تفسير سورة الصافات

زاد المسير
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الصافات
وهي مكية كلها بإجماعهم

سورة الصّافّات
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥)
قوله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فيها قولان: أحدهما: أنها الملائكة، قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور. قال ابن عباس: هم الملائكة صفُوفٌ في السماء، لا يَعْرِفُ مَلَكٌ منهم مَنْ إلى جانبه، لم يَلْتَفِتْ منذ خَلَقَه اللهُ عزّ وجلّ. وقيل: هي الملائكة تصُفُّ أجنحتها في الهواء واقفة إلى أن يأمرها الله تعالى بما يشاء. والثاني: أنها الطّير، كقوله تعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ «١»، حكاه الثعلبي. وفي الزاجرات قولان: أحدهما: أنها الملائكة التي تزجُر السَّحاب، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني: أنها زواجر القرآن وكلُّ ما ينهى ويزجُر عن القبيح، قاله قتادة. وفي التّاليات ذِكْراً ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الملائكة تقرأ كتب الله تعالى، قاله ابن مسعود والحسن والجمهور. والثاني: أنهم الرسل، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: ما يُتلى في القرآن من أخبار الأمم، قاله قتادة. وهذا قَسَم بهذه الأشياء، وجوابه: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. وقيل معناه: ورب هذه الأشياء إِنّه واحد.
قوله تعالى: وَرَبُّ الْمَشارِقِ قال السدي: المَشارق ثلاثمائة وستونَ مَشْرِقاً، والمغارب مِثْلُها، على عدد أيام السَّنة. فإن قيل: لِمَ ترك ذِكْر المَغارب؟
فالجواب: أن المشارق تَدُلُّ على المَغارب، لأنّ الشّروق قبل الغروب.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦ الى ١٠]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا يعني التي تلي الأرض، وهي أدنى السموات إلى الأرض بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو، والكسائي: «بزينةِ الكواكب» مضافاً، أي: بحُسنها وضوئها. وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «بزينة» منوّنة وخفض «الكواكب» فجعل
(١) النور: ٤١.
«الكواكب» بدلاً من الزينة لأنها هي، كما تقول: مررتُ بأبي عبد الله زيدٍ فالمعنى: إنا زيَّنَّا السماء الدُّنيا بالكواكب. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «بزينةٍ» بالتنوين وبنصب «الكواكبً» والمعنى: زيَّنّا السَّماء الدُّنيا بأن زيَّنّا الكواكب فيها حين ألقيناها في منازلها وجعلناها ذات نور. قال الزجاج: ويجوز أن يكون «الكواكبَ» في النَّصْب بدلاً من قوله: «بزينة» لأن قوله: «بزينة» في موضع نصب. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومعاذ القارئ، وأبو نهيك، وأبو حصين الأسدي في آخرين: «بزينةٍ» بالتنوين «الكواكبُ» برفع الباء قال الزجاج: والمعنى: إنّا زيَّنّا السَّماء الدُّنيا بأن زيَّنتْها الكواكبُ وبأن زيّنتِ الكواكب. وَحِفْظاً أي:
وحَفِظْناها حفْظاً. فأمّا المارد، فهو العاتي، وقد شرحنا هذا في قوله تعالى: شَيْطاناً مَرِيداً «١».
قوله تعالى: لا يَسَّمَّعُونَ قال الفراء: «لا» ها هنا كقوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ «٢»، ويصلح في «لا» على هذا المعنى الجزم، والعرب تقول: ربطت فرسي لا يَنْفَلِتْ. وقال غيره: لكي لا يَسَّمَّعوا إِلى الملأِ الأعلى، وهم الملائكة الذين في السماء. وقرأ حمزة، والكسائيّ وخلف، وحفص عن عاصم: لا يَسَّمَّعُونَ بتشديد السين، وأصله: يتسمَّعون، فأُدغمت التاء في السين. وإنما قال: إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى لأن العرب تقول: سمعتُ فلاناً، وسمعتُ من فلان، وإلى فلان. وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ بالشًّهُب دُحُوراً قال قتادة: أي قذفاً بالشُّهُب. وقال ابن قتيبة: أي: طَرْداً، يقال: دَحَرْتُه دَحْراً وُدُحوراً، أي: دفعتُه. وقرأ عليّ بن أبي طالب، وأبو رجاء، وأبو عبد الرحمن، والضحاك، وأيوب السختياني، وابن أبي عبلة: «دَحُوراً» بفتح الدال. وفي «الواصب» قولان: أحدهما: أنه الدائم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة.
والثاني: أنه المُوجِع، قاله أبو صالح، والسدي. وفي زمان هذا العذاب قولان: أحدهما: أنه في الآخرة. والثاني: أنه في الدنيا، فهم يُخْرَجون بالشُّهُب ويُخبَلُون إِلى النَّفْخة الأولى في الصُّور.
قوله تعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ قرأ ابن السميفع: «خَطِّفَ» بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها. وقرأ أبو رجاء، والجحدري: بكسر الخاء والطاء جميعا والتّخفيف. وقال الزجاج: خََطَفَ وخَطِفَ، بفتح الطاء وكسرها، يقال: خَطَفْتُ أَخْطِفُ، وخَطِفْتُ أَخْطَفُ: إِذا أخذت الشيء بسرعة، ويجوز «إلاّ مَنْ خَطَّف» بفتح الخاء وتشديد الطاء، ويجوز «خِطَفَ» بكسر الخاء وفتح الطاء والمعنى:
اختطف، فأدغمت التاء في الطاء، وسقطت الألف لحركة الخاء فمن فتح الخاء ألقى عليها فتحة التاء التي كانت في «اختطف»، ومن كسر الخاء، فلِسكونها وسُكون الطاء. فأما من روى «خِطِف» بكسر الخاء والطاء، فلا وجه لها إلا وجهاً ضعيفاً جداً، وهو أن يكون على إِتباع الطاء كسرة الخاء. قال المفسّرون: والمعنى: إلّا من اختلس الكلمة من كلام الملائكة مُسارَقةً فَأَتْبَعَهُ أي: لَحِقَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ قال ابن قتيبة: أي كوكبٌ مُضيءُ، يقال: أثْقِِبْ نارَك، أي: أضِئْها، والثّقوب: ما تذكى به النّار.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١ الى ٢٦]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥)
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
(١) النساء: ١١٧.
(٢) الشعراء: ٢٠٠، ٢٠١.
536
قوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أي: فَسَْلهُمْ سؤالَ تقرير أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي: أَحْكَمُ صَنْعةً أَمْ مَنْ خَلَقْنا فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: أَمْ مَنْ عدَدْنا خَلْقه من الملائكة والشياطين والسّموات والأرض، قاله ابن جير. والثاني: أَمْ مَنْ خَلَقْنا قبلهم من الأمم السالفة، والمعنى: إنهم ليسوا بأقوى من أولئك وقد أهلكناهم بالتكذيب، فما الذي يؤمن هؤلاء؟. ثم ذكر الناس فقال: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قال الفراء، وابن قتيبة: أي: لاصقٍ لازمٍ، والباء تُبدَلُ من الميم لقُربِ مَخْرَجَْيهما. قال ابن عباس: هو الطيّن الحُرُّ الجيِّد اللَّزِقُ. وقال غيره: هو الطِّين الذي يَنْشَف عنه الماءُ وتبقى رطوبتُه في باطنه فيَلْصَق باليد كالشمع. وهذا إِخبار عن تساوي الأصل في خَلْقهم وخَلْق مَن قَبْلَهم فمن قدَر على إِهلاك الأقوياء، قَدرَ على إهلاك الضُّعفاء.
قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ «بل» معناه: تركُ الكلام في الأول والأخذُ في الكلام الآخر، كأنه قال: دع يا محمد ما مضى. وفي «عَجِبْتَ» قراءتان قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «بل عَجِبْتَ» بفتح التاء. وقرأ علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، وقتادة، وأبو مجلز، والنخعي، وطلحة بن مصرف، والأعمش، وابن أبي ليلى، وحمزة، والكسائي في آخرين: «بل عَجِبْتُ» بضم التاء، واختارها الفراء. فمن فتح أراد: بل عَجِبْتَ يا محمد، وَيَسْخَرُونَ هم. قال ابن السائب: أنتَ تَعْجَبُ منهم، وهم يَسْخَرون منك. وفي ما عجبَ منه قولان «١» : أحدهما: من الكفار إِذ لم يؤمِنوا بالقرآن. والثاني: إذ كفروا بالبعث. ومن ضمّ، أراد الإخبار عن الله عزّ وجلّ أنه عَجِبَ، قال الفراء: وهي قراءة عليّ وعبد الله وابن عباس وهي أحبُّ إليّ، وقد أنكر هذه القراءة قوم، منهم شريح القاضي، قال: إن الله لا يَعْجَب، إِنما يَعْجَبَ مَنْ لا يَعْلَم، قال الزجاج: وإنكار هذه القراءة غلط، لأن العَجَبَ من الله خلاف العجب من الآدميين، وهذا كقوله تعالى:
وَيَمْكُرُ اللَّهُ «٢» وقوله: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ «٣»، وأصل العَجَب في اللغة: أن الإِنسان إِذا رأى ما يُنْكرِهُ ويَقَلُّ مِثْلُه، قال: قد عَجَبتُ من كذا، وكذلك إِذا فَعَلَ الآدميُّون ما ينكره الله عزّ وجلّ، جاز أن يقول عَجِبْتُ. واللهُ قد عَلِم الشيءَ قبل كونه. وقال ابن الأنباري: المعنى: جازيتُُهم على عجبهم من الحق، فسمّى الجزاء على الشيء باسم الشيء الذي له الجزاء، فسمّى فعله عَجَباَ وليس بعَجَب في الحقيقة، لأن المتعَجِّب يدهش ويتحيَّر، واللهُ عزَ وجَلَّ قد جَلّ عن ذلك وكذلك سُمِّي تعظيم الثواب عجبا،
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٠/ ٤٧٦: والصواب من القول أن يقال: أنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب، فإن قال قائل: وكيف يكون مصيبا القارئ بهما مع اختلاف معنيهما؟
إنهما وإن اختلف معنياهما فكل واحد من معنييه صحيح، قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل، وسخر منه أهل الشرك بالله، وقد عجب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله، وسخر المشركون بما قالوه.
(٢) الأنفال: ٣٠.
(٣) التوبة: ٧٩.
537
لأنه إنما يُتعجَّب من الشيء إِذا كان في النهاية، والعرب تسمي الفعل باسم الفعل إِذا داناه من بعض وجوهه وإن كان مخالفاً له في أكثر معانيه، قال عديّ:
ثمّ أضحوا لعب الدّهر بهم «١» فجعل إهلاك الدهر وإفساده لعبا، قال ابن جرير: من ضم التاء، فالمعنى: بل عَظُم عندي وكَبُر اتِّخاذُهم لي شريكاً وتكذيبُهم بتنزيلي. وقال غيره: إضافة العجب إلى الله عزّ وجلّ على ضربين:
أحدهما: بمعنى الإِنكار والذمِّ، كهذه الآية. والثاني: بمعنى الاستحسان والإِخبار عن تمام الرّضا، كقوله عليه السلام:
(١٢٠٩) «عَجِبَ ربُّكَ مِنْ شابٍ ليست له صَبوةٌ».
قوله تعالى: وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي: إِذا وُعِظوا بالقرآن لا يَذْكُرون ولا يَتَّعظون. وقرأ سعيد بن جبير، والضحاك، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري، وأبو عمران: «ذُكِروا» بتخفيف الكاف. وَإِذا رَأَوْا آيَةً قال ابن عباس: يعني انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ قال أبو عبيدة: يَسْتَسْخِرونَ ويَسْخَرونَ سواء.
قال ابن قتيبة. يقال: سَخِرَ واسْتَسْخَرَ، كما يقال: قَرَّ واسْتَقَرَّ، وعَجِبَ واسْتَعْجَبَ، ويجوز أن يكون:
يسألون غيرَهم من المشركين أن يَسْخَروا من رسول الله، كما يقال: اسْتَعْتَبْتُه، أي: سألتُه العُتْبَى، واسْتَوْهَبْتُه، أي: سألتُه الهِبَة، واسْتَعْفَيْتُه: سألتُه العَفْوَ. وَقالُوا إِنْ هذا يعنون انشقاق القمر إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: بَيْنٌ لِمَنْ تأمَّله أنه سِحْر. أَإِذا مِتْنا قد سبق بيان هذه الآية «٢». أَوَآباؤُنَا هذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف، كقوله: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى «٣». وقرأ نافع، وابن عامر: «أوْ آباؤنا الأَوَّلُونَ» بسكون الواو ها هنا وفي الواقعة «٤». قُلْ نَعَمْ أي: نَعَمْ تُبْعَثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي:
صاغِرونَ. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي: فإنّما قِصَّة البعث صيحةٌ واحدة من إسرافيل، وهي نفخة البعث، وسُمِّيتْ زجرةً، لأن مقصودها الزَّجْر فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ قال الزجاج: أي: يُحْيَوْن ويُبعَثونَ بُصَراءَ ينْظرون، فإذا عايَنوا بعثهم، ذكروا إِخبار الرُّسل عن البعث، وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ أي: يوم الحساب والجزاء، فتقول الملائكة: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي: يوم القضاء الذي يُفْصَل فيه بين المحسن والمسيء ويقول الله عزّ وجلّ يومئذ للملائكة: احْشُرُوا أي: اجْمَعوا الَّذِينَ ظَلَمُوا من حيث هم، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: أنه عامٌّ في كل ظالم. وفي أزواجهم أربعة أقوال:
أحدها: أمثالهم وأشباههم، وهو قول عمر وابن عباس، والنعمان بن بشير، ومجاهد في أخرين. وروي عن عمر قال: يُحْشَر صاحبُ الرِّبا مع صاحب الرِّبا وصاحبُ الزِّنا مع صاحب الزِّنا وصاحب الخمر مع
ضعيف. أخرجه أحمد ٤/ ١٥١ وأبو يعلى ١٧٤٩ والطبراني ١٧/ ٣٠٩ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٩٩٣ من طريق ابن لهيعة عن أبي عشانة عن عقبة بن عامر مرفوعا. وإسناده ضعيف، لضعف ابن لهيعة.
وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٠/ ٢٧٠ وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، وإسناده حسن! كذا قال رحمه الله، ومداره على ابن لهيعة، وهو ضعيف لا يحتج به، وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» ٣٤٩ موقوفا وهو أصح.
__________
(١) هو صدر بيت وعجزه: وكذاك الدهر يودي بالرجال. [.....]
(٢) مريم: ٦٦.
(٣) الأعراف: ٩٨.
(٤) الواقعة: ٤٨.
538
صاحب الخمر. والثاني: أن أزواجَهم: المشركاتُ، قاله الحسن. والثالث: أشياعهم، قاله قتادة.
والرابع: قُرَناؤهم من الشيَّاطين الذين أضلُّوهم، قاله مقاتل. وفي قوله تعالى: وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: الأصنام، قاله عكرمة، وقتادة. والثاني: إبليس وحده، قاله مقاتل. والثالث:
الشياطين، ذكره الماوردي وغيره.
قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي: دُلُّوهم على طريقها والمعنى: اذهبوا بهم إِليها.
قال الزجاج: يقال: هَدَيْتُ الرَّجُل: إِذا دَلَلْتَه، وهَدَيْتُ العروس إِلى زوجها، وأهديتُ الهديَّة، فإذا جعلتَ العروس كالهدية، قلتَ: أهديتُها.
قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ أي: احبسوهم إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ وقرأ ابن السميفع: «أنَّهم» بفتح الهمزة.
قال المفسرون: لمَّا سِيقوا إلى النار حُبِسوا عند الصراط، لأن السؤال هناك. وفي هذا السؤال ستة أقوال: أحدها: أنهم سئلوا عن أعمالهم وأقوالهم في الدنيا. والثاني: عن «لا إِله إِلا الله»، رويا جميعاً عن ابن عباس. والثالث: عن خطاياهم، قاله الضحاك. والرابع: سَألَهُمْ خزَنةُ جهنم أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ «١» ونحو هذا، قاله مقاتل. والخامس: أنهم يُسألون عمّا كانوا يعملون، ذكره ابن جرير. والسادس: أن سؤالهم قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ، ذكره الماوردي. قال المفسّرون: المعنى: ما لكم لا ينصُر بعضُكم بعضاً كما كنتم في الدنيا؟! وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ «٢»، فقيل لهم ذلك يومئذ توبيخاً. والمُسْتَسْلِم: المُنقاد الذَّليل والمعنى أنهم منقادون لا حيلة لهم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٧ الى ٤٩]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١)
فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦)
لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ فيهم قولان: أحدهما: الإِنس على الشياطين. والثاني:
الأتباع على الرؤساء يَتَساءَلُونَ تسآل توبيخ وتأنيب ولَومْ، فيقول الأتباع للرؤساء: لِمَ غررتمونا؟
ويقول الرؤساء: لم قبلتم منّا؟ فذلك قوله تعالى: قالُوا يعنى الأتباع للمتبوعين إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: كنتم تَقْهَروننا بقُدرتكم علينا، لأنّكم كنتم أعزّ منّا، رواه الضّحّاك.
والثاني: من قِبَل الدِّين فتُضِلوُّنا عنه، قاله الضحاك، وقال الزجاج: تأتوننا من قِبَل الدِّين فتخدعونا
(١) الملك: ٨٠.
(٢) القمر: ٤٤.
539
بأقوى الأسباب. والثالث: كنتم تُوثِّقون ما كنتم تقولون بَأيْمانكم، فتأتوننا من قِبَل الأيْمان التي تَحْلِفونها، حكاه عليّ بن أحمد النيسابوري. فيقول المتبوعون لهم: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي: لم تكونوا على حَقّ فنُضلِّكم عنه، إِنما الكفر من قبلكم. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ فيه قولان:
أحدهما: أنه القَهْر. والثاني: الحُجَّة. فيكون المعنى على الأول: وما كان لنا عليكم من قُوَّة نَقْهَرُكم بها ونُكْرِهِكُم على مُتابعتنا، وعلى الثاني: لم نأتكم بحُجَّة على ما دعَوْناكم إٍليه كما أتت الرُّسل.
قوله تعالى: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا أي: فوجبت علينا كلمةُ العذاب، وهي قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «١» إِنَّا لَذائِقُونَ العذاب جميعاً نحن وأنتم، فَأَغْوَيْناكُمْ أي: أضلَلْناكم عن الهُدى بدعائكم إلى ما نحن عليه، وهو قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا غاوِينَ.
ثم أخبر عن الأَتباع والمتبوعين بقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ، والمجرمون ها هنا: المشركون، إِنَّهُمْ كانُوا في الدُّنيا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي: قولوا هذه الكلمة يَسْتَكْبِرُونَ أي: يَتَعَظَّمُون عن قولها، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا المعنى: أَنَتْرُكُ عبادة آلهتنا لِشاعِرٍ أي: لاتباع شاعر؟! يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فردّ الله تعالى عليهم فقال: بَلْ أي: ليس الأمر على ما قالوا، بل جاءَ بِالْحَقِّ وهو التوحيد والقرآن، وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ الذين كانوا قبله والمعنى أنه أتى بما أتَوْا به. ثم خاطب المشركين بما بعد هذا إلى قوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني الموحِّدين.
قال أبو عبيدة: والعرب تقول: إنَّكم لَذاهبون إلاّ زيداً. وفي ما استثناهم منه قولان: أحدهما: من الجزاء على الأعمال، فالمعنى: إنّا لا نؤاخذهم بسوء أعمالهم، بل نَغْفِرُ لهم، قاله ابن زيد. والثاني:
من دون العذاب، فالمعنى: فإنهم لا يذوقون العذاب، قاله مقاتل.
قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الجنة، قاله قتادة. والثاني: أنه الرِّزق في الجنة، قاله السدي، فعلى هذا، في معنى «معلوم» قولان: أحدهما: أنه بمقدار الغداة والعشيّ، قاله ابن السّائب. والثاني: أنهم حين يشتهونهُ يؤتَون به، قاله مقاتل.
ثم بيَّن الرِّزق فقال: فَواكِهُ وهي جمع فاكهة وهي الثِّمار كلُّها، رَطْبها ويابسها وَهُمْ مُكْرَمُونَ بما أعطاهم الله. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره «٢» إلى قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ قال الضحاك: كلُّ كأس ذُكِرتْ في القرآن، فإنما عُنيَ بها الخمر، قال أبو عبيدة: الكأس: الإناء بما فيه والمَعين: الماء الطَّاهر الجاري. قال الزّجّاج: الكأس: الإناء الذي فيه الخمر، وتقع الكأسُ على كل إناءٍ مع شرابه، فإن كان فارغا فليس بكأس. والمعين: الخمر يجري كما يجري الماء على وجه الأرض من العُيون.
قوله تعالى: بَيْضاءَ قال الحسن: خمر الجنة أشدُّ بياضاً من اللَّبَن، قال أبو سليمان الدمشقي:
ويدل على أنه أراد بالكأس الخمر، أنه قال: «بيضاءَ» فأنَّث ولو أراد الإناء على انفراده، أو الإِناء والخمر، لقال: أبيض. وقال ابن جرير: إنما أراد بقوله: «بيضاءَ» الكأس، ولتأنيث الكأس أنّثت البيضاء. قوله تعالى: لَذَّةٍ قال ابن قتيبة: أي: لذيذة، يقال: شراب لِذاذ: إِذا كان طَيِّباً. وقال
(١) الأعراف: ١٨.
(٢) الحجر: ٤٧.
540
الزجاج: أي: ذات لَذَّة. لا فِيها غَوْلٌ فيه سبعة أقوال: أحدها: ليس فيها صُداع، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: ليس فيها وجع بطن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وابن زيد.
والثالث: ليس فيها وجع ولا صُداع رأس، قاله قتادة. والرابع: ليس فيها أذى ولا مكروه، قاله سعيد بن جبير. والخامس: لا تَغتال عقولهم، قاله السدي. وقال الزجاج: لا تَغْتالُ عقولَهم فتذهب بها ولا يُصيبهم منها وجع. والسادس: ليس فيها إثم، حكاه ابن جرير. والسابع: ليس فيها شيء من هذه الآفات، لأن كُلَّ مَنْ ناله شيء من هذه الآفات قيل: قد غالَتْه غُوْل، فالصواب أن يكون نفي الغَوْل عنها يَعُمُّ جميع هذه الأشياء، هذا اختيار ابن جرير. قوله تعالى: وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قرأ حمزة، والكسائي: بكسر الزاي ها هنا وفي الواقعة، وفتح عاصم الزاي ها هنا، وكسرها في الواقعة «١». وقرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، بفتح الزّاي في السُّورتين، قال الفراء: فمن فتح، فالمعنى: لا تِذهبُ عقولهم بُشربها. يقال للسكران: نَزيف ومَنزوف ومن كسر، ففيه وجهان: أحدهما: لا يُنْفِدون شرابهم، أي: هو دائم أبداً. والثاني: لا يَسْكَرون، قال الشاعر:
لَعَمْري لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ لَبِئْسَ النَّدامَى كُنْتُمُ آلَ أَبْجَرَا «٢»
قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ فيه قولان: أحدهما: أنهنّ نساء قد قصرن طَرْفهنَّ على أزواجهنَّ فلا يَنْظُرْنَ إلى غيرهم. وأصل القَصْر: الحبس، قال ابن زيد: إنَّ المرأة منهنَّ لَتقولُ لزوجها:
وعِزَّةِ ربِّي ما أرى في الجنَّة شيئاً أحسنَ منكَ، فالحمد لله الذي جعلني زوجكَ وجعلكَ زوجي.
والثاني: أنهنَّ قد قَصَرن طَرْف الأزواج عن غيرهنَّ، لكمال حُسنهنّ، سمعتُه من الشيخ أبي محمد بن الخشّاب النحوي.
وفي العِين ثلاثة أقوال: أحدها: حِسانُ العُيون، قاله مجاهد. والثاني: عِظام الأعيُن، قاله السدي. وابن زيد. والثالث: كِبار العُيون حِسانُها، وواحدتُهنَّ عَيْناء، قاله الزجاج.
قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ في المراد بالبيض ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اللؤلؤ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة. والثاني: بَيْضُ النَّعام، قاله الحسن، وابن زيد، والزجاج. قال جماعة من أهل اللغة: والعرب تُشَبِّه المرأةَ الحسناءَ في بياضها وحُسْن لونها بِبَيْضَة النَّعامة، وهو أحسن ألوان النساء، وهو أن تكون المرأة بيضاءَ مُشَرَّبَةٍ صُفْرَةً. والثالث: أنه البَيْض حين يُقْشَر قبل أن تَمَسَّه الأيدي، قاله السدي، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير، وقتادة، وابن جرير.
فأما المكنون، فهو المصون. فعلى القول الأول: هو مكنون في صَدَفِهِ، وعلى الثاني: هو مكنون بريش النَّعام، وعلى الثالث: هو مكنون بقشره.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥٠ الى ٦١]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
(١) الواقعة: ١٩.
(٢) البيت للأبيرد الرياحي من بني محجل كما في «اللسان» - نزف-.
قوله تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني أهل الجنة يَتَساءَلُونَ عن أحوال كانت في الدنيا.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الصّاحب في الدنيا. والثاني: أنه الشريك، رويا عن ابن عباس. والثالث: أنه الشيطان، قاله مجاهد. والرابع: أنه الأخ قال مقاتل: وهما الأَخوان المذكوران في سورة الكهف «١» في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ والمعنى: كان لي صاحب أو أخ ينكر البعث، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ قال الزجاج: هي مخففة الصاد، من صدَّق يصدِّق فهو مصدِّق، ولا يجوز ها هنا تشديد الصاد، قال المفسّرون: والمعنى: أإنّك لَمِن المُصَدِّقِين بالبعث؟ وقرأ بكر بن عبد الرحمن القاضي عن حمزة: «المُصَّدِقِينَ» بتشديد الصاد. قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي:
مَجْزِيُّون بأعمالنا، يقال: دِنْتُهُ بما صنع، أي: جازيته. فأحَبَّ المؤمِنُ أن يَرى قرينَه الكافر، فقال لأهل الجنَّة: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ أي: هل تحبُّون الاطِّلاع إِلى النَّار لتَعْلَمُوا أين منزلتُكم من منزلة أهلها؟ وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو عمران، وابن يعمر: «هل أنتم مُطْلِعُونَ» بإسكان الطاء وتخفيفها «فأطْلِعَ» بهمزة مرفوعة وسكون الطاء. وقرأ أبو رزين وابن أبي عبلة: «مُطلِعونِ» بكسر النون، قال ابن مسعود:
اطَّلع ثم التفت إلى أصحابه فقال: لقد رأيتُ جماجم القوم تغلي قال ابن عباس: وذلك أن في الجنة كُوىً ينظُر منها أهلُها إِلى النار. قوله تعالى: فَرَآهُ يعني قرينة الكافر فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي: في وسَطها. وقيل: إِنما سمي الوسَط سَواءً، لاستواء المسافة منه إلى الجوانب. قال خُليد العَصْري: واللهِ لولا أنَّ الله عرَّفه إَيَّاه، ما عرفه، لقد تغيَّر حَبْرُه وسِبْرُه. فعند ذلك قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ قال المفسرون: معناه: واللهِ ما كِدْتَ إلاّ تُهْلِكني يقال: أرديتُ فلاناً، أي: أهلكْته. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي أي: إنعامه عليَّ بالإِسلام لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في النّار.
قوله تعالى: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إذا ذُبح الموت، قال أهل الجنة:
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي كانت في الدنيا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فيقال لهم: لا فعند ذلك قالوا: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فيقول الله تعالى: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ، قاله ابن السائب.
وقيل: يقول ذلك للملائكة. والثاني: أنه قول المؤمن لأصحابه، فقالوا له: إنك لا تموت، فقال: «إنْ هذا لَهُوَ الفوز العظيم»، قاله مقاتل. وقال أبو سليمان الدمشقي: إِنما خاطب المؤمنُ أهلَ الجنة بهذا على طريق الفرح بدوام النَّعيم، لا على طريق الاستفهام، لأنه قد عَلِمَ أنَّهم ليسوا بميِّتين، ولكن أعاد الكلام ليزداد بتكراره على سمعه سروراً. والثالث: أنه قول المؤمن لقرينه الكافر على جهة التوبيخ بما كان يُنْكِره، ذكره الثعلبي.
قوله تعالى: لِمِثْلِ هذا يعنى النعيم الذي ذَكَره في قوله: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ «٢»، فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ، وهذا ترغيب في طلب ثواب الله عزّ وجلّ بطاعته.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٢ الى ٧٤]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
(١) الكهف: ٣٢.
(٢) الصافات: ٤١.
542
أَذلِكَ خَيْرٌ يشير إلى ما وصف لأهل الجنة نُزُلًا قال ابن قتيبة: أي: رزقاً، ومنه: إقامةُ الأنْزال، وأنزال الجنود: أرزاقُها، وقال الزّجّاج: النّزل ها هنا: الرّيع والفضل، تقول: هذا طعام نُزْل ونُزُل، بتسكين الزاي وضمها والمعنى: أذلك خير في باب الأنزال التي تُتَقوَّت ويمكن معها الإِقامة، أم نُزُل أهل النار؟! وهو قوله تعالى: أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. واختلف العلماء هل هذه الشجرة في الدنيا، أم لا؟ فقال قطرب: هي شجرة مُرَّة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر. وقال غيره: الزَّقُّوم: ثمرة شجرة كريهة الطَّعم. وقيل: إِنها لا تُعرف في شجر الدنيا، وإنما هي في النار، يُكرَه أهلُ النار على تناولها. قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ يعني للكافرين، وفي المراد بالفتنة ثلاثة أقْوال:
أحدها: أنه لما ذكر أنها في النار، افتُتنوا وكذَّبوا، فقالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تأكل الشجر؟، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة «١»، وقال السدي: فتنة لأبي جهل وأصحابه. والثاني: أن الفتنة بمعنى العذاب، قاله ابن قتيبة. والثالث: أن الفتنة بمعنى الاختبار، اختُبروا بها فكذَّبوا، قاله الزجاج.
قوله تعالى: تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي: في قَعْر النّار. قال الحسن: أصلُها في قَعْر النّار، وأغصانها ترتفع إلى دَرَكاتها. طَلْعُها أي: ثمرها، وسُمِّي طَلْعاً، لطلوعة كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ.
فإن قيل: كيف شبَّهها بشيءٍ لم يُشاهَد؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه قد استقرَّ في النفوس قُبح الشياطين- وإِن لم تُشاهَد- فجاز تشبيهها بما قد عُلِمَ قُبحه، قال امرؤ القيس:
أيَقْتُلُنِي والمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كأَنْيَاب أغْوالِ
قال الزجاج: هو لم ير الغُول ولا أنيابها، ولكن التمثيل بما يُستقبَح أبلغ في باب المذكّر أن يُمثَّل بالشياطين، وفي باب المؤنَّث أن يشبَّه بالغُول.
والثاني: أنّ بين مكّة واليمن شجرا يسمى رؤوس الشياطين، فشبَّهها بها، قاله ابن السائب.
والثالث: أنه أراد بالشياطين: حيّات لها رؤوس ولها أعراف، فشبّه طلعها برءوس الحيّات، ذكره الزجاج. قال الفراء: والعرب تسمِّي بعض الحيّات شيطاناً، وهو حيّة ذو عُرْف قبيحُ الوجه.
قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي: من ثمرها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ وذلك أنهم يُكْرَهون على أكَلها حتى تمتلئ بطونهم. ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ قال ابن قتيبة: أي: لَخلْطاً من الماء الحارِّ يشربونه عليها. قال أبو عبيدة: تقول العرب: كلُّ شيء خَلَطْتَه بغيره فهو مشوب. قال المفسرون: إذا أَكلوا الزَّقُّوم ثم شربوا عليه الحميم، شابَ الحميمُ الزَّقُّوم في بطونهم فصار شَوْباً له. ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أي: بعد أكل الزَّقُّوم وشُرب الحميم لَإِلَى الْجَحِيمِ وذلك أنّ الحميم خارج من الجحيم، فهم يوردونه
(١) مرسل. أخرجه الطبري ٢٩٣٩٨ عن قتادة مرسلا، وتقدم في سورة الإسراء: ٦٠.
543
كما تورَد الإبلُ الماءَ، ثم يُرَدُّونَ إلى الجحيم ويدُلُّ على هذا قولُه: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «١».
وأَلْفَوْا بمعنى وجدوا. ويُهْرَعُونَ مشروح في هود «٢»، والمعنى أنهم يتَّبعون آباءَهم في سرعة.
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي: قَبْلَ هؤلاء المشركين أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم الخالية.
قوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني الموحِّدين، فإنهم نجوا من العذاب. قال ابن جرير:
وإِنما حَسُن الاستثناء، لأن المعنى: فانْظُر كيف أهلكنا المنذرين إلّا عباد الله.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ أي: دعانا. وفي دعائه قولان: أحدهما: أنه دعا مستنصِراً على قومه.
والثاني: أن ينجيَه من الغرق فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نحن والمعنى: إِنَّا أَنجيناه، وأهلكنا قومه. وفي الْكَرْبِ الْعَظِيمِ قولان: أحدهما: أنه الغرق. والثاني: أذى قومه. وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ وذلك أن نسل أهل السفينة انقرضوا غير نسل ولده، فالناس كلهُّم من ولد نوح، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ أي: تَرَكْنا عليه ذِكْراً جميلاً فِي الْآخِرِينَ وهم الذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة. قال الزجاج: وذلك الذّكر الجميل قوله تعالى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ وهم الذين جاءوا من بعده، والمعنى: تَرَكْنا عليه أن يُصَلَّى عليه في الآخرين إلى يوم القيامة. قوله تعالى: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه الثّناء الحسن في العالمين.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٣ الى ١٠١]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)
قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ أي: من أهل دِينه ومِلَّته. والهاء في «شِيعته» عائدة على نوح في قول الأكثرين وقال ابن السّائب: تعود إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم، واختاره الفراء. فإن قيل: كيف يكون من شيعته وهو قبله؟ فالجواب: أنه مِثل قوله تعالى: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ «٣» فجعلها ذُرِيَّتهم وقد سبقَتْهم، وقد شرحنا هذا فيما مضى «٤». قوله تعالى: إِذْ جاءَ رَبَّهُ أي: صدَّقَ اللهَ وآمَنَ به بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشِّرك وكلِّ دَنَس، وفيه أقوال ذكرناها في الشعراء «٥».
(١) الرحمن: ٤٤.
(٢) هود: ٧٨. [.....]
(٣) يس: ٤١.
(٤) يس: ٤١.
(٥) الشعراء: ٨٩.
544
قوله تعالى: ماذا تَعْبُدُونَ هذا استفهام توبيخ، كأنه وبَّخهم على عبادة غير الله. أَإِفْكاً أي:
أتأفِكون إِفْكاً وتعبُدون آلهةً سِوى الله؟! فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ إِذا لقِيتمُوه وقد عَبَدتُم غيره؟! كأنه قال: فما ظنُّكم أن يصنع بكم؟ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فيه قولان: أحدهما: أنه نظر في عِلم النجوم، وكان القومُ يتعاطَوْن عِلْم النُّجوم، فعاملهم من حيث هم، وأراهم أنِّي أَعلمُ من ذلك ما تعلَمونَ، لئلا يُنْكِروا عليه ذلك. قال ابن المسيّب: رأى نجماً طالعاً، فقال: إِنِّي مريض غداً. والثاني: أنه نظر إلى النجوم، لا في عِلْمها. فإن قيل: فما كان مقصوده؟ فالجواب أنه كان لهم عيد، فأراد التخلُّف عنهم لِيَكِيدَ أصنامَهم، فاعْتَلَّ بهذا القول.
قوله تعالى: إِنِّي سَقِيمٌ من معاريض الكلام، ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: سأَسْقُمُ، قاله الضحاك. قال ابن الأنباري: أَعْلَمَه الله عزّ وجلّ أنَّه يَمْتَحِنُهُ بالسقم إِذا طلع نجمٌ يعرفه، فلما رأى النَّجم، عَلِم أنه سيَسْقُم. والثاني: إِنِّي سقيم القلب عليكم إِذ تكهَّنتم بنجوم لا تضُرُّ ولا تَنْفَع، ذكره ابن الأنباري. والثالث: أنه سَقُمَ لِعِلَّةٍ عرضتْ له، حكاه الماوردي. وذكر السديّ أنه خرج معهم إلى يوم عيدهم، فلمّا كان ببعض الطريق، ألقى نفسه وقال: إِني سقيم أشتكي رجلي، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي: مال إِليها- وكانوا قد جعلوا بين يديها طعاماً لتبارك فيه على زعمهم- فَقالَ إبراهيم استهزاءً بها أَلا تَأْكُلُونَ.
وقوله تعالى: ضَرْباً بِالْيَمِينِ في اليمين ثلاثة أقوال: أحدها: أنها اليد اليمنى، قاله الضحاك.
والثاني: بالقُوَّة والقُدرة، قاله السدي، والفراء. والثالث: باليمين التي سبقت منه، وهي قوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «١». حكاه الماوردي. قال الزجاج: «ضَرْباً» مصدر والمعنى: فمال على الأصنام يضربها ضَرْباً باليمين وإِنما قال: «عليهم»، وهي أصنام، لأنهم جعلوها بمنزلة ما يُمَيِّز. فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: «يَزِفُّونَ» بفتح الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء. وقرأ حمزة، والمفضَّل عن عاصم: «يُزِفُّونَ» برفع الياء وكسر الزاي وتشديد الفاء. وقرأ ابن السّميفع وأبو المتوكل والضحاك: «يَزِفُونَ» بفتح الياء وكسر الزاء وتخفيف الفاء. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو نهيك: «يَزْفُونَ» بفتح الياء وسكون الزاي وتخفيف الفاء. قال الزجاج: أَعربُ القراءات فتح الياء وتشديد الفاء، وأصله من زفيف النَّعام، وهو ابتداء عَدْوِ النَّعام، يقال: زَفَّ النَّعام يَزِفُّ وأمَّا ضم الياء، فمعناه: يصيرون إِلى الزَّفيف، وأنشدوا:
فأضحى حُصَيْنٌ قد أَذَلَّ وأَقْهَرَا «٢» أي: صار إِلى القَهْر. وأمّا كَسْرُ الزّاي مع تخفيف الفاء، فهو من: وَزَفَ يَزِفُ، بمعنى أَسْرَعَ يُسْرِع، ولم يَعْرِفه الكسائي ولا الفراء، وعَرَفه غيرهما. قال المفسِّرون: بلغهم ما صنع إبراهيم، فأسرعوا، فلمّا انتَهَوْا إِليه، قال لهم محتجّاً عليهم: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ بأيديكم وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ، قال ابن جرير: في «ما» وجهان «٣» : أحدهما: أن تكون بمعنى المصدر، فيكون المعنى: والله
(١) الأنبياء: ٥٧.
(٢) هو عجز بيت للمخبّل السعدي كما في «اللسان» - قهر-. وصدره: تمنّى حصين أن يسود جذاعه.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» ٤/ ١٨: وكلا القولين متلازم، والأول أظهر لما رواه البخاري في كتاب «أفعال العباد» عن حذيفة مرفوعا: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته».
545
خَلَقَكم وَعمَلَكم. والثاني: أن تكون بمعنى «الذي»، فيكون المعنى: واللهُ خَلَقَكم وَخلَقَ الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام، وفي هذه الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه. فلمّا لَزِمَتْهم الحُجَّة قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً وقد شرحنا قصته في سورة الأنبياء «١»، وبيَّنَّا معنى الجحيم في البقرة «٢»، والكّيْدُ الذي أرادوا به: إحراقه.
ومعنى قوله تعالى: فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ أن إبراهيم علاهم بالحُجَّة حيث سلَّمه الله من كيدهم وحلَّ الهلاكُ بهم. وَقالَ يعني إبراهيم إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي في هذا الذَّهاب قولان: أحدهما: أنه ذاهب حقيقة، ثم في وقت قوله هذا قولان: أحدهما: أنه حين أراد هِجرة قومه فالمعنى: إنِّي ذاهب إلى حيث أمرني ربّي عزّ وجلّ سَيَهْدِينِ إلى حيث أمرني، وهو الشام، قاله الأكثرون. والثاني: حين أُلقي في النّار، قاله سليمان بن صُرَد فعلى هذا، في المعنى قولان: أحدهما: ذاهب إِلى الله بالموت، سيَهدينِ إلى الجنّة. والثاني: ذاهب إلى ما قضى به ربي سيَهدين إِلى الخَلاص من النّار. والقول الثاني:
إِنِّي ذاهب إلى ربِّي بقلبي وعملي ونيَّتي، قاله قتادة.
فلما قَدِم الأرض المقدَّسة، سأل ربَّه الولدَ فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي: ولداً صالحاً من الصَّالحينِ، فاجتزأ بما ذكر عمّا ترك، ومثله: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ «٣»، فاستجاب له، وهو قوله تعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وفيه قولان «٤» : أحدهما: أنه إِسحاق. والثاني: أنه إِسماعيل. قال الزجاج. هذه البِشارة تَدُلُّ على أنه مبشَّر بابنٍ ذَكَر، وأنه يبقى حتى ينتهيَ في السنّ ويوصَف بالحلم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٠٢ الى ١١٣]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١)
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ المراد بالسّعي ها هنا: العمل، قاله ابن عباس. والثاني: أنه المشي، والمعنى: مشى مع أبيه، قاله قتاده. قال ابن قتيبة: بلغ أن ينصرف معه
(١) الأنبياء: ٥٢- ٧٤.
(٢) البقرة: ١١٩.
(٣) يوسف: ٢٠.
(٤) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» ٤/ ١٩: يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم- عليه السلام- أنه بعد ما نصره الله على قومه وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة هاجر من بين أظهرهم وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ يعني: أولادا مطيعين عوضا عن قومه وعشيرته الذين فارقهم. قال الله تعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه السلام وهو أكبر من إسحاق باتّفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل نصّ كتابهم أن إسماعيل ولد لإبراهيم عليه السلام وعمره ست وثمانون سنة وولد إسحاق وعمر إبراهيم تسع وتسعون سنة. وعندهم أن الله تعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة: بكره.
546
ويُعِينَه. قال ابن السائب: كان ابن ثلاث عشرة سنة. والثالث: أن المراد بالسعي: العبادة، قاله ابن زيد فعلى هذا، يكون قد بلغ.
قوله تعالى: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ أكثر العلماء على أنه لم ير أنه ذبحه في المنام. وإنما المعنى أنه أُمِرََ في المنام بذبحه، ويدُل عليه قوله تعالى: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. وذهب بعضهم إلى أنه رأى أنه يعالج ذبحه، ولم يَرَ إِراقة الدَّم. قال قتادة: ورؤيا الأنبياء حَقٌّ، إِذا رأَوا شيئاً، فعلوه. وذكر السدي عن أشياخه أنه لمّا بشَّر جبريلُ سارة بالولد، قال إبراهيم: هو إِذاً لله ذبيح، فلمّا فَرَغ من بُنيان البيت، أُتي في المنام، فقيل له: أَوْف بنَذْرك. واختلفوا في الذَّبيح على قولين «١» : أحدهما: أنه إِسحاق، قاله عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والعبّاس بن عبد المطلب، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأنس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبّه، ومسروق، وعبيد بن عمير، والقاسم بن أَبي بَزّة، ومقاتل بن سليمان، واختاره ابن جرير. وهؤلاء يقولون: كانت هذه القصة بالشام. وقيل: طويت له الأرضُ حتى حمله إلى المَنْحَر بمِنىً في ساعة. والثاني: أنه إسماعيل، قاله ابن عمر، وعبد الله بن سلام، والحسن البصري، وسعيد بن المسيّب، والشعبي، ومجاهد، ويوسف بن مهران، وأبو صالح، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن سابط.
واختلفت الرواية عن ابن عباس، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق، وروى عنه عطاء، ومجاهد، والشعبي، وأبو الجوزاء، ويوسف بن مهران أنه إسماعيل، وروى عنه سعيد بن جبير كالقولين. وعن سعيد بن جبير، وعكرمة، والزهري، وقتادة، والسدي روايتان. وكذلك عن أحمد رضي الله عنه روايتان. ولكلِّ قومٍ حُجَّة ليس هذا موضعها، وأصحابنا ينصرون القول الأول.
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» ٤/ ١٩- ٢١: نصّ في كتاب أهل الكتاب أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة: بكره، فأقحموا ها هنا كذبا وبهتانا «إسحاق» ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا «إسحاق» لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، فزادوا ذلك وحرّفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى جنب مكة وهذا تأويل وتحريف باطل. فإنه لا يقال: وحيد إلا لمن ليس له غيره، وأيضا فإن أول ولد له معزّة ما ليس لمن بعده من الأولاد، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقّي إلا عن أخبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلّما من غير حجة. وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ وقال تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أي:
يولد له في حياتهما ولد يسمّى يعقوب، فيكون من ذريته عقب ونسل. ولا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير، لأن الله وعدهما بأنه سيعقب، ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا.
وإسماعيل وصف ها هنا بالحلم، لأنه مناسب لهذا المقام. وقوله: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه. وقد كان إبراهيم عليه السلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فارن وينظر في أمرهما وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك. والله أعلم. والصحيح أنه إسماعيل، وهو المقطوع به اه.
547
الإشارة إلى قصّة الذّبح
ذكر أهل السّير والتفسير «١» أن إِبراهيم لمَّا أراد ذبح ولده، قال له: انطلِق فنُقرِّب قرباناً إلى الله عزّ وجلّ، فأخذ سِكِّيناً وحَبْلاً، ثم انطلق، حتى إِذا ذهبا بين الجبال، قال له الغلام: يا أبتِ أين قُربانُك؟
قال: يا بُني إِنِّي رأيتُ في المنام أني أذبحُك، فقال له: اشْدُد رِباطي حتى لا أضطرب، واكْفُف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليك من دمي فتراه أُمِّي فتحزن، وأَسْرِع مَرَّ السِّكِّين على حَلْقِي ليكون أهون للموت عليَّ، فإذا أتيتَ أُمي فاقرأ عليها السلام منِّي فأقبل عليه إبراهيم يقبِّله ويبكي ويقول: نِعْمِ العونُ أنت يا بنيّ على أمر الله عزّ وجلّ، ثم إنه أَمَرَّ السِّكِّين على حَلْقه فلم يَحْكِ شيئاً. وقال مجاهد: لمّا أَمَرَّها على حلقه انقلبت، فقال: ما لك؟ قال: انقلبتْ، قال: اطْعَنْ بها طَعْناً. وقال السدي: ضرب اللهُ على حَلْقِِهِ صفيحة من نُحاس وهذا لا يُحتاج إِليه، بل منعُها بالقُدرة أَبلَغ. قالوا: فلمّا طَعَنَ بها، نَبَتْ، وعَلِم اللهُ منهما الصِّدق في التسليم، فنودي: يا إبراهيمُ قد صَدَّقْتَ الرُّؤيا، هذا فداءُ ابنك فنظر إِبراهيم، فإذا جبريل معه كبش أملح.
قوله تعالى: فَانْظُرْ ماذا تَرى لَمْ يَقًل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله عزّ وجلّ، ولكن أراد أن يَنْظُر ما عنده من الرَّأي. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ماذا تُرِي» بضمّ التاء وكسر الراء فيها قولان: أحدهما: ماذا تُريني من صبرك أو جَزَعك، قاله الفراء. والثاني: ماذا تُبِين، قاله الزجاج.
وقال غيره: ماذا تُشير. قوله تعالى: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ قال ابن عباس: افْعَلْ ما أُوحي إِليك من ذبحي سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على البلاء.
قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما أي: استسلمَا لأمر الله عزّ وجلّ فأطاعا ورضيا. وقرأ علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والأعمش وابن أبي عبلة: «فلمّا سَلَّما» بتشديد اللام من غير همز قبل السين والمعنى: سَلَّما لأمر الله عزّ وجلّ. وفي جواب قوله: «فلمّا أَسلَما» قولان: أحدهما: أن جوابه: «وناديناه»، والواو زائدة، قاله الفراء. والثاني: أن الجواب محذوف لأن في الكلام دليلاً عليه والمعنى: فلمّا فعل ذلك، سَعِدَ وأُجْزِلَ ثوابُه، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ قال ابن قتيبة: أي: صَرَعه على جبينه فصار أحد جبينيه على الأرض، وهما جبينان، والجبهة بينهما، وهي ما أصاب الأرضَ في السجود، والناس لا يكادون يفرِّقون بين الجبين والجبهة، فالجبهة مسجد الرجل الذي يصيبه نَدَبُ السُّجود، والجبينان يكتنفانها، من كل جانب جبين.
قوله تعالى: وَنادَيْناهُ قال المفسرون: نودي من الجبل: يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا وفيه قولان: أحدهما: قد عَمِلْتَ ما أَمَرْتُ، وذلك أنه قصد الذَّبح بما أمكنه، وطاوعه الابن بالتمكين من الذَّبح، إلّا أنّ الله تعالى صرف ذلك كما شاء، فصار كأنه قد ذَبَح وإِن لم يتحقَّق الذَّبح. والثاني: أنه رأى في المنام معالجة الذَّبح، ولم ير إراقة الدَّم، فلمّا فَعَلَ في اليقظة ما رأى في المنام، قيل له: «قد صدَّقْتََ الرُّؤيا». وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، والجحدري: «قد صَدَقْتَ الرُّؤيا» بتخفيف الدال، وها هنا تم الكلام. ثم قال تعالى: إِنَّا كَذلِكَ أي: كما ذَكَرْنا من العفو من ذبح ولده
(١) هو موقوف على ابن عباس، انظر «تفسير البغوي» ٤/ ٣٣.
548
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ فيه قولان: أحدهما: النِّعمة البيِّنة، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثاني: الاختبار العظيم، قاله ابن زيد، وابن قتيبة. فعلى الأول، يكون قوله هذا إِشارة إلى العفو عن الَّذبح. وعلى الثاني، يكون إشارة إِلى امتحانه بذبح ولده.
قوله تعالى: وَفَدَيْناهُ يعني الذَّبيح بِذِبْحٍ وهو بكسر الذال اسم ما ذُبِحَ، وبفتح الذال مصدر ذَبَحْتُ، قاله ابن قتيبة. ومعنى الآية: خلَّصْناه من الذَّبح بأن جعلنا الذّبح فداءً له. وفي هذا الذِّبح ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنه كان كبشاً أقرن قد رعى في الجنة قبل ذلك أربعين عاماً، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وقال في رواية سعيد بن جبير: هو الكبش الذي قرَّبه ابنُ آدم فتُقُبِّل منه، كان في الجنة حتى فُدي به. والثاني: أن إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين، رواه أبو الطفيل عن ابن عباس.
والثالث: أنه ما فُدي إِلاّ بتيس من الأَرْوَى، أهبط عليه من ثَبِير، قاله الحسن. وفي معنى عَظِيمٍ أربعة أقوال: أحدها: لأنه كان قد رعى في الجنّة، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. والثاني: لأنه ذُبح على دِين إبراهيم وسُنَّته، قاله الحسن. والثالث: لأنه مُتَقَبَّلٌ، قاله مجاهد. وقال أبو سليمان الدمشقي:
لمّا قرَّبَه ابنُ آدم رُفِع حيّاً فرعى في الجنة ثم جُعل فداء للذّبيح، فقُبِل مرتين. والرابع: لأنه عظيم الشَّخص والبَرَكة، ذكره الماوردي.
قوله تعالى:
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ قد فسّرناه في هذه السّورة «٢».
قوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ من قال: إن إسحاق الذَّبيحُ، قال: بُشِّر إبراهيم بنبوَّة إسحاق، وأُثيب إسحاق بصبره النبوَّةَ، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة، وبه قال قتادة، والسدي. ومن قال: الذَّبيح إسماعيل، قال: بشَّر اللهُ إبراهيم بولد يكون نبيّاً بعد هذه القصة، جزاءً لطاعته وصبره، وهذا قول سعيد بن المسيب. قوله تعالى: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ يعني بكثرة ذُرِّيَّتهما، وهم الأسباط كلًّهم وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ أي: مطيع لله وَظالِمٌ وهو العاصي له. وقيل: المُحْسِنُ: المؤمِن، والظالم: الكافر.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٤ الى ١٣٢]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
قوله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أي: أنعمنا عليهما بالنبوّة. وفي الْكَرْبِ
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» ٤/ ٢٢: والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه فدي بكبش. اه.
(٢) الصافات: ٧٨. [.....]
549
الْعَظِيمِ قولان: أحدهما: استعباد فرعون وبلاؤه، وهو معنى قول قتادة. والثاني: الغرق، قاله السدي. قوله تعالى: وَنَصَرْناهُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه يرجع إلى موسى وهارون وقومهما.
والثاني: أنه يرجع إليهما فقط، فجُمعا، لأن العرب تذهب بالرئيس إلى الجمع، لجنوده وأتباعه، ذكرهما ابن جرير. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «١»، إلى قوله: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
فيه قولان:
أحدهما: أنه نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل، قاله الأكثرون. والثاني: أنه إِدريس، قاله ابن مسعود، وقتادة، وكذلك كان يقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي: «وإِن إِدريس» مكان «إِلياس». قوله تعالى: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أي: ألا تخافون الله فتوحِّدونه وتعبدونه؟! أَتَدْعُونَ بَعْلًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بمعنى الرّبّ، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقال الضحاك:
كان ابن عباس قد أعياه هذا الحرف، فبينا هو جالس، إذ مَرَّ أعرابيّ قد ضَلَّت ناقتُه وهو يقول: من وجد ناقة أنا بعلُها؟ فتبعه الصّبيان يصيحون به: يا زوج النّاقة، يا زوج النّاقة، فدعاه ابن عباس فقال:
ويحك، ما عنيتَ ببعلها؟ قال: أنا ربُّها، فقال ابن عباس: صدق الله: «أَتَدْعون بَعْلاً» : ربّاً. وقال قتادة: هذه لغة يمانية. والثاني: أنه اسم صنم كان لهم، قاله الضحاك، وابن زيد. وحكى ابن جرير أنه به سُمِّيت «بعلبكّ». والثالث: أنها امرأه كانوا يعبدونها، حكاه محمد بن إِسحاق. قوله تعالى: اللَّهَ رَبَّكُمْ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: «اللهُ ربُّكم» بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف ويعقوب: «الله» بالنصب. قوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ النارَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين لم يكذِّبوه، فإنهم لا يُحْضَرونَ النّار.
الإشارة إلى القصة
ذكر أهل العلم بالتفسير والسِّيَر أنه لما كَثُرت الأحداث بعد قبض حزقيل، وعُبِدت الأوثانُ، بَعَثَ اللهُ تعالى إِليهم إِلياس. قال ابن إِسحاق: وهو إلياس بن تشبي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، فجعل يدعوهم فلا يسمعون منه، فدعا عليهم بحبس المطر، فجُهدوا جَهداً شديداً، واستخفى إِلياس خوفاً منهم على نفسه. ثم إنه قال لهم يوماً: إِنكم قد هَلَكْتُم جَهْداً، وهَلَكَت البهائمُ والشجر بخطاياكم، فاخرُجوا بأصنامكم وادْعُوها، فإن استجابت لكم، فالأمر كما تقولون، وإن لم تفعل، عَلِمتم أنكم على باطل فنَزَعْتُم عنه، ودعوتُ الله ففرَّج عنكم، فقالوا: أنصفتَ، فخرجوا بأوثانهم، فدعوا فلم تستجب لهم، فعرفوا ضلالهم، فقالوا: ادْعُ اللهَ لنا، فدعا لهم فأرسل المطر وعاشت بلادهم، فلم يَنْزِعوا عمّا كانوا عليه، فدعا إلياس ربَّه أن يَقْبِضه إِليه ويًريحَه منهم، فقيل له: اخْرُج يومَ كذا إِلى مكان كذا، فما جاءك من شيء فاركبْه ولا تَهَبْهُ، فخرج فأقبل فَرَسٌ من نار، فوثب عليه، فانطلق به، وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذَّة المَطْعم والمَشْرَب، فطار في الملائكة، فكان إنسيّاً مَلَكيّاً، أرضيّاً سماويّاً «٢».
قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ:
(١) الأنبياء: ٤٨.
(٢) هذا من حماقات الإسرائيليين. وهو باطل.
550
«إِلياسينَ» موصولة مكسورة الألف ساكنة اللام، فجعلوها كلمة واحدة وقرأ الحسن مثلهم، إلاّ أنه فتح الهمزة، وقرأ نافع، وابن عامر، وعبد الوارث، ويعقوب إلاّ زيداً: «إِلْ ياسينَ» مقطوعة، فجعلها كلمتين. وفي قراءة الوصل قولان: أحدهما: أنه جَمْعٌ لهذا النبيّ وأمَّته المؤمنين، به، وكذلك يُجمع ما يُنْسَب إِلى الشيء بلفظ الشيء، فتقول: رأيت المهالبة، تريد: بني المهلَّب، والمسامعة، تريد: بني مسمع. والثاني: أنه اسم النبيّ وحده، وهو اسم عبرانيٌّ، والعجمي من الأسماء قد يفعل به هذا، كما يقال: ميكال وميكائيل، ذكر القولين الفراء والزجاج. فأمّا قراءة من قرأ: «إِلْ ياسينَ» مفصولة، ففيها قولان: أحدهما: أنهم آل هذا النبي المذكور، وهو يدخل فيهم، كقوله صلى الله عليه وسلّم:
(١٢١٠) «اللهم صَلِّ على آل أَبي أَوفى»، فهو داخل فيهم، لأنه هو المراد بالدعاء.
والثاني: أنهم آل محمّد صلى الله عليه وسلّم قاله الكلبي. وكان عبد الله بن مسعود يقرأ: «سلامٌ على إِدْراسينَ» وقد بيَّنّا مذهبه في أن إلياس هو إدريس.
فإن قيل: كيف قال: «إدراسين» وإنما الواحد إدريس، والمجموع إِدريسيُّ، لا إِدراسٌ ولا إِدراسيّ؟. فالجواب: أنه يجوز أن يكون لغة، كإبراهيم وإبراهام، ومثله:
قدني من نصر الخُبَيْبَيْنِ قَدِي «١»
وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو نهيك: «سلام على ياسين» بحذف الهمزة واللام.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٨]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
قوله تعالى: إِذْ نَجَّيْناهُ «إذ» ها هنا لا يتعلق بما قبله، لأنه لم يُرْسَل إِذ نُجِّيَ، ولكنه يتعلق بمحذوف، تقديره: واذكرُ يا محمّد إِذ نجَّيناه. وقد تقدم تفسير ما بعد هذا «٢» إلى قوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
هذا خطاب لأهل مكّة، كانوا إذا ذهبوا إلى الشّام وجاءوا، مَرُّوا على قرى قوم لوط صباحاً ومساءً، أَفَلا تَعْقِلُونَ
فتعتبرون؟!
صحيح. أخرجه البخاري ١٤٩٧ و ٤١٦٦ ومسلم ١٠٧٨ وأبو داود ١٥٩٠ والنسائي ٥/ ٣١ وأبو نعيم في «الحلية» ٥/ ٩٦ والطيالسي ٨١٩ والبيهقي في «السنن» ٢/ ١٥٢ و ٤/ ١٥٧ وابن حبان ٩١٧ من طرق عن شعبة، به. وكلهم من حديث ابن أبي أوفى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقة، قال: «اللهم صلّ عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى». لفظ البخاري في الرواية الثانية.
__________
(١) الرجز لحميد الأرقط كما في «اللسان» - قدد.
(٢) الشعراء: ١٧١. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٢٦: يخبر الله تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه السلام أنه بعثه إلى قومه فكذّبوه، فنجاه الله تعالى من بين أظهرهم هو وأهله إلا امرأته فإنها هلكت مع من هلك من قومها، فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح، وجعلها بسبيل مقيم يمرّ بها المسافرون ليلا ونهارا، ولهذا قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ أي: أفلا تعتبرون بهم كيف دمّر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها؟!

[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٨]

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
قوله تعالى: إِذْ أَبَقَ
قال المبرّد: تأويل «أبَقَ» : تباعد وقال أبو عبيدة: فَزِعَ وقال الزجّاج:
هرب وقال بعض أهل المعاني: خرج ولم يؤذَن له، فكان بذلك كالهارب من مولاه. قال الزجاج:
والفُلْك: السفينة، والمشحون: المملوء، وساهم بمعنى قارع، مِنَ الْمُدْحَضِينَ
أي: المغلوبِين قال ابن قتيبة: يقال: أَدْحَضَ اللهُ حُجَّتَهُ، فَدَحَضَتْ، أي: أزالها فزالت، وأصل الدَّحْض: الزَّلَق.
الإِشارة إِلى قصته
قد شرحنا بعض قصته في آخر يونس وفي الأنبياء «١» على قدر ما تحتمله الآيات، ونحن نذكر ها هنا ما تحتمله. قال عبد الله بن مسعود: لمّا وعد يونس قومه العذاب بعد ثلاث، جأروا إلى الله عزّ وجلّ واستغفروا، فكفّ عنهم العذاب، فانطلق مغاضباً حتى انتهى إلى قوم في سفينة، فعرفوه فحملوه، فلمّا رَكِبَ السفينةَ وقَفَتْ، فقال: ما لسفينتكم؟ قالوا: لا ندري، قال: لكنِّي أدري، فيها عبد آبق من ربِّه، وإِنها والله لا تسير حتى تُلْقُوه، فقالوا: أمّا أنت يا نبيّ الله فو الله لا نُلْقِيك، قال: فاقترِعوا، فمن قرع فَلْيَقَع، فاقترَعوا، فقرع يونس، فأبَوا أن يَُمكِّنوه من الوُقوع، فعادوا إلى القُرعة حتى قرع يونس ثلاث مرّات. وقال طاوس: إن صاحب السفينة هو الذي قال: إنَّما يمنعُها أن تسير أنّ فيكم رجلاً مشؤوما فاقترِعوا لنَلقيَ أحدنا، فاقترعوا فقرع يونس ثلاث مرات.
قال المفسرون: وكَّل اللهُ به حوتاً، فلمّا ألقى نفسه في الماء التقمه، وأمر أن لا يضُرَّه ولا يَكْلِمَه، وسارت السفينة حينئذ. ومعنى التقمه: ابتلعه. وَهُوَ مُلِيمٌ قال ابن قتيبة: أي: مُذْنِبٌ، يقال: ألامَ الرجلُ: إِذا أتى ذَنْباًَ يُلامُ عليه، قال الشاعر:
ومَنْ يَخْذُلْ أَخَاهُ فَقَدْ ألاَمَا «٢» قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ فيه ثلاثة أقوال «٣» : أحدها: مِنَ المُصَليِّن، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. والثاني: من العابدِين، قاله مجاهد، ووهب بن منبه. والثالث: قول لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «٤»، قاله الحسن. وروى عمران القطّان عن الحسن قال:
والله ما كانت إلاّ صلاة أَحدثَها في بطن الحوت فعلى هذا القول، يكون تسبيحه في بطن الحوت.
(١) الأنبياء: ٨٦.
(٢) هو عجز بيت لأم عمير بن سلمى الحنفي كما في «اللسان» - لوم-. وصدره: تعدّ معاذرا لا عذر فيها.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٢٧: لولا ما تقدّم له من العمل في الرخاء وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك. واختاره ابن جرير.
(٤) الأنبياء: ٨٧.
552
وجمهور العلماء على أنه أراد: لولا ما تقدَّم له قبل التقام الحوت إيّاه من التسبيح، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قال قتادة: لصار بطن الحوت له قبراً إِلى يوم القيامة، ولكنه كان كثير الصلاة في الرّخاء، فنجاه الله تعالى بذلك.
وفي قَدْر مكثه في بطن الحوت خمسة أقوال «١» : أحدها: أربعون يوماً، قاله أنس بن مالك، وكعب، وأبو مالك، وابن جريج، والسدي. والثاني: سبعة أيام، قاله سعيد بن جبير، وعطاء.
والثالث: ثلاثة أيام، قاله مجاهد، وقتادة. والرابع: عشرون يوماً، قاله الضحاك. والخامس: بعض يوم، التقمة ضُحىً، ونبذه قبل غروب الشمس، قاله الشعبي.
قوله تعالى: فَنَبَذْناهُ قال ابن قتيبة: أي ألْقَيْناه بِالْعَراءِ وهي الأرضُ التي لا يتوارى فيها بشجر ولا غيره، فكأنّه مِنْ عَرِيَ الشَّيءُ. قوله تعالى: وَهُوَ سَقِيمٌ أي: مريض قال ابن مسعود:
كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس له ريش. وقال سعيد بن جبير: أوحى الله تعالى إلى الحوت أن ألْقهِ في البَرّ، فألقاه لا شَعْر عليه ولا جِلْد ولا ظُفر. قوله تعالى: وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ قال ابن عباس: هو القرع، وقد قال أميَّة بن أبي الصلت قبل الإِسلام:
فأنْبَتَ يَقْطِيناً عَلَيْهِ بِرَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لَوْلا اللهُ أُلْفِيَ ضَاحِيا
قال الزجاج: كل شجرة لا تنبت على ساق وإنما تمتدُّ على وجه الأرض نحو القرع والبطيخ والحنظل، فهي يقطين، واشتقاقه من: قَطَنَ بالمكان: إذا أقام، فهذا الشجر ورقه كلُّه على وجه الأرض، فلذلك قيل له: يقطين. قال ابن مسعود: كان يستظلُّ بها ويصيب منها فيبست فبكى عليها، فأوحى الله إليه: أتبكي على شجرة أن يبست، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم؟
وقال يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط: قيَّض الله له أروية من الوحش تروح عليه بُكرة وعشيّاً فيشرب من لبنها حتى نبت لحمه. فإن قيل: ما الفائدة في إنبات شجرة اليقطين عليه دون غيرها؟ فالجواب: أنه خرج كالفرخ على ما وصفنا، وجلده قد ذاب، فأدنى شيء يَمرُّ به يؤذيه، وفي ورق اليقطين خاصيّة، وهي أنه إِذا تُرك على شيء، لم يَقربه ذباب، فأنبته الله عليه ليغطيَه ورقُها ويمنع الذبابَ ريحه أن يسقط عليه فيؤذيَه.
قوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ اختلفوا، هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إيّاه، أم بعد ذلك؟ على قولين: أحدهما: أنها كانت بعد نبذ الحوت إيّاه، على ما ذكرنا في سورة يونس «٢»، وهو مروي عن ابن عباس. والثاني: أنها كانت قبل التقام الحوت له، وهو قول الأكثرين، منهم الحسن، ومجاهد، وهو الأصح، والمعنى: وكنَّا أرسلناه إِلى مائة ألف، فلمّا خرج من بطن الحوت، أُمِر أن يرجع إِلى قومه الذين أُرسِل إِليهم. وفي قوله: أَوْ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى «بل»، قاله ابن عباس، والفراء. والثاني: أنها بمعنى الواو، قاله ابن قتيبة، وقد قرأ أبيّ بن كعب، ومعاذ القارئ، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني: «ويزيدون» من غير ألف. والثالث: أنها على أصلها، والمعنى: أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون. وفي زيادتهم أربعة أقوال:
(١) هذا الخلاف ليس بشيء لأن مرجعه كتب الإسرائيليات، والله أعلم بمقدار ذلك.
(٢) يونس: ٩٨.
553
(١٢١١) أحدها: أنهم كانوا مائة ألف يزيدون عشرين ألفاً، رواه أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والثاني: أنهم كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا. والثالث: مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفاً، رويا عن ابن عباس. والرابع: أنهم كانوا يزيدون سبعين ألفا، قاله سعيد بن جبير، ونوف.
قوله تعالى: فَآمَنُوا في وقت إِيمانهم قولان: أحدهما: عند معاينة العذاب. والثاني: حين أُرسل إليهم يونس فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ إِلى منتهى آجالهم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٩ الى ١٦٣]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)
قوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أي: سل أهل مكة سؤال توبيخ وتقرير، لأنهم زعموا أن الملائكة بنات الله وَهُمْ شاهِدُونَ أي: حاضرون. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أي: كذبهم لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ حين زعموا أن الملائكة بناته.
قوله تعالى: أَصْطَفَى الْبَناتِ قال الفراء: هذا استفهام فيه توبيخ لهم، وقد تُطرح ألف الاستفهام من التّوبيخ، ومثله: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ و «أذهبتم» يُستفهم بها ولا يُستفهم، ومعناهما واحد. وقرأ أبو هريرة وابن المسيّب والزهري وابن جماز عن نافع، وأبو جعفر، وشيبة: «لكاذبون اصْطفى» بالوصل غير مهموز ولا ممدود وقال أبو علي: وهو على وجه الخير، كأنه قال: اصطفى البنات على البنين فيما يقولون كقوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «١».
قوله تعالى: ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ لله بالبنات ولأنفُسكم بالبنين؟! أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي:
حُجَّة بيِّنة على ما تقولون، فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي فيه حُجَّتكم. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قالوا: هو وإِبليس أخَوان، رواه العوفي عن ابن عباس قال الماوردي: وهو قول الزنادقة والذين يقولون: الخير مِنَ الله، والشَّرُّ من إِبليس. والثاني: أن كفار قريش قالوا: الملائكة بنات الله، والجِنَّة صِنف من الملائكة يقال لهم: الجِنَّة، قاله مجاهد. والثالث: أن اليهود قالت: إنّ الله تعالى
ضعيف جدا. أخرجه الترمذي ٣٢٢٩ من طريق الوليد عن زهير به. وأخرجه الطبري ٢٩٦٣٥ من طريق عمرو بن أبي سلمة قال: سمعت زهيرا عمن سمع أبا العالية قال: حدثني أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قوله: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال: يزيدون عشرين ألفا. وإسناده ضعيف جدا، وله علتان:
فيه راو لم يسم، فهذه علة، والثانية زهير روى عنه أهل الشام مناكير كثيرة، وهذا الحديث من رواية أهل الشام عنه، وحسبه الوقف، والله أعلم.
__________
(١) الدخان: ٤٩.
تزوّج إِلى الجن فخرجت من بينهم الملائكة، قاله قتادة، وابن السائب. فخرج في معنى الجِنَّة قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة. والثاني: الجن. فعلى الأول، يكون معنى قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أي: عَلِمَت الملائكةُ إِنَّهُمْ أي: إِن هؤلاء المشركين لَمُحْضَرُونَ النّار. وعلى الثاني: «ولقد عَلِمت الجِنَّةُ إنهم» أي: إِن الجن أنفسها «لَمُحْضَرونَ» الحساب.
قوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني الموحِّدين. وفيما استُثنوا منه قولان: أحدهما: أنهم استُثنوا من حضور النار، قاله مقاتل. والثاني: ممّا يصف أولئك، وهو معنى قول ابن السائب.
قوله تعالى: فَإِنَّكُمْ يعني المشركين وَما تَعْبُدُونَ من دون الله، ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي: على ما تعبُدونَ بِفاتِنِينَ أي: بمُضِلِّينَ أحداً، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي: مَنْ سبق له في علم الله أنه يدخل النّار.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦٤ الى ١٨٢]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨)
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
ثم أخبر عن الملائكة بقوله تعالى: وَما مِنَّا والمعنى: ما مِنّا مَلَك إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي: مكان في السموات مخصوص يعبُد اللهَ فيه وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ قال قتادة: صفوف في السماء. وقال السدي:
هو الصلاة. وقال ابن السائب: صفوفهم في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض. قوله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ فيه قولان: أحدهما: المصلّون. والثاني: المنزّهون لله عزّ وجلّ عن السُّوءِ. وكان عمر بن الخطاب إذا أُقيمت الصلاة أقبل على الناس بوجهه وقال: يا أيها الناس استوُوا، فإنما يريد اللهُ بكم هَدْي الملائكة، وإِنّا لَنَحْنُ الصّافُّون، وإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحون.
ثم عاد إلى الإِخبار عن المشركين، فقال: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ اللام في «لَيَقُولونَ» لام توكيد والمعنى: وقد كان كفار قريش يقولون قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلّم: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً أي: كتاباً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: مثل كتب الأولين، وهم اليهود والنصارى، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي: لأَخلصْنا العبادة لله عزّ وجلّ. فَكَفَرُوا بِهِ فيه اختصار تقديره: فلمّا آتاهم ما طلبوا كفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم، وهذا تهديد لهم. وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا أي: تقدَّم وَعْدُنا للمرسَلِين بنصرهم، والكلمة قوله تعالى:
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «١»، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ بالحجّة، إِنَّ جُنْدَنا
يعني حزبنا المؤمنين هُمُ الْغالِبُونَ
بالحُجَّة أيضاً والظَّفَر. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي: أعرِض عن كفار مكة حَتَّى حِينٍ أي: حتى تنقضيَ مُدَّةُ إِمهالهم. وقال مجاهد: حتى نأمرَك بالقتال فعلى هذا، الآيةُ محْكَمة. وقال في رواية: حتى
(١) المجادلة: ٢١.
555
الموت، وكذلك قال قتادة. وقال ابن زيد: حتى القيامة فعلى هذا، يتطرَّق نسخُها. وقال مقاتل بن حيّان: نسختها آية السّيف.
قوله تعالى: وَأَبْصِرْهُمْ أي: انظُر إِليهم إِذا نزل بهم العذاب. قال مقاتل بن سليمان، هو العذاب ببدر وقيل: أَبْصِر حالَهم بقلبك فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما اْنكروا، وكانوا يستعجلون بالعذاب تكذيباً به، فقيل: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ. فَإِذا نَزَلَ يعني العذاب. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران، والجحدري، وابن يعمر: «فإذا نُزِّل» برفع النون وكسر الزاي وتشديدها بِساحَتِهِمْ أي: بفِنائهم وناحيتهم. والساحة:
فِناء الدّار. قال الفراء: العرب تكتفي بالساحة والعَقْوة من القوم، فيقولون: نزل بك العذاب، وبساحتك. قال الزجاج: فكان عذابُ هؤلاء القتل فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي: بِئْسَ صباحُ الذين أًنذروا بالعذاب.
ثم كرَّر ما تقدم توكيداً لوعده بالعذاب، فقال: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ الآيتين.
ثم نزَّه نفسَهُ عن قولهم بقوله تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ قال مقاتل: يعني عِزَّةَ مَنْ يتعزَّز من ملوك الدنيا. قوله تعالى: عَمَّا يَصِفُونَ أي: من اتِّخاذ النساء والأولاد. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ فيه وجهان: أحدهما: تسليمُه عليهم إكراماً لهم. والثاني: إِخباره بسلامتهم. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاك المشركين ونصرة الأنبياء والمؤمنين. والله أعلم بالصّواب.
556
Icon