تفسير سورة ص

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة ص من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة ص آياتها ثمان وثمانون وهي مكية.

أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم عن ابن عباس قال : مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم فشكوه إلى أبي طالب فقال ابن أخي ما تريد من قومك ؟ فقال أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم جزية قال كلمة واحدة قال ما هي ؟ قال :" لا إله إلا الله " فقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا الشيء عجاب فنزل ﴿ ص ﴾ إلى قوله :﴿ بل لما يذوقوا العذاب ﴾.
قيل هو قسم وقيل هو اسم السورة كما ذكرنا في سائر حروف التهجي، قال محمد بن كعب مفتاح اسمه الصمد وصادق الوعد وقال الضحاك معناه صدق الله وروي عن ابن عباس صدق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل هو أمر من المصاداة ولذا قرئ بالكسر على وزن ناد ومعناه عارض من الصدي فإنه تعارض الصوت الأول يعني عارض القرآن بعملك، والحق أنه من المتشابهات وقد ذكرنا تحقيقها في أوائل سورة البقرة ﴿ والقرآن ذي الذكر ﴾ قال ابن عباس أي ذي البيان لما يحتاج إليه في الدين من العقائد والشرائع والمواعيد أو ذي عظة، وقال الضحاك أي ذي الشرف كما في قوله تعالى :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك ﴾ والواو للقسم إن جعل ﴿ ص ﴾ اسم حرف مذكور للتحدي أو الرمز لكلام صدق محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره أو لفظ الأمر وللعطف إن جعل مقسما به، قال الأخفش جواب القسم ﴿ إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ١٤ ﴾ وهذا بعيد جدا والظاهر أن الجواب محذوف دل عليه ما في ﴿ ص ﴾ من الدلالة على التحدي أو الأمر بالمعادلة أي أنه المعجز أو الواجب العمل به أو أن محمدا لصادق أو أن الأمر ليس كما يقول الكفار ويدل عليه قوله :﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾
﴿ بل الذين كفروا في عزة ﴾ : أي استكبار عن الحق وحمية جاهلية، ﴿ وشقاق ﴾ : خلاف وعداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأجل ذلك لا يؤمنون به أو خلاف لما يقتضيه العقل والنقل، والتنكير فيهما للدلالة على شدتهما فهو إضراب عن الجواب المقدر، وقال قتادة هذا جواب القسم كما في قوله تعالى :﴿ ق والقرآن المجيد بل عجبوا ﴾ وبل ابتدائية، وقال القتيبي بل لتدارك كلام ونفي آخر ومجاز الآية أن الله أقسم بص والقرآن ذي الذكر إن الذين كفروا من أهل مكة في عزة وشقاق.
﴿ كم أهلكنا من قبلهم من قرن ﴾ : وعيد لهم على كفرهم استكبارا وشقاقا، ﴿ فنادوا ﴾ : عند نزول العذاب استغاثة أو توبة واستغفارا، ﴿ ولات حين مناص ﴾ أي : ليس الحين حين مناص، جملة كم أهلكنا معترضة لبيان مآلهم بعد بيان حالهم يعني أنهم يهلكون كما هلك من قبلهم ولا هي المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب وثم وتغير حكمه فخصت بلزوم الأحيان وحذف أحد المعمولين إما الاسم وإما الخبر والمحذوف ها هنا الاسم هذا مذهب الخليل وسيبويه.
وقال الأخفش هي النافية للجنس والخبر محذوف أي لا حين مناص كائن لكم، وقيل هي نافية للفعل والنصب بإضمار تقديره لا أرى حين مناص حاصلا لهم، والوقف على لات بالتاء عند الزجاج وعند الكسائي لاه بالهاء، وذهب جماعة إلى أن التاء زيدت في حين والوقف على لاثم يبتدئ بحين وهو اختيار أبي عبيد وقال كذلك وجدت في مصحف عثمان رضي الله عنه وهذا كقول الشاعر :
والعاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم
والمناص مصدر ميمي من ناصه ينوصه إذا فاته، وفي القاموس النوص التأخر والمناص الملجأ، قال ابن عباس كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض مناص أي هربوا وخذوا حذركم فلما أنزل الله بهم العذاب ببدر قالوا مناص فأنزل الله عز وجل :﴿ ولات حين مناص ﴾ أي ليس الحين حين هذا القول، والجملة حال من فاعل نادوا أي استغاثوا والحال أن لا ملجأ ولا مهرب ولا اعتبر بهم كفار مكة.
﴿ وعجبوا ﴾ عطف على الظرف المسقر أعني في عزة وشقاق أوحال من الضمير المستكن فيه بتقدير قد تقديره بل الذين كفروا كائنون في عزة وشقاق وقد عجبوا من ﴿ أن جاءهم منذر منهم ﴾ أي بشر من أنفسهم رسولا إليهم لينذرهم ﴿ وقال الكافرون ﴾ وضع الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وذما لهم وإشعارا بأن كفرهم جسرهم على أن قالوا ﴿ هذا ساحر ﴾ فيما يظهر من المعجزات ﴿ كذاب ﴾ فيما يقول.
﴿ أجعل ﴾ محمول على حذف قالوا استئناف في جواب ما قالوا حينئذ يعني قالوا اجعل ﴿ الآلهة إلها واحدا ﴾ الاستفهام للتعجب يعني كيف جعل الألوهية التي كانت لجملة لواحد ﴿ إن هذا لشيء عجاب ﴾ بليغ في العجب فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا ما نشاهد ونعاهد أن الواحد لا يفي علمه وقدرته بالأشياء الكثيرة، قال البغوي وذلك أن عمر بن الخطاب لما أسلم شق ذلك على قريش وفرح بها المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلا أكبرهم سنا الوليد بن المغيرة قال امشوا إلى أبي طالب، فأتوا أبا طالب وقالوا أنت كبيرنا وشيخنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك فلا تمل كل الميل على قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تسألون ؟ قالوا ارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ؟ فقال أبو جهل لله أبوك لنعطيكها وعشر أمثالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا لا إله إلا الله، فتفرقوا من ذلك وقاموا وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا كيف يسمع الخلق كلهم إله واحد إن هذا لشيء عجاب، قيل التعجيب ما له مثل والعجاب ما لا مثل له
﴿ وانطلق الملأ ﴾ أي الأشراف من مجلس أبي طالب الذين كانوا فيه ﴿ منهم ﴾ أي من قريش وجملة انطلق عطف على قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا ﴿ أن امشوا ﴾ أي قائلين أن امشوا من مجلسكم هذه ﴿ واصبروا ﴾ أي اثبتوا ﴿ على ﴾ عبادة ﴿ آلهتكم ﴾ حيث لا ينفعكم المكالمة وأن هي المفسرة لأن الانطلاق عن مجلس التناول يشعر بالقول، وقيل المراد بالانطلاق الاندفاع في القول وامشوا من مشيت المرأة إذا كثرت ولادتها ومنه الماشية أي اجتمعوا ﴿ إن هذا ﴾ المذكور من التوحيد ﴿ لشيء يراد ﴾ منا، هذه الجملة في مقام التعليل على قوله امشوا، قال البغوي وذلك أن عمر رضي الله عنه لما أسلم وحصل للمسلمين به قوة بمكانه قالت الكفار إن هذا لشيء يراد، قيل معناه هذا الذي نرى من زيادة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لشيء من الله يراد بنا فلا مرد له، وقيل يراد بأهل الأرض، وقيل بمحمد صلى الله عليه وسلم أن يملك علينا أو يقال إن هذا الذي يدعيه محمد من التوحيد أو الذي يقصد من الرياسة والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يريده كل واحد أو أن دينكم يطلب ليؤخذ منكم
﴿ ما سمعنا بهذا ﴾ الذي يقوله محمد من التوحيد وكلمة هذا للتحقير، ﴿ في الملة الآخرة ﴾ : قال ابن عباس والكلبي ومقاتل يعنون بها النصرانية لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون بل يقولون ثالث ثلاثة، وقال مجاهد يعنون ملة قريش ودينهم الذي لهم عليه أي ما سمعنا بهذا في الملة التي أدركنا عليه آباءنا، ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا في محل الحال أي ما سمعنا من أهل الكتاب ولا الكهان هذا أي التوحيد كائنا في الملة المترقبة التي هي آخر الملل. ﴿ إن هذا إلا اختلاق ﴾ أي : كذب اختلقه.
﴿ أأنزل عليه الذكر ﴾ أي : القرآن الاستفهام للإنكار فهو بمعنى النفي فهو تأكيد لمضمون قولهم إن هذا إلا اختلاق، ﴿ من بيننا ﴾ وليس بأكبرنا ولا أكثر منا في المال والجاه وفيه دليل على أن منشأ تكذيبهم لم يكن إلا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي، قال الله تعالى :﴿ بل هم في شك من ذكري ﴾ أي : القرآن حيث كذبوا الجائي به، إضراب للإنكار وإثبات للشك لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الدليل يعني ليس عندهم حجة يوجب علما يقينيا بما يقولون إنه ساحر كذاب. ﴿ بل لما يذوقوا عذاب ﴾ ولو ذاقوا ما قالوا ذلك وسيذوقونها وحينئذ يزول عنهم الشك ولا ينفعهم، وبل للإضراب عن الشك وإثبات يقينهم واعتقادهم بانتفاء حقيقة القرآن فإثبات الشك إنما هو بالنظر إلى انتفاء الحجة عندهم وإثبات اليقين نظرا إلى جهلهم المركب وزعمهم الفاسد تعنتا وعنادا، وقيل بل في الموضعين ابتدائية ليست للإضراب فالجملة الأولى جواب لكلام الكفار والثانية تأكيد للأولى.
﴿ أم عندهم خزائن رحمة ربك ﴾ أي : نعمة ربك يعني مفاتيح النبوة يعطوها من يشاءوا يعني ليس الأمر كذلك فإن النبوة عطية من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده مانع لما أعطاه فإنه ﴿ العزيز ﴾ : الغالب الذي لا يغلبه شيء، ﴿ الوهاب ﴾ : الذي يهب ما يشاء لمن يشاء، أم منقطعة بمعنى بل والهمزة قيل للإضراب من دعوى إلى دعوى أخرى والهمزة لإنكار ذلك الدعوى وكذلك أم في قوله :﴿ أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما ﴾ لما أنكر عليهم التصرف في النبوة بأن ليس عندهم خزائن رحمته التي لا نهاية لها أردف ذلك بأنه ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائنه فمن أين لهم أن يتصرفوا فيها ﴿ فليرتقوا في الأسباب ﴾ جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ذلك فليصمدوا في المعراج التي يتوصلون بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم فينزلوا الوحي إلى من يتصفون وهو غاية التهكم بهم والأمر للتوبيخ والتعجيز قال قتادة ومجاهد أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سببه.
﴿ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ ﴾ : ما هذه للتقليل وجند خبر مبتدأ محذوف أي لهؤلاء الذين يقولون لهذا القول جند قليل، ﴿ مهزوم ﴾ عن قريب صفة لجند وكذا قوله :﴿ من الأحزاب ﴾ أي : من أحزاب الكفار المتخربين على الرسل في القرون الماضية فقهروا وأهلكوا فمن أين لهم التدابير الإلهية والتصرف في الأمور الربانية أو فلا تهتم بما يقولون، قال قتادة أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيهزم جند المشركين وقال :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾ فجاء تأويلها يوم بدر وهنالك إشارة إلى بدر ومصارعهم والظاهر أنه إشارة إلى حيث وضعوا أنفسهم وأتوا بمثل هذا القول العظيم وتكذيبهم إياك.
﴿ كذبت قبلهم ﴾ أي : قبل أهل مكة ﴿ قوم نوح ﴾ تأنيث قوم من حيث المعنى، ﴿ وعاد وفرعون ذو الأوتاد ﴾ : قال ابن عباس ومحمد بن كعب ذو البناء المحكم وقيل أراد الملك السديد الثابت، قال القتيبي تقول هم في العز الثابت الأوتاد يريدون أنه الدائم الشديد : وقال الضحاك ذو القوة والبطش الشديد، وقال عطية ذو الجنود والجموع الكثيرة يعني أنهم كانوا يقومون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء وأيضا سميت الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم وهي رواية عطية عن ابن عباس، وقال الكلبي ومقاتل الأوتاد جمع الوتد وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد وشد كل يد وكل رجل إلى سارية وتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت، وقال مجاهد ومقاتل بن حبان كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ثم يشد يديه ورجليه على الأرض بالأوتاد، وقال السدي كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات، وقال قتادة كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب عليها بين يديه.
﴿ وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة ﴾ أي : أصحاب الغيطة وهم قوم شعيب، ﴿ أولئك الأحزاب ﴾ اللام للعهد أي أولئك الأحزاب الذين مر ذكرهم في قوله :﴿ جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ﴾ : الذين تخربوا على الرسل ومشركو مكة حزب منها.
﴿ إن كل ﴾ أي ما كل حزب منهم فعل شيئا ﴿ إلا كذب الرسل ﴾ بيان لما أسند إليهم من التكذيب على الإبهام مشتملا على أنواع من التأكيد ليكون تسجيلا على استحقاقهم أشد العذاب ولذلك رتب عليه ﴿ فحق عقاب ﴾ أي وجب عليهم وأنزل بهم عذابي الذي يستحق أن يعقب الكفر، قرأ يعقوب عقابي بالياء وصلا ووقفا والباقون بحذفها والاكتفاء على الكسرة، وفي قوله ﴿ كل كذب الرسل ﴾ إما مقابلة الجمع بالجمع أو جعل تكذيب واحد منهم تكذيبا لكلهم لاتحاد كلمتهم.
﴿ وما ينظر ﴾ أي ما ينتظر عطف على قوله وقال الكافرون أو حال ﴿ هؤلاء ﴾ أي كفار قريش ﴿ إلا صيحة واحدة ﴾ أي نفخة الصور يعني لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم حين لا ينفعهم إيمانهم ﴿ ما لها من فواق ﴾ صفة بعد صفة لصيحة، قرأ حمزة والكسائي بضم الفاء والباقون بفتحها وهما لغتان بالفتح لغة قريش وبالضم لغة تميم، قال ابن عباس وقتادة ومعناه من رجوع، وقال مجاهد نظرة وقال الضحاك أي صرف وقال الفراء وأبو عبيدة بالفتح بمعنى الراحة والإفاقة كالجواب بمعنى الإجابة وذهب إلى إفاقة المريض من غلبة المرض، وبالضم ما بين الحلبتين وهي تحلب ناقة وتترك ساعة حتى يجتمع اللبن في الضرع بين الحلبتين يعني مالها مهلة مقدار ما بين الحلبتين قيل هما مستعاران من الرجوع لأن اللبن يعود إلى الضرع بين الحلبتين وإفاقة المريض رجوعه إلى الصحة يعني لا رجوع إلى الدنيا بعد الصيحة أو إذا جاءت الصيحة لم ترد ولم تصرف أولا نظرة قدر ما بين الحلبتين أولا إفاقة ولا راحة حينئذ
قال الكلبي لما نزلت في الحاقة ﴿ فأما من أوتي كتابه بيمينه ﴾ ﴿ وأما من أوتي كتابه بشماله ﴾ قالت كفار مكة استهزاء ربنا عجل لنا قطنا فنزلت ﴿ وقالوا ﴾ عطف على قال الكافرون ﴿ ربنا عجل لنا قطنا ﴾ والقط هي الصحيفة التي أحصت كل شيء كذا قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني عجل لنا كتابنا في الدنيا ﴿ قبل يوم الحساب ﴾ وروى عن سعيد بن جبير أنه قال يعنون عجل لنا حظنا ونصيبنا من الجنة التي يقول محمد، وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي يعنون عقوبتنا ونصيبنا من العذاب، وقال عطاء هذا ما قاله النضر بن الحارث ﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ وعن مجاهد قال قطنا حسابنا.
﴿ اصبر على ما يقولون ﴾ استهزاء وتكذيبا جملة مستأنفة وعطف عليه قوله ﴿ واذكر عبدنا داوود ﴾ فإن ذكر الأنبياء يقتضي الصبر على ما يكرهه الطبع وحبس النفس على الطاعة وعن المعصية ﴿ ذا الأيد ﴾ أي ذا القوة والبطش الشديد على الطاعة ﴿ إنه أواب ﴾ أي رجاع إلى الله عما سواه وإلى الطاعة عن المعصية، قال ابن عباس أي مطيع، وقال سعيد بن جبير المسبح بلغة الحبش، وهو تعليل للأيد دليل على أن المراد به القوة في الدين.
روى الشيخان في الصحيحين وأحمد والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام السدس الأخير من الليل ".
﴿ إنا سخرنا الجبال معه ﴾ جملة سخرنا إلى قوله بيان لكرامة داود عليه السلام عند الله فكأنه بدل اشتمال لداود أي اذكر كرامة داود عند الله حيث سخرنا له الجبال إلى آخره ﴿ يسبحن ﴾ حال وضع موضع مسبحات لاستحضار الحال الماضية والدلالة على تجدد التسبيح منه حالا بعد حال ﴿ بالعشي والإشراق ﴾ قال الكلبي غدوة وعشيا والإشراق هو أن تشرق ويتناهى ضوءها وفسره ابن عباس بصلاة الضحى، روى البغوي بسنده عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال كنت أومن بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علينا فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى فقال :" يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق " وأخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه وأخرج ابن جرير والحاكم عن عبد الله بن الحرث عن ابن عباس أنه قال، ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية وأخرجه سعيد بن منصور
﴿ والطير ﴾ عطف على الجبال يعني سخرنا ﴿ محشورة ﴾ أي مجتمعة إليه من كل جانب تسبح معه ﴿ كل ﴾ أي كل واحد من الجبال والطير ﴿ له أواب ﴾ أي رجاع إلى التسبيح بتسبيحه، والفرق بينه وبين ما قبله أنه يدل على الموافقة في التسبيح وهذا على المداومة عليها أو المعنى كل واحد من داود والجبال والطير له أي لله تعالى أواب.
﴿ وشددنا ملكه ﴾ أي قويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود، قال البغوي قال ابن عباس كان داود أشد ملوك الأرض سلطانا يحرس محرابه كل ليلة ست وثلاثون ألف رجل، روى البغوي عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود أن هذا غضبني بقرا فسأله داود فجحد وسأله الآخر البينة ولم تكن له بينة فقال لهما داود قوما حتى أنظر في أمركما فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه فقال هذه رؤيا ولست أعجل حتى أثبت فأوحى إليه مرة أخرى فلم يفعل، فأوحى إليه الثالثة أن يقتله أو يأتيه العقوبة فأرسل داود إليه فقال إن الله أوحى إلي أن أقتلك قال تقتلني بغير بينة ؟ قال نعم والله لأنفذن أمر الله فيك، فلما عرف الرجل أنه قاتله قال لا تعجل حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فلذلك أخذت فأمر به داود فقتله فاشتدت هيبته في بني إسرائيل عند ذلك لداود واشتد به ملكه، وكذا روى عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ﴿ وآتيناه الحكمة ﴾ أي النبوة وكمال العلم وإتقان العمل ﴿ وفصل الخطاب ﴾ قال البغوي قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به، قال ويروى ذلك عن أبي بن كعب قال فصل الخطاب الشهود والإيمان وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح، وقال قال ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل هو البصيرة في القضاء وقال قال ابن عباس هو بيان الكلام يعني الكلام الذي يظهر به المقصود على المخاطب من غير التباس يراعى فيه الفصل والوصل والعطف والاستئناف والإضمار والإظهار والحذف والتكرار ونحوها على ما بين في علم البلاغة ولا يكون فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء في حديث أم معبد الذي ذكرناه في سورة التوبة في قصة الهجرة في تفسير قوله تعالى :﴿ فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ﴾١ في وصف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل لا نزر ولا هذر أي لا قليل مخل ولا كثير ممد، وروي عن الشعبي أن فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه أما بعد إذا أراد الشروع في كلام، قال البيضاوي إنما سمي به أما بعد لأنه يفصل المقصود عما سبق مقدمة له من الحمد والصلاة.
١ سورة التوبة، الآية: ٤٠..
﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ﴾ استفهام ومعناه التعجب والتشويق إلى استماع القصة والجملة معطوفة على اذكر، والخصم في الأصل مصدر ولذلك يصلح للإطلاق على المثني والمجموع والمراد ههنا متخاصمان وإنما أورد صيغة الجمع في قوله تعالى :﴿ إذ تسوروا ﴾ مجازا كما في قوله تعالى :﴿ فقد صغت قلوبكما ﴾ وهو تفعل من السور كتسنم من السنام ومعناه إذ تصعدوا ﴿ المحراب ﴾ أي القلعة سمي محرابا لأنه يحرب عليه أو المراد به المسجد لما أنه يحرب فيه من الشيطان، وجاز أن يكونا جماعة كما يدل عليه الصيغة وضمائر الجمع، وإذ متعلق بمحذوف أي نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا أو بالنبأ على أن المراد به الواقع في عهد داود وأن إسناد أتى إليه على حذف المضاف أي قصة نبأ الخصم أو بالخصم لما فيه من معنى الفعل لا يأتي لأن إتيانه الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن حينئذ، وهذه امتحان داود عليه السلام، قال البغوي : اختلف العلماء في سببه ؟ فقال قوم سبب ذلك أنه عليه السلام تمنى يوما من الأيام منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسأل ربه أن يمتحنه كما امتحنهم ويعطيه من الفضل ما أعطاهم، فروى السدي والكلبي ومقاتل عن أشياخهم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا كان داود قسم الدهر ثلاثة أقسام يوم يقضي بين الناس ويوم يخلو فيه لعبادة ربه ويوم لنسائه وأشغاله، قلت : وأخرج عبد بن حميد وابن جير وابن المنذر عن الحسن أنه جز الدهر أربعة أجزاء فزاد ويوم للوعظ، قالوا وكان داود يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال يا رب أرى الخير كله قد ذهب به أبائي الذين كانوا من قبلي فأوحى الله إليه أنهم ابتلوا ببلايا لنم تبتل بها فصبروا عليها ابتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ابنه وابتلى إسحاق بالذبح وبذهاب بصره وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف، فقال يا رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم لصبرت أيضا فأوحى الله إليه إنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا فاحترس، فلما كان ذلك اليوم الذي وعده الله دخل داود محرابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن وقيل جناحاه من الدر والزبرجد فوقفت بين رجليه فأعجبه حسنها فمد يده ليأخذها فيريها بني إسرائيل فينظروا إلى قدرة الله تعالى فلما قصد أخذها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة فذهب ليأخذها فطارت من الكوة فنظر داود أين تقع فيبعث من يصيدها، فأبصر امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل هذا قول الكلبي، وقال السدي رآها تغتسل على سطح لها فرأى امرأة من أجمل النساء خلقا فعجب داود من حسنها وحانت منها إلتفاته فأبصرت ظلة فنقضت شعرها فغطت بدنها فزاده ذلك عجبا فسأل عنها فقيل هي تشائع بنت شائع امرأة أوريا بن حنانا وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود عليه السلام فذكر بعضهم أنه أحب أن يقتل أوريا ويتزوج امرأته فكان ذنبه هذا القدر.
وذكر بعضهم أنه كتب داود إلى ابن أخته أيوب أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وقدمه قبل التابوت وكان من قدم التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد وقدمه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أيضا أن أبعثه إلى عدو كذا وكذا فبعثه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أيضا أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأسا فبعثه فقتل في المرة الثالثة، فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود فهي أم سليمان عليهما السلام، قال البغوي وعن ابن مسعود أنه قال كان في ذنب داود أنه التمس من الرجل أن ينزل عن امرأته قال أهل التفسير كان ذلك مباحا لهم غير أن الله لم يرض له ذلك لأنه كان رغبة في الدنيا وازدياد النساء وقد أغناهم الله عنها بما أعطاه من غيرها، قال البغوي وروى عن الحسن أنه كان جزأ الدهر أربعة أجزاء كما ذكر عبد بن حميد وغيره وزاد فلما كان يوم وعظ بني إسرائيل يذكرهم ويذاكرونه ويبكيهم ويبكونه فقالوا هل يأتي على إنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك وقيل أنهم ذكروا فتنة النساء فأضمر داود في نفسه أنه ابتلي اعتصم فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه وأمر أن لا يدخل عليه أحد وأكب على التوراة فبينا هو يقرأ إذ دخلت عليه حمامة من ذهب كما ذكرنا، قال وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا مكانا إذا سار إليه قتل ففعل فأصيب فتزوج امرأته، قال فلما دخل داود بامرأة أوريا لم يلبس إلا يسيرا حتى بعث الله إليه ملكين في صورة رجلين يوم عبادته فطلبا أن يدخلا عليه فمنعهما الحرس فتسوروا المحراب عليه فما شعر وهو يصلي إلا وهما بين يديه جالسين يقال كانا جبرئيل وميكائيل عليهما السلام.
﴿ إذ دخلوا على داود ﴾ بدل من قوله إذ تسوروا ﴿ ففزع منهم ﴾ أي خاف داود من الخصم لأنهما نزلا عليه من فوق في يوم الاحتجاب والحرس على الباب لا يتركون من دخل عليه ﴿ قالوا لا تخف خصمان ﴾ أي نحن متخاصمان ﴿ بغى بعضنا على بعض ﴾ هذا الكلام على الفرض وقصد التعريض كأنهم قالوا إن كنا خصمين بعني بعضنا على بعض ﴿ فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط ﴾ أي لا تجر يقال شط الرجل شططا وأشط أشطاطا إذا جار في حكمه والمعنى مجاوزة الحد، وأصل الكلمة من شطت الدار وأشطت إذا بعدت ﴿ واهدنا إلى سواء الصراط ﴾ سواء مصدر بمعنى الفاعل صفة للصراط أضيف إليه على طريقة أخلاق ثياب يعني اهدنا إلى طريق مستوى أي وسطه وهو العدل.
﴿ إن هذا أخي ﴾ أي على ديني وطريقي ﴿ له تسع وتسعون نعجة ﴾ أي امرأة العرب تكنى المرأة بالنعجة، وقال الحسن بن الفضل هذا تعريض للتنبيه والتفهيم إذ لم يكن هناك نعاج، والجملة الظرفية خبر بعد خبر لأن ﴿ ولي ﴾ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ نعجة واحدة ﴾ الجملة الظرفية منصوب على الحال والعامل فيه الظرف السابق ﴿ فقال ﴾ عطف على قوله :﴿ له تسع وتسعون نعجة ﴾ ﴿ أكفلنيها ﴾ قال ابن عباس أعطينها، وقال مجاهد انزل لي عنها يعني طلقها لأتزوجها وحقيقته ضمها إلي واجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، وقيل معناه اجعلها كفلي ونصيبي ﴿ وعزني في الخطاب ﴾ عطف على قال معناه غلبني في المخاطبة إياي محاجة، قال الضحاك يعني إن تكلم كان أفصح مني وإن حارب كان أبطش مني فالغلبة له لضعفي في يده وإن كان الحق معي، وقيل معناه غلبني في خطبة المرأة أي خطبت المرأة وخطبها هو على خطبتي فغلبني حتى تزوجها
﴿ قال ﴾ داود بعد اعتراف صاحبه بذلك ﴿ لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ﴾ وقيل معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك، والجملة جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة أي ظلمك بسؤال أن يضيف نعجتك إلى نعاجه ﴿ وإن كثيرا من الخلطاء ﴾ أي الشركاء الذين خلطوا أموالهم جمع خليط ﴿ ليبغي ﴾ أي ليظلم ﴿ بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ فإنهم لا يظلمون أحدا جملة وإن كثيرا عطف على لقد ظلمك ﴿ وقليل ما هم ﴾ أي وهم قليل وما مزيدة للإبهام والتعجب من قلتهم، فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك وصعدا في السماء ﴿ وظن داود ﴾ أي علم وأيقن عطف على ﴿ قال لقد ظلمك ﴾ ﴿ أنما فتناه ﴾ يعني أن الله ابتلاه وامتحنه بتلك الحكومة هل يتنبه بها أم لا.
قال السدي بإسناده إن أحدهما لما قال :﴿ إن هذا أخي ﴾ الآية قال داود للآخر ما تقول فقال إن لي تسع وتسعون نعجة ولأخي نعجة واحدة وأنا أريد أن آخذها منه فأكمل نعاجي مائة وهو كاره، قال إذا لا ندعك فإن رمت ذلك ضربت هذا وهذا وهذا يعني طرف الأنف وأصله والجبهة، فقال يا داود أنت أحق بذلك حيث لم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة ولك تسع وتسعون امرأة،
فلم تزل تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته فنظر داود فلم ير أحدا فعرف ما وقع فيه، وقال القائلون بتنزيه الأنبياء في هذه القصة أن ذنب داود إنما كان أنه تمنى أن يكون امرأة أوريا حلالا له فأتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب فلما بلغ قتله داود لم يجزع عليه كما كان يجزع على غيره من جنده إذا هلك ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك لأن ذنوب الأنبياء ولو صغرت فهي عظيمة عند الله نظرا إلى رفعة شأنهم، وقيل كان ذنب داود أن أوريا كان خطب تلك المرأة وطن نفسه عليها فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت منه لجلالته فاغتم لذلك أوريا فعاتبه الله على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسع وتسعون امرأة، وذكر البغوي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن داود النبي حين نظر إلى المرأة فأهم قطع على بني إسرائيل فأوصى صاحب البعث فقال إذا حضر العدو فقرب فلانا بين يدي التابوت وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة فنزل الملكان يقصان عليه القصة ففطن داود فسجد فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبهته وهو يقول في سجوده رب زل داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب، رب إن لم ترحم ضعف داود ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلوف من بعده، فجاءه جبرئيل من بعد أربعين ليلة فقال يا داود إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به فقال داود إن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به وقد عرفت أن الله عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال رب دمي الذي عند داود فقال جبرئيل ما سألت ربك عن ذلك وإن شئت لأفعلن، قال نعم فعرج جبرئيل وسجد داود فمكث ما شاء الله ثم نزل فقال، سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب لي دمك الذي عند داود ويقول هولك يا رب فيقول إن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضا عنه.
وروي عن ابن عباس وعن كعب الأحبار ووهب بن منبه قالوا جميعا إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه فتحولا عن صورتيهما فعرجا وهما يقولان قضى الرجل على نفسه، وعلم داود أنه إنما عني به فخر ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجدا تمام أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة، وكان من دعائه في سجوده سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء سبحان خالق النور سبحان الحائل بين القلوب سبحان خالق النور إلهي أنت خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي سبحان خالق النور إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء فيقال هذا داود الخاطئ سبحان خالق النور إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي سبحان خالق النور إلهي بأي قدم أمشي أمامك وأقوم بين يديك يوم تزول أقدام الخاطئين سبحان خالق النور إلهي من أين يطلب العبد المغفرة إلا من عند سيده سبحان خالق النور إلهي أنا الذي لا أطيق حر فكيف أطيق حر نارك، سبحان خالق النور إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم، سبحان خالق النور إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب، سبحان خالق النور إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري سبحان خالق النور، إلهي برحمتك اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواي، سبحان خالق النور إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني سبحان خالق النور إلهي فررت إليك بذنوب واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين سبحان خالق النور. قال مجاهد فمكث داود أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتى غطى رأسه فنودي يا داود أجائع فتطعم أو ظمآن فتسقى أو عار فتكسى فأجيب في غير ما طلب قال فنحب نحبة هاج لها العود فاحترق من حر جوفه ثم أنزل الله له التوبة والمغفرة، قال وهب إن داود أتاه نداء أني قد غفرت لك قال يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا قال اذهب إلى قبر أوريا فناده فأنا أسمعه نداءك فتحلل منه، قال فانطلق وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبر أوريا ثم ناداه فقال لبيك من هذا الذي قطع عني لذتي وأيقظني ؟ قال أنا داود، قال ما جاء بك يا نبي الله قال أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك قال وما كان منك إلي قال عرضتك للقتل، قال قد عرضتني للجنة فأنت في حل فأوحى الله إلى داود يا داود ألم تعلم أني حكم عدل لا أقضي بالتعنت ألا أعلمته أنك قد تزوجت امرأته، قال فرجع إليه فناداه فأجابه فقال من هذا الذي قطع عني لذتي قال أنا داود قال نبي الله أليس قد عفوت عنك ؟ قال نعم ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها قال فسكت ولم يجبه ودعاه فلم يجبه عاوده فلم يجبه فقام عن قبره وجعل يحثوا التراب على رأسه ثم نادى الويل لداود ثم الويل لداود ثم الويل الطويل لداود، سبحان خالق النور والويل لداود إذا نصب الموازين بالقسط سبحان خالق النور الويل لداود، ثم الويل الطويل لداود حين يؤخذ بذقنه فيدفع إلى المظلوم سبحان خالق النور الويل لداود ثم الويل الطويل لداود حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار سبحان خالق النور، فأتاه نداء من السماء يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت على بكائك واستجبت دعائك وأقلت عثرتك، قال يا رب كيف وصاحبي لم يعف عني ؟ قال يا داود أعطيه من الثواب يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم يسمع أذناه فأقول له رضيت عن عبدي داود فيقول يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي ؟ فأقول هذا عوض عن عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي، قال يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي فذلك قوله عز وجل ﴿ فاستغفر ربه ﴾ لذنبه ﴿ وخر راكعا ﴾ أي ساجدا على تسمية السجود ركوعا لأنه مبدؤه، وقيل معناه خر أي سجد بعدما كان راكعا كأنه أحرم بركعتي الاستغفار فسجد في الصلاة ﴿ وأناب ﴾ أي رجع إلى الله بالتوبة، واستدلت الحنفية لهذه الآية على أنه من قرأ آية السجدة وركع على الفور بنية سجود التلاوة أجزأه لأن الله سبحانه قال ﴿ خر راكعا ﴾ أطلق الركوع على السجود فعلم منه أن المقصود هو التعظيم لا خصوصية السجود ومعنى التعظيم فيهما واحد والحاجة إلى تعظيم الله تعالى إما اقتداء بمن عظم أو مخالفة لمن استكبر وهذا هو الظاهر، فلهذا سمي قياسا، وقالت الأئمة الثلاثة لعدم إجزاء الركوع عن السجود وهو الاستحسان، وجه الاستحسان أن الواجب التعظيم بجهة مخصوصة وهي السجود بدليل أنه لو لم يركع على الفور حتى طاعت القراءة ثم نوى أن يقع الركوع عن السجدة لا يجوز إجماعا وتسمية السجود بالركوع في هذه الآية غير مسلم ولو سلم فهو مجاز محض وذلك لا يقتضي قيام أحدهما مقام الآخر، واختار أبو حنيفة رحمه الله هاهنا القياس على الاستحسان لقوة تأثيره وذلك باعتقاده بما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كانا أجاز أن يركع عن السجود في الصلاة ولم يرو من غيرهما خلاف ذلك ولا ترجيح للقياس الخفي بخفائه ولا للظاهر بظهوره بل يرجع في الترجيح إلى ما اقترن بهما من المعاني وقوة القياس الظاهر المتبادر بالنسبة إلى الخفي المعارض له في غاية العلة فلذا حصروا مواضع تقديم القياس على الاستحسان في بضع عشر موضعا يعرف في الأصول هذا أحدهما ولا حصر لمقابلة.
مسألة :
ولو ركع على فور تلاوة آية السجدة ولم ينو للتلاوة ثم سجد سقط سجدة التلاوة بالسجدة الصلاتية نوى أولم ينو وكذا لو قرأ بعد آية السجدة أو آيتين عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا للجمهور، وفي ثلاث آيات اختلفت الرواية عن أبي حنيفة وفيما زاد على الثلاث لا ينوبه ركوع ولا سجدة صلاتية سواء نوى أولم ينو.
مسألة :
ويجب عليه قضاء سجدة التلاوة ما دام في الصلاة عند أبي حنيفة رحمه الله كذا قال جمهور الحنفية وظن محمد بن سلمة أن قيام السجدة الصلبية مقام سجدة التلاوة قياس، وفي الاستحسان لا يجوز، لأن السجدة الصلاتية قائم مقام نفسها فلا يقوم مقام غيرها كصوم يوم من رمضان لا يجوز أن يقوم عن نفسه وعن قضاء يوم آخر فالقياس فيه مقدم على الاستحسان وأما قيام الركوع مقام سجدة التلاوة فالقياس يأبى عنه وهو الظاهر وفي الاستحسان يجوز وهو الخفي فهو من باب تقديم الاستحسان على القياس.
مسألة :
يجب السجود على من تلا هذه الآية من ص عند أبي حنيفة رحمه الله وعند مالك سنة كقوله في مطلق سجود التلاوة وكذا عند أحمد في إحدى الروايتين، وقال الشافعي وأحمد في الرواية المشهور عنه أنها سجدة شكر يستحب في غير الصلاة ولا يجوز في الصلاة، احتج ابن الجوزي على أنها ليست من عزائم السجود بحديث ابن عباس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في ص قال ابن عباس وليست من عزائم السجود " رواه ابن الجوزي من طريق الترمذي وقال قال الترمذي هذا حديث صحيح قلت ورواه البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال سجدة ص ليس من عزائم السجود وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها وفي رواية قال مجاهد قلت لابن عباس أأسجد في ص فقرأ ﴿ ومن ذريته داود وسليمان ﴾ حتى أتى على قوله ﴿ فبهداهم اقتده ﴾ فقال نبيكم ممن أمر أن يقتدى بهم، وهذا يقتضي الوجوب فهو حجة لنا لا علينا وقول ابن عباس ليست من عزائم السجود موقوف يعارضه قوله نبيكم صلى الله عليه وسلم أمر أن يقتدى بهم والمرفوع فعله صلى الله عليه وسلم، واحتج ابن الجوزي أيضا بحديث أبي سعيد الخدري قال :" خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما قرأ ص فلما مر بالسجود نزل فسجد وسجدنا معه وقرأها أخرى فلما بلغ السجدة نشرنا للسجود فما رآنا قال إنما هي سجدة توبة نبي ولكني أراكم قد استعددتم للسجود فنزل فسجد وسجدنا ".
رواه ابن الجوزي من طريق الدارقطني وهذا أيضا مما لا حجة علينا فيه غاية ما في الباب أن يكون فيه دلالة على عدم وجوب سجود التلاوة مطلقا كما قال به الجمهور
﴿ فغفرنا له ذلك ﴾ أي استغفر عنه ﴿ وإن له عندنا ﴾ بعد المغفرة ﴿ لزلفى ﴾ أي قربا غير متكيف ومكانة حصلت، بكمال الندم والاستغفار بحيث لولا تلك الزلة لما حصلت وقيل معناه وإن له لزلفى أي زيادة خير في الدنيا ومكانة ﴿ وحسن مئاب ﴾ حسن مرجع ومنقلب في الآخرة.
قلت : والظاهر أن من روى أن داود عليه السلام بعث مرة بعد مرة أوريا إلى المغازي وأراد أن يقتل ليتزوج بعده زوجته فهو كذب مفترى حاشاه عن ذلك وعامة ما يدل عليه لفظ القرآن أنه عليه السلام ود أن يكون له ما لغيره وكان له تسعا وتسعين نعجة من أمثاله فنبهه الله بهذه القضية فاستغفر وأناب عنه، قال صاحب المدارك روي أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته وكان لهم عادة في المواساة بذلك كما كان الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على امرأة أوريا فأحبها فسأله النزول له عنها واستحيى أوريا أن يرد قوله ففعل فتزوجها، قلت ولم يفعل داود عليه السلام مثل ما فعل نبينا صلى الله عليه وسلم حين أعجبته زينب حيث قال لزيد ﴿ أمسك عليك زوجك واتق الله ﴾ فزوجها الله إياه ولأجل ذلك عاتب الله داود عليه السلام فاستغفر ربه وأناب ولفظ القرآن يؤيد هذه الرواية حيث أدعى المدعي بقوله :﴿ قال أكفلنيها وعزني في الخطاب ﴾ ولم يقل أراد قتلي وحكم داود بأنه قد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه والله أعلم.
قال البغوي قال وهب بن منبه إن داود لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة ولا يرقأ أدمعه ليلا ولا نهارا وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام يوم للقضاء بين بني إسرائيل ويوم لنسائه ويوم يسبح في الفيافي والجبال ويوم يخلو في داره فيها أربعة آلاف محراب فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه فيساعدونه على ذلك فإذا كان يوم سياحتهم يخرج في الفيافي ويرفع صوته بالمزامير فيبكي ويبكي معه الجبال والحجارة والدواب والطير حتى يسيل أودية من بكائهم ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكي ويبكي معه الحيتان ودواب البحر وطير الماء، والسباع فإذا أمسى رجع فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه أن اليوم نوح داود على نفسه فليحضر من يساعده فيدخل الدار التي فيها المحاريب فبسط ثلاث فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها ويجيء أربعة ألاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصا فيجلسون في تلك المحاريب ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه ويرفع الرهبان معه أصواتهم فلا يزال يبكي حتى يغرق الفرش من دموعه ويقع داود فيها مثل الفرخ ويضطرب فيجيء ابنه سليمان عليهما السلام فيحمله فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ثم يمسح وجهه، ويقول يا رب اغفر لي ما ترى فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله، قال وهب ما رفع داود رأسه حتى قال له ملك أول أمرك ذنب وآخره مغفرة ارفع رأسك فرفع رأسه فمكث حياته لا يشرب ماء إلا مزجه بدموعه ولا يأكل الطعام إلا بله بدموعه، وذكر الأوزاعي مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن مثل عيني داود كالقربتين تنقطان ماء ولقد خدعت الدموع في وجهه كخديد الماء في الأرض " قال وهب لما تاب الله على داود قال يا رب غفرت لي فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فاستغفر منها وللخاطئين إلى يوم القيامة قال فرسم الله خطيئته في يده اليمنى فما رفع فيها طعاما ولا شرابا إلا بكى إذا رآها وما كان خطيبا للناس إلا بسط راحته فاستقبل الناس ليروا رسم خطيئته وكان يبدأ إذا دعا فاستغفر للخاطئين قبل نفسه، وقال قتادة عن الحسن كان داود بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين يقول تعالوا إلى داود الخاطئ ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قطعة فلا يزال يبكي حتى يبل بدموع عينيه وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول هذا أكل الخاطئين، قال وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر فلما كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله وقام الليل كله، وقال ثابت كان داود إذا ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله فلا يشدها إلا الأسى وإذا ذكر رحمة الله تراجعت، وفي القصة أن الوحوش والطير كانت تستمع إلى قراءته فلما فعل ما فعل كانت لا تصغي إلى قراءته فروي أنها قالت يا داود ذهبت خطيئتك بحلاوة صوتك.
﴿ يا داود ﴾ تقديره وقلنا يا داود معطوف على قوله :﴿ فغفرنا له ذلك ﴾ ﴿ إنا جعلناك خليفة في الأرض ﴾ استخلفناك على الملك أو جعلناك حليفة ممن قبلك من الأنبياء العالمين بالحق ﴿ فاحكم ﴾ الفاء للسببية ﴿ بين الناس بالحق ﴾ أي بحكم الله ﴿ ولا تتبع الهوى ﴾ عطف على فاحكم أي لا تتبع ما يهويه نفسك ﴿ فيضلك ﴾ منصوب في جواب النهي ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي عن دلائله التي نصبها الله على الحق، فيه دليل على أنه من اتبع هواه اختل رأيه وضل في اجتهاده كما ترى في اثنين وسبعين فرقة ممن يدعي الإسلام ﴿ إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ﴾ أي بسبب نسيانهم يوم الحساب فإن تذكر ذلك اليوم يقتضي ملازمته ومخالفة الهوى والجملة مستأنفة.
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ﴾ لا حكمة فيه أو ذوي باطل يعني مبطلين عابثين أو للباطل الذي هو متابعة الهوى بل للحق الذي هو الاستدلال على وجود الصانع وشكر نعمته بامتثال أوامره وانتهاء مناهيه جملة معترضة وكذلك قوله ﴿ ذلك ظن الذين كفروا ﴾ حيث ينكرون البعث وينكرون ثواب المطيع لمن خلق وعذاب العاصي وذلك يقتضي كون خلقها عبثا لا حكمة فيه ﴿ فويل ﴾ التنكير للتعظيم والفاء للسببية ﴿ للذين كفروا ﴾ وضع المظهر موضع الضمير للذم والتقبيح ﴿ من النار ﴾ من للسببية
﴿ أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ﴾ أم منقطعة بمعنى بل والهمزة لإنكار التسوية بين الفريقين التي هي من لوازم خلقها باطلا ليدل على نفيه، وبل للإضراب عما سبق من ظن بطلان خلق السماوات والأرض وكذا التي في قوله ﴿ أم نجعل المتقين كالفجار ﴾ أنكر أولا التسوية بين المؤمنين والكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين والمجرمين منهم ويجوز أن يكون تكريرا للإنكار الأول باعتبار الوصفين الأخيرين المانعين التسوية من الحكيم، وهذه الآية برهان عقلي تدل على وجوب القول بالحشر إذ لا تفاضل بينهما في الدنيا غالبا بل الغالب فيها عكس ما يقتضيه الحكمة، فلا بد أن يكون لهم محلا آخر يجاوز فيها.
وقال مقاتل قال كفار قريش إنا نعطي في الآخرة من الخير ما تعطون فنزلت هذه الآية ﴿ كتاب ﴾ أي هذا القرآن كتاب من الله ﴿ أنزلناه إليك مباركا ﴾ كثير خير ومنفعة ﴿ ليدبروا آياته ﴾ أي ليتفكروا فيها يعني تتفكر أنت وعلماء أمتك فيعرفوا ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني المستنبطة أو يتفكر كل من له عقل فيعلم أنه من الله ولا يتصور إتيانه من البشر، قال الحسن تدبر آياته أتباعها ﴿ وليتذكر أولوا الألباب ﴾ أي ليتعظ به ذوي العقول السليمة أو يستحضروا ما هو المركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل فإن الكتب الإلهية بيان لما لا يعرف إلا من الشرع وإرشاد إلى ما لا يستقل به العقل ولعل التدبر للمعلوم الأول والتذكر للثاني.
﴿ ووهبنا ﴾ عطف على قوله ﴿ فغفرنا له ﴾ وما بينهما معترضات ﴿ لداود ﴾ سليمان ﴿ نعم العبد ﴾ سليمان ﴿ إنه أواب ﴾ تعليل للمدح لأنه رجاع إلى الله تعالى بالتوبة أو إلى التسبيح مرجع له.
﴿ إذ عرض عليه ﴾ ظرف لأواب أو لنعم والضمير لسليمان ﴿ بالعشي ﴾ أي في العشي، يعني بعد الظهر ﴿ والصافنات الجياد ﴾ الصافن من الخيل الذي يقوم على ثلاثة قوائم وطرف حافر الرابع وهي من الصفات المحمودة في الخيل، والجياد جمع جواد أو جود وهو الذي يسرع في جريه وقيل جمع جيد.
قال ابن عباس يريد الخيل السوابق قيل وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية أعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها وإذا سارت كانت خفافا سراعا، قال الكلبي غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين وأصاب منهم ألف فرس، وقال مقاتل ورث سليمان من أبيه ألف فرس ويرد هذا القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة ".
أخرج عبد بن حميد والفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي قال كانت عشرين فرس ذات أجنحة فعقرها، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عوف عن الحسن قال بلغني أن الخيل التي عقر سليمان وكانت خيلا ذوات أجنحة أخرجت له من البحر لم يكن لأحد قبله ولا بعده، وذكر البغوي عن عكرمة قال كانت عشرين ألف فرس لها أجنحة وقالوا فصلى سليمان صلاة الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه فعرضت عليه تسع مائة فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة ولم يعلم بذلك هيبة له فأغتم لذلك.
﴿ فقال إني أحببت ﴾ عطف على جمل محذوفة تقديره إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فاشتغل به، حتى فاته العصر فقال إني أحببت ﴿ حب الخير عن ذكر ربي ﴾ أي آثرت حب الخير أي المال الكثير المراد به الخيل التي شغله أو أطلق الخير على الخيل لأن العرب تعاقب بين اللام والراء فيقول ختلت الرجل خترته أي خدعته وقيل سميت الخيل خيرا لأنه معقود في نواصيها الخير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم " روى هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما عن عدة من الصحابة، وكان الأصل أن يعدى أحببت بمعنى أثرت بعلى لكن لما أنيت مناب أنبت عدي بمن.
وقيل أحببت بمعنى تقاعدت وحب الخير منصوب على العلية والمعنى تقاعدت لحب الخير، في القاموس أحب البقر بركة فلم يثر ﴿ حتى توارت ﴾ أي الشمس أضمرت من غير ذكرها لدلالة العشي عليها ﴿ بالحجاب ﴾ أي غربت واستترت بما يحجبها عن الإبصار، قال البغوي يقال الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة والشمس تغرب من ورائه
﴿ ردوها علي ﴾ بتقدير القول عطف على ﴿ قال إني أحببت ﴾ وقال ردوها أي الصافنات علي فردوها عليه ﴿ فطفق ﴾ أي أخذ عطف على قال ردوها علي ﴿ مسحا ﴾ أي يمسح السيف مسحا ﴿ بالسوق والأعناق ﴾ أي بسوقها وأعناقها يعني قطعها من قولهم مسح علاوته إذا ضرب عنقه.
هذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل وأكثر المفسرين أخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال عقرها بالسيف وأخرج الطبراني في الأوسط والإسماعيلي في معجمه وابن مردويه بسند حسن عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" قطع سوقها وأعناقها بالسيف وكان ذلك بإذن الله تعالى توبة عما غفل من ذكره وتقربا إليه وطلبا لمرضاته " قال الحسن فلما عقر الخيل أبدله الله خيرا منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره، وقال بعض المفسرين أنه ذبحها وتصدق بلحومها وكان لحوم الخيل حلالا كما هو في شريعتنا عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة فأنه قال يكره، وقال قوم معناه أنه حبسها في سبيل الله وكوى سوقها وأعناقها بكي الصدقة، وقال البغوي حكي عن علي كرم الله وجهه في قوله :﴿ ردوها علي ﴾ يقول سليمان بأمر الله تعالى للملائكة الموكلين بالشمس ردوها أي الشمس علي فردوها عليه حتى صلى العصر في وقتها وذلك أنه كان يعرض عليه الخيل للجهاد في سبيل الله ﴿ حتى توارت بالحجاب ﴾ وقال الزهري وابن كيسان يمسح سوقها وأعناقها بيده يكشف الغبار عنها حبا لها وشفقة عليها، قال البغوي هذا قول ضعيف والمشهور هو الأول، قلت : ويأبى عن هذا القول ما قال سليمان تأسفا ﴿ إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ﴾.
﴿ ولقد فتنا ﴾ أي اختبرنا وابتلينا سليمان جواب قسم محذوف عطف على وهبنا ﴿ وألقينا على كرسيه جسدا ﴾ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنه قال لأطوفن الليلة على تسع وتسعين امرأة " وفي رواية " بمائة امرأة كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له الملك إن شاء الله فلم يقل ونسي فطاف عليهن فلم تحمل منهم إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون " متفق عليه، قيل فجاءت القابلة بذلك الشق فألقت على كرسيه، فذلك قوله تعالى :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ﴾ ﴿ ثم أناب ﴾ أي رجع عن ترك الاستثناء في المستقبل كذا قال طاووس، وهذا التأويل أولى الأقاويل لقوة حديث الصحيحين، والقول بتنزيه الأنبياء عن السوء ولأن الجسد جسم لا روح فيه فيصدق على هذا التأويل بلا تمحل، وأخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي هريرة أنه قال ولد لسليمان ابن فقالت الشياطين إن عاش لم ننفك من السخرة فسبيلنا أن نقتله أو نخبله فعلم ذلك سليمان فكان يقوده في السحاب خوفا من غرة الشياطين فما شعر به إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فتنة على زلته في أن لم يتوكل فيه على ربه.
وقال البغوي : ذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه قال سمع سليمان عليه السلام بمدينة في جزيرة البحر يقال لها صيدون بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر وكان الله قد أتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر إنما يركب إليه الريح فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها واستفاء ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها جرادة لم يروا مثلها حسنا وجمالا واصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وأحبها حبا شديدا لم يحب شيئا من نسائه وكانت على منزلتها عنده ولا تذهب حزنها ولا يرقى دمعها : فشق ذلك سليمان فقال لها ويحك ما هذا الحزن الذي لا تذهب والدمع الذي لا يرقى قالت إن أبي أذكره واذكر ملكه وما كان فيه وما أصاب به فيحزنني ذلك، قال سليمان فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه وسلطانا هو أعظم من سلطانه وهداك الإسلام وهو خير من ذلك كله.
قالت ذلك كذلك ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في دار التي أنا فيها وأراها بكرة وعشيا لرجوت أن يذهب ذلك حزني وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي فأمر سليمان الشياطين فقالوا مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا ينكر منها شيئا فماثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه فعمدت إليه حين صنعوه فاردته وقمصته وعممته بمثل ثيابه التي كان يلبسها، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له ويسجدون له كما كانت تصنع في ملكه وتروح عشية بمثل ذلك، وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحا فبلغ ذلك آصف بن برضيا وكان صديقا وكان لا يرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل حاضرا كان سليمان أو غائبا فأتاه فقال يا نبي الله كبر سني ورق عظمي ونفذ عمري وقد حان مني الذهاب فقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم فقال افعل.
فجمع له سليمان الناس فقام فيهم خطيبا فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى وأثني على كل نبي بما فيه فذكر ما فضله الله حتى انتهى إلى سليمان فقال ما أحلمك في صغرك وأودعك في صغرك وأفضلك في صغرك وأحكم أمرك في صغرك وأبعدك عن كل ما تكره في صغرك ثم انصرف فوجد سليمان في نفسه من ذلك شيئا حتى ملأه غضبا، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه فقال يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله فأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم فلما ذكرتني جعلت تثني علي الخير في صغري وسكت عما سواي ذلك من أمري في كبري فما الذي أحدثت في آخر أمري ؟ فقال إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة فقال في داري فقال في دارك فقال : إنا لله وإن إليه راجعون لقد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك ثم رجع سليمان إلى داره وكسر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها ثم أمر شاب الطهارة، فأتى بثياب لا يغزلها إلا الأبكار ولا ينسجها إلا الأبكار ولا تغسلها إلا الأبكار ولم تمسها امرأة قد رأت الدم ثم لبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده فأمر برماد ففرش له ثم أقبل تائبا إلى الله حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللا لله وتضرعا إليه يبكي ويدعو ويستغفر منها كان هو في داره فلم يزل كذلك حتى أمسى ثم رجع إلى داره.
وكانت له أم ولد يقال لها الأمينة كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر وكان لا يمس خاتمه إلا وهو طاهر وكان ملكه في خاتمه فوضعه يوما عندها ثم دخل مذهبه، فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة سليمان لا تنكر منه شيئا فقال خاتمي يا أمينة فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان فأتى الأمينة وقد غيرت حاله وهيئته عند كل من رآه فقال يا أمينة خاتمي فقالت من أنت ؟ فقال آنا سليمان بن داود قالت كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته فجعل يقف على الدور من دور بني إسرائيل فيقول أنا سليمان بن داود فيحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان، فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا أمسى باع سمكة بأرغفة وشوى الأخرى فمكث على ذلك أربعين صباحا عدة ما كان عبد الوثن في داره، فأنكر آصف وعلماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين فقال آصف يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت ؟ قالوا نعم، قال أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن هل أنكرتن منه في خاصة أمره ما أنكرنا في عامة أمر الناس وعلانيته فدخل على نسائه فقال ويحكن هل أنكرتن من ابن داود ما أنكرنا فقلن أشده ما يدع منا امرأة في دمها ولا يغتسل من الجنابة فقال إنا لله وإنا إليه راجعون إن هذا لهو البلاء المبين ثم خرج على بني إسرائيل فقال ما في الخاصة أعظم مما في العامة، فلما مضى أربعون صباحا طار الشيطان من مجلسه ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه وأعطاه السمكة التي أخذت الخاتم وخرج سليمان بسمكتيه فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه في جوفها فأخذه فجعله في يده ووقع ساجدا وعكفت عليه الطير والجن وأقبل عليه الإنس وعرف أن الذي كان قد دخل عليه لما كان أحدث في داره فرجع ملكه وظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين فقال أتوني بصخر فطلبته الشياطين حتى أخذ أخذته فأتي به فحاب له صخرة فأدخله فيها ثم شد عليه أخرى، ثم أوثقها ثم بالحديد والرصاص ثم أمر فقذف في البحر هذا حديث وهب.
وقال السدي : كان سبب قصة سليمان أنه كان له مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة هي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان يأتمنها على خاتمه إذا حاجته، فقالت له يوما إن أخي بينه وبين فلان خصمونة وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك، فقال نعم ولم يفعل فابتلي بقوله فأعطاها خاتمه ودخل المخرج فجاء الشيطان في صورته فأخذه وجلس على مجلس سليمان وخرج سليمان فسألها خاتمه فقالت ألم تأخذه ؟ قال لا وخرج منه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما فأنكر الناس حكمه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم حتى دخلوا على نسائه فقالوا إنا أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله فبكى النساء عند ذلك، فأقبلوا حتى أحدقوا به ونشروا التوراة فقرأوها فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت، واقبل سليمان حتى انتهى إلى صياد من صياد البحر وهو جائع قد اشتد جوعه فاستطعمه من صيده وقال إني سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه فجعل يغسل دمه على شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فأعطوه سمكتين مما قد حزر عندهم فشق بطنهما وجعل يغسلهما فوجد خاتمه في بطن إحداهما فلبسه فرد الله عليه ملكه وبهاءه وحامت عليه الطير فعرف القوم أنه سليمان فقاموا يعتذرون مما صنعوا، فقال ما أؤاخذكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم هذا أمر كان لابد منه ثم جاء حتى أتي ملكه وأمر حتى بالشيطان الذي أخذ خاتمه، وجعله في صندوق من حديد ثم أطبق عليه وأقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه وأمر به فألقي في البحر وهو هي كذلك حتى الساعة.
وروي عن سعيد بن المسيب قال احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه إحتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي فابتلاه الله عز وجل وذكر حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما ذكرنا، وقال الحسن ما كان الله ليسلط الشيطان على نسائه إنتهى كلام البغوي.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وابن جرير عن السدي والنسائي وابن مردويه عن ابن عباس فذكروا القصة نحو حديث وهب بن منبه لكن في بعض الطرق أن صخر الجني لما جلس على سرير سليمان نفذ حكمه في كل شيء إلا فيه وفي نسائه وكذا قال الحسن فيما ذكر البغوي أنه ما كان الله ليسلط الشيطان على نسائه، وقال بعض المفسرين حديث الخاتم والشيطان والوثن في بيت سليمان من أباطيل اليهود لعنهم الله.
وقال البغوي أن في بعض الروايات أن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده وكان فيه لملكه فأعاده سليمان إلى يده فسقط فأيقن سليمان بالفتنة فأتى آصف فقال لسليمان إنك لمفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك في يدك أربعة عشر يوما ففر سليمان إلى سربه وأخذ آصف الخاتم فوضعه في أصبعه فثبت فهو الجسد الذي قال الله تعالى :﴿ وألقينا على كرسيه جسدا ﴾ فأقام آصف في ملكه على سيرته أربعة عشر يوما إلى أن رد الله على سليمان ملكه فجلس على كرسيه فأعاد الخاتم في يده فثبت. قلت : والدليل على بطلان رواية وهب أن في تلك الرواية أنه غزا جزيرة يقال لها صيدون بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر فخرج سليمان إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها جنوده، والقرآن ينطق أن تسخير الريح لسليمان إنما كان بعد تلك الفتنة والإنابة حيث قال الله تعالى :﴿ فسخرنا له الريح ﴾ يعني بعد الفتنة والإنابة وقوله ﴿ رب هب لي ملكا ﴾ إلى آخره، قلت وعلى تقدير صحة تلك القصة لا يلزم سليمان صدور معصية فإن اتخاذ التماثيل كان جائزا وسجود الصورة بغير علمه لا يضره.
﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي ﴾ بيان لإنابة قدم الاستغفار على استيهاب الملك جريا على عادة الأنبياء والصالحين بتقديم الاستغفار على السؤال. قرأ نافع وأبو عمرو من بعدي بفتح الياء والباقون بإسكانها في سياق هذا الكلام دلالة على أن فتنة سليمان إنما كان ابتلاء من الله تعالى إياه لرفع درجاته في الدنيا والآخرة كفتنة أيوب عليه السلام ولم يكن فيها زلة ومعصية من سليمان عليه السلام وإلا لبالغ في الندم والاستغفار ولم يسأل غير المغفرة والتوبة ولقال الله سبحانه ﴿ فغفرنا له ﴾ ذلك كما قال في قصة داود عليه السلام، قال مقاتل وابن كيسان أي لا يكون من بعدي لأحد وقيل معنى من بعدي من سوائي كما في قوله تعالى :﴿ فمن يهديه من بعد الله ﴾ وقال عطاء بن أبي رباح يريد هب لي ملكا لا تسلبنه في آخر عمري وتعطيه غيري كما سلبته آنفا، قيل سأل سليمان ذلك ليكون آية لنبوته ومعجزة له قال مقاتل كان سليمان ملكا ولكنه أراد بقوله : لا ينبغي لأحد من بعدي تسخير الرياح والطير والشياطين بدليل ما بعده، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى ينظر له كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرددته خاسئا " متفق عليه، قلت : ويمكن أنه أراد به لا ينبغي لأحد من بعدي في المرتبة قال ذلك شفقة على الناس يعني من كان مثلي في انقطاع التعلقات عن الخلق واشتغال قلبه بحب الله ومعرفته لا يضره ولا يشغله عن الله شيء فكان له الدنيا وسيلة لكسب الحسنات ومن لم يكن كذلك كانت الدنيا له شاغلا عن الله فكانت له سما قاتلا. فإن قيل الحديث يأبى عما قلت فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلى مرتبة من سليمان ولم يكن يعط ملكا مثله ولذلك لم يربط العفريت بالسارية ؟ قلنا نعم إنه صلى الله عليه وسلم كن أعلى مرتبة من سليمان لكن لا نسلم أنه لم يعط ملكا مثله لأجل دعائه بل الله سبحانه خيره بين أن يكون نبيا ملكا أو يكون نبيا عبدا فاختار كونه نبيا عبدا لكون الفقر أفضل عنده ودل هذا الحديث أيضا على أن الله تعالى مكنه على العفريت أن يربطه بالسارية لكنه صلى الله عليه وسلم لم يربط باختياره حياء من سليمان عليه السلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم نافذا حكمه على الجن والإنس.
تأتي بدعوته الأشجار ساجدة تمشي إليه على ساق بلا قدم
لكن كان عيش الفقراء وزيهم مرغوبا عنده، وكذا الخلفاء الراشدون جمعوا بين الخلافة والفقر وحازوا فضائل الفريقين صلى الله تعالى عليه وعلى خلفائه وآله وأصحابه أجمعين ﴿ إنك أنت الوهاب ﴾ المعطي ما تشاء لمن تشاء لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت.
﴿ فسخرنا له الريح ﴾ قرأ أبو جعفر الرياح على الجمع والباقون على الإفراد بإرادة الجنس، والجملة معطوفة على جملة محذوفة تقديره فاستجبنا دعاءه فسخرنا له أي ذللنا لطاعته الريح ﴿ تجري بأمره ﴾ الجملة صفة للريح على طريقة ولقد أمر اللئيم يسبني، أوحال منه كقوله ﴿ رخاء ﴾ لينة لا تزعزع أولا تخالف إرادته ﴿ حيث أصاب ﴾ ظرف لتجري يعني حيث أراد يقول العرب أصاب الصواب فأخطأ الجواب أي أراد الصواب
﴿ والشياطين ﴾ أي وسخرنا له الشياطين ﴿ كل بناء ﴾ يبنون الحصون والقصور ﴿ وغواص ﴾ يستخرجون له اللآلئ من البحر، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر كل بدل من الشياطين ﴿ وآخرين ﴾ عطف على كل ﴿ مقرنين في الأصفاد ﴾ مشددين في القيود فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء والغواص ومردة فرق بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفوا عن الشر.
قلت : لعله لم يسلط على إبليس لما سبق له من الوعد بأنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٧:﴿ والشياطين ﴾ أي وسخرنا له الشياطين ﴿ كل بناء ﴾ يبنون الحصون والقصور ﴿ وغواص ﴾ يستخرجون له اللآلئ من البحر، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر كل بدل من الشياطين ﴿ وآخرين ﴾ عطف على كل ﴿ مقرنين في الأصفاد ﴾ مشددين في القيود فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء والغواص ومردة فرق بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفوا عن الشر.
قلت : لعله لم يسلط على إبليس لما سبق له من الوعد بأنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم

﴿ هذا عطاؤنا ﴾ أي قلنا له، هذا الذي أعطينا من الملك والبسط والتسلط على ما لم يسلط عليه غيرك عطاؤنا ﴿ فامنن ﴾ أي فاعط من شئت ﴿ أو أمسك ﴾ عمن شئت ﴿ بغير حساب ﴾ حال من المستكن في الأمر أي غير محاسب على منه وإمساكه لتفويض التصرف فيه إليك قال الحسن ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان فإنه إن أعطي أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة، وجاز أن يكون حالا من العطاء أوصلة له وما بينهما إعتراض يعني عطاء كثيرا لا يمكن إحصاؤه، وقال مقاتل هذا يعني تسخير الشياطين عطاؤنا أعطيناكه فامنن، يعني خذ منهم من شئت وامسك منهم في وثاقك من شئت لا تبعة عليك في إطلاقها ولا في وثاقها
﴿ وإن له عندنا لزلفى ﴾ في الآخرة مع ماله من الملك العظيم في الدنيا ﴿ وحسن مئاب ﴾ وهو الجنة.
﴿ واذكر عبدنا أيوب ﴾ عطف بيان لعبدنا والجملة عطف على واذكر عبدنا داود ﴿ إذ نادى ربه ﴾ بدل اشتمال من عبدنا ﴿ أني مسني ﴾ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها وأن مع جملته حكاية لكلامه الذي نادى به ﴿ الشيطان بنصب ﴾ قرأ أبو جعفر بضم النون والصاد ويعقوب بفتحها والباقون بضم النون وسكون الصاد ومعنى الكل واحد أي بمشقة وضر ﴿ وعذاب ﴾ أي وألم، قال مقاتل وقتادة بنصب في الجسم وعذاب في المال، وقد ذكرنا قصة أيوب ومدة بلائه في سورة الأنبياء عليهم السلام فلما انقضت مدة بلائه أمره الله تعالى أن ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾.
﴿ اركض ﴾ جملة مستأنفة بتقدير قلنا له أركض ﴿ برجلك ﴾ أي إضرب برجلك الأرض ﴿ هذا مغتسل بارد ﴾ إغتسل منه فذهب كل داء بظاهره ﴿ وشراب ﴾ إشرب منه فذهب كل ماء كان بباطنه وقيل نبعت عينان بركضتين حارة وباردة فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد قال ركض برجله اليمنى فنبعن عين وضرب بيده اليمنى خلف ظهره فنبعت عين فشرب من إحداهما وأغتسل من الأخرى.
﴿ ووهبنا له أهله ﴾ عطف على مفهوم كلام سابق أي فشفيناه ووهبنا له أهله ﴿ ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ﴾ عطف على اركض وعلى هذا وهبنا له أهله إلى آخر جملة معترضة أو هي معطوفة على وهبنا بتقدير
وقلنا له خذ ﴿ بيدك ضغثا ﴾ وهو ملأ الكف من الشجر والحشيش ﴿ فاضرب به ﴾ امرأتك ﴿ ولا تحنث ﴾ في يمينك وكان قد حلف أن يضربها مائة سوط فأخذ مائة عود من اذخر أو غيرها وضربها ضرة واحدة ﴿ إنا وجدناه صابرا ﴾ فيما أصابه في النفس والأهل والمال تعليل لما وهب ولا يخل شكواه إلى الله تعالى من الشيطان في كونه صابرا فإنه لا يسمى جزعا كتمني العافية وطلب الشفاء كما ذكرنا هناك، ولشيخنا الشهيد رضي الله عنه هاهنا كلام رفيع وهو أنه عليه السلام صبر على البلاء سنين على ما ذكر في القصة، ثم لما أراد الله سبحانه أن يكشف عنه الضر ألقي في روعه أن الله سبحانه يريد منك التضرع والدعاء في كشف البلاء وإظهار عجزك وافتقارك إلى جناب الكبرياء فاختار عليه السلام التضرع والدعاء على ما اقتضى طبعه من الصبر على البلاء ابتغاء لمرضاة الله فارتقى من مقام الصبر إلى معارج الرضا فشكر الله سبحانه على صبره بقوله :﴿ إنا وجدناه صابرا ﴾ وعلى ارتقائه إلى مقام الرضا بقوله :﴿ نعم العبد إنه أواب ﴾ ﴿ نعم العبد ﴾ ﴿ إنه أواب ﴾ أي مقبل بشراشره على الله تعالى.
﴿ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴾ الثلاثة عطف على بيان لعبادنا، وقرأ ابن كثير عبدنا بناء على وضع الجنس موضع الجمع أو هو على معنى التوحيد وإبراهيم عطف بيان له وإسحاق ويعقوب معطوفان عليه ﴿ أولي الأيدي والأبصار ﴾ أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين والمعرفة بالله كذا قال ابن عباس وقتادة ومجاهد عبر بالأيدي عن الأعمال في الطاعة، لأن أكثر بمباشرتها وبالإبصار عن المعارف لأنها أقوى مباديها وفيه تعريض لبطله الجهال فإنهم كألزمنا والعماة
﴿ إنا أخلصناهم بخالصة ﴾ أي جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة فيهم هي ﴿ ذكرى الدار ﴾ فهو مرفوع أو هو منصوب بتقدير أعني أو مجرور على البدل من خالصة أي تذكرهم للدار الآخرة دائما وتذكيرهم الناس كما هو دأب الأنبياء، وذلك التذكر سبب لخلوصهم في الطاعة وذلك لأن مطمح أنظارهم فيما يأتون ويذرون جوار الله والفوز بلقائه وذلك في الآخرة وجاز أن يكون المضاف محذوفا أي ذكرى صاحب الدار وهو الله سبحانه وإطلاق الدار على الآخرة للإشعار بأنها هي الدار على الحقيقة والدنيا معبرة قرار فيها وما لا قرار فيها لا يسمى دارا. قرأ نافع وهشام بإضافة خالصة إلى ذكرى للبيان أو لأنه مصدر بمعنى الخلوص فأضيف إلى فاعله، قال مالك بن دينار ونزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها، وقال مقاتل كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله عز وجل وقال السدي أخلصوا بخوف الآخرة، وقال ابن زيد معناه على الإضافة أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة وجملة إنا أخلصناهم مع ما عطف عليه تعليل لما سبق.
﴿ وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ﴾ لمن المختارين من أمثالهم المصطفين عليهم في الخير والأخيار جمع خير كشر وأشرار، وقيل جمع خير على تخفيفه كأموات مع ميت أو ميت
﴿ واذكر إسماعيل واليسع ﴾ هو ابن أخطوب استخلفه الناس على بني إسرائيل ثم استنبئ، قرأ حمزة والكسائي واليسع بلام مشددة وإسكان الياء تشبيها بالمنقول من ليسع والباقون بلام واحدة ساكنة وفتح الياء ﴿ وذا الكفل ﴾ ابن عم اليسع أو بشر بن أيوب اختلف في نبوته ولقبه فقيل فر إليه مائة نبي من بني إسرائيل فآواهم وكفلهم، وقيل كفل لعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة ﴿ وكل من الأخيار ﴾ حال من مفعول اذكر.
﴿ هذا ﴾ إشارة إلى ما تقدم من أمورهم ﴿ ذكر ﴾ أي شرف لهم أو هذا الذي تلي عليكم من القرآن ذكر جميل لهم، ثم شرع لما أعد لهم ولأمثالهم فقال ﴿ وإن للمتقين لحسن مئاب ﴾ مرجع
﴿ جنات عدن ﴾ عطف بيان لحسن مآب أو بدل منه وهي من الأعلام الغالبة لقوله تعالى :﴿ جنات عدن التي وعد الرحمان عباده ﴾، وانتصب عنها ﴿ مفتحة لهم الأبواب ﴾ على الحال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل أي الكون والحصول وقوله ﴿ لهم الأبواب ﴾ مرفوع على أنه أسند إليه مفتحة والعائد إلى أي الحال محذوف أي مفتحة لهم منها الأبواب أو اللام عوض عن المضاف إليها أي مفتحة لهم أبوابها أو على أنه بدل اشتمال من الضمير المستتر العائد إلى الجنات.
﴿ متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب ﴾ أي : وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول.
وقوله متكئين ويدعون حالان مترادفان أو متداخلان من الضمير في لهم لا من المتقين للفصل والأظهر أن يدعون استئناف لبيان حالهم فيها ومتكئين حال من ضميره والاقتصار على الفاكهة للإشعار بأن مطاعمهم لمحض التلذذ، فإن التغذي للتحلل ولا تحلل ثمة.
﴿ وعندهم ﴾ نساء ﴿ قاصرات الطرف ﴾ أي قاصرات أطرافهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم ﴿ أتراب ﴾ مستويات الأسنان بنات ثلاث ثلاثين سنة جمع ترب، وعن مجاهد متواخيات لا يتباغضن كما تتباغض الضرات في الدنيا ولا يتغايرن، الجملة الظرفية حال أو خبر لضميرهم
﴿ هذا ما توعدون ﴾ : قرأ ابن كثير هاهنا وفي ق بالياء التحتانية على الغيبة والضمير للمتقين، ووافقه أبو عمرو هاهنا، والباقون بالتاء الفوقانية فيهما على الخطاب للمؤمنين ﴿ ليوم الحساب ﴾ أي لأجله فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء أو للمعنى في ﴿ يوم الحساب ﴾.
﴿ إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ﴾ أي انقطاع، الجملة حال من رزقنا أو خبر بعد خبر.
﴿ هذا ﴾ أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر أوخذ هذا. ﴿ وإن للطاغين ﴾ أي الكافرين ﴿ لشر مآب ﴾ مرجع.
﴿ جهنم ﴾ بدل أو عطف بيان ﴿ لشر مئاب ﴾ ﴿ يصلونها ﴾ حال من جهنم ﴿ فبئس المهاد ﴾ المهد والمفترش مستعار من فراش النائم والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم أو مهاد هو جملة ﴿ وإن للطاغين ﴾ عطف أو حال.
﴿ هذا ﴾ العذاب منصوب بفعل مضمر يفسره ﴿ فليذوقوه ﴾ : أي ليذوقوا هذا فليذوقوه أو مبتدأ خبره محذوف أي هذا نزلهم فليذوقوه أو خبر مبتدأ محذوف أي العذاب هذا فليذوقوه أو مبتدأ خبره ﴿ حميم ﴾ كذا قال الفراء وعلى هذا جملة فليذوقوه معترضة، وعلى التأويلات السابقة حميم خبر مبتدأ محذوف أي هو حميم، والحميم هو الماء الحار الذي انتهى حره ﴿ وغساق ﴾ عطف على حميم قرأ حمزة والكسائي وحفص بالتشديد على وزن فعال كالخباز والطباخ وخففها الباقون على وزن فعال كالعذاب. واختلفوا في معناه ؟ قال ابن عباس هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها، وقال مجاهد ومقاتل هو الذي انتهى برده وقيل هو المنتن بلغة الترك، وقال قتادة هو ما يغسق أي يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة من قولهم غسقت أي انصبت والغساق إنصباب، أخرج البيهقي عن عطية قال الغساق الذي يسيل من صديدهم وأخرج مثله عن إبراهيم وأبي رزين، وأخرج ابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا والضياء عن كعب قال الغساق عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع يؤتى بالآدمي فيغمس غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده عن العظام وتعلق جلده ولحمه في كعبيه فيجر لحمه كما يجر الرجل ثوبه.
﴿ وآخر ﴾ : قرأ أبو عمرو وأبو جعفر بضم الهمزة على أنه جمع أخرى مثل الكبرى وكبر واختاره أبو عبيد لأنه نعته بالجمع فقال أزواج والباقون بفتح الهمزة وألف بعدها على التوحيد أي عذاب آخر أو مذوق آخر، ﴿ من شكله ﴾ صفة لآخر أو خبر له أي مثل الحميم والغساق وتوحيد الضمير على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق أو للعذاب، ﴿ أزواج ﴾ أجناس خبر لآخر أوصفة له أو للثلاثة أ ومرتفع بالجار والمجرور والخبر محذوف أي لهم.
﴿ هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ ﴾ : قال ابن عباس هو كلام خزنة النار للقادة من أهل النار وذلك أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل عليهم الأتباع قالت لهم الخزنة، وقيل هو كلام القادة بعضهم لبعض أي هذا يعني الأتباع فوج أي جماعة مقتحم معكم النار، والاقتحام الدخول في الشيء رميا بنفسه فيه، قال الكلبي إنهم يضربون بالمقامع حتى يوقعوا أنفسهم في النار خوفا من تلك المقامع، قلت وجاز أن يكون معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه كانوا يحجزونهم عن النار ويمنعونهم عن ارتكاب موجبات دخولها وهم اقتحموا فيها حيث فعلوا موجبات دخلوها، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفرش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها قال فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار هلم عن النار فتغلبوني تقمحون فيها " متفق عليه، وجملة ﴿ هذا فوج مقتحم ﴾ الخ بتقدير القول استئناف تقديره يقول بعض الطاغين بعضا في شأن بعض هذا فوج مقتحم معكم أو يقال للرؤساء في شأن الأتباع هذا فوج إلى آخره فقالت القادة ﴿ لا مرحبا بهم ﴾ أي بالأتباع دعاة من المتبوعين على أتباعهم فهذه الجملة بتقدير القول متصل بما سبق ﴿ إنهم صالوا النار ﴾ تعليل بقوله لا مرحبا بهم أي داخلوها بأعمالهم مثلنا وجاز أن يكون مرحبا بهم صفة لفوج أوحال أي مقولا فيهم لا مرحبا بهم، يقال لمن يدعى له مرحبا أي أتيت رحبا من البلاد لا ضيفا والرحب السعة وفيه تعظيم للجائي ويقال لمن يدعى عليه لا مرحبا تحقيرا له وبهم بيان للمدعو عليهم.
﴿ قالوا ﴾ استئناف آخر أي قال الأتباع للقادة ﴿ بل أنتم لا مرحبا بكم ﴾ يعني بل أنتم أحق بما قلتم، أو بما فيل فينا لضلالكم وإضلالكم إيانا وعللوا ذلك بقولهم ﴿ أنتم قدمتموه ﴾ أي العذاب أو الصلى لنا بدعائكم إيانا إلى الكفر ﴿ فبئس القرار ﴾ أي بئس المقر لنا ولكم جهنم
﴿ قالوا ﴾ استئناف آخر أي قالت الأتباع :﴿ ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار ﴾ أي مضاعفا على ما بهم من العذاب.
﴿ وقالوا ﴾ عطف على ﴿ قالوا ربنا من قدم لنا ﴾ يعني قالت كفار قريش وهم في النار ﴿ مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم ﴾ في الدنيا ﴿ من الأشرار ﴾ جملة لا نرى حال من ضمير المتكلم في النار والعامل معنى الفعل والأشرار جمع شرير والشر ضد الخير والخير ما يرغب فيه الكل، والشر ما يكرهه يعني كنا نكرههم ونحقرهم في الدنيا يعنون فقراء المؤمنين نحو عمار وخبيب وصهيب وبلال وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين يسترذلونهم ويسخرون منهم
﴿ أتخذناهم سخريا ﴾ قرأ أهل البصرة وحمزة والكسائي بهمزة الوصل على أنه صفة أخرى لرجالا أوحال بتقدير قد أو خبر آخر لكنا، وقرأ الحجازيون وابن عامر وعاصم بالقطع على استفهام على أنه إنكار على أنفسهم في الاستسخار منهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين كما مر في المؤمنين والباقون بكسرها ﴿ أم زاغت عنهم الأبصار ﴾ فلا نراهم.
قال الفراء هذا من الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتعجب وأم معادلة لهمزة في جملة مقدرة مفهومة من قوله ما لنا لا نرى والتقدير ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخريا أليسوا ها هنا أو زاغت عنهم أبصارنا فلم نرهم وهم ها هنا، أو الهمزة أتخذناهم على القراءة الثانية بمعنى أي الأمر ما فعلنا بهم من الاستسخار منهم أم تحقيرهم فإن زيغ البصر كناية عنه والمعنى إنكارهما على أنفسهم أو منقطعة والمراد الدلالة على أن استرذالهم والاستسخار منهم كان لزيغ البصر منا وقصور أنظارنا على رثاثة حالهم، وقال ابن كيسان يعني أم كانوا خيرا منا ولم نعرفهم وكانت أبصارنا تزيغ عنهم
﴿ إن ذلك ﴾ الذي حكينا عنهم ﴿ لحق ﴾ لابد أن يتكلموا به ثم بين ما هو فقال ﴿ تخاصم أهل النار ﴾ بدل من حق أو خبر محذوف، ولما شبه تقاولهم وما جرى بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين سماه تخاصما ولأن قول القادة لا مرحبا بهم وقول الأتباع بل أنتم لا مرحبا بكم تخاصم فسمى التفاؤل كله تخاصما لاشتماله على ذلك.
﴿ قل ﴾ يا محمد لمشركي مكة ﴿ إنما أنا منذر ﴾ جملة قل مع المقولة مستأنفة وإنما لقصر القلب متصل بقوله تعالى :﴿ قال الكافرون هذا ساحر كذاب ﴾ يعني لست بساحر كذاب إنما أنا منذر أنذركم بعذاب الله ﴿ وما من إله إلا الله ﴾ عطف على أنه متصل بقوله :﴿ أجعل الآلهة إلها واحدا ﴾، ﴿ الواحد ﴾ الذي لا يقبل الشركة في ذاته ولا في صفة من صفاته ﴿ القهار ﴾ على كل شيء، فيه وعيد للكفار.
﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز ﴾ الذي لا يغلب إذا عاقب ﴿ الغفار ﴾ الذي يغفر ما يشاء من الذنوب صغائرها وكبائرها لمن يشاء وفي هذه الأوصاف تتميم وتقرير للتوحيد ووعد للموحدين ووعيد للمشركين، ودفع لتوهم انحصار وصفه بالقهر
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ هو ﴾ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة يعني القرآن ﴿ نبأ عظيم ﴾ وقيل يعني القيامة لقوله تعالى :﴿ عم يتساءلون عن النبأ العظيم ﴾وقيل يعني ما أنبأ تكون من أني نذير من عقوبة من هذا صفته وأنه واحد في الألوهية لا شريك له فهو متصل بقوله ﴿ إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد ﴾
﴿ أنتم عنه معرضون ﴾ : صفة أخرى لنبأ أي أنتم لتمادي غفلتكم معرضون عنه مع أن العاقل لا ينبغي أن يعرض عن مثله وقد قامت عليه الحجج الواضحة إما على التوحيد فما مروا إما على النبوة.
﴿ ما كان لي ﴾ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ من علم بالملأ الأعلى ﴾ أي الملائكة ﴿ إذ يختصمون ﴾ فإن الأخبار عن تقاول الملائكة وما جرى بينهم مطابقا لما ورد في الكتب المتقدمة من غير سماع ومطالعة كتاب لا يتصور إلا بالوحي.
وقيل المراد باختصامهم اختصامهم في شأن آدم عليه السلام حين قال الله تعالى :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ﴾ وفي الحديث عن عبد الرحمان بن عائش الحضرمي يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم :" رأيت ربي في أحسن صورة قال فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد ؟ قلت أنت أعلم أي رب مرتين، فقال وضع كفه بين كتفي فوجدت برده بين ثديي فعلمت ما في السماء والأرض ثم تلا هذه الآية :﴿ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين { ٧٥ ﴾ } ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد ؟ قلت في الكفارات، قال وما هن ؟ قلت المشيء بالأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد خلف الصلوات وإسباغ الوضوء أماكنه في المكاره، قال من يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ويكون خطيئته كيوم ولدته أمه، ومن الدرجات إطعام الطعام وبذل السلام وأن تقوم بالليل والناس نيام، قال قل اللهم إني أسألك الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالذي نفس محمد بيده إنهن لحق " رواه البغوي في شرح السنة والتفسير ورواه الدارمي إلى قوله ﴿ وليكون من الموقنين ﴾ وللترمذي عنه نحو ما روى البغوي وللترمذي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل بمعناه مع تغير في العبارة، ولعل المراد باختصام الملأ الأعلى في الكفارات أن جمعا منهم يبتدرون أن يكتبوها، يريد كل منهم أن يهيأ بها وجه الرحمان أولا كما في حديث رفاعة بن رافع " كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده، فقال رجل وراءه ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فلما انصرف قال من المتكلم آنفا ؟ قال أنا قال رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول " رواه البخاري، إذ متعلق بعلم أو بمحذوف والتقدير من علم بكلام الملأ الأعلى إذ يختصمون
﴿ إن يوحى إلي إلا إنما أنا نذير مبين ﴾ إنما مع جملته إما في محل الرفع على أنه أسند إليه يوحى وإما في محل النصب على العلية، ويوحى حينئذ مسند إلى المصدر المفهوم من الفعل يعني ما أوحي إلى إلا الإنذار المبين أو ما أوحي إلى وحي إلا لأجل الإنذار فإنه هو المقصود من الإرسال، وقيل المراد بالنبأ العظيم قصة آدم وإبليس والأنباء به من غير سماع والمراد بالملأ الأعلى أصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم.
﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ ﴾ : بدل من إذ يختصمون مبين له فإن القصة التي دخلت إذ عليها مشتملة على تقاول الملائكة وإبليس في خلق آدم واستحقاقه للخلافة والسجود على ما مر في البقرة، غير أنها اختصرت اقتصارا على ما هو المقصود هاهنا وهو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم، هذا ومن الجائز أن يكون مقاولته إياهم بواسطة ملك أو أن يفسر الملأ الأعلى بما يعم الله والملائكة، وجاز أن يكون إذ منصوبا باذكر.
﴿ فإذا سويته ﴾ أي أتممت خلقه ﴿ ونفخت فيه من روحي ﴾ أضاف الروح إلى نفسه تشريفا لآدم أو تشريفا للروح ﴿ فقعوا ﴾ فخروا ﴿ له ساجدين ﴾ وقد مر الكلام فيه في البقرة.
﴿ فسجد الملائكة ﴾ عطف على قال ربك ﴿ كلهم أجمعون ﴾
﴿ إلا إبليس استكبر ﴾ أي تعظم تعليل للاستثناء ﴿ وكان ﴾ أي صار ﴿ من الكافرين ﴾ باستكباره عن أمر الله تعالى أو استكباره عن المطاوعة أو كان منهم في علم الله تعالى.
﴿ قال ﴾ ربك ﴿ يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ﴾ كلمة بيدي من المتشابهات فالسلف لا يأولونه ويؤمنون به ويكلون مراده إلى الله تعالى والخلف يأولونه ويقولون خلقته من غير توسط كأب وأم والتثنية لما في خلقه من مزيد القدرة وترتب الإنكار عليه للإشعار بأنه المستدعي للتعظيم أوبأنه الذي تشبث به في تركه وهولا يصلح لكونه مانعا إذ للسيد أن يستخدم بعض عبيده لبعض سيما وله مزيد اختصاص ﴿ استكبرت ﴾ همزة الاستفهام للتوبيخ والإنكار دخلت على همزة الوصل يعني أتكبرت من غير استحقاق ﴿ أم كنت من العالين ﴾ أي من الذين استحقوا التفوق توبيخ على الشق الأول وإنكار للشق الثاني
﴿ قال ﴾ إبليس ﴿ أنا خير منه ﴾ أبدا المانع واستدل عليه بقوله ﴿ خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ قد سبق الكلام عليه.
﴿ قال فاخرج منها ﴾ أي من الجنة وقيل من السماوات، وقال الحسن وأبو العالية من الخلقة التي أنت فيها، قال الحسن بن الفضل هذا تأويل صحيح لأن إبليس تجبر وافتخر بالخلقة فغير الله خلقه فاسود وقبح بعد حسنه ﴿ فإنك رجيم ﴾ مطرود لست بخير تعليل للأمر بالخروج
﴿ وإن عليك لعنتي ﴾ قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ إلى يوم الدين ﴾ لا يظن بأن اللعنة منتهية بيوم الدين بل معناه أن عليه اللعنة وحدها إلى يوم الدين ثم ينضم إليها العذاب
﴿ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ﴾ الفاء للسببية، فإن طرده لعداوة آدم سبب لطلبه الإنظار لإغواء بني آدم.
﴿ قال فإنك من المنظرين ﴾ : الفاء للسببية فإن سؤاله سبب لهذا المقال والجملة الاسمية تدل على أن إنظاره كان محكوما عليه في علم الله القديم قبل سؤاله لا إجابة لدعائه
﴿ إلى يوم الوقت المعلوم ﴾ : وهي النفخة الأولى وقد مر بيانه في الحجر.
﴿ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين ﴾ هذه الفاء أيضا للسببية، فإن إنظاره تعالى إياه سبب لعزمه على إغوائهم ولو لم يكن من الله إنظارا لم يقدر على إغوائهم أجمعين، أقسم اللعين بعزته أي بسلطانه تعالى وقهرمانه حتى يكون وسيلة لتسلطه على ما يريد.
﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم عن الضلالة أو أخلصوا قلوبهم لله على اختلاف القراءتين، فإن ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر قرأوا بكسر اللام والباقون بفتحها.
﴿ قال فالحق ﴾ قرأ عاصم وحمزة ويعقوب بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي أنا الحق أو مبتدأ خبره محذوف، فالحق اسم من أسماء الله تقديره الحق يميني أو قسمي والباقون بالنصب بنزع الخافض أي حرف القسم كقوله تعالى لأفعلن وجاز أن يكون تقديره فأحق الحق ﴿ والحق أقول ﴾ جملة معترضة وقيل تكرار للقسم أقسم الله بنفسه وجواب القسم قوله ﴿ لأملأن جهنم منك ﴾.
﴿ لأملأن جهنم منك ﴾ أي من جنسك ليتناول الشياطين ﴿ وممن تبعك منهم ﴾ أي من بني آدم ﴿ أجمعين ﴾ أي لا أترك منكم ومنهم أحدا، والمراد بمن تبعك الكفار وإن كان التقدير أنا الحق أو أحق الحق فهذه الجملة جواب قسم محذوف وأجمعين تأكيد للضميرين.
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ ما أسألكم عليه ﴾ أي على الإنذار أو على القرآن ﴿ من أجر ﴾ جعل ﴿ وما أنا من المتكلفين ﴾ أي من المتقولين القرآن من تلقاء نفسه أو المدعين لنفسه ما ليس له تكلفا على ما عرفتم من حالي يعني لا أدعي النبوة بلا حقيقة وجملة قل ما أسألكم إلى آخره مقرى لمضامين الجمل السابقة أخرج البخاري عن عمر قال نهينا عن التكلف، وروى البغوي عن مسروق قال دخلنا على ابن مسعود فقال يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال الله تعالى لنبيه ﴿ قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين{ ٨٦ ﴾ } قلت قوله ما أنا من المتكلفين تأكيد لمضمون قوله ما أسألكم عليه من أجر فإن من لا يسأل شيئا من الأجر لا ضرورة له في أن يتكلف في المقال
﴿ إن هو ﴾ أي القرآن ﴿ إلا ذكر ﴾ أي عظة ﴿ للعالمين ﴾ للثقلين أوحي إلي وأنا أبلغه
﴿ ولتعلمن ﴾ يا كفار مكة جواب قسم محذوف ﴿ نبأه ﴾ وهو ما فيه من الوعد والوعيد أو صدقه بإتيان ذلك ﴿ بعد حين ﴾ قال ابن عباس وقتادة أي بعد الموت، وقال عكرمة يوم القيامة، قال الحسن ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
Icon