تفسير سورة الأنفال

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
مدنية. وهي خمس وسبعون آية

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال﴾ النفل الغنيمةُ سُمّيت به لأنها عطيةٌ من الله تعالى زائدة على ما هو أصلُ الأجرِ في الجهاد من الثواب الأخروي ويطلق على ما يعطى بطريق التنفيل زيادةً على السهم من المغنم وقرئ عَلنفال بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللام وإدغام نون عن في اللام
روي أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله ﷺ كيف تُقسم ولمن الحُكم فيها ألمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا وقيل أن الشباب قد أبلَوا يومئذ بلاء حسناً فقتلوا سبعين وأسروا سبعين فقالوا نحن المقاتلون ولنا الغنائم وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات كنا رِدءاً لكم وفئةً تنحازون إليها حتى قال سعد بن معاذ لرسول الله ﷺ والله ما منعنا أن نطلبَ ما طلب هؤلاء زهادةٌ في الأجر ولا جبنٌ من العدو ولكن كرِهنا أن نعرِّيَ مصافّك فيعطِفَ عليك خيلٌ من المشركين فنزلت وقيل كان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قد شرط لمن كان له بلاءٌ أن يُنَفِّله ولذلك فعل الشبانُ ما فعلوا من القتل والأسر فسألوه ﷺ ما شرطه لهم فقال الشيوخُ المغنمُ قليلٌ والناسُ كثيرٌ وإن تُعطِ هؤلاءِ ما شرطتَ لهم حرمتَ أصحابَك فنزلت والأولُ هو الظاهُر لما أن السؤالَ استعلامٌ لحكم الأنفالِ بقضية كلمةِ عن لا استعطاءٌ لنفسها كما نطقَ به الوجهُ الأخير وادعاءُ زيادةٍ عن تعسف ظاهر والاستدلالُ عليه بقراءة ابن مسعودٍ وسعدُ بنُ أبي وقاص وعليِّ بنِ الحسين وزيدٍ ومحمد الباقي وجعفرِ الصادق وعكرمةَ وعطاءٍ يسألونك الأنفالَ غيرُ منتهضٍ فإن مبناهها كما قالوا على الخذف والإيصالِ كما يعرب عنه الجواب بقوله عز وجل
﴿قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول﴾ أي حكمُها مختصٌّ به تعالى بقسمها الرسول ﷺ كيفما أُمر به من غير أن يدخُل فيه رأيُ أحدٍ ولو كان السؤالُ استعطاءً لما كان هذا جواباً له فإن اختصاصَ حكمِ ما شُرط لهم من الأنفال بالله والرسول لا ينافي إعطاءَها إياهم بل يحقّقه لأنهم إنما يسألونها بموجب شرطِ الرسول ﷺ الصادرِ عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبَق أيديَهم إليها ونحوِ ذلك مما يُخِلّ بالاختصاص المذكورِ وحملُ الجوابِ على معنى أن الأنفالَ بالمعنى المذكور مختصة برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم لا حق فيها للمُنفَّل كائناً من كان مما لا سبيل إليه قطعاً ضرورةَ ثبوتِ الاستحقاقِ بالتنفيل وادعاءُ أن ثبوتَه بدليل متأخر النزام لنكرر النسخِ من غير علمٍ بالناسخ
2
الأخير ولا مساغَ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهدٌ وعكرمةُ والسديّ من أن الأنفالَ كانت لرسول الله ﷺ خاصةً ليس لأحد فيها شيءٌ بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ لما أن المراد بالأنفال فيها قالوا هو المعنى الأولُ حتما كما نطق به قوله تعالى واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَىْء الآية على أن الحقَّ أنه لا نسخَ حينئذ أيضاً حسبما قاله عبدُ الرحمن بنُ زيدِ بنِ أسلم بل بيّن في صدرِ السورةِ الكريمةِ إجمالاً أن أمرَها مفوضٌ إلى الله تعالى ورسوله ثم بين مصارفها وكيفيةَ قسمتِها على التفصيل وادعاءُ اقتصارِ هذا الحُكمِ أعني الاختصاصَ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم على الأنفال المشروطةِ يوم بدر يجعل اللامِ للعهد مع بقاء استحقاقِ المُنفَّل في سائر الأنفالِ المشروطةِ يأباه مقامُ بيان الأحكام كما ينبئ عنه إظهارُ الأنفالِ في موقع الإضمارِ على أن الجوابَ عن سؤال الموعودِ ببيان كونه له ﷺ خاصةً مما لا يليق بشأنه الكريمِ أصلاً وقد روي عن سعدَ بنَ أبي وقاصٍ أنه قال قُتل أخي عميرٌ يوم بدرٍ فقتلتُ به سعيدَ بنَ العاص وأخذتُ سيفَه فأعجبني فجئتُ به رسولَ الله ﷺ فقلت إنَّ الله تعالى قد شفى صدري من المشركين فهَبْ لي هذا السيف فقال لي ﷺ ليس هذا لي ولا لك اطرَحْه في القبض فطرحتُه وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذِ سلبي فما جاوزتُ إلا قليلاً حتى نزلت سورةُ الأنفال فقالَ لي رسولُ الله ﷺ يا سعُد إنك سألتَنى السيفَ وليس لي وقد صار لي فاذهبْ فخُذْه وهذا كما ترى يقتضي عدمَ وقوعِ التنفيلِ يومئذ وإلا لكان سؤالُ السيفِ من سعد بموجب شرطِه ووعده ﷺ لا بطريق الهِبَة المبتدَأةِ وحُمل ذلك من سعدٍ على مراعاة الأدبِ مع كون سؤالِه بموجب الشرط يرده رده ﷺ قبل النزولِ وتعليلُه بقوله ليس هذا لي لاستحالة أن يعد ﷺ بما لا يقدِرُ على إنجازه وإعطاؤه ﷺ بعد النزولِ وترتيبُه على قوله وقد صار لي ضرورةَ أن مناطَ صيرورتِه له ﷺ قوله تعالى الانفال لله والرسول والفرضُ أنه المانعُ من إعطاء المسئول ومَّما هُو نصٌّ في الباب قوله عز وجل
﴿فاتقوا الله﴾ أي إذا كان أمرُ الغنائم لله تعالى ورسوله فاتقوه تعالى واجتنبوه ما كنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجِبِ لسخط الله تعالى أو فاتقوه في كل ما تأنون وما تذرون فيدخُل فيه ما هم فيه دخولاً أولياً ولو كان السؤالُ طلباً للمشروط لمّا كان فيه محذورٌ يجب اتقاؤُه وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية الممابة وتعليلِ الحُكم
﴿وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ جُعل ما بينهم من الحال لملابستها التامةِ لبَيْنهم صاحبةً له كما جُعلت الأمورُ المضمرةُ في الصدور ذاتَ الصدور أي أصلِحوا ما بينكم من الأحوال بالمواساة والمساعدةِ فيما رزقكم الله تعالى وتفضل به عليكم وعن عبادة بن الصامت نزلت فينا معشرَ أصحابِ بدرٍ حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلافنا فنزعه الله تعالى من أيدينا فجعله لرسوله فقسمه بين المسلمين على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعةُ رسوله وإصلاحُ ذات البين وعن عطاء كان الإصلاحُ بينهم أن دعاهم وقال اقسموا غنائمَكم بالعدل فقالوا قد أكلْنا وأنفقْنا فقال ليرُدَّ بعضُكم على بعض
﴿وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ بتسليم أمرِه ونهيه وتوسيطُ الأمر بإصلاح ذاتِ البين بين الأمرِ بالتقوى والأمرِ بالطاعة لإظهار كمالِ العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرجَ الأمرُ به بعينه تحت الأمرِ بالطاعة
﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ متعلقٌ بالأوامرَ الثلاثةِ والجوابُ محذوفٌ ثقةً بدِلالة المذكورِ عليه أو هو الجوابُ على الخلاف المشهور وأيَاً ما كانَ فالمقصودُ تحقيقُ المعلقِ بناءً على تحقق المعلقِ به وفيه تنشيطٌ للمخاطَبين
3
وحثٌّ لهم على المسارعة إلى الامتثال والمرادُ بالإيمان كمالُه أي إن كنتم كاملي الإيمانِ فإن كمالَ الإيمان يدور على هذه الخِصالِ الثلاثِ طاعةُ الأوامرِ واتقاءُ المعاصي وإصلاحُ ذاتِ البين بالعدل والإحسان
الأنفال (٢ ٤)
4
﴿إِنَّمَا المؤمنون﴾ جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان مَنْ أريد بالمؤمنين بذكر أوصافِهم الجليلةِ المستتبِعةِ لما ذكر من الخِصال الثلاثِ وفيه مزيدُ ترغيبٍ لهم في الامتثال بالأوامر المذكورةِ أي إنَّما الكاملون في الإيمان المخلِصون فيه
﴿الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي فِزعت لمجرد ذكرِه من غير أن يُذكرَ هناك ما يوجب الفزَعَ من صفاته وأفعاله استعظاما لشأنه الجليلِ وتهيباً منه وقيل هو الرجلُ يُهمّ بمعصية فيقال له اتقِ الله فينزع عنها خوفها من عقابه وقرىء وجَلت بفتح الجيم وهي لغة وقرئ فرِقَتْ أي خافت
﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ أيَّ آيةٍ كانت
﴿زَادَتْهُمْ إيمانا﴾ أي يقيناً وطُمأنينةَ نفسٍ فإن تظاهُرَ الأدلةِ وتعاضُدَ الحُججِ والبراهينِ موجبٌ لزيادة الاطمئنانِ وقوة اليقين وقيل إن نفسَ الإيمانِ لا يقبل الزيادةَ والنقصانَ وإنما زيادتُه باعتبار زيادةِ المؤمَنِ به فإنه كلما نزلت آية صدّق بها المؤمنُ فزاد إيمانه عددا وأما نفسُ الإيمان فهو بحاله وقيل باعتبار أن الأعمالَ تُجعل من الإيمان فيزيد بزيادتها والأصوبُ أن نفسَ التصديقِ يقبل القوةَ وهي التي عُبّر عنها بالزيادة للفرق النيّر بين يقينِ الأنبياءِ وأربابِ المكاشفات ويقينِ آحادِ الأمةِ وعليه مبنى ما قال علي رضي الله عنه لو كُشفَ الغطاءُ ما ازددتُ يقيناً وكذا بين ما قام عليه دليلٌ واحد وما قامت عليه أدلةٌ كثيرة
﴿وعلى رَبّهِمْ﴾ مالكِهم ومدبرِ أمورِهم خاصة
﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾ يفوّضون أمورَهم لا إلى أحدٍ سواهُ والجملةُ معطوفةٌ على الصِّلةِ وقولُه تعالى
﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ﴾ مرفوعٌ على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأول أو بدلٌ منه أو بيانٌ له أو منصوبٌ على القطع المنبئ عن المدح ذَكَر أولاً من أعمالهم الحسنةِ أعمالَ القلوب من الخشية والإخلاصِ والتوكل ثم عقّب بأعمال الجوارحِ من الصلاة والصدقة
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى مَن ذُكرت صفاتُهم الحميدةُ من حيث أنهم متصفون بها وفيهِ دلالةٌ على أنَّهم متمِّيزون بذلك عمن عداهم أكملَ تميُّز منتظِمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبتهم وبُعد منزلتِهم في الشرف
﴿هُمُ المؤمنون حَقّاً﴾ لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال القلبية والقالَبية وحقاً صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً أو مصدرٌ مؤكدٌ للجملة أي حقَّ ذلك حقاً كقولك هو عبدُ الله حقاً
﴿لَّهُمْ درجات﴾ من الكرامة والزلفى وقيل درجاتٌ عاليةٌ في الجنة وهو إما جملةٌ مبتدأةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من تعداد مناقبهم
4
كأنه قيل ما لهم بمقابلة هذه الخِصالِ فقيل لهم كيت كيت أو خبرٌ ثانٍ لأولئك وقوله تعالى
﴿عِندَ رَبّهِمْ﴾ إما متعلق بمحذوف وقع صفةً لدرجاتٌ مؤكدةٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنةٌ عنده تعالى أو بما يتعلق به الخبرُ أعني لهم من الاستقرار وفي إضافة الظرفِ إلى الرب المضافِ إلى ضميرهم مزيدُ تشريفٍ ولطفٍ لهم وإيذانٌ بأن ما وعد لهم متيقَّنُ الثبوتِ والحصولِ مأمونُ الفواتِ
﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ لما فرَط منهم
﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ لا ينقضي أمدُه ولا ينتهي عددُه وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة
الأنفال آية ٥
5
﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾ الكافُ في محلِ الرفعِ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه هذه الحالُ كحال إخراجِك يعني أن حالَهم في كراهتهم لِما رأيتَ مع كونه حقاً كحالهم في كراهتهم لخروجك للحرب وهو حقٌّ أو في محلِّ النصبِ على أنَّه صفةٌ لمصدر مقدرٍ في قوله تعالى الانفال لِلَّهِ أي الأنفالُ ثبتتْ لله والرسولِ مع كراهتهم ثباتاً مثلَ ثباتِ إخراجِ ربِّك إياك من بيتك في المدينة أو من المدينة إخراجاً ملتبساً بالحق
﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ﴾ أي والحالُ أن فريقاً منهم كارهون للخروج إما لنفرة الطبعِ عن القتالِ أو لعدم الاستعدادِ وذلك أن عِيرَ قريشٍ أقبلت من الشام وفيها تجارةٌ عظيمةٌ ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيانَ وعمرو بنُ العاص وعمْرُو بنُ هشام فأخبر جبريلُ رسولَ الله ﷺ فأخبر المسلمين فأعجَبَهم تلقِّي العِيرِ لكثرة الخيرِ وقلةِ القوم فلما خرجوا بلغ أهلَ مكةَ خبرُ خروجِهم فنادى أبو جهلٍ فوق الكعبة بأهل مكة النجاة النجاة على كل صعب وذلول عِيرُكم أموالُكم إن أصابها محمدٌ لم تُفلِحوا بعدها أبداً وقد رأت أختُ العباسِ بنِ عبد المطلبِ رضي الله عنه رؤيا فقالت لأخيها إني رأيت كأن ملَكاً نزل من السماء فأخذ صخْرةً من الجبل ثم حلّق بها فلم يبق بيتٌ من بيوت مكةَ إلا أصابه حجرٌ من تلك الصخرة فحدّث بها العباسُ رضيَ الله عنه فقالَ أبو جهل ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأَ نساؤُهم فخرج أبو جهلٍ بجميع أهلِ مكةَ وهم النفيرُ فقيل له إن العِيرَ أخذت طريق الساحل ونجت فارجِعْ بالناس إلى مكَة فقال لا واللاتِ لا يكون ذلك أبدا حتى ننحَرَ الجَزورَ ونشربَ الخمور ونُقيمَ القينات والمعازِفَ ببدر فيتسامع جميعُ العرب بمَخْرَجنا وأن محمداً لم يُصِب العير وأنا قد أعضضاه فمضى بهم إلى بدر وبدر ماءٍ كانت العربُ تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ فقال يا محمدُ إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العِيرَ وإما قريشا فاستشار النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أصحابَه فقال ما تقولون إن القومَ قد خرجوا من مكةَ على كل صَعْبٍ وذَلولٍ فالعِيرُ أحبُّ إليكم أم النفيرُ فقالوا بل العيرُ أحبُّ إلينا من لقاء العدوِّ فتغير وجهُ رسولِ الله ﷺ ثم ردّد عليهم فقال إن العير قد مضت على ساحل البحرِ وهذا أبو جهل قد أقبل فقالُوا يا رسولَ الله عليك بالعِير ودعِ العدوَّ فقام عندما غضِبَ النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا ثم قام سعدُ بن عُبادةَ فقال انظُر أمرَك فامضِ فوالله لو سِرتَ إلى عدنِ أَبْيَنَ ما تخلف عنك رجلٌ من الأنصار ثم قال المقدادُ بنُ عمرو رضيَ الله عُنهُ يا رسولَ الله امضِ لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببْتَ لا نقول لك كما قال بنو إسرائيلَ لموسى عليه السلام اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا ههنا قاعدون ولكن اذهب أَنتَ وربُّك فَقَاتِلا إِنَّا معكما مقاتلون
5
ما دامت عينٌ منا تطرِفُ فضحِك رسولُ الله ﷺ ثم قال أشيروا علي أيها الناس وهو يريد الأنصار لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة إنا بُرَآءُ من ذِمامِك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلتَ إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك ما نمنع منه أبناءَنا ونساءَنا فكان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يتخوّف أن تكون الأنصارُ لا ترى عليهم نُصرتَه إلا على عدو دَهِمَهُ بالمدينة فقام سعدُ بن معاذ فقال لكأنك تريدنا يا رسول لله قال أجل قال قد آمنا بك وصدقناك وشهِدنا أن ما جئت به هو الحقُّ وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمع والطاعةِ فامضِ يا رسولَ الله لما أردتَ فو الذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخُضتَه لخُضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا وإنا لصُبرٌ عند الحرب صُدقٌ عند اللقاء ولعل الله يُريك منا ما تَقَرُّ به عينُك فسِرْ بنا على بركة الله ففرح رسولُ الله ﷺ وبسَطه قولُ سعد ثم قال سيروا على بركة الله وأبشِروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظرُ إلى مصارع القوم
روي أنَّه قيلَ لرسولِ الله ﷺ حين فرَغ من بدر عليك بالعِير ليس دونها شيء فناداه العباس رضي الله عنه وهو في وِثاقه لا يصلح فقال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لم قال لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك
الأنفال (٦ ٧)
6
﴿يجادلونك فِي الحق﴾ الذي هو تلقّي النفيرِ لإيثارهم عليه تلقيَ العير والجملةُ استئنافٌ أو حالٌ ثانية أي أخرجك في حال مجادلِتهم إياك ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الضمير في لَكارهون وقوله تعالى
﴿بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ﴾ منصوبٌ بيجادلونك وما مصدرية أي بعد تبين الحقِّ لهم بإعلامك أنهم يُنصَرون أينما توجهوا ويقولون ما كان خروجُنا إلا للعِير وهلا قلتَ لنا لنستعدَّ ونتأهَّبَ وكان ذلك لكراهتهم القتالَ
﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت﴾ الكافُ في محل نصبٍ على الحاليةِ من الضميرِ في لَكارهون أي مُشبّهين بالذين يُساقون بالعنف والصَّغار إلى القتل
﴿وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ حال من ضمير يساقون أي والحالُ أنهم ينظرُون إلى أسباب الموتِ ويشاهدونها عِيانا وما كانت هذه المرتبةُ من الخوف والجزعِ إلا لقلة عددِهم وعدمِ تأهُّبِهم وكونهم رِجالة روي أنه لم يكن فيهم إلا فارسان
﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين﴾ كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ جميلِ صنعِ الله عز وجل بالمؤمنين مع ما بهم من قلة الحزم ودناءةِ الهِمّةِ وقُصورِ الرأي والخوفِ والجزعِ وإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمر خوطب به المؤمنون بطريق التلوينِ والالتفات وإحدى الطائفتين مفعولٌ ثانٍ ليعدُكم أي اذكروا وقتَ وعدِ الله إياكم إحدى الطائفتين وتذكيرُ الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما فيه من الحوادث لما مر مرارا من المبالغة في إيجاب ذكرِها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانيِّ ولأن الوقتَ مشتملٌ على ما وقع فيه من الحوادث بتفاصيلها فإذا استُحضِر كان ما وقع فيه حاضراً مفصّلاً كأنه مشاهَدٌ عياناً وقرئ يَعدْكم بسكون الدال تخفيفاً وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ
6
الماضيةِ لاستحضار صورتِها وقوله تعالى
﴿أَنَّهَا لَكُمْ﴾ بدلُ اشتمالٍ من إحدى الطائفتين مُبينٌ لكيفية الوعدِ أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنةٌ لكم مختصّةٌ بكم مسخّرةٌ لكم تتسلطون عليها تسلّطَ الُملاّكِ وتتصرفون فيهم كيف شئتم
﴿وَتَوَدُّونَ﴾ عطفٌ على يعدكم داخلٌ تحت الأمرِ بالذكر أي تحبون
﴿أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ﴾ من الطائفتين لا ذاتَ الشوْكةِ وهي النفيرُ ورئيسُهم أبو جهلٍ وهم ألفُ مقاتلٍ وغيرُ ذاتِ الشَّوكة هي العِيرُ إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارساً ورأسُهم أبو سفيانَ والتعبيرُ عنهم بهذا العنوانِ للتنبيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجبِ كراهتِهم ونفرتِهم عن موافاة النفيرِ والشوْكةُ الحدة مستعارةٌ من واحدة الشَّوْك وشوك القنا شباها
﴿وَيُرِيدُ الله﴾ عطفٌ على تودّون منتظمٌ معه في سلك التذكيرِ ليُظهِرَ لهم عظيمَ لطفِ الله بهم مع دناءة هِممِهم وقصور آرائِهم أي اذكُروا وقت وعِده تعالى إياكم إحدى الطائفتين وودادتِكم لأدناهما وإرادتَه تعالى لأعلاهما وذلك قولُه تعالى
﴿إِنَّ يُحِقَّ الحَقَّ﴾ أي يُثْبِتَه ويُعلِيَه
﴿بكلماته﴾ أي بآياته المنزلةِ في هذا الشأن أو بأوامره للملائكة بالإمداد وبما قضَى من أسرهم وقتلهم وطرحِهم في قليب بدر وقرئ بكلمته
﴿وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين﴾ أي آخِرَهم ويستأصِلَهم بالمرة والمعنى أنتم تريدون سَفْسافَ الأمور والله عز وعلا يريد معالِيَها وما يرجِعُ إلى علو كلمةِ الحقِّ وسموِّ رتبةِ الدين وشتان بين المرادين وقوله تعالى
الأنفال (٩ ٨)
7
﴿لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل﴾ جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان الحِكمةِ الداعيةِ إلى اختيار ذاتِ الشوكة ونصرِهم عليها مع إرادتهم لغيرها واللامُ متعلقةٌ بفعل مقدر مؤخر عنها أي لهذه الغايةِ الجليلةِ فعلَ ما فعَل لا لشيء آخرَ وليس فيه تكرارٌ إذ الأولُ لبيان تفاوتِ ما بين الإرادتين وهذا لبيان الحِكمةِ الداعية إلى ما ذكر ومعنى إحقاقِ الحقِّ إظهارُ حقّيتِه لا جعلُه حقاً بعد أن لم يكن كذلك وكذا حال إبطال الباطل
﴿وَلَوْ كَرِهَ المجرمون﴾ أي المشركين ذلك أي إحقاق الحق وإبطال الباطل
﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ بدلٌ من إذ يعدكم معمولٌ لعامله فالمراد تذكيرُ استمدادِهم منه سبحانه والتجائِهم إليه تعالى حين ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل وإمدادُه تعالى حينئذ وقيل متعلقٌ بقوله تعالى ليحق الحق على الظرفية وما قيل من أن قوله تعالى ليُحِق مستقبلٌ لأنه منصوبٌ بأن فلا يمكن عمله في إذ لأنه ظرف لما مضى ليس بشيء لأن كونَه مستقبَلاً إنما هو بالنسبة إلى زمان ما هو غاية له من الفعل المقدرِ لا بالنسبة إلى زمان الاستغائة حتى لا يعملَ فيه بل هما في وقت واحد إنما عبّر عن زمانها بإذ نظراً إلى زمان النزولِ وصيغةُ الاستقبالِ في تستغيثون لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها العجيبة وقيل متعلقٌ بمضمر مستأنف أي ذكروا وقت استغاثتِكم وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال جعلوا يدعون الله تعالى قائلين أيْ ربُّ انصُرنا على عدوك ياغياث المستغيثين أغِثْنا وعن عمرَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله ﷺ نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ فاستقبل القِبلةَ ومد يديه يدعو
7
اللهَّم أنجِزْ لي ما وعدتني اللهم إنْ تهلِكْ هذه العِصابةُ لا تعبَدْ في الأرض فما زال كذلك حتى سقط رداؤُه فأخذه أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال يا نبيَّ الله كفاك مناشدتُك ربَّك فإنه سيُنجز لك ما وعدك
﴿فاستجاب لَكُمْ﴾ عطفٌ على تستغيثون داخلٌ معه في حكم التذكيرِ لِما عرفت أنه ماضٍ وصيغةُ الاستقبال لاستحضار الصورة
﴿أَنّي مُمِدُّكُمْ﴾ أي بأني فحُذف الجارُّ وسُلّط عليه الفعلُ فنصَب محله وقرئ بكسر الهمزةِ على إرادة القولِ أو على إجراء استجابَ مجرى قال لأن الاستجابةَ من مقولة القول
﴿بألف من الملائكة مُرْدِفِينَ﴾ أي جاعلين غيرَهم من الملائكة رديفاً لأنفسهم فالمراد بهم رؤساؤُهم المستتبِعون لغيرهم وقد اكتفى ههنا بهذا البيانِ الإجماليِّ وبيِّن في سورة آل عمران مقدار عددهم وقيل معناه مُتْبعِين أنفسَهم ملائكةً آخرين أو متْبعين المؤمنين أو بعضَهم بعضاً من أردفتُه إذا جئتُ بعده أو متبعين بعضَهم بعضَ المؤمنين أو أنفسَهم المؤمنين من أردفتُه إياه فردِفَه وقرىء مردَفين بفتح الدال أي مُتْبَعين أو متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقَتَهم وقرىء مرُدّفين بكسر الراء وضمها وتشديد الدال وأصلُهما مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاءُ في الدال فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أبو بالضم على الاتباع وقريء بآلاف ليوافقَ ما في سورة آل عمران ووجهُ التوفيق بينه وبين المشهورِ أن المرادَ بالألفِ الذين كانوا على المقدمة أو الساقةُ أو وجوهُهم وأعيانُهم أو من قاتل منهم واختُلف في مقاتلتهم وقد روي أخبارٌ تدل على وقوعها
الأنفال (١٠)
8
﴿وَمَا جَعَلَهُ الله﴾ كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان أن الأسبابَ الظاهرةَ بمعزل من التأثير وإنما التأثيُر مختصٌّ به عز وجل ليثق به المؤمنين ولا يقنَطوا من النصر عند فُقدانِ أسبابِه والجعلُ متعدَ إلى مفعول واحد هو الضميرُ العائدُ إلى مصدر فعلٍ مقدرٍ يقتضيه المقامُ اقتضاء ظاهر مُغنياً عن التصريحِ بهِ كأنهُ قيل فأمدكم بهم وما جعل إمدادَكم بهم
﴿إِلاَّ بشرى﴾ وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العلل أي وما جعل إمدادَكم بإنزال الملائكةِ عِياناً لشيءٍ من الأشياءِ إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون
﴿وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ﴾ أي بالإمداد
﴿قُلُوبُكُمْ﴾ وتسكنَ إليه نفوسُكم كما كانت السكينةُ لبني إسرائيلَ كذلك فكلاهما مفعولٌ له للجعل وقد نُصب الأولُ لاجتماع شرائطِه وبقيَ الثاني على حاله لفقدانها وقيل للإشارة إلى أصالته في العلِّية وأهميتِه في نفسه كما قيل في قولِه تعالى والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وفي قصر الإمدادِ عليهما إشعارٌ بعدم مباشرةِ الملائكةِ للقتال وإنما كان إمدادُهم بتقويةِ قلوب المباشرين وتكثيرِ سوادِهم ونحوِه كما هو رأيُ بعضِ السلف وقيل الجعلُ متعدٍ إلى اثنين ثانيهما إلا بشرى على أنه استثناءٌ من أعم المفاعيلِ أي وما جعله الله شيئاً من الأشياءِ إلا بشارةً لكم فاللام في ولتطمئن متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخَّرٍ تقديرُه ولتطمئن به قلوبُكم فعَلَ ذلك لا لشيء آخَرَ
﴿وَمَا النصر﴾ أي حقيقةُ النصر على الإطلاق
﴿إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾ أي إلا كائنٌ من عنده عزَّ وجلَّ من غيرِ أن يكون فيه شِرْكةٌ
8
من جهة الأسبابِ والعَدد وإنما هي مظاهرُ له بطريق جريانِ السنةِ الإلهية
﴿أَنَّ الله عَزِيزٌ﴾ لا يغالَب في حُكمه ولا يُنازَع في أقضيته
﴿حَكِيمٌ﴾ يفعلُ كلَّ ما يفعل حسبما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحةُ والجملةُ تعليلٌ لما قبلها متضمنٌ للإشعار بأن النصرَ الواقعَ على الوجه المذكورِ من مقتَضيات الحِكم البالغةِ
الأنفال آية (١١)
9
﴿إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس﴾ أي يجعله غاشياً لكم ومحيطاً بكم وهو بدلٌ ثانٍ من إذ يعدكم لإظهار نعمةٍ أخرى وصيغةُ الاستقبالِ فيه وفيما عُطف عليهِ لحكاية الحال الماضيةِ كما في تستغيثون أو منصوبٌ بإضمار اذكُروا وقيل هو متعلقٌ بالنصر أو بما في مِنْ عِندِ الله منْ مَعْنى الفعلِ أو بالجعل وليس بواضح وقرىء يُغْشيكم من الإغشاء بمعنى التغشية والفاعلُ في الوجهين هو الباري تعالى وقرىء يغشاكم على إسنادِ الفعلِ إلى النعاس وقوله تعالى
﴿أَمَنَةً مّنْهُ﴾ على القراءتين الأُوليين منصوبٌ على العلية بفعل مترتبٍ على الفعل المذكور أي يغشيّكم النعاسَ فتنعَسون أمناً كائناً من الله تعالى لا كَلالاً وإعياءً أو على أنَّه مصدرٌ لفعل آخرَ كذلك أي فتأمنون آمِنا كما في قوله تعالى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا على أحد الوجهين وقيل منصوبٌ بنفس الفعلِ المذكورِ والأَمَنةُ بمعنى الإيمان وعلى القراءة الأخيرة منصوبٌ على العِلّية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنَّه مصدرٌ لفعل مترتبٍ عليه كما مر وقرىء أمْنةً كرحمة ﴿وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاءً﴾ تقديمُ الجار والمجرور على المفعول به لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً له فعند ورودِه يتمكن عندها فضلُ تمكّنٍ وتقديمُ عليكم لما أن بيانَ كونِ التنزيلِ عليهم أهمَّ من بيان كونه من السماء وقرئ بالتخفيف من الإنزال
﴿لّيُطَهّرَكُمْ به﴾ أي من الحدث الأصغرِ والأكبر
﴿وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان﴾ الكلامُ في تقديم الجارّ والمجرور كما مر آنفاً والمرادُ برجز الشيطانِ وسوستُه وتخويفُه إياهم من العطش
روي أنهم نزلوا في كَثيب أعفرَ تسوخُ فيه الأقدامُ على غير ماءٍ وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركين على الماء فتمثل لهم الشيطانُ فوسوس إليهم وقال أنتم يا أصحابَ محمدٍ تزعُمون أنكم على الحق وإنكم تصلّون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطِشتم ولو كنتم على الحق ما غلبكمِ هؤلاءِ على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يَجهدَكم العطشُ فإذا قطَع أعناقَكم مشَوا إليكم فقتلوا مَنْ أحبّوا وساقوا بقيتَكم إلى مكة فحزِنوا حُزناً شديداً وأشفقوا فأنزل الله عزَّ وجلَّ المطرَ فمُطِروا ليلاً حتى جرى الوادي فاغتسلوا وتوضئوا وسَقَوا الرِكابَ وتلبّد الرملُ الذي كان بينهم وبين العدوِّ حتى ثبتت عليه الأقدامُ وزالت وسوسةُ الشيطانِ وطابت النفوسُ وقوِيَت القلوبُ وذلك قوله تعالى
﴿وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ﴾ أي يقوّيها بالثقة بلُطف الله تعالى فيما بعد مشاهدة طلائعِه
﴿وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام﴾ فلا تسوخ في الرمل فالضميرُ للماء كالأول ويجوز أن يكون المربط فإن القلبَ إذا قوِي
9
وتمكن فبه الصبرُ والجَراءةُ لا تكاد تزِلُّ القدمُ في معارك الحروب وقوله تعالى
الأنفال آية ١٢
10
﴿إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملائكة﴾ منصوبٌ بمضمر مستأنفٍ خوطب به النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بطريق التجريدِ حسبما تنطِق به الكافُ لِما أن المأمورَ به مما لا يستطيعه غيره ﷺ فإن الوحيَ المذكورَ قبل ظهورِه بالوحي المتلوِّ على لسانه ﷺ ليس من النعم التي يقف عليها عامةُ الأمةِ كسائر النعمِ السابقة التي أُمروا بذكر وقتِها بطريق الشكرِ وقيل منصوب بقوله تعالى وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام فلا بد حينئذٍ من عود الضميرِ المجرورِ في به إلى الربط على القلوب ليكون المعنى ويثبتَ أقدامَكم بتقوية قلوبِكم وقتَ إيحائِه إلى الملائكة وأمرِه بتثبيتهم إياكم وهو وقتُ القتال ولا يخفى أن تقييد التثبيت المذكورِ بوقت مبْهمٍ عندهم ليس فيه مزيدُ فائدةٍ وأما انتصابُه على أنه بدلٌ ثالثٌ من إذ يعدكم كما قيل فيأباه تخصيصُ الخطاب به ﷺ مع ما عرفتَ من أنَّ المأمورَ به ليس من الوظائف العامةِ للكل كسائر أخواتِه وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره ﷺ من التنويه والتشريفِ ما لا يخفى والمعنى اذكُر وقتَ إيحائِه تعالى إلى الملائكة
﴿إِنّى مَعَكُمْ﴾ أي بالإمداد والتوفيقِ في أمر التثبيتِ فهو مفعولُ يوحي وقرئ بالكسرِ على إرادةِ القولِ أو إجراءِ الوحي مُجراه وما يشعر به دخول كلمة مع من متبوعية الملائكةِ إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتثبيت صورةً فلهم الأصالةُ من تلك الحيثيةِ كما في أمثال قولهِ تعالى إِنَّ الله مَعَ الصابرين والفاءُ في قوله تعالى
﴿فَثَبّتُواْ الذين آمنوا﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إمدادَه تعالى إياهم من أقوى موجباتِ التثبيتِ واختلفوا في كيفية التثبيتِ فقالت جماعةٌ إنما أُمروا بتثبيتهم بالبِشارة وتكثيرِ السوادِ ونحوِهما مما تقوى به قلوبُهم وتصِحّ عزائمهُم ونياتُهم ويتأكد جِدُّهم في القتال وهو الأنسبُ بمعنى التثبيتِ وحقيقتِه التي هي عبارةٌ عن الحمل على الثبات في موطن الحراب والجِدّ في مقاساة شدائد القتال وقد روي أنه كان الملَكُ يتشبّه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه فيأتي ويقول إنى سمعتُ المشركين يقولون والله لئن حَملوا علينا لننكَشِفنّ ويمشي بين الصفين فيقول أبشِروا فإن الله تعالى ناصرُكم وقال آخرون أُمروا بمحاربة أعدائِهم وجعلوا قولَه تعالى
﴿سَأُلْقِى في قلوب الذين كفروا الرعب﴾ تفسير لقوله تعالى إِنّى مَعَكُمْ وقولَه تعالى
﴿فاضربوا﴾ الخ تفسيراً لقوله تعالى فَثَبّتُوا مبيناً لكيفية التثبيت وقد روي عن أبي داود المازني رضي الله عنه وكان ممن شهد بدراً أنه قال اتبعتُ رجلاً من المشركين يوم بدر لأضرِبَه فوقعتْ رأسُه بين يديَّ قبل أن يصِلَ إليه سيفي وعن سهل بن حنيف رضيَ الله عنه أنَّه قال لقد رأيُتنا يوم بدر وإن أحدَنا يُشيرُ بسيفه إلى المشرك فتقعُ رأسُه عن جسده قبل أن يصِلَ إليه السيفُ وأنت خبيرٌ بأن قتلَهم للكفرة مع عدم ملاءمته لمعنى تثبيتِ المؤمنين مما لا يتوقفُ على الإمدادِ بإلقاء الرعبِ فلا يتجه ترتيبُ الأمر به عليه بالفاء وقد اعتذر الأولون بأن قوله تعالى سألقى الخ ليس بنص فيما ذكر بل يجوز أن يكون ذلك إثرَ قوله تعالى فَثَبّتُواْ الذين آمنوا تلقيناً للملائكة ما يثبّتونهم به
10
كأنه قيل قولوا لهم سألقى في قلوب الذين كفروا الرعبَ فاضرِبوا الخ فالضاربون هم المؤمنون وأما ما قيل من أن ذلك خطابٌ منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوينِ فمبناه توهُّمُ ورودِه قبل القتالِ وأنّى ذلك والسورةُ الكريمة إنما نزلت بعد تمامِ الوقعة وقوله تعالى
﴿فَوْقَ الاعناق﴾ أي أعاليَها التي هي المذابح أو الهامات
﴿واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ قيل البنانُ أطرافُ الأصابع من اليدين والرجلين وقيل هي الأصابعُ من اليدين والرجلين وقال أبو الهيثم البنان المفاصلُ وكلُّ مَفصِلٍ بنانه وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك يعني الأطرافَ أي اضرِبوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلِها وقيل المرادُ بالبنان الأداني وبفوق الأعناق الأعالي والمعنى فاضرِبوا الصناديدَ والسَّفَلةَ وتكريرُ الأمر بالضرب لمزيد التشديد والاعتناء بأمره ومنهم متعلقٌ به أو بمحذوفٍ وقع حالا مما بعده
سورة الأنفال (١٣ ١٤)
11
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما أصابهم من العقاب وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته في الشدة والفظاعةِ والخطابُ لرسول الله ﷺ أو لكل أحد ممن يليق بالخطاب ومحلُّه الرفعُ على الابتداء وخبرُه قوله تعالى
﴿بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي ذلك العقابُ الفظيعُ واقعٌ عليهم بسبب مُشاقّتِهم ومغالبتِهم مَنْ لا سبيلَ إلى مغالبته أصلاً واشتقاقُ المشاقةِ من الشِّق لِما أنَّ كُلاًّ من المشاقين في شق خلاف شِقّ الآخر كما أن اشتقاقَ المُعاداةِ والمُخاصمة من العَدْوة والخَصْم أي الجانب لأن كلاًّ من المتعاديَيْن والمتخاصمَين في عَدوةٍ وخصمٍ غيرِ عدوةِ الآخر وخصمِه
﴿وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ﴾ الإظهار في موضع الإضمار لتربية المهابةِ وإظهار كمالِ شناعة ما اجترءوا عليه والإشعارِ بعلة الحُكم وقولُه تعالى
﴿فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ إمَّا نفسُ الجزاءِ قد حُذف منه العائدُ إلى مَنْ عندِ منْ يلتزمُهُ أي شديدُ العقابِ له أو تعليلٌ للجزاءِ المحذوفِ أي يعاقبْه الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقابِ وأيَّاً مَا كانَ فالشرطيةُ تكملةٌ لما قبلها وتقريرٌ لمضمونِهِ وتحقيقٌ للسببيةِ بالطريقِ البرهانيِّ كأنه قيل ذلك العقابُ الشديد بسببِ مشاقّتِهم لله تعالى ورسولِه وكلُّ من يشاقق الله ورسولَه كائناً مَنْ كان فلهُ بسببِ ذلكَ عقابٌ شديدٌ فإذن لهم بسبب مشاقّتِهم لهما عقابٌ شديد وأما أنه وعيدٌ لهم بما أَعدَّ لَهُم في الآخرةِ بعد ما حاقَ بهم في الدُّنيا كما قيل فيرده ما بعدَهُ منْ قولِه تعالى
﴿ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار﴾ فإنه مع كونه هو المسوقَ للوعيد بما ذُكر ناطقٌ بكون المرادِ بالعقاب المذكورِ ما أصابهم عاجلاً سواءٌ جُعل ذلكم إشارةً إلى نفس العقابِ أو إلى ما تفيده الشرطيةُ من ثبوت العقابِ لهم أما على الأول فلأن الأظهرَ أن محلَّه النصبُ بمضمر يستدعيه قولُه تعالى فَذُوقُوهُ والواو في قوله تعالى وأن للكافرين الخ بمعنى مع فالمعنى باشروا ذلكم العقابَ الذي أصابكم فذوقوه عاجلاً مع أن لكم عذابَ النارِ آجلاً فوضْعُ الظاهرِ موضعَ الضميرِ لتوبيخهم بالكفر وتعليلِ الحُكم به وأما على الثاني فلأن الأقربَ أن محلُّه الرفعُ على أنه خبر مبتدأ محذوف وقولُه تعالى وَأَنَّ للكافرين الخ معطوفٌ عليه والمعنى حُكمُ الله ذلكم أي ثبوتُ هذا
11
العقابِ لكم عاجلاً وثبوتُ عذابِ النارِ آجلاً وقوله تعالى فَذُوقُوهُ اعتراضٌ وُسِّط بين المعطوفَيْن للتهديد والضميرُ على الأول لنفس المشارِ إليه وعلى الثاني لما في ضمنه وقد ذُكر في إعراب الآيةِ الكريمةِ وجوُهُ أُخرُ مدار الكلِّ على أن المرادَ بالعقاب ما أصابهم عاجلاً والله تعالى أعلم وقرئ بكسر إن على الاستئناف
سورة الأنفال من الآيات (١٥ ١٦)
12
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ﴾ خطابٌ للمؤمنين بحكم كليَ جارٍ فيما سيقع من الوقائع والحروبِ جيءَ به في تضاعيفِ القصةِ إظهاراً للاعتناء بشأنه ومبالغةً في حضهم على المحافظة عليه
﴿إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً﴾ الزحفُ الدبيبُ يقال زحَف الصبيُّ زحفاً إذا دبّ على استه قليلاً قليلاً سُمّي به الجيشُ الداهُم المتوجِّهُ إلى العدو لأنه لكثرته وتكاثفِه يُرى كأنه يزحَف وذلك لأن الكلَّ يرى كجسم واحدٍ متصلٍ فيُحَسُّ حركتُه بالقياس إليه في غاية البُطء وإن كانت في نفس الأمر على غاية السرعة قال قائلهم... وأرعنَ مثلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهم... قوف لِجاجٌ والركابُ تُهملَج...
ونصبُه إما على حالٌ من مفعول لقِيتم أي زاحفين نحوَكم وإما على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لفعل مضمرٍ هو الحالُ منه أي يزحَفون زحفاً وأما كونُه حالاً من فاعله أو منه ومن مفعوله معاً كما قيل فيأباه قوله تعالى
﴿فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادبار﴾ إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابقِ إلى العدو أو بكثرتهم بل توجُّهُ العدوِّ إليهم وكثرتُهم هو الداعي إلى الإدبار عادةً والمُحوِجُ إلى النهي عنه وحملُه على الإشعار بما سيكون منهم يومَ حُنينٍ حيث تَوَلَّوا مدْبرين وهم زحفٌ من الزحوف اثنا عشر ألفاً بعيدٌ والمعنى إذا لقِيتموهم للقتال وهم كثيرٌ جمٌّ وأنتم قليلٌ فلا تولوهم أدبارَكم فضلاً عن الفرار بل قابلوهم وقاتِلوهم مع قلتكم فضلاً عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم
﴿وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ﴾ أي يوم اللقاء
﴿دُبُرَهُ﴾ فضلاً عن الفرار وقرىء بسكون الباء
﴿إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ﴾ إما بالتوجه إلى قتال طائفةٍ أخرى أهم من هؤلاء وإما بالفرّ للكرّ بأن يخيل عدوه أنه منهزمٌ ليغُرَّه ويُخرِجَه من بين أعوانه ثم يعطِفَ عليه وحدَه أو مع مَنْ في الكمين من أصحابه وهو باب من خِدعِ الحربِ ومكايدِها
﴿أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ﴾ أي منحازاً إلى جماعة أخرى من المؤمنين لينضمّ إليهم ثم يقاتلَ معهم العدو
عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال إن سريةً فرّوا وأنا معهم فلما رجعوا إلى المدينة استحيَوْا ودخلوا البيوتَ فقلت يا رسولَ الله نحن الفرارون فقال ﷺ بل أنتم العكّارون أي الكرارون من عكر أي رجع وأنا فئتُكم
وانهزم رجلٌ من القادسية فأتى المدينة إلى عمرَ رضي الله عنه فقالَ يا أميرَ المؤمنينَ هلكتُ ففرَرْتُ من الزحف فقال رضي الله عنه أنا فئتُك ووزنُ متحيِّز متفيعل لا متفعّل وإلا لكان متحوزاً لأنه من حاز يجوز وانتصابُهما إما على الحالية وإلا لغولا عمَلَ لها وإما على الاستثناء من المُولّين أي ومن يولهم دبرَه إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً
﴿فَقَدْ بَاء﴾ أي رجع
﴿بِغَضَبٍ﴾ عظِيمٌ لا يُقادرُ قَدرُه ومِنْ في قولِه
12
تعالى ﴿مِنَ الله﴾ متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لغضب مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامة والهولِ بالفخامة الإضافيةِ أي بغضب كائنٍ منه تعالى
﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ أي بدلَ ما أراد بفراره أن يأويَ إليه من مأوى ينجيه من القتل
﴿وَبِئْسَ المصير﴾ في إيقاع البَوْءِ في موقع جوابِ الشرطِ الذي هو التوليةُ مقروناً بذكر المأوى والمصير من الجزالة ما لا مزيدَ عليه
عن عباس رضي الله عنهما أن الفرارَ من الزحف من أكبر الكبائرِ وهذا إذَا لم يكُن العدوُّ أكثرَ من الضِّعف لقوله تعالى الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ الآية وقيل الآية مخصوصةٌ بأهل بيتهِ والحاضرين معه في الحرب
سورة الأنفال من الآية (١٧)
13
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ رجوعٌ إلى بيان بقيةِ أحكام الواقعة وأحوالِها وتقريرُ ما سبق منها والفاءُ جوابُ شرطٍ مقدر يستدعيه مامر من ذكر إمدادِه تعالى وأمرِه بالتثبيت وغيرِ ذلك كأنَّه قيلَ إذَا كانَ الأمرُ كذلك فلم تقتُلوهم أنتم بقوتكم وقدرتِكم
﴿ولكن الله قَتَلَهُمْ﴾ بنصركم وتسليطِكم عليهم وإلقاءِ الرعب في قلوبهم ويجوز أن يكون التقدير إذا علمتم ذلك فلم تقتُلوهم أي فاعلَموا أو فأُخبركم أنكم لم تقتُلوهم وقيل التقديرُ إن افتخرتم ثم بقتلهم فلم تقتُلوهم على أحد التأويلين لما رُوي أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غانمين أقبلوا يتفاخرون يقولون قتلتُ وأسرتُ وفعلتُ وتركتُ فنزلت وقد كان رسولُ الله ﷺ حين طلعت قريشٌ من العقنقل قال هذه قريشٌ جاءت بخُيلائها وفخرِها يكذّبون رسولَك اللهم إني أسألك ما وعدتي فأتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقال خُذْ قبضةً من تراب فارمِهم بها فلما التقى الجمعانِ قال لعلي رضي الله عنه أعطني قبضةً من حصباءِ الوادي فرمى بها في وجوههم وقال شاهت الوجوهُ فلم يبْقَ مُشركٌ إلا شُغل بعينيه فانهزموا وذلك قوله عز وجل بطريق تلوينِ الخطاب
﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى﴾ تحقيقاً لكون الرمي الظاهرِ على يده ﷺ حينئذ من أفعاله عز وجل وتجريدُ الفعلِ عن المفعول به لما أن المقصودَ الأصليَّ بيانُ حالِ الرمي نفياً وإثباتاً إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغيّر المرميِّ به في نفسه وتكثّرِه إلى حيث أصاب عينَيْ كلِّ واحد من أولئك الأمةِ الجمّةِ شيءٌ من ذلك أي وما فعلت أنت يا محمدُ تلك الرميةَ المستتبِعةَ لهذه الآثارِ العظيمةِ حقيقةً حين فعلتَها صورةً وإلا لكان أثرُها من جنس آثارِ الأفاعيلِ البشرية ولكن الله فعلها أي خلقها حين باشَرْتها لكن لا على نهج عادتِه تعالى في خلق أفعالِ العبادِ بل على وجه غيرِ معتادٍ ولذلك أثرت هذا التأثيرَ الخارجَ عن طوق البشرِ ودائرةِ القُوى والقدر فمدارُ إثباتِها لله تعالى ونفِيها عنه ﷺ كونُ أثرِها من أفعالِه ﷺ وقرىء ولكنِ الله بالتخفيف والرفع في المحلين واللام في قوله تعالى
﴿وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ﴾ أي ليعطيهم من عنده تعالى
﴿بَلاء حَسَنًا﴾ أي عطاءً جميلاً غيرَ مَشوبٍ بمقاساة الشدائدِ والمكاره إما متعلقةٌ بمحذوف متأخرٍ فالواوُ اعتراضيةٌ أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعلَ ما فعل لا لشيء غير ذلك مما لا يجديهم نفعا وإما يرمي فالواوُ للعطف على علةٍ محذوفةٍ أي ولكن الله رمى ليمحَق الكافرين وليُبلي إلخ وقولُه تعالَى
﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ﴾
13
أي لدعائهم واستغائتهم
﴿عَلِيمٌ﴾ أي بنياتهم وأحوالِهم الداعيةِ إلى الإجابة تعليلٌ للحكم
سورة الأنفال من الآيات (١٨ ٢٠)
14
﴿ذلكم﴾ إشارة إلى البلاء الحسنِ ومحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقولُه تعالى
﴿وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين﴾ بالإضافة معطوفٌ عليه أي المقصِدُ إبلاءُ المؤمنين وتوهينُ كيدِ الكافرين وإبطالُ حِيلِهم وقيل المشارُ إليه القتلُ والرميُ والمبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل فيكونُ قولُه تعالَى وَأَنَّ الله الآية من قبيل عطفِ البيانِ وقرىء مُوهِّن بالتنوين مخففاً ومشدداً ونصبِ كيد الكافرين
﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ﴾ خطابٌ لأهل مكةَ على سبيلِ التهكمِ بهم وذلك أنهم حين أرادوا الخروجَ تعلقوا بأستار الكعبةِ وقالوا اللهم انصُرْ أعلى الجُندَيْن وأهدي الفئتين وأكرمَ الحِزبين أي إن تستنصروا لأعلى الجندين
﴿فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح﴾ حيث نصَر أعلاهما وقد زعمتم أنكم الأعلى فالتهكمُ في المجيء أو فقد جاءكم الهزيمةُ والقهرُ فالتهكم في نفس الفتحِ حيث وضع موضعَ ما يقابله
﴿وَإِن تَنتَهُواْ﴾ عما كنتم عليه من الحراب ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم
﴿فَهُوَ﴾ أي الانتهاء
﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي من الحِراب الذي ذُقتم غائلته لِما فيه من السلامة من القتل والأسرِ ومبنى اعتبارِ أصلِ الخيرية في المفضل عليه هو التهكم
﴿وَإِن تَعُودُواْ﴾ أي إلى حِرابه صلى الله عليه وسلم
﴿نَعُدُّ﴾ لما شاهدتموه من الفتح
﴿وَلَن تُغْنِىَ﴾ بالتاء الفوقانية وقرى بالياء التحتانية لأن تأنيثَ الفئةِ غيرُ حقيقي وللفصل أي لن تَدفعَ أبداً
﴿عَنكُمْ فِئَتُكُمْ﴾ جماعتُكم التي تجمعونهم وتستعينون بهم
﴿شَيْئاً﴾ أي من الإغناء أو من المضار وقوله تعالى
﴿وَلَوْ كَثُرَتْ﴾ جملةٌ حالية وقد مر التحقيق
﴿وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين﴾ أي ولأن الله معينُ المؤمنين كان ذلك أو والأمرُ أن الله مع المؤمنين ويقرب منه بحسب المعنى قراءةُ الكسر على الاستئناف وقيل الخطاب للمؤمنين والمعنى إن تستنصِروا فقد جاءكم النصرُ وإن تنتهوا عن التكاسل والرغبةِ عما يرغّب فيه الرسول ﷺ فهو خير لكم من كل شيء لما أنه مناطٌ لنيل سعادة الدارين وإن تعودوا إليه نعُدْ عليكم بالإنكار وتهييجِ العدو ولن تغنيَ حينئذٍ كثرتُكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر والأمرُ أن الله مع الكاملين في الإيمان
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ﴾ بطرح إحدى التاءين وقرىء بإدغامها
﴿عَنْهُ﴾ أي لا تتولوا عن الرسول فإن المرادَ هو الأمرُ بطاعته والنهيُ عن الإعراض عنه وذكرُ طاعتِه تعالى للتمهيد والتنبيه على أن طاعتَه تعالى في طاعة رسوله ﷺ مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وقيل الضمير للجهاد وقيل للأمر الذي دل عليه الطاعة وقوله تعالى
﴿وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ جملةٌ حالية واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقاً كما في قوله تعالى فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ لا لتقييد النهي
14
عنه بحال السماع كما في قوله تعالى لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى أي لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع فهم وإذعان
سورة الأنفال من الآيات (٢١ ٢٣)
15
﴿وَلاَ تَكُونُواْ﴾ تقريرٌ للنهي السابق وتحذيرٌ عن مخالفته بالتنبيه على أنها مؤديةٌ إلى انتظامِهم في سِلك الكفرةِ بكون سماعِهم كَلا سماعٍ أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي
﴿كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا﴾ بمجرد الادعاءِ من غير فهمٍ وإذعان كالكفرة والمنافقين الذين يّدعون السماعَ
﴿وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ حالٌ من ضمير قالُوا أي قالوُا ذلكَ والحالُ أنهم لا يسمعون حيث لا يصدّقون ما سمعوه ولا يفهمونه حقَّ فهمِه فكأنهم لا يسمعونه رأساً
﴿إِنَّ شَرَّ الدواب﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ كمالِ سوءِ حالِ المشبه بهم مبالغةً في التحذير وتقريرا للنهي إثرَ تقريرٍ أي إن شرَّ ما يدب على الأرض أو شرَّ البهائم
﴿عَندَ الله﴾ أي في حكمه وقضائه
﴿الصم﴾ الذين لا يسمعون الحق
﴿البكم﴾ الذي لا ينطِقون به وُصفوا بالصمم والبَكَم لأن ما خُلق له الأذنُ واللسانُ سماعُ الحق والنطقِ به وحيث لم يوجد فيهم شيءٌ من ذلك صاروا كأنهم فاقدون للجارحتين رأساً وتقديم الصمِّ على البكم لما أن صممهم متقدمٌ على بُكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدمِ سماعِهم له كما أن النطقَ به من فروعِ سماعِه ثم وُصفوا بعدم التعقل فقيل
﴿الذين لاَ يَعْقِلُونَ﴾ تحقيقاً لكمال سوءِ حالِهم فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان له عقلٌ ربما يفهم بعضَ الأمور ويُفهمُه غيرُه بالإشارة ويهتدي بذلك إلى بعض مطالبِه وأما إذا كان فاقداً للعقل أيضاً فهو الغايةُ في الشرّية وسوءِ الحال وبذلك يظهرُ كونُهم شراً من البهائم حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها وبه يفضّلون على كثير من خلقِ الله عزَّ وجلَّ فصاروا أخسّ من كل خسيس
﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا﴾ شيئاً من جنس الخيرِ الذي من جملته صرفُ قواهم إلى تحرّي الحقِّ واتباعِ الهدى
﴿لاسْمَعَهُمْ﴾ سماع تفهم وتدبر ولو قفوا على حقية الرسول ﷺ وأطاعوه وآمنوا به ولكن لم يعلم فيهم شيئاً من ذلك لخلوّهم عنه بالمرة فلم يُسمِعْهم كذلك لخلوه عن الفائدة وخروجِه عن الحكمة وإليه أُشير بقوله تعالى
﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ﴾ أي لو أسمعهم سماعَ تفهّمٍ وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية لتولّوا عما سمِعوه من الحق ولم ينتفعوا به قطُّ أو ارتدوا بعد ما صدقوه وصاروا كأن لم يسمعوه أصلاً وقوله تعالى
﴿وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ إما حالٌ من ضمير تولوا أي لتولوا على أدبارهم والحالُ أنهم معرضون عما سمعوه بقلوبهم وإما اعتراضٌ تذييلىٌّ أي وهم قوم عادتهم الإعراض وقيل كانُوا يقولون لرسولِ الله ﷺ أحّيِ قُصَيّاً فإنه كان شيخَاً مباركاً حتى يشهدَ لك ونؤمنَ بك فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصيَ الخ وقيل هم بنو عبدِ الدار بن قصي لم يُسلم منهم إلا مصعبُ بنُ عميرٍ وسويدُ بن حرْملة كانوا يقولون نحن صمٌّ بكمٌ
15
عميٌ عما جاء به محمدٌ لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقُتلوا جميعاً بأحد وكانوا أصحابَ اللواءِ وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسنِ رضيَ الله عنه أنهم أهل الكتاب
سورة الأنفال من الآيات (٢٤ ٢٥)
16
﴿يَا أيُّهَا الذينَ آمَنُواْ﴾ تكريرُ النداء مع وصفهم بنعت الإيمانِ لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يردُ بعدَه من الأوامر وتنببههم على أنَّ فيهمْ ما يوجبُ ذلك ٢
﴿استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ بحسن الطاعة
﴿إِذَا دَعَاكُمْ﴾ أي الرسولُ إذ هو المباشرُ لدعوة الله تعالى
﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ من العلوم الدينيةِ التي هي مناطُ الحياة الأبدية كما أن الجهَل مدارُ الموتِ الحقيقيِّ أو هي ماءُ حياةِ القلبِ كما أن الجهلَ موجبٌ موتَه وقيل لمجاهدة الكفارِ لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم كما في قوله تعالى وَلَكُمْ فِي القصاص حياة
روي أنه ﷺ مر على أُبيَّ بن كعب وهو يصلي فدعاه فعجّل في صلاته ثم جاء فقال ﷺ ما منعك من إجابتي قال كنت في الصلاة قال ألم تخبَرْ فيما أوحِيَ إلي استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ الخ واختلف فيه فقيل هذا من خصائص دعائه ﷺ وقيل لأن إجابته ﷺ لا تقطع الصلاةَ وقيل كان ذلك الدعاءُ لأمر مهمَ لا يحتمل التأخيرَ وللمصلي أن يقطع الصلاةَ لمثله
﴿واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ﴾ تمثيلٌ لغاية قربِه تعالى من العبد كقوله تعالى وَنَحْنُ أقربُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد وتنبيهٌ على أنه تعالى مطلعٌ من مكنونات القلوب على ما عسى يغفُل عنه صاحبُها أو حثٌّ على المبادرة إلى إخلاص القلوبِ وتصفيتِها قبل إدراك المنيةِ فإنها حائلةٌ بين المرء وقلبِه أو تصويرٌ وتخييلٌ لتملّكه على العبد قلبَه بحيث يفسخ عزائمهُ ويغيّر نياتِه ومقاصدَه ويحول بينه وبين الكفر إن إراد سعادتَه ويبدله بالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً وما أشبه ذلك من الأمور المعترضةِ المفوتةِ للفرصة وقرىء بين المرِّ بتشديد الراء على حذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على الراء وإجراء الوصل مجرى الوقف وأنه أي الله عزَّ وجلَّ أو الشأن إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتبِ أعمالِكم فسارعوا إلى طاعته تعالى وطاعةِ رسولِه وبالغوا في الاستجابة لهما
﴿واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً﴾ أي لا تختصّ إصابتُها بمن يباشر الظلمَ منكم بل يعُمه وغيرَه كإقرار المُنكَر بين أظهُرِهم والمداهنةِ في الأمر والنهي عن المنكر وافتراقِ الكلمةِ وظهورِ البدع والتكاسلِ في الجهاد على أن قوله لا تصيبن الخ إما جوابُ الأمر على معنى أن إصابتكم لا تصيبن الخ وفيه أن جوابَ الشرط مترددٌ فلا يليق به النونُ المؤكدةُ لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ فيه كقوله تعالى ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ وإما صفةٌ لفتنة ولا للنفي وفيه شذوذٌ لأن النون لا تدخُل المنفيَّ في غير القسمِ أو للنهي على إرادة القولِ كقول من قال... حتى إذا جَنّ الظلامُ واختلط... جاءوا بمذق هل رأيت الذنب قطّ...
وإما جوابُ قسم محذوفٍ كقراءة من قرأ لتصيبن وإن اختلف المعنى فيهما وقد جُوِّز أن يكون نهياً عن التعرض للظلم بعد الأمرِ باتقاء الذنبِ فأن
16
وبالَه يصيب الظالمَ خاصةً ويعود عليه ومِنْ في منكم على الوجوه الأُوَلِ للتبعيض وعلى الآخيرين للتبيين وفائدتُه التنبيهُ على أن الظالم منكم أقبحُ منه من غيركم
﴿واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشِرْ سببه
سورة الأنفال من الآيات (٢٦ ٢٧)
17
﴿واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ﴾ أي وقتَ كونِكم قليلاً في العدد وإيثارُ الجملةِ الاسمية للإيذان باستمرار ما كانُوا فيه من القلة وما يتبعها من الضعف والخوف وقوله تعالى
﴿مُّسْتَضْعَفُونَ﴾ خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ لقليل وقوله تعالى
﴿فِى الأرض﴾ أي في أرض مكةَ تحت أيدى قريشٍ والخطابُ للمهاجرين أو تحت أيدي فارسَ والرومَ والخطاب للعَرَب كافةً فإنهم كانوا أذلاء تحت أيدي الطائفتين وقوله تعالى
﴿تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس﴾ خبرٌ ثالثٌ أو صفةٌ ثانية لقليلٌ وُصِفَ بالجملة بعد ما وصف بالمُفرد أو حالٌ من المستكنِّ في مستضعفون والمرادُ بالناس على الأول وهو الأظهرُ إما كفارُ قريشٍ وإما كفارُ العرب لقربهم منهم وشدة عدواتهم لهم وعلى الثاني فارس والروم أي واذكروا وقت قِلتِكم وذِلتكم وهَوانِكم على الناس وخوفِكم من اختطافهم
﴿فَآوَاكُمْ﴾ إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم
﴿وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ﴾ على الكفار أو بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة
﴿وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات﴾ من الغنائم
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ هذه النعم الجليلة
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول﴾ أصلُ الخَوْنِ النقصُ كما أن الأصل الوفاءِ التمام واستعمالهُ في ضد الأمانة لتضمنه إياه أي لا تخونوهما بتعطيل الفرائضِ والسنن أو بأن تُضمِروا خلافَ ما تظهرون أو في الغلول في الغنائم روى أنه ﷺ حاصَر بني قُريظةَ إحدى وعشرين ليلةً فسألوا الصُّلْحَ كما صالح بني النضيرِ على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرِعاتٍ وأريحاءَ من الشام فأبى إلا أن ينزِلوا عَلى حُكم سُعد بن معاذٍ رضيَ الله عنِهُ فأبوا وقالوا أرسل إلينا أبا لُبابةَ وكان مناصِحاً لهم لِما أن ماله وعيالَه كانا في أيديهم فبعثه إليهم فقالوا ما ترى هل ننزل على حُكم سعدٍ فأشار إلى حلقه إنه الذبحُ قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أني خُنتُ الله ورسولَه فنزلت فشد نفسَه على سارية من سواري المسجدِ وقال والله لا أذوقُ طعاماً ولا شراباً حتى أموتَ أو يتوبَ الله عليّ فمكث سبعةَ أيامٍ حتى خرَّ مغشياً عليه ثم تاب الله عليه فقيل له قد تيبَ عليك فحُلَّ نفسَك قال لا والله لا أحُلّها حتى يكونَ رسولُ الله ﷺ هو الذي يحُلّني فجاءه ﷺ محله فقال إن من تمام توبتي أن أهجُرَ دارَ قومي التي أصبتُ فيها الذنبَ وأن أنخلِع من مالي فقال ﷺ بحزئك الثلثُ أن تتصدقَ به
﴿وَتَخُونُواْ أماناتكم﴾ فيما بينكم وهو مجزومٌ معطوفٌ على الأول أو منصوبٌ على الجواب بالواو
﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
17
أنكم تخونون أو أنتم علماءُ تميِّزون الحسنَ من القبيح
سورة الأنفال من الآيات (٢٨ ٣٠)
18
﴿واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ﴾ لأنها سببُ الوقوعِ في الإثم والعقاب أو محنة من الله عز وجل ليبلُوَكم في ذلك فلا يحمِلَنّكم حبُّهما على الخيانة كأبي لُبابة
﴿وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ لمن آثرَ رضاه تعالى عليهما وراعى حدودَه فيهما فنيطوا هِممَكم بما يؤديكم إليه
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ﴾ تكريرُ الخطابِ والوصفِ بالإيمان لإظهار كمالِ العنايةِ بما بعده والإيذانِ بأنه مما يقتضي الإيمانُ مراعاتَه والمحافظةَ عليه كما في الخطابين السابقين
﴿إَن تَتَّقُواْ الله﴾ أي في ما تأتونَ وما تذرونَ
﴿يَجْعَل لَّكُمْ﴾ بسبب ذلك
﴿فُرْقَانًا﴾ هدايةً في قلوبكم تفرِّقون بها بينَ الحقِّ والباطلِ أو نصراً يفرّق بين المُحِقِ والمُبطل بإعزاز المؤمنين وإذلالِ الكافرين أو مخرجاً من الشبهات أو نجاةً عما تحذرون في الدارين أو ظهوراً يشهَرُ أمرَكم وينشرُ صِيتَكم من قولهم بتّ أفعلُ كذا حتى سطح الفُرقانُ أي الصبح
﴿وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ﴾ أي يسترها
﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ذنوبَكم بالعفو والتجاوزِ عنها وقيل السيئاتُ الصغائرُ والذنوبُ الكبائرُ وقيل المرادُ ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى لهم وقولُه تعالى
﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ تعليلٌ لما قبله وتنبيهٌ على أنَّ ما وعده الله تعالى لهم على التقوى تفضّلٌ منه وإحسانٌ لا أنه مما يوجبه التقوى كما إذا وعد السيدُ عبدَه إنعاماً على عمل
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ﴾ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم معطوف على قوله تعالى واذكروا إِذْ أَنتُمْ الخ مسوق لتذكير النعمة الخاصة به ﷺ بعد تذكير النعمةِ العامةِ للكل أي واذكر وقتَ مكِرهم بك
﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾ بالوَثاق ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ ليقيدوك أو الإثخانِ بالجرح من قولهم ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح وقرىء ليثبّتوك بالتشديد وليبّيتوك من البيات
﴿أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾ أي بسيوفهم
﴿أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ أي من مكة وذلكَ أنَهُم لَمَّا سمعُوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم له ﷺ فرِقوا واجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمره ﷺ فدخل إبليسُ عليهم في صورة شيخٍ وقال أنا من نجد سمعتُ باجتماعكم فأردت أن أحضُركم ولن تعدَموا منى رأياً ونُصحاً فقال أبو البَحْتري رأيي أن تحبِسوه في بيت وتسدّوا منافذه غيرَ كوّةٍ تلقون إليه طعامَه وشرابَه منها حتى يموت فقال الشيخ بئسُ الرأيُ يأتيكم من يقاتلُكم من قومه ويخلِّصه من أيديكم فقال هشامُ بنُ عمْرو رأيي أن تحمِلوه على جمل وتخوجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع فقال وبئس الرأي يُفِسدُ قوماً غيرَكم ويقاتلكم بهم فقال أبو جهل أنا أرى أن تأخُذوا
18
من كل بطنٍ غلاماً وتعطوه سيفاً فيضرِبوه ضربةً واحدة فيتفرقَ دمُه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريشٍ كلِّهم فإذا طلبوا العقلَ عقَلْناه فقال صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه فأتى جبريلُ النبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وأخبره بالخبر وأمره بالهجرة فبيّت علياً رضي الله تعالى عنه على مضجعه وخرج هو مع أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ إلى الغار
﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله﴾ أي يرد مكرَهم عليهم أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملةَ الماكرين وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حمَلوا عليهم فلقُوا منهم ما لقُوا
﴿والله خَيْرُ الماكرين﴾ لا يُعبأ بمكرهم عند مكرِه وإسنادُ أمثالِ هذا إليه سبحانه مما يحسن للمشاكلة ولا مساغَ له ابتداءً لما فيهِ من إيهامِ ما لا يليقُ به سبحانه
سورة الأنفال من الآيات (٣١ ٣٣)
19
﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا﴾ التي حقها أن يخِرَّ لها صُمُّ الجبال
﴿قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا﴾ قاله اللعين النضر بن الحرث وإسنادُه إلى الكل لما أنه كان رئيسَهم وقاضيَهم الذي يقولون بقوله ويأخُذون برأيه وقيل قاله الذين ائتمروا في أمره ﷺ في دار الندوة وهذا كما ترى غايةُ المكابرة ونهايةُ العِناد كيف لا ولو استطاعوا شيئاً من ذلك فما الذي كان يمنعهم من المشيئة وقد اتحدوا عشرَ سنين وقُرعوا على العجز وذاقوا من ذلك الأمرَّيْن ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنَفتهم وفرْطِ استنكافِهم أن يُغلَبوا لاسيما في باب البيان
﴿إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين﴾ أي ما يسطرونه من القصص
﴿وإذ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هَذا هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ هذا أيضاً من أباطيل ذلك اللعين
روي أنه لما قال إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين قال له النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ويلَك أنه كلامُ الله تعالى فقال ذلك والمعنى أن القرآن إن كان حقاً منزلاً مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا الحجارةَ عقوبةً على إنكارنا أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ سواه والمرادُ منه التهكمُ وإظهارُ اليقينِ والجزمِ التامِّ على أنه ليس كذلك وحاشاه وقرىء الحقُّ بالرفع على أن هو مبتدأ لأفضل وفائدةُ التعريفِ فيه الدِلالةُ على أن المعلق به كونُه حقاً على الوجه الذي يدعيه ﷺ وهو تنزيلُه لا الحقُّ مطلقاً لتجويزهم أن يكون مطابقاً للواقع غيرَ منزلٍ كالأساطير
﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ جوابٌ لكلمتهم الشنعاءِ وبيانٌ للموجِب لإمهالهم والتوقفِ في إجابة دعائِهم واللامُ لتأكيد النفي والدِلالةِ على أن تعذيبَهم عذابَ استئصال والنبي ﷺ بين أظهرِهم خارجٌ عن عادته تعالى غيرُ مستقيمٍ في حُكمه وقضائه والمرادُ باستغفارهم في قوله تعالى
﴿وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ إما استغفارُ مَنْ بقِيَ منهم من المؤمنين أو قولُهم اللهم
19
اغفِرْ أو فرضُه على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بظلم وأهلها مصلحون
سورة الأنفال من الآيات (٣٤ ٣٦)
20
﴿وما لهم ألا يُعَذّبْهُمُ الله﴾ بيانٌ لاستحقاقهم العذابَ بعد بيانِ أن المانعَ ليس من قِبَلهم أي وما لهم مما يمنع تعذيبَهم متى زال ذلك وكيف لا يعذّبون
﴿وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام﴾ أي وحالُهم ذلك ومن صدهم عند إلجاء رسول الله ﷺ إلى الهجرة وإحصارُهم عام الحديبية
﴿وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ﴾ حالٌ من ضمير يصدون مفيدةٌ لكمال قُبحِ ما صنعوا من الصد فإن مباشرتَهم للصد عنه مع عدم استحقاقِهم لولاية أمرِه في غاية القُبح وهو ردٌّ لما كانوا يقولون نحنُ ولاةُ البيتِ والحرم فنصد من نشاء ونُدخِل من نشاء
﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون﴾ من الشرك الذين لا يعبُدون فيه غيرَه تعالى
﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أنه لا ولايةَ لهم عليه وفيه إشعارا بأن منهم من يعلم ذلك ولكنه يعاند وقيل أريد بأكثرهم كلُّهم كما يراد بالقلة العدم
﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت﴾ أي دعاؤهم أو ما يسمونه صلاةً أو ما يضعون موضعها
﴿إِلاَّ مُكَاءً﴾ أي صفيراً فُعال من مكا يمكو إذا صفر وقرئ بالقصر كالبُكى
﴿وَتَصْدِيَةً﴾ أي تصفيقاً تفعِلةً من الصَّدَى أو من الصدّ على إبدال أحدِ حرفي التضعيف بالياء وقرئ صلاتَهم بالنصب على أنه الخبر لكان مساق الكلام لتقرير استحقاقِهم العذابَ أو عدمِ ولايتِهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاتُه
رُوي أنهم كانوا يطوفون عراةً الرجالُ والنساء مشبكين بين أصابعِهم يصفرون فيها ويصفقون وقيل كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أن يصلي يخلِطون عليه ويُرَون أنهم يصلون أيضاً
﴿فَذُوقُواْ العذاب﴾ أي القتلَ والأسرَ يومَ بدرٍ وقيل عذابَ الآخرة واللامُ يحتمل أن تكون للعهد والمعهودُ ائتنا بعذاب أليم
﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ اعتقاداً وعملاً
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ نزلت في المطعِمين يوم بدر وكانوا اثنيْ عشَرَ رجلاً من قريش يطعم كل واحد منهم كلَّ يوم عشْرَ جُزُرٍ أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحُد ألفين سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أو قية أو في أصحاب العِير فإنه لما أصيب قريش يوم بدر قيل لهم أعينوا بهذا المالِ على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرَنا منه ففعلوا والمرادُ بسبيل الله دينُه واتباعُ رسوله
﴿فَسَيُنفِقُونَهَا﴾ بتمامها ولعل الأول إخبارٌ عن إنفاقهم في تلك الحالِ وهو إنفاقُ يوم بدرٍ والثاني إخبارٌ عن إنفاقهم فيما يُستقبل وهو إنفاقُ يوم أحدٍ ويحتمل أنْ يُرادَ بهما واحدٌ على أن مساق الأول لبيان الغرضِ من الانفاق ومساق الثاني لبيان عاقبتِه وأنه لم يقع بعد
﴿ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾
20
ندماً وغماً لفواتها من غير حصول المقصودِ جُعل ذاتُها حسرة وهي عاقبةُ إنفاقها مبالغةً
﴿ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ آخرَ الأمر وإن كان الحربُ بينهم سجالاً قبل ذلك
﴿والذين كَفَرُواْ﴾ أي تموا على الكفر وأصروا عليه
﴿إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ أي يساقون لا إلى غيرها
سورة الأنفال من الآيات (٣٧ ٤٠)
21
﴿لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب﴾ أي الكافر من المؤمن أو الفسادَ من الصلاح واللامُ متعلقةٌ بيحشرون أو بيغلبون أو ما أنفقه المشركون في عداوته ﷺ مما أنفقه المسلمون في نُصرته واللامُ متعلقةٌ بقوله ثم تكون عليهم حسرة وقرئ ليميز بالتشديد للمبالغة
﴿وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً﴾ أي يضم بعضَه إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامِهم فيجمعه أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابَه كما للكافرين
﴿فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ﴾ كلَّه
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى الخبيث إذ هو عبارةٌ عن الفريق أو إلى المنفقين وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ ببُعد درجتِهم في الخبث
﴿هُمُ الخاسرون﴾ الكاملون في الخسران لأنهم خسِروا أنفسَهم وأموالَهم
﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ هم أبو سفيانَ وأصحابُه أي قل لأجلهم
﴿إِن يَنتَهُواْ﴾ عمَّا هُم فيهِ من معاداة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بالدخول في الإسلام
﴿يغفرُ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ من الذنوب وقرىء إن تنتهوا يُغفرْ لكم ويَغفِرْ لكم على البناءِ للفاعلِ وهو الله تعالى
﴿وَإِن يَعُودُواْ﴾ إلى قتالهم
﴿فَقَدْ مضت سنة الاولين﴾ الذين تحزّبوا على الأنبياءِ عليهم السلامُ بالتدبير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثلَ ذلك
﴿وقاتلوهم﴾ عطف على قل وقد عُمّم الخطابُ لزيادة ترغيبِ المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قولُه تعالى فقد مضت سنة الاولين من الوعيد
﴿حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي لا يوجَدَ منهم شركٌ
﴿وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ﴾ وتضمحِلَّ الأديانُ الباطلةُ إما بإهلاك أهلِها جميعاً أو برجوعهم عنها خشية القتل
﴿فَإِنِ انْتَهَوْاْ﴾ عن الكفر بقتالكم
﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامِهم وقرئ بتاء الخطاب أي بما تعملون من الجهاد المُخرِجِ لهم إلى الإسلام وتعليقُه بانتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشِرون بالمباشرة
﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ ولم ينتهوا عن ذلك
﴿فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ﴾ ناصرُكم فثِقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم
﴿نِعْمَ المولى﴾ لا يَضيعُ مَنْ تولاه
﴿وَنِعْمَ النصير﴾ لا يُغلب مَنْ نصره
21
سورة الأنفال من الآية (٤١)
22
﴿واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم﴾ عن الكلبي أنها نزلت ببدر وقال الواقدي كان الخُمسُ في غزوة بني قينُقاع بعد بدر بشهر وثلاثةِ أيامٍ للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة وما موصولةٌ وعائدُها محذوفٌ أي الذي أصبتموه من الكفار عُنوةً وأصلُ الغنيمة إصابةُ الغَنَم من العدو ثم اتُسع وأطلق على ما أصيب منهم كائناً ما كان وقوله تعالى
﴿مِن شَىْء﴾ بيانٌ للموصول محلُّه النصبُ على أنَّهُ حالٌ من عائد الموصول قصد به الاعتناءُ بشأن الغنيمة وأن لا يشِذُّ عنها شيءٌ أي ما غنِمتموه كائناً مما يقع عليه اسمُ الشيءِ حتى الخيطُ والمَخيطُ خلا أن سلَبَ المقتولِ للقاتل إذا نفّله الإمامُ وأن الأسارى يُخيَّر فيها الإمامُ وكذا الأراضي المغنومةُ وقوله تعالى
﴿فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ﴾ مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي فحق أو واجب أن له تعالى خُمسَه وهذه الجملةُ خبر لأنما الخ وقرئ بالكسر والأول آكَدُ وأقوى في الأيجاب لِما فيه من تكرر الإسنادِ كأنه قيل فلا بد من ثبات الخُمس ولا سبيل إلى الإخلال به وقرئ فلله خمسه وقرئ خمس بسكون الميم والجمهورُ على أن ذكرَ الله تعالى للتعظيم كما في قوله تعالى والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ وأن المرادَ قسمةُ الخُمس على المعطوفِين عليه بقوله تعالى ﴿وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ وإعادةُ اللامِ في ذي القربى دون غيرِهم من الأصناف الثلاثة لدفع توهُّمِ اشتراكِهم في سهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لمزيد اتصالهم به ﷺ وهم بنو هاشمٍ وبنو المطلب دون بني عبدِ شمس وبني نَوْفل لما روي عن عثمانَ وجبير بن مطعم رضي الله عنهما أنهما قالا لرسول الله ﷺ هؤلاء إخوتُك بنو هاشم لا نُنكر فضلَهم لمكانك الذي جعلك الله منهم أرأيتَ إخوانَنا بني المطلب أعطيتَهم وحرمتنَا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال ﷺ إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشمٍ وبنو المطلب شيءٌ واحد وشبّك بين أصابعِه وكيفيةُ قسمِتها عندنا أنها كانت في عهد رسولِ الله ﷺ على خمسة أسهم سهمٌ له ﷺ وسهمٌ للمذكورين من ذوي قرباه وثلاثةُ أسهمٍ للأصناف الثلاثة الباقية وأما بعده ﷺ فسهمُه ساقطٌ وكذا سهمُ ذوي القُربى وإنما يعطَوْن لفقرهم فهم أسوةٌ لسائر الفقراء ولا يُعطي أغنياؤهم فيقسم على الأصناف الثلاثة ويؤيده ما رُوي عن أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ أنه منع بني هاشمٍ الخمسَ وقال إنما لكم أن يُعطى فقيرُكم وتُزوَّجَ أيِّمُكم ويخدَمَ من لا خادم له منكم ومن عداهم فهو بمنزلة ابنِ السبيل الغني لا يعطى من الصدقة شيئاً وعن زيد بن علي مثله قال ليس لنا أن نبنيَ منه قصورا ولا نركَب منه البراذينَ وقيل سهم الرسول ﷺ لوليّ الأمرِ بعده وأما عند الشافعيِّ رحمَهُ الله فيقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله ﷺ يُصرف إلى ما كان يصرفه ﷺ من مصالح المسلمين كعُدّة الغُزاة من الكُراعِ والسلاح ونحوِ ذلك وسهمٌ لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائِهم يُقسم بينهم للذكر مثلُ حظ الأنثيين والباقي للفِرَق الثلاث
22
وعند مالك رحمه الله الأمرُ فيه مفوَّضٌ إلى اجتهاد الإمامِ إن رأى قسمَه بين هؤلاءِ وإن رأى أعطاه بعضاً منهم دون بعض وإن رأى غيرَهم أولى وأهمَّ فغيرُهم وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال يُقسم ستةَ أسهمٍ ويُصرف سهمُ الله تعالى إلى رتاج الكعبة لما روي أنه ﷺ كان يأخذ منه قبضةً فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسِمُ ما بقيَ على خمسة أسهمٍ وقيل سهمُ الله لبيت المال وقيل هو مضمومٌ إلى سهم الرسول ﷺ هذا شأنُ الخمسِ وأما الأخماسُ الأربعةُ فتقسم بين الغانمين للراجل سهمٌ وللفارس سهمان عند أبي حنيفة رضى الله عنه وثلاثةُ أسهم عندهما رحمهما الله
قال القرطبيُّ لما بين الله تعالى حكمَ الخمسِ وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين وقوله تعالى
﴿إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُم بِاللهِ﴾ متعلِّق بمحذوفٍ يُنبىء عنه المذكورُ أي إن كنتم آمنتم به تعالى فاعلموا أن الخمسَ من الغنيمة يجب التقربُ بهِ إلى الله تعالَى فاقطعوا أطماعَكم منه واقتنعوا بالأخماس الأربعة ليس المرادُ به مجردَ العلم بذلك بل العلمَ المشفوعَ بالعمل والطاعةِ لأمره تعالى
﴿وَمَا أَنزَلْنَا﴾ عطف على الاسم الجليل أي إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلناه
﴿على عبدنا﴾ وقرئ عُبُدِنا وهو اسمُ جمعٍ أريد به الرسول ﷺ والمؤمنون فإن بعضَ ما نزل نازلٌ عليهم بالذات كما ستعرفه
﴿يَوْمَ الفرقان﴾ يوم بدرٍ سمي به لفَرْقه بين الحقِّ والباطل وهو منصوبٌ بأنزلنا أو بآمنتم
﴿يَوْمَ التقى الجمعان﴾ أي الفريقان من المؤمنين والكافرين وهو بدلٌ من يومَ الفرقان أو منصوبٌ بالفرُقان والمرادُ ما أُنزل عليه ﷺ يومئذٍ من الوحي والملائكةِ والفتحِ على أن المرادَ بالإنزال مجردُ الإيصالِ والتيسير فينتظم الكلَّ انتظاماً حقيقياً وجعلُ الإيمانِ بإنزال هذه الأشياءِ من موجبات العلم بكون الخُمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث أن الوحيَ ناطقٌ بذلك وأن الملائكةَ والفتحَ لمّا كانا من جهته تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفةً إلى الجهات التي عينها الله تعالى
﴿والله على كُلّ شيء قَدِيرٌ﴾ يقدِر على نصر القليلِ على الكثير والذليلِ على العزيز كما فعل بكم ذلك اليوم
سورة الأنفال من الآية (٤٢)
23
﴿إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا﴾ بدلٌ ثانٍ من يومَ الفرقان والعُدوةُ بالضم شطُّ الوادي كذا بالفتح والكسر وقد قرئ بهما أيضاً
﴿وَهُم بالعدوة القصوى﴾ أي البُعدى من المدينة وهي تأنيثُ الأقصى وكان القياسُ قلبَ الواوِ ياءً كالدنيا والعليا مع كونهما من بنات الواو لكنها جاءت على الأصل كالقود واستُصوب وهو أكثرُ استعمالاً من القُصيا
﴿والركب﴾ أي العِيرُ أو قُوّادُها
﴿أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ أي في مكانٍ أسفلَ من مكانكم يعني الساحلَ وهو نصبٌ على الظرفية واقعٌ موقعَ الخبر والجملةُ حالٌ من الظرف قبله وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارِهم بالركب وحِرصِهم على المقاتلة عنها وتوطينِ نفوسِهم على أن لا يُخْلوا مراكزَهم ويبذُلوا منتهى جهدِهم وضعفِ شأن المسلمين والتياثِ أمرِهم واستبعادِ غَلَبتِهم عادةً وكذا ذكرُ مراكزِ الفريقين فإن العُدوةَ الدنيا كانت
23
رِخوةً تسوخُ فيها الأرجلُ ولا يمشى فيها إلا بتعب ولم يكن فيها ماءٌ بخلاف العُدوة القصوى وكذا قوله تعالى
﴿وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد﴾ أي لو تواعدتم أنتم وهم القتالَ ثم علمتم حالَكم وحالَهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هَيْبةً منهم ويأساً من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صُنعاً من الله عز وجل خارقاً للعادات فيزدادوا إيماناً وشكر وتطمئن نفوسُهم بفرض الخُمس
﴿ولكن﴾ جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد
﴿لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾ حقيقاً بأن يُفعل مِن نصْرِ أوليائِه وقهرِ أعدائِه أو مقدراً في الأزل وقوله تعالى ﴿لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بينة ويحيى مِنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ﴾ بدلٌ منه أو متعلقٌ بمفعولاً أي ليموتَ من يموتُ عن بينة عاينها ويعيشَ من يعيش عن بينة شاهدها لئلا يكونَ له حجةٌ ومعذرةٌ فإن وقعةَ بدرٍ من الآيات الواضحة أو ليصدُرَ كفرُ من كفر وإيمانُ من آمن عن وضوح بينةٍ على استعارة الهلاك والحياةِ للكفر والإيمان والمرادُ بمن هلك ومن حي المشارفُ للهلاكِ والحياة أو مَنْ حالُه في علم الله تعالى الهلاكُ والحياة وقرئ ليهلك بالفتح وحي بفك الإدغام حملاً على المستقبل
﴿وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي بكفر من كفر وعقابِه وإيمانِ من آمن وثوابِه ولعل الجمعَ بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد
الأنفال آيات (٤٣ ٤٤)
24
﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً﴾ منصوبٌ باذكُرْ أو بدلٌ آخرُ من يومَ الفرقان أو متعلقٌ بعليم أي يعلم المصالحَ إذ يقلّلهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكونَ تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم
﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ﴾ أي لجبُنتم وهِبتم الإقدام
﴿ولتنازعتم فِى الامر﴾ أي أمر القتال وتفرقتْ آراؤُكم في الثبات والفرار
﴿ولكن الله سَلَّمَ﴾ أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازعِ
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجُبن والصبر والجزَعِ ولذلك دبّر ما دبر ٢
﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً﴾ منصوبٌ بمضمرٍ خُوطب به الكلُّ بطريق التلوينِ والتعميم معطوفٍ على المُضمر السابقِ والضميرانِ مفعولا يُري وقليلاً حالٌ من الثاني وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين فقال أراهم مائة تثبيتاً لهم وتصديقاً لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم
﴿وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ﴾ حتى قال أبو جهل إنما أصحابُ محمد أكلةُ جَزور قللهم في أعينهم قبل التحامِ القتالِ ليجترئوا عليهم ولا يستعدّوا لهم ثم كثّرهم حتى رأوْهم مثليهم لِتُفاجِئَهم الكثرةُ فيُبهَتوا ويهابوا وهذه من عظائم آياتِ تلك الوقعةِ فإن البصرَ قد يرى الكثيرَ قليلاً والقليلَ كثيراً لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد وإنما ذلك بصد الله تعالى الأبصارَ عن إبصار بعضٍ دون بعض مع التساوي
24
في الشرائط ﴿لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾ كُرر لاختلاف الفعل المعلَّلِ به أو لأن المرادَ بالأمر ثَمةَ الالتقاءُ على الوجه المذكور وههنا إعزازُ الإسلام وأهلِه وإذلالُ الكفر وحِزبه
﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ كلُّها يصرِفها كيفما يريد لأراد لأمره ولا معقِّبَ لحُكمه وهو الحكيم المجيد
سورة الأنفال من الآيات (٤٥ ٤٧)
25
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ﴾ صدر الخطاب بحر في النداء والتنبيه إظهاراً لكمال الاعتناءِ بمضمون ما بعده
﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً﴾ أي حاربتم جماعةً من الكفرة وإنما لم يوصَفوا بالكفر لظهور أن المؤمنين لا يحارِبون إلا الكفَرة واللقاءُ مما غلبَ في القتال
﴿فاثبتوا﴾ أي للقائهم في مواطن الحربِ
﴿واذكروا الله كَثِيراً﴾ أي في تضاعيف القتال مستمدين منه مستعينين به مستظهِرين بذكره مترقّبين لنصره
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي تفوزون بمرامكم وتظفَرون بمُرادكم من النُّصرة والمَثوبةِ وفيه تنبيهٌ على أن العبدَ ينبغي أن لا يشغَلَه شيءٌ عن ذكرِ الله تعالى وأن يلتجيء إليه عند الشدائد ويُقبلَ إليه بكليته فارغَ البال واثقاً بأن لطفَه لا ينفكُّ عنه فِى حالٍ من الأحوالِ
﴿وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ في كل ما تأتون وما تذرون فيندرج فيه ما أمروا به ههنا اندراجاً أولياً
﴿وَلاَ تنازعوا﴾ باختلاف الآراءِ كما فعلتم ببدر أو أحُد
﴿فَتَفْشَلُواْ﴾ جوابٌ للنهي وقيل عطفٌ عليه
﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ بالنصب عطفٌ على جواب النهي وقرئ بالجزم على تقدير عطفِ فتفشلوا على النهي أي تذهبَ دولتُكم وشَوْكتُكم فإنها مستعارةٌ للدولة من حيث إنها في تمشّي أمرِها ونفاذِه مشبهةٌ بها في هُبوبها وجَرَيانها وقيل المرادُ بها الحقيقةُ فإن النُصرةَ لا تكون إلا بريح يبعثها الله تعالى وفي الحديث نصرت بالصبا وأهلكت عادٌ بالدَّبور
﴿واصبروا﴾ على شدائد الحرب
﴿إِنَّ الله مَعَ الصابرين﴾ بالنُصرة والكَلاءة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم إنما هي من حيث إنهم المباشرون للصبر فهم متّبعون من تلك الحيثية ومعيَّتُه تعالى إنما هي من حيث الإمدادُ والإعانة
﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم﴾ بعد ما أُمروا بَما أُمروا به من أحاسن الأعمالِ ونُهوا عما يقابلها من قبائحها والمرادُ بهم أهلُ مكةَ حين خرجوا لحماية العِير
﴿بَطَراً﴾ أي فخراً وأشَراً
﴿ورئاء الناس﴾ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وذلك أنهم لما بلغوا جَحفةَ أتاهم رسولُ أبي سفيان وقال ارجِعوا فقد سلِمت عِيرُكم فأبَوا إلا إظهارَ آثارِ الجلادة فلقُوا ما لقوا حسبما ذُكر في أوائل السورةِ الكريمة فنُهي المؤمنون أن يكونوا أمثالَهم مرائين بطِرين وأُمروا بالتقوى والإخلاص من حيث إن النهيَ عن الشيء مستلِزمٌ للأمر بضده
﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ عطفٌ على
25
بطرا إن جُعل مصدراً في موضع الحال وكذا إن جع مفعولاً له لكن على تأويل المصدر
﴿والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ فيجازيهم عليه
سورة الأنفال من الآيات (٤٨ ٤٩)
26
﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم﴾ منصوب بمصر خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم بطريقِ التلوينِ أيْ واذكُر وقتَ تزيينِ الشيطانِ أعمالَهم في معاداة المؤمنين وغيرِها بأن وسوس إليهم
﴿وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ﴾ أي ألقَى في رُوعِهم وخيّل إليهم أنهم لا يُغلبون ولا يطاقون لكثرة عددِهم وعُددهم وأوهمهم أن اتّباعَهم إياه فيما يظنون أنها قُربات مجيرٌ لهم حتى قالوا اللهمَّ انصُرْ إحدى الفئتين وأفضلَ الدينَين ولكم خبرُ لا غالب أو صفتُه وليس صلته وإلا لا نتصب كقولك لا ضارباً زيداً عندنا
﴿فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان﴾ أي تلاقى الفريقان
﴿نَكَصَ على عَقِبَيْهِ﴾ رجَع القهقرى أي بطل كيدُه وعاد ما خيَّل إليهم أنه مجيرُهم سبباً لهلاكهم
﴿وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ الله﴾ أي تبرأ منهم وخاف عليهم ويئِس من حالهم لما رأى إمدادَ الله تعالى للمسلمين بالملائكة وقيل لما اجتمعت قريشٌ على المسير ذَكَرت ما بينهم وبين كِنانةَ من الإحنةِ فكاد ذلك يَثْنيهم فتمثل لهم إبليسُ في صورة سُراقةَ بنِ مالك الكِناني وقال لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم من الناس وإني مجيرُكم من كِنانةَ فلما رأى الملائكةَ تنزِل نكَص وكان يده في يد الحرث بن هشام فقال له إلى أين أخذلتنا في هذه الحالة فقال إني أرى مالا ترون ودفع في صدر الحرث وانطلق فانهزموا فلما بلغوا مكةَ قالوا هزَم الناسَ سراقةُ فبلغه ذلك فقال والله ما شعَرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتُكم فلما أسلموا علِموا أنه الشيطانُ وعلى هذا يحتملُ أنُ يكون معنى قولهِ إني أخاف الله أخافه أن يُصيبَني بمكروه من الملائكة أو يُهلكَني ويكونُ الوقتُ هو الوقتُ الموعود إذ رأى فيه ما لم يرَه قبله والأول ما قاله الحسنُ واختاره ابن بحر
﴿والله شَدِيدُ العقاب﴾ يجوز أن يكون من كلامه أو مستأنفاً من جهةِ الله عزَّ وجل
﴿إِذْ يَقُولُ المنافقون﴾ منصوبٌ بزيّن أو بنكَص أو بشديد العقاب
﴿والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أي الذين لم تطمئن قلوبُهم بالإيمان بعد وبقيَ فيها نوعُ شبهة وقيل هم المشركين وقيل هم المنافقون في المدينة والعطفُ لتغايُر الوصفين كما في قوله... يا لَهفَ زيّابةَ للحارثِ الصابحِ فالغانم فالآديب... غَرَّ هَؤُلاء يعنون المؤمنين
﴿دِينَهُمُ﴾ حتى تعرّضوا لما لا طاقةَ لهم به فخرجوا وهم ثلثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ إلى زُهاء ألف
﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ جوابٌ لهم من جهتِه تعالى وردٌّ لمقالتهم
﴿فَإِنَّ الله عَزِيزٌ﴾ غالبٌ لا يذِلُّ من توكل
26
عليه واستجار به وإن قلَّ
﴿حَكِيمٌ﴾ يفعل بحكمته البالغةِ ما تستبعده العقولُ وتحار في فهمه ألبابُ الفحول وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة المذكور عليه
سورة الأنفال من الآيات (٥٠ ٥٢)
27
﴿وَلَوْ تَرَى﴾ أي ولو رأيتَ فإن لو الامتناعيةَ تردّ المضارعَ ماضياً كما أن إنْ تردّ الماضيَ مضارعاً والخطابُ إمَّا لرسولِ الله ﷺ أو لكل أحد ممن له حظٌّ من الخطاب وقد مرَّ تحقيقُه في قوله تعالى وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار وكلمةُ إذ في قوله تعالى
﴿إِذْ يَتَوَفَّى الذين كفروا الملائكة﴾ ظرفٌ لترى والمفعولُ محذوفٌ أي ولو ترى الكفرةَ أو حالَ الكفرةِ حين يتوفاهم الملائكةُ ببدر وتقديمُ المفعولِ للاهتمام به وقيل الفاعلُ ضميرٌ عائدٌ إلى الله عزَّ وجلَّ والملائكةُ مبتدأٌ وقوله تعالى
﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ﴾ خبرُه والجملةُ حالُ من الموصول قد استُغني فيها بالضَّميرِ عن الواوِ وهو على الأول حالٌ منه أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على ضميريهما
﴿وأدبارهم﴾ أي وأستاهَهم أو ما أَقبل منهم وما أَدبر من الأعضاء
﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾ على إرادة القولِ معطوفاً على يضربون أو حالاً من فاعلهِ أي ويقولون أو قائلين ذوقوا بشارةً لهم بعذاب الآخرة وقيل كانت معهم مقامِعُ من حديد كلما ضَربوا التهبت النارُ منها وجوابُ لو محذوفٌ للإيذان بخروجه عن حدود البيانِ أي لرأيتَ أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما ذكر من الضرب والعذابِ وما فيه من معنى البُعد للإشعار بكونهما في الغايةِ القاصيةِ من الهَولِ والفظاعةِ وهو مبتدأٌ خبرُه
﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي ذلك الضرب والعذاب واقعٌ بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي ومحلُّ أنَّ في قوله
﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ﴾ الرفعُ على أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ أي والأمرُ أنَّه تعالى ليس بمعذِّب لعبيدِه بغيرِ ذنبٍ منْ قِبلهم والتعبيرُ عن ذلك بنفيِ الظلمِ معَ أنَّ تعذيبَهم بغيرِ ذنبٍ ليس بظُلمٍ قطعاً على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ فضلاً عن كونِه ظُلماً بالغاً قد مر تحقيقُه في سورة آلِ عمرانَ والجملُة اعتراضٌ تذييليٌّ مقرر لمضمون ما قبلها وأمَّا ما قيلَ من أنها معطوفةْ على ما للدِلالة على أن سببيته مقيدةٌ بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبَهم بغير ذنوبهم فليس بسديد لما أن إمكانَ تعذيبِه تعالى لعبيده بغير ذنبٍ بل وقوعُه لا ينافي كونَ تعذيبِ هؤلاء الكفرةِ المعينة بسبب ذنوبِهم حتى يُحتاجَ إلى اعتبار عدمِه معه نعم لو كان المدعى كونَ جميعَ تعذيباتِه تعالى بسبب ذنوب المعذبين لاحتيج إلى ذلك
﴿كدأب آل فِرْعَوْنَ﴾ في محلِ الرفعِ على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف مَسوقٌ لبيان أن ما حلَّ بهم من العذاب بسبب كفرِهم لا بشيء آخرَ من جهة غيرِهم بتشبيه حالهم بحال
27
المعروفين بالإهلاك بسبب جرائمِهم لزيادة تقبيحِ حالِهم وللتنبيه على أن ذلك سنةٌ مطردةٌ فيما بين الأمم المهلَكةِ أي شأنُهم الذي استمروا عليه مما فعلوا وفُعل بهم من الأخذ كدأب آل فرعونَ المشهورين بقباحة الأعمالِ وفظاعةِ العذابِ والنكال
﴿والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي من قبل آلِ فرعونَ من الأمم التي فعلوا من المعاصي ما فعلوا ولقُوا من العقاب ما لقُوا كقومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم من أهل الكفر والعِناد وقولُه تعالى
﴿كَفَرُواْ بآيات الله﴾ تفسيرٌ لدأبهم الذي فعلوه لا لدأب آلِ فرعونَ ونحوِهم كما قيل فإن ذلك معلومٌ منه بقضية التشبيهِ وقوله تعالى
﴿فَأَخَذَهُمُ الله﴾ تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم والفاء لبيان كونِه من لوازم جناياتِهم وتبعاتِها المتفرِّعةِ عليها وقوله تعالى
﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾ لتأكيد ما أفاده الفاءُ من السببية مع الإشارةِ إلى أن لهم مع كفرهم ذنوباً أُخَرَ لها دخلٌ في استتباع العقابِ ويجوز أن يكون المرادُ بذنوبهم معاصيَهم المتفرِّعةَ على كفرهم فتكونُ الباءُ للملابسة أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غيرَ تائبين عنها فدأبُهم مجموعُ ما فعلوا وفُعل بهم لا ما فعلوه فقط كما قيل قال ابن عباس رضي الله عنهما إن آلَ فرعون أيقنوا أن موسى عليه السلام نبيُّ الله فكذّبوه كذلك هؤلاء جاء محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم بالصدق فكذبوه فأنزل الله تعالى بهم عقوبتَه كما أنزل بآل فرعونَ وجعلُ العذابِ من جملة وأبهم مع أنه ليس مما يُتصوَّر مداومتُهم عليه واعتيادُهم إياه كما هو المعتبرُ في مدلول الدأبِ إما لتغليب ما فعلوه على ما فُعل بهم أو لتنزيل مداومتِهم على ما يوجبُه من الكفرِ والمعاصِي منزلةَ مداومتِهم عليه لما بينهما من الملابسة التامةِ وقوله تعالى
﴿إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب﴾ اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله من الأخذ وقوله تعالى
سورة الأنفال آية ٥٣
28
﴿ذلك﴾ الخ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ ما يفيد النظمُ الكريمُ من كون ما حلَّ بهم من العذاب منوطاً بأعمالهم السيئةِ غيرَ واقعٍ بلا سابقةِ ما يقتضيه وهو المشارُ إليه لا نفسُ ما حلَّ بهم من العذاب والانتقام كما قيل فإنه مع كونه معللاً بما ذُكر من كفرهم وذنوبِهم لا يتصور تعليلُه بجريان عادتِه تعالى على عدم تغييرِ نعمتِه على قوم قبل تغييرِهم لحالهم وتوهُّمِ أن السببَ ليس ما ذُكر كما هو منطوقُ النظم الكريم بل ما يستفاد من مفهوم الغايةِ من جريان عادتِه تعالى على تغيير نعمتِهم عند تغييرِ حالِهم بناءً على تخيل أن المعلِّلَ ترتبَ عقابِهم على كفرهم من غير تخلُّف عنه ركوبٌ شططٌ هائل وإبعادٌ عن الحق بمراحلَ وتهوينٌ لأمر الكفر بآيات الله وإسقاطٌ له عن رتبة إيجابِ العقاب في مقام تهويله والتحذيرِ منه فالمعنى ذلك أي ترتبُ العقاب على أعمالهم السيئة دون أن يقع ابتداءً مع قدرتِه تعالى على ذلك
﴿بِأَنَّ الله﴾ أي بسببِ أنَّه تعالى
﴿لَمْ يَكُ﴾ في حد ذاتِه
﴿مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا﴾ أي لم ينْبغِ له سبحانه ولم يصِحَّ في حكمته أن يكون بحيث يغير نعمةً أنعم بها
﴿على قَوْمٍ﴾ من الأقوام أيَّ نعمةٍ كانت جلّت أو هانت
﴿حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستِهم بالنعمة ويتصفوا بها ينافيها سواءٌ كانت أحوالُهم السابقةُ مرضيةً صالحة أو قريبةً من
28
الصلاحِ بالنسبة إلى الحادثة كدأب هؤلاءِ الكفرةِ حيث كانوا قبل البعثةِ كفَرةً عبدةَ أصنامٍ مستمرِّين على حالة مصحِّحة لإفاضة نعمةِ الإمهال وسائر النعمِ الدنيوية عليهم فلما بُعث إليهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بالبينات غيّروها إلى أسوأَ منها وأسخطَ حيث كذبوه ﷺ وعادوه ومن تبِعه من المؤمنين وتحزّبوا عليهم يبغونهم الغوائلَ فغيّر الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهالِ وعاجلَهم بالعذاب والنَّكال وأصلُ يكُ يكن فحذُفت النونُ تخفيفاً لشبهها بالحروف اللينة
﴿وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ عطفٌ على أنَّ الله الخ داخلٌ معه في حيزِ التعليل أي وبسبب أنه تعالى سميع عليم يسمع ويعلم جميعَ ما يأتون وما يذرون من الأقوال والأفعالِ السابقةِ واللاحقة فيرتب على كلَ منها ما يليق بها من إبقاء النعمة وتغييرها وقرئ وإن الله بكسر الهمزةِ فالجملةُ حينئذٍ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلها وقوله تعالى
سورة الأنفال من الآية (٥٤)
29
﴿كدأب آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ في محل النصب على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييراً كائناً كدأبِ آلِ فرعونَ أي كتغييرهم على أن دأبهَم عبارةٌ عما فعلوه فقط كما هو الأنسبُ بمفهوم الدأبِ وقوله تعالى
﴿كَذَّبُواْ بآيات ربهم﴾ تفسير له بتمهامه وقوله تعالى
﴿فأهلكناهم﴾ إخبارٌ بترتب العقوبةِ عليه لا أنه من تمام تفسيرِه ولا ضيرَ في توسط قوله تعالى وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ بينهما كما مر نظيرُه في سورة آل عمرانَ حيث جوّزوا انتصابَ محلِّ الكافِ بلن تغنيَ مع ما بينهما من قوله تعالى وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار وهذا على تقدير عطفِ الجملةِ على ما قبلَها وأما على تقدير كونِها اعتراضاً فلا غبارَ في توسطها قطعاً وقيل في محلِ الرفعِ على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ كما قبله فالجملة حينئذٍ استئنافٌ آخَرُ مسوق لتقرير ما سيق له الاستئنافُ الأول بتشبيه دأبِهم بدأب المذكورين لكنْ لا بطريقِ التكريرِ المحضِ بل بتغيير العُنوانِ وجعل الدأبِ في الجانبين عبارةً عما يلازم معناه الأول من تغيير الحالِ وتغييرِ النعمة أخذاً مما نطق به قوله تعالى ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً الآية أي دأبُ هؤلاء وشأنُهم الذي هو عبارةٌ عن التغييرَيْن المذكورين كدأب أولئِك حيث غيّروا حالهم فغير الله تعالى نعمتَه عليهم فقوله تعالى كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ تفسير لدأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم وقوله تعالى فأهكناهم تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم من تغييره تعالى ما بهم من نعمته وأما دأبُ قريشٍ فمستفادٌ منه بحكم التشبيهِ فللَّه درُّ شأنِ التَّنزيلِ حيث اكتَفى في كل من التشبيهين بتفسير أحدِ الطرفين وإضافة الآياتِ إلى الرب المضافِ إلى ضميرهم لزيادة تقبيحِ ما فعلوا بها من التكذيب والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في أهلكنا جريا على سَنن الكبرياءِ لتهويل الخطبِ والكلامُ في الفاء وفي قوله تعالى
﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾ كالذي مر وعطفُ قوله تعالى
﴿وأغرقنا آل فرعون﴾ على أهلكنا مع اندراجه تحته للإيذان بكمال هولِ الإغراقِ وفظاعتِه كعطف جبريلَ عليهِ السَّلامُ على الملائكة
﴿وَكُلٌّ﴾ أي وكلٌّ من الفِرَق المذكورين أو كلٌّ من هؤلاء وأولئك أو كلٌّ من غرقى القِبط وقتلى قريشٍ
﴿كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ أي أنفسَهم بالكفر والمعاصي حيث عرَّضوها للهلاك
29
أو واضعين للكفر والتكذيب مكانَ الإيمانِ والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم
سورة الأنفال من الآيات (٥٥ ٥٧)
30
﴿إِنَّ شَرَّ الدواب﴾ بعد ما شرَح أحوال المهلَكين من شرار الكَفَرة شرَع في بيان أحوالِ الباقين منهم وتفصيلِ أحكامِهم وقوله تعالى
﴿عَندَ الله﴾ أي في حكمه وقضائه
﴿الذين كَفَرُواْ﴾ أي أصروا على الكفر ولجّوا فيه جُعلوا شرَّ الدوابِّ لا شرَّ الناسِ إيماءً إلى أنهم بمعزل من مجانستهم وإنما هم من جنس الدوابِّ ومع ذلك شرٌّ من جميع أفرادِها حسبما نطقَ به قوله تعالى إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ وقولُه تعالى
﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ حكمٌ مترتبٌ على تماديهم في الكفر ورسوخِهم فيه وتسجيلٌ عليهم بكونهم من أصل الطبع لا يَلْويهم صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ أصلا جيء به على وجه الاعتراضِ لا أنه عطفٌ على كفروا داخلٌ معه في حيزِ الصلةِ التي لا حكم فيها بالفعل وقوله تعالى
﴿الذين عاهدت مِنْهُمْ﴾ بدلٌ من الموصولِ الأولِ أو عطف بيان له أو نصبٌ على الذم أي عاهدتَهم ومِنْ للإيذان بأن المعاهدَة التي هي عبارةٌ عن إعطاء العهدِ وأخذه من الجانبين معتبرة ههنا من حيث أخذه ﷺ عهدَهم إذ هو المناطُ لقباحة مانعي عليهم من النقض لا إعطاؤه ﷺ إياهم عهدَه كأنه قيل الذين أخذت منهم عهدَهم وقيل هي للتبعيض لأن المباشِرَ بالذات للعهد بعضُهم لا كلُّهم
﴿ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ﴾ عطفٌ على عاهدتَ داخل معه في حكم الصلةِ وصيغةُ الاستقبالِ للدِلالة على تجدّد النقضِ وتعدُّدِه وكونِهم على نيته في كل حالٍ أي ينقضون عهدَهم الذي أخذتَه منهم
﴿فِي كُلّ مَرَّةٍ﴾ أي من مرات المعاهدةِ إذ هي التي يُتوقعُ فيها عدمُ النقضِ ويُستقبح وجودُه لا من مرات المحاربة كما قيلَ إذْ لا يتوقع فيها عدم النقض بل لا يُتصور أصلاً حتى يُستقبَح فيها وجودُه لكونها مَظِنةً لعدمه فلا فائدةَ في تقييد النقضِ بالوقوع في كل مرةٍ من مراتها بل لا صِحةَ له قطعاً لأن النقضَ لا يتحقق إلا في المرة الواردةِ على المعاهدة لا في المرات الواقعةِ بعدها بلا معاهدة ولئن سلم أن المرادَ هي المراتُ الواقعةُ إثرَ المعاهدةِ يبقى النقضُ الواقعُ بلا محاربةٍ كبيع السلاحِ ونحوه خارجاً من البيان ولئن عُدّ ذلك من المحاربة فلا محيصَ من لزوم خلوِّ الكلامِ عن الفائدة بالمرة لأن المحاربةَ بهذا المعنى عينُ النقضِ فيؤولُ الأمرُ إلى أن يقال ينقضون عهدَهم في كل مرة من مرات النقض وحملُ المحاربةِ على محاربة غيرهِم ليكونَ المعنى ينقضون عهدَهم في كل مرة من مرات محاربة الأعداءِ مع كونِه في غايةِ البُعد والركاكة يستلزِمُ خروجَ بدئِهم بالنقض من البيان
﴿وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ﴾ حالٌ من فاعل ينقضون أي يستمرون على النقض والحالُ أنهم لا يتقون سُبّةَ الغدرِ ولا يبالون بما فيه من العار والنار وقوله تعالى
﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ﴾ شروعٌ في بيان أحكامِهم بعد تفصيلِ أحوالِهم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فإذا كان حالُهم كما ذكر فإمّا تصادِفَنَّهم وتظفَرَنَّ
30
بهم ﴿فِى الحرب﴾ أي في تضاعيفها
﴿فَشَرّدْ بِهِم﴾ أي ففرِّقْ عن مناصبتك تفريقاً عنيفاً موجباً للاضطرار والاضطراب ونكِّلْ عنها بأن تفعل بهم من النِكاية والتعذيبِ ما يوجب أن تُنَكّل
﴿مّنْ خَلْفِهِمْ﴾ أي مَنْ وراءَهم من الكفرة وفيه إيماءٌ إلى أنهم بصدد الحرب قريب من هؤلاء وقرئ شرِّذْ بالذال المعجمةِ ولعله مقلوبُ شذِّر بمعنى فرق وقرئ مِنْ خلفِهم أي افعلِ التشريدَ من ورائهم والمعنى واحدٌ لأن إيقاعَ التشريد في الوراء لا يتحقّقُ إلا بتشريد مَنْ وراءَهم
﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ يتعظون بما شاهدوا مما ينزيل بالناقضِين فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر وقوله تعالى
سورة الأنفال من الآيات (٥٨ ٥٩)
31
﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ بيانٌ لأحكام المشرِفين إلى نقض العهدِ إثرَ بيانِ أحكامِ الناقضين له بالفعل والخوفُ مستعارٌ للعلم أي وإما تعلَمنَّ من ٢ قوم من المعاهِدين نقضَ عهدٍ فيما سيأتي بما لاح لك منهم من دلائلِ الغدرِ ومخايلِ الشر
﴿فانبذ إِلَيْهِمْ﴾ أي فاطرَح إليهم عهدَهم
﴿على سَوَاء﴾ على طريق مستوٍ قَصْدٍ بأن تظهر لهم النقض وتُخبِرَهم إخباراً مكشوفاً بأنك قد قطعتَ ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجِزْهم الحربَ وهم على توهم بقاءِ العهدِ كيلا يكونَ من قِبَلك شائبةُ خيانةٍ أصلا فالجارُّ متعلقٌ بمحذوف هو حال من النابذ أي فانِبذْ إليهم ثابتاً على سواءٍ وقيل على استواءٍ في العلم بنقض العهدِ بحيث يستوى فيه أقصاهم وأدناهم أو تستوى فيه أنت وهم فهو على الأولِ حالٌ من المنبوذ إليهم وعلى الثاني من الجانبين
﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين﴾ تعليلٌ للأمر بالنبذ إما باعتبار استلزامِه للنهي عن المناجزة التي هي خيانةٌ فيكونُ تحذيراً لرسول الله ﷺ منها وإما باعتبار استتباعِه للقتال بالآخرة فيكونُ حثاً له ﷺ على النبذ أولاً وعلى قتالهم ثانياً كأنه قيل وإما تعلَمنَّ من قوم خيانةً فانبذْ إليهم ثم قاتِلْهم إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين وهم من جملتهم لما علمت من حالهم
﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ أي أنفسَهم فحُذف للتكرار وقوله تعالى
﴿سَبَقُواْ﴾ أي فاتوا وأفلتوا من أن يُظفَرَ بهم مفعولٌ ثانٍ ليحسبن والمرادُ إقناطُهم من الخلاص وقطعِ أطماعهمَ الفارغةِ من الانتفاعِ بالنبذ والاقتصارِ على دفع هذا التوهمِ مع أن مقاومةَ المؤمنين بل الغلبةَ عليهم أيضاً مما تتعلق به أمانيهم الباطلةُ للتنبيه على أن ذلك ممَّا لا يحومُ حوله وهمُهم وحُسبانُهم وإنما الذي يمكن أن يدورَ في خلدهم حسبانُ المناصِ فقط وقيل الفعلُ مسندٌ إلى أحد أو إلى مَنْ خلفهم والمفعولُ الأولُ الموصولُ المتناولُ لهم أيضاً وقيل هو الفاعلُ وأنْ محذوفةٌ مِنْ سبقوا وهيَ مع ما في حيزها سادةٌ مسدَّ المفعولين والتقديرُ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أنْ سبقوا ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ أنهم سبقوا ونظيرُه في الحذف قولُه تعالى ومن آياتِه يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وقولُه تعالى أغير الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ الآية قاله الزجاج وقرئ بالتاء على خطاب رسولِ الله ﷺ وهي قراءة واضحة وقرئ ولا تحسب الذين بكسر الباء وبقتحها على حذف النون الخفيفة وقوله تعالى
﴿إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ أي لا يفوتون ولا يجدون طالبَهم عاجزاً عن إدراكهم تعليلٌ للنهي على طريقة الاستئناف وقرئ بفتح الهمزة عَلى
31
حذف لام التعليلِ وقيل الفعلُ واقعٌ عليه ولا زائدةٌ وسبَقوا حالٌ بمعنى سابقين أي مُفْلتين هاربين وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى يُحذر من عاقبة النبذِ لِما أنه إيقاظٌ للعدو وتمكينٌ لهم من الهرب والخلاصِ من أيدي المؤمنين وفيه نفيٌ لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه كما أشير إليه وقيل نزلت فيمن أفلت من فَلِّ المشركين وقرئ لا يعجزونِ بكسر النون ولا يعجزون بالتشديد
سورة الأنفال آيات (٦٠ ٦١)
32
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ﴾ توجيهُ الخطاب إلى كافة المؤمنين لما أن المأمورَ به من وظائف الكلِّ كما أن توجيهَه فيما سبقَ وما لحِق إلى رسول الله ﷺ لكون ما في حيِّزِه من وظائفه ﷺ أي أعِدّوا لقتال الذين نُبذ إليهم العهدُ وهيِّئوا لحِرابهم أو لقتال الكفار على الإطلاق وهو الأنسبُ بسياقِ النظمِ الكريم
﴿مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ﴾ من كل ما يُتقوَّى به في الحرب كائناً ما كان وعن عقبةَ بن عامر رضي الله عنه سمعته ﷺ يقول على المنبر ألا إن القوةَ الرميُ قالها ثلاثا ولعل تخصيصه ﷺ إياه بالذكر لإنافته على نظائره من القُوى
﴿وَمِن رّبَاطِ الخيل﴾ الرباطُ اسمٌ للخيل التي ترُبط في سبيلِ الله تعالى فِعال بمعنى مفعول أو مصدرٌ سميت هي به يقال رَبَط ربطاً ورِباطاً ورابط مُرابطة ورِباطاً أو جمعُ رَبيطٍ كفصيل وفصال أو جمع رَبْطٍ ككعْبٍ وكَعاب وكلب وكلاب وقرئ رُبُط الخيل بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطفُها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادِها كعطف جبريلَ وميكائيلَ على الملائكة
﴿تُرْهِبُونَ بِهِ﴾ أي تخوّفون وقرئ ترهبون بالتشديد وقرئ تُخزون به والضميرُ لما استطعتم أو للإعداد وهو الأنسبُ ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالية من فاعل أعدوا أي أعدوا مرهِبين به أو منَ الموصولِ أو مِنْ عائده المحذوفِ أي أعدوا ما استطعتموه مُرهَباً بِهِ
﴿عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ﴾ وهم كفارُ مكة خُصّوا بذلك من بين الكفار مع كون الكلِّ كذلك لغاية عتوِّهم ومجاوزتِهم الحدَّ في العداوة
﴿وآخرين من دونهم﴾ من غيرهم من الكفرة وقيل هم اليهودُ وقيل المنافقون وقيل الفرسُ
﴿لاَ تَعْلَمُونَهُمُ﴾ أي لا تعرفونهم بأعيانهم أو لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة وهو الأنسبُ بقولِه تعالى
﴿الله يَعْلَمُهُمْ﴾ أي لا غيره فإن أعيانهم معلومة لغيره تعالى أيضاً
﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء﴾ لإعداد العَتادِ قل أوجل
﴿فِى سَبِيلِ الله﴾ الذي أوضحه الجهاد
﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي جزاؤه كاملاً
﴿وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ بترك الإثابة أو بنقض الثوابِ والتعبيرُ عن تركها بالظلم مع أن الأعمالَ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يكون تركُ ترتيبِه عليها ظلماً لبيان كمالِ نزاهتِه سبحانه عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ تعالى من القبائح وإبرازِ الإثابةِ في معرِض الأمورِ الواجبةِ عليه تعالى كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ
﴿وَإِن جَنَحُواْ﴾ الجُنوحُ الميلُ ومنه الجنَاح ويعدّى باللام وبإلى أي إن مالوا
﴿لِلسَّلْمِ﴾ أي للصلح بوقوع الرهبةِ في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعدادِ وإعناد العتاد
﴿فاجنح لَهَا﴾
32
أي للسلم والتأنيثُ لحمله على نقيضه قال... السِّلمُ تأخذ منها أرضيت به... والحربُ يكفيكَ من أنفاسها جرع...
وقرئ فاجنُحْ بضم النون
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ ولا تخَفْ أن يُظهروا لك السلمَ وجوانحُهم مطويةٌ على المكر والكيد
﴿أَنَّهُ﴾ تعالى
﴿هُوَ السميع﴾ فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخِداع
﴿العليم﴾ فيعلم نياتِهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويردُّ كيدَهم في نحرهم والآيةُ خاصّةٌ باليهود وقيل عامة نسختها آية السيف
سورة الأنفال آيات (٦٢ ٦٤)
33
﴿وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ﴾ بإظهار السلم وإبطالِ الحراب
﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ الله﴾ أي فاعلم بأن محسبك الله من شرورهم وناصرُك عليهم
﴿هُوَ الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ﴾ تعليلٌ لكفايته تعالى إياه ﷺ بطريق الاستئنافِ فإن تأييدَه تعالى إياه ﷺ فيما سلف على ما ذكر من الوجه البعيدِ من الوقوع من دلائل تأييدِه تعالى فيما سيأتي أي هو الذي أيدك بإمداد مِنْ عنده بلا واسطة كقوله تعالى ﴿وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾ أو بالملائكة مع خَرقه للعادات
﴿وبالمؤمنين﴾ من المهاجرين والأنصار
﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ مع ما كان بينهم قبل ذلك من العصبية والضغينة والتهالُك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة وهذا من أبهر معجزاته صلى الله عليه وسلم
﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً﴾ أي لتأليف ما بينهم
﴿مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ استئنافٌ مقررٌ لما قبله ومبين لعزة المطلبِ وصعوبةِ المأخذ أي تناهي التعادي فيما بينهم إلى حد لو أنفقٌ منفقٌ في إصلاح ذاتِ البين جميعَ ما فى الأرض من الأموال والذخائر لم يقدِرْ على التأليف والإصلاحِ وذكرُ القلوب للإشعار بأن التأليف بينها الا يتسنى وإن أمكن التأليفُ ظاهراً
﴿ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ قلباً وقالَباً بقدرته الباهرة
﴿إِنَّهُ عَزِيزٌ﴾ كاملُ القدرةِ والغلبة لا يستعصي عليه شيءٌ مما يريده
﴿حَكِيمٌ﴾ يعلم كيفيةَ تسخيرِ ما يريده وقيل الآيةُ في الأوس والخزرج كان بينهم إِحَنٌ لا أمدَ لها ووقائعُ أفنت ساداتِهم وأعاظِمَهم ودقت أعناقَهم وجماجمَهم فأنسى الله عز وجل جميع ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافَوا وأصبحوا يرمون عن قوس واحدة وصاروا أنصارا
﴿يا أيها النبى﴾ شروعٌ في بيانِ كفايته تعالى إياه ﷺ في جميع أموره وأمور المؤمنين أو في الأمور الواقعة بينهم وبين الكفرة كافة إثر بيان كفايتِه تعالى إياه ﷺ في مادة خاصةٍ وتصديرُ الجملة بحر في النداءِ والتنبيهِ للتنبيه على مزيد الاعتناءِ بمضمونها وإيرادهُ ﷺ بعنوان النبوة للإشعار بعليتها للحكم
﴿حَسْبَكَ الله﴾ أي كافيك في جميع أمورِك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحِراب
﴿وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين﴾ في محل النصب على أنه مفعولٌ معه أي كفاك وكفي أتباعَك الله ناصراً كما في
33
قول من قال... فحسبُك والضحّاكَ عضْبٌ مهندُ...
وقيل في موضع الجر عطفاً على الضمير كما هو رأيُ الكوفيِّينَ أي كافيك وكافيهم أو في محل الرفعِ عطفاً على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنين والآيةُ نزلت في البيداء في غزوة بدرٍ قبل القتالِ وقيل أسلم مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً وستُّ نسوةٍ ثم أسلم عمرُ رضي الله عنه فنزلت ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه
سورة الأنفال من الآية (٦٥)
34
﴿يا أيها النبي﴾ بعدما بين كفايتَه إياهم بالنصر والإمداد أمر ﷺ بترتيب مبادي نصرِه وإمدادِه وتكريرُ الخطاب على الوجه المذكور لإظهار كمالِ الاعتناءِ بشأن المأمور به
﴿حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال﴾ أي بالِغْ في حثّهم عليه وترغيبِهم فيه بكل ما أمكن من الأمور المرغّبة التي أعظمُها تذكيرُ وعدِه تعالى بالنصر وحُكمُه بكفايته تعالى أو بكفايتهم وأصلُ التحريضِ الحَرَضُ وهو أن ينهكه المرضُ حتى يُشفيَ على الموت وقال الراغبُ كأنه في الأصل إزالةُ الحَرَض وهو ما لا خيرَ فيه ولا يعتد به قلت فالأوجهُ حينئذ أن يُجعل الحرَضُ عبارةً عن ضعف القلب الذي هو من باب نَهْكِ المرض وقيل معنى تحريضِهم تسميتُهم حرضاً بأن يقال إني أراك في هذا الأمر حَرَضاً أي محرّضاً فيه لتهيجه إلى الإقدام وقرئ حرِّص بالصاد المهملة وهو واضح
﴿إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ﴾ وعدٌ كريمٌ منه تعالى بتغليب كلِّ جماعةٍ من المؤمنين على عشرة أمثالِهم بطريق الاستئنافِ بعد الأمر بتحريضهم وقوله تعالى
﴿وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا﴾ مع انفهام مضمونِه مما قبله لكون كل منهما عدةً بتأييد الواحدِ على العشرة لزيادة التقريرِ المفيدةِ لزيادة الاطمئنان على أنه قد يجري بين الجمعين القليلين ما لا يجري بين الجمعين الكثيرين مع أن التفاوتَ فيما بين كلَ من الجمعين القليلين والكثيرين على نسبة واحدة فبيّن أن ذلك لا يتفاوت في الصورتين وقوله تعالى
﴿مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ بيانٌ للألف وهذا القيدُ معتبرٌ في المِائتين أيضاً وقد تُرك ذكرُه تعويلاً على ذكره ههنا كما ترك قيدُ الصبر ههنا مع كونه معتبراً حتماً ثقةً بذكره هناك
﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ متعلق بيغلبوا أي بسبب أنهم قومُ جَهلةٌ بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون احتساباً وامتثالاً بأمر الله تعالى وإعلاءً لكلمته وابتغاءً لرضوانه كما يفعله المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهليةِ واتّباعِ خطواتِ الشيطانِ وإثارةِ ثائرةِ البغي والعُدوانِ فلا يستحقون إلا القهرَ والخِذلانَ وأما ما قيل من أن مَنْ لا يؤمن بالله واليوم الآخِر لا يؤمن بالميعاد فالسعادةُ عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية فيشِحّ بها ولا يعرِّضها للزوال بمزاولة الحروبِ واقتحامِ مواردِ الخطوبِ فيميل إلى ما فيه السلامةُ فيفِر فيُغلب وأما من اعتقد أن لا سعادةَ في هذه الحياة الفانية وإنما السعادةُ هي الحياةُ الباقية فلا يبال بهذه الحياةِ الدنيا ولا يقيم لها وزناً فيُقدم على الجهاد بقلب قوي وعزمٍ صحيحٍ فيقوم الواحدُ من مثله مقامُ الكثير فكلامٌ حقٌّ لكنه لا يلائم المقام
34
سورة الأنفال من الآيات (٦٦ ٦٧)
35
﴿الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً﴾ لمّا كان الوعدُ السابقُ متضمناً لإيجاب مقاومةُ الواحد للعشرة وثباتُه لهم كما نُقلَ عن ابنِ جريج أنه كان عليهم أن لا يفِرّوا ويثبُتَ الواحدُ للعشرة وقد بعث رسول الله ﷺ حمزةَ في ثلاثين راكباً فلقى أبا جهل في ثلثمائة راكبٍ فهزمهم ثقُل عليهم ذلك وضجّوا منه بعد مدة فنُسخ وخُفف عنهم بمقاومة الواحدِ للاثنين وقيل كان فيهم قلةٌ في الابتداء ثم لما كثُروا نزل التخفيفُ والمرادُ بالضعف ضعفُ البدنِ وقيل ضعفُ البصيرةِ وكانوا متفاوتين في الاهتداء إلى القتال لا الضعفِ في الدين كما قيل وقرئ ضُعفاً بضم الضاد وهي لغةٌ فيه كالفَقر والفُقر والمَكْث والمُكث وقيل الضعفُ بالفتح ما في الرأي والعقل وبالضم ما في البدن وقرئ ضُعفاءَ جمعُ ضعيف والمرادُ بعلمه تعالى بضعفهم علمه تعالى به من حيث هو متحققٌ بالفعل لا علمُه تعالى به مطلقاً كيف لا وهو ثابتٌ في الأزل وقوله تعالى
﴿فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ﴾ تفسيرٌ للتخفيف وبيان لكيفيته وقرئ تكن ههنا وفيما سبق بالتاء الفوقانية
﴿وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله﴾ أي بتيسيره وتسهيلِه وهذا القيدُ معتبرٌ فيما سبق من غلبة المائةِ المائتين والألفِ وغلبة العشرين المائتين كما أن قيد الصبرِ معتبر ههنا وإنَّما تُرك ذكرُه ثقةً بما مر وبقوله تعالى
﴿والله مَعَ الصابرين﴾ فإنه اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله والمرادُ بالمعية معيَّةُ نصرِه وتأييدِه ولم يتعرض ههنا لحال الكفرةِ من الخذلان كما لم يتعرض هناك لحال المؤمنين مع أن مدارَ الغلبة في الصورتين مجموعُ الأمرين أعني نصرَ المؤمنين وخذلانَ الكفرةِ اكتفاء بما ذكر في كل مقامٍ عما ترك في المقام الآخر وما تشعرُ به كلمةُ مع من متبوعية مدخولِها لأصالتهم من حيث إنهم المباشرون للصبر كما مر مراراً
﴿ما كان لنبي﴾ وقرئ للنبي على العهد والأولُ أبلغُ لما فيه من بيانِ أنَّ ما يذكر سنة مطردة فيما بين الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أي ما صح وما استقام لنبيَ من الأنبياءِ عليهم السلام
﴿أَن يَكُونَ له أسرى﴾ وقرئ بتأنيث الفعلِ وأُسارى أيضاً
﴿حتى يُثْخِنَ فِي الارض﴾ أي يُكثر القتلَ ويبالغَ فيه حتى يذل الكفرة ويقِلُ حزبُه ويعِزّ الإسلامُ ويستوليَ أهلُه من أثخنه المرَضُ والجُرحُ إذا أثقله وجعله بحيث لا حَراكَ به ولا براحَ وأصلُه الثخانة التي هي الغلط والكثافة وقرئ بالتشديد للمبالغة
﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا﴾ استئنافٌ مَسوقٌ للعتاب أي تريدون حطامها بأخذكم الفداء وقرئ يريدون بالياء
﴿والله يُرِيدُ الاخرة﴾ أي يريد لكم ثوابَ الآخرة الذي لا مقدار عندَهُ الدُّنيا وَمَا فِيْهَا أو يريد سببَ نيلِ الآخرة من إعزاز دينِه وقمعِ أعدائِه وقرئ بجر الآخرةِ على إضمار المضافِ كما في
35
قوله... أكل امرئ تحسبين أمرا... ونارٍ تَوقَّدُ بالليل ناراً...
﴿والله عَزِيزٌ﴾ يغلب أوليائه على أعدائه
﴿حَكِيمٌ﴾ يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوْكةُ للمشركين وخيّر بينه وبين المنِّ بقوله تعالى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء لما تحولت الحال وصارت الغلبةُ للمؤمنين
رُوِيَ أنَّ رسولَ الله ﷺ أُتيَ بسبعين أسيراً فيهم العباسُ وعقيل بنُ أبي طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر قومُك وأهلك استَبْقِهم لعل الله يتوب عليهم وخُذ منهم فديةً تقوِّي أصحابَك وقال عمر اضرب أعناقَهم فإنهم أئمةُ الكفر والله أغناك عن الفداء مكّنْ علياً من عقيلٍ وحمزةَ من العباس ومكني من فلان نسيبٍ له فلنضرِب أعناقَهم فقال ﷺ إن الله ليُلين قلوبَ رجالٍ حتى تكون ألين من اللين وإن الله ليشدد قلوبَ رجالٍ حتى تكون أشدَّ من الحجارة وإن مثلَك يا أبا بكر مثلُ إبراهيم قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلُك يا عمرُ مثل نوحٍ قال ربِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض من الكافرين ديار فخيّر أصحابَه فأخذوا الفداء فنزلت فدخل عمر رضي الله عنه على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقالَ يا رسولَ الله أخبرني فإن وجدت بكاءً بكَيْتُ وإلا تباكيتُ فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداءَ ولقد عُرِضَ على عذابُهم أدنى من هذه الشجرةِ لشجرة قريبةِ منه وروى أنه ﷺ قال لو نزل عذابٌ من السماء لما نجا غيرُ عمرَ وسعدُ بنُ معاذ وكان هو أيضاً ممن أشار بالإثخان
سورة الأنفال من الآيات (٦٨ ٧٠)
36
﴿لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ﴾ أي لولا حكمٌ منه تعالى سبق إثباتُه في اللوح المحفوظِ وهو أن لا يعاقب المخطئ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهلَ بدر أو قوماً لم يصرِّح لهم بالنهي وأما أن الفدية التي أخذوها ستحِل لهم فلا يصلح أن يعد من موانع مساسِ العذاب فإن الحِلَّ اللاحقَ لا يرفع حكمَ الحرمةِ السابقة كما أن الحرمةَ اللاحقة كما في كما في الخمر مثلالا ترفع حكمَ الإباحةِ السابقة على أنه قادحٌ في تهويل ما نُعي عليهم من أخذ الفداء
﴿لَمَسَّكُمْ﴾ أي لأصابكم
﴿فِيمَا أَخَذْتُمْ﴾ أي لأجل ما أخذتم من الفداء
﴿عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ لا يقادَرُ قدرُه
﴿فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ﴾ رُوي أنهم أمسكوا عن الغنائم فنزلت قالوا الفاءُ لترتيب ما بعدها على سبب محذوفٍ أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم والأظهر أنها للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقام أي دعوه فكلوا مما غنمتم وقيل ما عبارةٌ عن الفدية فإنها من جملة الغنائم ويأباه سباقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه
﴿حلالا﴾ حال من المغنوم أو صفةٌ للمصدر أي أكلاً حلالاً وفائدتهُ الترغيبُ في أكلها وقوله تعالى
﴿طَيّباً﴾ صفةٌ لحلالاً مفيدةٌ لتأكيد الترغيبِ
﴿واتقوا الله﴾ أي في مخالفة أمرِه ونهيِه
﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فيغفرُ لكم ما فرَط منكُم من استباحة الفداءِ قبل ورود الإذنِ فيه ويرحمُكم ويتوبُ عليكم إذا اتقيتموه
﴿يا أيها النبى قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم﴾ أي في مِلكتكم كأن أيديَكم قابضةٌ عليهم
﴿من الأسرى﴾
36
سورة الأنفال من الآيات (٧١ ٧٢) وقرئ من الأُسارى
﴿إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً﴾ خلوصَ إيمانٍ وصحةَ نيةٍ
﴿يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ منكم﴾ من الفداء وقرئ أخَذَ على البناء للفاعل
رُوِيَ أنَّها نزلتْ في العباس كلفه رسولُ الله ﷺ أن يَفدِيَ ابني أخيه عَقيلَ بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال يا محمد تركتَني أتكفف قريشاً ما بقِيتُ فقال له ﷺ فأين الذهبُ الذي دفعتَه إلى أم الفضلِ وقت خروجِك من مكة وقلت لها ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدثٌ فهو لك ولعبد اللَّه وعبيد اللَّه والفضلِ فقال العباس ما يدريك فقال أخبرني به ربي قال العباس فأنا أشهد أنك صادقٌ وأن لا إله إلا الله وأنك عبدُه ورسوله والله لم يطلعْ عليه أحدٌ إلا الله ولقد دفعتُه إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب قال العباس بعد حين فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً وإنّ أدناهم ليُضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزمَ ما أُحب أن لي بها جميعَ أموالِ أهل مكة وأنا أنتظر المغفرةَ من ربي يتأول به ما في قوله تعالى
﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فإنه وعد بالمغفر مؤكدٌ بما بعده من الاعتراض التذييلي
37
﴿وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ﴾ أي نكثَ ما بايعوك عليه من الإسلام وهذا كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى لتسليته ﷺ بطريق الوعدِ له والوعيد لهم
﴿فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ﴾ بكفرهم ونقضِ ما أخذ على كل عاقلٍ من ميثاقه
﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ أي أقدرَك عليهم حسبما رأيتَ يومَ بدر فإن أعادوا الخيانةَ فاعلم أنه سيُمكنك منهم أيضاً وقيل المرادُ بالخيانة منعُ ما ضمِنوا من الفداء وهو بعيد
﴿والله عَلِيمٌ﴾ فيعلم ما في نياتهم وما يستحقونه من العقاب
﴿حكيم﴾ يفعل كل يفعله حسبما تقتضيه حكمتُه البالغة
﴿إن الذين آمنوا وَهَاجَرُواْ﴾ هم المهاجرون هاجروا أوطانَهم حباً لله تعالى ولرسوله
﴿وجاهدوا بأموالهم﴾ بأن صرفوها إلى الكُراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج
﴿وَأَنفُسِهِمْ﴾ بمباشرة القتال واقتحامِ المعارك والخوضِ في المهالك
﴿فِى سَبِيلِ الله﴾ متعلقٌ بجاهدوا قيدٌ لنوعي الجهادِ ولعل تقديمَ الأموال على الأنفس لما أن المجاهدةَ بالأموال أكثرُ وقوعاً وأتمُّ دفعاً للحاجة حيث لا يُتصور المجاهدةُ بالنفس بلا مجاهدة بالمال
﴿والذين آووا وَّنَصَرُواْ﴾ هم الأنصارُ آوَوا المهاجرين وأنزلوهم منازلَهم وبذلوا إليهم أموالَهم وآثروهم على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة ونصروهم على أعدائهم
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى الموصوفينَ بما ذُكِرَ من النعوتِ الفاضلة وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ طبقتِهم وبعد منزلتهم في الفضيلة وهو مبتدأُ وقولُه تعالى
﴿بَعْضُهُمْ﴾ إما بدلٌ منه وقوله تعالى
﴿أَوْلِيَاء بعض﴾ خبره
37
سورة الأنفال من الآيات (٧٣ ٧٥) وإما مبتدأٌ ثانٍ وأولياءُ بعضٍ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول أي بعضُهم أولياءُ بعضٍ في الميراث وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنُصرة دون الأقاربِ حتى نُسخ بقوله تعالى وَأُوْلُو الارحام الآية وقيل في النُصرة والمظاهرة ويردُه قوله تعالى فَعَلَيْكُمُ النصر بعد نفي موالاتِهم
﴿والذين آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا﴾ كسائر المؤمنين
﴿مَا لَكُم مّن ولايتهم مِن شَىْء﴾ أي من تولّيهم في الميراث وإن كانوا من أقرب أقاربِكم
﴿حتى يُهَاجِرُواْ﴾ وقرئ بكسر الواو تشبيهاً بالعمل والصناعة كالكتابة والإمارة
﴿وَإِنِ استنصروكم فِى الدين فَعَلَيْكُمُ النصر﴾ فواجبٌ عليكم أن تنصُروهم على المشركين
﴿إِلاَّ على قَوْمٍ﴾ منهم
﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق﴾ معاهدةٌ فإنه لا يجوز نقضُ عهدِهم بنصرهم عليهم
﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فلا تخالفوا أمرَه كيلا يحِلَّ بكم عقابُه
38
﴿والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بعض﴾ آخر منهم في الميراث أو في الموازرة وهذا بمفهومة مُفيدٌ لنفي الموارثة والموازرة بينهم وبين المسلمين وإيجابِ المباعدةِ والمصارمة وإن كانوا أقارب
﴿إِلا تَفْعَلُوه﴾ أي ما أُمرتم بهِ منَ التواصل بينكم وتولِّي بعضِكم بعضا حتى التوراث ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار
﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرض﴾ أي تحصُل فتنةٌ عظيمة فيها وهي ضعفُ الإيمان وظهورُ الكفر
﴿وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ في الدارين وقرئ كثير
﴿والذين آمنوا وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين آووا وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً﴾ كلامٌ مسوقٌ للثناء عليهم والشهادة لهم بفوزهم بالقدح المعلَّى من الإيمان مع الوعد الكريم بقوله تعالى
﴿لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ لا تبعةَ له ولا منة فيه فلا تكرارَ لما أن مساقَ الأولِ لإيجاب التواصلِ بينهم
﴿والذين آمنوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ﴾ بعد هجرتِكم
﴿وجاهدوا مَعَكُمْ﴾ في بعض مغازيكم
﴿فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ﴾ أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصارُ وهم الذين جاءوا من بعدهم يقولون رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ألحقهم الله تعالى بالسابقين وجعلهم منهم تفضلاً منه وترغيباً في الإيمان والهجرة وفي توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات من تشريفهم ورفعِ محلِّهم ما لا يخفى
﴿وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ﴾ آخرَ منهم في التوارث من الأجانب
﴿فِى كتاب الله﴾ أي في حُكمهِ أو في اللَّوحِ أو في القرآن واستُدِل به على توريث ذوي الأرحام
﴿أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ﴾ ومن جملته ما في تعليق التوارثِ بالقرابة الدينيةِ أولاً وبالقرابة النسبيةِ آخِراً من الحِكَم البالغة
عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الأنفالِ وبراءةٌ فأنا شفيعٌ له يوم القيامة وشاهدٌ أنه برئ من
38
النفاق وأُعطِيَ عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ منافقٍ ومنافقةٍ وكان العرشُ وحملتُه يستغفرون له أيامَ حياتِه والله تعالَى أعلمُ
٩ سورة براءة الآية (١)
سورة براءة وهي مدينة وآياتها مائة وتسع وعشرون آية
ولها أسماء أخر سورة التوبة والمقشقشة والبحوث والمنقرة والمبعثرة والمثيرة والحافرة والمخزية والفاضحة والمنكلة والمشردة والمدمدمة وسورة العذاب لما فيها من ذكر التوبة ومن التبرية من النفاق والبحث والتنقير عن حال المنافقين وإثارتها والحفر عنها وما يخزيهم ويشردهم ويدمدم عليهم واشتهارها بهذه الأسماء يقضي بأنها سورة مستقلة وليست بعضا من سورة الأنفال وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها خلاف الظاهر فيكون حكمة ترك التسمية عند النزول نزولها في رفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى مشفوعا بوصف الرحمة كما رُوي عن ابنِ عيينة رضي الله عنه لا الاشتباه في استقلالها وعدمه كما يحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا رعاية ما وقع بين الصحابةِ رضيَ الله عنُهم من الاختلاف في ذلك على أن ذلك ينزع إلى القول بأن التسمية ليست من القرآن وإنما كتبت للفصل بين السور كما نقل عن قدماء الحنفية وأن مناط إثباتها في المصاحف وتركها إنما هو رأي من تصدى لجمع القرآن دون التوقيف ولا ريب في أن الصحيح من المذهب أنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وأن لا مدخل لرأي أحد في الإثبات والترك وإنما المتبع في ذلك هو الوحي والتوقيف ولا مرية في عدم نزولها ههنا وإلا لا متنع أن يقع في الاستقلال اشتباه أو اختلاف فهو إما لاتحاد السورتين أو لما ذكرنا لا سبيل إلى الأول وإلا لبينه ﷺ لتحقق مزيد الحاجة إلى البيان لتعاضد أدلة الاستقلال من كثرة الآيات وطول المدة فيما بين نزولهما فحيث لم يبينه ﷺ تعين الثاني لأن عدم البيان من الشارع في موضع البيان بيان للعدم
39
Icon