه الصلاة والسلام إلى المدينة نزل : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون، أي : من بقى من المؤمنين في مكة، فلما خرجوا أنزل الله تعالى " وما لهم ألا يعذبهم الله " والتعذيب فتح مكة، أو القتل يوم بدر، أو الجوع والضر، وقال بعضهم : قوله " وما كان الله ليعذبهم " الآية منسوخة بقوله :" وما لهم ألا يعذبهم الله " وهذا عند من قال المراد بالاستغفار : صدور الاستغفار منهم نفسهم، كما ذكرنا غفرانك غفرانك ﴿ وهم يصدون ﴾ : يمنعون المؤمنين ﴿ عن المسجد الحرام ﴾ كعام الحديبية وإخراج رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ﴿ و ما كانوا أولياءه ﴾ مستحقين ولاية أمر المسجد الحرام، فإنهم يقولون : نحن أولياء الحرم نفعل فيه ما نريد ﴿ إن أولياؤه إلا المتقون ﴾ : عن الشرك ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ أنهم غير مستحقين لولاية الحرم ومنهم من يعلم ويعاند.
١ لما بين سبحانه أن المانع من تعذيبهم هو الأمران المتقدمان وجود رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بين ظهورهم، ووقوع الاستغفار ذكر بعد ذلك أن هؤلاء أعني كفار مكة مستحقون لعذاب الله، لما ارتكبوا من القبائح، فقال: "ما لهم ألا يعذبهم كالله" الآية/١٢ فتح..
﴿ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء ﴾ أي : كيف لا يستحقون العذاب، وكيف يكونون ولاة الحرم، وتقربهم إلى الله تعالى وما يضعون موضع صلاتهم الصفير يدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون في الطواف ﴿ وتصدية ﴾ : تصفيقا، وقد نقل كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفرون بأفواههم ويصفقون بأيديهم، وقال بعضهم : كان إذا – صلى النبي صلى الله عليه وسلم - في الحرم قام رجلان عن يمينه يصفران، ورجلان عن يساره يصفقان ليخلطوا عليه صلاته، وقال بعضهم، المراد صد الناس عن سبيل الله تعالى، فحينئذ من قلب إحدى الدالين تاء كما في ظنيت من الظن ﴿ فذوقوا العذاب ﴾ : ببدر ﴿ بما كنتم تكفرون ﴾.
﴿ إن الذين١ كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا ﴾ : الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾ لما رجع من بقى من الكفرة من البدر إلى مكة، استعانوا من أبي سفيان وغيره من مال تجارة الشام، واستقرضوا أيضا ثم أنفقوا في غزوة أحد، ولهذا قالوا : نزلت في أبي سفيان، أو المراد صرف أموالهم في غزوة بدر ﴿ فسينفقونها ﴾ أي : بعد ذلك في غزوة أحد ﴿ ثم تكون عليهم حسرة ﴾ : في الآخرة، أو في الدنيا لذهاب الأموال، وعدم نيل المرام ﴿ ثم يغلبون ﴾ : عاقبة الأمر، وقيل : المراد من قوله :" فسينفقونها " ذكر قرب زمان الإنفاق ثم الحسرة على صرفه ثم غلبة المؤمنين، فإنه وإن كان الإنفاق وحده واقعا متقدما لكن الإنفاق والحسرة والمغلوبية، لم يقع بعد حين نزول الآية، ﴿ والذين كفروا إلى جهنم٢ يحشرون ﴾ : يعني : من مات على الكفر منهم.
١ لما فرغ سبحانه من شرح هؤلاء الكفرة في الطاعات البدنية، أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية فقال: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم" الآية/١٢ فنح..
٢ لما أخبر بما آل إليه حالهم في الدنيا من حسرتهم وكونهم مغلوبين، أخبر بما يؤول إليه حالهم في الآخرة، ولام "ليميز" متعلق بيحشرون، هذا هو ظاهر القرآن، وباقي التوجيهات تمحل وتكلف/١٢ وجيز.
.

﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ﴾ : الشقي من السعيد، أو الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان من الإنفاق الطيب في سبيل الله تعالى، واللام متعلق بيحشرون، وهذا التمييز في الآخرة أو الدنيا وحينئذ متعلق اللام مقدر أي : يسر الله للكافرين إنفاق أموالهم في محاربتكم، لميز الخبيث من الطيب، أي : من يطعه بقتال أعداء الله ممن يعصيه بالنكول عن كما قال تعالى " وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " [ آل عمران : ١٠٩ ]، وقال تعالى " وما أصابكم يوم التقى الجمعان " [ آل عمران : ١٦٦ ] ﴿ ويجعل الخبث ﴾ أي : الفريق الخبث ﴿ بعضه على بعض فيركمه جميعا ﴾ : عبارة عن الضم والجمع حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم، أو معناه يضم على الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابه، كقوله " فتكوى بها جباههم وجنوبهم " [ التوبة : ٣٥ ] ﴿ فيجعله في جهنم أولئك ﴾ أي : الفريق الخبيث ﴿ و هم الخاسرون ﴾.
﴿ قل للذين كفروا ﴾ : كأبي سفيان وغيره أي : لأجلهم ﴿ إن ينتهوا ﴾ : عن الكفر ومعاداة الدين ﴿ يغفر لهم ما قد سلف ﴾ : من الذنوب١ ﴿ وإن يعودوا ﴾ إلى القتال ويستمروا على كفرهم ﴿ فقد مضت سنة الأولين ﴾ في نصرة أنبيائه وإهلاك أعدائه، أو سنة الأولين في قريش يوم بدر.
١ فيه دليل على أن الإسلام يجب ما قبله، وفي حديث مسلم وأحمد "إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله"/١٢ فتح [أخرجه مسلم في "الإيمان" (١/٣٢٤) ط الشعب]..
﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ : لا يوجد شرك١، أو لا يفتن مؤمن عن دينه ﴿ ويكون الدين كله لله٢ : لا يعبد غير الله تعالى في جزيرة العرب ﴿ فإن انتهوا ﴾ عن الكفر ﴿ فإن الله بما يعملون بصير ﴾ يجازيهم مجازاة البصير بهم، أو معناه فإن انتهوا عما هم فيه من الكفر والقتال، فكفوا عنهم وإن كنتم لا تعلمون بواطنهم، فإن الله بما يعملون بصير ومن قرأ " تعملون " بالتاء، فمعناه : فإن الله بما تعملون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام، وتسببكم إلى إخراجهم من ظلمة الكفر بصير، فيجازيكم.
١ قاله ابن عباس، وقيل: بلاء، وقد فسرها جمهور السلف بالكفر/١٢ فتح [أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (١/١٦٢) وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٩٠٧٣)]..
٢ قال قتادة: حتى يقال لا إله إلا الله، عليه قاتل رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وإليه دعي/١٢ فتح [أخرجه ابن جرير في "تفسيره"(١/١٦٢)]..
﴿ وإن تولوا ﴾ ولم ينتهوا عن الشرك والقتال ﴿ فاعلموا أن الله مولاكم ﴾ : ناصركم ﴿ نعم المولى ﴾ : لا يضيع من تولاه ﴿ ونعم النصير١ فمن نصره لا يغلب أبدا.
١ الله والمخصوص بالمدح مقدر، ولما قال: "وقاتلوهم" يخطر بالبال أن المال الذي يؤخذ منهم بعد نصر المؤمنين، كيف يفعل به؟ فقال: "واعلموا أنما غنمتم" الآية/ ١٢ وجيز.
.

﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء ﴾ : أخذتم من الكفار قهرا لا صلحا، أي شيء١ كان ﴿ فإن لله خمسه ﴾ مبتدأ خبره مقدر أي : فثابت أن لله خمسه، والأصح أن ذكر الله افتتاح كلام ٢ للتبرك، وقال بعضهم، سهم الله يصرف إلى الكعبة ﴿ وللرسول ﴾ كان يصرف فيما شاء، والآن لمصالح المسلمين أو للخليفة، أو مردود إلى الأصناف الباقية، أو لقرابة النبي-صلى الله عليه وسلم- ﴿ ولذي القربى ﴾ هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب٣، أو من لا يحل له الزكاة، أو بنو هاشم وحدهم٤، أو قريش٥ كلهم ﴿ واليتامى ﴾ : يتامى المسلمين فقراءهم، أو فقرائهم وأغنيائهم، أو يتامى ذوي القربى ﴿ والمساكين ﴾ : المحاويج الذين لا يجدون ما يصون خلتهم، أو مساكين ذوي القربى ﴿ وابن السبيل ﴾ : المسافر أو مريد السفر إلى مسافة القصر، وليس له ما ينفقه في سفره، أو ابن السبيل من ذوي القربى، فعلى هذا الغنيمة تقسم على خمسة : أربعة منها للمحاربين، وخمس لهؤلاء المذكورين ﴿ إن كنتم أمنتم بالله ﴾ تقديره : امتثلوا ما شرعت بكم في الغنيمة، إن كنتم آمنتم بالله ﴿ وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ﴾ : يوم فرق فيه بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، والآية نزلت فيه ﴿ يوم التقى الجمعان ﴾ : المسلمون والكفار، وهو يوم الجمعة لسبع عشرة من رمضان ٦﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ ولهذا قدر على نصر القليل على الكثير.
١ وقد خصص الإجماع من عموم الأسارى، فإن الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف، وكذلك سلب المقتول إذا نادى به الإمام، وقيل: وكذلك الأرض المغنومة، ورد بأنه لا إجماع على الأرض/١٢ فتح..
٢ كما تقول لعبدك: أعتقك الله وأعتقتك/١٢ وجيز..
٣ وليس لبني عبد شمس وبني نوفل منه شيء وإن كانوا إخوة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه" وهو في الصحيح، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد/١٢ فتح [الحديث أخرجه البخاري في "المغازي" (٤٢٢٩)]..
٤ وبه قال مالك والثوري والأوزعي وغيرهم وهو مروي عن علي بن الحسين ومجاهد/١٢ فتح..
٥ روى ذلك عن بعض السلف، واستدلوا بما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم – "أنه لما صعد الصفا جعل يهتف ببطون قريش كلها قائلا: يا بني فلان يا بني فلان" [أخرجه البخاري في"التفسير" (٤٧٧٠)]، واختلفوا في سهم ذوي القربى، هل هو ثابت اليوم أم لا؟ فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت فيعطى فقرائهم وأغنيائهم من خمس الخمس للذكر مثل حظ الأنثيين، وبه قال مالك والشافعي، وقيل: إنه غير ثابت وسقط سهمه سهمهم بوفاته- صلى الله عليه وسلم - وصار الكل مصروفا إلى الثلاثة الباقية، وبه قال أبو حنيفة وأصحاب الرأي وحجة الجمهور أن الكتاب والسنة يدلان على ثبوت سهم ذوي القربى وذا الخلفاء بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم – كانوا يعطونهم، ولا يفضلون فقيرا على غني، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم ـ أعطى العباس مع كثرة عناه وكذا الخلفاء بعده/١٢ فتح..
٦ وهو أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا روي عن علي- رضي الله عنه/١٢ فتح..
﴿ إذ أنتم ﴾ بدل من يوم الفرقان ﴿ بالعدوة ﴾ : شط الوادي ﴿ الدنيا ﴾ : الأقرب من المدينة ﴿ وهم ﴾ : كفار مكة ﴿ بالعدوة القصوى ﴾ : جانب الوادي الأبعد من المدينة ﴿ والركب ﴾ أي : ركب أبي سفيان الذين جاءوا من الشام ﴿ أسفل منكم ﴾ : في مكان أسفل من مكانكم أي : ساحل البحر، منصوب على الظرف واقع موقع خبر و " الركب " ﴿ ولو تواعدتم ﴾ أنتم والكفار للقتال ﴿ لاختلفتم ﴾ : أنتم ﴿ في الميعاد ﴾ : خوفا وهيبة لقتلكم وكثرتهم ﴿ ولكن ﴾ جمع الله تعالى بينكم بصنعه من غير ميعاد وإرادة لكم ﴿ ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾ : في علمه، أو معناه حقيقا بأن يفعل من نصر أوليائه، وإعلاء كلمة الإسلام ﴿ ليهلك ﴾ بدل من ليقضي، أو متعلق بمفعولا ﴿ من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ﴾ أي : ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآيات، فلا يبقى له حجة وعذر بوجه، ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة ويقين، فالهلاك والحياة : الكفر والإيمان، أو ليموت من يموت عن بينة عاينها، ويعيش عن حجة شاهدها، لئلا يكون له حجة ومعذرة ﴿ وإن الله لسميع ﴾ : بكفر من كفر، وإيمان من آمن ﴿ عليم ﴾ بما في قلوبهم.
﴿ إذ يريكهم الله ﴾ بدل من ثان من يوم الفرقان، أو مقدر باذكر ﴿ في منامك١ قليلا ﴾ لتخبر أصحابك فيكون تشجيعا لهم، وهو ثالث مفاعيل يريكم ﴿ ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ﴾ : لجبنتم ﴿ ولتنازعتم في الأمر ﴾ : اختلفت كلمتكم في أمر القتال ﴿ ولكن الله سلم ﴾ : أنعم بالسلامة من التنازع ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ ما كان وما سيكون من الجبن والتنازع.
١ اعلم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي، بمعنى أن رؤياهم معبر لا أضغاث أحلام كرؤيا نبينا - صلى الله عليه وسلم - في أمر القردة على منبره وغير ذلك فيجوز أن يراهم قليلا في العدد، وحكي على أصحابه من غير أن يعبر، وتعبيره ضعفهم فإن الضعف يترتب على القلة أكثري، فما أخطا في منامه، والله اعلم/١٢ وجيز..
﴿ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم١ لا في المنام ﴿ قليلا٢ حال عن ثاني مفعولي يريكموهم لا مفعول ثالث ؛ لأنه من رؤية العين هاهنا، وإنما قللهم في أعين المسلمين تثبيتا لهم، وتصديقا لرؤيا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ﴿ ويقللكم في أعينهم ﴾ ليجترؤا، أو يستعدوا للحرب حتى قال أبو جهل : إنهم أكلة جزور، ثم كثرهم في أعينهم حتى يرونهم مثليهم، لتفاجئهم الكثرة فتكسر قلوبهم ﴿ ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾ : من إهلاكهم وإذلالهم ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ : فلا أمر إلا وهو خالقه : وعلى الحقيقة هو فاعله، أو بعد الدنيا مصير الكل إليه فيجازيهم.
١ إشارة إلى أن ما مر لا من رؤية العين/١٢ منه..
٢ قال ابن مسعود: لقد قللوا في أعيننا، حتى قلت لرجل إلى جنبي: أراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فسرنا منهم رجلا فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا/١٢ منه [أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (١٠/١٠) وابن حاتم (٩١٢٧)].
.

﴿ يا أيها الذين١ آمنوا إذا لقيتم فئة ﴾ : حاربتم جماعة : والمؤمنون لا يحاربون٢ إلا الكفار﴿ فاثبتوا ﴾ : ولا تنهزموا ﴿ واذكروا الله كثيرا٣ : في تلك الحال٤ بان تستغيثوا به، وتتوكلوا عليه وتسألوا النصر ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ : كي تظفروا بمرامكم.
١ ولما بين أن النصر والغلبة من الله لا يؤثر فيه القلة والكثرة، أمر المؤمنين بالتوكل وطلب النصر من الله المؤثر، فقال "يا أيها الذين آمنوا" الآية/١٢ وجيز..
٢ فلا حاجة إلى ذكر وصف الفئة بكونها كفارا/١٢ منه..
٣ قال قتادة: افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف/١٢ فتح، وحاصل الكلام، أنه تعالى أمرهم عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله، ومنعهم من أن يكون الحامل لهم على ذلك الثبات البطر وكالرياء، بل أوجب عليهم أن يكون الحامل لهم عليه طلب عبودية الله، واعلم أن حاصل القرآن من أوله إلى آخره دعوة الخلق من الاشتغال بالخلق وأمرهم بالغناء في طريق عبودية الحق، والمعصية مع الانكسار اقرب إلى الإخلاص من الطاعة مع الافتخار/١٢ كبير..
٤ وهي حالة الذهول عن كل شيء، فأمروا بذكر الله الذي يفزع إليه عند الشدائد/١٢ وجيز..
﴿ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا ﴾ : باختلاف الآراء ﴿ فتفشلوا ﴾ فتجبنوا، جواب النهي ﴿ وتذهب ريحكم ﴾ : دولتكم ووقاركم وريح النصر، فإن النصرة لا تكون إلا بريح١ كما في الحديث :" نصرت بالصبا " ٢ ﴿ واصبروا إن الله مع الصابرين ﴾.
١ يقال: هبت ريح فلان، إذا ذهبت دولته/١٢ منه..
٢ وأهلكت عاد بالدبور/١٢ منه [أخرجه البخاري في "الاستسقاء" (١٠٣٠)، ومسلم في "الاستسقاء"].
.

﴿ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ﴾ : فخرا١. وطغيانا ﴿ ورئاء الناس ﴾ : ليثنوا٢ عليهم بالشجاعة والغلبة والرياسة، كما قال أو جهل، لما قيل : إن العير قد نجا فارجعوا، فقال : والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر وننحر الجزور، ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان٣، وتسمع٤ بنا العرب ﴿ ويصدون عن سبيل الله ﴾ عطف على بطرا، سواء كان مفعولا له، أو حالا على تأويل المصدر ﴿ والله بما يعملون محيط٥ : عالم بما جاءوا به وله، ولهذا جازاهم شر الجزاء.
١ عن قتادة: ذكر لنا أن نبي الله- صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ: "اللهم إن قريشا قد أقبلت بفخرها وخيلاءها لتجادل رسولك، وقال جاءت من مكة أفلاذها" وقد احتج بهذه الآية الشيخ عبد العزيز الدهلوي، على أنه لا يجوز طوف البلد للعروس بركوب الخيل وغيرها، كما اعتاده أهل الهند في عقود منا كحهم/١٢] أخرجه ابن جرير في "تفسيره" ( (١٣/١٠ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٩١٥٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٣٤٤) [..
٢ إشارة إلى أن بطرا ورياء منصوبان بالعلية/ ١٢ منه..
٣ جمع قينة: الجارية المغنية/١٢..
٤ فتهابنا آخر الأبد، نعم وردوا، فسقوا كؤوس المنايا وناحت عليهم النوائح، فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم بطرين مرائين بأعمالهم صادين عن سبيل الله/١٢ وجيز..
٥ كالتهديد والزجر عن الرياء والتصنع/١٢ كبير..
﴿ وإذ زين ﴾ مقدر باذكر ﴿ لهم الشيطان أعمالهم ﴾ في معاداة الرسول، فإنه تمثل١ لهم في سورة سراقة بن مالك الكناني، وهو من أكابر بني كنانة معه عسكر وراية ﴿ وقال لا غالب لكم ﴾ خبر لا، أو صفة غالب، ولو كان ظرفا لغالب لوجب أن يقال : لا غالبا ﴿ اليوم من الناس ﴾ لكثرة عددكم وعددكم ﴿ وإني جار لكم ﴾ : مجيركم من بني كنانة وممدكم في الحرب، وكان بين قريش وبني كنانة حرب وعداوة، وخافوا من بني كنانة فلهذا أجارهم ﴿ فلما تراءت الفئتان ﴾ : التقى الجمعان ﴿ نكص على عقبيه ﴾ : رجع القهقري و كانت يده في يد أحد من المشركين فقال له : أفرارا من غير قتال ؟ ! فضرب في صدر صاحبه الشرك فانطلق ﴿ وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون ﴾ من جنود الله : ملائكته ﴿ إني أخاف الله ﴾ وهذا كذب منه، ما به مخافة الله تعالى لكن علم أنه لا قوة له ولا منعة، أو أخاف الله أن يهلكني فيمن أهلك، أو خاف أن يصله مكروه من الملائكة، وهذا عادته الشؤمة كما حكاه تعالى " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر " الآية [ الحشر : ١٦ ] ﴿ والله شديد العقاب ﴾ من تتمة كلام الشيطان، أو ابتداء كلام الله تعالى.
١ قد صح عن ابن عباس وغيره، بروايات متنوعات تمثل الشيطان بصورة آدمي معه عسكر وراية/ ١٢ منه [أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (١٠/ ١٤) وابن أبى حاتم (٩١٠٧)].
.

﴿ إذ يقول ﴾ مقدر باذكر ﴿ المنافقون والذين في قلوبهم مرض ﴾ : شرك، أو قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا وخرجوا مع الكفار يوم بدر، ولما رأوا١ المسلمين قليلا ارتابوا وارتدوا، وقالوا :﴿ غر هؤلاء ﴾ أي : المؤمنين ﴿ دينهم ﴾ حتى تعرضوا مع قتلهم كثرتها، فقتلوا جميعا، فقال تعالى مجيبا لهم :﴿ ومن يتوكل على فإن الله عزيز ﴾ : لا غالب لأمره، ولا يضام من التجأ إليه ﴿ حكيم ﴾ : في أفعاله لا يضعنها إلا في موضعها.
١ هكذا قال مجاهد وغيره/١٢ [أخرجه ابن جرير في "تفسيره"(١٠/١٦)]..
﴿ ولو ترى ﴾ يا محمد ﴿ إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة ﴾ أي : لو رأيت ١ حالهم حين قتلهم الملائكة يوم بدر، وقال بعضهم : هذا عند الموت لا يخص بيوم بدر ﴿ يضربون وجوههم ﴾ : إذا أقبلوا ﴿ وأدبارهم ﴾ : إذا أدبروا، والجملة حال ﴿ وذوقوا ﴾ أي : ويقولون٢ : ذوقوا، عطف على يضربون ﴿ عذاب الحريق ﴾ : بشارة لهم بجهنم، قال بعضهم : مع الملائكة مقامع من حديد كلما ضربوا التهبت النار منها، وجواب " لو " مقدر أي : لو ترى لرأيت أمرا فظيعا هائلا.
١ إشارة إلى أن لو عكس أن يجعل المضارع ماضيا/١٢ منه..
٢ تقدير يقولون، ليس لأجل دفع عطف الإنشاء على الإخبار، بل لأن المعنى على ذلك/١٢ منه.
.

﴿ ذلك ﴾ الضرب ﴿ بما قدمت أيديكم ﴾ أي : بشؤم ذنوبكم ﴿ وأن الله ليس لظلام للعبيد ﴾ عطف١ على ما قدمت، قيل : للدلالة على أن سببية مقيدة بانضمامه إليه، إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنب، وظلام للتكثير لكثرة العبيد فالظالم لهم كثير الظلم.
١ عطف على ما قدمت أشار إلى أن من عفا عن هؤلاء الطين ظلموا أنفسهم، وظلموا عباد الله المؤمنين صار ظالما كثير الظلم، بمعنى أنه وضع الشيء في غير موضعه اللائق، وبهذا فسر أهل اللغة الظلم، وما ورد في كتاب الله الظلم إلا بهذا المعنى، والعفو في موضع لا تقضيه الحكمة ظلم لا شك فيه، وليس هذا من الاعتزال في شيء قيل: إن ذلك على طريق النسب كتمار ولبان، قيل: ذلك على طريق التوزيع، فإن العبيد دال على الاستغراق فالظالم لهم كثير الظلم لإصابة كل منهم ظلما، فالمعنى ليس بظالم هذا ولا ذلك ما لا يحصى فالمبالغة راجعة إلى الكمية، وتأمل قول القاضي البيضاوي في هاهنا وفي سورة آل عمران، كيف وقع فيما فر منه/١٢.
.

﴿ كدأب آل فرعون ﴾ أي : دأبهم وطرقتهم كدأبهم ﴿ والذين من قبلهم ﴾ : من قبل آل فرعون ﴿ كفروا بآيات الله ﴾ تفسير الدأب ﴿ فأخذهم بذنوبهم ﴾ كما أخذ هؤلاء ﴿ إن الله قوي ﴾ لا يغلبه شيء ﴿ شديد العقاب ﴾ : للكافرين.
﴿ ذلك ﴾ أي : الأخذ بالذنوب، لا التعذيب بغير ذنب ﴿ بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنغمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ أي : بسبب أن عادة الله جارية، بأن لا يبدل نعمة على قوم بنعمة، حتى غيروا حالهم إلى أسوءها كقريش، كذبوا بآيات الله واستهزؤوا بها، وصدوا عن سبيل الله وغيرها من القبائح ﴿ وأن الله سميع ﴾ : لما يقولون ﴿ عليم ﴾ بما يضمرون، ولولا إحاطة علمه كيف يأخذهم بأعمالهم ؟ !
﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ﴾ أي : عادتهم كعادتهم ﴿ كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون ﴾ تكرير للتأكيد ﴿ وكل ﴾ : من الأولين والآخرين. ﴿ كانوا ظالمين١.
١ جمع ضمير للفواصل ولم يجعل على لفظ كـ "كل" يعمل على شاكلته" [الإسراء: ٨٤]، و"فكلا أخذنا بذنبه" [العنكبوت: ٤٠] /١٢ وجيز..
﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ﴾ : رسخوا١ في الكفر ﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ : لرسوخهم فيه.
١ فسر الذين كفروا بالرسوخ والإصرار؛ لأن مجرد الكفر لا يهبر عن المتصف به بأنه لا يؤمن/١٢.
.

﴿ الذين ﴾ بدل من الذين كفروا ﴿ عاهدت منهم ﴾ أي : أخذت منهم العهد ﴿ ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ﴾ كيهود بني قريظة، نقضوا عهدهم وأعانوا المشركين بالسلاح، وقالوا : نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا١ يوم الخندق ﴿ وهم لا يتقون ﴾ : عاقبة الغدر ﴿ فإما٢ تثقفنهم ﴾ : تظفرون بهم وتأسرهم ﴿ في الحرب فشرد بهم ﴾ أي : بسبب قتلهم.
١ فهم شر سائر الكفرة/١٢ منه..
٢ ثم أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشدة والغلظة عليهم، فقال: "فإما"/ ١٢ فتح..
﴿ من خلفهم ﴾ أي : فافعل بهم عقوبة، يفرق منك ويخافك من ورائهم من الكفرة ليعتبروا، فلا ينقضوا العهد بعد ذلك، يعني : غلظ عقوبتهم ليكون عبرة لغيرهم ﴿ لعلهم ﴾ أي : من خلفهم ﴿ يذكرون ﴾ : يتعظون، فيحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل صنيعهم.
﴿ وإما تخافن من قوم ﴾ : معاهدين ﴿ خيانة ﴾ : نقض عهد بإمارة تلوح لك ﴿ فانبذ إليهم ﴾ : اطرح إليهم عهدهم ﴿ على سواء ﴾ أي : ثابتا على طريق مستو متوسط، بأن تخبرهم أنك قطعت العهد الذي بينك وبينهم، فلا يكونون على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك، فالجار والمجرور حال ﴿ إن الله لا يحب الخائنين ﴾ تعليل لنبذ العهد وعدم مفاجأة القتال بلا إعلام.
﴿ ولا يحسبن ﴾ : يا محمد ﴿ الذين كفروا سبقوا ﴾ : فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم تحت قهر قدرتنا، ومن قرأ " لا يحسبن بالياء فالذين كفروا فاعله، بتقدير : أن سبقوا فحذقت أن، أو تقديره : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا، أو فاعله ضمير إلى " من خلفهم " أو إلى جيل المؤمنين، وفي الجميع تكلف ﴿ إنهم لا يعجزون ﴾ : لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم، ومن قرأ بالفتح١ فتقديره : لأنهم يعجزون، قال بعضهم : نزلت٢ فيمن أفلت يوم بدر من المشركين.
١ أي: بفتح أن/١٢ منه..
٢ هكذا نقله محي السنة/١٢ منه..
﴿ وأعدوا لهم ﴾ : للكفار ﴿ ما استطعتم من قوة ﴾ : من كل ما يتقوى به في الحرب، وفي الحديث١ الصحيح :" ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثا ﴿ ومن رباط٢ الخيل ﴾ الرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ﴿ ترهبون ﴾ : تخوفون ﴿ به ﴾ : بما استطعتم ﴿ عدو الله وعدوكم ﴾ : كفار مكة ﴿ وآخرين من دونهم ﴾ أي : من دون كفار مكة ﴿ لا تعلمونهم ﴾ : لا تعرفونهم٣ ﴿ الله يعلمهم ﴾ : يعرفهم، هم المنافقون أو اليهود أو أهل فارس٤ ﴿ و ما تنفقوا من شيء ﴾ : قليل أو كثير ﴿ في سبيل الله يوف إليكم ﴾ أجره وجزاؤه ﴿ و أنتم لا تظلمون ﴾ بتضييع العمل.
١ كما في صحيح مسلم وغيره/١٢..
٢ اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، قال أبو حاتم: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها/١٢ فتح، وقيل: إذا كان الرباط اسما للخيل فيكون من إضافة الشيء إلى نفسه، والجواب أن الرباط اسم للمربوطات لكن لا يستعمل إلا في الخيل، فالإضافة باعتبار عموم المفهوم الأصلي/١٢، وقد ورد في استحباب الرمي وما فيه من الأجر واستحباب اتخاذ الخيل وإعدادها، وكثرة ثواب صاحبها أحاديث كثيرة لا يسع المقام بسطها، وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات/١٢ فتح..
٣ ليس له إلا مفعول واحد/١٢..
٤ وقيل: كل من لا تعرف عداوته، وقيل: بنو قريظة، وقيل: غير ذلك، والأولى الوقف في تعيينهم لقوله: "لا تعلمونهم"/١٢..
﴿ وإن جنحوا إلى السلم ﴾ : مالوا للصلح ﴿ فاجنح١ لها ﴾ : مل إليها٢، قال بعضهم : الآية منسوخة بقوله :" قاتلوا الذين لا يؤمنون "، وفي شيء لأن المهادنة لكثرة الأعداء ولغيرها جائزة إذا رأى الإمام، وقال بعضهم : الآية مخصوصة بأهل الكتاب ﴿ وتوكل على الله ﴾ في الصلح، ولا تخف خداعهم ﴿ إنه هو السميع ﴾ : لأقوالهم ﴿ العليم ﴾ بنياتهم.
١ وتأنيث السلم، قيل: لغة، وقيل: بمعنى المسلمة، وقيل: حملا على النقيض وهو الحرب، وهذا كما فعل يوم الحديبية، والظاهر أن هذه الآية قبل صلح الحديبية/١٢ وجيز..
٢ يقال: مال له ومال إليه/١٢ منه.
.

﴿ وإن يريدوا أن يخدعوك ﴾ : يريدون بالصلح خديعة ﴿ فإن حسبك ﴾ : كحسبك وكافيك ﴿ الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ﴾.
﴿ وألف بين قلوبهم ﴾ مع ما فيهم من الضغينة في أدني شيء ﴿ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ﴾ لتناهي عداوتهم وجهالتهم، فإن بين الأوس والخروج من العداوة والحروب ما لا يمكن الإصلاح، فالله بمحض قدرته ألف بينهم فاجتمعوا وأنفقوا، وأنساهم الله تلك الشحناء فصاروا أنصارا ﴿ ولكن الله ألف بينهم ﴾ فإنه مقلب القلوب ﴿ إنه عزيز ﴾ : غالب لا يغالب أبدا ﴿ حكيم ﴾ يضع كل شيء في موضعه.
﴿ يا أيها النبي حسبك الله ﴾ : كافيك ﴿ ومن اتبعك١ من المؤمنين ﴾ مفعول معه، أي : محسبك٢ مع المؤمنين الله، أو عطف على " الله "، نزلت في غزوة بدر، وقال بعضهم : نزلت حين أسلم عمر، ثم اعترض عليه بأن الأنفال كلها مدنية٣، وإسلام عمر قبل الهجرة فلا يصح هذا.
١ اختلفوا في محل "من"، فقال أكثر المفسرين: محله خفض عطفا على الكاف في قوله: "حسبك" معناه: حسبك الله وحسب من اتبعك/١٢ معالم..
٢ الله، كما تقول: حسبك وزيدا درهم، والمعنى: كافيك وكافي المؤمنين وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية أي: وحده حسبك، وحسب المؤمنين الذين اتبعوك ومن قال: إن المعنى أن الله والمؤمنين حسبك، فقد ضل بل قوله من جنس الكفر، فإن الله وحده هو حسب كل عبد مؤمن، والحسب الكافي كما قال الله تعالى: "أليس الله بكاف عبده" [الزمر: ٣٦] وقال تعالى "وقالوا حسبنا الله" [آل عمران: ١٧٣]، [التوبة: ٥٩] ولم يقل ورسوله "وقالوا إنا إلى الله راغبون" [التوبة: ٥٩] ولم يقل هنا وإلى رسوله انتهى/ ١٢ فتح..
٣ لم يستثنوا منها شيئا، صرح بهذا كثير من المفسرين، وبه قال الحسن لا عكرمة وجابر بن زيد وعطاء وعبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت، وعن ابن عباس أنه قال: نزلت في بدر، وفي لفظ: تلك سورة بدر كذا في الفتح/١٢..
﴿ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ﴾ أي : بالغ في حثهم عليه ﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ﴾ شرط في معنى الأمر١ بمصابرة الواحد للعشرة والوعد بالغلبة ﴿ و إن يكن منكم مائة يغلبون ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ : بسبب جهالتهم بالله يقاتلون لأجل حظ دنيوي، فلا تثبت أ قدامهم إذا رأوا شدة القتال وظنوا الهلاك.
١ ولذلك دخلها النسخ، فإن الشرط إذا كان فيه معنى التكليف جاز فيه النسخ/١٢ وجيز..
﴿ الآن خفف الله عنكم ﴾ نزلت لما ثقلت على المسلمين مقابلة الواحد مع العشرة، فنسها وخفف عنهم ﴿ وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ في البدن أو في البصيرة، فإن في بعضهم ضعف البصيرة ﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين١ أي : إن كانوا على الشطر من عدوهم لم يجز الفرار، وإلا جاز ولم يجب القتال، ثم اعلم أنه ذكر في الأول العشرين والمائة، وفي الثاني المائة والألف، للدلالة، أن حكم القليل والكثير واحد ﴿ بإذن الله ﴾ بأمره وإرادته ﴿ والله مع الصابرين٢ : بالنصر والظفر.
١ قال سفيان وابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا، إن كان رجلين أمرهما، وإن كانوا ثلاثة فهو في سعة من تركهم/١٢ فتح كذا في المعالم..
٢ ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في أول جملتي التخفيف، وحذف من الثانية ثم ختم الآية: "والله مع الصابرين" مبالغة في أن الصبر هو الأصل، والعمدة في الغلبة/١٢ وجيز.
.

﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى ﴾ ما صح وما استقام لنبي من الأنبياء أن يأخذ أسرى، ولا يقتلهم ﴿ حتى يثخن في الأرض ﴾ : يكثر القتل فيعز الإسلام و يذل الكفر ﴿ تريدون عرض الدنيا ﴾ : حطامها، أي : الفداء ﴿ والله يريد الآخرة ﴾ أي : يريد ثواب الآخرة، أو ما هو سبب نيل الجنة من إعزاز الدين وقمع الملحدين ﴿ والله عزيز حكيم ﴾ يعلم ما يليق بالأحوال، نزلت حين جاءوا بأسارى بدر، فاستشار١ فيهم، فقال عمر : هم أئمة الكفر والله أغناك عن الفداء فاضرب أعناقهم، قال أبو بكر : هم قومك وأهلك لعل الله يتوب عليهم، خذ فدية تقوى بها أصحابك، فقبل الفداء وعفا عنهم.
١ أي رسول الله- صلى الله عليه وسلم/١٢..
﴿ لولا كتاب من الله سبق ﴾ يعني في أم الكتاب أن لا يعذب مسلم شهد البدر، وهم مغفورون، أو فيه أن المغانم والفداء حلال لكم، أو لا أعذب من عصاني إلا بعد تصريح بنهي ﴿ لمسكم فيما أخذتم ﴾ : من الفداء قبل أن آذن لكم ﴿ عذاب عظيم ﴾.
﴿ فكلوا ﴾ أي : أبحت لكم الغنائم فكلوا ﴿ مما غنمتم ﴾ : من الفدية، فإنها من جملة الغنائم ﴿ حلالا ﴾ حال، أو أكلا حلالا ﴿ طيبا ﴾ قيل : إنهم أمسكوا عن الغنائم أيضا، وخافوا أشد خوف، فنزل " فكلوا " الآية ﴿ واتقوا لله ﴾ : في مخالفته ﴿ إن الله غفور ﴾ فيغفر ذنبكم ﴿ رحيم ﴾ فأباح لكم الفداء.
﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا ﴾ بأن يتعلق علم الله بحصول إرادة إيمان وإخلاص فيها ﴿ يؤتكم ﴾ إن أسلمتم ﴿ خيرا مما أخذ منكم ﴾ : من الفداء ﴿ ويغفر لكم ﴾ ما صدر قبل الإسلام منكم ﴿ والله غفور رحيم ﴾ نزلت في عباس وأصحابه، أسروا يوم بدر١ وأخذ منهم الفداء، وكان العباس بعد ذلك يقول : أعطاني الله مكان عشرين أوقية أفديتها لنفسي ولابني أخي كانت معي، والتمست من النبي- عليه الصلاة والسلام - أن يحاسبني من جملة فدائي وفداء ابني أخوي فأبى فأبدلني الله في الإسلام عشرين عبدا كلهم في يده ما يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله.
١ لما أخذ العباس طلب منه فدائه وفداء أقاربه، فقال: ما ذاك عندي، قال - عليه الصلاة والسلام-: فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقال: والله لأنت رسول الله!! إن هذا الشيء ما علمه غيري وغيرها، قال: فاحسب لي ما أصبتم من عشرين أوقية من مال كان معي، فقال عليه الصلاة والسلام: لا ذاك شيء أعطانا الله تعالى"/١٢ منه، أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراءهم، بعثت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فداء أبي العاص، وبعثت فيه بقلادة فلما رآها رسول الله – صلى الله عليه وسلم- رق رقة شديدة، وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها"/١٢ فتح.
.

﴿ و إن١ يريدوا ﴾ أي : الأسارى ﴿ خيانتك ﴾ فيما أظهروا لك من الإسلام والإخلاص ﴿ فقد خانوا الله ﴾ : بالكفر﴿ من قبل ﴾ : من قبل بدر﴿ فأمكن ﴾ أي : فأمكنك ﴿ منهم ﴾ يوم بدر، فإن عادوا نعد، قال بعضهم٢ : نزلت في عبد الله بن سعد الكاتب حين ارتد ولحق بالمشركين، قال بعض٣ : نزلت في عباس وأصحابه حين قالوا : آمنا بك ولننصحن لك على قومنا، والأكثرون٤ على أنه عامر ﴿ والله عليم ﴾ : بخيانة من خان ﴿ حكيم ﴾ بتدبيره.
١ ولما ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيرا، ذكر من هو على ضد ذلك منهم، فقال: "وإن يريدوا خيانتك" الآية/١٢ فتح..
٢ هو قتادة/١٢..
٣ قاله ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس/١٢ منه..
٤ هكذا قال السدي/١٢ منه..
﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ﴾ : أسكنوا المهاجرين منازلهم ﴿ ونصروا ﴾ أي : نصروهم على أعدائهم ﴿ أولئك بعضهم أولياء بعض ﴾ : في الميراث دون أقاربهم، آخا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين١ والأنصار، كل اثنين أخوان فكانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث ﴿ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ﴾ أي : ليسوا لكم بأولياء في الميراث ﴿ وإن استنصروكم ﴾ أي : المؤمنون الذين لم يهاجروا ﴿ في الدين فعليكم النصر ﴾ : فواجب عليكم نصرتهم على المشركين ﴿ إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ : عهد فلا تنقضوا عهدكم في نصرتهم عليهم ﴿ والله بما تعملون ﴾ من الوفاء بالعهد ونقضه ﴿ بصير ﴾ : فيجازيكم.
١ نقله البخاري عن ابن عباس /١٢وجيز.
.

﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ﴾ في الميراث دون المسلمين ﴿ إلا تفعلوه ﴾ أي : إن لم تفعلوا ما أمرتم من قطع العلائق حتى في الميراث بينكم وبين الكفار ﴿ تكن ﴾ : تحصل ﴿ فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾ في الدين كقوة الكفر وضعف الإسلام.
﴿ و الذين١ آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا ﴾ : صدقا من غير ريب، دون من آمن وسكن دار الشرك، وفي الحديث المتفق على صحته بل المتواتر :" المرء٢ مع من أحب "، ونصب حقا على المصدر المؤكد، أو تقديره : إيمانا حقا ﴿ لهم مغفرة ورزق كريم ﴾ : في الجنة.
١ ثم بين سبحانه حكما آخر يتعلق بالمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله، والمؤمنين الذين آووا من هاجر إليهم ونصرهم وهم الأنصار، فقال: "والذين آمنوا" الآية/ ١٢ فتح..
٢ وفي عبارة رواية أخرى "من أحب قوما حشر معهم"/١٢ منه.
.

﴿ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ﴾ : من جملتكم، أيها المهاجرون والأنصار، فإن المهاجرين بعضهم هاجروا قبل الحديبية، وبعضهم بعد صلحها قبل فتح مكة وهي الهجرة الثانية ﴿ وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ﴾ في التوراث من الأجانب ﴿ في كتاب الله ﴾ في حكمه، أو في اللوح وهذه ناسخة لإرث بالحلف والإخاء الذي كانوا يتوارثون به أولا ﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ فيعلم صلاح الأوقات.
Icon