تفسير سورة الصافات

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الصافات مكية وآياتها مائة وإحدى أو اثنتان وثمانون آية

﴿والصافات صَفَّا﴾ إقسامٌ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ بطوائِفَ الملائكةِ الفاعلاتِ للصُّفوفِ على أنَّ المرادَ إيقاعُ نفسِ الفعلِ منْ غيرِ قصدٍ إلى المفعولِ أو الصَّافَّاتُ أنفسَها أي النَّاظمات لها في سلك الصُّفوفِ بقيامها في مقاماتِها المعلومةِ حسبما ينطِق به قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وعلى هذينِ المعنيينِ مدارُ قوله تعالى وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون وقيل الصَّافاتُ أقدامها في الصَّلاةِ وقيل أجنحتها في الهواءِ
﴿فالزاجرات زَجْراً﴾ أي الفاعلاتِ للزَّجرِ او الزاجرت لما نيطَ بها زَجرُه من الأجرام العلوية والسفلية وغيرِها على وجهٍ يليقُ بالمزجورِ ومن جُملة ذلك زجر العباد بالمعاصي وزجرُ الشَّياطينِ عن الوسوسةِ والإغواءِ وعن استراقِ السَّمعِ كما سيأتي وصفًّا وزَجْراً مصدرانِ مؤكِّدانِ لما قبلهما أي صفًّا بديعاً وزَجْراً بليغاً وأمَّا ذِكراً في قولهِ تعالى
﴿فالتاليات ذِكْراً﴾ فمفعولُ التَّالياتِ أي التَّالياتِ ذكراً عظيمَ الشَّأنِ من آياتِ الله تعالى وكتبهِ المنزَّلةِ على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وغيرِها من التَّسبيحِ والتَّقديسِ والتَّحميدِ والتَّمجيدِ وقيل هو أيضاً مصدرٌ مؤكِّدٌ لما قبله فإنَّ التِّلاوةَ من بابِ الذِّكرِ ثم إنَّ هذه الصِّفاتِ إنْ أُجريتْ على الكلِّ فعطفُها بالفاءِ للدِّلالةِ على ترتُّبها في الفضلِ إمَّا بكونِ الفضلِ للصَّفِ ثم للزجر ثم
183
الصافات ٤ ٦ للتِّلاوةِ أو على العكسِ وإن أُجريت كلُّ واحدة منهنَّ على طوائفَ معيَّنةٍ فهو الدلالة على ترتُّبِ الموصوفاتِ في مراتب الفضل بمعنى أنَّ طوائفَ الصَّافَّاتِ ذواتُ فضل والزَّاجراتُ أفضلُ والتَّالياتُ أبهرُ فضلاً أو على العكس وقيل المرادُ بالمذكوراتِ نفوسُ العلماءِ العمَّالِ الصَّافَّاتُ أنفسَها في صفوف الجماعاتِ وأقدامها في الصَّلواتِ الزَّاجراتُ بالمواعظ والنَّصائحِ التَّالياتُ آياتِ الله تعالى الدَّارساتُ شرائعه وأحكامَه وقيل طوائفُ الغُزاة الصَّافَّات أنفسَهم في مواطنِ الحروبِ كأنَّهم بنيانٌ مرصوصٌ أو طوائفُ قُوَّادِهم الصَّافَّاتُ لهم فيها الزَّاجراتُ الخيلَ للجهادِ سوقاً والعدوَّ في المعارك طَرْداً التَّالياتُ آياتِ اللَّهِ تعالى وذكره وتسبيحَه في تضاعيفِ ذلك والكلامُ في العطفِ ودلالتهِ على ترتُّبِ الصِّفاتِ في الفضلِ أو ترتُّب موصوفاتِها فيه كالذي سلفَ وأمَّا الدِّلالةُ على التَّرتُّبِ في الوجودِ كما في قوله يالهف زبانة للحرث الصابح فالغانمِ فالآيبِ فغيرُ ظاهرةٍ في شئ من الطَّوائفِ المذكورة فإنَّه لو سُلِّم تقدُّمُ الصَّفِ على الزَّجرِ في الملائكةِ والغزاةِ فتأخُّرُ التِّلاوةِ عن الزَّجرِ غيرُ ظاهرٍ وقيل الصَّافَّاتُ الطَّيرُ من قوله تعالى والطير صافات والزَّاجراتُ كلُّ ما يزجرُ عن المعاصِي والتّاليات كُّل مَن يتلُو كتابَ اللَّهِ تعالى وقيل الزَّاجراتُ القوارعُ القُرآنيةُ وقرئ بإدغامِ التَّاءِ في الصَّادِ والزاي والذَّالِ
184
﴿إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ﴾ جوابٌ القسم والجملةُ تحقيقٌ للحقِّ الذي هو التَّوحيدُ بما هو المألوفُ في كلامِهم من التَّأكيدِ القسميِّ وتمهيدٌ لما يعقُبه من البُرهانِ النَّاطقِ به أعني قوله تعالى
﴿رب السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق﴾ فإنَّ وجودَها وانتظامَها على هذا النمط البديعِ من أوضحِ دلائلِ وجودِ الصَّانعِ وعلمهِ وقُدرتهِ وأعدلُ شواهدِ وحدتهِ كما مرَّ في قوله تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ وربُّ خبرٌ ثانٍ لأن أو خبر مبتدأ محذوفٍ أي مالكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا من الموجوداتِ ومربِّيها ومبلِّغَها إلى كمالاتِها والمرادُ بالمشارقِ مشارقُ الشَّمسِ وإعادةُ الربِّ فيها لغايةِ ظهورِ آثارِ الرُّبوبيَّةِ فيها وتجدُّدِها كلَّ يومٍ فإنها ثلثمائة وستُّون مشرقاً تشرقُ كلَّ يومٍ من مشرقٍ منها وبحسبها تختلفُ المغاربُ وتغربُ كلَّ يوم في مغربٍ منها وأما قولُه تعالى ﴿رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين﴾ فهُما مشرقا الصَّيفِ والشِّتاءِ ومغرباهُما
﴿إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا﴾ أي القُربى منكم ﴿بِزِينَةٍ﴾ عجيبة بديعة ﴿الكواكب﴾ بالجرِّ بدلٌ من زينةٍ على أنَّ المرادَ بها الاسمُ أي ما يزن به لا المصدرُ فإنَّ الكواكبَ بأنفسها وأوضاع بعضِها من بعضٍ زينةٌ وأيُّ زينة وقرئ بالإضافة على أنَّها بيانيَّةٌ لما أنَّ الزِّينةَ مبهمة صادقة على كلِّ ما يُزان به فتقع الكواكب بياناً لها ويجوزُ أنْ يُراد بزينةِ الكواكبِ ما زُيِّنت هي به وهو ضوؤها ورُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما بزينةِ الكواكبِ بضوءِ الكواكبِ هذا وإمَّا على تقديرِ كون الزِّينةِ مصدراً فالمعنى على
184
الصافات ٧ ١٠ تقدير إضافتها إلى الفاعل بأنْ زانتِ الكواكبُ إيَّاها وأصله بزينة الكواكب وعلى تقدير إضافتها إلى المفعولِ بأنْ زانَ اللَّهُ الكواكبَ وحسَّنها وأصله بزينة الكواكب والمرادُ هو التَّزيينُ في رأي العينِ فإنَّ جميع الكواكب من الثَّوابتِ والسَّياراتِ تبدو للنَّاظرينَ كأنَّها جواهرُ مُتلالئةٌ في سطح سماء الدُّنيا بصورٍ بديعةٍ وأشكال رائعة ولا يقدحُ في ذلك ارتكازُ الثَّوابتِ في الفلك الثَّامنِ وما عدا القمر في الستة المتوسطة إنْ ثبتَ ذلك
185
﴿وَحِفْظاً﴾ منصوبٌ إمَّا بعطفه على زينةٍ باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ إنَّا خلقنا الكواكبَ زينةً للسَّماءِ وحِفظاً ﴿من كل شيطان مارد﴾ أي خارجٍ عن الطَّاعةِ برميِ الشُّهبِ وإمَّا بإضمار فعلهِ وإمَّا بتقدير فعلٍ مؤخَّر معلَّلٍ به كأنَّه قيل وحِفظاً من كلِّ شيطانٍ ماردٍ زيَّناها بالكواكبِ كقوله تعالَى ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين﴾ وقوله تعالى
﴿لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الاعلى﴾ كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لبيان حالهم بعد بيانِ حفظ السماء عنهم مع التَّنبيهِ على كيفيةِ الحفظِ وما يعتريهم في أثناء ذلك من العذابِ ولا سبيلَ إلى جعلهِ صفةً لكلِّ شيطانٍ ولا جواباً عن سؤال مقدَّرٍ لعدمِ استقامةِ المعنى ولا علَّةً للحفظِ على أن يكونَ الأصلُ لئلاَّ يسمعُوا فحُذفتِ اللاَّمُ كما حُذفتْ من قولك جئتُك أنْ تكرمني فبقيَ أنْ لا يسمعُوا ثم بحذف أنْ ويُهدرُ عملُها كما في قول من قالَ أَلاَ أيُّهذا الزَّاجِريْ أحضر الوَغَى لما أنَّ كلَّ واحدٍ من ذينكَ الحذفينِ غيرُ منكرٍ بانفرادِه فأمَّا اجتماعُهما فمنْ أنكرِ المنكرات التي يجبُ تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ الجليلِ عن أمثالها وأصل يسمعون يتسمعون والملأالأ الأعلى الملائكةُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم الكَتَبةُ وعنه أشرافُ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام أي لا يتطلَّبون السَّماعَ والإصغاء إليهم وقرئ يسمعُون بالتَّخفيفِ ﴿وَيَقْذِفُونَ﴾ يُرمَون ﴿مِن كُلّ جَانِبٍ﴾ من جميع جوانبِ السَّماءِ إذا قصدوا الصُّعودَ إليها
﴿دُحُوراً﴾ علَّةً للقذفِ أي للدحور أو حالٌ بمعنى مدحورينَ أو مصدرٌ مؤكِّد له لأنَّهما من وادٍ واحدٍ وقرئ دَحُوراً بفتح الدَّالِ أي قَذْفاً دَحُوراً مبالغاً في الطَّردِ وقد جُوِّز أنْ يكونَ مصدراً كالقَبُولِ والولُوعِ ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ﴾ أي وَلَهُمْ فِى الآخرةِ غيرُ ما في الدُّنيا من عذاب الرَّجمِ بالشُّهبِ عذابٌ شديد دائمٌ غيرُ منقطعٍ كقوله تعالَى ﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير﴾
﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة﴾ استثناءٌ من واوِ يسمَّعون ومَن بدلٌ منه والخطفُ الاختلاسُ والمرادُ اختلاسُ كلامِ الملائكةِ مسارقة كما يُعرب عنه تعريفُ الخَطفةِ وقُرىء بكسرِ الخاءِ والطَّاءِ المشدَّدةِ وبفتحِ الخاء وكسرِ الطَّاءِ
185
الصافات ١١ ١٦ وتشديدها وأصلُهما اختطفَ ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ﴾ أي تبعَه ولحقَه وقرىء فانبعه والشِّهابُ ما يُرى منقضاً من السَّماءِ ﴿ثَاقِبٌ﴾ مضىءٌ في الغايةِ كأنَّه يثقبُ الجوَّ بضوئهِ يُرجم به الشَّياطينُ إذا صعدُوا لاستراقِ السَّمعِ فيقتلهم أو يحرقُهم أو يخبلُهم قالُوا وإنَّما يعودُ من يَسلم منهم حيًّا طمعاً في السَّلامةِ ونيلِ المُرادِ كراكبِ السَّفينةِ
186
﴿فاستفتهم﴾ فاستخبر مُشركي مكَّة ﴿أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً﴾ أي أقوى خِلقةً وأمتنُ بنيةً أو أصعبُ خَلْقاً وأشقُّ إيجاد ﴿أَم مَّنْ خَلَقْنَا﴾ من الملائكةِ والسَّماءِ والأرضِ وما بينهما والمشارقُ والكواكبُ والشُّهبُ الثَّواقبُ ومن لتغليبِ العقلاءِ على غيرِهم ويدلُّ عليه إطلاقُه ومجيئُه بعد ذلك لا سيَّما قراءةُ مَن قرأ أمْ مَن عددنا وقولُه تعالى ﴿إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ فإنَّه الفارقُ بينهم وبينها لا بينهم وبين مِن قَبْلِهِم من الأممِ كعادٍ وثمود ولأنَّ المرادَ إثباتُ المعادِ وردُّ استحالتهم والأمرُ فيه بالإضافةِ إليهم وإلى مَن قبلهم سواء وقرئ لازمٍ ولاتبٍ
﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾ أي من قدرةَ الله تعالى على هذه الخلائقِ العظيمة وإنكارِهم للبعث ﴿ويسخرون﴾ من تعجيبك وتقريرك للبعث وقرئ بضمِّ التَّاءِ على معنى أنَّه بلغ كمالُ قدرتي وكثرةُ مخلوقاتي إليَّ حيث عجبتُ منها وهؤلاءِ لجهلهم يسخرونَ منها أو عجبتُ من أنْ ينكرُوا البعثَ ممَّن هذه أفاعيلُه ويسخرُوا ممَّن يجوزُه والعجبُ من اللَّهِ تعالى إمَّا على الفرضِ والتَّخييلِ أو على معنى الاستعظامِ اللاَّزمِ له فإنَّه رَوعةٌ تعتري الإنسانَ عند استعظام الشئ وقيل إنَّه مقدَّرٌ بالقولِ أي قُل يا محمدُ بل عجبتُ
﴿وَإِذَا ذُكّرُواْ﴾ أي ودأبُهم المستمرُّ أنَّهم إذا وُعظوا بشئ من المواعظِ ﴿لاَ يَذْكُرُونَ﴾ لا يتَّعظون وإذَا ذُكر لهم ما يدلُّ على صحَّةِ البعثِ لا ينتفعُون به لغايةِ بلادتهم وقصورِ فكرهم
﴿وإذا رأوا آية﴾ أي معجزةً تدلُّ على صدقِ القائلِ به ﴿يَسْتَسْخِرُونَ﴾ يُبالغون في السُّخريةِ ويقُولون إنَّه سحرٌ أو يستدعي بعضُهم من بعضٍ أنْ يسخرَ منها
﴿وَقَالُواْ إِنَّ هَذَا﴾ أي ما يَرونه من الآياتِ الباهرةِ ﴿إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ظاهر سحريته
﴿أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما﴾ أي كانَ بعضُ أجزائِنا تُراباً وبعضُها عظاماً وتقديمُ التُّرابِ لأنَّه منقلبٌ من الأجزاءِ الباديةِ والعاملُ فِي إذَا ما دلَّ عليه مبعوثونَ في قوله تعالى ﴿أئنا لمبعوثون﴾ أي نبعث لانفسه لأن دونه خطوبا
186
الصافات ١٧ ٢٢ لو تفرَّدَ واحدٌ منها لكفى في المنعِ وتقديمُ الظَّرفِ لتقويةِ الإنكارِ للبعثِ بتوجيههِ إلى حالةٍ منافيةٍ له غايةَ المُنافاة وكذا تكرير الهمزة في اثنا للمبالغةِ والتَّشديدِ في ذلك وكذا تحليةُ الجملةِ بأنْ واللامِ لتأكيد الانكار لالانكار التاكيد كما يوهمه ظاهر النَّظمِ الكريمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائِها الصدارةَ كما في مثلِ قولِه تعالى ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ على رأي الجمهورِ فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيبِ كما هو المشهور وقُرىء بطرحِ الهمزةِ الأُولى وبطرحِ الثَّانيةِ فَقَطْ
187
﴿أو آباؤنا الاولون﴾ رفعٌ على الابتداءِ وخبرُه محذوفٌ عند سيبويهِ أي وآباؤنا الأوَّلُون أيضاً مبعثون وقبل عطفٌ على محلِّ إنَّ واسمِها وقيل على الضَّميرِ في مبعوثُون للفصلِ بهمزةِ الإنكارِ الجاريةِ مجرى حرفِ النَّفيِ في قوله تعالى مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وأيًّا ما كانَ فمرادُهم زيادةُ الاستبعادِ بناءً على أنَّهم أقدمُ فبعثهم أبعدُ على زعمهم وقُرىء أو آباؤُنا
﴿قُلْ﴾ تبكيتاً لهم ﴿نِعْمَ﴾ والخطابُ في قولِه تعالَى ﴿وَأَنتُمْ داخرون﴾ لهم ولآبائِهم بطريقِ التَّغليبِ والجملةُ حالٌ من فاعلِ ما دلَّ عليه نعم أي كلُّكم مبعوثون والحالُ أنَّكم صاغرونَ أذلاء وقرئ نَعِم بكسرِ العينِ وهي لغةٌ فيه
﴿فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة﴾ هي إمَّا ضميرٌ مبهمٌ يفسِّرهُ خبرُه أو ضميرُ البعثةِ والجملةُ جوابُ شرطٍ مضمرٍ أو تعليلٌ لنهيَ مقدَّرٍ أي إذا كانَ كذلك فإنَّما هي الخ أو لا تستصعبُوه فإنَّما هي الخ والزَّجرةُ الصَّيحةُ من زجرَ الرَّاعي غنمه إذا صاحَ عليها وهي النَّفخةُ الثَّانيةُ ﴿فَإِذَا هُم﴾ قائمونَ من مراقدهم أحياءً ﴿يَنظَرُونَ﴾ يُبصرون كما كانُوا أو ينتظرون ما يفعل بهم
﴿وَقَالُواْ﴾ أي المبعوثونَ وصيغةُ الماضي الدِلالة على التحقق والتقرّرِ ﴿يا ويلنا﴾ أي هلا كنا احضر فهذا أو ان حضورِك وقولُه تعالى ﴿هذا يَوْمُ الدين﴾ تعليلٌ لدعائهم الويلِ بطريق الاستئنافِ أي اليوم الذي نُجازى فيه بأعمالنا وإنَّما علموا ذلك لأنَّهم كانوا يسمعون في الدُّنيا أنَّهم يُبعثون ويُحاسبون ويُجزَون بأعمالهم فلمَّا شاهدوا البعثَ أيقنُوا بما بعدَه أيضاً وقولُه تعالى
﴿هذا يَوْمُ الفصل الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ﴾ كلامُ الملائكةِ جواباً لهم بطريقِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ وقيل هُو أيضاً من كلامِ بعضِهم لبعضٍ والفصلُ القضاءُ أو الفرقُ بين فِرقِ الهُدى والضَّلالِ وقولُه تعالى
﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ﴾ خطابٌ من الله عز وجل للملائكة
187
الصافات ٢٣ ٢٨ أو من بعضِهم لبعضٍ بحشر الظَّلمةِ من مقامهم إلى الموقفِ وقيل من الموقفِ إلى الجحيمِ ﴿وأزواجهم﴾ أي أشباهَهم ونظراءَهم من العصاة عابد الصم مع عبدته وعابد الكواكب مع عَبَدتهِ كقوله تعالى وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة وقيل قرناءَهم من الشَّياطينِ وقيل نساءهم اللاتى عل دينهم ﴿وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾
188
﴿من دُونِ الله﴾ مِن الأصنامِ ونحوِها زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم قيل هو عامٌ مخصوصٌ بقوله تعالى إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى الآيةَ الكريمةَ وأنت خبيرٌ بأنَّ الموصولَ عبارةٌ عن المشركين خاصَّةً جئ به لتعليل الحكمِ بما في حيِّزِ صلتهِ فلا عمومَ ولا تخصيصَ ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الجحيم﴾ أي عرِّفُوهم طريقها ووجِّهوهم إليها وفيه تهكُّمٌ بِهم
﴿وَقِفُوهُمْ﴾ احبِسُوهم في الموقف كأنَّ الملائكة سارعُوا ألى مَا أُمروا بهِ من حشرِهم إلى الجحيم فأُمروا بذلك وعُلِّل بقوله تعالى ﴿إنهم مسؤولون﴾ إيذانا من أولِ الأمرِ بأنْ ذلك ليس للعفو عنهم ولا ليستريحُوا بتأخيرِ العذابِ في الجملة بل ليُسألوا لكن لا عن عقائدهم وأعمالهم كما قيل فإنَّ ذلك قد وقع قبل الأمرِ بهم إلى الجحيمِ بل عمَّا ينطقُ به قوله تعالى
﴿مَا لَكُمْ لاَ تناصرون﴾ بطريق التَّوبيخِ والتَّقريعِ والتَّهكُّمِ أي لا ينصرُ بعضُكم بعضاً كما كنتُم تزعمون في الدُّنيا وتأخيرُ هذا السُّؤالِ إلى ذلك الوقتِ لأنَّه وقتُ تنجُّزِ العذابِ وشدَّةِ الحاجةِ إلى النُّصرةِ وحالة انقطاعِ الرَّجاءِ عنها بالكُلِّية فالتَّوبيخُ والتَّقريعُ حينئذٍ اشد وقعا وتأثيرا وقرئ لا تَتَناصرون ولا تنَّاصرُون بالإدغامِ
﴿بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ﴾ مُنقادون خاضعُون لظهورِ عجزهم وانسدادِ بابِ الحِيلِ عليهم أو أسلم بعضُهم بعضاً وخذله عن عجزٍ فكلُّهم مستسلم غيرُ منتصرٍ
﴿وَأَقْبَلَ﴾ حينئذٍ ﴿بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ هم الأتباعُ والرؤساء أو الكفرةُ والقُرناء ﴿يَتَسَاءلُونَ﴾ يسألُ بعضُهم بعضاً سؤالَ توبيخٍ بطريقِ الخصومةِ والجدالِ
﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ تساؤلهم كأنَّه قيل كيف تساءلوا فقيلَ قالوا أي الأتباعُ للرُّؤساء أو الكلُّ للقرناءِ ﴿إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا﴾ في الدُّنيا ﴿عَنِ اليمين﴾ عن أقوى الوجوهِ وأمتنِها أو عن الدِّينِ أو عن الخيرِ كأنَّكم تنفعوننا نفعَ السائح فتبعناكم فهلكنا مستعارٌ من يمينِ الإنسانِ الذي هو أشرفُ الجانبينِ وأقواهما وأنفعُهما ولذلك سُمِّي يميناً ويُتيمَّن بالسائح أو عن القوَّة والقَسْر فتقسروننا على الغَيِّ وهو الأوفقُ للجوابِ أو عن الحلفِ حيثُ كانُوا يحلفون انهم على الحق
188
الصافات
189
٢٩ - ٣٨ ﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ كما سبق أي قالَ الرُّؤساء أو القُرناء ﴿بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي لم نمنعكُم من الإيمانِ بل لم تُؤمنوا باختيارِكم وأعرضتُم عنه مع تمكُّنِكم منه وآثرتُم الكفرَ عليه
﴿وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان﴾ من قهرٍ وتسلُّطٍ نسلبكم به اختيارَكم ﴿بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين﴾ مُختارين للطُّغيانِ مُصرِّين عليه
﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا﴾ أي لزمنا وثبتَ علينا ﴿قَوْلُ رَبّنَا﴾ وهو قوله تعالى لاملان جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿إِنَّا لَذَائِقُونَ﴾ أي العذابَ الذي وردَ به الوعيدُ
﴿فأغويناكم﴾ فدَعوناكم إلى الغيِّ دعوة غير ملجئة فاستجببتم لنا باختيارِكم واستحبابِكم الغيَّ على الرُّشدِ ﴿إِنَّا كُنَّا غاوين﴾ فلا عتبَ علينا في تعرُّضِنا لإغوائِكم بتلك المرتبةِ من الدَّعوةِ لتكونُوا أمثالنا في الغوايةِ
﴿فَإِنَّهُمْ﴾ أي الأتباعُ والمتبُوعينَ ﴿يَوْمَئِذٍ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ﴾ حسبما كانُوا مشتركينَ في الغواية
﴿إِنَّا كَذَلِكَ﴾ أي مثلَ ذلك الفعلِ البديعِ الذي تقتضيهِ الحكمةُ التَّشريعيَّةُ ﴿نَفْعَلُ بالمجرمين﴾ المتناهينَ في الإجرامِ وهم المُشركون كما يُعرب عنه التَّعليلُ بقولهِ تعالى
﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ بطريقِ الدَّعوةِ والتَّلقينِ ﴿لا إله إلا الله يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن القبولِ
﴿ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ ﴿بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين﴾ ردٌّ عليهم وتكذيبٌ لهم ببيانِ أنَّ ما جاء به من التَّوحيدِ هو الحقُّ الذي قام به البُرهان وأجمعَ عليه كافَّةُ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فأينَ الشِّعرُ والجنونُ من ساحتهِ الرَّفيعةِ
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:﴿ وَيَقُولُونَ أَئنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مجْنُونٍ بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين ﴾ ردٌّ عليهم وتكذيبٌ لهم ببيانِ أنَّ ما جاء به من التَّوحيدِ هو الحقُّ الذي قام به البُرهان وأجمعَ عليه كافَّةُ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فأينَ الشِّعرُ والجنونُ من ساحتهِ الرَّفيعةِ
﴿إِنَّكُمْ﴾ بما فعلتُم من الاشراك وتكذيب الرسول ﷺ والاستكبار ﴿لذائقوا العذاب الأليم﴾
189
الصافات ٣٩ ٤٣ والالتفاتُ لإظهارِ كمالِ الغضبِ عليهم وقُرىء بنصبِ العذابِ على تقديرِ النُّون كقولهِ ولا ذاكرُ اللَّهَ إلا قليلاً وقُرىء لذائقونَ العذابَ على الأصلِ
190
﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كنتم تعملون﴾ أي إلا جزاءَ ما كنتُم تعملونه من السَّيئاتِ أو إلاَّ بما كنتُم تعملونَه منها
﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ استثناءٌ منقطعٌ من ضمير ذائقو وما بينهما اعتراضٌ جئ به مسارعة إلى تحقيق الحقِّ ببيان أنَّ ذوقهم العذاب ليس إلاَّ من جهتِهِم لا من جهة غيرهم أصلاً وجعله استثناء من ضمير تُجزون على معنى أنَّ الكفرة لا يُجزون إلا بقدر أعمالهم دون عباد الله المُخلصين فإنَّهم يجزون أضعافاً مضاعفة مما لا وجهَ لَهُ أصلاً لا سيَّما جعله استثناء متَّصلاً بتعميم الخطاب في تُجزون لجميع المكلَّفين فإنَّه ليس في حيِّزِ الاحتمال فالمعنى إنَّكم لذائقون العذاب الأليم لكنْ عباد الله المُخلصين الموحِّدين ليسُوا كذلك وقولُه تعالى
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إليهم للإيذان بأنَّهم ممتازون بما اتَّصفوا به من الإخلاص في عبادة الله تعالى عمَّن عداهم امتيازاً بالغاً منتظمون بسببه في سِلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإشعار بعلوِّ طبقتِهم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضلِ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى ﴿لَهُمْ﴾ إمَّا خبرٌ له وقوله تعالى ﴿رزق﴾ مرتفع عل الفاعلية بما فيه من الاستقرارِ أو مبتدأٌ ولهم خبرٌ مقدّمٌ والجملةُ خبرُ لأولئك والجملةُ الكُبرى استئناف مبيِّنٌ لما أفاده الاستثناء إجمالاً بياناً تفصيليًّا وقيل هي خبر للاستثناء المنقطع على أنَّه متأوَّلٌ بالمبتدأ وقوله تعالى ﴿مَّعْلُومٌ﴾ أي معلومُ الخصائصِ من حُسن المنظر ولذَّةِ الطَّعمِ وطيب الرَّائحةِ ونحوها من نعوت الكمال وقيل معلوم الوقتِ كقوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً وقوله تعالى
﴿فواكه﴾ إمَّا بدل من رزقٌ أوْ خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ أي ذلك الرزقُ فواكهُ وتخصيصُها بالذِّكر لأنَّ أرزاق أهل الجنَّة كلَّها فواكه أي ما يُؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتياتِ لأنَّهم مستغنون عن القوت لكون خِلقتِهم مُحكمةً محفوظة من التَّحلُّلِ المُحوجِ إلى البدل وقيل لأنَّ الفواكه من أتباع سائرِ الأطعمةِ فذكرُها مُغنٍ عن ذكرِها ﴿وَهُم مُّكْرَمُونَ﴾ عند الله عز وجل لا يلحقُهم هوانٌ وذلك أعظم المثوباتِ وأليقها بأُولي الهممِ وقيل مكرمون في نيله حيثُ يصلُ إليهم بغير تعبٍ وسؤالٍ كما هو شأنُ أرزاقِ الدُّنيا وقرئ مكرَّمون بالتَّشديدِ
﴿فِي جنات النعيم﴾ أي في جناتٍ ليسَ فيها إلاَّ النَّعيمُ وهو ظرف أو حالٌ من المستكنِّ في مكرمون أو خبرٌ ثانٍ لأولئك
190
الصافات ٤٤ ٥٠ وقوله تعالى
191
﴿على سُرُرٍ﴾ محتمل للحاليَّةِ والخبريَّةِ فقولُه تعالى ﴿متقابلين﴾ حالٌ من المستكنِّ فيهِ أو في مُكرمون وقوله تعالى
﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ﴾ إمَّا استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من حكاية تكامن مجالسِ أُنسهم أو حال من الضَّميرِ في متقابلين أو في أحد الجارَّينِ وقد جُوِّز كونُه صفةً لمكرمون ﴿بِكَأْسٍ﴾ بإناء فيه خمر أو بخمرٍ فإنَّ الكأس تطلق على نفس الخمرِ كما في قول مَن قال وَكَأْسٍ شَرِبْتُ على لذَّة وأخرى تَدَاويتُ منها بها ﴿مّن مَّعِينٍ﴾ متعلِّقٌ بمضمرٍ هو صفة لكأس أي كائنةٌ من شرابٍ مَعينٍ أو من نهرٍ مَعينٍ وهو الجاري على وجه الأرضِ الظَّاهرُ للعُيونِ أو الخارجُ من العُيونِ من عان الماءُ إذا نبعَ وصف به الخمرُ وهو للماءِ لأنَّها تجري في الجنَّةِ في أنهارٍ كما يجري الماءُ قال تعالى وأنهارٍ من خمرٍ
﴿بَيْضَاء لَذَّةٍ للشاربين﴾ صفتانِ أيضاً لكأسٍ ووصفها بلذَّةٍ إمَّا للمُبالغةِ كأنَّها نفسُ اللَّذةِ أو لأنَّها تأنيثُ اللَّذِّ بمعنى اللَّذيذِ ووزنه فعل قال... ولذَ كطعمِ الصر خدى تركتُه... بأرضِ العِدا مِنْ خيفة الحدثان...
يريد به النَّومَ
﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ أي غائلةٌ كما في خمور الدُّنيا من غالَه إذا أفسدَه وأهلكه ومنه الغُول ﴿وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ يسكَرُون من نزف الشَّاربُ فهو نَزِيفٌ ومنزوفٌ إذا ذهب عقلُه ويقال للمطعونِ نزف فمات إذا خرج دمُه كلُّه أفرد هذا بالنَّفي مع اندراجه فيما قبله من نفي الغَول عنها لما أنَّه من معظم مفاسد الخمرِ كأنَّه جنس برأسهِ والمعنى لا فيها نوعٌ من أنواع الفسادِ من مغصٍ أو صُداعٍ أو خُمارٍ أو عَربدةٍ أو لغوٍ أو تأثيمٍ ولا هم يسكرون وقرئ يُنزفون بكسر الزَّاي من أنزفَ الشَّاربُ إذا نفدَ عقلُه أو شرابُه وقرئ ينزفون بضمِّ الزَّاي من نَزَف يَنزُف بضمِّ الزَّاي فيهما
﴿وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف﴾ قصرن أبصارَهنَّ على أزواجهنَّ لا يمددن طَرفاً إلى غيرهم ﴿عِينٌ﴾ نجُلُ العُيونِ جمع عَيْناءَ والنَّجَلُ سعةُ العينِ
﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ شُبِّهن ببيض النَّعامِ المصونِ من الغبارِ ونحوه في الصَّفاءِ والبياض المخلوطِ بأدنى صُفرةٍ فإن ذلك أحسنُ ألوانِ الأبدانِ
﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ﴾ معطوف على يُطاف أي يشربون فيتحادثُون على الشَّراب كما هو عادة الشرب قال... وما
191
الصافات ٥١ ٥٦ بَقِيَتْ مِن اللَّذاتِ إلا... أحاديثُ الكرامِ على المُدامِ...
فيقبل بعضُهم على بعضٍ يَتَسَاءلُونَ عن الفضائلِ والمعارفِ وعمَّا جرى لهم وعليهم في الدُّنيا فالتَّعبيرُ عنه بصيغة الماضي للتَّأكيدِ والدِّلالةِ على تحقُّقِ الوقوع حتماً
192
﴿قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ﴾ في تضاعيف محاوراتهم ﴿إِنّى كَانَ لِى﴾ في الدُّنيا ﴿قَرِينٌ﴾ مصاحب
﴿يِقُولُ﴾ لي على طريقة التَّوبيخِ بما كنت عليه من الإيمان والتَّصديقِ بالبعث ﴿أئنك لَمِنَ المصدقين﴾ أي بالبعث وقرئ بتشديدِ الصَّادِ من التَّصدُّقِ والأوَّلُ هو الأوفقُ لقولهِ تعالى
﴿أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أئنا لَمَدِينُونَ﴾ أي لمبعوثون ومجزيُّون من الدِّينِ بمعنى الجزاء أو لمسوسُون يقال دانَه أي ساسَه ومنه الحديثُ العاقلُ من دانَ نفسَه وقيل كان رجلٌ تصدَّقَ بماله لوجه الله تعالى فاحتاج فاستجدَى بعضَ إخوانهِ فقال أين مالكُ قال تصدَّقتُ به ليعوضني الله تعالى في الآخرةِ خيراً منه فقال أئنَّك لمن المُصدِّقين بيوم الدِّينِ أو من المتصدِّقين لطلب الثَّوابِ والله لا أُعطيك شيئاً فيكون التَّعرُّضُ لذكر موتهم وكونِهم تُراباً وعظاماً حينئذٍ لتأكيدِ إنكار الجزاءِ المبني على إنكارِ البعث
﴿قَالَ﴾ أي ذلك القائلُ بعد ما حكى لجلسائه مقالة قرينهِ في الدُّنيا ﴿هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ﴾ أي إلى أهل النَّارِ لأريكم ذلك القرينَ يريد بذلك بيانَ صدقهِ فيما حكاه وقيل القائلُ هو اللَّهُ تعالى أو بعضُ الملائكة يقول لهم هل تُحبُّون أنْ تطَّلعوا على أهل النَّارِ لأريكم ذلك القرينَ فتعلموا أين منزلتُكم من منزلتهم قيل إنَّ في الجنَّة كُوى ينظر منها أهلُها إلى أهل النَّارِ
﴿فاطلع﴾ أي عليهم ﴿فرآه﴾ أي قربنه ﴿فِى سَوَاء الجحيم﴾ أي في وسطها وقرئ فأطَّلِعَ على لفظ المضارع المنصوب وقرئ مُطَّلعون فأطَّلع وفأطْلُعَ بالتَّخفيف على لفظ الماضي والمضارعِ المنصوبِ يقال طلعَ علينا فلان واطلع واطلع بمعنى واحد والمعنى هل أنتُم مطلعون الى القرن فأطَّلع أنا أيضاً أو عرض عليهم الاطِّلاعَ فقبلوا ما عرضَه فاطَّلع هو بعد ذلك وإن جُعل الاطِّلاعُ متعدِّياً فالمعنى أنَّه لما شرط في إطِّلاعه إطِّلاعهم كما هو ديدن الجُلساءِ فكأنَّهم مُطْلِعُوه وقيل الخطاب على هذا للملائكةِ وقُرىء مطلعون بكسر النون اراد مطلعونَ إيَّاي فوضع المتَّصلَ موضع المنفصل كقولهم هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونه اوشبه اسمُ الفاعل بالمضارع لما بينهما من التَّآخِي
﴿قَالَ﴾ أي القائلُ مخاطباً لقرينهِ ﴿تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ﴾ أي لتُهلكني بالإغواءِ وقرىء
192
الصافات ٥٧ ٦٢ لتُغوينِ والتَّاءُ فيه معنى التَّعجُّبِ وإنْ هي المخففةُ من أنَّ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمها محذوف واللاَّمُ فارقةٌ أي تاللَّهِ ان الشأن كدت لنردين
193
﴿وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى﴾ بالهدايةِ والعصمة ﴿لَكُنتُ مِنَ المحضرين﴾ أي من الذين أُحضروا العذابَ كما أُحضِرْته أنتَ وأضرابُك وقوله تعالى
﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ﴾ رجوع إلى محاورةِ جلسائه بعد إتمامِ الكلام مع قرينه تبجُّحاً وابتهاجاً بما أتاحَ الله عزَّ وجلَّ لهم من الفضلِ العظيمِ والنَّعيمِ المقيمِ والهمزة للتَّقريرِ وفيها معنى التَّعجُّبِ والفاء للعطف على مقدَّرٍ يقتضيه نظمُ الكلام أي أنحنُ مخلَّدون منعَّمون فما نحنُ بميِّتين أي بمن شأنه الموت وقُرىء بمائتينَ
﴿إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاولى﴾ التي كانت في الدُّنيا وهي متناولةٌ لما في القبر بعد الإحياء للسُّؤالِ قاله تصديقاً لقوله تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى وقيل إنَّ أهلَ الجنَّةِ أوَّلَ ما دخلُوا الجنَّة لا يعلمون أنَّهم لا يموتون فإذا جِيء بالموت على صُورة كبشٍ أملحَ فذُبح ونُودي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت يعلمونه فيقولون ذلك تحدُّثاً بنعمة الله تعالى واغنباطا بها ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ كالكُفَّار فإنَّ النَّجاةَ من العذاب أيضاً نعمة جليلة مستوجبة للتَّحدثِ بها
﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي الأمرُ العظيم الذي نحن فيه ﴿لَهُوَ الفوز العظيم﴾ وقيل هو من قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ تقريراً لقولهم وتصديقاً له وقرىء لهو الرِّزقُ العظيم وهو ما رُزقوه من السَّعادةِ العظمى
﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون﴾ أي لنيل هذا المرامِ الجليلِ يجب أنْ يعمل العاملون لا للحظوظِ الدُّنيويَّةِ السَّريعةِ الانصرام المشُوبةِ بفنون الآلام وهذا أيضاً يحتملُ أن يكونَ من كلام ربِّ العزَّةِ
﴿أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم﴾ أصل النُّزلِ الفضل والرِّيعُ فاستُعير للحاصل من الشَّيءِ فانتصابُه على التَّمييزِ أي أذلك الرِّزقُ المعلومُ الذي حاصلُه اللَّذةُ والسُّرورُ خيرٌ نزلاً أم شجرةُ الزَّقُومِ التي حاصلها الألم والغمُّ ويقال النُّزل لما يقامُ ويهيَّأُ من الطَّعامِ الحاضر للنَّازلِ فانتصابُه على الحاليَّةِ والمعنى أنَّ الرِّزقَ المعلوم نزلُ أهل الجنَّةِ وأهلُ النَّارِ نُزلهم شجرةُ الزَّقُّوم فأيُّهما خيرٌ في كونه نزلاً والزَّقُّومُ اسم شجرةٍ صغيرةِ الورقِ دَفرةٍ مُرَّةٍ كريهةِ الرَّائحةِ تكون في تِهامة سمِّيتْ به الشجرة الموصوفة
193
الصافات
194
٦٣ - ٦٩ ﴿إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين﴾ محنةً وعذاباً لهم في الآخرة وابتلاء في الدُّنيا فإنَّهم لمَّا سمعوا أنَّها في النَّار قالوا كيف يمكن ذلك والنَّارُ تحرق الشَّجَر ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوانٍ يعيش في النَّارِ ويتلذذ بها افدر على خلق الشَّجرِ في النار وحفظه من الاحراق
﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الجحيم﴾ منبتُها في قعر جهنَّم وأغصانها ترتفعُ الى دركانها وقُرىء نابتةٌ في أصل الجحيم
﴿طَلْعُهَا﴾ أي حملُها الذي يخرج منها مستعار من طلع النَّخلةِ لمشاركته له في الشكل والطلوع من الشَّجرِ قالوا أوَّلُ التَّمرِ طَلعٌ ثم خِلالٌ ثم بلح ثم بسر ثم رُطَبٌ ثم تمرٌ ﴿كأنه رؤوس الشياطين﴾ في تناهي القُبح والهول وهو تشبيه بالمخيل كتشبيه الفائق في الحُسنِ بالمَلَك وقيل الشَّياطينُ الحيَّاتُ الهائلةُ القبيحةُ المنظر لها أعرافٌ وقيل إنَّ شجراً يقال له الأستنُ خشناً مُنتناً مُرًّا منكر الصُّورةِ يسمى ثمره رءوس الشَّياطينِ
﴿فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا﴾ أي من الشَّجرةِ أو من طلعِها فالتَّأنيثُ مكتسب من المضافِ إليه ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون﴾ لغلبة الجوعِ أو للقسرِ على أكلِها وإنْ كرهوها ليكونَ ذلك باباً من العذابِ
﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا﴾ على الشَّجرةِ التي ملأوا منها بطونهم بعد ما شبِعُوا منها وغلبهم العطشُ وطال استسقاؤهم كما يُنبىء عنه كلمةُ ثُمَّ ويجوز أنْ تكونَ لما في شرابهم من مزيدِ الكراهة والبشاعةِ ﴿لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ﴾ لشراباً من غسَّاقٍ أو صديدٍ مشُوباً بماءٍ حميمٍ يُقطِّع أمعاءهم وقُرىء بالضَّمِّ وهو اسم لما يُشاب به والأوَّلُ مصدر سُمِّي به
﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ﴾ أي مصيرَهم وقد قُرىء كذلك ﴿لإِلَى الجحيم﴾ لإلى دَرَكاتِها أو إلى نفسها فإنَّ الزَّقُّومَ والحميمَ نزلٌ يقدَّمُ إليهم قبل دخولها وقيل الحميمُ خارجٌ عنها لقوله تعالَى هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون يَطُوفُونَ بينها وبين حميم آن يذهب بهم عن مقارِّهم ومنازلهم في الجحيمِ إلى شجرة الزَّقُّومِ فيأكلون منها الى ان يمتثلوا ثم يُسقون من الحميم ثم يُردُّون إلى الجحيم ويُؤيِّده أنَّه قُرىء ثمَّ إنَّ منقلبَهم
﴿إنهم ألفوا آباءهم ضَالّينَ﴾ تعليل لاستحقاقِهم ما ذُكر من فنونِ العذاب بتقليد الآباء في الدِّينِ من غير أن يكون لهم ولا لآبائِهم شيءٌ يتمسَّكُ به أصلاً أي وجدوهم ضالِّين في نفس
194
الصافات ٧٠ ٧٦ الأمر ليس لهم ما يصلُح شبهةً فضلاً عن صلاحيةِ الدَّليلِ
195
﴿فهم على آثارهم يُهْرَعُونَ﴾ من غير أنْ يتدبروا أنَّهم على الحقِّ أولاً مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمُّلٍ والإهراعُ الإسراع الشَّديدُ كأنَّهم يُزعجون ويحثُّون حثًّا على الإسراع على آثارِهم وقيل هو إسراعٌ فيه شبه رعدةٍ
﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ﴾ أي قبلَ قومِك قريش ﴿أَكْثَرُ الاولين﴾ من الأمم السَّالفةِ وهو جواب قسم محذوفٍ وكذَا قولُه تعالى
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ﴾ أي أنبياءَ أولي عددٍ كثيرٍ وذوي شأنٍ خطيرٍ بيَّنوا لهم بُطلانَ ما هم عليه وأنذرُوهم عاقبته الوَخِيمَةِ وتكريرُ القَسَمِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمون كلَ من الجملتين
﴿فانظر كيف كان عاقبة المنذرين﴾ من الهول والفظاعةِ لمَّا لم يلتفتُوا إلى الإنذار ولم يرفعُوا له رأساً والخطابُ إمَّا لرسولِ الله ﷺ أو لكل أحد ممن يتمكَّنُ من مشاهدة آثارِهم وحيث كان المعنى أنَّهم اهلكوا هلاكا فظيعاً استُثني منهم المُخلصون بقوله تعالى
﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ أي الذين أخلصَهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعملِ بموجب الإنذارِ وقُرىء المخلِصين بكسر اللاَّم أي الذين أخلصُوا دينَهم لله تعالى
﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ﴾ نوعُ تفصيلٍ لَما أُجمل فيما قبل ببيان أحوال بعض المرسلين وحسنِ عاقبتهِم متضمِّنٍ لبيان سوء عاقبة بعض المُنذرين حسبما أُشير إليه بقوله تعالى فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين كقوم نوح آل فرعونَ وقوم لوطٍ وقوم إلياسَ ولبيان حُسن عاقبةِ بعضهم الذين أخلصُهم الله تعالى ووفَّقهم للإيمان كما أشار إليه الاستثناء كقوم يونسَ عليه السَّلامُ ووجه تقديم قصَّةِ نوحٍ على سائر القصص غنيٌّ عن البيان واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ وكذا ما في قوله تعالى ﴿فَلَنِعْمَ المجيبون﴾ أي وباللَّهِ لقد دعانا نوحٌ حين يئسَ من ايمان قومه بعد ما دعاهُم إليه أحقاباً ودُهُوراً فلم يزدهم دعاؤُه إلا فراراً ونُفوراً فأجبناه أحسنَ الاجابة فو الله لنعم المُجيبون نحن فحُذف ما حُذف ثقةً بدلالة ما ذُكر عليه والجمع دليلُ العظمةِ والكبرياءِ
﴿ونجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم﴾ أي من الغَرقِ وقيل من أذيةِ قومه
195
الصافات
196
٧٧ - ٨٣ ﴿وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين﴾ فحسب حيثُ أهلكنا الكفرة بموجب دعائه رب لاتذر عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً وقد رُوي أنَّه ماتَ كلُّ من كانَ معه في السَّفينةِ غير أبنائه وأزواجهم أو هم الذين بقوا مُتناسلين إلى يوم القيامة قال قتادة النَّاسُ كلُّهم من ذُرِّيةِ نوحٍ عليه السَّلامُ وكان له ثلاثةُ أولادٍ سامٌ وحام ويافث فسام أبو العربِ وفارسَ والرُّومِ وحامٌ أبُو السودانِ من المشرق إلى المغربِ ويافثٌ أبو التُّركِ ويأجوجَ ومأجوجَ
﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين﴾ من الأمم
﴿سلام على نُوحٍ﴾ أي هذا الكلامُ بعينه وهو واردٌ على الحكاية كقولك قرأتُ سورة أنزلناها والمعنى يُسلِّمون عليه تسليماً ويدعُون له على الدَّوام أمَّةً بعد أمَّةٍ وقيل ثمة قولٌ مقدَّرٌ أي فقلنا وقيل ضُمِّن تركنا معنى قلنا وقوله تعالى ﴿فِى العالمين﴾ متعلِّقٌ بالجارِّ والمجرورِ ومعناهُ الدُّعاء بثباتِ هذه التَّحيةِ واستمرارِها أبداً في العالمين من الملائكة والثَّقلينِ جميعاً وقوله تعالى
﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين﴾ تعليلٌ لما فُعل به عليه الصلاة والسلام من التَّكرمةِ السَّنيةِ من إجابةِ دُعائهِ أحسنَ إجابةٍ وإبقاء ذُرِّيتهِ وتَبقيةِ ذكره الجميلِ وتسليم العالمين عليه إلى آخرِ الدَّهرِ بكونه من زُمرة المعروفين بالإحسان الرَّاسخينَ فيه وأنَّ ذلك من قبيل مُجازاة الإحسانِ بالإحسانِ وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكر من الكراماتِ السَّنيةِ التي وقعتْ جزاءً له عليه الصلاة والسلام وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمُشار إليه للإيذان بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضل والشَّرفِ والكافُ متعلِّقةٌ بما بعدها أي مثلَ ذلك الجزاءِ الكامل نجزِي الكاملينَ في الاحسان لاجزاء أدنى منه وقوله تعالى
﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ تعليل لكونهِ من المحسنين بخلوصِ عبوديته وكمال إيمانه وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما مالا يخفى
﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخرين﴾ أي المغايرين لنوحٍ وأهله وهُم كفار وقومه أجمعين
﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ﴾ أي ممَّن شايعه في أصول الدِّينِ ﴿لإبراهيم﴾ وإنِ اختلفتْ فروعُ شرائعهما ويجوزُ أن يكون بين شريعتيهما اتِّفاقٌ كلي او اكثرى وعن ابن عباس رضي الله عنهما من أهل دينهِ وعلى سنَّتهِ أو ممَّن شايعه على التَّصلُّبِ في دينِ الله ومصابرةِ المكذِّبين وما
196
الصافات ٨٤ ٩٠ كان بينهما إلا نبيَّانِ هود وصالح عليهم السلام وكان بين نوح وإبراهيمَ ألفانِ وستمائةٍ وأربعون سنةً
197
﴿إِذْ جَاء رَبَّهُ﴾ منصوب باذكُر أو متعلقٌ بما في الشِّيعةِ من معنى المُشايعةِ ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ أي من آفات القلوب أو من العلائقِ الشَّاغلةِ عن التَّبتلِ إلى الله عزَّ وجلَّ ومعنى المجيء به ربَّه إخلاصُه له كأنَّه جاء به متحفاً إيَّاهُ بطريق التَّمثيلِ
﴿إذ قال لابيه وقومه مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ بدلٌ من الأولى أو ظرفٌ لجاء أو لسليمٍ أي أيَّ شيءٍ تعبدُونه
﴿أئفكا آلهة دُونَ الله تُرِيدُونَ﴾ أي أتريدون آلهةً من دونِ الله إفكاً أي للإفكِ فقدَّم المفعولَ على الفعل للعنايةِ ثمَّ المفعولَ له على المفعولِ به لأنَّ الأهمَّ مكافحتُهم بأنَّهم على إفكٍ وباطل في شركهم ويجوزُ أن يكونَ إفكاً مفعولاً به بمعنى أتريدون إفكاً ثم يفسَّر الإفكُ بقوله آلهةً من دونِ الله دلالةً على أنَّها إفكٌ في نفسها للمبالغةِ أو يراد بها عبادتُها بحذفِ المضافِ ويجوزُ أنْ يكون حالاً بمعنى آفكينَ
﴿فَمَا ظنُّكم بِرَبّ العالمين﴾ أي بمن هو حقيقٌ بالعبادة لكونه ربًّا للعالمين حتَّى تركتُم عبادته خاصَّةً وأشركتُم به أخسَّ مخلوقاته أو فما ظنُّكم به أي شيء هو من الأشياء حتى جعلتُم الأصنام له اندادا او فماظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم بعد ما فعلتم ما فعلتُم من الإشراكِ به
﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم﴾ قيل كانت له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حُمَّى لها نوبةٌ معيَّنةٌ في بعض ساعات اللَّيلِ فنظر ليعرفَ هل هي تلك السَّاعةُ فإذا هي قد حضرتْ
﴿فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ﴾ وكان صادقاً في ذلك فجعلَه عُذراً في تخلُّفهِ عن عيدهم وقيل أرادَ إنِّي سقيمُ القلبِ لكفرِكم وقيل نظر في علمِها أو في كتبها أو في أحكامها ولا منعَ من ذلك حيثُ كان قصدُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إيهامَهم حين أرادُوا أنْ يخرجُوا به عليه الصلاة والسلام الى معيدهم ليتركُوه فإنَّ القومَ كانوا نجَّامين فأوهمهم أنَّه قد استدل بأمارة في النُّجوم على أنَّه سقيمٌ أي مشارف للسقمِ وهو الطَّاعُونُ وكان أغلبَ الأسقامِ عليهم وكانوا يخافون العدوى ليتفرَّقوا عنه فهربُوا منه الى معبدهم وتركوه في بيت الأصنامِ وذلك قوله تعالى
﴿فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ أي هاربين مخافة العدوى
197
الصافات
198
٩١ - ٩٦ ﴿فراغ إلى آلهتهم﴾ أي ذهب إليها في خيفة وأصله الميلُ بحيلةٍ ﴿فَقَالَ﴾ للأصنام استهزاءً ﴿أَلا تَأْكُلُونَ﴾ أي من الطَّعامِ الذي كانوا يصنعونَه عندها لتبرِّكَ عليه
﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ﴾ أي بجوابي
﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ﴾ فمالَ مستعلياً عليهم وقوله تعالى ﴿ضَرْباً باليمين﴾ مصدر مؤكِّدٌ لراغَ عليهم فإنَّه بمعنى ضربَهم أو لفعلٍ مضمرٍ هُو حالٌ من فاعلِه أي فراغ عليهم يضربُهم ضرباً أو هو الحالُ منه على أنه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ أي فراغَ عليهم ضارباً باليمين أي ضرباً شديداً قويًّا وذلك لأنَّ اليمينَ أقوى الجارحتينِ وأشدُّهما وقوَّةُ الآلةِ تقتضي قُوَّة الفعلِ وشدَّته وقيل بالقُوَّةِ والمتانةِ كما في قوله... إذَا مَا رايةٌ رُفعتْ لمجده... تَلقَّاها عُرابةُ باليمينِ...
أي بالقُوَّة وعلى ذلك مدارُ تسميةِ الحلفِ باليمينِ لأنَّه يُقوِّي الكلامَ ويؤكِّدُه وقيل بسبب الحلفِ وهو قولُه تعالى وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم
﴿فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ﴾ أي المأمورون بإحضاره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام فوجدُوها مكسورةً فسألوا عن الفاعلِ فظنُّوا أنه عليه الصلاةُ والسلام فعلَه فقيل فأتُوا به ﴿يَزِفُّونَ﴾ حالٌ من واوِ أقبلُوا أي يُسرعون من زَفيفِ النَّعامِ وقُرىء يَزِفُون من أزفَ إذا دخلَ في الزَّفيف أو من أزفّه أي حملَه على الزَّفيفِ أي يزف بعضُهم بعضاً ويُزَفُّون على البناء للمفعولِ أي يُحملون على الزَّفيف ويَزِفون من وزَف يزِف إذا أسرع ويُزَفُّون من زفّاه إذا حداه كأنَّ بعضَهم يزفُو بعضاً لتسارعهم إليه عليه الصلاة والسلام
﴿قَالَ﴾ أي بعدما أتَوا به عليه الصلاة والسلام وجرى بينه ﷺ وبينهم من المحاوراتِ ما نطقَ به قولُه تعالى قالوا اانت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم إلى قوله تعالى لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ ما تنحتونَه من الأصنام وقولِه تعالى
﴿والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ حالٌ من فاعل تعبدون مؤكِّدةٌ للإنكار والتَّوبيخِ أي والحالُ أنَّه تعالى خلقكم وخلقَ ما تعملونَهُ فإنَّ جواهرَ أصنامِهم ومادتها بخلقه تعالى وشكلها وإن كان بفعلهم لكنَّه بإقداره تعالى إيَّاهم عليه وخلقه ما يتوقَّفُ عليه فعلُهم من الدَّواعي والعدد والأسباب وما تعملون إمَّا عبارةٌ عن الأصنامِ فوضعه موضعَ ضميرِ ما تنحِتون للإيذان بأنَّ مخلوقيَّتها لله عزَّ وجلَّ ليس من حيثُ نحتُهم لها فقط بل من حَيثُ سائرُ أعمالهم أيضاً من التَّصويرِ والتَّحليةِ والتَّزيينِ ونحوها وإمَّا على عمومهِ فينتظم الاصنام انتظاما
198
الصافات ٩٧ ١٠٢ أوليًّا مع ما فيه من تحقيقِ الحقِّ ببيانِ أنَّ جميعَ ما يعملونَهُ كائناً ما كان مخلوقٌ له سبحانه وقيل ما مصدريةٌ أي عملَكم على أنَّه بمعنى المفعولِ وقيل بمعناه فإنَّ فعلَهم إذا كان بخلقِ اللَّهِ تعالى كان مفعولهم المتوقِّفُ على فعلهم أولى بذلك
199
﴿قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم﴾ أي في النَّارِ الشَّديدةِ الاتِّقادِ من الجحمةِ وهي شدَّةُ التأجح واللاَّم عوضٌ من المضاف إليه أي جحيم ذلك البنيانِ وقد ذكر كيفية بنائهم له في سورة الأنبياء
﴿فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً﴾ فإنَّه عليه الصلاة والسلام لما قهرهم بالحجَّةِ وألقمهم الحجرَ قصدُوا ما قصدُوا لئلاَّ يظهرَ للعامَّةِ عجزُهم ﴿فجعلناهم الاسفلين﴾ الأذلِّين بإبطال كيدِهم وجعله برهاناً نيِّراً على علو شأنِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بجعلِ النار عليه بردا وسلاما
﴿وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى﴾ أي مهاجرٌ إلى حيثُ أمرني ربِّي كما قال إنِّي مهاجرٌ إلى ربِّي وهو الشَّامُ أو إلى حيث أتجرَّدُ فيه لعبادته تعالى ﴿سَيَهْدِينِ﴾ أي إلى ما فيه صلاحٌ ديني أو إلى مقصدي وبت القول بذلك لسبقِ الوعدِ أو لفرط توكِّله وللبناء على عادته تعالى معه ولم يكُن كذلك حالُ موسى عليه السلام حيث قال عسى ربى أن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل ولذلك أتى بصيغة التَّوقُّعِ
﴿رَبّ هَبْ لِى مِن الصالحين﴾ أي بعضَ الصَّالحينَ يعينني على الدَّعوةِ والطَّاعةِ ويؤنسني في الغُربةِ يعني الولد لأن لفظَ الهبة على الإطلاقِ خاصٌّ به وإن كان قد وردَ مقيَّداً بالأخوةِ في قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رحمتنا أخاه هرون نَبِيّاً ولقوله تعالى
﴿فبشرناه بغلام حَلِيمٍ﴾ فإنَّه صريحٌ في أن المبشربه عينُ ما استوهبه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولقد جمع فيه بشاراتٌ ثلاثٌ بشارةُ انه غلام وأنه يبلع او ان الحُلُم وأنَّه يكونُ حَليماً وأيُّ حِلْمٍ يُعادل حلمَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين عرض عليه يا أبت أبوه الذبح فقال يأبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إن شاء الله من الصابرين وقيل ما نعتَ اللَّهُ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بأقلَّ ممَّا نعتهم بالحِلْمِ لعزَّةِ وجودهِ غيرَ إبراهيمَ وابنه فإنَّه تعالى نعتهما به وحالهما المحكيَّةُ بعد أعدلُ بينةٍ بذلك والفاء في قوله تعالى
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى﴾ فصيحةٌ معربة عن مقدَّرٍ قد حُذف تعويلاً على شهادةِ الحال وإيذاناً بعدمِ الحاجة إلى التصريح
199
الصافات ١٠٣ به لاستحالةِ التَّخلُّفِ والتَّأخُّرِ بعد البشارة كما مرَّ في قوله تعالى فلما رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وفي قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه أي فوهبناه له فنشأ فلمَّا بلغَ رتبة ان يسعى معى في أشغالهِ وحوائجهِ ومعه متعلق بمحذوف ينبئ عنه السَّعيُ لا بنفسِه لأنَّ صلة المصدرِ لا تتقدَّمُه ولا يبلغ لأنَّ بلوغَهما لم يكن معاً كأنَّه لما ذُكر السَّعيُ قيل مع مَن فقيل مَعَه وتخصيصُه لأنَّ الأبَ أكملُ في الرِّفقِ والاستصلاحِ فلا يستسعيه قبل أوانهِ أو لأنَّه استوهبه لذلك وكان له يومئذٍ ثلاثَ عشرة سنةً ﴿قَالَ﴾ أيْ إبراهيمُ عليهِ السلام ﴿يا بني إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ﴾ أي أرى هذه الصُّورة بعينها أو ما هذه عبارتُه وتأويلُه وقيل إنه رأى ليلةَ التَّرويةِ كأنَّ قائلاً يقول له إنَّ الله يأمُرك بذبحِ ابنِك هذا فلمَّا أصبحَ رَوَّى في ذلك من الصَّباحِ إلى الرَّواحِ أمنَ اللَّهِ هذا الحُلُم أم من الشَّيطانِ فمن ثمة سُمِّي يوم التَّرويةِ فلمَّا أمسى رأى مثلَ ذلك فعرفَ أنَّه من اللَّهِ تعالى فمن ثمَّة سمِّي يومَ عرفة ثم رأى مثله في اللَّيلةِ الثَّالثةِ فهمَّ بنحرهِ فسمِّي اليوم يومَ النَّحرِ وقيل إنَّ الملائكةَ حين بشَّرته بغلامٍ حليمٍ قال إذن هو ذبيح الله فلمَّا وُلد وبلغ حدَّ السَّعيِ معه قيل له أوفِ بنذرك والأظهرُ الأشهرُ أنَّ المخاطَب إسماعيلُ عليه السَّلامُ إذ هُو الذي وُهب إثرَ المُهاجرةِ ولأنَّ البشارة بإسحق بعده معطوفٌ على البشارةِ بهذا الغلام ولقوله ﷺ أنا ابنُ الذَّبيحين فأحدُهما جدُّه إسماعيلُ عليه السَّلامُ والآخرُ أبُوه عبدُ اللَّهِ فإنَّ عبد المطَّلبِ نذر أنْ يذبحَ ولداً أنْ سهَّل الله تعالى له حفرَ بئرِ زمزمٍ أو بلغ بنُوه عشرةً فلمَّا حصل ذلك وخرجَ السَّهمُ على عبدِ اللَّهِ فداهُ بمائةٍ من الإبلِ ولذلك سُنَّت الدِّيةُ مائةً ولأنَّ ذلك كان بمكَّة وكان قَرْنا الكبشِ معلَّقين بالكعبةِ حتَّى احترقا في أيَّامِ ابن الزُّبيرِ ولم يكن إسحق ثمة ولان بشارة إسحق كانت مقرونةً بولادةِ يعقوبَ منه فلا يُناسبه الأمرُ بذبحهِ مُراهِقاً وما رُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام سئل عن النَّسب أشرفُ فقال يوسفُ صدِّيقُ اللَّهِ ابنُ يعقوبَ اسرائيل الله ابن اسحق ذبيحِ اللَّهِ ابنِ إبراهيمَ خليلِ اللَّهِ فالصَّحيحُ أنَّه عليه الصلاةُ والسلام قال يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ اسحق بن ابراهيم الزوائد من الرَّاوي وما رُوي من أنَّ يعقوبَ كتب إلى يوسفَ مثلَ ذلك لم يثبت وقرئ إنِّيَ بفتح الياءِ فيهما ﴿فانظر مَاذَا ترى﴾ من الرَّأيِ وإنَّما شاوره فيه وهو أمرٌ محتومٌ ليعلمَ ما عنده فيما نَزلَ من بلاءِ اللَّهِ تعالى فيُثبِّت قدمَه إنْ جَزِعَ ويأمن عليه إنْ سلَّم وليُوطِّنَ نفسَه عليه فيُهون ويكتسبُ المثوبة عليه بالانقيادِ له قبل نزول وقرى ماذا تُري بضمِّ التَّاءِ وكسرِ الرَّاءِ وبفتحِها مبنياً للمفعول ﴿قال يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ﴾ أي تُؤمر بهِ فحذف الجارُّ أوَّلاً على القاعدةِ المُطَّردةِ ثم حُذف العائدُ إلى الموصولِ بعد انقلابه منصوباً بإيصاله إلى الفعلِ أو حُذفا دفعةً أو افعل أمرك على إضافة المصدر إلى المفعولِ وتسمية المأمورِ به امرا وقرئ ما تؤمر به وصيغة المضارعِ للدِّلالةِ على أنَّ الأمرَ متعلِّقٌ به متوجِّهٌ إليه مستمرٌّ إلى حينِ الامتثالِ به ﴿سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين﴾ على الذَّبحِ أو على قضاء الله تعالى
200
﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ أي استسلما لأمرِ الله تعالى وانقادا وخَضَعا له يقال سَلَّم لأمرِ الله وأسلَم واستسلَم بمعنى واحد وقد قرئ بهنَّ جميعاً وأصلُها من قولك سلم هذا الفلان إذا خلُص له ومعناه سَلِمَ من أنْ يُنازع فيهِ وقولهم سلَّم لأمرِ الله وأسلمَ له منقولانِ منه ومعناهما أخلصَ نفسَه الله
200
الصافات ١٠٤ ١٠٩ وجعلها سالمةً له وكذلك معنى استسلَم استخلصَ نفسَه له تعالى وعن قتادة رضى الله عنه في أسلما أسلَمَ إبراهيمُ ابنَه وإسماعيلُ نفَسه ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ صرعَه على شقِّه فوقع جبينُه على الأرض وهو أحدُ جانبَيْ الجبهةِ وقيل كبَّه على وجههِ بإشارتهِ كيلا يرى منه ما يُورِث رقَّةً تحولُ بينه وبين أمرِ الله تعالى وكان ذلك عند الصَّخرةِ من مِنَى وقيل في الموضعِ المُشرف على مسجدِ مِنَى وقيل في المنحرِ الذي يُنحر اليوم فيه
201
﴿وناديناه أن يا إبراهيم﴾ ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا﴾ بالعزم على الإتيانِ بالمأمور به ترتيب مقدماتهِ وقد رُوي أنَّه أمرَّ السِّكِّينَ بقوَّتهِ على حلقهِ مراراً فلم يقطعْ ثم وضع السِّكِّينَ على قفاه فانقلبَ السِّكِّينُ فعند ذلك وقع النداء جواب لمَّا محذوفٌ إيذاناً بعدم وفاء التَّعبيرِ بتفاصيله كأنَّه قيل كانَ ما كانَ مما لا يحيطُ به نطاقُ البيانِ من استبشارهما وشكرِهما لله تعالَى عَلى ما أنعمَ به عليهما من دفعِ البلاء بعد حلولهِ والتَّوفيقِ لما لم يُوفَّقْ أحدٌ لمثله وإظهارِ فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثَّوابِ العظيمِ إلى غيرِ ذلك ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين﴾ تعليلٌ لتفريجِ تلك الكُربةِ عنهما بإحسانهما واحتجَّ به من جوَّز النَّسخَ قبل وقوع المأمور به فإنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان مأموراً بالذَّبحِ لقوله تعالى افعل مَا تُؤمَرُ ولم يحصلْ
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٤:﴿ وناديناه أَن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا ﴾ بالعزم على الإتيانِ بالمأمور به وترتيبِ مقدماتهِ. وقد رُوي أنَّه أمرَّ السِّكِّينَ بقوَّتهِ على حلقهِ مراراً فلم يقطعْ ثم وضع السِّكِّينَ على قفاه فانقلبَ السِّكِّينُ فعند ذلك وقع النِّداءُ. وجوابُ لمَّا محذوفٌ إيذاناً بعدم وفاء التَّعبيرِ بتفاصيله كأنَّه قيل كانَ ما كانَ مما لا يحيطُ به نطاق البيانِ من استبشارهما وشكرِهما لله تعالى على ما أنعمَ به عليهما من دفعِ البلاء بعد حلولهِ والتَّوفيقِ لما لم يُوفَّقْ أحدٌ لمثله، وإظهارِ فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثَّوابِ العظيمِ إلى غيرِ ذلك ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين ﴾ تعليلٌ لتفريجِ تلك الكُربةِ عنهما بإحسانهما واحتجَّ به من جوَّز النَّسخَ قبل وقوع المأمور به فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان مأموراً بالذَّبحِ لقوله تعالى :﴿ افعل مَا تُؤمَرُ ﴾ [ سورة الصافات، الآية١٠٢ ] ولم يحصلْ
﴿إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين﴾ الابتلاء البين الذي يتميَّز فيه المخلِصُ عن غيره أو المحنةُ البيِّنةُ الصُّعوبةِ إذ لا شئ أصعبُ منها
﴿وفديناه بِذِبْحٍ﴾ بِما يُذبح بدله فيتمُّ به الفعل ﴿عظِيمٌ﴾ أي عظيمِ الجثَّة سمينٍ أو عظيم القدر لأنَّه يَفدي به اللَّهُ نبيًّا ابنِ نبيَ من نسله سيِّدُ المُرسلينَ قيل كان ذلك كبشاً من الجنَّةِ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه الكبشُ الذي قرَّبه هابيلُ فتُقبِّل منه وكان يَرْعى في الجنَّةِ حتَّى فُدي به إسماعيلُ عليه السَّلامُ وقيل فُدي بوعلٍ أُهبط عليه من ثَبير ورُوي أنه هربَ من إبراهيمَ عليه السَّلامُ عند الجمرةِ فرماه بسبع حصياتٍ حتَّى أخذه فبقي سنَّةً في الرَّميِ ورُوي أنَّه رَمَى الشَّيطان حين تعرَّض له بالوسوسةِ عند ذبحِ ولده ورُوي أنَّه لمَّا ذبحه قال جبريلُ عليه السَّلامُ اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ فقال الذَّبيحُ لا إله إلا الله والله أكبر فقالَ إبراهيمُ اللَّهُ أكبرُ ولِلَّهِ الحمدُ فبقي سُنَّةً والفادي في الحقيقة هو إبراهيمُ وإنَّما قيل وفدينَاهُ لأنَّه تعالى هو المُعطي له والآمرُ به على التَّجوزِ في الفداءِ أو الإسنادِ
﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين سلام على إبراهيم﴾ قد سلف بيانُه في خاتمةِ قصة نوح عليه السلام
201
الصافات
202
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٨:﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سلام على إبراهيم ﴾ قد سلف بيانُه في خاتمةِ قصَّة نوحٍ عليه السَّلامُ.
١١٠ - ١١٦ ﴿كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين﴾ ذلك إشارةٌ إلى إبقاءِ ذكره الجميل فيما بين الأممِ لا إلى ما أُشير إليه فيما سبق فلا تكرارَ وعدم تصديرِ الجملةِ بإنا للاكتفاءِ بما مرَّ آنِفاً
﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ الراسخين في الإيمان على وجهة الإيقان والاطمئنان
﴿وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين﴾ أي مقضيًّا بنبُّوتهِ مقدَّراً كونه من الصَّالحينَ وبهذا الاعتبار وقَعا حالينِ ولا حاجةَ إلى وجود المبشَّر به وقت البشارةِ فإنَّ وجود ذي الحالِ ليس بشرطٍ وإنَّما الشَّرطُ مقارنةُ تعلُّق الفعل به لاعتبارِ معنى الحالِ فلا حاجةٍ إلى تقديرِ مضافٍ يجعل عاملاً فيهما مثل وبشرناه بوجود إسحاقَ نبيًّا من الصَّالحين ومع ذلكَ لا يصيرُ نظيرَ قوله تعالى فادخلوها خالدين فإنَّ الدَّاخلين كانوا مقدِّرين خلودهم وقت الدُّخولِ وإسحاقُ عليهِ السَّلامُ لم يكُنْ مقدِّراً نبُّوة نفسه وصلاحَها حين ما يُوجد ومن فسَّر الغلامَ بإسحاقَ جعل المقصودَ من البشارةِ نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ وفي ذكر الصَّلاحِ بعد تعظيمٍ لشأنهِ وإيماءً إلى أنَّه الغايةُ لها لتضمُّنِها معنى الكمالِ والتَّكميلِ بالفعلِ على الإطلاقِ
﴿وباركنا عَلَيْهِ﴾ على إبراهيمَ في أولادِه ﴿وعلى إسحاق﴾ بأنْ أخرجنا من صلبهِ أنبياءَ بني إسرائيلَ وغيرَهم كأيُّوبَ وشُعيبَ عليهم السَّلامُ أو أفضْنا عليهما بركاتِ الدين والدنيا وقرئ وبرَّكنا ﴿وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ﴾ في عملهِ أو لنفسِه بالإيمانِ والطَّاعةِ ﴿وظالم لّنَفْسِهِ﴾ بالكفر والمَعَاصي ﴿مُّبِينٌ﴾ ظاهرٌ ظلمُه وفيه تنبيهٌ على أنَّ النَّسبَ لا تأثيرَ له في الهدايةِ والضَّلالِ وأنَّ الظُّلمَ في أعقابهما لا يعود عليهما بتقيصه ولاعيب
﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وهارون﴾ أي أنعمنا عليهما بالنبوَّة وغيرِها من النِّعم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ
﴿ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا﴾ وهم بنُو إسرائيلَ ﴿مِنَ الكرب العظيم﴾ هو مَلَكةُ آل فرعونَ وتسلطهم عليهم بألوان الغَشَمِ والعذاب كما في قوله تعالى وَإِذْ أنجيناكم مّنْ آل فِرْعَونَ وقيل هو الغَرَقُ وهو بعيد لأنَّه لم يكن عليهم كَرباً ومشقةً
﴿ونصرناهم﴾ أي إيَّاهما وقومَهما على عدوِّهم ﴿فَكَانُواْ﴾ بسبب ذلك ﴿هُمُ الغالبين﴾ عليهم غلبةً لا غايةَ وراءها بعد أنْ كان قومُهما في أسرِهم وقَسْرِهم مقهورين تحت أيديهم العادية يسومُونهم
202
الصافات ١١٧ ١٢٥ سوء العذاب وهذه التَّنجيةُ وإن كانتْ بحسب الوجودِ مقارنةً لما ذُكر من النَّصرِ والغَلَبة لكنَّها لما كانتْ بحسب المفهومِ عبارة عن التَّخليصِ من المكروهِ بدئ بها ثمَّ بالنَّصر الذي يتحقَّقُ مدلُوله بمحضِ تنجيةِ المنصورِ من عدوِّه من غير تغليبهِ عليه ثم بالغلبةِ لتوفيةِ مقام الامتنانِ حقَّه بإظهار أنَّ كلَّ مرتبةٍ من هذه المراتبِ الثَّلاثِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالِهَا
203
﴿وآتيناهما﴾ بعد ذلك ﴿الكتاب المستبين﴾ أي البليغَ في البيان والتَّفصيلِ وهو التَّوراةُ
﴿وهديناهما﴾ بذلك ﴿الصراط المستقيمَ﴾ الموصِلَ إلى الحقِّ والصَّوابِ بما فيه من تفاصيلِ الشَّرائعِ وتفاريعِ الأحكامِ
﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الأخرين﴾ ﴿سلام على موسى وهارون﴾ أي أبقينا فيما بين الأممِ الآخرين هذا الذِّكرَ الجميلَ والثَّناءَ الجزيلَ
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٩:﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين سلام على موسى وهارون ﴾ أي أبقينا فيما بين الأممِ الآخرين هذا الذِّكرَ الجميلَ والثَّناءَ الجزيلَ
﴿إِنَّا كَذَلِكَ﴾ الجزاءِ الكاملِ ﴿نَجْزِى المحسنين﴾ الذين هُما من جملتهم لاجزاء قاصراً عنه
﴿إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ سبق بيانُه
﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين﴾ هو إلياسُ بنُ ياسينَ من سبط هرون أخي مُوسى عليهم السلام بُعث بعده وقيل إدريسُ لأنه قرئ مكانه إدريس وإدراس وقرئ إيليس وقرئ إلياسَ بحذفِ الهمزة
﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي عذابَ الله تعالى
﴿أَتَدْعُونَ بَعْلاً﴾ أتعبدونَه وتطلبون الخيرَ منه وهو اسمُ صنمٍ كان لأهل بكَّ من الشَّأمِ وهو البلد المعروفُ اليوم ببَعْلَبَكَّ قيل كان من ذهبٍ طوله عشرون ذراعاً وله أربعةُ أوجهٍ فتُنوا به وعظَّموه حتى أخدمُوه أربعمائة سادنٍ وجعلوهم أنبياءَ فكان الشَّيطانُ يدخل جوفَه ويتكلَّم بشريعة الضَّلالةِ والسَّدنةُ يحفظونَها ويُعلِّمونها النَّاسَ وقيل البَعْلُ الرَّبُّ بلغة اليمنِ أي أتعبدون بعضَ البُعولِ ﴿وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين﴾
203
أي وتتركون عبادته وقد أُشير إلى المقتضى للإنكارِ المعنيِّ بالهمزة ثم صرَّح به بقوله تعالى
204
﴿الله ربكم ورب آبائكم الاولين﴾ بالنَّصبِ على البدليةِ من أحسن الخالقين وقرئ بالرَّفعِ على الابتداءِ والتَّعرُّضُ لذكرِ ربوبيَّتهِ تعالى لآبائهم لتأكيدِ إنكارِ تركهِم عبادته تعالى والإشعارِ ببُطلان آراءِ آبائهم أيضاً
﴿فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ﴾ بسبب تكذيبهم ذلك ﴿لَمُحْضَرُونَ﴾ أي العذابَ والإطلاقُ للاكتفاء بالقرائنِ على أنَّ الإحضارَ المطلقَ مخصوص بالشَّرِّ عُرفاً
﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ استثناء من ضمير مُحضرون
﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين سلام على إِل يَاسِين﴾ هو لغة في الياسَ كسيناءَ في سينينَ وقيل هو جمعٌ له أُريد به هو وأتباعُه كالمهلَّبين والخُبَيبين وفيه أنَّ العَلَم إذا جُمع يجبُ تعريفُه كالمثالين وقرئ بإضافة آلِ إلى ياسينَ لأنَّهما في المصحفِ مفصولانِ فيكونُ ياسينَ أبا إلياس
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٩:﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سلام على آل يَاسِين ﴾ هو لغة في إلياسَ كسيناءَ في سينينَ وقيل هو جمعٌ له أُريد به هو وأتباعُه كالمهلَّبين والخُبَيبين. وفيه أنَّ العَلَم إذا جُمع يجبُ تعريفُه كالمثالينِ. وقرئ بإضافة آلِ إلى ياسينَ لأنَّهما في المصحفِ مفصولانِ فيكونُ ياسينَ أبا إلياس
﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ مرَّ تفسيرُه
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣١:﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين ﴾ مرَّ تفسيرُه
﴿وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين إِذْ نجيناه﴾ أي اذكُر وقتَ تنجيتِنا إيَّاه ﴿وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغابرين﴾ أي الباقين في العذابِ أو الماضين الهالكين ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخرين﴾ فإنَّ في ذلك شواهدَ على جليةِ أمرِه وكونِه من جملة المرسلين
204
الصافات ١٣٧ ١٤٥
205
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٣:﴿ وَإِنَّ لُوطاً لمِنَ المرسلين إِذْ نجيناه ﴾ أي اذكُر وقتَ تنجيتِنا إيَّاه
﴿ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين ﴾ أي الباقين في العذابِ أو الماضين الهالكين.
﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين ﴾ فإنَّ في ذلك شواهدَ على جليةِ أمرِه وكونِه من جُملةِ المُرسلين.
﴿وَإِنَّكُمْ﴾ يا أهلَ مكَّة ﴿لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ﴾ على منازلهم في متاجرِكم إلى الشَّأمِ وتشاهدون آثارَ هلاكهم فإنَّ سدومَ في طريق الشَّأمِ ﴿مُّصْبِحِينَ﴾ داخلينَ في الصَّباحِ
و ﴿بالليل﴾ أي ومساء أونهارا أو ليلا ولعلَّها وقعت بقرب منزلٍ يمرُّ بها المرتحلُ عنه صباحاً والقاصدُ له مساءً ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتَّى تعتبرُوا به وتخافوا أنْ يُصيبكم مثلُ ما أصابهم
﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين﴾ وقرئ بكسر النُّونِ
﴿إِذْ أَبَقَ﴾ أي هربَ وأصله الهربُ من السَّيدِ لكن لمَّا كان هربُه من قومه بغير إذن ربِّه حسُن إطلاقُه عليه ﴿إِلَى الفلك المشحون﴾ أي المملوءِ
﴿فساهم﴾ فقارعَ أهلَه ﴿فَكَانَ مِنَ المدحضين﴾ فصار من المغلوبينَ بالقُرعةِ وأصله المزلق عن مقام الظفر رُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام لمَّا وعدَ قومَه بالعذابِ خرجَ من بينهم قبل أنْ يأمرَه الله تعالى به فركبَ السَّفينةَ فوقفتْ فقالوا فيها عبدٌ آبقٌ فاقترعُوا فخرجت القُرعةُ عليه فقال أنا الآبقُ ورَمَى بنفسه في الماءِ
﴿فالتقمه الحوت﴾ فابتعله من اللُّقمةِ ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ داخلٌ في المَلامةِ أو آتٍ بما يُلام عليه أو مليم نفسه وقرئ مَليم بالفتح مبنيًّا من لِيم كمَشيب في مشُوب
﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين﴾ الذَّاكرينَ الله كثيراً بالتَّسبيحِ مدَّة عمره أو في بطنِ الحوتِ وَهُوَ قوله لاَ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين وقيل من المصلِّين فإنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان كثيرَ الصَّلاةِ في الرَّخاءِ
﴿لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ حيًّا وقيل ميِّتاً وفيه حثٌّ على إكثارِ الذِّكرِ وتعظيمٌ لشأنهِ ومن أقبل عليه في السَّراءِ أُخذ بيدِه عند الضَّرَّاء
﴿فنبذناه بالعراء﴾ بأن حملنا الحوتَ على لفظه بالمكان الخالي عمَّا يُغطِّيه من شجرٍ أو نبتٍ رُوي
205
الصافات ١٤٦ ١٤٩ أنَّ الحوتَ سار مع السفينة رافعا رأسا يتنفسُّ فيه يونسُ عليه السلام ويسبِّحُ ولم يفارقْهم حتى انتهو إلى البرِّ فلفظَه سالماً لم يتغير منه شئ فأسلمُوا ورُوي أنَّ الحوتَ قذفَه بساحل قريةٍ من المَوصلِ واختُلف في مقدارِ لبثه فقيل أربعون يوماً وقيل عشرون وقيل سبعةٌ وقيل ثلاثةٌ وقيل لم يلبثْ إلا قليلاً ثم أُخرج من بطنهِ بعيد الوقتِ الذي التُقمَ فيه رَوى عطاءٌ أنَّه حين ابتعله أوحى اللَّهُ تعالى إلى الحوتِ إنِّي جعلتُ بطنك له سجناً ولم أجعله لك طعاماً ﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ ممَّا ناله قيل صار بدنُه كبدنِ الطِّفلِ حين يُولد
206
﴿وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ﴾ أي فوقه مظلَّة عليه ﴿شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ﴾ وهو كل ما ينبسطُ على الأرضِ ولا يقوم على ساقٍ كشجر البطِّيخ والقِثَّاءِ والحنظلِ وهو يَفْعيلٌ من قَطَن بالمكانِ إذا أقام به والأكثرون على أنَّه الدُّبَّاءُ غطَّته بأوراقِها عن الذُّبابِ فإنَّه لا يقعُ عليه ويدلُّ عليه أنَّه قيلَ لرسولِ الله ﷺ إنَّك تحبُّ القرعَ قال أجلْ هي شجرةُ أخي يونس وقيل هي التِّينُ وقيل المَوزُ تغطَّى بورقهِ واستظلَّ بأغصانهِ وأفطر على ثماره وقيل كان يستظلُّ بالشَّجرةِ وكانت وعلةٌ تختلفُ إليه فيشربُ من لبنها
﴿وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ﴾ هم قومُه الذين هرب منهم وهم أهل نَيْنَوى والمرادُ به إرسالُه السَّابقُ أَخبر أولاً بأنَّه من المرسلين على الاطلاقِ ثم أخبرَ بأنَّه قد أُرسل إلى أمةٍ جمَّةٍ وكأنَّ توسيطَ تذكير وقت هربِه إلى الفُلكِ وما بعده بينهما لتذكير سببهِ وهو ما جَرَى بينَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبين قومِه من إنذاره إيَّاهم عذابَ الله تعالى وتعيينِه لوقت حلوله وتعلُّلِهم وتعليقِهم لإيمانِهم بظهور أماراتِه كما مرَّ تفصيلُه في سُورة يونسَ ليعلم أنَّ إيمانَهم الذي سيحكى بعد لم يكُن عقيبَ الإرسالِ كما هو المتبادَرُ من ترتيبِ الإيمانِ عليه بالفاء بل بعد اللَّتيا والَّتي وقيل هو إرسالٌ آخرُ إليهم وقيل إلى غيرِهم وليس بظاهرٍ ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾ أي في مَرأى النَّاظرِ فإنَّه إذا نظر إليهم قال إنَّهم مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ والمراد هو الوصف بالكثرة وقرئ بالواو
﴿فآمنوا﴾ أي بعد ما شاهدُوا علائمَ حلول العذابِ إيماناً خالصا ﴿فمتعناهم﴾ أي بالحياة الدُّنيا ﴿إلى حِينٍ﴾ قدَّره الله سبحانه لهم قيل ولعل عدمَ ختمِ هذه القصَّةِ وقصَّةِ لوطٍ بما خُتم به سائرُ القصصِ للتَّفرقةِ بينهما وبين أربابِ الشَّرائعِ وأُولي العزمِ من الرُّسلِ أو اكتفاء بالتسليم بالشامل لكلِّ الرُّسلِ المذكورينَ في آخرِ السُّورةِ
﴿فاستفتهم﴾ أمرِ الله عزَّ وجلَّ في صدرِ السُّورة الكريمةِ رسوله ﷺ بتبكيتِ قُريشٍ وإبطالِ مذهبِهم في إنكارِ البعثِ بطريقِ الاستفتاءِ وساقَ البراهينَ القاطعةَ النَّاطقة بتحقُّقةِ لا محالة وبيَّن وقوعَه وما سيلقَونه عند ذلكَ من فُنون العذابِ واستثنى منهم عبادَه المُخلَصين وفصَّل ما لهم من النَّعيمِ المقيمِ ثم ذكر أنَّه قد ضلَّ من قبلهم أكثرُ الأوَّلينَ
206
الصافات ١٥٠ ١٥٣ وأنَّه تعالى أرسلَ إليهم منذرين عل وجهِ الإجمالِ ثم أوردَ قصص كلِّ واحدٍ منهم على وجهِ التَّفصيلِ مبيِّناً في كل قصَّةِ منها أنَّهم من عبادِه تعالى واصفاً لهم تارةً بالإخلاصِ وأُخرى بالإيمانِ ثم أمره ﷺ ههنا بتبكيتِهم بطريقِ الاستفتاءِ عن وجهِ أمرٍ منكرٍ خارج عن العقول بالكلِّيةِ وهي القسمةُ الباطلةُ اللازمةُ لما كانُوا عليه من الاعتقاد الزَّائغِ حيثُ كانُوا يقولون كبعض أجناس العربِ جُهينةَ وبني سلمةَ وخُزاعةَ وبني مَليحٍ الملائكةُ بناتُ الله والفاءُ لترتيبِ الأمرِ على ما سبق من كون أولئك الرُّسلِ الذين هم أعلامُ الخَلْقِ عليهم الصلاة والسلام عبادَه تعالى فإنَّ ذلك ممَّا يؤكِّدُ التَّبكيتَ ويُظهر بُطلانَ مذهبهم الفاسد ثم تبكيتُهم بما يتضمَّنُه كفرهم المذكورُ من الاستهانة بالملائكة بجعلهم إناثاً ثم أبطل أصلَ كفرهم المنطوي على هذينِ الكفرينِ وهو نسبةُ الولدِ إليه سبحانَه وتعالى عن ذلكَ علوَّاً كبيراً ولم ينظمه في سلكِ التَّبكيتِ لمشاركتهم النَّصارى في ذلك أي فاستخبرْهم ﴿أَلِرَبّكَ البنات﴾ اللاتي هن أوضعُ الجنسينِ ﴿وَلَهُمُ البنون﴾ الذين هم أرفعُهما فإنَّ ذلك ممَّا لا يقولُ به من له أدنى شئ من العقلِ وقوله تعالى
207
﴿أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا﴾ إضرابٌ وانتقالٌ من التبكيتِ بالاستفتاءِ السَّابقِ إلى التَّبكيتِ بهذا كما أُشير إليه أي بل أخلقنا الملائكةَ الذين هم من أشرفِ الخلائقِ وأبعدِهم من صفات الأجسامِ ورذائل الطَّبائعِ إناثاً والأُنوثةُ من أخسِّ صفاتِ الحيوانِ وقوله تعالى ﴿وَهُمْ شاهدون﴾ استهزاء بهم وتجهيل لهم كقولِه تعالى أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ وقوله تعالى مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والارض والا خلق أَنفُسِهِمْ فإنَّ أمثالَ هذه الامور لا تعلم بالمشاهدةِ إذ لا سبيلَ إلى معرفتِها بطريقِ العقلِ وانتفاء النَّقلِ ممَّا لا ريَب فيه فلا بُدَّ أنْ يكون القائل بأنوثتهم شاهداً عند خلقِهم والجملةُ إما حالٌ من فاعل خلقنا أي بل أخلقناهُم إناثاً والحالُ أنهم حاضرون حينئذٍ أو عطفٌ على خلقنا أي بل أهم شاهدون وقوله تعالى
﴿أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ ليقولون ولد الله﴾ استثناف من جهته غيرُ داخلٍ تحت الأمر بالاستفتاء مسبوق لإبطالِ أصل مذهبِهم الفاسدِ ببيان أنَّ مبناهُ ليس إلاَّ الإفكُ الصَّريحُ والافتراء القبيحُ من غير أنْ يكونَ لهم دليلٌ أو شبهة قطعاً ﴿وَإِنَّهُمْ لكاذبون﴾ في قولِهم ذلك كَذِباً بيِّناً لا ريبَ فيه وقرئ ولدُ الله على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الملائكةُ ولدُه تعالَى عن ذلكَ عُلوَّاً كبيراً فإنَّ الولدَ فعل بمعنى مفعولٍ يستوي فيه الواحدُ والجمعُ والمذكَّرُ والمؤنَّثُ
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥١:وقوله تعالى :﴿ أَلاَ إِنَّهُم منْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله ﴾ استئناف من جهته غيرُ داخلٍ تحت الأمر بالاستفتاء مسوقٌ لإبطالِ أصل مذهبِهم الفاسدِ ببيان أنَّ مبناهُ ليس إلاَّ الإفكُ الصَّريحُ والافتراء القبيحُ من غير أنْ يكونَ لهم دليلٌ أو شبهة قطعاً ﴿ وَإِنَّهُمْ لكاذبون ﴾ في قولِهم ذلك كَذِباً بيِّناً لا ريبَ فيه. وقرئ ولدُ الله على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي الملائكةُ ولدُه تعالَى عن ذلك عُلوَّاً كبيراً فإنَّ الولدَ فعل بمعنى مفعولٍ يستوِي فيه الواحدُ والجمعُ والمذكَّرُ والمؤنَّثُ
﴿أَصْطَفَى البنات على البنين﴾ إثباتٌ لإفكِهم وتقريرٌ لكذبِهم فيما قالوا ببيان استلزامه لأمر بيِّن الاستحالة هو اصطفاؤه تعالى البنات على النبين والاصطفاء أخذ صفوة الشئ لنفسه وقرئ بكسرِ الهمزةِ على حذفِ حرف الاستفهام
207
الصافات ١٥٤ ١٥٨ ثقةً بدلالةِ القَرَائنِ عليهِ وجعله بدلاً من ولدَ الله ضعيفٌ وتقديرُ القولِ أي لكاذبونَ في قولِهم اصطفَى الخ تعسُّفٌ بعيدٌ
208
﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ بهذا الحكم الذي يَقضي ببطلانِه بديهةُ العقلِ
﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ بحذفِ إحدى التاءين من تتذكرون وقرئ تذكُرون من ذَكَر والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ أي ألا تلاحِظون ذلك فلا تتذكَّرون بطلانَهُ فإنَّه مركوزٌ في عقلِ كلِّ ذكيَ وغبيَ
﴿أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ﴾ إضرابٌ وانتقالٌ من توبيخِهم وتبكيتِهم بما ذُكر إلي تبكيتِهم بتكليفِهم ما لا يدخُل تحتَ الوجودِ أصلاً أي بل ألكُم حجَّةٌ واضحةٌ نزلتْ عليكم من السَّماءِ بأنَّ الملائكةَ بناتُه تعالى ضرورةَ أنَّ الحكمَ بذلك لا بُدَّ له من سندٍ حسيَ أو عقلي وحيثُ انتفى كلاهُما فلا بُدَّ من سندٍ نقليَ
﴿فَأْتُواْ بكتابكم﴾ النَّاطقِ بصَّحةِ دَعْواكم ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ فيها وفي هذه الآياتِ من الإنباءِ عن السُّخطِ العظيمِ والإنكارِ الفظيعِ لأقاويلهم والاستبعادِ الشَّديدِ لأباطيلِهم وتسفيِه أحلامِهم وتركيكِ عقولِهم وأفهامِهم مع استهزاءٍ بهم وتعجيبٍ من جهلِهم مَا لا يَخْفى عَلَى مَنْ تأمَّل فيها وقولُه تعالَى
﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ التفاتٌ إلى الغَيبةِ للإيذانِ بانقطاعِهم عن الجوابِ وسقوطِهم عن درجةِ الخطابِ واقتضاءِ حالِهم أنْ يعرضَ عنهم وتُحكى جناياتُهم لآخرينَ والمرادُ بالجِنَّةِ الملائكةُ قالوا الجنسُ واحدً ولكنْ من خبث من الجن ومردوكان شرَّاً كله فهو شيطانٌ ومن طهر منهم ونسكَ وكان خيراً كله فهو مَلَكٌ وإنَّما عبَّر عنهم بذلك الاسمِ وَضْعاً منهم وتَقصيراً بهم مع عِظَمِ شأنِهم فيما بينَ الخلقِ أنْ يبلغُوا منزلةَ المناسبة التي أضافُوها إليهم فجعلهم هذا عبارةً عن قولَهم الملائكةُ بناتُ الله وإنَّما أُعيد ذكُره تمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ أي وبالله لقد علمتْ الجِنَّةُ التي عظَّموها بأنْ جعلُوا بينها وبينه تعالى نَسَباً وهم الملائكةُ أنَّ الكفرةَ لمحضرونَ النَّار معذَّبُون بها لكذبِهم وافترائِهم في قولِهم ذلك والمرادُ به المبالغةُ في التَّكذيبِ ببيانِ أنَّ الذين يدَّعي هؤلاء لهم تلك النِّسبةَ ويعلمون أنَّهم أعلمُ منهم بحقيقةِ الحالِ يكذبونهم في ذلك ويحكمُون بأنَّهم معذَّبون لأجلِه حُكماً مؤكَّداً وقيل إنَّ قوماً من الزَّنادقةِ يقولون الله تعالى وإبليسُ أخوانِ فالله هو الخيِّرُ الكريم وإبليس هوالشرير اللَّئيمُ وهو المرادُ بقوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نَسَباً قال الإمامُ الرَّازيُّ وهذا القولُ عندي أقربُ الأقاويلِ وهو مذهبُ المجوس القائلين بيزدان واهر من ويعبرون عنهما بالنور والظلمة وقال مجاهدٌ قالتْ قُريشٌ
208
الصافات ١٥٩ ١٦٤ الملائكةُ بناتُ الله فقال ابو بكرٍ الصدِّيقِ رضيَ الله عنه فمنْ أمهاتهم تبكيتاً لهمُ فقالوا سَرَواتُ الجنِّ وقيل معنى جعلُوا بينه وبين الجِنَّةِ نَسَباً جعلُوا بينهما مناسبةً حيثُ أشركُوا به تعالى الجن في استحقاق العبادةِ فعلى هذه الأقاويلِ يجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ في إنَّهم لمحضرون للجنَّة فالمَعنى لقد علمتِ الشَّياطينُ أنَّ الله تعالى يحضرهم النَّارَ ويُعذبهم بها ولو كانُوا مناسبينَ له تعالى أو شركاء في استحقاق العبادةِ لمَّا عذَّبهم والوجهُ هو الأوَّلُ فإنَّ قوله
209
﴿سبحان الله عما يصفون﴾ حكايةٌ لتنزيهِ الملائكةِ إيَّاهُ تعالى عمَّا وَصَفه المشركونَ به بعد تكذيبِهم لهم في ذلكَ بتقديرِ قولٍ معطوفٍ على علمتْ وقولُه تعالى
﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ شهادةٌ منهم ببراءةِ المخلصينَ مِن أنْ يَصفُوه تعالَى بذلكَ متضمِّنة لتبرئِهم مِنْهُ بحكمِ اندراجِهم في زُمرة المُخلصين على أبلغِ وجهٍ وآكدِه على أنَّه استثناءٌ منقطعٌ من واوِ يصفُون كأنه قيل ولقد علمنت الملائكةُ أنَّ المشركينَ لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عمَّا يصفونَه به لكنْ عبادُ الله الذين من جملتهم برءاء من ذلكَ الوصفِ وقوله تعالى
﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ﴾ ﴿مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين﴾ تعليلٌ وتحقيقٌ لبراءةِ المخلصين ممَّا ذُكر ببيانِ عجزِهم عن إغوائِهم وإضلالِهم والالتفاتُ إلى الخطابِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِ الكلامِ وما تعبدون عبارةٌ عن الشِّياطينِ الذين اغووهم وفي إيذانٌ بتبرئهم عنهم وعن عبادتِهم كقولِهم بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجنَّ وما نافيةٌ وأنتُم خطابٌ لهم ولمعبوديهم تغليباً وعلى متعلقة بفاتنينَ يقال فتنَ فلانٌ على فلانٍ امرأتَه أي أفسدَها عليه والمعنى فإنَّكم ومعبوديكم أيُّها المشركونَ لستُم بفاتنينَ عليه تعالى بإفسادِ عبادِه وإضلالِهم
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦١:وقوله تعالى :﴿ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين ﴾ تعليلٌ وتحقيقٌ لبراءةِ المخلصين ممَّا ذُكر ببيانِ عجزِهم عن إغوائِهم وإضلالِهم. والالتفاتُ إلى الخطابِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِ الكلامِ وما تعبدون عبارةٌ عن الشِّياطينِ الذين أغوَوهم وفيه إيذانٌ بتبرئهم عنهم وعن عبادتِهم كقولِهم بل كانُوا يعبدون الجنَّ وما نافيةٌ وأنتُم خطابٌ لهم ولمعبوديهم تغليباً، وعلى متعلقة بفاتنينَ يقال فتنَ فلانٌ على فلانٍ امرأتَه أي أفسدَها عليه والمعنى فإنَّكم ومعبوديكم أيُّها المشركونَ لستُم بفاتنينَ عليه تعالى بإفسادِ عبادِه وإضلالِهم.
﴿إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم﴾ منهم أي داخلُها لعلمه تعالى بأنَّه يصيرُ على الكفر بسوء اختيارِه ويصيرُ من أهل النَّارِ لا محالةَ وأما المخلصونَ منهم فأنتُم بمعزلٍ من إفسادِهم وإضلالِهم فهم لا جرم برءاء مُن أنْ يُفتتنوا بكم ويسلكُوا مسلككم في وصفِه تعالى بما وصفتُموه به وقرئ صالُ بضمِّ الَّلامِ على أنَّه جمعٌ محمول على معَنْى من قد سقط واوه لالتقاءِ السَّاكنينِ وقولُه تعالى
﴿وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ تبيينٌ لجلية أمرِهم وتَعيينٌ لحيِّزهم في موقفِ العُبودية بعد ما ذُكر من تكذيبِ الكَفَرةِ فيما قالُوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك
209
الصافات ١٦٥ ١٧٢ وتبرئةُ المخلصين عنه وإظهارٌ لقصور شأنهم وقمائتهم أي ومامنا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ في العبادةِ والانتهاء إلى إمرِ الله تعَالى مقصورٌ عليه لا يتجاوزُه ولا يستطيع ان يزيل عنه خُضوعاً لعظمتِه وخُشوعاً لهيبتِه وتواضُعاً لجلالِه كما رُوي فمنهم راكعٌ لا يقيُم صُلبَه وساجدٌ لا يرفعُ رأسَه قال ابن عباس رضي الله عنهما ما في السَّمواتِ موضعُ شبرٍ إلاَّ وعليه ملكٌ يصلِّي أو يسبِّح ورُوي أنه ﷺ قال أَطَّتِ السَّمَاءُ وحُقَّ لها أنْ تئطَّ والذي نفسي بيدِه ما فيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلاَّ وفيه مَلَكٌ واضعٌ جبهَته ساجدٌ لله تعالى وقال السُّدِّيَّ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ في القُربةِ والمشاهدِة
210
﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون﴾ في مواقفِ الطَّاعةِ ومواطن الخِدمة
﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون﴾ المقدِّسون لله سبحانه عن كل ما لا يليقُ بجنابِ كبريائِه وتحليةُ كلامِهم بفُنونِ التَّأكيدِ لإبراز أن صدورَه عنهم بكمالِ الرَّغبةِ والنَّشاطِ هذا هو الذي تقتضيهِ جزالةُ التنزيلِ وقد ذُكر في تفسير الآياتِ الكريمةِ وإعرابِها وجوهٌ أُخرُ فتأمَّلْ والله المُوفِّق
﴿وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ﴾ أنْ هيَ المخففةُ منَ الثقيلة وضميرُ الشأنِ محذوفٌ والَّلامُ هي الفارقةُ أي إنَّ الشَّأنَ كانتْ قُريشٌ تقولُ
﴿لو أن عندنا ذكرا مّنَ الاولين﴾ أي كتاباً من كُتب الأوَّلينَ من التَّوارةِ والإنجيلِ
﴿لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين﴾ أي لأخلصنا العبادةَ لله تعالى ولَما خالفنا كما خالفُوا وهذا كقولِهم لئنْ جاءنا نذير لنكونَّن أهدى من إِحدى الأممِ والفاءُ في قولِه تعالى
﴿فَكَفَرُواْ بِهِ﴾ فصيحةٌ كما في قوله تعالى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أي فجاءَهُم ذكرٌ وأيُّ ذكرٍ سيِّدُ الأذكارِ وكتابٌ مُهيمنٌ على سائرِ الكُتبِ والأسفارِ فكفرُوا به ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ أي عاقبةَ كُفرِهم وغائلتَه
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين﴾ استئنافٌ مقَّررٌ للوعيدِ وتصديرُه بالقسمِ لغايةِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه أي وبالله لقد سبقَ وعدُنا لهم بالنصرة والغلبا هو قولُه تعالى
﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا﴾
210
وهم أتباعُ المُرسلين ﴿لَهُمُ الغالبون﴾ على أعدائِهم في الدُّنيا والآخرةِ ولا يقدحُ في ذلك انهزامُهم في بعضِ المشاهدِ فإنَّ قاعدةَ أمرِهم وأساسَه الظَّفرُ والنُّصرةُ وإنْ وقعَ في تضاعيفِ ذلكَ شَوبٌ من الابتلاءِ والمحنةِ والحكمُ للغالبِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن لم ينصروا في الدُّنيا نُصرِوا في الآخرة وقرئ على عبدنا بتضمين سبقت معنى حقت وتسميتُها كلمةً مع أنَّها كلماتٌ لانتظامِها في معنى واحد وقرئ كلماتُنا
211
﴿ وَإِنَّ جُندَنَا ﴾ وهم أتباعُ المُرسلين ﴿ لَهُمُ الغالبون ﴾ على أعدائِهم في الدُّنيا والآخرةِ ولا يقدحُ في ذلك انهزامُهم في بعضِ المشاهدِ فإنَّ قاعدةَ أمرِهم وأساسَه الظَّفرُ والنُّصرةُ وإنْ وقعَ في تضاعيفِ ذلكَ شَوبٌ من الابتلاءِ والمحنةِ، والحكمُ للغالبِ. وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُما : إنْ لم يُبصَرُوا في الدُّنيا نُصرِوا في الآخرةِ. وقرئ على عبادِنا بتضمينِ سبقتْ معنى حُقِّقتْ وتسميتُها كلمةً مع أنَّها كلماتٌ لانتظامِها في معنى واحدٍ. وقرئ كلماتُنا.
﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ فأَعرضْ عنهم واصبرْ ﴿حتى حِينٍ﴾ إلى مُدَّةٍ يسيرةٍ وهي مُدَّةُ الكفِّ عن القتالِ وقيل يومَ بدرٍ وقيلَ يومَ الفتح
﴿وأبصرهم﴾ عل أسوأِ حالٍ وأفظعِ نكالٍ حلَّ بهم من القتلِ والأسرِ والمرادُ بالأمرِ بأبصارِهم الإيذانُ بغايةِ قُربِه كأنَّه بين يديِه ﴿فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ ما يقع حينئد من الأمورِ وسوفَ للوعيدِ دُون التَّبعيدِ
﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ رُوي أنَّه لمَّا نزلَ فسوف يُبصرون قالُوا متَى هذا فنزلَ
﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ﴾ أي فإذا نزلَ العذابُ الموعودُ بفنائِهم كأنَّه جيشٌ قد هجمَهم فأناخَ بفنائِهم بغتةً فشنَّ عليهم الغارةَ وقطعَ دابرَهم بالمرَّةِ وقيل المرادُ نزول رسول الله ﷺ يوم الفتح وقرئ نزلَ بساحتهم على إسنادِه الى الجار والمجرور وقرئ نُزّل مبنَّياً للمفعولِ من التَّنزيلِ أي نُزّلَ العذابُ ﴿فَسَاء صَبَاحُ المنذرين﴾ فبئسَ صباحُ المنذَرين صباحُهم واللاَّمُ للجنسِ والصَّباحُ مستعارٌ من صباحِ الجيشِ المبيِّتِ لوقت نزول العذابِ ولمَّا كثُرتْ منهم الغارة في الصَّباح سمَّوها صباحاً وإن وقعت ليلاً رُوي أنَّ رسولَ الله ﷺ لمَّا أتى خيبرَ وكانُوا خارجينَ إلى مزارعِهم ومعهم المَسَاحي قالُوا محمدٌ والخميسُ ورجعهم الى حصنهم فقال ﷺ الله أكبرُ خربتْ خيبرُ إنا إذَا نزلنا بساحةِ قومٍ فساءَ صباحُ المنذَرينِ
﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ﴾ ﴿وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ تسليةً لرسول الله ﷺ إثرَ تسليةٍ وتأكيدٍ لوقوعِ الميعادِ غبَّ تأكيدِ مع ما في إطلاقِ الفعلينِ عن المفعول من الإيذانِ بأنَّ ما يبصره ﷺ حينئذٍ من فنونِ المسارِ وما يُبصرونه من أنواعِ المضارِّ لا يحيطُ به الوصفُ والبيانُ وقيلَ أُريد بالأوَّلِ عذابُ الدُّنيا وبالثَّاني عذاب الآخرة
211
الصافات ١٨٠ ١٨٢
212
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٨:﴿ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴾ : تسليةً لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إثرَ تسليةٍ وتأكيدٍ لوقوعِ الميعادِ غبَّ تأكيدِ مع ما في إطلاقِ الفعلينِ عن المفعولِ من الإيذانِ بأنَّ ما يُبصره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينئذٍ من فنونِ المسارِ وما يُبصرونه من أنواعِ المضارِّ لا يحيطُ به الوصفُ والبيانُ. وقيلَ : أُريد بالأوَّلِ عذابُ الدُّنيا، وبالثَّاني عذابُ الآخرةِ.
﴿سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ﴾ تنزيهٌ لله سبحانه عن كل ما يصفُه المشركونَ به ممَّا لا يليقُ بجنابِ كبريائِه وجبروتِه ممَّا ذُكر في السورة الكريمة ومالم يُذكر من الأمورِ التي من جُملتِها تركُ إنجازِ الموعودِ على موجبِ كلمتِه السَّابقةِ لا سيَّما في حق رسول الله ﷺ كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الربويية المُعربةِ عن التَّربيةِ والتَّكميلِ والمالكيةِ الكُلِّيةِ مع الإضافةِ إلى ضميره ﷺ أوَّلاً وإلى العزَّةِ ثانياً كأنَّه قيلَ سبحانَ من هو مر بيك ومكمِّلكَ ومالكُ العزَّةِ والغَلَبةِ على الإطلاقِ عمَّا يصفُه المشركونَ به من الإشياءِ التي منها تركُ نصرتِكَ عليهم كما يدلُّ عليه استعجالُهم بالعذابِ وقولُه تعالى
﴿وسلام على المرسلين﴾ تشريفٌ لهم عليهم السَّلامُ بعد تنزيهِه تعالى عمَّا ذُكر وتنويهٌ بشأنِهم وإيذانٌ بأنَّهم سالمون عن كلِّ المكارِه فائزونَ بجميعِ المآربِ وقولُه تعالى
﴿والحمد للَّهِ رَبّ العالمين﴾ إشارةٌ إلى وصفِه عزَّ وجلَّ بصفاتِه الكريمةِ الثُّبوتيةِ بعد التَّنبيهِ على اتِّصافِه تعالى بجميعِ صفاته السَّلبيةِ وإيذانٌ باستتباعِها للأفعالِ الجميلةِ التي من جُملتها إفاضتُه عليهم من فُنُونِ الكراماتِ السنيةِ والكمالاتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ وإسباغه عليهم وعلى مَن تبعِهم صُنوف النَّعماءِ الظَّاهرةِ والباطنةِ المُوجبةِ لحمده تعالى وإشعارٌ بأن ما وعده ﷺ من النُّصرةِ والغَلَبة قد تحقَّقتْ والمرادُ تنبيه المؤمنينَ على كيفيَّةِ تسبيحِه تعالى وتحميدِه والتَّسليم على رُسلِه الذين هم وسايط بينهم وبينَهُ عزَّ وعَلاَ في فيضانِ الكَمالاتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ عليهم ولعلَّ توسيطَ التَّسليمِ على المُرسلينَ بين تسبيحهِ تعالى وتحميدِه لختمِ السُّورةِ الكريمةِ بحمدِه تعالى مع ما فيه من الإشعارِ بأنَّ توفيقَهُ تعالى للتَّسليمُ عليهم من جُملةِ المُوجبةِ للحمدِ عن عليَ رضيَ الله عنه من أحبَّ أنْ يُكتالَ بالمكيالِ الأَوْفى من الأجرِ يومَ القيامةِ فليكُن آخرُ كلامِه إذا قامَ من مجلسهِ سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عمَّا يصفُون وسلامٌ على المُرسلينَ والحمدُ للَّهِ رَبّ العالمين عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ الصآفات أُعطِيَ من الأجر عشرَ حَسَناتٍ بعددِ كلِّ جنيَ وشيطان وتباعدت منه مَرَدةُ الشَّياطينِ وبرىءَ مِنَ الشِّركِ وشَهد له حافظاهُ يومَ القيامةِ أنَّه كانَ مُؤمناً بالمُرسلين
212
سورة ص ١ ٢
مكية وآياتها ثمان وثمانون آية
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾
213
Icon