تفسير سورة الأنفال

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الأنفال
مدنية كلها وهو الأصح، وقيل: مدنية ما عدا الآيات ٣٠ إلى ٣٦ فمكية لأنها في شأن الواقعة التي وقعت بمكة، ولكن الأصح أن هذه الآيات نزلت بالمدينة تذكيرا لهم بما وقع في مكة، وعدد آياتها خمس وسبعون آية.
وهي في القصص الخاص برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخاصة في أوقات الشدة كالحروب والهجرة وما قبلها في قصص الرسل عليهم جميعا الصلاة والسلام. فالمناسبة بين السورتين ظاهرة.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
المفردات:
الْأَنْفالِ: جمع نفل، والمراد به هنا: الغنيمة لأنها من فضل الله- تعالى- وعطائه، وهي من خصائص النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وقد زادت هذه الأمة بها على الأمم السابقة،
روى في الصحيحين عن جابر بن عبد الله- رضى الله عنه- أن رسول الله
803
صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي» فذكر الحديث (وهو المسمى بحديث الشفاعة) إلى أن قال: «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي»
، والنفل: الزيادة عن الواجب، ألا ترى إلى صلاة النوافل؟ ذاتَ بَيْنِكُمْ: حقيقة ما بينكم، والبين من معانيه: الاتصال، والمراد: الوصلة الإسلامية وإصلاحها ويكون بالأمور التي تحققها من مودة وإخاء وترك النزاع والجفاء. وَجِلَتْ: فزعت وخافت.
سبب النزول:
عن عبادة بن الصامت: نزلت فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله، وإصلاح ذات البين.
وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا»
فأما الشيوخ فثبتوا تحت الرايات، وحول رسول الله، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقال الشيوخ للشبان: إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا. فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت.
المعنى:
لقد وقع خلاف بين المسلمين في غنائم بدر فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهي للمهاجرين أم للأنصار؟ أهي للشبان أم للشيوخ؟ أم لهم جميعا؟ فقيل له: قل لهم: إن حكمها لله خاصة ويقسمها الرسول على حسب أمر الله فلا رأى لأحد، وفي هذه الآية إجمال بيّن في آية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ... [سورة الأنفال آية ٤١].
وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش بما شاء تحريضا على القتال وإثارة للنفوس كما
ورد: «من قتل قتيلا فله سلبه»
وهذا النفل زيادة عن سهمه في الغنيمة.
وإذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله واجتنبوا ما أنتم فيه من شجار ونزاع وخلاف، فإن هذا يغضب الله لا سيما في حالة الحرب وأصلحوا ذات بينكم من الأحوال حتى تتحقق الوصلة الإسلامية فتكونوا في ألفة ومحبة واتفاق، وفي ذلك تقوى الله، وطاعة
804
رسوله، وإصلاح ذات البين، وأطيعوا الله ورسوله في كل ما أمر ففي طاعتهما الخير والفلاح، والهدى والرشاد، أطيعوهما إن كنتم مؤمنين حقا، فهذه أمور ثلاثة لا بد منها لصلاح حال الجماعة: تقوى الله ورسوله، أى: طاعة القيادة الرشيدة الحكيمة.
وها هي ذي صفات المؤمنين الخمسة التي تحقق هذه الأوصاف الثلاثة إنما المؤمنون حقا الكاملون المخلصون في إيمانهم هم:
١- الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم واستشعروا عظمته وجلاله وتذكروا وعده ووعيده خافت قلوبهم واضطربت أرواحهم.
٢- والذين إذا تليت عليهم آياته القرآنية المنزلة على عبده وحبيبه محمد صلّى الله عليه وسلّم ازداد إيمانهم، وكمل يقينهم لتظاهر الأدلة وتمامها، نعم المؤمن كلما كثرت الأدلة وتعاضدت الآيات والحجج ازداد قوة في الإيمان، ورسوخا في العقيدة، ونشاطا في العمل، انظر إلى إبراهيم الخليل حيث قال: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «١» ردا على قوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ «٢» ؟.
٣- والذين هم على ربهم وحده يتوكلون، وعليه وحده يعتمدون، وإليه يلجئون، كل هذا بعد أخذ الأسباب، والعمل على حسب طاقته وإمكانه، وهذه صفات تتعلق بالقلب، وها هي ذي الصفات المتعلقة بالجسم:
٤- الذين يقيمون الصلاة، ويؤدونها كاملة مقومة تامة الأركان والشروط.
٥- والذين ينفقون مما رزقناهم في وجوه الخير والبر، وذلك يشمل الزكاة الواجبة المقيدة والنافلة المطلقة التي قد تصبح واجبة تبعا للظروف.
أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف، المشار إليهم لكمالهم فيها هم المؤمنون حقا. لهم درجات ومنازل عند ربهم على حسب أعمالهم ونواياهم ولهم مغفرة، ولهم رزق كريم وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة. والعرب يصفون الشيء الذي لا قبح فيه ولا ضرر بأنه كريم، وهذه الآيات بينت لنا حكم الغنائم، وأسس نجاح الجماعة، وبعض صفات المؤمنين الكاملين.
(١) سورة البقرة آية ٢٦٠.
(٢) سورة البقرة آية ٢٦٠.
805
ما حصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقت خروجه لغزوة بدر الكبرى [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥ الى ١٤]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
806
المفردات:
الشَّوْكَةِ: واحدة الشوك، وفيها معنى الحدة والقوة، شبهوا بها الرماح والأسنة. دابِرَ الْكافِرِينَ: آخرهم الذي يكون في دبرهم من ورائهم.
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ استغاث: طلب الغوث والمعونة ليخلص من شدة.
مُمِدُّكُمْ: ناصركم ومعينكم. مُرْدِفِينَ: متبعين بعضهم بعضا، مأخوذ من أردفه: إذا أركبه وراءه. يُغَشِّيكُمُ المراد: يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم. النُّعاسَ: فتور في الأعصاب يعقبه النوم، فهو مقدمة له. رِجْزَ الشَّيْطانِ الرجز والركس: الشيء المستقذر، والمراد وسوسة الشيطان. وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ: ليثبتها ويوطنها على الصبر. الرُّعْبَ: الخوف الكثير. فَوْقَ الْأَعْناقِ المراد: الرءوس. بَنانٍ: هو أطراف الصابع من اليدين والرجلين، والمراد الأيدى والأرجل. اقُّوا
: خالفوا وعادوا إذ هم أصبحوا في شق وناحية والرسول في شق وناحية.
يحسن بمن يريد أن يقف على معنى هذه الآيات أن يلم بتلك القصة.
لما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة بعد أن لاقى ما لاقى، وترك المسلمون أموالهم وأرضهم وديارهم للمشركين، وسمع بأن تجارة لقريش فيها مال كثير آتية من الشام، وعلى رأس العير أبو سفيان مع أربعين نفرا من قريش، انتدب المسلمين إليهم، وأغراهم بالعير قائلا: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها فأعجبهم تلقى العير لكثرة المال وقلة الرجال.
أما أبو سفيان قائد العير وحاميها فكان يتجسس على النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه وعلم أن
807
محمدا أغرى أصحابه عليه، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد تعرض لهم في أصحابه وقد غير أبو سفيان طريقه وسار محاذيا البحر، ونجا العير والتجارة، أما قريش فجمعوا جموعهم واستنفر أبو جهل الناس من فوق الكعبة قائلا: النجاء. على كل صعب وذلول، عيركم وأموالكم، إن أصابها محمد فلن تفلحوا أبدا، وخرج أبو جهل على رأس النفير وهم أهل مكة، ثم قيل له: إن العير أخذت طريق الساحل ونجت، فارجع بالناس إلى مكة فقال: لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجذور ونشرب الخمور، وتعزف القينات ببدر فيتسامع جميع العرب بنا وبخروجنا وأن محمدا لم يصب العير.
أما محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحبه فلما علم بنجاة العير، وأن قريشا جمعت جموعها ليمنعوا عيرها، استشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر وعمر- رضى الله عنهما- فقالا وأحسنا، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض كما أمرك الله، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «١» ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما دامت عين منا تطرف، فضحك رسول الله ثم
قال: «أشيروا علىّ أيها الناس»
وكأنه يريد الأنصار إذ كان يخاف أنهم لا ينصرونه ما دام الحرب في غير المدينة كما شرطوا ذلك في عهدهم، فقال سعد بن معاذ:
قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله فو الله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.. إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عيناك، فسر على بركة الله، فسرّ رسول الله لقول سعد.
ثم
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين:
العير القادمة من الشام، أو النفير الآتي من مكة لنجدتهم. والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم
. فعلم من هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج من المدينة لأجل العير وأنه استشار أصحابه في قتال النفير من قريش بعد هذا.
(١) سورة المائدة آية ٢٤.
808
وقد وقع للمسلمين في بدر أمران يكرهانهما.
أولا: كراهتهم قسمة الغنيمة بينهم بالسوية وهذه الكراهة من شبانهم فقط إذ هم الذين قاتلوا وغنموا وقتلوا العدو، وهذا ينشأ من طبع الإنسان.
ثانيا: كراهتهم قتال قريش، وعذرهم فيها أنهم خرجوا من المدينة ابتداء لقصد الغنيمة ولم يستعدوا لقتال، والكارهون فريق من المؤمنين لا كلهم.
وقد شبه الله إحدى الحالتين بالأخرى في مطلق الكراهية وأن امتثال أمر النبي في كلّ هو الخير.
روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما كان يوم بدر ونظر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال:
كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله الآية
...
وفي رواية فخرج رسول الله وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر آية ٤٥].
المعنى:
هذه الحال التي حكم الله فيها بأن الأنفال حكمها لله تعالى وتنفيذها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كره شبانهم ذلك- هذه الحال تشبه حالهم وقد أخرجك الله من المدينة لقتال النفير من قريش وقد كرهوا ذلك كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ.
أخرجك ربك من بيتك بالمدينة متلبسا بالحق والحكمة وصواب الرأى والحال أن فريقا بسيطا من المؤمنين لكارهون ذلك لعدم استعدادهم للحرب.
يجادلك المؤمنون في الأمر الحق والرأى السديد وهو تلقى النفير لأنهم آثروا تلقى العير لقلة الرجال وكثرة المال، يجادلونك بعد ما تبين لهم الحق وظهر الصواب، حينما أخبرتهم أنهم هم المنصورون، وأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد نجا العير، فلم يبق إلا النفير، ولقد جادلوا بأنهم قليلوا العدد والعدد ولم يستعدوا، وقد كان خروجهم لتلقى العير.
809
لقد وعدهم إحدى الطائفتين على الإبهام فتعلقت آمالهم بالعير فلما نجت العير، ولم يبق إلا مقابلة أبى جهل في النفير، صعب على بعضهم اللقاء وخافوا الحرب وأخذوا يعتذرون، ولكن الحق تبين ولم يعد للجدال وجه إلا الجبن والخور والخوف من القتال حتى كأنهم لشدة ما هم فيه من الجزع والرهبة يساقون إلى الموت المحقق وهم ينظرون إليه، إذ الفرق بين القوة شاسع جدا، ولكن الله وعدهم بالنصر ووعده لا يتخلف:
كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة آية ٢٤٩]، والأسباب الظاهرة كثيرا ما تختلف والأمر كله لله.
واذكروا وقت أن وعدكم الله إحدى الطائفتين من العير أو النفير وتودون أن العير لكم فإنه قليل العدد ولا شوكة معه مع كثرة المال.
ويريد الله لكم غير هذا وهو ملاقاة النفير الذي له الشوكة والحول والطول، وتكون الدائرة على المشركين، ويحق الله الحق بآياته المنزلة على رسوله في محاربة الكفار، وبما أمر الملائكة من نزولهم لنصرة المسلمين، وبما قضى لهم أولا من أسر وقتل وطرح في القليب (بئر بدر) ويريد الله أن يقطع دابر الكافرين، ويستأصل شأفتهم ويمحو أثرهم.
فبعض المسلمين أراد العاجلة وعرض الدنيا وخاف ما يرزؤه في بدنه ونفسه وماله والله يريد معالى الأمور، يريد لكم النصر وتقوية الروح وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء وكسر شوكتهم بهزيمتهم وهم كثرة وينصركم وأنتم قلة.
ويريد الله هذا ليحق الحق ويثبت دعائم الإسلام، ويبطل الباطل ويهدم الشرك والكفر والطغيان، ولو كره المجرمون، وذلك لا يكون بأخذ العير أبدا وإنما يكون بهزيمة النفير وقتل صناديد الشرك وأسرهم وإذلالهم.
اذكروا يا أمة محمد وقت استغاثتكم ربكم قائلين: أى ربنا انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا، والمراد بالذكر تذكير لهم بالنعم ليشكروا وقد استغاث النبي صلّى الله عليه وسلّم كذلك كما روى، وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال وملاقاة النفير من قريش أخذوا يدعون الله ويستغيثون.
واعلم أن النصر في الحروب إنما يرجع إلى أسباب حسية ومعنوية إن تحققت جاء
810
النصر من الله: والله- سبحانه- هو الموفق لسلوك أسباب النصر أو أسباب الهزيمة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم ذلك، وأن لله سننا مع خلقه لا تتخلف، وأن عنده آيات يؤيد بها رسله، ولكنه لما رأى ضعف المسلمين وقلة عددهم وتهيبهم من القتال، استغاث الله ليوفقه إلى سنن النصر ويؤيده، فتقوى الروح المعنوية فيتحقق النصر، وقد استغاث الصحابة كما استغاث، ولقد استجاب الله الدعاء وأمدهم بألف من أعيان الملائكة يردف بعضهم بعضا حتى يتحقق قوله في سورة آل عمران: بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [الآيتان ١٢٤- ١٢٥] وما جعل الله ذلك المدد الإلهى إلا بشرى بأن النصر لكم، وأن الله معكم، ولتسكن قلوبكم، ويهدأ روعكم فتلقون الأعداء ثابتين مطمئنين.
واعلموا أن النصر من عند الله لا من عند غيره أبدا، إن الله عزيز لا يغالب، حكيم في كل صنع.
وهل الملائكة قاتلت بالفعل كما ورد في بعض الروايات؟ أو هي قوة معنوية وتكثير للسواد ولم يحاربوا، بل ثبتت قلوب المسلمين وقويت روحهم المعنوية بهم. والله أعلم، على أن المتفق عليه أنهم لم يقاتلوا يوم أحد لأن الله علق النصر على الصبر والتقوى ولم يحصلا.
واذكروا إذ ألقى الله عليكم النعاس حتى غشيكم كما
روى البيهقي عن على- كرم الله وجهه- قال: «ما كان فينا فارس إلا المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلى تحت شجرة حتى أصبح»
ولا شك أن النعاس يزيل الخوف ومن دلائل الأمن والطمأنينة والوثوق بالنصر.
ولقد نزلوا في بدر منزلا في كثيب (تل) أعفر تسوخ فيه الأقدام وليس فيه ماء، وقد احتلم بعضهم ليلا، ولما أصبحوا ظمئوا وصلّوا مجنبين محدثين، وكان المشركون على الماء فوسوس لهم إبليس وقال: لو كنتم على حق وفيكم نبي لما صليتم بجنابة وبغير وضوء ولما كنتم عطاشا وهم على الماء!! فأنزل الله مطرا كان على المشركين وابلا شديدا وكان على المسلمين طلّا خفيفا طهرهم من الرجس والدنس والجنابة والحدث، وقضى على وسوسة الشيطان وأصبحوا يطئون الرمل بسهولة فثبتت أقدامهم وسكنت قلوبهم،
811
وسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه وصنعوا الحياض ثم غوروا ما عداها من المياه، وبنى لرسول الله عريش على تل مشرف على المعركة.
واذكروا إذ يوحى ربك إلى الملائكة بالإلهام أنى معكم بالنصر والتأييد فثبتوا قلوب المؤمنين، وقووا عزائمهم، وذكروهم وعد الله ورسوله، وأنه لا يخلف الميعاد.
وقد روى أن الملائكة كانت تسير بين الصفوف وتبشرهم بالنصر: إنا معكم سنلقى في قلوب الكافرين الرعب.
فاضربوا رءوسهم التي فوق الأعناق واقطعوها، واقطعوا أيديهم التي طالما عصت الله.
ذلك النصر المؤزر للنبي وصحبه، وذلك الخذلان والهزيمة للمشركين بسبب أنهم عادوا الله ورسوله، وأصبحوا في شق والرسول في شق، وهل تستوي الظلمات والنور؟
ومن يعاد الله ورسوله فإن له فوق الهزيمة والألم والخزي في الدنيا عذابا شديدا فإن الله شديد عقابه سريع حسابه.
توجيهات حربية للمؤمنين [سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٥ الى ١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
812
المفردات:
زَحْفاً زحف: إذا مشى على بطنه كالحية، أو دب على مقعده كالصبي، أو مشى بثقل في الحركة واتصال وتقارب خطو، والعسكر المجتمع كأنه شخص واحد إذا تحرك يبدو أنه بطيء زاحف، والواقع أنه سريع. الْأَدْبارَ: جمع دبر، وهو ما قابل القبل، ويطلق على الظهر، والمراد الهزيمة. مُتَحَرِّفاً تحرف وانحرف: مال إلى حرف، أى: إلى جانب. مُتَحَيِّزاً: منحازا إلى جماعة أخرى، أى: منضما إليها. لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ البلاء: الاختبار بإعطاء النقم لاختبار الصبر، والنعم لاختبار الشكر، والمراد هنا الابتلاء بالنعم. تَسْتَفْتِحُوا أى: تطلبوا الفتح والنصر في الحرب والفصل في الأمر.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله، وصدقوا به وبرسوله يجب عليكم إذا لقيتم الذين كفروا في ميدان الحرب حالة كونهم كالزاحفين على أدبارهم إذ الجيش إذا كثر عدده يرى في سيره بطيئا والواقع أنه سريع، وقد زحف الكفار على المسلمين يوم أن انتقلوا من مكة إلى بدر، فيجب عليكم والحالة هكذا ألا تولوهم الأدبار، وألا تفروا منهم مهما كثر عددهم وأنتم قلة، بل اثبتوا وقاتلوا فالله معكم عليهم، وقد خص بعض العلماء هذا إذا كان الكفار لا يزيدون على الضعف ومن يولهم يومئذ دبره في القتال، ومن يفر منهم ويجبن عن قتالهم فعليه غضب من الله ومأواه جهنم.
فالفرار من الزحف إذا التقى الجيشان كبيرة من الكبائر- كما ورد في الحديث
813
يستحق صاحبها الغضب الشديد والعذاب الأليم إلا رجلا منحرفا من مكان إلى مكان رآه أصلح في ضرب العدو. أو أراد أن يوهم العدو أنه يفر حتى يستدرجه بعيدا عن صحبه ثم يكر عليه فيقتله، فتلك من خدع الحرب المحبوبة. أو رجلا منتقلا من جماعة إلى جماعة أخرى رأى أنها في حاجة إليه فيشد أزرهم ويقوى عزمهم.
يا أيها الذين آمنوا إذا حاربتم الكفار فلا تولوهم ظهوركم أبدا، ولا تفروا منهم فأنتم أولى بالثبات والشجاعة فأنتم تطلبون إحدى الحسنيين، وقد وعدكم الله بالنصر، انظروا إلى ما حصل في غزوة بدر، قد نصركم الله بها وأنتم قلة في العدد، وما كان ذلك إلا بتأييد الله، وتثبيت قلوبكم، ومدكم بالملائكة. وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائكم، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذي كسر شوكتهم في الواقع، ولكن الله قتلهم بأيديكم قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [سورة التوبة آية ١٤].
ولقد كان من المسلمين بعد أن رجعوا من غزوة بدر افتخار كثير فكان الواحد يقول: أنا قتلت، أنا أسرت، فعلمهم الله أن ذلك فخر كاذب لا يليق ووجههم توجيها حسنا حتى يلجئوا إليه ويعتمدوا عليه وحده فقال: فلم تقتلوهم بقوتكم ولكن الله قتلهم بتأييده ونصره وإنزال الملائكة وإلقاء الرعب وهو على كل شيء قدير.
روى أنه لما طلعت قريش قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذّبون رسولك، اللهم إنى أسألك ما وعدتني. فأتاه جبريل فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فرمى بها وقال: شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه.
وما رميت يا محمد حين رميت الحصا، ولكن الله رمى، وهذه ظاهرة التناقض، لكن المعنى: وما رميت يا محمد فإن الأثر الذي حدث من قبضة التراب التي رميتها أثر كبير حيث وصل إلى عيون الجيش كله. وهذا لا يمكن أن يكون من بشر، وإن يكن أنت الذي رميت في الظاهر فصورة الرمي للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأثر الرمي وما حدث منه لله- سبحانه وتعالى-.
فعل الله ذلك كله لتقام حجته على الكفار بتأييد رسوله ونصره على عدوه وإن اختلفت الإمكانات الحربية، وليعطى المؤمنين الذين فارقوا ديارهم وأموالهم عطاء حسنا بالغنيمة والنصر وحسن السمعة ورد الاعتبار، إن الله سميع لكل قول والتجاء إليه، عليم
814
بكل نية وعمل، ذلك القتل والرمي والإعطاء حق من الله- تعالى- موهن كيد الكافرين ومكرهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه وأنهم يريدون القضاء على الدعوة قبل أن يشتد أمرها، وذلك كله حق فقد رد كيدهم في نحورهم، ورجعوا مهزومين مطرودين.
روى أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتى بما لا يعرف فأمته الغداة فكان ذلك منه استفتاحا.
وروى أنهم تعلقوا بأستار الكعبة قبل خروجهم وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين
، فأجابهم الله بقوله استهزاء بهم وتوبيخا لهم على عملهم وتعجبا من حالهم:
إن تستفتحوا أيها الكفار فقد جاءكم الفتح، وهذا منتهى التهكم، إذ جاءهم الهلاك والذلة، وإن تنتهوا وتسلموا وتتركوا عداوة النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو خير لكم وأجدى، وإن تعودوا إلى محاربته نعد نحن إلى نصره وهزيمتكم، ولن تغنى جماعتكم وقوتها شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين بالنصر والتأييد والتوفيق إلى سلوك طرق النجاح والفلاح، والعاقبة للمتقين.
تحذير من مخالفة الدين [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
815
المفردات:
الصُّمُّ الصمم: عدم السمع، والأصم: الأطرش. الْبُكْمُ البكم: عدم الكلام، والأبكم: الأخرس. الدَّوَابِّ: جمع دابة، وهي ما تدب على الأرض، والغالب استعمالها في الحشرات والدواب التي تحمل على ظهرها، وإذا أريد منها الإنسان كان المقصود الاحتقار.
المعنى:
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان أطيعوا الله ورسوله فيما أمر ونهى، ولا تعرضوا عن الأمر بالجهاد وبذل المال وغيرهما والحال أنكم تسمعون المواعظ والزواجر في القرآن والحديث.
وإياكم أن تكونوا كالذين قالوا سمعنا والحال أنهم لا يسمعون أبدا... إن شر المخلوقات عند الله من لا يصغى بسمعه إلى الحق فيتبعه ويعتبر بالموعظة الحسنة فيعمل بها، فإن من لا يستخدم جهاز السمع فيما خلق له كان كأنه فاقد له، فهو أصم عن الحق والخير والهدى والفلاح.. والبكم الذين لا يقولون الحق، ومن ثم كانوا كأنهم فقدوا حاسة الكلام، والذين لا يعقلون الفرق بين النور والظلام، والهدى والضلال، والإسلام والكفر إذ هم لو استخدموا عقولهم وأبعدوا عنها ذل التقليد وحمى العصبية الجاهلية لعقلوا المنفعة وأدركوا الصالح المفيد ولكنهم كالبهائم لا يعقلون.
ولو علم الله في نفوسهم الميل إلى الخير والسداد والاستعداد إلى الإيمان والهدى ولم تفسد فطرتهم بسوء القدوة وفساد التربية لأسمعهم بتوفيقه سماع تدبر ووفقهم لكلامه وكلام رسوله، ولكنه لو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فهم لا خير فيهم أصلا.
ومن يلقى إليه شيء لا يخلو من واحد من أربع:
١- معاند لا يسمع أبدا بل يجعل أصابعه في آذانه.
٢- منافق يسمع ويتظاهر بالقبول ساعة الحضور ثم هو لا يتدبر ولا يفهم شيئا.
٣- يسمع ليتسقط العيوب ويتلمس السقطات.
٤- يسمع ليهتدى بنور الحق وهم الفئة المؤمنة الموفقة المهدية إلى يوم القيامة.
816
فيا أيها المسلمون اسمعوا القرآن وتدبروا معناه واهتدوا بهديه ولا تسمعوه تسلية أو تعزية أو تبركا فقط.
الاستجابة لداعي القرآن [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
المعنى:
ناداهم الله بوصف الإيمان الذي يوجب الامتثال والاستجابة ثم أمرهم بأن يستجيبوا لله ورسوله، وذلك بالطاعة والامتثال إذا دعاهم لما يحييهم، وحثهم على الخير لهم وحرضهم على ما به يسعدون في الدنيا والآخرة. وقد دعانا الرسول للإيمان والقرآن والهدى والجهاد، ومن حرم من هذا فهو ميت لا حياة فيه أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها «١» فخذوا ما آتاكم الرسول بقوة وعزم ونشاط وجد فالخير فيه، وسعادة الدارين معه.
واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ويفصل بينهما. والمعنى أن المسلم يجب ألا يغتر
(١) سورة الأنعام آية ١٢٢.
817
بعمله وطاعته، وألا يأمن مكر الله ولو كانت إحدى رجليه في الجنة، فالقلوب بين أصابع الرحمن، والله يحول بين المرء وقلبه.
فالواجب عليه دائما أن يغذى قلبه بالعمل ويجلوه بالذكر أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [سورة الرعد آية ٢٨].
والواجب على المسلم العاصي ألا ييأس من روح الله فالله يحول بين المرء وقلبه.
وعلينا أن نسرع دائما في الخير ولا نألوا جهدا في تحصيله فالله يحول بين المرء وقلبه فيموت قبل فعل الخير أو التوبة الصادقة، وعلينا أن نحذر خطرات القلوب وأمراضها فالله عليم بذات الصدور، وهو يفصل بين المرء وقلبه، وهو أقرب من حبل الوريد.
واعلموا أنكم إليه تحشرون فأسرعوا في العمل وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وأعدوا العدة ليوم الحشر.
واتقوا فتنة لا تصيبن الظالمين بل تعمهم وغيرهم كالفتن القومية التي تهد كيان الأمة وتزعزع أركانها كفتنة الملك والسيادة، أو الخلافات السياسية وما يتبعها من أحزاب وانقسام، وكالأحزاب الدينية، وكظهور البدع، والكسل عن الجهاد، أو ظهور المنكرات مع إقرارها، والالتواء في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فهذه فتن لا تصيب أصحابها فقط بل تلتهم نيرانها الأمة جميعا إذ هم بين رجلين: رجل اشتراك في الإثم، ورجل سكت عنه ولم يمنعه فهو كالمشترك معه.
انظر إلى الفتن التي لا حقت الإسلام في العصر الأول كفتنة عثمان، وحادثة الجمل ومقتل الحسين وغيرها وكيف كان أثرها!! واعلموا أن الله شديد العقاب على من خالف أمره فهو معاقبه في الدنيا والآخرة.
واذكروا أيها المهاجرون، وقيل: الخطاب لجميع المؤمنين في عصر التنزيل، واذكروا وقت أن كنتم قلة مستضعفين في مكة والمشركون معكم بحولهم وطولهم يذيقونكم سوء العذاب. وأنتم تخافون أن يأخذوكم بسرعة خاطفة كما كان يتخطف بعضهم بعضا خارج الحرم أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت ٦٧] فآواكم أيها المهاجرون إلى الأنصار، وأيدكم بنصره وبما أرسل لكم من الملائكة
818
ووفقكم لسبل النجاح، وبما ألقى في قلوب أعدائكم من الرعب والخوف، والله رزقكم من الطيبات رزقا حسنا رجاء أن تقوموا بالشكر.
وفي الآية عبرة وعظة لنا فالله يعامل أولياءه وأحبابه من المؤمنين إذا امتثلوا أمره بهذا، أى: يؤويهم ويؤيدهم وينصرهم على أعدائهم ويجعلهم أعزة وملوكا ويرزقهم من طيبات الرزق، كل ذلك رجاء قيامهم بالشكر، فإن شكروا زادهم الله، وإن لم يشكروا ولم يمتثلوا كما هو حال المسلمين اليوم أصبحوا أذلة في ديارهم مستعبدين في أوطانهم، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
الخيانة من صفات المنافقين [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)
المفردات:
لا تَخُونُوا الخيانة والخون يدلان على النقص وإخلاف ما كان يرجى، ومنه قيل: خانه الحظ، وخانته رجلاه، ثم استعمل الخون والخيانة في ضد الأمانة والوفاء.
والْأَمانَةَ: تدل على التمام، وهي حق مادى أو معنوي يجب عليه أداؤه.
فِتْنَةٌ
: هي الاختبار والابتلاء، أو المراد بها الإثم والعذاب.
روى أنها نزلت في أبى لبابة وكان حليفا لبنى قريظة من اليهود، فلما خرج إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد إجلاء بنى النضير وحاصرهم حصارا شديدا دام إحدى وعشرين ليلة وقد طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرسل إليهم أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن أمواله وعياله فيهم، فبعثه إليهم فقالوا له: ما ترى؟ هل ننزل على حكم سعد بن معاذ كما طلب محمد صلّى الله عليه وسلّم فأشار إلى حلقه، أى: أن حكم سعد الذبح... قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى
819
علمت أنى خنت الله ورسوله، فنزلت الآية
، وقد شد نفسه على سارية المسجد وأبى الطعام والشراب حتى الموت، أو يتوب الله عليه، ومكث سبعة أيام وبعدها تاب الله عليه وفك النبي وثاقه.
المعنى:
يا من اتصفتم بالإيمان وتصديق الرحمن، والاهتداء بالقرآن: لا تخونوا الله فتعطلوا فرائضه، أو تنقصوا شيئا من أحكامه التي بيّنها لكم في كتابه، فإن ذلك خيانة تتنافى مع الإيمان، ولا تخونوا الرسول فيما أمركم به أو نهاكم عنه، ولا تخونوه فترغبوا عن بيانه للقرآن فهو أدرى وأقرب، فخيانة الله والنبي عبارة عن تعطيل فرائض الدين، وعدم العمل بأحكامه والاستنان بسنته، فإن هذا كله نقص لا يليق بالمؤمن والمؤتمن على دينه، على أن الخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين.
ولا تخونوا الأمانة التي في أيديكم لغيركم سواء كانت معاملات مالية أو شئونا أدبية أو سياسية أو سرا من الأسرار، أو عهدا من العهود، والحال أنكم تعلمون خطر الخيانة وسوء عاقبتها دنيا وأخرى، وأنتم تعلمون الأمانة ومكانتها، وقيل المعنى: وأنتم تعلمون أن هذا خيانة وذاك أمانة كما حصل لأبى لبابة.
واعلموا أن أموالكم وأولادكم فتنة وابتلاء، وأى فتنة وابتلاء؟! إذ المال عند الإنسان شقيق الروح، يركب الأخطار، ويتحمل المشاق في سبيل الحصول عليه، فإذا هو أعطى المال فهل يشكر ويرضى؟ أم يكفر ويعصى؟ وإذا حرم منه فهل يصير ويرضى أم يغضب ويلعن؟ أليس هو فتنة وابتلاء؟ على أن المال وحبه الغريزي قد يدفع صاحبه إلى عمل يوقعه في المهالك والمصائب.
وأما الولد فقطعة من أبويه فلذة كبدهما، وثمرة فؤادهما. وحبه فطرة وطبيعة عند والديه، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل النفس والنفيس في سبيل راحته وسعادته وقد يؤدى ذلك إلى اقتراف الذنوب والآثام وركوب الشطط في سبيله، أليست الأولاد فتنة بهذا المعنى وابتلاء،
وقد ورد «الولد ثمرة الفؤاد، وإنه مجبنة مبخلة محزنة»
أى: يدعو إلى ذلك كله.
820
والواجب على المؤمن أن يتقى الله في المال فيكسبه من طريق الحلال وينفقه في سبيل الله، وعلى العموم يتبع أوامر الدين، ويخالف نفسه وهواه فإن المال فتنة وابتلاء، ويتقى الله في الولد فلا يكون حبه داعية من دواعي ارتكابه الإثم والعدوان، ويراقب الله فيه فينشئه تنشئة صالحة دينية، ولا يدفعه حب الولد إلى أن يكون في جمع المال له كحاطب الليل.
واعلموا أن الله عنده أجر عظيم وخير كثير هو خير من الدنيا وما فيها، فارعوا الأمانة، ولا تخونوا الله ورسوله.
تقوى الله وأثرها [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
المفردات:
إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ التقوى: من الوقاية، وهي: امتثال الأمر واجتناب النهى لأن هذا يكون وقاية للعبد من النار. فُرْقاناً: فارقا بين الحق والباطل.. الخيانة سببها الإفراط في حب المال والولد غالبا، وعلاج هذا كله هو التقوى والاعتدال.
المعنى:
يا أيها المؤمنون إن تتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، يجعل لكم فرقانا، فيكون المسلم حيث أمره الله، ولا يكون حيث نهاه الله، هذه التقوى إن حصلت لعبد جعل الله له نورا يمشى به بين الناس، وحكمة يهتدى بها، وعلما نافعا، وعملا صالحا، وهذا كله يجعله يفرق بين الحق والباطل والنافع والضار، ويهتدى إلى الصراط المستقيم، كيف لا؟ والمتقرب إلى الله بالنوافل يكون ربانيا، ويكون المولى- جل
شأنه- سمعه وبصره ويده ورجله، أفتراه يضل بعد هذا؟ ألست معى في أن التقوى هي السبيل الأقوى؟!! إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم السابقة ويسترها ويغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات النعيم، والله- سبحانه- ذو الفضل العظيم.
عداوتهم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولدينه [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
المفردات:
يَمْكُرُ سبق شرحه آية ٥٤ آل عمران. لِيُثْبِتُوكَ: ليحبسوك ويوثقوك إذ كل من شد شيئا وأوثقه فقد أثبته حتى لا يقدر على الحركة. أَساطِيرُ: جمع أسطورة، وهي: القصص التي سطرت في الكتب بدون تمحيص ولا نظام.
هذه من نعم الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكرت بعد أن منّ الله على المسلمين بقوله:
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ. [سورة الأنفال آية ٢٦].
وهذه قصة تمثل جانبا من رواية الهجرة الشريفة يحسن الوقوف عليها.
لما شاع خبر محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصبح أتباعه يزيدون يوما بعد يوم اجتمع أشراف مكة في دار الندوة للتشاور في الخطر الداهم، وتمثل لهم إبليس في زي شيخ نجدى وحضر
822
اجتماعهم، فقال أبو البختري: الرأى أن تحبسوه في بيته، وتشدوا وثاقه وتسدوا عليه بابا وتتربصوا به ريب المنون. فقال الشيخ النجدي: ما هذا بالرأى فإن أهله وأتباعه يقاتلونكم ويفكون أسره، ثم قال هشام بن عمر:
الرأى أن تخرجوه من ديارنا وتستريحوا منه ولا يضركم ما يفعل. فقال النجدي:
ما هذا برأى أرأيتم إلى طلاقة لسانه وحلو حديثه وقوة تأثيره فلا تأمنوا أن يجتمع عليه العرب ويغزوكم في عقر دياركم... ثم قال أبو جهل: لي رأى!! أن نجمع من كل قبيلة فتى جلدا قويا ومع كل فتى سيف بتار فيضربوه ضربة رجل واحد، فيضيع دمه بين القبائل، وماذا يفعل بنو هاشم في هذا؟ قال إبليس: نعم هذا الرأى... ولكن الله أطلعه على كل ذلك وأحبط تلك المؤامرة وردهم خائبين، وخرج النبي وأبو بكر مهاجرين إلى المدينة وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.
المعنى:
واذكر يا محمد وقت أن اجتمع الذين كفروا ليمكروا بك ويدبروا أمر القضاء عليك وعلى دعوتك، وعاونهم في ذلك إبليس اللعين. فإن في ذلك القصص ذكرى وعبرة لك ولأمتك وفيه دليل صدقك وتأييد الله لك.
إنهم دبروا لك إحدى ثلاث: إما الحبس والمنع من لقاء الناس، وإما القتل الجماعى، وإما الإخراج من أرض الوطن.
فهم يمكرون بك وبأصحابك، ويدبرون لك الأذى، ولكن الله يحبط مؤامراتهم ويبطل كيدهم فقد أخرجك من مكة إلى المدينة مهاجرا، وعدت إلى مكة غازيا فاتحا، وقد سمى هذا مكرا من باب المشاكلة، والله خير الماكرين لأن مكره إعزاز للحق وأهله، ونصر للإسلام ورجاله وخذلان للباطل وحزبه.
وهكذا دائما لا تنتظروا أيها المسلمون من غيركم من الكفار والمشركين إلا هذا وأمثاله.
هذا كيدهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه، أما كيدهم للدين وكتابه فها هو ذا: وإذا تتلى
823
عليهم آياتنا البينات الواضحات التي أنزلت على النبي الأمى قالوا جهلا وعنادا وسفها واستكبارا: لو نشاء لقلنا مثل هذا، فنفوا بمشيئتهم الإتيان بمثله! أفيعقل هذا؟ أن تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله تحديا سافرا وهم أهل اللسان والبيان وأحرص الناس على التسابق في ميدان البلاغة والفصاحة! ثم عللوا هذا بقولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين، وأخبار كأخبار الأمم السابقين، قيل: إن أول من قال هذا هو النضر بن الحارث وتبعه الناس.
صورة من حماقة العرب وجاهليتها [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
المفردات:
مُكاءً: صفيرا. وَتَصْدِيَةً: تصفيقا.
روى أنه لما قال النضر بن الحارث: إن هذا إلا أساطير الأولين، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
824
ويلك إنه كلام رب العالمين. فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا..
وروى أن معاوية قال لرجل من سبأ: ما جهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! فقال: بل أجهل من قومي قومك حين قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر... الآية.
المعنى:
واذكر إذ قالت قريش: اللهم إن كان هذا القرآن هو الحق من عندك، لا شك فيه ولا مرية، فعاقبنا على الكفر به، بحجارة من سجيل كما عاقبت أصحاب الفيل، ومرادهم إنكار كونه حقا منزلا من عند الله، كأنهم قالوا: إن كان الباطل حقا فائتنا بعذاب أليم، تراهم علقوا نزول العذاب على محال في ظنهم، وفي تعبيرهم (هذا هو الحق) المفيد للتخصيص تهكم بمن يقول: القرآن حق!! فهذا أسلوب بليغ في الجحود والإنكار.
إن كان هذا القرآن هو الحق دون غيره فأمطر علينا حجارة من السماء هي الحجارة المسومة للعذاب أو ائتنا بعذاب أليم آخر.
وهذا هو بيان لموجب التأخير في إجابة دعائهم.
وما كان من مقتضى سنة الله ورحمته وحكمته أن يعذبهم بعذاب الاستئصال وأنت فيهم قد بعثت رحمة للعالمين، وما عذب الله أمة ونبيها معهم.
وما كان الله ليعذبهم والحال أنهم يستغفرون، أى: ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر لما عذبهم الله أبدا، ولكنهم قوم مرنوا على الكفر والشرك فلن يتوقع منهم ذلك، وقيل: ما كان ينبغي تعذيبهم وفيهم من يستغفر الله من المؤمنين الذين بين ظهرانيهم.
وتقييد نفى العذاب بكون الرسول معهم دليل على أن العذاب يترصدهم وأنهم معذبون لا محالة بدليل قوله تعالى:
وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ؟ على معنى: وأى شيء ثابت لهم حتى ينتفى عنهم العذاب، فهم معذبون لا محالة!!
825
وكيف لا يعذبون؟ وهم يصدون الناس عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله عنه عام الحديبية، ألم يخرجوا النبي وصحبه من المسجد الحرام؟!! أفلا يكون هذا صدا عنه؟!! وكانوا يقولون: نحن أولياء البيت الحرام نصد من نشاء، وندخل من نشاء، فيرد الله عليهم بقوله: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، وكيف يكونون أولياء له مع شركهم وعداوتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم؟ وما أولياؤه وأحبابه إلا المتقون المؤمنون من المسلمين فقط، وليس كل مسلم يوصف بأنه ولى الله.
ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك، وقليل منهم من يعرف حقيقة نفسه وقد كانوا يطوفون بالبيت عراة رجالا ونساء مع الصفير والتصفيق وقد سجل الله عليهم ذلك.
وما كان صلاتهم عند البيت الكريم إلا صفيرا وتصفيقا فكان طوافهم وصلاتهم من قبيل اللهو واللعب.
وإذا كان الأمر كذلك فذوقوا العذاب الأليم المعد لكم بسبب كفركم وشرككم!!.
عاقبة إنفاقهم للصد عن سبيل الله [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)
826
المفردات:
حَسْرَةً: ندامة وألما.
نزلت في أبى سفيان حين أنفق المال الكثير على المحاربين في بدر وأحد. وحين قالوا:
يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال- يريد مال العير الذي نجا- على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا.
المعنى:
إن الذين كفروا بالله ورسوله ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن اتباع محمد وما علموا أن هذا صد عن سبيل الله، فسينفقونها في حربه والصد عنه ثم تكون في النهاية حسرة عليهم وندامة لهم، لأنه مال ضائع في سبيل الشيطان ولن يصلوا إلى ما يريدون فالله قد كتب وقدر لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «١» فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ «٢».
هذا عذابهم في الدنيا: ضياع المال والهزيمة النكراء، وهم في الآخرة إلى جهنم يحشرون.
إن الله كتب النصر لعباده والغلب لهم ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطيب ويجعل الخبيث بعضه فوق بعض متراكما في جهنم، أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
(١) سورة المجادلة آية ٢١.
(٢) سورة الرعد آية ١٧.
827
من فضل الله على الناس [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
بعد ما تعرض للكفار وذكر نتيجة أعمالهم في الدنيا والآخرة فتح لهم باب الرحمة الواسعة والفضل الكبير فقال: قل يا محمد للذين كفروا: إن ينتهوا عما هم فيه، يغفر الله لهم ما قد سلف منهم، فالإسلام يجب ما قبله، ويفتح للمسلم صفحة جديدة تسطر فيها أعماله ويجازى عليها، وأما ما عمله قبل الإسلام فدون الكفر، والإسلام يمحو كفره وشركه، وأما إن عادوا إلى حظيرة الكفر فسيلحقون بمن تقدمهم من الأمم السابقة التي كفرت بالله وبرسله ووقفت منهم موقف العناد، وهذه سنة الله في الخلق جميعا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما أنتم أيها المسلمون فقاتلوهم قتالا عنيفا مبيدا حتى لا تكون هناك فتنة أبدا لمسلم في الأرض، ويكون الدين كله لله، والأمر له وحده. فإن انتهوا فإن الله بصير بأعمالهم ومجازيهم عليها، وإن تولوا وأعرضوا فلا يهمنكم أمرهم، واعلموا أن الله مولاكم ومن كان الله مولاه فلا يضام أبدا، وهو نعم المولى ونعم النصير- سبحانه وتعالى- والله أعلم.
كيف تقسم الغنائم [سورة الأنفال (٨) : آية ٤١]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
المفردات:
غَنِمْتُمْ: من الغنيمة، وأصلها إصابة الغنم، والمراد: ما أخذ من الكفار قهرا أما ما أخذ بلا حرب فهو فيء كالجزية وعشر التجارة... إلخ ما هو مبين في كتب الفقه. يَوْمَ الْفُرْقانِ: هو يوم بدر لأنه فرق بين الحق والباطل وظهر في الوجود أن لمحمد المهاجر من بلده قوة غلبت كفار قريش المغرورين.
المعنى:
سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الأنفال وتقسيمها والمراد بها الغنائم كما سبق. فأجاب القرآن على سؤالهم مبينا أن حكمها لله ويقسمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم على حسب ما أمر به يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. [سورة الأنفال آية ١].
وهذا بيان لحكمها بالتفصيل.
واعلموا أيها المسلمون أن الذي غنمتموه من الكفار، أيا كان قليلا أو كثيرا فحق ثابت، واجب أن لله خمسه وللرسول، ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
فالغنيمة تقسم خمسة أقسام، خمسها لهؤلاء الخمسة، وأربعة أخماسها الباقية للجيش بدليل
829
بيان هذا الخمس والسكوت عن الباقي مع قوله تعالى غَنِمْتُمْ قال القرطبي: لما بين الله- تعالى- حكم الخمس وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين.
والمراد بذوي القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب دون بنى عبد شمس، وبنى نوفل، واليتامى: من فقدوا آباءهم وهم فقراء، والمساكين: هم ذوو الحاجة من المسلمين، وابن السبيل: المنقطع في سفره مع شدة حاجته حتى صار الطريق أبا له.
كان يقسم النبي صلّى الله عليه وسلّم الخمس على خمسة: سهم له يصرفه في مصالح المسلمين وسهم لذوي القربى، والثلاثة الباقية لأصحابها المذكورين، وبعد وفاته اختلفت الأئمة فمن قائل أن سهم النبي وسهم ذوى القربى يسقطان، وفقراء آل البيت كفقراء المسلمين، ولا يعطى أغنياؤهم، وهكذا كان يسير أبو بكر مع بنى هاشم، وقال الشافعى: سهم رسول الله يصرف على مصالح المسلمين. وسهم ذوى القربى لفقراء آل البيت وأغنيائهم بالسوية كالميراث، والرأى أن سهم الرسول وسهم ذوى القربى يترك أمرهما للإمام يفعل ما فيه المصلحة للمسلمين.
وبعض العلماء تمسك بظاهر الآية وقال: الخمس يقسم ستة أقسام لا خمسة.
إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على رسول الله من الوحى والملائكة والنصر يوم الفرقان يوم التقى الكفار والمسلمون فاعلموا أن الخمس ليس لكم ولكنه لله ولرسوله، وللأصناف المذكورة، فحذار من أن تتعدوا الحدود في وقت من الأوقات، ولا غرابة في جعل الإيمان بإنزال هذه الأشياء من دواعي العلم بأن لله خمسه وللرسول... إلخ الأصناف لأن الوحى ناطق بهذا، ولما كانت الملائكة والنصر من عند الله، وجب أن تكون الغنيمة التي حصلت بسببها مصروفة في الجهات التي عينها الله، وليس المراد اعلموا فقط بل العلم المشفوع بالعمل والاعتقاد.
830
امتنان الله على المؤمنين بالنصر على عدوهم [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
المفردات:
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا: شط الوادي، والدنيا، أى: القريبة من المدينة. والْقُصْوى: مؤنث الأقصى، أى: البعيدة عن المدينة.
المعنى:
يذكرنا الله- سبحانه وتعالى- بالنعم العظيمة التي حبانا بها، وكان لها الأثر الفعال
831
في الانتصار على كفار قريش، وهذا يوجب الشكر علينا والامتثال لأمر الله في تقسيم الغنائم وغيره.
واذكروا يوم التقى الجمعان إذ أنتم بالعدوة القريبة من المدينة اخترتموها مكانا لكم مع أنها كانت رملية تسوخ فيها الأقدام، ولا يسهل السير عليها، والكفار في العدوة البعيدة، وكانت مكانا صالحا للوقوف قريبا من الماء، ومع ذلك فكان العير الذي يحمل التجارة والركب الذي يرأسه أبو سفيان في أربعين من قريش أسفل منكم، ووراء ظهور المشركين حاميا لها، وهم يدافعون عنه دفاع المستميت، وهذا بلا شك مما يقوى الروح المعنوية فيهم واعلموا أنكم لو تواعدتم على القتال لاختلفتم في الميعاد خوفا من بطشهم وقوة عددهم.
كل ذلك ليتحقق للمسلمين أن النصر من عند الله وحده، وأن الله هو الذي جعلهم يتغلبون على عدوهم مع قلة عددهم وعددهم فيزدادوا إيمانا وشكرا وامتثالا لأمر الله.
ولكن جمع الله بينكم على هذه الحال من غير ميعاد ليقضى الله أمرا كان مقدورا فعله، محتما وقوعه لأنه نصر لأوليائه، وقهر لأعدائه ليهلك من هلك بعد ظهور تلك البينات الواضحات عن حجة وبينة، فإن المقدمات الظاهرة لو تركت وحدها لأنتجت هزيمة المسلمين هزيمة ساحقة، أما وقد ظهر أن الله على كل شيء قدير، وأنه ولى الذين آمنوا، وهو يتولى الصالحين، وقد نصر المسلمين على عدوهم نصرا مؤزرا، وتحقق قوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «١» فمن يهلك بعد ذلك يهلك عن بينة وحجة، ومن يحيا بعد ذلك يحيا عن بينة وحجة، فليس الأمر يسير كالعادة والمألوف، بل هذه معجزات قواطع دمغت الكفر، ومحقت الشرك، وقيل: المراد بالحياة والهلاك:
الإسلام والشرك، وإن الله لسميع بكل دعاء والتجاء إليه، عليم بكل قصد وعمل.
واذكر إذ يريك الله الكفار في منامك قليلا، بمعنى ضعفاء، فتخبر أصحابك بذلك فتثبت قلوبهم، ولو أراكهم على حسب الواقع لفشلتم واختلفتم وتنازعتم في أمر القتال، ولكن الله سلّم من الفشل والنزاع حيث أخرجكم للعير ثم وعدكم الله إحدى الطائفتين، وقد فر العير فلم يبق إلا القتال، وقد منّ عليكم بنعمه حتى انتصرتم، إنه عليم بذات الصدور وهو أعلم بخلقه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [سورة الملك آية ١٤].
(١) سورة القمر آية ٤٥. [.....]
832
واذكروا إذ يريكم الله الكفار ساعة القتال قلة في أعينكم حتى تجرؤوا وتقوى روحكم المعنوية، ويجعلكم قلة في أعين الكفار فيغتروا، ولا يعدوا العدة لكم ولا يحكموا الضربة الموجهة إليكم هذا قبل القتال وأما فيه فإنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويتملكهم الفزع وتسوء حالهم المعنوية قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ
[آل عمران آية ١١٤].
كل ذلك ليقضى الله أمرا كان مفعولا بلا شك، وإلى الله ترجع الأمور كلها يصرفها كيف يشاء، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه- سبحانه وتعالى-.
نصائح حربية [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
المفردات:
فِئَةً: جماعة. رِيحُكُمْ المراد: القوة والغلبة والدولة، ويقال: هبت رياح فلان: إذ دالت له الدولة ونفذ أمره. بَطَراً البطر والأشر: هما الفخر بالنعمة ومقابلتها بالتكبر والخيلاء وجعلها وسيلة إلى ما لا يرضى الله. رِئاءَ النَّاسِ أصله: رياء الناس.
833
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، إذا حاربتم جماعة من الكفار، والتقيتم بهم في ميدان الحرب فالواجب عليكم أن تثبتوا في قتالهم وتصمدوا للقائهم، وإياكم والفرار من الزحف، وتوليتهم الأدبار. فالثبات فضيلة، والفرار كبيرة يعاقب الدين عليها وعليكم بذكر الله في السراء والضراء وحين البأس، فبذكره تطمئن القلوب، وبدعائه تفكّ الكروب، فهو القريب المجيب دعوة الداعي، لا سيما إذا كان دعاء بالنصر على عدو الله، اثبتوا عند اللقاء، واذكروا الله كثيرا، رجاء أن تفوزوا بالأجر والثواب، والنصرة على الأعداء... وأطيعوا الله في كل ما أمر به ونهى، وكذا رسوله الكريم فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، وإياكم والنزاع فإنه مدعاة للفرقة وأساس الهزيمة، وإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم وكثرة اعتراضهم، فالنزاع أداة الهلاك، ومعول الهدم والشقاء، به تذهب الدولة، وتفنى القوة وعليكم بالصبر فهو سلاح المؤمن الذي لا يفل، ولقد قيل: الشجاعة صبر ساعة، وكفى بالصبر شرفا أن الله مع الصابرين بالمعونة والتأييد، وإياكم أن تكونوا كأولئك الكفار الذين خرجوا من ديارهم ليحموا عيرهم خرجوا حالة كونهم بطرين طاغين بالنعمة، غير شاكرين إذ قيل لهم:
إن العير نجا فارجعوا، فقال أبو جهل، لا، حتى نقدم بدرا ونشرب الخمور وتضرب القيان علينا بالدفوف، وتسمع العرب بمقدمنا.. كما مر قريبا، وكان مآلهم كما علمت، بدل الله شرب الخمر بشرب كأس الموت، وبدل ضرب القيان والغناء بنوح النائحات، وبدل نحر الجزور بنحر الرقاب وهكذا!! لا تكونوا مثلهم بطرين أشرين مرائين الناس صادين عن سبيل الله، فهذه من عوامل الهدم والفناء، واعلموا أن الله بما يعمل العاملون محيط وسيجازى كلا على عمله.
فهذه هي النصائح التي تكفل النصر للمسلم: الثبات عند اللقاء، وذكر الله والالتجاء إليه، وطاعة الله وطاعة رسوله وكذا قائد الجيش ورئيس الدولة ما دام يأمر بما يرضى الله ورسوله، وعدم النزاع والشقاق، والصبر عند الشدائد، وعدم البطر والرياء والكبر والخيلاء...
834
كيف يتخلص الشيطان [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٨ الى ٥١]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)
المفردات:
زَيَّنَ: حبب إليهم أعمالهم ووسوس لهم بها. نَكَصَ: رجع هاربا، أى: رجع القهقرى، والمراد: أحجم، والعقب: مؤخر القدم. أَدْبارَهُمْ: جمع دبر، أى: مؤخرهم، والمراد: ظهورهم، وقيل: المراد أستاههم.
المعنى:
واذكر يا محمد إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها ضد دين الله، ووسوس لهم بها وحببهم فيها حتى فهموا أنهم لا يغلبون أبدا، وأوهمهم أن خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم، فلما تراءى الجمعان، والتقت الفئتان في الميدان وجها لوجه. نكص على
عقبيه، ورجع هاربا لا يلوى على شيء، وقال: إنى برىء منكم ومن عملكم، إنى أرى ما لا ترون من جند الله التي تحارب في صفوفهم والمراد أنه بطل عمله، وذهب كيده أدراج الرياح، وهذا تمثيل لحاله مع الكفار في الدنيا فما باله في الآخرة؟!! وفي المأثور: أن إبليس تمثل في صورة سراقة بن مالك الشاعر الكناني وتحدث معهم بالفعل، وفي بعض الروايات: كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما نكص وتركهم وقد حمى الوطيس قال له الحارث: إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحال؟ فقال: إنى أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحارث وانطلق. إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله!! انظر كيف وقف الشيطان منهم هذا الموقف؟!! والله شديد العقاب فاحذروا عقابه.
واذكر وقت أن يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض الشك والحسد وداء الحقد والبطر: غر هؤلاء المسلمين دينهم حتى يخرج ثلاثمائة لمحاربة ألف من زعماء قريش، إن هذا لغرور!! وما علم المنافقون أن من يتوكل على الله فهو حسبه، وناصره ومؤيده، فإن الله عزيز يعز أولياءه ويذل أعداءه، غالب على أمره، حكيم في فعله عليم بخلقه. سبحانه وتعالى.
ولو رأيت يا من تتأتى منك الرؤية وقت أن يتوفى الذين كفروا الملائكة، لو رأيت الكفرة في هذه الحال لرأيت شيئا عجيبا لا يكاد يوصف، فهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد، ويقولون لهم: ذوقوا عذاب الحريق، وهذا بشارة لهم بعذاب الآخرة.
ذلك العذاب الشديد والضرب الأليم بسبب ما قدمته الكفار، واجترحته من المعاصي والذنوب، وأن الله ليس بذي ظلم للعباد أبدا بل يضع الموازين القسط، ويعطى كل ذي حق حقه.
ما حل بهم بسبب أعمالهم [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
836
المفردات:
كَدَأْبِ الدأب: مصدر دأب يدأب: إذا كدح وأتعب نفسه وداوم على فعله، ثم سميت به العادة لأن الإنسان يداوم عليها ويواظب.
المعنى:
هذا استئناف، أى: كلام جديد مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بسبب شيء آخر فهو تأكيد لمضمون ما قبله ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
عمل هؤلاء الكفرة الذين مرنوا عليه وتعودوه كعمل آل فرعون والذين من قبلهم من آل عاد وثمود وقوم لوط والمؤتفكات، أتتهم رسلهم بالبينات فكفروا بآيات الله، وكذبوا برسل الله. فأخذهم الله بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر، ولا غرابة في ذلك فإن الله قوى عذابه شديد عقابه فالجزاء من جنس العمل ومسبب عنه.
ذلك العذاب الذي يأتى مسببا عن العمل بسبب أن الله- سبحانه وتعالى- لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أى: لم يصح في حكمته أن يغير نعمة حتى يتغير صاحبها إذ هو الحكيم الكريم الرحمن الرحيم.
وهؤلاء الكفار كانوا في نعمة الأمن والرفاهية، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وبعث إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من بينهم يتلوا عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، نعم كانوا قبل البعثة كفرة عبدة أصنام
837
لكن هذه لم تمنعهم من إفاضة نعمة الإمهال عليهم وسائر النعم التي سبقت من الأمن والرفاهية وإرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فلما بعث إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم غيروا حالهم السيئة إلى أسوأ منها حيث كذبوا النبي وعادوه وحاولوا قتله وعذبوا أصحابه وتحزبوا عليه.. فغير الله- تعالى- ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهال وعاجلهم بالعذاب والنكال إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وذلك بسبب أن الله يسمع كل صوت ويعلم كل قصد وعمل.
دأبهم وما هم عليه من عادة كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فكان من نتيجة ذلك أن أهلكهم الله بذنوبهم التي من جملتها التكذيب وأغرق آل فرعون وأرسل الريح والصيحة على غيرهم، وكل هؤلاء كانوا ظالمين.
كيف حال من نقض العهد؟ [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٥ الى ٥٩]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
المفردات:
الدَّوَابِّ: جمع دابة، وهي: ما تدب على الأرض، والمراد الناس.
تَثْقَفَنَّهُمْ تثقفت الرجل في الحرب: أدركته، وثقفته: ظفرت به. فَشَرِّدْ بِهِمْ التشريد: تفريق مع إزعاج واضطراب. فَانْبِذْ: فاطرح وارم.
سَبَقُوا: أفلتوا وفاتوا.
838
المناسبة:
بعد أن تكلم على الكافرين الظالمين الذين هلكوا بأعمالهم. أخذ يتكلم على أحوال الباقين منهم.
روى أنها نزلت في بنى قريظة من اليهود، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عاهدهم ألا يحاربوه وألا يعاونوا أحدا عليه فنقضوا عهدهم وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله، ثم قالوا: نسينا. فعاهدهم ثانية فنقضوا ومالئوا الكفار يوم الخندق، وركب كعب بن الأشرف زعيمهم إلى مكة فحالفهم على محاربة رسول الله.
المعنى:
إن شر الناس عند الله الذين كفروا وصدوا عن سبيله، ولجوا في العناد وأصروا على الكفر، وقد جعلهم القرآن شر الدواب إشارة إلى أنهم بلغوا درجة الحيوانات والدواب ومع ذلك هم شر منها إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا «١» وهم لذلك لا يؤمنون ولا يرجى منهم خير أبدا.
إن شر الناس عند الله، أى: في حكمه وقضائه: الذين كفروا، أى: الذين عاهدت منهم وأخذت العهد عليهم كبني قريظة ثم تراهم ينقضون العهد في كل مرة من المعاهدة والحال أنهم لا يتقون الله ولا يخافون حسابه وليس لهم ضمير أو ذمة يرعونها.
هذا حالهم عند الله، أما حكم من نقض العهد منهم فإن أمكنتك الفرصة منهم وثقفتهم في الحرب فاضربهم الضربة القاضية التي تفرق بها جمع كل ناقض للعهد حتى يخافك من وراءهم من أهل مكة وغيرها، افعل هذا لعل الذين خلفهم يتعظون بهم.
أما من أشرف على نقض العهد وبدرت منه بوادر تؤذن بأنه سينقض فهاك حكمه.
وإما تخافن من قوم خيانة بنقض العهد بأن لاح لك دلائل الغدر ومخايل الشر، والمراد بالخوف: العلم، فاطرح لهم عهدهم وانبذه لهم نبذ النواة مستويا أنت وهم في العلم بنقض العهد بأن تعلمهم به حتى لا يتهموك بالغدر والخيانة إن الله لا يحب الخائنين.
(١) سورة الفرقان آية ٤٤.
839
وقيل المعنى: فانبذ إليهم عهدهم على طريق مستو واضح، والمراد: أخبرهم خبرا مكشوفا.
ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أنهم أفلتوا من القتل والأسر يوم بدر أنهم بهذا السبق لا يعجزون الله من الانتقام منهم بل هم في قبضته ولن يفلتوا أبدا إما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بالعذاب الشديد، وأما أنت يا محمد فاعلم أن الله محيط بهم ومعذبهم على كفرهم ومنتقم منهم فاطمئن واصبر فإن الله معك!
الإعداد الحربي للأعداء [سورة الأنفال (٨) : آية ٦٠]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠)
المفردات:
رِباطِ الْخَيْلِ يقول الكشاف: الرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله.
تُرْهِبُونَ: تخيفون.
المعنى:
الجيش هو عدة الوطن وسلاحه ودرعه وسياجه، وجه الأمة التي تقابل به العدو، ويدها التي تبطش بها، وقلبها النابض وعينها الساهرة، ولذا كانت عناية القرآن به كما ترى في كثير من الآيات، ورعاية النبي صلّى الله عليه وسلّم له وإعطاؤه القسط الوافر المناسب لزمنه أمر ظاهر واضح.
والإعداد والتكوين أمر شاق على النفوس عسير على الناس إلا المؤمنين بالله المتوكلين عليه أصحاب النفوس العزيزة والهمم العالية.
والآية الكريمة على اختصارها جمعت أنواع الإعداد للجيوش التي تتلاءم مع كل عصر وزمن مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ.
فالإعداد الأدبى، والمادي، والإدارى، والفنى، والمالى، مع الحث على ذلك كله بالثواب الجزيل والعطاء الكثير كل ذلك في الآية الشريفة، ولقد فرض القرآن علينا الإعداد بأنواعه وَأَعِدُّوا، وأن نبذل فيه أكثر جهودنا وأن نقدم النفس والنفيس ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
ولم تغفل الآية الإعداد في وقت السلم حتى يكون الجيش على أتم استعداد في كل وقت (كلما سمعوا هيعة طاروا إليها) فأمرنا بإعداد الخيل المرابطة في الثغور لمقابلة العدو ليلا ونهارا.
ولقد ذكرت الآية سبب الإعداد وهو إرهاب العدو الظاهر والعدو الخفى ما نعلمه، وما لا نعلمه.
ولم يكن هناك إعداد ونصر إلا بالمال، ولا سبيل إليه إلا بالإنفاق المطلق كل على قدر طاقته وإيمانه مع حقنا على التسابق فيه والعمل على إحراز ثوابه الكبير المعد لنا يوم القيامة.
ولا يمكن أن تقوم أمة بهذا الإعداد الكامل ثم تظلم من جيرانها أبدا، وأنتم لا تظلمون كذلك في الآخرة وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة البقرة آية ٢٧٣].
والخيل في العصر القديم كانت عنوان الرهبة للأعداء، ولا تزال لها مكانتها في العصر الحديث لهذا ذكرت، وإن كانت الآية تدعو لإعداد المستطاع المناسب من كل قوة صالحة.
الميل إلى السلام، وتقوية الروح المعنوية في الجيش [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦١ الى ٦٦]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
841
المفردات:
جَنَحُوا: مالوا لِلسَّلْمِ السّلم، والسّلم واحد. حَسْبَكَ:
كافيك.
المعنى:
بعد ما أمر بالاستعداد التام للحرب، وغالبا يكون مانعا له، ذكر هنا حكم ما إذا طلبوا الصلح ومالوا إلى السلم فقال ما معناه: وإن مالوا إلى السلم وطلبوا عقد الهدنة والأمان فأعطهم ما طلبوا، والصحيح- كما قال الزمخشري في كشافه-: أن الأمر في الآية موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو صلح، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا.
842
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله فالله حسبك وكافيك، وهو السميع لكل قول وطلب، عليم بكل قصد ونية، وهذا يفيد أن دين الإسلام دين السلام والمحبة، وأنه عدو للحرب إلا إذا اقتضتها الظروف القاهرة.
وإن يريدوا خداعك بطلب الصلح حتى يستعدوا للحرب فاعلم أن الله كافيك شرهم، وناصرك عليهم، ولا غرابة، فهو الذي أيدك وأمدك بنصر من عنده وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وأيدك بالمؤمنين معك من الأنصار والمهاجرين، الذين دافعوا عنك دفاع الأبطال، وهو الذي ألف بين قلوبهم، وجمعهم على كلمة الحق والشهادة، وألزمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها جمعهم على حبك وألف بين قلوبهم المتنافرة المتباغضة، وقد كانوا في الجاهلية أصحاب حروب وفتن وعداوات وعصبيات وحب للانتقام وإثارة الحروب لأتفه الأسباب، ومع أنك لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم. ولكن الله القوى القادر الحكيم العليم ألف بين قلوبهم، وجمعهم على صراط سوى، إنه عزيز كامل القدرة والغلبة يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير، حكيم في كل ما يصنع.
يا أيها النبي حسبك الله وكافيك في جميع أمورك أنت والمؤمنين بك فكونوا أقوياء العزم ثابتى الجنان، فإن الله معكم بالنصر والمعونة. ولا شك أن هذا يقوى الروح المعنوية في جيوش المسلمين.
وهذا لا يمنع الأخذ بالأسباب، ولذا يقول الله: يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، وحثهم عليه حثا شديدا حتى يبذلوا النفس والنفيس في سبيل الله طيبة نفوسهم بهذا، وذلك ببيان فضيلة الجهاد وأنهم ينتظرون في الجهاد إحدى الحسنيين: إما الشهادة، ويا لها من شرف!! وإما الغنيمة والنصر. واعلموا أن الواجب عليكم أن الواحد يقاتل عشرة من الكفار، إذ هناك فرق شاسع بين من يقاتل عن عقيدة ثابتة ونفس مطمئنة، وبين من يقاتل مكرها أو مأجورا أو لغرض دنيوى بسيط.
إن يكن منكم عشرون صابرون محتسبون أجرهم عند الله يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة صابرة على هذا الشرط يغلبوا ألفا من الذين كفروا بالله وبرسوله، ولم يؤمنوا بالبعث والجزاء، ذلك بسبب أنهم قوم لا يفقهون الأسرار الحربية ونظامها الذي يكفل النجاح، وهم قوم لا يفقهون عن عقيدة وحجة، ثم هم لا يؤمنون بالبعث
843
والجزاء. أما أنتم فتقاتلون صابرين محتسبين الآجر من عند الله منتظرين إحدى الحسنيين من الغنيمة أو الشهادة. هذا هو الوضع الذي يجب أن يكون عليه المسلم، وعدم الفقه والفهم هو الوضع الذي وصف به المشركون، واليهود لأنهم ماديون أشد الناس حرصا على حياة هذه المرتبة العليا للمؤمنين وهي مرتبة (العزيمة) وهاك مرتبة أقل منها وهي (الرخصة).
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا في البدن من كثرة الجهاد والعمل، فإن يكن منكم مائة صابرة على هذا الشرط يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله وقوته والله مع الصابرين بالمعونة والرعاية، ولقد كرر القرآن مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت أبدا ما دام الجيش يسير حسب الشرع، وتبعا لتعاليم الإسلام.
التشريع ينزل موافقا لرأى عمر [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٧١]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
844
المفردات:
يُثْخِنَ يقال: أثخنه المرض والجرح: إذا أثقله وجعله لا يتحرك، والمراد يكثر القتل ويبالغ فيه.
سبب النزول:
روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استشار أصحابه فيما يعمله في أسرى بدر فأشار أبو بكر بالفدية وقال: هم قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك، واستشار عمر فأشار بالقتل قائلا: اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر والله أغناك عن الفداء.
مكّن عليا من عقيل، وحمزة من العباس، ومكنى من فلان نسيب له فلنضرب أعناقهم، وقد مال الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى رأى أبى بكر فنزلت الآية وقد ختم الله سياق الكلام في القتال بذكر حكم يتعلق بالأسرى.
المعنى:
الأسير عدو من الكفار وقع في يد المسلمين، والحكم فيه أن الإمام يتصرف فيه تبعا للمصلحة العامة فيعرض عليه الإسلام فإن أسلم فبها، وإلا قتله الإمام، أو قبل الفداء منه، أو استرقه، أو منّ عليه بدون فداء. هذا إذا كانت للأمة الإسلامية دولة وصولة، أما في مبدأ الأمر كما هنا عند قيام الدولة فالرأى ألا يبقوا على الأسر ولا يحملوهم معهم بل يقتلوهم قتلا. إذ هم عالة عليهم وضغث على إبالة، وإن بقي ربما تظاهر بالإسلام وكان جاسوسا على المسلمين، وفي هذا المعنى كانت الآية الكريمة.
ما كان لنبي، أى: ما صح له وما استقام أبدا، أى: لا ينبغي أن يكون له أسرى ثم يبقى عليهم، ويقبل الفدية. فإن هذا خطر على الدولة، ما كان له ذلك حتى يكثر القتل في الكفار ويبالغ فيه، وفي هذا إعزاز للمسلمين، وإضعاف للكفار وكسر لشوكتهم، أتريدون بقبول الفداء والإبقاء عليهم عرضا من أعراض الدنيا وحطامها الزائل؟ والله يريد لكم ثواب الآخرة، أو يريد إعزاز دينه، والقضاء على أعدائه وهذا سبب الوصول إلى ثواب الآخرة، والله عزيز يعز أولياءه، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، حكيم في أفعاله وأعماله فامتثلوا أمره فهو يهديكم إلى سبيل الرشاد والخير.
845
لولا كتاب من الله سبق وحكم قضاه في اللوح المحفوظ أن المخطئ لا يعاقب على خطئه، لولا هذا لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم وقعه، شديد هوله، وفي هذا تهويل لخطر ما فعلوا.
وقد أبيحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا، واتقوا الله وامتثلوا أمره ونهيه، إن الله غفور رحيم يقبل التوبة، ويعفو عن السيئة.
روى أنه كان من الأسرى العباس بن عبد المطلب وقد كلفه النبي أن يفدى ابن أخيه عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث فقال: يا محمد، تركتني أتكفف قريشا ما بقيت، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة؟ وكان هذا إخبارا بالغيب حيث لم يكن يعلم بهذا إلا الله، فقال العباس: والله كان عندي ريب قبل هذا ولكن الآن لا ريب
، وفي رواية قال العباس: فأبدلنى الله خيرا مما أخذ منى.
يا أيها النبي قل لمن في ملككم من الأسرى: إن يعلم الله في قلوبكم إخلاصا وحسن نية يؤتكم خيرا مما أخذ منكم في الفداء، ويغفر لكم والله غفور ستار للذنوب. وقيل:
المراد من الآية أن يعرض النبي على الأسرى الإسلام، ويمنيهم بالخير والمغفرة.
وإن يريدوا خيانتك، ونقض عهدك فاعلم أنهم قد خانوا الله من قبل ذلك بنقضهم الميثاق المأخوذ على الناس جميعا أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وإذا كان كذلك فلا يهمنك أمرهم فالله أمكنك منهم وسلطك عليهم فهزمتهم، وهذا كلام مسوق لتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق الوعد له والوعيد عليهم، والله عليم بالنيات حكيم بفعل ما تقتضيه الحكمة البالغة..
الرابطة الإسلامية أقوى الروابط [سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٢ الى ٧٥]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
846
المفردات:
هاجَرُوا: تركوا دار الكفر وذهبوا إلى دار الإسلام. آوَوْا: أنزلوا وأسكنوا، يقال: آواه: أنزله دارا وأسكنه إياها. وَلايَتِهِمْ: الولاية مصدر وليه يليه، أى: ملك أمره وقام به. تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ: تحصل فتنة عظيمة، والمراد ضعف الإيمان وظهور الكفر.
المعنى:
ما مضى كان في الكلام على الكفار وأسراهم وكيفية معاملتنا لهم ضاربين بقرابتهم عرض الحائط مستبدلين بها قرابة الإسلام، ولذا تكلم القرآن هنا على رابطة الإسلام.
إن الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا كاملا، وهاجروا في سبيله، هجروا أوطانهم الحبيبة إلى نفوسهم، وتركوا مالهم كل ذلك لله، وجاهدوا في سبيله، وبذلوا النفس والنفيس، أولئك هم المهاجرون الذين تركوا مكة وعزهم وشرفهم ونسبهم فيها
847
إلى يثرب التي قطنها الرسول الكريم، إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا المهاجرين وأنزلوهم ديارهم وشاركوهم في أموالهم، ونصروا رسول الله ومنعوه مما يمنعون به أزواجهم وأولادهم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «١» أولئك هم الأنصار هؤلاء المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض، يتولون أنفسهم بالرعاية والعناية، والسهر على المصالح فهم جسد الأمة الإسلامية، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فرابطة الإسلام بينهم أقوى رابطة، والإيمان هو الصلة المحكمة، وهكذا المسلمون في كل زمان ومكان اجتمعوا على الإيمان بالله، والتقوى عند محبة الرسول الأكرم ولذا يقول الله فيهم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «٢» فالأخوة في الإسلام إذا ما كانت لله حقا كانت هي الدعامة الوحيدة لتماسك بناء الأمة، وقيل: المراد بالولاية هنا الميراث، ونخست الآية بآية المواريث، والذين آمنوا بالله ورسوله ولم يهاجروا بأن اعترضتهم عقابات لم يستطيعوا التغلب عليها، وقد كانت الهجرة في مبدأ الإسلام علامة الإيمان الكامل هؤلاء ليس لكم ولاية عليهم، وليس بينكم توارث، وإن كانوا ذوى قربى حتى يهاجروا.
ولكن إن استنصروكم في الدين، وطلبوا إليكم أن تمدوا إليهم يد المساعدة لهم على أعدائهم بقدر الطاقة فانصروهم إلا على قوم بينكم وبينهم معاهدة وميثاق، والله بما تعملون بصير.
والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ليس لكم أن توالوهم أو تتخذوهم أصدقاء مهما كانوا من القرابة والصلة، إن لم تفعلوا هذا، وتقوموا بهذه الأوامر تحصل فتنة في الأرض وفساد كبير، وذلك بضعف الإسلام وكسر شوكته، وظهور الكفر، وعلو رايته!!! يا سبحان الله أنت عالم الغيب والشهادة وأنت الخبير البصير، فلقد ظل الإسلام كما هو حتى اتخذ المسلمون بطانتهم من غيرهم ووالوا أعداء الدين بحجة السياسة مرة أو الحاجة أخرى فأصبحوا ولا حول لهم ولا قوة، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدينا، نعم وسنظل على ذلك حتى نعود إلى الدين والقرآن نفعل ما يريده ونتجنب ما ينهى عنه.
(١) سورة الأعراف آية ١٥٧.
(٢) سورة الحجرات آية ١٠.
848
والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا الرسول وعزروه ونصروه، وهم المهاجرون والأنصار، أولئك المؤمنون حقا، فالهجرة والنصرة دليل على صدق الإيمان وكمال الإسلام، ولهم مغفرة من الله ورضوان، ولهم رزق في الدنيا والآخرة كريم، أى: حسن وكبير.
هؤلاء هم السابقون المقربون، ومن أتى بعدهم فهذا حالهم والذين آمنوا من بعد ذلك، أى: بعد أن قويت شوكة المسلمين وامتد بهم الزمن وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله معكم فأولئك منكم، وأنت منهم، بعضكم أولياء بعض، وأولو الأرحام وذوو القرابات في الإسلام بعضهم أولى ببعض فقد جمعوا بين الأخوة في الله والأخوة في النسب، هذا الحكم في كتاب الله، وقيل: المراد ميراث ذوى الأرحام، وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون في بداية الإسلام حتى نزلت آية المواريث، ومنها هذه الآية، واعلموا أن الله بكل شيء عليم.
وليس في الآيات تكرار فالأولى لبيان أن رابطة الإسلام أقوى من رابطة النسب، والثانية لبيان مكانتهم وأنهم هم المؤمنون حقا، والثالثة لبيان أن الذين جاءوا بعدكم وآمنوا بعد ظهور الإسلام فأولئك منكم والله أعلم.
849
سورة التوبة
عدد آياتها تسع وعشرون ومائة وتسمى سورة براءة، والمبعثرة، والمثيرة، والمخزية، والفاضحة، والمشردة، وسورة العذاب، لما فيها من ذكر التوبة، وما فيها من التبرئة من النفاق، وما فيها من التعرض للمنافقين وكشف سترهم وما يخزيهم ويشردهم، وما فيها من نقض العهود وإرصاد العذاب للمشركين، لهذا وذلك سميت بتلك الأسماء.
وكثرة أسمائها الواردة دليل على أنها سورة مستقلة ليست جزءا مما قبلها.
وإذا كانت سورة فلم تركت البسملة في أولها؟!! أما الحكمة في ترك البسملة فالظاهر- والله أعلم- أنها نزلت لرفع الأمان، ونقض العهود مع المشركين، وفضيحة المنافقين، وهذا يتنافى مع التصدير بالاسم الجليل الموصوف بالرحمن الرحيم، وفي الكشاف: سئل ابن عينية- رضى الله عنه- فقال:
اسم الله سلام وأمان فلا يكتب في النبذ والمحاربة. وما روى عن ابن عباس في هذا فأظنه مدسوس عليه إذ لا يعقل أن يلحق النبي بالرفيق الأعلى ولم يبين للصحابة مكان هذه الآيات، فاختلف الصحابة في ذلك على أن الصحيح أن البسملة آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها، وأنه لا مدخل لأحد بالمرة في إثباتها أو تركها وإنما هذا كله توقيف ووحى، ولا يعقل أن يترك ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا يصح أن يتشكك مسلم في هذا أبدا، ولا شك في عدم نزول البسملة ها هنا بالإجماع.
نبذة تاريخية:
في السنة السادسة للهجرة عاهد النبي صلّى الله عليه وسلّم المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها عن قوة وعزة لا عن ضعف وذلة، ودخلت قبيلة خزاعة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبيلة بنى بكر في عهد قريش، وكانت بين هاتين القبيلتين إحن قديمة وثارات موروثة فاعتدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم، وأعانت قريش بنى بكر بالسلاح وبالرجال فانهزمت خزاعة فكان ذلك نقضا للصلح الواقع عام الحديبية:
850
ولذا خرج عمرو بن سالم الخزاعي على رأس وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستغيثين به،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب»
فكان ذلك سبب عودة حال الحرب العامة وفتح مكة في السنة الثامنة.
وقد ثبت بالتجربة أن المشركين في حال القوة والضعف لا عهود لهم، ولا أمان فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ «١» إلا من عاهد واستقام أمره، هذا هو الأساس الشرعي الذي بنى عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها منهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
ولما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم أميرهم مالك بن عوف النصري لقتال المسلمين وكانت غزوة حنين في شوال في السنة الثامنة، وبعدها حاصر الطائف بضعا وعشرين ليلة ورماهم بالمنجنيق.
ثم أقام النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة بعد ذلك ذا الحجة والمحرم من السنة التاسعة وصفر وربيع الأول والآخر وجماد الأول والآخر، وخرج في رجب سنة تسع إلى غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها النبي، وفيها نزلت أكثر آيات السورة الكريمة.
ولما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تبوك أراد الحج ولكنه قال: يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت فلا أحب أن أحج معهم، فأرسل أبا بكر أميرا على الحج، ثم لما خرج أرسل بعده عليا
وقال له: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا»
وقال: «لا يبلغ عنى إلا رجل منى»
فخرج علىّ على العضباء ناقة الرسول فأدرك أبا بكر في ذي الحليفة وأم أبو بكر- رضى الله عنه- الناس في الحج، وقرأ علىّ على الناس صدر سورة «براءة».
(١) سورة التوبة آية ١٢.
851
Icon