ﰡ
مكية بالإجماع وآياتها ثنتان وثمانون ومائة.
وهي كباقي السور المكية فيها الكلام على التوحيد وإثبات البعث. والتعرض للمشركين وأحوالهم في الدنيا والآخرة والتعرض لإثبات النبوة. والكلام على المؤمنين وأحوالهم في الدنيا والآخرة. مع ذكر قصص بعض الأنبياء وأممهم، ثم كان ختام السورة مع مشركي مكة. وتقوية عزيمة المسلمين. وتوهين عضد الكافرين.
إن إلهكم لواحد مع إثبات البعث [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ٢١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤)
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا الصف: أن يجعل الشيء على خط مستقيم، يقال: صففت القوم فاصطفوا: إذا أقمتهم على خط مستقيم لأجل الصلاة أو الحرب مثلا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً: الزجر الدفع بقوة الصوت، يقال: زجرت الغنم أو الإبل:
إذا فزعت من صوتك فَالتَّالِياتِ: القارئات قرآنا الْمَشارِقِ: جمع مشرق، وهو مطلع الشمس الْكَواكِبِ: هي النجوم والأجرام السماوية التي لا يعلمها إلا خالقها مارِدٍ: عات عار عن الخيرات، مأخوذ من قولهم: شجر أمرد: إذا تعرى عن الورق، ورجل أمرد لتجرده من الشعر. والشيطان من شاط: إذا احترق، لا يَسَّمَّعُونَ: لا يتسمعون مصغين إلى الملأ الأعلى من الملائكة وَيُقْذَفُونَ:
يرمون ويرجمون دُحُوراً: طردا وإبعادا واصِبٌ: دائم خَطِفَ الخطف: الاختلاس والأخذ بسرعة وخفة على غفلة من المأخوذ منه شِهابٌ الشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة، والمراد به العارض المعروف في الجو الذي يظهر كأنه كوكب منقض من السماء، وهو الذي يسمى بالشهب والنيازك ثاقِبٌ أى: مضيء، أو يثقب ما ينزل عليه فَاسْتَفْتِهِمْ: فاستخبرهم لازِبٍ: شديد متماسك، يقال: لزب يلزب: إذا اشتد ولزق يَسْتَسْخِرُونَ: يبالغون في السخرية داخِرُونَ: صاغرون وذليلون، يقال:
دخر: ذل وصغر.
المعنى:
يقسم الله- سبحانه وتعالى- بالملائكة المصطفين صفوفا للعبادة، أو الصافات أجنحتها في الهواء انتظارا لأمر الله، وقيل: المراد بها الطير تصف أجنحتها في الهواء وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ فالملائكة التي تزجر ما نيط بها من الأجرام العلوية والسفلية
ولعلك تسأل كيف يقسم الله بالملائكة أو غيرها مع أن الشرع ينادينا بألا نقسم إلا بالله أو بصفة من صفاته؟ ولهذا قيل: إن المراد ورب الصافات صفاّ.. استنادا إلى أنه صرح بهذا في قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها «١» ويظهر- والله أعلم- أن الله يقسم بهذه الأنواع إظهارا لعظمتها، وبيانا لجميل صنعها، وهذا بالتالى يشعرنا بعظم الخالق وجلال قدره، وكمال قدرته إذ هذه آثاره: «٢» إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ وهذا جواب القسم السابق، ولا يقال: إنه كلام مع منكر فماذا يفيد القسم؟ والجواب أنه قسم متبوع بالبرهان الذي يثبت الوحدانية لله- تعالى- رب السموات والأرض، وما بينهما من خلق، ورب مشارق الشمس والكواكب كلها، فإن وجود هذه الكائنات على ذلك التقدير البديع والنظام المحكم أوضح دليل على وحدانية الله- تعالى- وعلى كمال قدرته.
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه الواحد
وللشمس مشارق بعدد أيام السنة الشمسية، فإن للشمس كل يوم مشرقا خاصا، ولها في كل عام مشرقان رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ «٣» باعتبار أقصى مشرق في الشمال وأقصى مشرق في الجنوب، واكتفى بالمشرق عن المغرب لأن عظمة الله في المشرق أظهر وأوضح.
إنا زينا السماء الدنيا التي هي أقرب السموات من أهل الأرض بزينة هي الكواكب فإن الكواكب بذاتها وأوضاعها زينة وأى زينة؟ زيناها وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد، فالله- سبحانه وتعالى- خلق الكواكب زينة للسماء وحفظا لها من كل شيطان مارد عات خارج عن الطاعة. متعر عن الخيرات. لئلا يسمعوا «٤» مصغين إلى الملأ
(٢) - أما الفاء في قوله: والصافات صفا، فالزاجرات زجرا فإنها للترتيب الرتبي.
(٣) - سورة الرحمن آية ١٧.
(٤) - ثم حذفت أن فرفع الفعل، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا.
لا يسمعون إلى أخبار السماء، إلا من اختلس من كلام الملائكة مسارقة تبعه شهاب يثقب ما ينزل عليه.
ومن الثابت أن الشياطين كانت قبل البعثة ترمى وقتا، ولا ترمى وقتا، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب، وبعد البعثة صاروا يرمون واصبا من كل جانب، كانت الجن قبل البعثة كالمتجسسة من الإنس قد يبلغ الواحد حاجته، وقد لا يبلغ، وقد يقبض عليه ويعاقب، وقد ينجو.
فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم زيد في حفظ السماء. وأعدت لهم الشهب في كل مكان ليدحروهم عن جميع جوانب السماء ولا يقروا في مقعد من المقاعد التي كانوا يقعدونها فصاروا لا يسرقون السمع، ولا يقدرون على سماع شيء مما يجرى فيها إلا أن يختطف أحد منهم بخفة وحركة سريعة خاطفة فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل على الأرض فيلقيها إلى إخوانه، وبهذا بطلت الكهانة، وثبتت النبوة والرسالة. وقد كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع حتى إذا قضى الله أمرا وتحدث به أهل السماء استرقوه وأخبروا به بعض الكهان فيضيفون إليه الكثير فتصدقه الناس في الحق وفي الباطل، حتى إذا بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وجدت الشياطين في السماء الشهب مرصودة لكل من يحاول السمع إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [سورة الشعراء آية ٢١٢] [سورة الجن الآيتان ٨، ٩].
فانظروا أيها الناس إلى عظم ملكوت الله وإلى مظاهر قدرته وقدس نوره- جل جلاله- انظروا واعتبروا لعلكم تهتدون.. وإذا كان الأمر كذلك فاستفتهم- الخطاب لأهل مكة ولكل مشرك بالله- أهم أشد خلقا؟ بل أم من خلقنا من عوامل السماء وما فيها من ملائكة وأفلاك وعوالم الأرض- وما تقل من بحار وجبال وأشجار وأنهار؟! -
إذا كان الأمر كذلك فإنما هي- البعثة المفهومة من السياق العام- زجرة واحدة، وهي النفخة الثانية، فإذا الخلائق كلها مسلمها ومشركها طائعها وعاصيها قيام من مراقدهم أحياء يبصرون كما كانوا في الدنيا يشعرون بكل شيء، وقالوا: يا ويلنا احضر فهذا أوانك! هذا يوم الدين!! هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون، وقد كانوا به يكذبون.
من مواقف المشركين يوم القيامة [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٢ الى ٣٨]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨)
احْشُرُوا: اجمعوا، والحشر: الجمع وَأَزْواجَهُمْ: أشباههم وقرناءهم من عبدة الأصنام والكواكب وغيرها فَاهْدُوهُمْ: دلوهم وعرفوهم طريقها وَقِفُوهُمْ احبسوهم عند الصراط لا تَناصَرُونَ: لا ينصر بعضكم بعضا.
مُسْتَسْلِمُونَ: منقادون خاضعون يَتَساءَلُونَ: يتلاومون ويتخاصمون عَنِ الْيَمِينِ: عن الجهة التي نأمنها ونظن أن فيها الخير سُلْطانٍ: قوة وحجة طاغِينَ: متجاوزين الحدود فَحَقَّ عَلَيْنا: فثبت ووجب فَأَغْوَيْناكُمْ:
فدعوناكم إلى الغي.
المعنى:
أيها الملائكة: احشروا الذين ظلموا أنفسهم بالشرك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «١» احشروهم وأزواجهم وقرناءهم ومن على شاكلتهم من عبدة الأصنام والأوثان والكواكب وكل من عبد إلها دون الله: احشروهم وما كانوا يعبدونه من دون الله، فإنهم حطب جهنم- وقودها- وهم لها واردون، فكل عابد ومعبود في النار إلا عيسى ابن مريم وعلى بن أبى طالب، ومن عبد من الصالحين بلا ذنب، وهذه زيادة في
لا يقدر بعضهم على نصرة أخيه بل هم اليوم مستسلمون ومنقادون للعذاب لا ينازعون أبدا في أى شيء.
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن طريق الخصومة والجدال العنيف، ولكن كيف يتساءلون؟ فأجيب: قال «١» الأتباع للرؤساء: إنكم أيها المتبوعون كنتم تأتوننا عن اليمين، واليمين عند العرب اصطلاح خاص فإنهم يتيامنون بها ويزاولون بها أشرف الأشياء، وبالشمال يتشاءمون، ويتناولون بها أرذل الأشياء وأحقرها، جاء القرآن فجعل اليمين لها كرامتها، ووعد المحسن باستلام كتابه بيمينه، والمسيء يستلم كتابه بشماله، وكان النبي يحب التيامن، ومن هنا استعيرت اليمين، أى: استعملت في جهة الخير وناحيته فقيل أتاه عن اليمين أى من قبل الخير.
وفي الآية يكون المعنى: إنكم أيها الرؤساء كنتم تأتوننا عن اليمين، أى: من جهة الخير فتصدوننا عنه، وكنتم تأتوننا عن اليمين، أى: من الجهة التي نحبها ونثق فيها فكنتم تحلفون لنا فنصدقكم، وكنتم تأتوننا عن اليمين، أى: عن الدين، أى: من قبل الدين فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها.
وبعضهم يفسر اليمين بالقوة والقهر، بمعنى: كنتم تأتوننا عن جهة القوة والسيطرة وبحكم الرياسة لكم في الدنيا فتضلوننا سواء السبيل.
وماذا كان رد المتبوعين؟ قالوا: بل لم تكونوا مؤمنين بقلوبكم حتى يصدق علينا أننا نقلناكم من الإيمان إلى الكفر، بل كنتم قوما بطبعكم طاغين متجاوزين الحدود المعقولة مثلنا.
فلما وجب وثبت علينا قضاء ربنا- وهو الوعيد السابق- أغويناكم لأننا صرنا أشقياء مثلكم، ودعوناكم إلى الغي دعوة ملجئة فاستجبتم لنا باختياركم واستحبابكم الغي على الرشد، إنا كنا غاوين فلا عتب علينا في هذا، وإذا كان الأمر كذلك فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون.
إن بطش ربك لشديد، وإنه يفعل بالمجرمين الأتباع والمتبوعين كلهم مثل ذلك الفعل، وهو عذابهم جميعا إنهم كانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون عن النطق بها والإيمان بوحدانية الله وتصديق رسوله، ويقولون كبرا: أإنا لتاركوا آلهتنا وعبادتهم لرجل شاعر؟ يقول الشعر الذي لا يعتمد على الحق، ويقصدون بذلك القرآن وأنه شعر، وهذا الشاعر مجنون، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا وزورا.
بل هو الرسول المصطفى من عند الله الذي جاء بالحق والنور، والهدى والشفاء لما في الصدور، وصدق المرسلين جميعا ومُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ وما حال هؤلاء المكذبين الضالين؟ إنهم لذائقو العذاب الأليم، وما تجزون إلا ما كنتم تعملون..
المخلصون في الجنة [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٣٩ الى ٦١]
وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣)
عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨)
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣)
قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨)
إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
الْمُخْلَصِينَ: هم الذين أخلصهم الله لعبادته، واصطفاهم لدينه وطاعته أو هم المخلصون الذين أخلصوا لله في العبادة فَواكِهُ: وهي جمع فاكهة، وهي الثمار بأى شكل بِكَأْسٍ: الكأس في اللغة يطلق على الإناء مع شرابه، فإن لم يكن فيه خمر مثلا فهو إناء أو قدح مِنْ مَعِينٍ: من خمر تجرى كما تجرى العيون على وجه الأرض، وترى بالعين غَوْلٌ: هلاك وفساد يُنْزَفُونَ نزف الرجل ينزف فهو منزوف ونزيف: إذا سكر، وأصل النزف: نزع الشيء وإذهابه بالتدريج، والمراد لا تذهب عقولهم قاصِراتُ الطَّرْفِ: قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم، والطرف: النظر عِينٌ: جمع عيناء، وهي المرأة واسعة العين مع حسنها مَكْنُونٌ: مصون لا غبار عليه قَرِينٌ: صديق ملازم الْمُصَدِّقِينَ أى: بالبعث، وفي قراءة: المصّدّقين أى: المنفقين لَمَدِينُونَ: لمجزيون ومحاسبون، وقيل: لمسوسون مربوبون، يقال: دانه: ساسه، وفي الحديث: العاقل من دان نفسه سَواءِ الْجَحِيمِ: وسطها إِنْ كِدْتَ إن هذه هي المخففة من
ما مضى كان في شأن الكفار وجزائهم، وقد حكم الله عليهم بأنهم لذائقو العذاب الأليم، وما يجزون إلا بما كانوا يعملون.
لكن عباد الله المخلصين لهم جنات الخلد، فيها ينعمون بنعيم دائم مقيم، ولعل ذكر هؤلاء وهؤلاء وجزاء كل متجاورين أدعى للتأثير. وأبلغ في إظهار الفرق جليا للناس لعلهم يعتبرون.
المعنى:
إنكم أيها الناس لذائقو العذاب الأليم إلا عباد الله الصالحين في عبادتهم الذين أخلصهم الله لطاعته، وحباهم بتوفيقه وهدايته، أولئك لهم رزق معلوم كنهه، معروف بطيب الطعم والرائحة، وجمال المنظر وحسن المخبر، هذا الرزق المعلوم فسر «١» بالفواكه وهي كل ما يؤكل تلذذا ولا يؤخذ تقوتا إذ ليسوا في حاجة إلى ما يقيتهم.
وهذا الرزق المعلوم، والفواكه الطيبة يأكلها أصحابها في حال أنهم مكرمون ومعظمون، وهذا النعيم الروحي بعد النعيم الجسماني وليس أكمل عند النفس، ولا أفضل عند الإنسان من التكريم مع الإكرام. لا سيما إذا كان ذلك في جنات خلقت للنعيم المقيم، والمتاع الدائم.
وهم فيها على سرر متقابلون، والتقابل أتم للسرور، وآنس للنفس، فلا خصام ولا جدال، بل الوجوه متقابلة، والصدور منشرحة، وهم في مجالسهم يطاف عليهم بخمر في صحاف من ذهب، ويطوف بها عليهم غلمان كأنهم لؤلؤ مكنون، يطاف عليهم بخمر من معين، موصوفة بأنها بيضاء لذيذة للشاربين، هذه الخمر ليست كخمر الدنيا التي فيها السكر والعربدة، والقيء، وإثارة الشهوة الحيوانية، وهلاك النفس والمال وضياع الشرف والكرامة.
لا فيها غول، وليس هم لأجلها ينزفون، أى: لا تذهب الخمر عقولهم، ولعل إفراد هذا بالذكر مع أنه داخل في عموم قول: لا فيها غول دليل على أن فساده كثير، وخطر ضياع العقل كبير، حتى كأنه جنس يستحق الذكر برأسه.
وعندهم زوجاتهم قاصرات الطرف، قد قصرن أبصارهن عليهم فلا يمددن طرفا إلى غيرهم، فهن عرب- متحببات إلى أزواجهن- أتراب، عين، واسعات العيون والأحداق ومع هذا فهن قاصرات الطرف، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، كأنهن البيض المكنون في البياض والصفاء، والحفظ والنقاء.
يطاف عليهم بخمر كأنها النهر فيشربون ويتحادثون كما هي عادة المجتمعين للشرب.
فأقبل بعضهم على بعض يتجاذبون أطراف الحديث يتساءلون عما جرى لهم في الدنيا، وما أحلى الذكرى عند فراغ البال، ورفاهية الحال.
ماذا قالوا؟ قال قائل منهم في أثناء حديثه: إنى كان لي قرين في الدنيا يقول موبخا ومؤنبا لي على ما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث يقول: أإنك لمن المصدقين بيوم القيامة؟ أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما نبعث؟ أإنا لمدينون، أى: لمبعوثون مجازون؟ وهكذا يقول الكفار! قال ذلك القائل الذي كان له قرين يعترض عليه لأنه آمن قال لجلسائه: هل أنتم مطلعون «١» على أهل النار لأريكم هذا القرين ومآله، فاطلع على أهل النار من كوة أو على كيفية- الله أعلم بها- فرآه- أى: القرين- في وسط الجحيم يتلظى بالنار المسعرة التي وقودها الناس والحجارة، وبئس القرار.
وماذا قال له؟ قال لقرينه: تالله إن كدت وقاربت لتردينى وتهلكني بما كنت تفعله معى، ولولا نعمة ربي وتوفيقه وهدايته لكنت من المحضرين للعذاب كما أحضرت أنت وأحزابك.
أفما نحن بميتين إلا بموتتنا الأولى «٢» وهذا رجوع إلى محاورة جلسائه ابتهاجا بما منحه
(٢) - الاستفهام للتقرير فيه معنى التعجب، والفاء فيه للعطف، والمعطوف عليه تقديره: أنحن مخلدون؟
وهذه هي جهنم مأوى الظالمين [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٢ الى ٧٤]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
المفردات:
نُزُلًا: هو الرزق الواسع، وذكر الراغب: ما يعد للنازل من الزاد شَجَرَةُ الزَّقُّومِ التزقم: هو البلع مع الجهد والألم للأشياء الكريهة الرائحة فِتْنَةً: ابتلاء
المعنى:
قل يا محمد لقومك- على سبيل التوبيخ والتبكيت والتهكم-: أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم؟ والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غير ذلك المعلوم في جنات النعيم الذي مضى ذكر طرف منه وكانت نهايته اللذة والسرور، أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم التي هي طعامه الظلمة الآثمين، والتي نهايتا الألم والحزن، وبعبارة واضحة: إن الرزق المعلوم- الذي مضى وصفه- نزل أهل الجنة. والشجرة الملعونة شجرة الزقوم نزل أهل النار، فأيهما خير في كونه نزلا.. ؟!
إنا جعلنا شجرة الزقوم ذات الرائحة الكريهة والطعم المر البشع جعلناها فتنة للذين كفروا حيث قالوا: كيف تكون شجرة تنبت في قعر جهنم وبين النار المحرقة ورطوبة النبات بون شاسع؟ وجعلها ربك عذابا لهم في الآخرة، وأى عذاب أشد من هذا؟
إنها شجرة تنبت في قعر جهنم ثمرها كأنه رءوس الشياطين في تناهى القبح والهول وفظاعة المنظر وبشاعته «١».
فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون على بشاعتها وسوء طعمها وقبح مذاقها، ثم إن لهم بعد ذلك لشرابا مخلوطا بالحميم.
ويقول الكشاف ذاكرا الحكمة في الإتيان بثم هنا: إنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع فجاء بثم للدلالة على تراخى حال الشراب عن حال الطعام. أى أن حال الشراب كانت أشد فظاعة وألما، ثم إنهم بعد ذلك كله مرجعهم ومأواهم لإلى الجحيم المهيأ لهم نزلا جزاء بما كانوا يعملون.
ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين في الأمم السابقة، ولقد أرسلنا فيهم أنبياء منذرين أنذروهم سوء العاقبة فانظر كيف كان عاقبة المنذرين؟ فلقد أهلكوا إهلاكا تامّا لما كفروا وكذبوا، لكن عباد الله المخلصين الذين أخلصهم الله له بتوفيقهم إلى الخير والإيمان هم على صراط مستقيم، ولهم جزاء الخلد جزاء بما كانوا يعملون.
من قصة نوح [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
المفردات:
نادانا: المراد من النداء الاستغاثة الْكَرْبِ: الغم الشديد
المعنى:
وهذا تفصيل لما أجمل سابقا ببيان أحوال بعض المنذرين مع بيان حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المشركين، وبدأ بقصة نوح لأنه أول الأنبياء أولى العزم، وأبو البشر بعد آدم.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وهذا تعليل لما ذكر من أنه من استحق الثناء والدعاء له من الأمم كلها، بكونه- عليه السلام- من زمرة المعروفين بالإحسان، وإحسان نوح مجاهدته أعداء الله- تعالى- بالدعوة إلى دينه والصبر الطويل على الأذى في سبيل الله.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وهذا تعليل لكونه- عليه السلام- من المحسنين بوصفه بخالص الإيمان وكمال العبودية، ونجيناه وأهله، ثم أغرقنا الآخرين المغايرين لنوح- عليه السلام- في الإيمان فاعتبروا بذلك يا أولى الأبصار لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ.
من قصة إبراهيم عليه السلام [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٣ الى ١٠١]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)
شِيعَتِهِ شيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم متشيعون له ثم صارت بعد موت سيدنا على بن أبى طالب تطلق على جماعة خاصة جاءَ رَبَّهُ: حقيقة المجيء بالشيء نقله من مكانه والمراد هنا جاء ربه سليم القلب «١» أَإِفْكاً الإفك: أسوأ الكذب سَقِيمٌ: مريض وعليل فَراغَ مال في خفية روغان الثعلب يَزِفُّونَ: يسرعون المشي والزفيف والإسراع الْجَحِيمِ: النار الشديدة كَيْداً: شرّا.
المعنى:
وهذه قصة إبراهيم- عليه السلام- أبى الأنبياء جاءت بعد قصة نوح الأب الثاني للبشر، ومما يزيد المناسبة حسنا أن نوحا نجاه الله من الغرق، وإبراهيم نجاه الله من النار، وكذلك ينجى ربك المؤمنين، وإن ممن شايع نوحا وتابعه في الأصول العامة للشريعة، وإن اختلفا في الأحكام الفرعية لإبراهيم الخليل.
إذ قال في هذه الحالة لأبيه وقومه: ما الذي تعبدونه؟ أنكر عليهم عبادتهم للأصنام ولا غرابة في إنكار إبراهيم هذا بعد قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ فقال: أإفكا آلهة دون الله تريدون «١» ؟! أى أتريدون آلهة دون الله لأجل الإفك والكذب على الناس؟ أتتخذون آلهة من دون الله الواحد القهار لأجل الإفك والكذب.. ؟
فما ظنكم برب العالمين إذ عبدتم غيره؟ أتظنون أنه يترككم بلا عقاب شديد جزاء على عملكم هذا القبيح؟: لا..
وقد كان إبراهيم- عليه السلام- كثير التأمل في ملكوت الله فنظر نظرة تفكر في النجوم: من خلقها؟ وكيف تسير؟ ومن حركها؟ وأين هي في النهار؟ هذا هو نظر إبراهيم للنجوم ليتوصل بذلك إلى إدراك بعض الواجب نحو خالق السماء والنجوم وفاطر السموات والأرض.
فقال لقومه: إنى سقيم ومريض، ولست مستريحا إلى عبادتكم للأفلاك والنجوم وهذه الأصنام والأوثان، أما قومه فحين حاجهم إبراهيم تولوا عنه مدبرين ورموه بالإفك والبهتان العظيم، فقصد آلهتهم في الخفاء، وراغ إلى أصنامهم قاصدا التعرض لها ليكلموه في شأنها، ويعلمون بالدليل أنها أحجار وخشب لا تسمع ولا تبصر، ولا تغنى ولا تنفع.
وقد كانوا يأتون بالطعام إلى آلهتهم لتأكل وتبارك لهم فيه، ويظهر أن السدنة كانت تأكل بعضه فيظنون أن الآلهة أكلت.
أما إبراهيم فذهب إلى الآلهة وأمامها الأكل فقال: ألا تأكلون!! ما لكم لا تنطقون؟
عجبا لكم أى شيء دهاكم حتى منعكم من الكلام؟ فلما لم يحصل منهم أكل ولا جواب عن سؤال مال عليهم ضاربا ضربا بالقوة والشدة.
قالوا بعد أن تشاوروا في أمره: ابنوا له بنيانا واسعا تملأونه حطبا كثيرا، وأضرموا فيه النار، فإذا التهبت فألقوه في تلك النار المسعرة، فأرادوا به كيدا وسوءا باحتيال منهم ومكر فجعلهم ربك من الأسفلين الأذلين حيث أبطل كيدهم ورده في نحورهم، وجعله دليلا على صدق إبراهيم، ودليلا على علو شأنه حيث جعلت النار المحرقة بردا وسلاما عليه.
وقال إبراهيم لما نجا من كيدهم: إنى ذاهب إلى ربي يهديني إلى ما فيه صلاح ديني ودنياى، رب هب لي ولدا من الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة. ويؤنسني في الغربة والمجاعة. فبشرناه بغلام حليم..
قصة الذبيح [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٠٢ الى ١١٣]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١)
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
السَّعْيَ: الحد الذي يسعى فيه مع أبيه في تحصيل المعاش وَتَلَّهُ: صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض، وأصل التل: الرمي على التل الذي هو التراب المجتمع، ثم استعمل في كل صرع لِلْجَبِينِ والجبين: أحد جانبي الجبهة، بين جبينين، واللام لبيان ما صرع عليه، كقوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وكقول الشاعر: وخر صريعا لليدين وللفم- بِذِبْحٍ: بحيوان يذبح.
المعنى:
دعا إبراهيم ربه قائلا: رب هب لي غلاما من الصالحين، فقبل الله دعاءه واستجاب له، وبشره بغلام كريم الخلق حليم- على لسان الملائكة فوهبناه له، ونشأ كما ينشأ الغلمان فلما «١» بلغ درجة أن يسعى مع أبيه في أشغاله، وتحصيل معاشه قال له أبوه:
إنى أرى في المنام أنى أذبحك، ورؤيا الصالحين من عباد الله قبس من نور الله، ورؤيا الأنبياء وحى من السماء لا ينكر، وقد رأى إبراهيم الخليل في منامه أنه يذبح ابنه. وأول رؤياه على هذا، وكان ذلك الولد عزيزا على أبيه لأنه فلذة كبده وإنسان عينه، وقد جاء من الله بعد الدعاء وبشارة الملائكة به فكان له مزيد فضل، وعلو كعب، ومع ذلك فقد صدع إبراهيم لأمر ربه، وعرض الأمر على ابنه الوحيد ليرى ماذا يرى؟ فقال ابنه: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، وهنا تبرز أمام الإنسان معاني الإيمان الصادق والاستسلام الحق والصبر والرضاء بالقضاء والقدر؟
قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى «١» قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.
فلما أسلما وخضعا لله وانقادا لأمره، وصرع الأب ابنه على الجبين، وأمرّ السكين على الودجين فلم تقطع ولم تكسر، وأعادها مرارا فلم تزد إلا كلالا، وتعجب إبراهيم من هذا، وضجت ملائكة السماء وأتى الله بالفرج القريب، فنادى إبراهيم ملك من قبل الحق- تبارك وتعالى- أى: إبراهيم كفى كفى!! قد صدقت الرؤيا، وقمت بالواجب عليك وبذلت جهدك، وأتيت بما في وسعك (قد حققت ما نبهناك عليه، وفعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك) انتهى من القرطبي.
فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فديناه بكبش سمين وخلصناهما من الشدة والكرب الشديد، لماذا؟ إن ربك يجزى المحسنين جزاء مثل هذا الجزاء، وقد أحسنا حيث امتثلا الأمر في بذل النفس على صورة رائعة لا يقبلها إلا أولو العزم من الرسل، إن هذا لهو البلاء المبين، وأى بلاء أشد من أن تؤمر بذبح وحيدك فتمتثل صابرا محتسبا أجرك عند ربك؟! وفديناه بذبح عظيم.
روى أنه كان كبشا نزل من الجنة فذبحه إبراهيم وهلل وكبر
وتركنا عليه في الأمم الآخرة ثناء حسنا وذكرا عاطرا- وسلام على إبراهيم- مثل ذلك أى: بقاء الذكر العاطر فيما بين الأمم نجزى المحسنين، وهذا لأنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق حالة كونه نبيا من الصالحين.
ومن هنا شرعت الأضحية في عيد الأضحى، عيد الفداء، وذكر إتمام النعمة وظهور كلمة الإسلام، والقضاء على الشرك والظلم والبهتان، ولم يكن ذلك كله إلا
فهيا بنا نحن أمة الإسلام، وأتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم نعاهد الله على الجهاد في سبيله وفي سبيل دعوته، باذلين كل مرتخص وغال في إحقاق الحق وإزهاق الباطل وفي سبيل نشر علم الإسلام على حصون الظلم والطغيان.
هيا بنا نجاهد ونجاهد في سبيل القرآن وإعادة مجد الإسلام حتى يكون الدين كله لله وكفى بالله شهيدا.
وباركنا على إبراهيم وعلى إسحاق فكان منهما الأنبياء والملوك والحكام، وكان من ذريتهما محسن في عمله، وظالم لنفسه ظلما مبينا، ومن هنا كان النسب لا أساس له في الهدى والضلال.
بقيت مسألة: من هو الذبيح أهو إسحاق أم إسماعيل؟ في الواقع الآيات القرآنية بعد ما ساق قصة الذبيح قال: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين فهذا يدل على أن الذبيح غيره، وهو إسماعيل، وبعض العلماء يرى أنه إسحاق، ويستدل على ذلك بأن إبراهيم دعا ربه أن يهب له غلاما صالحا حين فارق قومه وهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط والله يقول: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [مريم ٤٩] والفداء كان للغلام الذي بشر به، والذي بشر به هو إسحاق: وبشرناه بإسحاق، ويظهر أن إسحاق كان أكبر من إسماعيل، وأن البشارة كانت قبل إسماعيل، وبعضهم يرى الرأى الأول. والله أعلم بكتابه، والخطب سهل.
طرف من قصة موسى وهارون [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٤ الى ١٢٢]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
بعد ذكر نجاة إسماعيل من الذبح، وخلوص إبراهيم من البلاء الذي نزل به ظافرا بالرضا ممتثلا أمر ربه الكريم.
ذكر: ما من به على موسى وهارون وتالله لقد مننا عليهما بالنبوة وآتيناهما الحكمة، ونجيناهما وقومهما من الكرب والخسف وسوء العذاب الذي كان ينالهم من فرعون وملئه، فقد كان يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان من المفسدين، وقد أراد الله أن يمن على بنى إسرائيل الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم الوارثين، فنصرهم على عدوهم، وكانوا هم الغالبين، وآتينا موسى وهارون التوراة كتابا بينا ظاهرا فيه الحق الذي لا تحريف فيه ولا بهتان، وأبقينا عليهما في الآخرة ثناء حسنا- سلام على موسى وهارون- وذاك لأن ربك يجزى المحسنين جزاء حسنا مثل ذلك، وقد كان موسى وهارون من المحسنين لأنهما من عبادنا المؤمنين.
طرف من قصة إلياس [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٢٣ الى ١٣٢]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
إِلْياسَ: نبي من أنبياء بنى إسرائيل بَعْلًا: اسم صنم، وقيل: البعل الرب، ومنه بعل المرأة لزوجها وَتَذَرُونَ: تتركون إِلْ ياسِينَ العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا مثل: ياسين وإلياس وإلياسين، كل ذلك شيء واحد.
المعنى:
وإن إلياس لنبي وإنه لمن المرسلين إلى قومه بنى إسرائيل، واذكر إذ قال لقومه: ألا تتقون الله ربكم، وتخافون يوما يجعل الولدان شيئا، أتدعون ربا غيره، وتتركون الله ربكم الذي هو أحسن الخالقين؟ وليس هناك خالق سواه يستحق العبادة والتقديس:
وهو الله ربكم وخالقكم، وخالق آبائكم الأولين. ومن كان كذلك فلا إله غيره، ولا معبود سواه.
فكذبوه وكفروا به وبرسالته فكان جزاؤهم أنهم محضرون في جهنم يذوقون العذاب الأليم، لكن عباد الله المخلصين الذين أسلموا لله رب العالمين، وآمنوا بالرسل الأكرمين لهم جنات الخلد، فيها ينعمون وبظلها يتمتعون.
وأبقينا عليه الثناء الجميل الذي هو- سلام على إل ياسين- وفي قراءة «آل ياسين» فكأنه- والله أعلم- جعل اسمه إلياس وياسين، وسلّم على آله، أى: أهل دينه ومن اتبعه بالحق، وإذا سلم على آله فالسلام عليه من باب أولى.
ثم ذكر في تعليل هذا الإكرام قوله: إنا كذلك نجزى المحسنين، وقد كان إلياس من المحسنين لأنه كان من عبادنا المؤمنين، وسلام الله ورحمته وبركاته عليهم أجمعين.
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
المعنى:
وهذا لوط من المرسلين الذين أرسلوا لقومهم يخرجونهم من الظلمات إلى النور، ويهدونهم الطريق المستقيم فكذبوا وأوذوا حتى غضب ربك على القوم الكافرين فأمطرهم بعذاب من عنده، وإن عذاب ربك لشديد، واذكر إذ نجينا لوطا ومن معه من المؤمنين نجيناه وأهله أجمعين إلا امرأته وكانت عجوزا في عداد القوم الغابرين الهالكين. ثم دمرنا الآخرين الذين كذبوا وعصوا أمر ربك، وهذه ديارهم وآثارهم شاهدة عليهم، وإنكم لتمرون عليهم صباحا ومساء بالنهار وبالليل.. أفلا تعقلون أيها المشركون من قريش؟ أفلا تتعظون بما حل بغيركم؟!.
قصة يونس عليه السلام [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٨]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
أَبَقَ
: هرب بلا إذن، ومنه: عبد آبق الْمَشْحُونِ
: المملوء فَساهَمَ
: قارع أهل السفينة، من المساهمة وهي الاقتراع الْمُدْحَضِينَ
المغلوبين بالقرعة مُلِيمٌ في كتب اللغة: ألام الرجل: أتى بما يلام عليه، أو مليم نفسه فَنَبَذْناهُ: ألقيناه بِالْعَراءِ: بالساحل سَقِيمٌ: عليل يَقْطِينٍ اليقطين: شجرة الدباء حِينٍ: إلى مدة وأجل معلوم.
لقد ذكر يونس بن متى في القرآن الكريم أربع مرات باسمه، وذكر بوصفه مرتين: في سورة الأنبياء وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [الآية ٨٧] وفي سورة القلم وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [الآية ٤٨].
المعنى:
وإن يونس بن متى لمن المرسلين إلى أهل نينوى، اذكر وقت أن أبق إلى الفلك المشحون بعد أن ذهب مغاضبا قومه لأجل ربه.
وإن ليونس مع قومه قصة تتلخص في أنه أرسل إليهم، ودعاهم إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام، ولكنهم لم يستجيبوا لقوله، ولم يسمعوا لأمره، فشق عليه ذلك، وامتلأ قلبه غضبا وغيظا من مواقف قومه، فرحل عنهم مغاضبا لقومه يائسا من إيمانهم، وأبق قاصدا الهروب منهم والبعد عنهم فلما وصل إلى شاطئ البحر وجد سفينة مملوءة بالناس فركب معهم ولما جاوز الساحل هاجت الأمواج، واصطلحت على السفينة
ولما تحقق يونس من هذا أنه اقترف شيئا يغضب الله لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وأدراك أن تركه قومه، وعدم صبره على أذاهم، وخروجه بلا إذن عمل ما كان ينبغي أن يكون فألقى بنفسه في البحر، فالتقمه الحوت، وهو مليم نفسه على ما فرط منها.
وأوحى الله إلى الحوت أن يبتلعه وظل في جوفه في ظلمات ثلاث، ولقد امتدت يد العناية الإلهية به فكان محفوظا ينادى الله ويدعوه، ويسبحه ويرجوه فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء آية ٨٧]، فاستجاب الله دعاءه وأوحى إلى الحوت فألقاه على الساحل، وتلقته العناية وأنبتت عليه شجرة من يقطين، قيل: هي الدباء، أى: القرع.
ثم أرسله ربك إلى مائة ألف أو يزيدون وهم أهل نينوى على الصحيح، فآمنوا به وصدقوا برسالته، وتركوا عبادة الأصنام فمتعهم ربك إلى حين معلوم وأجل محدود هو مدة بقائهم في الدنيا، أو مدة إيمانهم والتجائهم إلى الله في كل أمورهم.
وهكذا كل أمة آمنت بربها فنفعها إيمانها وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [سورة هود آية ٣].
نقاش المشركين في عقائدهم [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٩ الى ١٧٠]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
فَاسْتَفْتِهِمْ: استخبرهم واطلب منهم الفتيا أَمْ معناها بل- الإضرابية- مع همزة الاستفهام إِفْكِهِمْ الإفك: أشد أنواع الكذب أَصْطَفَى: اختار، والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء. سُلْطانٌ: حجة قوية. الْجِنَّةِ: الملائكة وسموا بذلك لاستتارهم عن الأنظار نَسَباً: مصاهرة وصلة بِفاتِنِينَ: بحاملين على الفتنة والإضلال صالِ الْجَحِيمِ يقال: صلى النار يصلاها: دخلها واحترق بها.
هذه السورة مكية ناقشت المكيين في عقائدهم وخاصة إثبات التوحيد ونفى الشركة، وإثبات البعث يوم القيامة، وساق الله فيها البراهين القاطعة على ذلك، وبين
ثم أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم هنا- في ختام السورة- بتبكيتهم بطريق الاستفتاء عن كل شيء تنكره العقول، وتأباه الطباع وهو القسمة الجائرة الباطلة حيث كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، وذلك أن قبائل جهينة وخزاعة. وبنى مليح. وبنى سلمة.
وعبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ «١» كيف يكون ذلك منهم؟ والحال أنه إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم! يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ويقول: والله ما هي بنعم الولد- الولد يطلق على الذكر والأنثى- أيمسكه على هون وذل أم يدسه في التراب؟ ألا ساء ما يحكمون! فهم يجعلون لله ما يكرهون، وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار، وأنهم قوم مفرطون.
بل أخلقنا الملائكة إناثا؟ وهم حاضرون ذلك؟ وهذا تبكيت وإنكار لهم حيث وصفوا الملائكة وهم قوم أطهار- عباد بالليل والنهار- بأنهم إناث، فهم لا دليل لهم على ذلك إلا الحضور وقد نفى، أما الأدلة العقلية أو النقلية فلا تحتاج إلى بطلان.
ألا إنهم من كذبهم وإفكهم الباطل ليقولون: ولد الله وإنهم لكاذبون في هذه الدعوى إذ ليس لها مصدر إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير دليل أو شبهة.
أصطفى البنات على البنين؟ عجبا لكم كيف تقولون إن البنات أولاد الله، وكيف يصطفى البنات على البنين؟ وما لكم كيف تحكمون بهذا الحكم الذي تشهد ببطلانه بدائه العقول؟!.
أتلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه؟ مع أن من له أدنى مسكة من عقل ينكره.
بل ألكم سلطان مبين؟ وهذا إضراب انتقالي من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر إلى
روى أن بعض كفار قريش لما قالت: الملائكة بنات الله قال لهم أبو بكر- على سبيل التبكيت والإنكار-: فمن أمهاتهم؟ فقالوا: بنات سروات الجن، فنزل قوله تعالى وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً
وقد كان الخطاب معهم فالتفت يتكلم عنهم (بالغيبة) للإشارة إلى انقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب، وعلى ذلك فالمراد بالجنة هم الشياطين، وبالنسب المصاهرة، ولعل المراد بالجنة هم الملائكة وبالنسب النسبة له- سبحانه وتعالى- حيث قالوا: هم بنات الله.
وبالله لقد علمت الجنة: أن من يقول ذلك لمحضرون، وفي عذاب جهنم مخلدون فانظروا أين أنتم يا كفار مكة؟
سبحان الله، وتنزيها له عما يصفون! سبحانه وتعالى عما يشركون، وتقديسا له وتنزيها عما يدعيه المبطلون المفترون!! إن من يشرك بالله لفي جهنم محضرون إلا عباد الله المخلصين الذين أخلصوا لله في عبادتهم واصطفاهم ربهم فأخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، أولئك في الجنة لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة ص الآيتان ٨٢، ٨٣].
إذا علمتم هذا فإنكم أيها المشركون ومن عبدتموهم ما أنتم على الله- عز وجل- بفاتنين، على معنى: ما أنتم ومعبودكم مفسدين أحدا على الله- عز وجل- بإغوائكم إلا من سبق في علم الله- تعالى- أنه ممن يدخلون النار ويصلونها، وبئس القرار، فالأمر كله لله، وقد ترك للعبد حرية الاختيار ليجازيه على عمله بالحسنى أو بالنار.
أما الملائكة الذين تدعون أنهم بنات الله أو تشركونهم مع الله فها هو ذا اعترافهم الصريح، وها هو ذا موقفهم مع الحق- تبارك وتعالى- وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ
في العبادة لا يتعداه، وأما نظام الكون، وتدبير العالم فموكول إلى الله وحده لا شريك له، ونحن لنا حد لا نتجاوزه، ولا نستطيع أن نتعداه خضوعا واستسلاما لقضائه وتواضعا لجلاله، فمنهم الراكع لا يقيم صلبه، ومنهم الساجد لا يرفع وجهه، ولكل منهم مقام معلوم في العبادة لا يتعداه، والله يحكى عنهم أنهم الصافون أنفسهم للعبادة فلا يتقدم أحد ولا يتأخر عن صفته، ومن هنا كانت تسوية الصفوف في الصلاة من إقامتها، وأنهم هم المسبحون والمنزهون الله عما وصفه المشركون، وها هو ذا إقرار الملائكة عن أنفسهم فكيف تعبدونهم أو تقولون: إنهم بنات الله؟! وكان المشركون قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا عيروا بأنهم أميون جهلاء قالوا: لو أن عندنا ذكرا من الأولين، أى لو بعث لنا رسول لكنا أول المؤمنين، فلما جاءهم ما تمنوه كفروا به فسوف يعلمون عاقبة ذلك، يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم من الشرك خالص من الوثنية.
تقوية العزائم [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧١ الى ١٨٢]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
كَلِمَتُنا: وعدنا وَأَبْصِرْهُمْ: دلهم وأخبرهم عن أشياء كأنها مرئية بِساحَتِهِمْ: بدارهم والساحة في اللغة: فناء الدار الواسع.
المعنى:
لما هدد الله الكفار، وأوعد المشركين وأنذرهم بسوء العاقبة أكد بما يقوى قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم وجنده ويشد من عزيمته هو وصحبه.
وتالله لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، وبالله سبق وتحقق وعدنا لهم بالنصر والغلبة حيث يقول الحق- تبارك وتعالى-: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «١».
وما المراد بالوعد المدلول عليه بقوله: كلمتنا؟ هو: إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون «٢» والنصرة والغلبة تكون بالحجة والبرهان، أو بالسيف والسنان، وإقامة الدولة وكمال السلطان، فالمؤمن وإن غلب في بعض الأوقات بسبب بعده عن دينه، وضعف نظامه العام وسلوكه في دولته فهو الغالب بالحجة والبرهان، على أن الله يتكلم عن المسلمين حقا الحاكمين بكتابه العاملين بسنة رسوله المتمسكين بما يدعو إليه الدين والقرآن من العمل والجد والنشاط والاستعداد بدليل إضافة الجند له- سبحانه وتعالى- هؤلاء المنصورون وهم الغالبون، وعلينا أن ننظر أين نحن من هؤلاء! وإذا كان الأمر كذلك يا محمد فتول عن الكفار إلى حين، وأعرض عنهم إلى زمن معلوم، وأبصرهم مما ينزل عليهم من العذاب كالقتل والأسر، وبصرهم عاقبة ذلك وأرشدهم إلى أن هذا واقع لا محالة حتى كأنه مشاهد محسوس يدرك بالبصر، أبصرهم فسوف يبصرون كل ما وعدتهم به.
وقد كانوا يستعجلون العذاب الذي يهددهم به الله- سبحانه وتعالى- فيرد الله عليهم بقوله: أفبعذابنا يستعجلون؟
(٢) - وهذا إشارة إلى أن قوله: «إنهم لهم المنصورون» بدل من «كلمتنا» التي هي تفسير لها، أو هو استئناف بيانى.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين.
وهذا أدب رباني، وختام إلهى لتلك السورة التي نفت عن الله- عز وجل- الصاحب والشريك والولد والقرين حتى يتأدب المسلمون بهذا، ويتحلون به في ختام جلائل أعمالهم
فقد ورد عن على- رضى الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر جلسته حين يريد أن يقوم سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ
إلى آخر السورة.
وهذه الآيات تشتمل على تنزيه الله وتقديسه عن كل ما لا يليق به (سبحانه) ووصفه بكل ما يليق به من جلائل الصفات، وسمات الجلال (رب العزة) فإن الربوبية تشير إلى التربية مع الحكمة والرحمة والفضل والنعمة، والعزة إشارة إلى كمال القدرة والعلم وتمام الإرادة والوحدانية.
سلام من الله- عز وجل- ومن عباده المؤمنين على رسل الله الذين بلغوا عن الله التوحيد الصحيح والرسالة الكاملة
فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «إذا سلّمتم علىّ فسلّموا على المرسلين فإنّما أنا رسول من المرسلين»
وسلام الله عليهم وأمن لهم يوم الفزع الأكبر.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسل الله أجمعين.