تفسير سورة سورة ص من كتاب الجامع لأحكام القرآن
.
لمؤلفه
القرطبي
.
المتوفي سنة 671 هـ
وهي مكية في قول الجميع، وهي ست وثمانون آية. وقيل ثمان وثمانون آية.
ﰡ
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ" أَيِ الَّذِينَ بَلَّغُوا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى التَّوْحِيدَ وَالرِّسَالَةَ. وَقَالَ أَنَسٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِذَا سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ فَسَلِّمُوا عَلَى الْمُرْسَلِينَ فَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَقِيلَ: مَعْنَى" وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ" أَيْ أَمْنٌ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ." وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ" أَيْ عَلَى إِرْسَالِ الْمُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. وَقِيلَ: أَيْ عَلَى جَمِيعِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. وَقِيلَ: أَيْ عَلَى هَلَاكِ الْمُشْرِكِينَ، دَلِيلُهُ:" فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ." [الأنعام: ٤٥]. قُلْتُ: وَالْكُلُّ مُرَادٌ وَالْحَمْدُ يَعُمُّ. وَمَعْنَى" يَصِفُونَ" يَكْذِبُونَ، وَالتَّقْدِيرُ عَمَّا يَصِفُونَ مِنَ الْكَذِبِ. تَمَّ تفسير سورة الصافات.
[تفسير سورة ص]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ ص مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهِيَ سِتٌّ وَثَمَانُونَ آيَةً. وَقِيلَ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ آيَةً.
[سورة ص (٣٨): الآيات ١ الى ٣]
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ص" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" ص" بِجَزْمِ الدَّالِ عَلَى الْوَقْفِ، لِأَنَّهُ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ مِثْلَ:" الم" وَ" المر". وقرا أبي بن عب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر ابن عَاصِمٍ" صَادِ" بِكَسْرِ الدَّالِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. وَلِقِرَاءَتِهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ صَادَى يُصَادِي إِذَا عارض، ومنه" فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى" [عبس: ٦] أَيْ تَعَرَّضُ. وَالْمُصَادَاةُ الْمُعَارَضَةُ، وَمِنْهُ الصَّدَى وَهُوَ مَا يُعَارِضُ الصَّوْتَ فِي الْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ. فَالْمَعْنَى صَادِ الْقُرْآنَ بِعَمَلِكَ، أَيْ عَارِضْهُ بِعَمَلِكَ وَقَابِلْهُ بِهِ، فَاعْمَلْ بِأَوَامِرِهِ، وَانْتَهِ عَنْ نَوَاهِيهِ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ يُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِ قِرَاءَتَهُ رِوَايَةً صَحِيحَةً. وَعَنْهُ أَنَّ الْمَعْنَى اتْلُهُ وَتَعَرَّضْ لِقِرَاءَتِهِ. وَالْمَذْهَبُ
[تفسير سورة ص]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ ص مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهِيَ سِتٌّ وَثَمَانُونَ آيَةً. وَقِيلَ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ آيَةً.
[سورة ص (٣٨): الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣)قَوْلُهُ تَعَالَى:" ص" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" ص" بِجَزْمِ الدَّالِ عَلَى الْوَقْفِ، لِأَنَّهُ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ مِثْلَ:" الم" وَ" المر". وقرا أبي بن عب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر ابن عَاصِمٍ" صَادِ" بِكَسْرِ الدَّالِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. وَلِقِرَاءَتِهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ صَادَى يُصَادِي إِذَا عارض، ومنه" فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى" [عبس: ٦] أَيْ تَعَرَّضُ. وَالْمُصَادَاةُ الْمُعَارَضَةُ، وَمِنْهُ الصَّدَى وَهُوَ مَا يُعَارِضُ الصَّوْتَ فِي الْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ. فَالْمَعْنَى صَادِ الْقُرْآنَ بِعَمَلِكَ، أَيْ عَارِضْهُ بِعَمَلِكَ وَقَابِلْهُ بِهِ، فَاعْمَلْ بِأَوَامِرِهِ، وَانْتَهِ عَنْ نَوَاهِيهِ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ يُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِ قِرَاءَتَهُ رِوَايَةً صَحِيحَةً. وَعَنْهُ أَنَّ الْمَعْنَى اتْلُهُ وَتَعَرَّضْ لِقِرَاءَتِهِ. وَالْمَذْهَبُ
142
الْآخَرُ أَنْ تَكُونَ الدَّالُ مَكْسُورَةً لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ" صَادَ" بِفَتْحِ الدَّالِ مِثْلَهُ:" قَافَ" وَ" نُونَ" بِفَتْحِ آخِرهَا. وَلَهُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهُنَّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى اتْلُ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ فُتِحَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَاخْتَارَ الْفَتْحَ لِلْإِتْبَاعِ، وَلِأَنَّهُ أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْقَسَمِ بِغَيْرِ حَرْفٍ، كَقَوْلِكَ: اللَّهَ لَأَفْعَلَنَّ، وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ صَادَ مُحَمَّدٌ قُلُوبَ الْخَلْقِ وَاسْتَمَالَهَا حَتَّى آمَنُوا بِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا" صَادٍ" بِكَسْرِ الدَّالِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَخْفُوضًا عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ، وَهَذَا بَعِيدٌ وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ قَدْ أَجَازَ مِثْلَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْأَصْوَاتِ وَغَيْرِهَا. وَقَرَأَ هَارُونُ الْأَعْوَرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ:" صَادُ" وَ" قَافُ" وَ" نُونُ" بِضَمِّ آخِرِهِنَّ: لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ بِالْبِنَاءِ فِي غَالِبِ الْحَالِ، نَحْو مُنْذُ وَقَطُّ وَقَبْلُ وَبَعْدُ. وَ" ص" إِذَا جَعَلْتَهُ اسْمًا لِلسُّورَةِ لَمْ ينصرف، كما أنك إدا سَمَّيْتَ مُؤَنَّثًا بِمُذَكَّرٍ لَا يَنْصَرِفُ وَإِنْ قَلَّتْ حُرُوفُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ سُئِلَا عَنْ" ص" فَقَالَا: لَا نَدْرِي مَا هِيَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ" ص" فَقَالَ:" ص" كَانَ بَحْرًا بِمَكَّةَ وَكَانَ عَلَيْهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ إِذْ لَا لَيْلَ وَلَا نَهَارَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:" ص" بَحْرٌ يُحْيِي اللَّهُ به الموتى بين النفختين. قال الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّهُ. وَعَنْهُ أَنَّ" ص" قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ مِفْتَاحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى صَمَدٌ وَصَانِعُ الْمَصْنُوعَاتِ وَصَادِقُ الْوَعْدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّحْمَنِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ فَاتِحَةُ السُّورَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَهُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ" «١». قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْقُرْآنِ" خُفِضَ بِوَاوِ الْقَسَمِ وَالْوَاوُ بَدَلٌ مِنَ الْبَاءِ، أَقْسَمَ بِالْقُرْآنِ تَنْبِيهًا عَلَى جلالة قدره، فإن فيه بيان كل شي، وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَمُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." ذِي الذِّكْرِ" خُفِضَ عَلَى النَّعْتِ وَعَلَامَةُ خَفْضِهِ الْيَاءُ، وَهُوَ اسْمٌ مُعْتَلٌّ وَالْأَصْلُ فِيهِ ذَوَى عَلَى فَعَلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمُقَاتِلٌ مَعْنَى" ذِي الذِّكْرِ" ذِي الْبَيَانِ. الضحاك:
(١). راجع ج ١ ص ١٥٥ طبعه ثانيه أو ثالثه.
143
ذِي الشَّرَفِ أَيْ مَنْ آمَنَ بِهِ كَانَ شَرَفًا لَهُ فِي الدَّارَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ" [الأنبياء: ١٠] أَيْ شَرَفُكُمْ. وَأَيْضًا الْقُرْآنُ شَرِيفٌ فِي نَفْسِهِ لِإِعْجَازِهِ وَاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَقِيلَ:" ذِي الذِّكْرِ" أَيْ فِيهِ ذِكْرُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. وَقِيلَ:" ذِي الذِّكْرِ" أَيْ فِيهِ ذِكْرُ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَتَمْجِيدُهُ. وَقِيلَ: أَيْ ذِي الْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرِ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَوْجُهٍ: فَقِيلَ جَوَابُ الْقَسَمِ" ص"، لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَقٌّ فَهِيَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ:" وَالْقُرْآنِ" كَمَا تَقُولُ: حَقًّا وَاللَّهِ، نَزَلَ وَاللَّهِ، وَجَبَ وَاللَّهِ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى قَوْلِهِ:" وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ" حَسَنًا، وَعَلَى" فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ" تَمَامًا. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَحَكَى مَعْنَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ" بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ" لِأَنَّ" بَلْ" نَفْيٌ لِأَمْرٍ سَبَقَ وَإِثْبَاتٌ لِغَيْرِهِ، قَالَهُ الْقُتَبِيُّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:" وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ" عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَعَدَاوَةٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْ" وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ" مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَكَ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ بَلْ هُمْ فِي تَكَبُّرٍ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ:" ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ. بَلْ عَجِبُوا" [ق: ٢]. وقيل: الجواب" وَكَمْ أَهْلَكْنا" [ق: ٣٦] كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْقُرْآنِ لَكَمْ أَهْلَكْنَا، فَلَمَّا تَأَخَّرَتْ" كَمْ" حُذِفَتِ اللَّامُ مِنْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَالشَّمْسِ وَضُحاها" [الشمس: ١] ثم قال:" قَدْ أَفْلَحَ" [الشمس: ٩] أَيْ لَقَدْ أَفْلَحَ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ. ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:" فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ". وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَوَابُ الْقَسَمِ" إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ" وَنَحْو مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ" [الشعراء: ٩٧] وَقَوْلُهُ:" وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ" إِلَى قَوْلِهِ" إِنْ كُلُّ نَفْسٍ" [الطارق: ٤ - ١]. ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا قَبِيحٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ طَالَ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَكَثُرَتِ الْآيَاتُ وَالْقَصَصُ. وَقَالَ الكسائي: جواب القسم قول:" إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ" [ص: ٦٤]. ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا أَقْبَحُ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ أَشَدُّ طُولًا فِيمَا بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ. وَقِيلَ الْجَوَابُ قَوْلُهُ:" إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ" [ص: ٥٤]. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ" وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ" لَتُبْعَثُنَّ وَنَحْوَهُ.
144
قَوْلُهُ تَعَالَى:" بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ" أي تَكَبُّرٍ وَامْتِنَاعٍ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ:" وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ" [البقرة: ٢٠٦] وَالْعِزَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ. يُقَالُ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، يَعْنِي مَنْ غَلَبَ سَلَبَ. وَمِنْهُ:" وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ" [ص: ٢٣] أَرَادَ غَلَبَنِي. وَقَالَ جَرِيرٌ:
أراد يغلب." وَشِقَاقٍ" أَيْ فِي إِظْهَارِ خِلَافٍ وَمُبَايَنَةٍ. وَهُوَ مِنَ الشِّقِّ كَأَنَّ هَذَا فِي شِقٍّ وَذَلِكَ فِي شِقٍّ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «٢» مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ" أَيْ قَوْمٌ كَانُوا أَمْنَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَ" كَمْ" لَفْظَةُ التَّكْثِيرِ" فَنادَوْا" أَيْ بِالِاسْتِغَاثَةِ وَالتَّوْبَةِ. وَالنِّدَاءُ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمِنْهُ الْخَبَرُ:" أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتًا" أَيْ أَرْفَعُ." وَلاتَ حِينَ مَناصٍ" قَالَ الْحَسَنُ: نَادَوْا بِالتَّوْبَةِ وَلَيْسَ حِينَ التَّوْبَةِ وَلَا حِينَ يَنْفَعُ الْعَمَلُ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَلاتَ حِينَ مَناصٍ" فَأَمَّا إِسْرَائِيلُ فَرَوَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ التَّمِيمِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" وَلاتَ حِينَ مَناصٍ" قَالَ: لَيْسَ بِحِينِ نَزْوٍ «٣» وَلَا فِرَارٍ، قَالَ: ضَبْطُ الْقَوْمِ جَمِيعًا قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا إِذَا قَاتَلُوا فَاضْطُرُّوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَنَاصَ، أَيْ عَلَيْكُمْ بِالْفِرَارِ وَالْهَزِيمَةِ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ قَالُوا مَنَاصَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَلاتَ حِينَ مَناصٍ" قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَعَلَى هَذَا فَالتَّقْدِيرُ، فَنَادَوْا مَنَاصَ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، أَيْ لَيْسَ الْوَقْتُ وَقْتَ مَا تُنَادُونَ بِهِ. وَفِي هَذَا نَوْعُ تَحَكُّمٍ، إِذْ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْقُرُونِ كَانُوا يَقُولُونَ مَنَاصَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ. وقيل: المعنى" وَلاتَ حِينَ مَناصٍ" أي لإخلاص وَهُوَ نَصْبٌ بِوُقُوعِ لَا عَلَيْهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى عَلَى هَذَا للواو في" وَلاتَ حِينَ مَناصٍ"
يَعُزُّ عَلَى الطَّرِيقِ بمنكبيه | وكما ابترك الخليع على القداح «١» |
(١). البيت في وصف جمل، يقول: يغلب هذا الجمل الإبل على لزوم الطريق، فشبه حرصه على لزوم الطريق، وإلحاحه على السير بحرص هذا الخليع على الضرب بالقداح لعله يسترجع بعض ما ذهب من ماله. والخليع المخلوع المقمور ماله.
(٢). راجع ج ٢ ص ١٤٣ طبعه ثانية.
(٣). النزو: ضرب من العدو.
(٢). راجع ج ٢ ص ١٤٣ طبعه ثانية.
(٣). النزو: ضرب من العدو.
145
وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: أَيْ فَنَادَوْا حِينَ لَا مَنَاصَ، أَيْ سَاعَةٌ لَا مَنْجَى وَلَا فَوْتَ. فَلَمَّا قَدَّمَ" لَا" وَأَخَّرَ" حِينَ" اقْتَضَى ذَلِكَ الْوَاوَ، كَمَا يَقْتَضِي الْحَالَ إِذَا جُعِلَ ابْتِدَاءً وَخَبَرًا، مِثْلَ قَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا، فَإِذَا جَعَلْتَهُ مبتدأ وخبر اقْتَضَى الْوَاوَ مِثْلَ جَاءَنِي زَيْدٌ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَحِينَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: فَنادَوْا". وَالْمَنَاصُ بِمَعْنَى التَّأَخُّرِ وَالْفِرَارِ وَالْخَلَاصِ، أَيْ نَادَوْا لِطَلَبِ الْخَلَاصِ فِي وَقْتٍ لَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهِ خَلَاصٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
أَمِنْ ذِكْرِ لَيْلَى إِذْ نَأَتْكَ تَنُوصُ «١»
يُقَالُ: نَاصَ عَنْ قَرْنِهِ يَنُوصُ نَوْصًا وَمَنَاصًا أَيْ فَرَّ وَزَاغَ. النَّحَّاسُ: وَيُقَالُ: نَاصَ يَنُوصُ إِذَا تَقَدَّمَ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَالنَّوْصُ الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ. وَاسْتَنَاصَ أَيْ تَأَخَّرَ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَتَكَلَّمَ النَّحْوِيُّونَ فِي" وَلاتَ حِينَ" وَفِي الْوَقْفِ عَلَيْهِ، وَكَثَّرَ فِيهِ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ وَكُلُّ مَا جَاءَ بِهِ إِلَّا يَسِيرًا مَرْدُودٌ. فَقَالَ سِيبَوَيْهِ:" لَاتَ" مُشَبَّهَةٌ بِلَيْسَ وَالِاسْمُ فِيهَا مُضْمَرٌ، أَيْ لَيْسَتْ أَحْيَانُنَا حِينَ مَنَاصٍ. وَحَكَى أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَرْفَعُ بِهَا فَيَقُولُ: وَلَاتَ حِينُ مَنَاصٍ. وَحَكَى أَنَّ الرَّفْعَ قَلِيلٌ وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا كَمَا كَانَ الِاسْمُ مَحْذُوفًا فِي النصب، أي ولات حين مناص لنا. وا لقف عَلَيْهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ" وَلاتَ" بِالتَّاءِ ثُمَّ تَبْتَدِئُ" حِينَ مَناصٍ" هُوَ قَوْلُ ابْنُ كَيْسَانَ وَالزَّجَّاجُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ: وَالْقَوْلُ كما قال سيبويه، لأن شَبَهَهَا بِلَيْسَ فَكَمَا يُقَالُ لَيْسَتْ يُقَالُ لَاتَ. وَالْوُقُوفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْكِسَائِيِّ بِالْهَاءِ وَلَاهٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ. وَحَكَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْهَاءُ لِتَأْنِيثِ الْكَلِمَةِ، كَمَا يُقَالُ ثُمَّهْ وَرُبَّهْ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَدْ يُقَالُ ثمت بعني ثُمَّ، وَرُبَّتْ بِمَعْنَى رُبَّ، فَكَأَنَّهُمْ زَادُوا فِي لَا هَاءً فَقَالُوا لَاهْ، كَمَا قَالُوا فِي ثُمَّهْ عِنْدَ الْوَصْلِ صَارَتْ تَاءً. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَ" لَاتَ حِينَ" مَفْتُوحَتَانِ كأنهما
أَمِنْ ذِكْرِ لَيْلَى إِذْ نَأَتْكَ تَنُوصُ «١»
يُقَالُ: نَاصَ عَنْ قَرْنِهِ يَنُوصُ نَوْصًا وَمَنَاصًا أَيْ فَرَّ وَزَاغَ. النَّحَّاسُ: وَيُقَالُ: نَاصَ يَنُوصُ إِذَا تَقَدَّمَ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَالنَّوْصُ الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ. وَاسْتَنَاصَ أَيْ تَأَخَّرَ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَتَكَلَّمَ النَّحْوِيُّونَ فِي" وَلاتَ حِينَ" وَفِي الْوَقْفِ عَلَيْهِ، وَكَثَّرَ فِيهِ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ وَكُلُّ مَا جَاءَ بِهِ إِلَّا يَسِيرًا مَرْدُودٌ. فَقَالَ سِيبَوَيْهِ:" لَاتَ" مُشَبَّهَةٌ بِلَيْسَ وَالِاسْمُ فِيهَا مُضْمَرٌ، أَيْ لَيْسَتْ أَحْيَانُنَا حِينَ مَنَاصٍ. وَحَكَى أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَرْفَعُ بِهَا فَيَقُولُ: وَلَاتَ حِينُ مَنَاصٍ. وَحَكَى أَنَّ الرَّفْعَ قَلِيلٌ وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا كَمَا كَانَ الِاسْمُ مَحْذُوفًا فِي النصب، أي ولات حين مناص لنا. وا لقف عَلَيْهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ" وَلاتَ" بِالتَّاءِ ثُمَّ تَبْتَدِئُ" حِينَ مَناصٍ" هُوَ قَوْلُ ابْنُ كَيْسَانَ وَالزَّجَّاجُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ: وَالْقَوْلُ كما قال سيبويه، لأن شَبَهَهَا بِلَيْسَ فَكَمَا يُقَالُ لَيْسَتْ يُقَالُ لَاتَ. وَالْوُقُوفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْكِسَائِيِّ بِالْهَاءِ وَلَاهٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ. وَحَكَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْهَاءُ لِتَأْنِيثِ الْكَلِمَةِ، كَمَا يُقَالُ ثُمَّهْ وَرُبَّهْ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَدْ يُقَالُ ثمت بعني ثُمَّ، وَرُبَّتْ بِمَعْنَى رُبَّ، فَكَأَنَّهُمْ زَادُوا فِي لَا هَاءً فَقَالُوا لَاهْ، كَمَا قَالُوا فِي ثُمَّهْ عِنْدَ الْوَصْلِ صَارَتْ تَاءً. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَ" لَاتَ حِينَ" مَفْتُوحَتَانِ كأنهما
(١). تمامه:
فتقصر عنها خطوة وتبوص
والبوص بالباء الموحدة التقدم.
فتقصر عنها خطوة وتبوص
والبوص بالباء الموحدة التقدم.
146
كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ" لَا" زِيدَتْ فِيهَا التَّاءَ نَحْو رُبَّ وَرُبَّتْ، وَثُمَّ وَثُمَّتْ. قَالَ أَبُو زُبَيْدٍ الطَّائِيُّ
وَقَالَ آخَرُ:
وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخْفِضُ بِهَا، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
وَكَانَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ" وَلَاتَ حِينَ" التَّاءَ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ حِينَ، وَيَقُولُونَ مَعْنَاهَا وَلَيْسَتْ. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْمَصَاحِفِ الْجُدُدِ وَالْعُتُقِ بِقَطْعِ التَّاءِ مِنْ حِينَ. وَإِلَى هَذَا كَانَ يَذْهَبُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ ابن سَلَّامٍ: الْوَقْفُ عِنْدِي عَلَى هَذَا الْحَرْفِ" وَلَا" وَالِابْتِدَاءُ" تَحِينَ مَنَاصٍ" فَتَكُونُ التَّاءُ مَعَ حِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:" لاتَ" ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ:" حِينَ مَناصٍ". قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ التَّاءَ فِي الْمُصْحَفِ مُتَّصِلَةٌ بِحِينَ وَهُوَ غَلَطٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ. وَمِنْ حُجَّةُ أَبِي عُبَيْدٍ أَنْ قَالَ: إِنَّا لَمْ نَجِدِ الْعَرَبَ تَزِيدُ هَذِهِ التَّاءَ إِلَّا فِي حِينَ وَأَوَانَ وَالْآنَ، وَأَنْشَدَ لِأَبِي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ
وَأَنْشَدَ لِأَبِي زُبَيْدٍ الطَّائِيِّ
فَأَدْخَلَ التَّاءَ فِي أَوَانِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَمِنْ إِدْخَالِهِمُ التَّاءَ فِي الْآنِ، حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَذَكَرَ مَنَاقِبَهُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ بِهَا تَلَانَ مَعَكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ «١»:
طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلَاتَ أَوَانِ | وفأجبنا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاءِ |
تَذَكَّرَ حب ليلى لات حينا | ووأمسى الشيب فقطع الْقَرِينَا |
فَلَتَعْرِفَنَّ خَلَائِقًا مَشْمُولَةً | وَلَتَنْدَمَنَّ وَلَاتَ سَاعةِ مَنْدَمِ |
العاطفون تحين ما من عاطف | ووالمطعمون زمان ابن الْمَطْعَمُ |
طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلَاتَ أَوَانِ | فَأَجَبْنَا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاءِ |
نُوَلِّي قَبْلَ نَأْيِ دَارِي جُمَانَا | وَصِلِينَا كَمَا زعمت تلانا |
(١). هو جميل بن معمر وبعده:
إن خير الموصلين صفا | - من يوافي خليله حيث كانا. |
وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا بِأَنْعَمَ عِيشَةٍ | فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ |
لَاقَتْ عَلَى الْمَاءِ جُذَيْلًا وَاتِدَا | وَلَمْ يَكُنْ يُخْلِفُهَا الْمَوَاعِدَا |
[سورة ص (٣٨): الآيات ١٥ الى ١٦]
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً"" يَنْظُرُ" بِمَعْنَى يَنْتَظِرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ" [الحديد: ١٣]." هؤُلاءِ" يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ." إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً"
(١). البيت لأبى محمد الفقعسي. والضمير في لافت ضمير الإبل.
(٢). راجع ج ١٣ ص ١٣٤ وما بعده طبعه أولى أو ثانية.
(٢). راجع ج ١٣ ص ١٣٤ وما بعده طبعه أولى أو ثانية.
155
أَيْ نَفْخَةُ الْقِيَامَةِ. أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ بَعْدَ مَا أُصِيبُوا بِبَدْرٍ إِلَّا صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مَا يَنْتَظِرُ أَحْيَاؤُهُمُ الْآنَ إِلَّا الصَّيْحَةَ الَّتِي هِيَ النَّفْخَةُ فِي الصُّوَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً" [يس: ٥٠ - ٤٩] وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ قُرْبِ الْقِيَامَةِ وَالْمَوْتِ. وَقِيلَ: أَيْ مَا يَنْتَظِرُ كُفَّارُ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُتَدَيِّنِينَ بِدِينِ أُولَئِكَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً وَهِيَ النَّفْخَةُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لَمْ تَكُنْ صَيْحَةٌ فِي السَّمَاءِ إِلَّا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ." مَا لَها مِنْ فَواقٍ" أَيْ مِنْ تَرْدَادٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. مُجَاهِدٌ: مَا لَهَا رُجُوعٌ. قَتَادَةُ: ما لها من مثنوية. السدي: مالها مِنْ إِفَاقَةٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" مَا لَهَا مِنْ فُوَاقٍ" بِضَمِّ الْفَاءِ. الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. الْجَوْهَرِيُّ: وَالْفَوَاقُ وَالْفُوَاقُ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ مِنَ الْوَقْتِ، لِأَنَّهَا تُحْلَبُ ثُمَّ تُتْرَكُ سُوَيْعَةً يَرْضَعُهَا الْفَصِيلُ لِتُدِرَّ ثُمَّ تُحْلَبُ. يُقَالُ: مَا أَقَامَ عِنْدَهُ إِلَّا فَوَاقًا، وَفِي الْحَدِيثِ:" الْعِيَادَةُ قَدْرُ فَوَاقِ الناقة. وقول تَعَالَى:" مَا لَها مِنْ فَواقٍ" يُقْرَأُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ أَيْ مَا لَهَا مِنْ نَظْرَةٍ وَرَاحَةٍ وَإِفَاقَةٍ. وَالْفِيقَةُ بِالْكَسْرِ اسْمُ اللَّبَنِ الَّذِي يَجْتَمِعُ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ: صَارَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا، قَالَ الْأَعْشَى يَصِفُ بَقَرَةً
وَالْجَمْعُ فِيَقٌ ثُمَّ أَفْوَاقٌ مِثْلَ شِبَرٌ وَأَشْبَارٌ ثُمَّ أَفَاوِيقُ. قَالَ ابْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ:
وَالْأَفَاوِيقُ أَيْضًا مَا اجْتَمَعَ فِي السَّحَابِ مِنْ مَاءٍ، فَهُوَ يُمْطِرُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ. وَأَفَاقَتِ النَّاقَةُ إِفَاقَةً أَيِ اجْتَمَعَتِ الْفِيقَةُ فِي ضَرْعِهَا، فَهِيَ مُفِيقٌ ومفيقة- عن أبي عمرووالجمع مَفَاوِيقُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمَا:" مِنْ فَواقٍ" بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ رَاحَةٌ لَا يُفِيقُونَ فِيهَا، كَمَا يُفِيقُ الْمَرِيضُ وَالْمَغْشِيُّ عَلَيْهِ. وَ" مِنْ فُوَاقٍ" بِضَمِّ الْفَاءِ مِنَ انْتِظَارٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ.
حَتَّى إِذَا فيقة في ضرعها اجتمعت | وجاءت لِتُرْضِعَ شِقَّ النَّفْسِ لَوْ رَضَعَا |
وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وهم يرضعونها | وأفاويق حَتَّى مَا يُدِرُّ لَهَا ثُعْلُ «١» |
(١). البيت في ذم علماء الدنيا. والقعل زيادة في أطباء الناقة والبقرة والشاة، وهو لا يدر وانما ذكره للمبالغة.
156
قُلْتُ: وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ أَنَّهَا مُمْتَدَّةٌ لَا تَقْطِيعَ فِيهَا. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ،" يَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى فَيَقُولُ انْفُخْ نفخة الفزع أهل السموات وَأَهْلُ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَأْمُرُهُ فَيَمُدُّهَا وَيُدِيمُهَا وَيُطَوِّلُهَا يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" مَا يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ"
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ وَغَيْرُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ" قَالَ مُجَاهِدٌ: عَذَابَنَا. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: نَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ. الْحَسَنُ: نَصِيبَنَا مِنَ الْجَنَّةِ لِنَتَنَعَّمَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. وقاله سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَمَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ لِلنَّصِيبِ قِطٌّ وَلِلْكِتَابِ الْمَكْتُوبِ بِالْجَائِزَةِ قِطٌّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقِطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلصَّكِّ قِطٌّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: الْقِطُّ الْكِتَابُ بِالْجَوَائِزِ وَالْجَمْعُ الْقُطُوطُ، قَالَ الْأَعْشَى
يَعْنِي كُتُبَ الْجَوَائِزِ. وَيُرْوَى: بأمته بدل بغبطته، أي بنعمته وحال الْجَلِيلَةِ، وَيَأْفِقُ يُصْلِحُ. وَيُقَالُ: فِي جَمْعِ قِطٍّ أَيْضًا قِطَطَةٌ وَفِي الْقَلِيلِ أُقُطٌ وَأَقْطَاطٌ. ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: سَأَلُوا أَنْ يُمَثِّلَ لَهُمْ مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ لِيَعْلَمُوا حَقِيقَةَ مَا يُوعَدُونَ بِهِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: الْمَعْنَى عَجِّلْ لَنَا أَرْزَاقَنَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَجِّلْ لَنَا مَا يَكْفِينَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: قَطْنِي، أَيْ يَكْفِينِي. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ اسْتِعْجَالًا لِكُتُبِهِمُ الَّتِي يعطونها بأيمانهم ومائلهم حين تلى عليهم بذلك القرآن. وهو قول تعالى:" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ" [الحاقة: ١٩]." وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ" [الانشقاق: ١٠]. وَأَصْلُ الْقِطِّ الْقَطُّ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ قَطَّ الْقَلَمَ، فَالْقَطُّ اسْمٌ لِلْقِطْعَةِ مِنَ الشَّيْءِ كَالْقَسْمِ والقس فَأُطْلِقَ عَلَى النَّصِيبِ وَالْكِتَابِ وَالرِّزْقِ لِقَطْعِهِ عَنْ غَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي الْكِتَابِ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا وَأَقْوَى حَقِيقَةً. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ وَغَيْرُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ" قَالَ مُجَاهِدٌ: عَذَابَنَا. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: نَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ. الْحَسَنُ: نَصِيبَنَا مِنَ الْجَنَّةِ لِنَتَنَعَّمَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. وقاله سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَمَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ لِلنَّصِيبِ قِطٌّ وَلِلْكِتَابِ الْمَكْتُوبِ بِالْجَائِزَةِ قِطٌّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقِطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلصَّكِّ قِطٌّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: الْقِطُّ الْكِتَابُ بِالْجَوَائِزِ وَالْجَمْعُ الْقُطُوطُ، قَالَ الْأَعْشَى
وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ | وبغبطته يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ |
قوم لهم ساحة العراق وما | ويجبى إلى يه والقط والقلم |
إِذَا الْقَوْسُ وَتَّرَهَا أَيِّدٌ | ورمى فَأَصَابَ الْكُلَى وَالذُّوَا |
(١). هو العجاج. وآناد العود يناد انئيادا فهو إذا انثنى واعوج. وصدر البيت
من أن تبدلت بادى آدا
من أن تبدلت بادى آدا
ذَنْبَهُ أَوْ خَطَرَ عَلَى بَالِهِ اسْتَغْفَرَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ مِائَةَ مرة". ويقال آب يؤوب إِذَا رَجَعَ، كَمَا قَالَ «١»
فَكَانَ دَاوُدُ رَجَّاعًا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ فَهُوَ أَهْلٌ لِأَنْ يُقْتَدَى به.
[سورة ص (٣٨): آية ١٨]
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ"" يُسَبِّحْنَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. ذَكَرَ تَعَالَى مَا آتَاهُ مِنَ الْبُرْهَانِ وَالْمُعْجِزَةِ وَهُوَ تَسْبِيحُ الْجِبَالِ مَعَهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ دَاوُدُ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ ذَكَرَتِ الْجِبَالُ مَعَهُ، وَكَانَ يَفْقَهُ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" يُسَبِّحْنَ" يُصَلِّينَ. وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا مُعْجِزَةً إِذَا رَآهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أُوتِيَ دَاوُدُ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ مَا يَكُونُ لَهُ فِي الْجِبَالِ دَوِيٌّ حَسَنٌ، وَمَا تُصْغِي لِحُسْنِهِ الطَّيْرُ «٢» وَتُصَوِّتُ مَعَهُ، فَهَذَا تَسْبِيحُ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ. وَقِيلَ: سَخَّرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِتَسِيرَ مَعَهُ فَذَلِكَ تَسْبِيحُهَا، لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي" سَبَأٍ" «٣» وَفِي" سُبْحَانَ" «٤» عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" [الإسراء: ٤٤] وَأَنَّ ذَلِكَ تَسْبِيحُ مَقَالٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ." بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ" الْإِشْرَاقُ أَيْضًا ابْيِضَاضُ الشَّمْسِ بَعْدَ طُلُوعِهَا. يُقَالُ: شَرَقَتِ الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ، وَأَشْرَقَتْ إِذَا أَضَاءَتْ. فَكَانَ دَاوُدُ يُسَبِّحُ إِثْرَ صَلَاتِهِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا. الثَّانِيَةُ- رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَمُرُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ:" بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ" وَلَا أَدْرِي مَا هِيَ، حَتَّى حَدَّثَتْنِي أُمُّ هَانِئٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليها،
وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يؤوب | ووغائب الموت لا يؤوب |
[سورة ص (٣٨): آية ١٨]
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ"" يُسَبِّحْنَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. ذَكَرَ تَعَالَى مَا آتَاهُ مِنَ الْبُرْهَانِ وَالْمُعْجِزَةِ وَهُوَ تَسْبِيحُ الْجِبَالِ مَعَهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ دَاوُدُ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ ذَكَرَتِ الْجِبَالُ مَعَهُ، وَكَانَ يَفْقَهُ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" يُسَبِّحْنَ" يُصَلِّينَ. وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا مُعْجِزَةً إِذَا رَآهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أُوتِيَ دَاوُدُ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ مَا يَكُونُ لَهُ فِي الْجِبَالِ دَوِيٌّ حَسَنٌ، وَمَا تُصْغِي لِحُسْنِهِ الطَّيْرُ «٢» وَتُصَوِّتُ مَعَهُ، فَهَذَا تَسْبِيحُ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ. وَقِيلَ: سَخَّرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِتَسِيرَ مَعَهُ فَذَلِكَ تَسْبِيحُهَا، لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي" سَبَأٍ" «٣» وَفِي" سُبْحَانَ" «٤» عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" [الإسراء: ٤٤] وَأَنَّ ذَلِكَ تَسْبِيحُ مَقَالٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ." بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ" الْإِشْرَاقُ أَيْضًا ابْيِضَاضُ الشَّمْسِ بَعْدَ طُلُوعِهَا. يُقَالُ: شَرَقَتِ الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ، وَأَشْرَقَتْ إِذَا أَضَاءَتْ. فَكَانَ دَاوُدُ يُسَبِّحُ إِثْرَ صَلَاتِهِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا. الثَّانِيَةُ- رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَمُرُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ:" بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ" وَلَا أَدْرِي مَا هِيَ، حَتَّى حَدَّثَتْنِي أُمُّ هَانِئٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليها،
(١). هو عبيد بن الأبرص.
(٢). زيادة يقتضيها المعنى.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٢٦٥ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٢٦٨ طبعه أولى أو ثانيه.
(٢). زيادة يقتضيها المعنى.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٢٦٥ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٢٦٨ طبعه أولى أو ثانيه.
159
فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى صَلَاةَ الضُّحَى، وَقَالَ:" يَا أُمَّ هَانِئٍ هَذِهِ صَلَاةُ الْإِشْرَاقِ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي نفسي شي مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى حَتَّى وَجَدْتُهَا فِي الْقُرْآنِ" يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ". قَالَ عِكْرِمَةُ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى ثُمَّ صَلَّاهَا بَعْدُ. وَرُوِيَ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُّ فِي كُتُبِ اللَّهِ صَلَاةً بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ هِيَ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَا أُوجِدُكَ فِي الْقُرْآنِ، ذَلِكَ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ:" يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ". الثَّالِثَةُ- صَلَاةُ الضُّحَى نَافِلَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهِيَ فِي الْغَدَاةِ بِإِزَاءِ الْعَصْرِ فِي الْعَشِيِّ، لَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَلَّى حَتَّى تَبْيَضَّ الشَّمْسُ طَالِعَةً، وَيَرْتَفِعُ كَدَرُهَا، وَتُشْرِقُ بِنُورِهَا، كَمَا لَا تُصَلَّى الْعَصْرُ إِذَا اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ" الْفِصَالُ وَالْفِصْلَانُ جَمْعُ فَصِيلٍ، وَهُوَ الَّذِي يُفْطَمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مِنَ الْإِبِلِ. وَالرَّمْضَاءُ شِدَّةُ الْحَرِّ فِي الْأَرْضِ. وَخُصَّ الْفِصَالُ هُنَا بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَرْمَضُ قَبْلَ انْتِهَاءِ شِدَّةِ الْحَرِّ الَّتِي تَرْمَضُ بِهَا أُمَّهَاتُهَا لِقِلَّةِ جَلَدِهَا، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الضُّحَى أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ وَهُوَ الْوَقْتُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَزَوَالِهَا، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُبَادِرُ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ اسْتِعْجَالًا، لِأَجْلِ شُغْلِهِ فَيَخْسَرُ عَمَلَهُ، لِأَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَيَأْتِي بِعَمَلٍ هُوَ عَلَيْهِ لَا لَهُ. الرَّابِعَةُ- رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا مِنْ ذَهَبٍ فِي الْجَنَّةِ" قَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَيُجْزِي مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى". وَفِي التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُّحَى غُفِرَتْ له ذنوبه وإن كانت مئل زَبَدِ الْبَحْرِ". وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هريرة
160
قَالَ:" أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَلَاةِ الضُّحَى وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ" لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ مُسْلِمٌ:" وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى" وَخَرَّجَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ كَمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الضُّحَى رَكْعَتَانِ وَأَكْثَرَهُ ثِنْتَا عَشْرَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَصْلُ السُّلَامَى" بِضَمِّ السِّينِ" عِظَامُ الْأَصَابِعِ وَالْأَكُفِّ وَالْأَرْجُلِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي سَائِرِ عِظَامِ الْجَسَدِ وَمَفَاصِلِهِ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَهَلَّلَ اللَّهَ وَسَبَّحَ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةِ سُلَامَى فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ" قَالَ أَبُو تَوْبَةَ: وَرُبَّمَا قَالَ:" يُمْسِي" كَذَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلُهُ:" وَيُجْزِي مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ" أَيْ يَكْفِي مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ عَنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ رَكْعَتَانِ. وَذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَمَلٌ بِجَمِيعِ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ، فَإِذَا صَلَّى فَقَدْ قَامَ كُلُّ عُضْوٍ بِوَظِيفَتِهِ الَّتِي عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ. وَاللَّهُ أعلم.
[سورة ص (٣٨): الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً" مَعْطُوفٌ عَلَى الْجِبَالِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ قُرِئَ" وَالطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ" لَجَازَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرِ الْفِعْلُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا سَبَّحَ جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الطَّيْرُ فَسَبَّحَتْ مَعَهُ. فَاجْتِمَاعُهَا إِلَيْهِ حَشْرُهَا. فَالْمَعْنَى وَسَخَّرْنَا الطَّيْرَ مَجْمُوعَةً إِلَيْهِ لِتُسَبِّحَ اللَّهَ مَعَهُ. وَقِيلَ: أَيْ وَسَخَّرْنَا الرِّيحَ لِتَحْشُرَ الطُّيُورَ إِلَيْهِ لِتُسَبِّحَ مَعَهُ. أَوْ أَمَرْنَا الْمَلَائِكَةَ تَحْشُرُ الطُّيُورَ." كُلٌّ لَهُ" أَيْ لِدَاوُدَ" أَوَّابٌ" أَيْ مُطِيعٌ، أَيْ تَأْتِيهِ وَتُسَبِّحُ مَعَهُ. وَقِيلَ: الْهَاءُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَشَدَدْنا مُلْكَهُ" أَيْ قَوَّيْنَاهُ حَتَّى ثَبَتَ. قِيلَ: بِالْهَيْبَةِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ مِنْهُ فِي الْقُلُوبِ. وَقِيلَ: بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ. وَقِيلَ: بِالتَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ.
[سورة ص (٣٨): الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً" مَعْطُوفٌ عَلَى الْجِبَالِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ قُرِئَ" وَالطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ" لَجَازَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرِ الْفِعْلُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا سَبَّحَ جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الطَّيْرُ فَسَبَّحَتْ مَعَهُ. فَاجْتِمَاعُهَا إِلَيْهِ حَشْرُهَا. فَالْمَعْنَى وَسَخَّرْنَا الطَّيْرَ مَجْمُوعَةً إِلَيْهِ لِتُسَبِّحَ اللَّهَ مَعَهُ. وَقِيلَ: أَيْ وَسَخَّرْنَا الرِّيحَ لِتَحْشُرَ الطُّيُورَ إِلَيْهِ لِتُسَبِّحَ مَعَهُ. أَوْ أَمَرْنَا الْمَلَائِكَةَ تَحْشُرُ الطُّيُورَ." كُلٌّ لَهُ" أَيْ لِدَاوُدَ" أَوَّابٌ" أَيْ مُطِيعٌ، أَيْ تَأْتِيهِ وَتُسَبِّحُ مَعَهُ. وَقِيلَ: الْهَاءُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَشَدَدْنا مُلْكَهُ" أَيْ قَوَّيْنَاهُ حَتَّى ثَبَتَ. قِيلَ: بِالْهَيْبَةِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ مِنْهُ فِي الْقُلُوبِ. وَقِيلَ: بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ. وَقِيلَ: بِالتَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ.
161
فَلَا يَنْفَعُ الْجَيْشَ الْكَثِيرَ الْتِفَافُهُ عَلَى غَيْرِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِ مُعَانٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ دَاوُدُ أَشَدَّ مُلُوكِ الْأَرْضِ سُلْطَانًا. كَانَ يَحْرُسُ مِحْرَابَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ نَيِّفٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ، فَإِذَا أَصْبَحَ قِيلَ: ارْجِعُوا فَقَدْ رَضِيَ عَنْكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ. وَالْمَلِكُ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْمُلْكِ، فَقَدْ يَكُونُ لِلرَّجُلِ مُلْكٌ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مَلِكًا حَتَّى يَكْثُرَ ذَلِكَ، فَلَوْ مَلَكَ الرَّجُلُ دَارًا وَامْرَأَةً لَمْ يَكُنْ مَلِكًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ خَادِمٌ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَنَافِعِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا لِضَرُورَتِهِ الْآدَمِيَّةِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي" بَرَاءَةَ" «١» وَحَقِيقَةُ الْمُلْكِ فِي" النَّمْلِ" مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ" فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قوله تعالى:" وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ" أي النبوة، قال السُّدِّيُّ. مُجَاهِدٌ: الْعَدْلُ. أَبُو الْعَالِيَةِ: الْعِلْمُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قَتَادَةُ: السُّنَّةُ. شُرَيْحٌ: الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ." وَفَصْلَ الْخِطابِ" قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي الْفَصْلَ فِي الْقَضَاءِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيَانُ الْكَلَامِ. عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هُوَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ. وَقَالَهُ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ أَيْضًا: هُوَ قَوْلُهُ أَمَّا بَعْدُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا. وَقِيلَ:" فَصْلَ الْخِطابِ" الْبَيَانُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقِيلَ: هُوَ الْإِيجَازُ بِجَعْلِ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ. وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبٌ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَجْمَعُهُ، لِأَنَّ مَدَارَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ مَا عَدَا قَوْلَ أَبِي مُوسَى. الثَّانِيَةُ- قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: فَأَمَّا عِلْمُ الْقَضَاءِ فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ إِنَّهُ لَنَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ مُجَرَّدٌ، وَفَصْلٌ مِنْهُ مُؤَكَّدٌ، غَيْرَ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَالْبَصَرِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَفِي الْحَدِيثِ" أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ" وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ بَصِيرًا بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ، عَارِفًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَلَا يَقُومُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ. يُرْوَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: لَمَّا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ حَفَرَ قَوْمٌ زُبْيَةً لِلْأَسَدِ،
(١). راجع ج ٨ ص ١٧١ طبعه أولى أو ثانية.
162
فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الزُّبْيَةِ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ وَتَعَلَّقَ بِآخَرَ، وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ، حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَةً، فَجَرَحَهُمُ الْأَسَدُ فِيهَا فَهَلَكُوا، وَحَمَلَ الْقَوْمُ السِّلَاحَ وَكَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ فَقُلْتُ: أَتَقْتُلُونَ مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَجْلِ أَرْبَعَةِ إِنَاسٍ! تَعَالَوْا أَقْضِ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ، فَإِنْ رَضِيتُمُوهُ فَهُوَ قَضَاءٌ بَيْنَكُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ رَفَعْتُمْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ. فَجَعَلَ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلثَّانِي ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلثَّالِثِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلرَّابِعِ الدِّيَةَ، وَجَعَلَ الدِّيَاتِ عَلَى مَنْ حَفَرَ الزُّبْيَةَ عَلَى قبائل الأربع، فَسَخِطَ بَعْضُهُمْ وَرَضِيَ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ:" أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ" فَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّ عَلِيًّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا. فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى عَلِيٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْقَضَاءُ كَمَا قَضَى عَلِيٌّ" فِي رِوَايَةٍ: فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَ عَلِيٍّ. وَكَذَلِكَ يُرْوَى فِي الْمَعْرِفَةِ بِالْقَضَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى- وَكَانَ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ- جَلَدَ امْرَأَةً مَجْنُونَةً قَالَتْ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ حَدَّيْنِ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ قَائِمَةٌ. فَقَالَ: أَخْطَأَ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ. قَالَ ابن العربي: وهذا الذي قال أَبُو حَنِيفَةَ بِالْبَدِيهَةِ لَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ بِالرُّؤْيَةِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ. فَأَمَّا قَضِيَّةُ عَلِيٍّ فَلَا يُدْرِكُهَا الشَّادِي، وَلَا يَلْحَقُهَا بَعْدَ التَّمَرُّنِ فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا الْعَاكِفُ الْمُتَمَادِي. وَتَحْقِيقُهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ الْمَقْتُولِينَ خَطَأً بِالتَّدَافُعِ عَلَى الْحُفْرَةِ مِنَ الْحَاضِرِينَ عَلَيْهَا، فَلَهُمُ الدِّيَاتُ عَلَى مَنْ حَضَرَ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ، بَيْدَ أَنَّ الْأَوَّلَ مَقْتُولٌ بِالْمُدَافَعَةِ قَاتِلُ ثَلَاثَةٍ بِالْمُجَاذَبَةِ، فَلَهُ الدِّيَةُ بِمَا قُتِلَ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ بِالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَعَلَيْهِ الثُّلُثَانِ بِالِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا بِالْمُجَاذَبَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ وَعَلَيْهِ النِّصْفُ، لِأَنَّهُ قَتَلَ وَاحِدًا بِالْمُجَاذَبَةِ فَوَقَعَتِ الْمُحَاصَّةُ وَغَرِمَتِ الْعَوَاقِلُ هَذَا التَّقْدِيرَ بَعْدَ الْقِصَاصِ الْجَارِي فِيهِ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ نَظَرَ إِلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ فَرَآهَا سِتَّةً: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ. وَهَذَا إِذَا كَانَ الْقَذْفُ فِي حَالَةِ الْجُنُونِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ يُجَنُّ مَرَّةً وَيُفِيقُ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِالْقَذْفِ فِي حَالَةِ إِفَاقَتِهِ. وَالثَّانِي قَوْلُهَا يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَجَلَدَهَا حَدَّيْنِ لِكُلِّ أَبٍ حَدٌّ، فَإِنَّمَا خَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ حَدَّ
163
ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ
ﰔ
ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ
ﰕ
ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ
ﰖ
ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ
ﰗ
ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ
ﰘ
الْقَذْفِ يَتَدَاخَلُ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الْخَمْرِ وَالزِّنَى، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فَإِنَّهُمَا يَرَيَانِ أَنَّ الْحَدَّ بِالْقَذْفِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَقْذُوفِ. الثَّالِثُ أَنَّهُ جَلَدَ بِغَيْرِ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، وَلَا تَجُوزُ إِقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِإِقَامَتِهِ مِمَّنْ يَقُولُ إِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ يَقُولُ إِنَّهُ حَقُّ الْآدَمِيِّ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الِاحْتِجَاجُ لِمَنْ يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، إِذْ لَوْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ لَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ كَحَدِّ الزِّنَى. الرَّابِعُ. أَنَّهُ وَالَى بَيْنَ الْحَدَّيْنِ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدَّانِ لَمْ يُوَالَ بَيْنَهُمَا، بَلْ يُحَدُّ لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَنْدَمِلَ الضَّرْبُ،" أَوْ يُسْتَبَلَ الْمَضْرُوبُ" «١» ثُمَّ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْآخَرُ. الْخَامِسُ أَنَّهُ حَدَّهَا قَائِمَةً، وَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ إِلَّا جَالِسَةً مَسْتُورَةً، قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِي زِنْبِيلٍ. السَّادِسُ أَنَّهُ أَقَامَ الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِيهِ إِجْمَاعًا. وَفِي الْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَالتَّعْزِيرِ فِيهِ خِلَافٌ. قَالَ الْقَاضِي: فَهَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ وَعِلْمُ القضاء، الذي وقعت الإشارة إليه على التَّأْوِيلَاتِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ" أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ" وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْإِيجَازُ فَذَلِكَ لِلْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ، وَلِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ الْعَرَبِ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ:" وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ". وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَوْلُهُ أَمَّا بَعْدُ، فَكَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ:" أَمَّا بَعْدُ". وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ سَحْبَانُ بْنُ وَائِلٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ، وَأَوَّلُ مَنْ تَوَكَّأَ عَلَى عَصًا، وَعُمِّرَ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَلَوْ صَحَّ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ عَلَى هَذَا النَّظْمِ، وَإِنَّمَا كَانَ بِلِسَانِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة ص (٣٨): الآيات ٢١ الى ٢٥]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
[سورة ص (٣٨): الآيات ٢١ الى ٢٥]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
(١). الزيادة من ابن العربي.
164
فِيهِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً. الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ"" الْخَصْمُ" يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ أصله المصدر. قال الشاعر:/ ش وخصم غضاب ينفضون لحاهم/ وكنفض البراذين العراب المخاليا/ ش النَّحَّاسُ: وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ يراد به ها هنا ملكان. وقيل:" تسوروا" وإن كانا اثْنَيْنِ حَمْلًا عَلَى الْخَصْمِ، إِذْ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَمُضَارِعًا لَهُ، مِثْلَ الرَّكْبِ وَالصَّحْبِ. تَقْدِيرُهُ لِلِاثْنَيْنِ ذَوَا خَصْمٍ وَلِلْجَمَاعَةِ ذَوُو خَصْمٍ. وَمَعْنَى:" تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ" أَتَوْهُ مِنْ أَعْلَى سُورِهِ. يُقَالُ: تَسَوَّرَ. الْحَائِطَ تَسَلَّقَهُ، وَالسُّورُ حَائِطُ الْمَدِينَةِ وَهُوَ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَكَذَلِكَ السُّوَرُ جَمْعُ سُورَةٍ مِثْلَ بُسْرَةٍ وَبُسْرٍ وَهِيَ كُلُّ مَنْزِلَةٍ مِنَ الْبِنَاءِ. وَمِنْهُ سُورَةُ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ مَقْطُوعَةٌ عَنِ الْأُخْرَى. وَقَدْ مَضَى فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ بَيَانُ هَذَا «١». وَقَوْلُ النَّابِغَةُ
يُرِيدُ شَرَفًا وَمَنْزِلَةً. فَأَمَّا السُّؤْرُ بِالْهَمْزِ فَهُوَ بَقِيَّةُ الطَّعَامِ فِي الإناء. ابن العربي: والسؤر الوليمة وبالفارسي. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ" إِنَّ جَابِرًا قَدْ صنع لكم سورا فَحَيَّهَلًا بِكُمْ" وَالْمِحْرَابُ هُنَا الْغُرْفَةُ، لِأَنَّهُمْ تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ فِيهَا، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّهُ صَدْرُ الْمَجْلِسِ، وَمِنْهُ مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ." «٢» إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ" جَاءَتْ" إِذْ" مرتين، لأنهما فعلان. وزعم
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً | وترى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ |
(١). راجع ج ١ ص ٦٥ وما بعدها طبعه ثانية أو ثالثة. [..... ]
(٢). راجع ج ٤ ص ٧١ وج ١١ ص ٨٤ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(٢). راجع ج ٤ ص ٧١ وج ١١ ص ٨٤ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
165
الْفَرَّاءُ: أَنَّ إِحْدَاهُمَا بِمَعْنَى لَمَّا. وَقَوْلٌ آخَرُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ مَعَ مَا بَعْدَهَا تَبْيِينًا لِمَا قَبْلَهَا. قِيلَ: إِنَّهُمَا كَانَا إِنْسِيَّيْنِ، قَالَهُ النقاش. وقيل: ملكين، قال جَمَاعَةٌ. وَعَيَّنَهُمَا جَمَاعَةٌ فَقَالُوا: إِنَّهُمَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. وَقِيلَ: مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ إِنْسِيَّيْنِ بَعَثَهُمَا اللَّهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمِ عِبَادَتِهِ. فَمَنَعَهُمَا الْحَرَسُ الدُّخُولَ، فَتَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ عَلَيْهِ، فَمَا شَعَرَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ جَالِسَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ" أَيْ عَلَوْا وَنَزَلُوا عَلَيْهِ مِنْ فوق المحراب، قال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَدَّثَ نَفْسَهَ إِنِ ابْتُلِيَ أَنْ يَعْتَصِمَ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ سَتُبْتَلَى وَتَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي تُبْتَلَى فِيهِ فَخُذْ حِذْرَكَ. فَأَخَذَ الزَّبُورَ وَدَخَلَ الْمِحْرَابَ وَمَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَبَيْنَا هُوَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ إِذْ جَاءَ طَائِرٌ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الطَّيْرِ، فَجَعَلَ يَدْرُجُ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَهَمَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِيَدِهِ، فَاسْتُدْرِجَ حَتَّى وَقَعَ فِي كُوَّةِ الْمِحْرَابِ، فَدَنَا مِنْهُ لِيَأْخُذَهُ فَطَارَ، فَاطَّلَعَ لِيُبْصِرَهُ فَأَشْرَفَ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ غَطَّتْ جَسَدَهَا بِشَعْرِهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ زَوْجُهَا غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ أَوَرِيًّا بْنُ حَنَانَ، فَكَتَبَ دَاوُدُ إِلَى أَمِيرِ الْغُزَاةِ أَنْ يَجْعَلَ زَوْجَهَا فِي حَمَلَةِ التَّابُوتِ، وَكَانَ حَمَلَةُ التَّابُوتِ إِمَّا أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَوْ يُقْتَلُوا، فَقَدَّمَهُ فِيهِمْ فَقُتِلَ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا دَاوُدُ، وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ إِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ، وَكَتَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ نَفْسُهُ حَتَّى وَلَدَتْ سُلَيْمَانَ وَشَبَّ، وَتَسَوَّرَ الْمَلَكَانِ وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَا يَصِحُّ. قال ابن لعربي: وهو أمثل ما روي في ذلك «١».
(١). ما أورده القرطبي هنا في حق داود عليه الصلاة والسلام من قبيل الإسرائيليات ولا صحة لها، وهو هراء وافتراء كما قال البيضاوي، ومما يقدح في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولقد أحسن أبو حيان وأجاد حيث يقول: ويعلم قطعا أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شي منها، ضرورة أنا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك بطلت الشرائع، ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم، فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده تعالى، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة طرحناه، ونحن كما قال الشاعر
والرقاشي مطروح الرواية هند التحقيق. وسيأتي للمؤلف أن ينقل عن النحاس في صفحة ١٧٥ ما يؤيد ما أوردناه.
ونؤثر حكم العقل في كل شبهة | وإذا آثر الأخبار جلاس قصاص |
166
قلت: ورواه مرفوعا بمعناه الترمذي لحكيم" فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ" عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" إِنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ نَظَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَهَمَّ بِهَا قَطَعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْثًا وَأَوْصَى صَاحِبَ الْبَعْثِ فَقَالَ إِذَا حَضَرَ الْعَدُوُّ قَرِّبْ فُلَانًا وَسَمَّاهُ، قَالَ فَقَرَّبَهُ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ- قَالَ- وَكَانَ ذَلِكَ التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ فَمَنْ قُدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَنْهَزِمَ عَنْهُ الْجَيْشُ الَّذِي يُقَاتِلُهُ فَقُدِّمَ فَقُتِلَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ وَنَزَلَ الْمَلَكَانِ عَلَى دَاوُدَ فَقَصَّا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ". وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: كَتَبَ إِلَى زَوْجِهَا وَذَلِكَ فِي حِصَارِ عَمَّانَ مَدِينَةِ بَلْقَاءَ «١» أَنْ يَأْخُذُوا بِحَلْقَةِ الْبَابِ، وَفِيهِ الْمَوْتُ الْأَحْمَرُ، فَتَقَدَّمَ فَقُتِلَ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا امْتَحَنَ اللَّهُ دَاوُدَ بِالْخَطِيئَةِ، لِأَنَّهُ تَمَنَّى يَوْمًا عَلَى رَبِّهِ مَنْزِلَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَمْتَحِنَهُ نَحْوُ مَا امْتَحَنَهُمْ، وَيُعْطِيَهُ نَحْوُ مَا أَعْطَاهُمْ. وَكَانَ دَاوُدُ قَدْ قَسَمَ الدَّهْرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَوْمٌ يَقْضِي فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَوْمٌ يَخْلُو فِيهِ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَيَوْمٍ يَخْلُو فِيهِ بِنِسَائِهِ وَأَشْغَالِهِ. وَكَانَ يَجِدُ فِيمَا يَقْرَأُ مِنَ الْكُتُبِ فَضْلَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. فَقَالَ: يَا رَبِّ! إِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ قَدْ ذَهَبَ بِهِ آبَائِي، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إليه: إنهم ابتلوا ببلايا لم يبتل بِهَا غَيْرُهُمْ فَصَبَرُوا عَلَيْهَا، ابْتُلِيَ إِبْرَاهِيمُ بِنُمْرُوذَ وَبِالنَّارِ وَبِذَبْحِ ابْنِهِ، وَابْتُلِيَ إِسْحَاقُ بِالذَّبْحِ، وَابْتُلِيَ يَعْقُوبُ بِالْحُزْنِ عَلَى يُوسُفَ وَذَهَابِ بَصَرِهِ، وَلَمْ تُبْتَلَ أَنْتَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَابْتَلِنِي بِمِثْلِ مَا ابْتَلَيْتَهُمْ، وَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنَّكَ مُبْتَلًى فِي شَهْرِ كَذَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ دَخَلَ مِحْرَابَهُ وأغلق بابه، وجعل يصلي يقرأ الزَّبُورَ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ مُثِّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ حَمَامَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ حَسَنٍ، فَوَقَفَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، فَمَدَّ يَدَهُ لِيَأْخُذَهَا فَيَدْفَعَهَا لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ، فَطَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ وَلَمْ تُؤَيِّسْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَامْتَدَّ إِلَيْهَا لِيَأْخُذَهَا فَتَنَحَّتْ، فَتَبِعَهَا فَطَارَتْ حَتَّى وَقَعَتْ فِي كُوَّةٍ، فَذَهَبَ لِيَأْخُذَهَا فَطَارَتْ وَنَظَرَ دَاوُدُ يَرْتَفِعُ فِي إِثْرِهَا لِيَبْعَثَ إِلَيْهَا مَنْ يَأْخُذُهَا، فَنَظَرَ امْرَأَةً فِي بُسْتَانٍ عَلَى شَطِّ بركة
(١). مدينة بلقاء يريد بها قصبة البلقاء.
167
تَغْتَسِلُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَغْتَسِلُ عُرْيَانَةً عَلَى سَطْحٍ لَهَا، فَرَأَى أَجْمَلَ النِّسَاءِ خَلْقًا، فَأَبْصَرَتْ ظِلَّهُ فَنَفَضَتْ شَعْرَهَا فَغَطَّى بَدَنَهَا، فَزَادَهُ إعجابا بها. وكان زوجها أور يا بْنُ حَنَانَ، فِي غَزْوَةٍ مَعَ أَيُّوبَ بْنِ صُورِيًّا ابْنِ أُخْتِ دَاوُدَ، فَكَتَبَ دَاوُدُ إِلَى أَيُّوبَ أَنِ ابْعَثْ بِأُورِيَّا إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، وَقَدِّمْهُ قِبَلَ التَّابُوتِ، وَكَانَ مَنْ قُدِّمَ قِبَلَ التَّابُوتِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَرَاءَهُ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ يُسْتَشْهَدُ. فَقَدَّمَهُ فَفُتِحَ لَهُ فَكَتَبَ إِلَى دَاوُدَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانَ أَوَرِيًّا سَيْفَ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فِي زَمَانِ دَاوُدَ، وَكَانَ إِذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً وَكَبَّرَ كَبَّرَ جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَبَّرَتْ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ بِتَكْبِيرِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى الْعَرْشِ، فَتُكَبِّرَ مَلَائِكَةُ الْعَرْشِ بِتَكْبِيرِهِ. قَالَ: وَكَانَ. سُيُوفُ اللَّهِ ثَلَاثَةً «١»، كَالِبَ بْنَ يُوفِنَا فِي زَمَنِ مُوسَى، وَأُورِيَّا فِي زَمَنِ دَاوُدَ، وَحَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا كَتَبَ أَيُّوبَ إِلَى دَاوُدَ يُخْبِرُهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَتَحَ عَلَى أُورِيَّا كَتَبَ دَاوُدُ إِلَيْهِ: أَنِ ابْعَثْهُ فِي بَعْثِ كَذَا وَقَدِّمْهُ قِبَلَ التَّابُوتِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقُتِلَ في الثالثة شَهِيدًا. فَتَزَوَّجَ دَاوُدُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ حِينَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. فَهِيَ أُمُّ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ. وَقِيلَ: سَبَبُ امْتِحَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ نَفْسَهُ حَدَّثَتْهُ أَنَّهُ يُطِيقُ قَطْعَ يَوْمٍ بِغَيْرِ مُقَارَفَةِ شي. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ دَاوُدَ جَزَّأَ الدَّهْرَ أَرْبَعَةَ أجزاء، جزء لنسائه، وجزءا للعبادة، وجزء البني إسرائيل يذاكرونه ويذاكرهم ويبكونه ويبكيهم، ويوما للقضا فَتَذَاكَرُوا هَلْ يَمُرُّ عَلَى الْإِنْسَانِ يَوْمٌ لَا يُصِيبُ فِيهِ ذَنْبًا؟ فَأَضْمَرَ دَاوُدُ أَنَّهُ يُطِيقُ ذَلِكَ، فَأَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهِ يَوْمَ عِبَادَتِهِ، وَأَمَرَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَأَكَبَّ عَلَى قِرَاءَةِ الزَّبُورِ، فَوَقَعَتْ حَمَامَةٌ مِنْ ذَهَبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَهِيَ. الثَّانِيَةُ- عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَنْتَصِبَ لِلنَّاسِ كُلَّ يَوْمٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتْرُكَ وَطْءَ نِسَائِهِ وَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِالْعِبَادَةِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي" النِّسَاءِ." «٢» وَحَكَمَ كَعْبٌ بِذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بِمَحْضَرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وقد قال عليه السلام
(١). في النسخة الخيرية: وكان سيوف الله هكذا ثلاثة.
(٢). راجع ج ٥ ص ١٩ طبعه أولى أو ثانية.
(٢). راجع ج ٥ ص ١٩ طبعه أولى أو ثانية.
168
لعبد الله بن عمر:" إِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا" الْحَدِيثَ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ: إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ اسْتُخْلِفَ: وَاللَّهِ لَأَعْدِلَنَّ بَيْنَكُمْ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَابْتُلِيَ بِهَذَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: كَانَ دَاوُدُ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ فَأُعْجِبَ بِعَمَلِهِ وَقَالَ: هَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْمَلُ كَعَمَلِي. [فَأَرْسَلَ «١»] اللَّهُ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تعالى يقول لك: عجبت بِعِبَادَتِكَ، وَالْعُجْبُ يَأْكُلُ الْعِبَادَةَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، فَإِنْ أُعْجِبْتَ ثَانِيَةً وَكَلْتُكَ إِلَى نَفْسِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ كِلْنِي إِلَى نَفْسِي سَنَةً. قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَكَثِيرٌ. قَالَ: فَشَهْرًا. قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَكَثِيرٌ. قَالَ: فَيَوْمًا. قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَكَثِيرٌ. قَالَ: يَا رَبِّ فَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي سَاعَةً. قَالَ: فَشَأْنُكَ بِهَا. فَوَكَّلَ الْأَحْرَاسَ، وَلَبِسَ الصُّوفَ، وَدَخَلَ الْمِحْرَابَ، وَوَضَعَ الزَّبُورَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي عِبَادَتِهِ إِذْ وَقَعَ الطَّائِرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْمَرْأَةِ مَا كَانَ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: قَالَ دَاوُدُ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا رَبِّ مَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَمِنْ آلِ دَاوُدَ لَكَ فِيهِ صَائِمٌ، وَمَا مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَمِنْ آلِ دَاوُدَ لَكَ فِيهَا قَائِمٌ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا دَاوُدُ مِنْكَ ذَلِكَ أَوْ مِنِّي؟ وَعِزَّتِي لَأَكِلَنَّكَ إِلَى نَفْسِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ اعْفُ عَنِّي. قَالَ: أَكِلُكَ إِلَى نَفْسِكَ سَنَةً. قَالَ: لَا بِعِزَّتِكَ. قَالَ: فَشَهْرًا. قَالَ: لَا بِعِزَّتِكَ. قَالَ: فَأُسْبُوعًا. قَالَ: لَا بِعِزَّتِكَ. قَالَ: فَيَوْمًا. قَالَ: لَا بِعِزَّتِكَ. قَالَ: فَسَاعَةً. قَالَ: لَا بِعِزَّتِكَ. قَالَ: فَلَحْظَةً. فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: وَمَا قَدْرُ لَحْظَةٍ. قَالَ: كِلْنِي إِلَى نَفْسِي لَحْظَةً. فَوَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ لَحْظَةً. وَقِيلَ لَهُ: هِيَ فِي يَوْمِ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا. فَلَمَّا جَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمُ جَعَلَهُ لِلْعِبَادَةِ، وَوَكَّلَ الْأَحْرَاسَ حَوْلَ مَكَانِهِ. قِيلَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَقِيلَ: ثَلَاثِينَ أَلْفًا أَوْ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَخَلَا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَنَشَرَ الزَّبُورَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَاءَتِ الْحَمَامَةُ فَوَقَعَتْ لَهُ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي لَحْظَتِهِ مَعَ الْمَرْأَةِ مَا كَانَ. وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ الْمَلَكَيْنِ بَعْدَ وِلَادَةِ سُلَيْمَانَ، وَضَرَبَا لَهُ الْمَثَلَ بِالنِّعَاجِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمَثَلَ ذَكَرَ خَطِيئَتَهُ فَخَرَّ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً عَلَى مَا يَأْتِي. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَفَزِعَ مِنْهُمْ" لِأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ لَيْلًا فِي غَيْرِ وَقْتِ دُخُولِ الْخُصُومِ. وقيل: لد خولهم عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ المحراب ولم يأتوه من الباب.
(١). في الأصول:" فأوحى."
169
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ مِحْرَابُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الِامْتِنَاعِ بِالِارْتِفَاعِ، بِحَيْثُ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ آدَمِيٌّ بِحِيلَةٍ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ إِلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَشْهُرًا بِحَسَبِ طَاقَتِهِ، مَعَ أَعْوَانٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ، وَآلَاتٍ جَمَّةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ. وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُوصَلُ إِلَيْهِ مِنْ بَابِ الْمِحْرَابِ لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ" تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ" إِذْ لَا يُقَالُ تَسَوَّرَ الْمِحْرَابَ وَالْغُرْفَةَ لِمَنْ طَلَعَ إِلَيْهَا مِنْ دَرَجِهَا، وَجَاءَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا، وَإِذَا شَاهَدْتَ الْكُوَّةَ الَّتِي يُقَالُ إِنَّهُ دَخَلَ منها الخصمان علمت قطعا أنهما لكان، لِأَنَّهَا مِنَ الْعُلُوِّ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهَا إِلَّا عُلْوِيٌّ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَقَدْ قِيلَ كَانَ الْمُتَسَوِّرَانِ أَخَوَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَبٍ وَأُمٍّ. فَلَمَّا قَضَى دَاوُدُ بَيْنَهُمَا بِقَضِيَّةٍ قَالَ لَهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فَهَلَّا قَضَيْتَ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِكَ يَا دَاوُدُ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ أَنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ نَبَّهَا دَاوُدَ عَلَى مَا فَعَلَ. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْمَلَكَانِ" خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ" وَذَلِكَ كَذِبٌ وَالْمَلَائِكَةُ عن مثله منزهون. فالجواب أنه لأبد في الكلام من تقدير، فكأنهما قالا: قدنا كَأَنَّنَا خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ قَوْلُهُمَا:" إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً" لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ الْخَبَرِ فَالْمُرَادُ إِيرَادُهُ عَلَى طَرِيقِ التَّقْدِيرِ لِيُنَبَّهَ دَاوُدُ عَلَى مَا فعل، والله أعلم. الرابعة- إن قبل: لِمَ فَزِعَ دَاوُدُ وَهُوَ نَبِيٌّ، وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِالْوَحْيِ، وَوَثِقَتْ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمَنْزِلَةِ، وَأَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَكَانَ مِنَ الشَّجَاعَةِ فِي غَايَةِ الْمَكَانَةِ؟ قِيلَ لَهُ: ذَلِكَ سَبِيلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، لَمْ يأمنوا القتل والإذاية وَمِنْهُمَا كَانَ يُخَافُ. أَلَا تَرَى إِلَى مُوسَى وهرون عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَيْفَ قَالَا:" إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى " فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" لَا تَخافا" وَقَالَتِ الرُّسُلُ لِلُوطٍ:" لَا تَخَفْ. إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ" وَكَذَا قَالَ الْمَلَكَانِ هُنَا:" لَا تَخَفْ." قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ يَخْتَصِمَانِ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ- مَثَلًا ضربه الله له ولأوريا- فرآهما واقفيين عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: مَا أَدْخَلَكُمَا عَلَيَّ؟ قَالَا:" لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ" فَجِئْنَاكَ لِتَقْضِيَ بَيْنَنَا.
170
الْخَامِسَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ لَمْ يَأْمُرْ بِإِخْرَاجِهِمَا إِذْ قَدْ عَلِمَ مَطْلَبَهُمَا، وَهَلَّا أَدَّبَهُمَا وَقَدْ دَخَلَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ؟ فَالْجَوَابُ عَلَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَمْ نَعْلَمْ كَيْفِيَّةَ شَرْعِهِ فِي الْحِجَابِ وَالْإِذْنِ فَيَكُونُ الْجَوَابُ بِحَسَبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ شَرْعِنَا مُهْمَلًا فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ، حَتَّى أَوْضَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَيَانِ. الثَّانِي- أَنَّا لَوْ نَزَّلْنَا الْجَوَابَ عَلَى أَحْكَامِ الْحِجَابِ، لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْفَزَعُ الطَّارِئُ عَلَيْهِ أَذْهَلَهُ عَمَّا كَانَ يَجِبُ فِي ذَلِكَ لَهُ. الثَّالِثُ- أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَلَامَهُمَا الَّذِي دَخَلَا لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ آخِرَ الْأَمْرِ مِنْهُ، وَيَرَى هَلْ يَحْتَمِلُ التَّقَحُّمَ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ عُذْرٌ لَهُمَا أَمْ لَا يَكُونُ لَهُمَا عُذْرٌ فِيهِ؟ فَكَانَ مِنْ آخِرِ الْحَالِ مَا انْكَشَفَ أَنَّهُ بَلَاءٌ وَمِحْنَةٌ، وَمَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ فِي الْقِصَّةِ، وَأَدَبٌ وَقَعَ عَلَى دَعْوَى الْعِصْمَةِ. الرَّابِعُ- أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَسْجِدٍ وَلَا إِذْنَ فِي الْمَسْجِدِ لِأَحَدٍ إِذْ لَا حَجْرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ. قُلْتُ: وَقَوْلٌ خَامِسٌ ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَهُوَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَمَّا لَمْ يَأْذَنْ لَنَا الْمُوَكَّلُونَ بِالْحِجَابِ، تَوَصَّلْنَا إِلَى الدُّخُولِ بِالتَّسَوُّرِ، وَخِفْنَا أَنْ يَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ بَيْنَنَا. فَقَبِلَ دَاوُدُ عُذْرَهُمْ، وَأَصْغَى إِلَى قَوْلِهِمْ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" خَصْمانِ" إِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ" خَصْمانِ" وَقَبْلَ هَذَا" إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ" فَقِيلَ: لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ، قَالَ الْخَلِيلُ: كَمَا تَقُولُ نَحْنُ فَعَلْنَا إِذَا كُنْتُمَا اثْنَيْنِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: جَمْعٌ لِمَا كَانَ خَبَرًا، فَلَمَّا انْقَضَى الْخَبَرُ وَجَاءَتِ الْمُخَاطَبَةُ، خَبَّرَ الِاثْنَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَقَالَا خَصْمَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى نَحْنُ خَصْمَانِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْقَوْلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَقُولُ:" خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ" قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَلَوْ كَانَ بَغَى بَعْضُهُمَا عَلَى بَعْضٍ، لَجَازَ. الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَانَا مَلَكَيْنِ، وَلَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ وَلَا باغيين، ولا يأتي مِنْهُمَا كَذِبٌ، وَتَقْدِيرُ كَلَامِهِمَا مَا تَقُولُ: إِنْ أَتَاكَ خَصْمَانِ قَالَا بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: أَيْ نَحْنُ فَرِيقَانِ مِنَ الْخُصُومِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. وَعَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْخُصُومَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ جَمْعٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ خُصُومَةٌ
171
مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، فَحَضَرُوا الْخُصُومَاتِ وَلَكِنِ ابْتَدَأَ مِنْهُمُ اثْنَانِ، فَعَرَفَ دَاوُدُ بِذِكْرِ النِّكَاحِ الْقِصَّةَ. وَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْخُصُومَاتِ الْأُخَرَ
. وَالْبَغْيُ التَّعَدِّي وَالْخُرُوجُ عَنِ الْوَاجِبِ. يُقَالُ: بَغَى الْجُرْحُ إِذَا أَفْرَطَ وَجَعُهُ وَتَرَامَى، إِلَى مَا يَفْحُشُ، وَمِنْهُ بَغَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَتَتِ الْفَاحِشَةُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ" أَيْ لَا تَجُرْ، قَالَهُ السدي. وحكى أبو عبيد: شططت عليه شططت أَيْ جُرْتُ. وَفِي حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ:" إِنَّكَ لشاطئ" أَيْ جَائِرٌ عَلَيَّ فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَمِلْ. الْأَخْفَشُ: لَا تُسْرِفْ. وَقِيلَ: لَا تُفْرِطْ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْبُعْدُ مِنْ شَطَّتِ الدَّارُ أَيْ بَعُدَتْ، شَطَّتِ الدَّارُ تَشِطُّ وَتَشُطُّ شَطًّا وَشُطُوطًا بَعُدَتْ. وَأَشَطَّ فِي الْقَضِيَّةِ أَيْ جَارَ، وَأَشَطَّ فِي السَّوْمِ وَاشْتَطَّ أَيْ أَبْعَدَ، وَأَشَطُّوا فِي طَلَبِي أَيْ أَمْعَنُوا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الشَّطَطُ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي كُلِّ شي. وَفِي الْحَدِيثِ:" لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ" أَيْ لَا نُقْصَانَ وَلَا زِيَادَةَ. وفي التنزيل:" لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً" [الكهف: ١٤] أَيْ جَوْرًا مِنَ الْقَوْلِ وَبُعْدًا عَنِ الْحَقِّ." وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ" أَيْ أَرْشِدْنَا إِلَى قَصْدِ السَّبِيلِ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً" أَيْ قَالَ الْمَلَكُ الَّذِي تَكَلَّمَ عَنْ أُورِيَّا" إِنَّ هَذَا أَخِي" أَيْ عَلَى دِينِي، وَأَشَارَ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَخِي أَيْ صَاحِبِي." لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً" وَقَرَأَ الْحَسَنُ:" تَسْعٌ وَتَسْعُونَ نَعْجَةً" بِفَتْحِ التَّاءِ فِيهِمَا وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ مِنْ قِرَاءَةِ الْحَسَنِ، قَالَ النَّحَّاسُ. وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الْمَرْأَةِ بِالنَّعْجَةِ وَالشَّاةِ، لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ السُّكُونِ وَالْمَعْجِزَةِ وَضَعْفِ الْجَانِبِ. وَقَدْ يُكَنَّى عَنْهَا بِالْبَقَرَةِ وَالْحِجْرَةِ وَالنَّاقَةِ، لِأَنَّ الْكُلَّ مَرْكُوبٌ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ
. وَالْبَغْيُ التَّعَدِّي وَالْخُرُوجُ عَنِ الْوَاجِبِ. يُقَالُ: بَغَى الْجُرْحُ إِذَا أَفْرَطَ وَجَعُهُ وَتَرَامَى، إِلَى مَا يَفْحُشُ، وَمِنْهُ بَغَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَتَتِ الْفَاحِشَةُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ" أَيْ لَا تَجُرْ، قَالَهُ السدي. وحكى أبو عبيد: شططت عليه شططت أَيْ جُرْتُ. وَفِي حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ:" إِنَّكَ لشاطئ" أَيْ جَائِرٌ عَلَيَّ فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَمِلْ. الْأَخْفَشُ: لَا تُسْرِفْ. وَقِيلَ: لَا تُفْرِطْ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْبُعْدُ مِنْ شَطَّتِ الدَّارُ أَيْ بَعُدَتْ، شَطَّتِ الدَّارُ تَشِطُّ وَتَشُطُّ شَطًّا وَشُطُوطًا بَعُدَتْ. وَأَشَطَّ فِي الْقَضِيَّةِ أَيْ جَارَ، وَأَشَطَّ فِي السَّوْمِ وَاشْتَطَّ أَيْ أَبْعَدَ، وَأَشَطُّوا فِي طَلَبِي أَيْ أَمْعَنُوا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الشَّطَطُ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي كُلِّ شي. وَفِي الْحَدِيثِ:" لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ" أَيْ لَا نُقْصَانَ وَلَا زِيَادَةَ. وفي التنزيل:" لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً" [الكهف: ١٤] أَيْ جَوْرًا مِنَ الْقَوْلِ وَبُعْدًا عَنِ الْحَقِّ." وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ" أَيْ أَرْشِدْنَا إِلَى قَصْدِ السَّبِيلِ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً" أَيْ قَالَ الْمَلَكُ الَّذِي تَكَلَّمَ عَنْ أُورِيَّا" إِنَّ هَذَا أَخِي" أَيْ عَلَى دِينِي، وَأَشَارَ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَخِي أَيْ صَاحِبِي." لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً" وَقَرَأَ الْحَسَنُ:" تَسْعٌ وَتَسْعُونَ نَعْجَةً" بِفَتْحِ التَّاءِ فِيهِمَا وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ مِنْ قِرَاءَةِ الْحَسَنِ، قَالَ النَّحَّاسُ. وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الْمَرْأَةِ بِالنَّعْجَةِ وَالشَّاةِ، لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ السُّكُونِ وَالْمَعْجِزَةِ وَضَعْفِ الْجَانِبِ. وَقَدْ يُكَنَّى عَنْهَا بِالْبَقَرَةِ وَالْحِجْرَةِ وَالنَّاقَةِ، لِأَنَّ الْكُلَّ مَرْكُوبٌ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ