ﰡ
هي مكية عند الجميع، وعدد آياتها ست وثمانون آية.
وهي تشمل مناقشة المشركين في عقائدهم والرد عليهم، وذكر قصص بعض الأنبياء التي تؤيد هذا المعنى وخاصة قصة داود وسليمان، وأيوب، والتعرض للمشركين، وبيان حالهم يوم القيامة مع ذكر قصة خلق آدم وسجود الملائكة له.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١ الى ١٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤)أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤)
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)
ذِي الذِّكْرِ: صاحب الشرف عِزَّةٍ: استعزاز بالباطل واستكبار عن الحق والإيمان به شِقاقٍ: خلاف قَرْنٍ: أمة من الأمم، سميت بذلك لأنها تتقدم غيرها من الأمم كالقرن يتقدم الجسم مَناصٍ: منجى ومهرب عُجابٌ: كثير العجب الْمَلَأُ مِنْهُمْ أى: الأشراف أَنِ امْشُوا أى:
امشوا، والمشي: نقل الأقدام عن المكان، وقيل: هو من مشت المرأة: إذا كثرت ولادتها، ومنه الماشية فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ المراد: ملة العرب ونحلتهم التي أدركوها اخْتِلاقٌ: كذب مختلق لا أساس له فِي الْأَسْبابِ: في المعارج الموصلة إلى ما يريدون جُنْدٌ الجند: هم الأصحاب والأتباع الممتثلون للأمر مَهْزُومٌ وأصل الهزم: غمز الشيء اليابس حتى ينهزم، كهزم القثاء والبطيخ ذُو الْأَوْتادِ المراد: ذو الملك الثابت الذي يشبه البيت المؤسس على أوتاد وعمد فَواقٍ الفواق: الوقت بين الحلبتين أو الرضعتين حتى يجتمع اللبن في الضرع قِطَّنا:
قسطنا أو كتابنا.
المعنى:
صاد، وأقسم بالقرآن ذي الذكر السامي والشرف العالي إنه لحق، وإن محمدا لصادق في دعواه، نعم إنه القرآن كلام الله ذو الذكر الحكيم، والبيان الجامع لكل ما يهم العالم أجمع، وما به صلاح الدنيا وقوم الآخرة وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «١». هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ «٢»
(٢) - سورة النحل آية ٨٩.
كثيرا من الأمم التي مضت والتي كانت أشد قوة وأكثر مالا وأولادا أهلكهم ربهم لما طغوا وبغوا، وحينما نزل بهم نادوا واستغاثوا، ولات الحين حين مناص لهم «٣»، وليس لهم في هذا الوقت منجى ولا مهرب.
وهذه سيئة من سيئاتهم المتفرعة عن عزتهم الفارغة واستكبارهم بالباطل وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ الآية.. كانوا يرون أن الرسالة تتنافى مع البشرية، وإذا سلمنا بها فكان الأولى والأجدر أن تنزل على رجل من القريتين عظيم، فهم عدو رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم أمرا عجيبا خارجا عن نطاق العقل والمألوف فقال الكافرون منهم: هذا ساحر لأنه يأتى بما نعجز عن تفسيره وتعليله، وكذاب فيما يدعيه، ويرويه عن رب العالمين.
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ «٤» تعجبوا عجبا كثيرا من أن الرسول يقول: إن ربكم الله وحده لا شريك له، ويصير الآلهة إلها واحدا، أى:
يصيرها ويجعلها في قوله لا في الخارج، تعجبوا من ذلك لأنه خلاف ما ألفوه، وقد أعماهم التقليد عن النظر الصحيح والفكر السليم، فقاسوا الأمور الحية التي هي في مكنة الفرد من الإنسان فرأوا أنه يستحيل عليه القيام بمطالب هذا الكون، فقالوا بتعدد الآلهة، وتعجبوا ممن يقول بوحدة الإله.
وروى أنهم اجتمعوا، أى: الأشراف منهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم عند عمه أبى طالب وطالبوه بالكف عن آلهتهم وذمها فرد عليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم قائلا: إنى أريد منكم كلمة واحدة تدين لكم بها العرب وتخضع لكم بها العجم. فقالوا: وما هي؟ قال: لا إله إلا
(٢) - سورة فاطر آية ١٠.
(٣) - لات حين: أخذت من (ليس حين) زيدت عليها التاء لتأكيد النفي، ولا تعمل إلا في زمان، ويحذف أحد معموليها، والغالب أن المحذوف هو الاسم.
(٤) - الاستفهام للإنكار والتعجب.
وانطلق الأشراف منهم يتحاورون قائلين: أن امشوا واتركوه، وسيروا على ما أنتم عليه، واصبروا على عبادة آلهتكم، وتجمعوا على عبادتها إن هذا- الإشارة إلى ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وتصلبه في أمر التوحيد وتشدده في نفى الآلهة- لشيء عظيم يراد من جهته صلّى الله عليه وسلّم إمضاؤه وتنفيذه لا محالة مهما كانت الظروف.. وقيل المعنى: إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا، فلا حيلة معه إلا الصبر والمثابرة عليه.
ما سمعنا بهذا الذي يقوله في الملة التي عليها العرب أخيرا والنحلة التي رأيناهم عليها فمن أين بهذا؟ ما هو إلا اختلاق وكذب، وزور وبهتان.
كانت لمشركي مكة شبه ثلاث هي أوهى من بيت العنكبوت:
(ا) تعجبوا من كون الرسول واحدا منهم.
(ب) أنكروا أن تصريف هذا الكون يرجع إلى إله واحد.
(ج) أنكروا إنزال القرآن على محمد دونهم.
وقد تصدى القرآن للرد على الشبهة الثالثة بردود مفحمة، واكتفى بسرد الشبهة الأولى والثانية لأن إثبات أن القرآن نزل من عند الله على محمد هو الغاية والنهاية، وبه تزول كل شبهة.
أنزل عليه الذكر من بيننا؟ ولماذا اختص هو بذلك الشرف العالي والدرجة السامية درجة الرسالة عن رب العالمين، وهذه شبهة قديمة وسلاح شهرته الأمم في وجه الرسل فها هم أولاء قوم صالح يقولون: أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هو كذاب أشر؟! وقال المشركون من قريش: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم؟ أهم يقسمون رحمة ربك؟! وهذا هو الرد: بل هم في شك من ذكرى، هؤلاء الناس قد أعماهم التقليد، وأضلهم الجهل المطبق فلم ينظروا بالعقل المجرد عن الهوى إلى الدلائل الشاهدة على
بل- وهذا إضراب عما مضى- لما يذوقوا عذابي فإنهم لو ذاقوه ولمسوه لفكروا وتدبروا، وأدركوا أن محمدا على حق، ولا غرابة فمن الناس من لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، ومن النفوس نفوس كالحجارة أو أشد قسوة لا تفتح إلا بالحديد الصلب والضرب الشديد. وفي التعبير بلما دليل على أنهم على وشك ذوقان العذاب. وما لهم ينكرون إنزال القرآن على النبي؟ ويرون أنه لا يستحق، بل أعندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب؟ حتى ينكروا ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم؟! نعم فهذه النبوة لا تكون إلا ممن عنده مفاتيح الخزائن كلها، وهو بخلقه رحيم ورحمن. وهو صاحب العزة والسلطان، كثير الخيرات والهبات، والله- سبحانه وتعالى- عنده مفاتيح خزائن هذا الكون، وهو صاحب الرحمة والعزة وواهب الوجود لكل موجود، والعالم بخلقه الحكيم في صنعه. وقد منح النبوة لمن يستحقها، فلا يليق بكم أن تعترضوا هذا الاعتراض، أما أنتم فلا حول لكم ولا قوة. ولا تعلمون شيئا من ذلك، ليرتقوا في الأسباب، وليبلغوا ما أرادوا، وما هم ببالغيه هم جند هنالك مهزوم من الأحزاب، وسيهزم جمعهم ويولون الدبر بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ! [سورة القمر آية ٤٦].
ولا غرابة في ذلك فهذا قصص من سبقهم: كذبت قبلهم قوم نوح. وعاد. وقوم فرعون، وقد كانوا ذوى سلطان ثابت الأركان قوى الدعائم، وكذبت ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقد أرسل إليهم شعيب فكذبوه فحقت عليهم جميعا كلمة ربك، وحاق بهم سوء العذاب.
أولئك المكذبون هم الأحزاب المتحزبون على الرسل، المهزومون، إن كل إلا كذب الرسل فحق عقابي، فأغرق قوم نوح، وأهلك فرعون وجنده في البحر: وقوم هود بالريح، وقوم صالح بالصيحة، وقوم لوط بالخسف، وأصحاب الأيكة بعذاب الظلة.
وما ينتظر المشركون من قريش إلا صيحة واحدة هي النفخة الثانية، وما لها من فواق أى: ما لها من توقف مقدار فواق، والمعنى أن الصيحة إذا جاء وقتها لم تستأخر لحظة واحدة، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، ولما سمعوا أن الله منع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا إكراما للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وجعل عذابهم في الآخرة قالوا: ربنا عجل لنا قطنا وحقنا في العذاب قبل يوم الحساب!
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١)
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)
ذَا الْأَيْدِ: صاحب القوة والجلد أَوَّابٌ: كثير التوبة والرجوع إلى الله بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ أى: في وقت صلاة العشاء وصلاة الضحى مَحْشُورَةً:
مجموعة وَشَدَدْنا مُلْكَهُ: قويناه حتى ثبت الْحِكْمَةَ يمكن تفسيرها هنا بالنبوة والعلم بكتاب الله، أو العدل في الأحكام وَفَصْلَ الْخِطابِ: البيان الفاصل بين الحق والباطل الْخَصْمِ المتخاصمين تَسَوَّرُوا: أتوا من أعلى السور، يقال:
تسور الحائط: تسلقه الْمِحْرابَ قيل: هو الغرفة لأنهم تسوروا عليه فيها. أو صدر المجلس ومنه: محراب المسجد فَفَزِعَ مِنْهُمْ: خاف منهم وَلا تُشْطِطْ:
ولا تجر ولا تمل أَكْفِلْنِيها أى: انزل لي عنها حتى أكفلها، والمراد: أعطنيها وَعَزَّنِي: غلبني الْخُلَطاءِ: جمع خليط وهم الشركاء فَتَنَّاهُ ابتليناه لَزُلْفى لقربة إلى الله بعد المغفرة وَحُسْنَ مَآبٍ: وحسن رجوع إلى الله.
بعد ما ذكر أحوال المشركين وعنادهم وأذاهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر النبي بالصبر على ما يقولون وأن يذكر إخوانه الأنبياء الذين لا قوا ما لاقوا وصبروا محتسبين أجرهم عند الله مقدما في الذكر داود- عليه السلام- وهنا قصته، وقد ذكر فيها عناصر ثلاثة (ا) ما آتى الله داود من فضل (ب) الحادثة التي وقعت له (ج) مسألة استخلافه في الأرض.
المعنى:
اصبر على ما يقوله هؤلاء المشركون، واذكر عبدنا داود إنه أواب، وفي وصفه بالعبودية الدالة على حسن امتثاله لربه تشريف له وتكريم، ألا ترى إلى قوله تعالى:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ | [سورة الإسراء آية ١]. |
ونحن- المسلمين- نقول بعصمة الأنبياء، أى: ترفعهم عن الدنايا وبعدهم عن سفساف الأمور، فإنا نرى أن زعماء الإصلاح قوم غير عاديين يكونون غالبا بعيدين عن الدنايا والأنبياء- عليهم السلام- أولى بذلك منهم، وهم قوم اصطفاهم الله واختارهم، وصنعهم على يده فأرواحهم طاهرة، ونفوسهم عالية، يستحيل عليهم ما قاله الإسرائيليون في حقهم ونقله بعض علماء المسلمين ودونوه في كتبهم، وإن كنا رأينا كثيرا من العلماء نفى مثل هذه الأقوال بشدة كالفخر والبيضاوي وغيرهم.
ونحن نسوق القصة على أساس أن داود نبي الله وهو معصوم من الزنا والقتل والدس والوقيعة، فإن ذلك غير مقبول بحال من الأحوال، وسياق القصة يثبت ذلك فالقرآن قد ذكر لداود صفات كلها مدح وثناء فإنه تواب أواب وله زلفى ومكانة عند ربه، وصاحب قوة وفضل في عمله ثم ذكر القصة وأردفها بذكر مدائح له وهذا كله يتنافى مع وصفه بالفعل المنكر والعمل القبيح.
بعض الناس أثبت لداود أنه فعل الكبيرة كالزنا والقتل، وبعضهم أثبت له بعض الصغائر التي لا تليق.
وفي الواقع تتلخص الحادثة: أن داود كان ملكا له سلطان، وله أتباع وخدم، وله مصالح مادية مع الناس، وهذا كله يوجد له أعداء. واتفق أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن ينالوا من نبي الله داود، وكان له يوم يخلو فيه للعبادة، وانتهزوا الفرصة وتسوروا عليه المحراب، فلما دخلوا عليه ووجدوا عنده ما يمنعهم من ذلك، اختلقوا كذبا وزورا
أما قصتهما كما أخبر فهي: إن هذا أخى، أى: في الدين والإنسانية له تسع وتسعون نعجة- هي الواحدة من الغنم أو بقر الوحش- ولى نعجة واحدة، فقال صاحب الغنم الكثيرة أعطنى نعجتك أكفلها لك وأضمها لغنمي وغلبه في المخاصمة والمجادلة.
قال داود متسرعا قبل أن يسمع جواب الخصم الثاني- ولعل هذا هو الذنب الذي ألم به داود-: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيرا من الخلطاء والشركاء ليبغى بعضهم على بعض حبا في الدنيا، وشحا في النفوس إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلا يبغى بعضهم على بعض وقليل ما هم.
وظن داود أنما فتناه بهذه الحادثة فاستغفر ربه مما ألم به وتاب، وخر راكعا وصلى لله قائما وساجدا وأناب، فغفر له ربه ذنبه- لا تنس أن حسنات الأبرار سيئات المقربين- وإن لداود عند ربه لقربى ومنزلة كريمة، وحسن مآب، أليس وصف داود بعد القصة بأن له زلفى وحسن مآب يدل على أنه عبد صالح أواب يستحيل عليه الإلمام بمعصية تغضب الله.
أما خلافته في الأرض فيقول الله عنها: يا داود إنا جعلناك خليفة لله في أرضه، خليفة لله على عباده تقيم حكمه، وتدعو إلى شرعه. وتثبت دعائم عدله وتقضى بين الناس، فاحكم يا داود بينهم بالحق. ولا يحملنك شنآن قوم على عدم العدل فأنت خليفة أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، يا داود لا تتبع الهوى فإن من اتبع هواه ضل، ومن انحرف عن الصراط وقع في الهاوية، لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله وهو الصراط المستقيم.
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ وهذا تعليل لما قبله، إن الذين يضلون عن سبيله لهم عذاب شديد وقعه بسبب أنهم نسوا يوم الحساب، ولم يعملوا لذلك اليوم، أولئك الذين نسوا الله فأنساهم العمل لخيرهم فكان جزاؤهم النار وبئس القرار.
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
المفردات:
باطِلًا: هزلا ولعبا فَوَيْلٌ: عذاب شديد، أو هو واد في جهنم كَالْفُجَّارِ: هم الأشقياء مُبارَكٌ: كثير الخير والبركات.
وهذه كالروضة وسط الصحراء، ورجوع إلى الأصل الأول الذي هو إثبات البعث وسط القصص للإشارة إلى أنه هو المقصود المهم للشارع.
المعنى:
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا لا حكمة فيه، ما خلقنا هما لاعبين، بل خلقنا هما لأسرار وحكم عالية فيها الاستدلال على كمال القدرة وتمام العظمة وهذه الدقة المحكمة في خلقهما دليل على أن الله لن يترك الناس سدى إذا ماتوا، بل يعيدهم ويحاسبهم ويعطى كلا جزاءه، ذلك أن خلقهما باطلا ظن الذين كفروا، فإنهم ينكرون البعث، وإنكاره معناه نفى عظم القدرة، وتعطيل للحكمة أَمْ «١» نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ؟ بل أنجعل المؤمنين الصالحين كالكفرة المفسدين في الأرض؟ وكيف نسوى بين هؤلاء وهؤلاء؟ فلو قلنا بعدم البعث، وأنه
أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟ بل أنجعل المتقين كأشقياء الكفرة؟ لا يعقل هذا وإذا ثبت أن هناك فرقا كبيرا بين المؤمن وغيره، وأن المؤمن له حياة دائمة، فيها السعادة والنعيم فما الطريق إلى ذلك؟
الطريق هو اتباع القرآن الذي نزل تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة للمؤمنين، كتاب أنزلناه إليك يا محمد كثير الخيرات عظيم البركات فيه شفاء للناس ونور وموعظة للمؤمنين، أنزلناه ليدبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب.
سليمان عليه السلام [سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٠ الى ٤٠]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
الصَّافِناتُ القائمات، أو الصافن من الخيل: الذي يرفع إحدى رجليه ويقف على مقدم حافرها الْجِيادُ: جمع جواد، وهو الذي يجود في سيره، أى: يسرع مع الخفة تَوارَتْ: اختفت وغابت بِالْحِجابِ: بالحاجز وقيل: بالليل بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أى: بسيقانها وأعناقها رُخاءً لينة مع قوتها وشدتها.
أَصابَ: أراد الْأَصْفادِ: جمع صفد، وهو القيد.
المعنى:
ذكر بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أن سليمان عرض عليه خيل جياد في وقت العصر فألهاه ذلك عن صلاة العصر فغضب، وطلب من الله أن يرد عليه الشمس بعد غروبها ليصلى العصر فردت إليه، ثم غضب على الخيل التي كانت سببا في فوات الصلاة فقطع أعناقها وسوقها، والضمير في قوله: (حتى توارت بالحجاب) للشمس، ثم قالوا في قوله تعالى: «أحببت حب الخير عن ذكر ربي» إنه أحب هذه الخيل معرضا عن ذكر ربه، وهو الصلاة.
وهذا تأويل فاسد، يدل على فساده بداهة أسلوب القرآن، ومكان القصة هنا، وسياق الآيات.
إن هذه القصص إنما ذكرها الله- تعالى- بعد قول المشركين: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ وقد بلغوا مبلغا من السفاهة عظيما، حتى قال الله للنبي:
اصبر على ما يقولون. واذكر عبدنا داود، ثم ذكر بعد ذلك قصة سليمان وهذا الوضع والسياق يفيد أن القصص سيقت لبيان جلائل الأعمال، وفضائل الخلال التي قام بها هؤلاء الأنبياء وأصحابهم، وعلى هذا فداود وسليمان ليس من الحق أن نفهم فيهما أنهما أتيا أعمالا تتنافى مع مركز النبوة وشرف الرسالة، وخاصة بعد قول الله لمحمد صلّى الله عليه وسلّم:
اصبر واذكر داود وسليمان، أى: تأس بهؤلاء، وعلى هذا فيمكن أن نلخص ما يمكن فهمه من هذه الآيات بما يأتى: أن الله وهب لداود سليمان وكان نبيا من المرسلين، وهو نعم العبد الصالح، إنه أواب ومطيع، واذكر وقت أن عرض عليه بالعشي الخيل المطهمة، والصافنات الجياد، ويمكن أن نقول: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في
ثم لما سارت الخيل أمامه وتم عرضها حتى توارت عنه، وغابت عن بصره أمر قواده أن يردوها إليه فلما عادت طفق يمسح مسحا بسيقانها وأعناقها، وإنما فعل ذلك تشريفا لها وتكريما، وليرى رأيه في الخيل لأنه على علم بها وبعيوبها.
ولقد فتنا سليمان، فتنة الله أعلم بها، وألقينا على كرسيه جسدا، ثم أناب، وهذه الفتنة تكلم فيها القصاص والإسرائيليون كثيرا، والذي نختاره ما ذكره أئمة التفسير المحققون من أمثال أبى السعود والفخر والآلوسي وغيرهم من أفاضل العلماء، وكان مرجع آرائهم إلى القول بعصمة الأنبياء ومنع تمثل الشيطان بهم، وغلق باب زعزعة الناس في معتقداتهم، وأظهر ما قيل في فتنة سليمان- عليه السلام- ما
روى مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه قال: قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتى كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل (إن شاء الله) فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون
، هذا الحديث ثابت في الصحيحين البخاري ومسلم، وروى بعدة طرق، تلك هي فتنة سليمان كما وردت في الحديث وأما إلقاؤه على كرسيه جسدا فأنه حين الفتنة كان يجلس على كرسي الحكم جسدا لا روح فيه لأنه لما لم يقل: إن شاء الله كأنه ارتكب ذنبا فصار بسببه جسدا، ثم تاب وأناب.
وأما قول سليمان: رب اغفر لي فلا يصح أن يكون هذا دليلا على صدور الزلة منه كما قال القصاص مستندين إلى أن طلب المغفرة يدل على سبق الذنب.
فالإنسان ولو كان نبيا لا ينفك عن ترك الأفضل والأولى، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ألم تر إلى
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنى لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة».
وانظر إلى سليمان، وقد طلب من الله المغفرة قبل طلبه الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، هذا دليل على طلب المغفرة، والرجوع إلى الله سبيل وطريق إلى السعادة في الدنيا والآخرة فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
[نوح ١٠- ١٢] ولقد طلب سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فسخر له ربه الريح حالة كونها جارية بأمره، لينة لا تعب معها، وإن كانت في الأصل عاصفة قوية فهي رخاء لينة تجرى بأمره حيث أراد.
وسخر الشياطين له تعمل تحت أمره من كل بناء وغواص يغوص في البحار لاستخراج الدر منها والأصداف، وآخرين منهم مقرنين في الأصفاد والقيود خاضعين لأمره، عاملين تحت إذنه.
هذا- والإشارة إلى ما تقدم من إعطاء الملك الواسع والتسلط على الرياح والجن والشياطين- عطاؤنا الخاص لك فأعط من تشاء وامنع من تشاء غير محاسب على ذلك يوم القيامة.
وإن لسليمان عند ربه لزلفى وقربة وكرامة وحسنى، وله حسن مآب ومرجع في الجنة، وإن ختام القصة بهذا لدليل على أن كل ما قيل عن سليمان مما هو ثابت في كتب أهل الكتاب أو عند قصاص الأخبار من المسلمين خرافة وأكاذيب لا تليق بمركز النبوة والله أعلم.
أيوب عليه السلام [سورة ص (٣٨) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ اركض: التحريك، ومنه: ركض الدابة: إذا حرك راكبها رجليه والمراد: اثبت ضِغْثاً والضغث: الحزمة الصغيرة من الحشيش.
المعنى:
للناس فيما يقصون عن أيوب طريقان، أحدهما يقول: إن أيوب مسه الشيطان في بدنه وماله بنصب وعذاب، ثم يرسلون خيالهم في تصوير المرض الذي أصابه حتى نفر الناس منه إلى أبعد الحدود المعقولة وغير المعقولة، وهذا بلا شك باطل وأى باطل لا يستسغيه عقل مسلم، فإنا نعتقد أن النبي يستحيل عليه أن يصاب بمرض جسمي ينفر فإنه أرسل ليهدى الخلق ويحتك بهم، فليس من الجائز عقلا أن يكون بحيث ينفر منه الناس، وهل يقدر الشيطان على البلاء بالمرض إلى هذا الحد، لو كان كذلك ما الذي منعه من إصابة أعدائه الألداء جميعا كالأنبياء والمرسلين والهداة والمرشدين بهذا أو أشد منه؟ فإنهم أعداء حقيقة. وكيف يتصور مسلم في الشيطان غير ما حدده له ربه حيث يقول: ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [يوسف ٢٢] فقد صرح الله بأنه لا قدرة له في حق البشر إلا على إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة قال:
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص ٨٢، ٨٣].
وعلى هذا الأساس فالمعقول في قصة أيوب هو أن الله أمر محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يذكر عبده الممتثل لأمره أيوب وقت أن نادى مستغيثا به: أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب.
مسه الشيطان بوسوسته وإلقاء الخواطر الفاسدة في ذهنه، وإبليس وجنده يتحينون الفرص. ويطرقون لكل إنسانا بابا خاصا به. ويدخلون عليه من النقطة الضعيفة عنده- والله أعلم- هل دخل الشيطان على أيوب من جهة بدنه إذ كان مريضا صابرا، أو من جهة ماله أو ولده، أو من جهة قومه ودعوته لهم؟ الله أعلم.
ثم أمر من قبل الله أن يركض برجله وأن يضرب الأرض بها ثابتا مستقرا غير عابئ بما حوله من أعاصير، فالعلاج الوحيد عنده هو ما أنزله الله عليه وهداه إلى العمل به فهو
ووهبنا له أهله وأضعافهم معه، ولعل المراد بالأهل أتباعه في الدين، ووهبنا له ذلك رحمة منا وعظة وذكرى لأولى الألباب الذين يعلمون أن الأمر بيد الله، وأنه يكشف السوء ويجيب المضطر، ويدافع عن عباده المؤمنين الصابرين.
وأمر أيوب أن يأخذ بيده ضغثا فيضرب به ولا يحنث. قالوا: إن امرأته خالفته في أمر فأقسم ليضربنها مائة فأرشده الله إلى أخذ (قنو) فيه مائة شمروخ أو يأخذ حزمة فيها مائة عود فيضرب بها ولا يحنث.
إن ربك وجد أيوب صابرا على البلاء شاكرا على النعماء لأنه العبد أيوب، وإنما مدحه ربه بهذا لأنه أواب.
وهذه ثالث قصة ذكرت في هذه السورة، وكلها فيها بلاء وفتنة واختبار وصبر، ثم نجاح في البلاء والفتنة، ولأصحابها زلفى ومكانة وحسن مآب عند الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
إبراهيم عليه السلام ونسله [سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٥ الى ٥٤]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
أُولِي الْأَيْدِي: أصحاب القوة وَالْأَبْصارِ: جمع بصر، أى: بصيرة في الدين أَخْلَصْناهُمْ: جعلناهم خالصين بِخالِصَةٍ: بخصلة خالصة لا شوب فيها الْمُصْطَفَيْنَ: جمع مصطفى، أى: المختارين الْأَخْيارِ: جمع خير قاصِراتُ الطَّرْفِ: حابسات نظرهن على الأزواج أَتْرابٌ: جمع ترب، أى: لدات في سن واحدة نَفادٍ أى: انقطاع.
المعنى:
واذكر عبادنا إبراهيم الخليل أبا الأنبياء، وإسحاق ابنه، ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم اذكرهم وقد وصفوا بالعبودية وأنهم أصحاب القوة في الطاعة، والبصيرة في الدين فهم من أولى العزم الثابت والنظر الكامل في أمور الدين، ولا غرابة في ذلك فتلك شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، إنا أخلصناهم بخالصة هي ذكرى الدار الحقيقة دار المثوبة. وهذا تعليل للحكم عليهم بأنهم أولو قوة وبصيرة إنا جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة جليلة الشأن لا شوب فيها، هي تذكرهم دائما الدار الآخرة، فإن خلوصهم في الطاعة، وصدقهم في العمل كان بسبب تذكرهم الحياة الباقية فإنها مطمع أنظارهم، وأمل نفوسهم في جوار الله- عز وجل- والفوز بلقائه ولا يتسنى ذلك إلا بتذكر الآخرة، والخوف من الحساب يوم الحساب.
وإنهم عندنا لمن المصطفين المختارين الأخيار.
واذكر إسماعيل ابن إبراهيم وأبا النبي الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم واليسع وذا الكفل، وكل الأنبياء والمرسلين الذين ذكروا هنا أو ذكروا في غير هذا الموضع من الأطهار الأخيار.
وإن للمتقين وأصحابهم وأتباعهم- وهم يدخلون في ذلك من باب أولى- لحسن مآب ومرجع في الآخرة، فهؤلاء لهم شرف وذكرى في الدنيا، ومثوبة في الآخرة، هي جنات عدن وإقامة يقيمون فيها، حالة كونها مفتحة أبوابها لهم، يدعون فيها بكل فاكهة كثيرة وشراب، ولهم فيها ما يدعون نزلا من غفور رحيم.
وعندهم الحور العين مقصورات الطرف على أزواجهن، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، حور كاللؤلؤ المكنون، وهن عرب أتراب.
هذا ما أعد لكم أيها الصابرون المحتسبون في يوم الحساب.
إن هذا- ما ذكر من نعيم دائم مقيم- لرزقنا لأهل الجنة ماله من نفاد ولا انقطاع عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ لهم أجر غير ممنون.
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [سورة ص (٣٨) : الآيات ٥٥ الى ٦٤]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
لِلطَّاغِينَ: للظالمين من الكفار مَآبٍ: مصير ومرجع الْمِهادُ:
ما مهدوا لأنفسهم حَمِيمٌ: الماء الحار غَسَّاقٌ: اسم لما يجرى من صديد أهل النار أَزْواجٌ: أصناف وأجناس فَوْجٌ الفوج: الجمع الكثير مُقْتَحِمٌ:
داخل فيها بشدة مَرْحَباً بِهِمْ الرحب: السعة، ومنه الرحبة للفضاء الواسع في الدار صالُوا النَّارِ: داخلوها الْقَرارُ: المقر وهو جهنم ضِعْفاً:
مضاعفا، ومعناه: ذا ضعف زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ: مالت عنهم احتقارا لهم.
المعنى:
ما ذكر سابقا كان للمتقين، وما هنا للطغاة المشركين. الأمر هذا، وإن للطاغين لشر مآب ومصير. وإن لهم لجهنم يصلونها، ويدخلونها يصلون حرها ولهيبها فبئس المهاد ما مهدوه لأنفسهم من أعمال العذاب، هذا ولعل الإشارة إليه (بهذا) ليعلم أنه متميز عن غيره كأنه لا عذاب إلا هو، وإذا كان الأمر كذلك فليذوقوه هذا حميم وغساق قد أعد لمن يصلى جهنم.
وعذاب آخر من شكله على شاكلته في الشدة والفظاعة أزواج وأجناس لا يعلم كنهها إلا الله.
هذا فوج وجمع آخر مقتحم النار داخل فيها معكم أيها القادة والمتبوعون، وتقول الملائكة لهم: لا مرحبا بهم، إنهم صالوا النار، وهذا تعليل لدعاء الملائكة عليهم، ويحتمل أن يكون الدعاء (لا مرحبا بهم) من المتبوعين على التابعين، وماذا قال الأتباع الداخلون النار؟ قالوا: بل أنتم لا مرحبا بكم أيها القادة والمتبوعون، أنتم قدمتم العذاب لنا، وأنتم أغريتمونا على عملنا فاستحققنا ذلك العذاب فأنتم أحق بهذا الدعاء، فبئس المقر جهنم لنا ولكم قالوا- أى: الأتباع-: ربنا من قدم لنا هذا العذاب فزده عذابا مضاعفا من النار.
وقالوا، أى: الطغاة بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر: مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار الأرذال الذين لا خير فيهم؟ قال ابن عباس: يريدون
من الأدلة على صدق النبي [سورة ص (٣٨) : الآيات ٦٥ الى ٧٠]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
المفردات:
نَبَأٌ عَظِيمٌ: خبر مهم جدّا بِالْمَلَإِ الْأَعْلى: هم أشرف الخلق الذين يملؤون العيون بهجة ورواء.
وهذا رجوع إلى مناقشة الكفار، وإثبات النبوة والتوحيد والبعث.
المعنى:
قل لهم يا محمد: إنما أنا منذر من يخشاها، وما من إله إلا الله الواحد القهار، وقد أنذرتكم عذابا شديدا وحذرتكم يوما يجعل الولدان شيبا وجئت بالتوحيد ونفى
فما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون، والمراد بالملإ الأعلى: ما عدا البشر وقت أن قالوا شبههم في صورة المخاصم: أتجعل فيها من يفسد فيها، وقول إبليس لآدم:
أنا خير منه، وقول الله على لسان ملك لآدم: أنبئهم بأسمائهم فإخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم عن كل دليل واضح على صدقه، وأن هذا القرآن من الله لا من عنده فهو نبي أمى ولم يقرأ ولم يكتب ولم يجلس إلى معلم، وإنما هو وحى يوحى، وما يوحى إلى إلا أنما أنا نذير لكم من بين يدي عذاب شديد، فاعتبروا يا أولى الأبصار.
قصة خلق الإنسان وإكرام الله له [سورة ص (٣٨) : الآيات ٧١ الى ٨٨]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
سَوَّيْتُهُ: أكملت خلقه فَقَعُوا لَهُ: فاسقطوا له ساجدين اسْتَكْبَرَ:
عد نفسه كبيرا بغير استحقاق خَلَقْتُ بِيَدَيَّ: تمثيل لكونه- عليه السلام- معتنيا بخلقه الْعالِينَ: المستحقين للعلو. رَجِيمٌ: مرجوم ومطرود.
فَأَنْظِرْنِي: فأمهلنى لَأُغْوِيَنَّهُمْ: لأزينن لهم المعاصي نَبَأَهُ: خبره المهلك حِينٍ: مدة من الزمن.
وهذا تفصيل لأخبار الملأ الأعلى إذ يختصمون، فهو بيان لما أجمل من الاختصام، وإن ختام هذه السورة ذي الذكر العالي بهذا الختام الرائع لبيان فضل الله على آدم وبنيه، ومعاملة الملائكة له، ومعاملة إبليس لأبينا، وليعلم الناس بعض السر في عناد المشركين وشركهم حتى يحذروا من إبليس وجنده إنه لختام رائع حقا.
المعنى:
أنا رسول رب العالمين، وها أنذا أبلغكم عن ربي ما كان حاصلا مع الملأ الأعلى إذ يختصمون- وما كان لي ولا لقومي علم بذلك- إذ «١» قال ربك للملائكة، ويدخل معهم إبليس للمجاورة والملازمة، إذ لم يكن منهم على التحقيق كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «٢» إذ قال لهم: إنى خالق بشرا من طين مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ
(٢) - سورة الكهف آية ٥٠.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون، و (كل) للإحاطة، و (أجمع) للاجتماع إلا إبليس اللعين فإنه أبى واستكبر واستعظم ولم يكن من الساجدين، وكان من الكافرين المستكبرين المتعاظمين على أمر الله.
وماذا قال الله له عند ذلك؟ قال- عز وجل- على سبيل الإنكار والتوبيخ:
يا إبليس أى شيء منعك من السجود لما خلقته بيدي؟ ما الذي منعك من السجود لآدم وقد خلقته بيدي، وصنعته بنفسي، وقولك: فعلت هذا بيدي مثلا، وصنعته بنفسي:
تمثيل لكونك معنيا بفعله عناية تامة.
يا إبليس أستكبرت أم كنت من العالين.. ؟! أى: أتكبرت ادعاء من غير استحقاق أم كنت من العالين المستحقين لذلك؟ والمراد إنكار هذا وذاك.
وقال إبليس مدفوعا بطبعه المفهوم من طبيعة النار التي خلق منها- فإن طبعها الحماقة والاندفاع والتعالي والإضرار- قال إبليس: أنا خير منه، لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين.
قال الله له- ردّا على عمله القبيح-: فاخرج من الجنة فإنك رجيم مطرود من كل خير وبركة، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين.
قال إبليس: إذا جعلتني يا رب رجيما مطرودا من رحمتك فأنظرنى وأمهلنى إلى يوم يبعثون عند النفخة الثانية، فلا تمتنى في الدنيا بل أمهلنى مع آدم وذريته إلى يوم البعث، طلب هذا الطلب ليظل يوسوس لآدم وذريته فيأخذ ثأره من آدم فإنه هو السبب في طرده من رحمة الله، فاتعظوا يا بنى آدم واحذروا..
قال الله- سبحانه-: إنك من المنظرين إلى ذلك اليوم المعلوم، وهكذا اقتضت إرادة الله أن يظل إبليس وجنده في وضع يتمكن معه من الوسوسة.
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «١».
قال- عز وجل-: فالحق منى، وأنا الحق، وإنى أقول الحق. لأملأن جهنم منك يا إبليس ومن ذريتك الشياطين ومن تبعك في الغواية والضلالة من ذرية آدم أجمعين.
يا كفار مكة هذه آيات شاهدة ناطقة على صدقى، وقد أخبرتكم خبرا صدقا عن الملائكة، وعن إبليس وطبيعته، وعن الإنسان وغريزته، والواقع يؤيد ذلك كله، أليس هذا دليلا على صدقى؟! أيها المشركون: أنا لا أسألكم على القرآن، وهذا النور الذي أسوقه لكم لا أسألكم على ذلك شيئا أبدا من حطام الدنيا الفاني. وما أنا من المتكلمين الذين يدعون ويتصنعون ويتحلون بما ليس فيهم وأنتم تعلمون عنى ذلك فإنى أنا منكم ونشأت بينكم.
ما هو إلا وحى من الله يوحى إلى. وما هو إلا ذكر للعالمين ونور. وهدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فيه الشفاء والذكرى والموعظة والعلاج والدواء من كل داء.
ولتعلمن نبأه حقيقة بعد حين من الزمان سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «٢». وقد ذكرت هذه القصة وكررت قبل ذلك في سورة الحجر وغيرها.
(٢) - سورة فصلت آية ٥٣.