تفسير سورة الأنفال

تفسير آيات الأحكام للسايس
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب تفسير آيات الأحكام للسايس المعروف بـتفسير آيات الأحكام للسايس .
لمؤلفه محمد علي السايس .

بسم الله الرّحمن الرّحيم

من سورة الأنفال
قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)
هذه السورة كلّها مدنية، وقيل: هي مدنية إلا قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وقيل: إلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وبعضهم استثنى خمس آيات بعد آية وَإِذْ يَمْكُرُ.
ومناسبتها لسورة الأعراف: أنها في بيان حال الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع قومه، وسورة الأعراف مبينة لأحوال أشهر الرسل مع أقوامهم.
وسبب نزول هذه الآية ما
أخرجه أحمد وابن حبّان والحاكم من حديث عبادة بن الصّامت رضي الله عنه أنّ المسلمين اختلفوا في غنائم بدر، وفي قسمتها، فسألوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم كيف تقسم، ولمن الحكم فيها، أهي للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا؟ فنزلت «١».
والسؤال إمّا لاستدعاء معنى في نفس المسئول، وهذا يتعدّى بنفسه تارة، وبعن أخرى، كما في هذه الآية. وإما لاقتضاء مال، فيتعدّى لاثنين بنفسه، نحو سألت زيدا مالا، وقد يتعدّى بمن، وفاعل السؤال يعود على معلوم، وهو من حضر بدرا.
والأنفال جمع نفل كسبب وأسباب، وهو في أصل اللغة من النّفل بفتح فسكون- أي الزيادة- ولذا سمي التطوع وولد الولد نافلة، ثم صار حقيقة في العطية لكونها تبرعا غير لازم. وتسمّى الغنيمة نفلا لأنّها منحة من الله من غير وجوب، أو لأن المسلمين فضّلوا بها على سائر الأمم التي لم تحلّ لهم، أو لأنها زيادة على ما شرع الجهاد له، وهو إعلاء كلمة الله: كذلك يسمّى بالنفل ما يشترطه الإمام للغازي زيادة على سهمه. وبعضهم فرّق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص: فالغنيمة ما حصل
(١) انظر تفسير ابن جرير الطبري المسمى جامع البيان (٩/ ١١٦).
429
مستغنما ببعث كان أو بغير بعث، قبل الظفر أو بعده. والنفل ما كان قبل الظفر أو ما كان بغير قتال، وهو الفيء، أو ما يفضل عن القسم.
إذا تبين هذا فاعلم أن الراجح هنا كون السؤال سؤال استفتاء لا استعطاء، وأنّ المراد بالأنفال الغنائم لا المشروط للغازي زيادة على سهمه، ويؤيد ذلك الراجح أمور:
١- أنّ هذا أول تشريع للغنيمة.
٢- ما تقدّم من سبب النزول.
٣- قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ فإنّه لو كان السؤال طلبا للمشروط لما كان هناك محذور يجب اتقاؤه.
ومن ذهب إلى المرجوح وهو أن السؤال سؤال استعطاء، وأن النفل ما يشترط للغازي فقد التزم زيادة (عن) أو جعلها بمعنى (من) وهو تكلّف لا ضرورة إليه.
ويبعده أيضا الجواب بقوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فإنّ المراد به اختصاص أمرها وحكمها بالله تعالى ورسوله، فيقسمها النبي عليه الصلاة والسلام كما يأمره الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد، ولو كان السؤال سؤال استعطاء، و (عن) زائدة لما كان هذا جوابا له، فإنّ اختصاص حكم ما شرط لهم بالله ورسوله لا ينافي إعطاءه إياهم، بل يحققه، لأنّهم إنما يسألون بموجب شرط الرسول عليه الصلاة والسلام الصادر عنه بإذن الله، لا بحكم سبق أيديهم إليه مما يخل بالاختصاص المذكور.
والمعنى: يسألونك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم ولمن الحكم فيها قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي قل لهم: الأنفال لله يحكم فيها بحكمه، وللرسول يقسمها بحسب حكم الله تعالى.
وهذه الآية محكمة بيّن فيها إجمالا أنّ الأمر مفوّض لرسول الله، وآية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ إلخ فصّلت هذا الإجمال ببيان مصارف الغنيمة، فلا تكون ناسخة لها فَاتَّقُوا اللَّهَ أي وإذا كان أمر الغنائم لله ورسوله فاتقوه سبحانه، واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى، أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون، فيدخل ما هم فيه دخولا أوليا وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي أصلحوا نفس ما بينكم، وهي الحال والصلة التي بينكم تربط بعضكم ببعض، وهي رابطة الإسلام، وإصلاحها يكون بالوفاق والتعاون والمواساة وترك الأثرة والتفوق، وبالإيثار أيضا، فذات بمعنى حقيقة الشيء ونفسه مفعول به، وقيل: إنّ (ذات) بمعنى صاحبة، صفة لمفعول محذوف، أي أحوالا ذات بينكم، ولما كانت
430
الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه، كما تقول: اسقني ذا إنائك أي ما فيه، جعل كأنه صاحبه.
والبين في أصل اللغة يطلق على الاتصال والافتراق، وكل ما بين طرفين كما قال تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: ٩٤] برفع بين بمعنى الوصل، وبنصبه على الظرفية بمعنى وقع التقطع بينكم. ومن استعمال البين بمعنى الافتراق والوصل قول الشاعر:
فو الله لولا البين لم يكن الهوى ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الغنائم، وفي كل أمر ونهي، وقضاء وحكم، وذكر الاسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم. وذكر الرسول مع الله تعالى أولا وآخرا لتعظيم شأنه، وإظهار شرفه، والإيذان بأنّ طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى: وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى، والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح، وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف لدلالة ما تقدّم عليه، أي فامتثلوا الأوامر الثلاثة فإنّ الإيمان يقتضي ذلك كله، أو الجواب نفس ما تقدم على الخلاف.
وأيا ما كان، فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه، لا التشكيك في إيمانهم، وهو يكفي في التعليق بالشرط.
والمراد بالإيمان التصديق، ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر على معنى أن من شأنه ذلك، لا أنه لازم له حقيقة.
وقد يراد بالإيمان الإيمان الكامل، والأعمال شرط فيه، أو شطر، فالمعنى إن كنتم كاملي الإيمان فإنّ كمال الإيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة: الاتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
ما يستنبط من الآية
يستفاد منها أمور:
١- حرص الصحابة على السؤال عما يهمهم من أمر دينهم.
٢- إنّ الأحكام مرجعها إلى الله تعالى ورسوله، لا إلى غيرهما.
٣- اهتمام الشارع بإصلاح ذات البين، فهو واجب شرعا لتوقف قوة الأمة عليه وعزتها ومنعتها، ولحفظ وحدتها به.
٤- إن امتثال ما أمر به الشارع من ثمرات الإيمان. والله أعلم.
431
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
(الزحف) قال الأزهري: أصل الزحف للصبي، وهو أن يزحف على استه قبل أن يقوم. وشبّه بزحف الصبي مشي الطائفتين اللتين تذهب كل واحدة منهما إلى صاحبتها للقتال، فتمشي كلّ فئة مشيا إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضّراب.
وقال الزمخشري «١» : الزحف الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنّه يزحف، أي يدبّ دبيبا، من زحف الصبي إذا دبّ على استه قليلا، سمي بالمصدر، والجمع زحوف.
فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم.
إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ المتحرّف للقتال هو الذي يفرّ موهما قرنه أنه منهزم، فإذا تبعه عطف عليه فقتله، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها، وهو حال من فاعل يُوَلِّهِمْ والاستثناء مفرّغ، أو منصوب على الاستثناء أي وَمَنْ يُوَلِّهِمْ إلا رجلا متحرفا لقتال.
أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ التحيّز التنحي. والفئة: الجماعة.
نهى الله عن الفرار، وتوعّد عليه أشدّ الوعيد، وهو أن يرجع بغضب من الله، وأنّ مقره في جهنم، ولم يبح الفرار إلا لاثنين:
أحدهما: المتحرّف للقتال، وهو الذي يفرّ، ثم يكرّ مكيدة منه وخدعة.
والثاني: الرجل الذي يرى أنّه كالمنفرد، ويرى جماعة من المسلمين تحميه إذا انحاز إليها.
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: خرجت سرية وأنا فيهم، ففروا، فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا، فدخلوا البيوت، فقلت: يا رسول الله نحن الفرّارون؟ فقال: «بل أنتم العكارون وأنا فئتكم» «٢» والعكارون الكرّارون العطّافون.
وانهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! هلكت فررت من الزحف، فقال عمر رضي الله عنه: أنا فئتك.
وهذه الآية حرّمت الفرار من القتال، وأما كم عدد العدو الذي يحرم الفرار منه فقد بينته آية الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال: ٦٦].
(١) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الكتب العلمية (٢/ ١٩٩).
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح حديث رقم (١٧٧٠).
قال الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
هذه الآية بيّنت أن غنائم الحرب تخمّس، فيجعل خمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأربعة الأخماس الباقية بينت السنة أنّها تقسّم على الجيش، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، أو سهمان على خلاف في الروايات.
وقد اختلف العلماء فيما هي الغنيمة والفيء. فقال بعضهم: الغنيمة ما أخذ عنوة من الكافرين في الحرب، والفيء ما أخذ عن صلح، وقال بعضهم: الغنيمة ما أخذ من مال منقول، والفيء الأرضون. وقال آخرون: الغنيمة والفيء بمعنى واحد، وزعموا أن هذه الآية ناسخة لآية الحشر، فإنّ آية الحشر [٧] جعلت الفيء كلّه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وهذه الآية جعلت لهم الخمس فقط، فتكون هذه ناسخة لتلك، والظاهر أن الغنيمة والفيء مختلفان ولا نسخ.
وقد ذكرت الآية أنّ الخمس لستة:
أولها: الله عزّ وجلّ، وقد اختلف المفسرون فيه على قولين:
١- أن قوله: لِلَّهِ خُمُسَهُ مفتاح كلام لم يقصد به أنّ الخمس يقسم على ستة منها الله، فلله الدنيا والآخرة، بل يقسّم الخمس على خمسة للرسول ولذي القربى إلخ. ويكون الغرض من ذكر الله تعليمنا التبرك بذكره، وافتتاح الأمور باسمه.
أو يكون معناه أنّ الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله.
ثم بيّن تلك الوجوه فقال: للرسول ولذي القربى، فأجمل أولا، ثم فصّل.
فإن قيل: لو أراد ذلك لقال: فإنّ لله خمسه للرسول دون (واو).
قيل: إن العرب قد تذكر الواو والمراد إلغاؤها، كما قال تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) [الصافات: ١٠٣] والمراد فلما أسلما تله للجبين، لأنه جواب لما.
وكما قال الشاعر:
لي شيء يوافق بعض شيء وأحيانا، وباطله كثير
والمعنى يوافق بعض شيء أحيانا.
٢- إنّ المراد لبيت الله، فسهم الله يصرف في الكعبة نقل عن أبي العالية والظاهر القول الأول لإجماع الحجة عليه.
ثانيها: رسول الله، وقد ذكر بعضهم أنه افتتاح كلام كما قالوه في الله، والغنيمة تقسم على أربعة. وقال الأكثرون: إن الغنيمة تقسم على خمسة أولها سهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم يضعه حيث رأى.
433
ثالثها: ذوو القربى والمراد بها قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد اختلف في ذوي القربى: فقيل: هم قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بني هاشم، وقيل: هم قريش كلها، وقيل: هم بنو هاشم وبنو المطلب وهو الراجح،
فقد أخرج ابن جرير «١» عن جبير بن مطعم قال: لما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه فقلنا: يا رسول الله! هؤلاء إخوتك بنو هاشم، لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» ثم شبّك رسول الله يديه إحداهما بالأخرى.
وقيل: إن سهم ذوي القربى طعمة لرسول الله- هذا كله إذا كان رسول الله حيا- فأما بعد وفاته، فقد اختلف العلماء في سهمه وسهم ذوي قرباه، فقيل: يصرفان في معونة الإسلام وأهله وفي الخيل والسلاح.
وقيل: هما للإمام من بعده روي عن قتادة أنه سئل عن سهم ذوي القربى، فقال: كان طعمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان حيّا فلما توفي جعل لولي الأمر من بعده.
وقال العراقيون: سهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مردود في الخمس، والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم على اليتامى والمساكين وابن السبيل، ويقال لهم: سهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سقط بموته فما الذي أسقط سهم ذوي القربى ولا يلزم من سقوط حق أحد المستحقين سقوط الآخرين.
وقال بعضهم: سهم النبي لقرابة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال قائلون: سهم القرابة لقرابة الخليفة، ثم اجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وكأنّهما كانا يريان أنّ سهم ذوي القربى كان طعمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته، وهو لا يورث «٢» فجعلا هذين السهمين في سبيل الله.
رابعها: اليتامى، وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم.
خامسها: المساكين، وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.
سادسها: ابن السبيل، وهو المجتاز سفرا قد انقطع به.
وقد خالفت المالكية هذه الأقوال المتقدمة جميعها، ورأوا أنّ خمس الغنيمة
(١) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (١٠/ ٥).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٣٨٠)، ٣٢- كتاب الجهاد، ١٦- باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث» حديث رقم (١٧٥٢)، والبخاري في الصحيح (٨/ ٤)، ٨٥- كتاب الفرائض، ٢- باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث» حديث رقم (٦٧٢٥).
434
يجعل في بيت المال، ينفق منه على من ذكر، وعلى غيرهم، بحسب ما يراه الإمام، وكأنّهم رأوا أن ذكر هذه الأصناف على سبيل المثال، وهو من باب الخاص أريد به العام. وأصحاب الأقوال والمتقدمة رأوا أنه من باب الخاص أريد به الخاص.
روى ابن القاسم وأشهب وعبد الملك «١» عن مالك أن الفيء والخمس يجعلان في بيت المال، ويعطى الإمام قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهما.
وروى ابن القاسم عن مالك أنّ الفيء والخمس واحد. والذي جعل المالكية يذهبون هذا المذهب أخبار ثبتت في المغازي والسير:
١- روي في «الصحيح» «٢» أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث سرية قبل نجد فأصابوا في سهمانهم اثني عشر بعيرا، ونفلوا بعيرا بعيرا.
٢-
ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في أسارى بدر: لو كان المطعم بن عدي حيّا وكلّمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له «٣».
٣-
ثبت أنّه صلّى الله عليه وسلّم ردّ سبي هوازن وفيه الخمس «٤».
٤-
روي في «الصحيح» «٥» عن عبد الله بن مسعود قال: آثر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين أناسا في الغنيمة، فأعطى الأقرع بن حابس مئة من الإبل، وأعطى عيينة مئة من الإبل، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل والله إنّ هذه القسمة ما عدل فيها أو ما أريد بها وجه الله. فقلت: والله لأخبرنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته، فقال: «يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
٥-
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم» «٦».
فمن هذه الأحاديث تعلم أنه قد أعطي من الخمس للمؤلفة قلوبهم وليسوا ممن
(١) فقيه مالكي، ومؤرخ، أندلسي، صاحب كتاب الواضحة، انظر الأعلام للزركلي (٤/ ١٥٧).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ٦٨)، ٣٢- كتاب الجهاد، ١٢- باب الأنفال حديث رقم (١٧٤٩)، والبخاري في الصحيح (٤/ ٦٦)، ٥٧- كتاب الخمس، ١٥- باب ومن الدليل على أن الخمس حديث رقم (٣١٣٤).
(٣) رواه البخاري في الصحيح (٤/ ٦٧)، ٥٧- كتاب الخمس، ١٦- باب ما منّ النبي صلّى الله عليه وسلّم على أسارى حديث رقم (٣١٣٩).
(٤) رواه البخاري في الصحيح (٤/ ٦٧)، ٥٧- كتاب الخمس، ١٥- باب من الدليل على أن الخمس حديث رقم (٣١٣١)، (٣١٣٤).
(٥) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٧٣٨)، ١٢- كتاب الزكاة، ٤٦- باب إعطاء المؤلفة حديث رقم (١٣٩/ ١٠٦٢).
(٦) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٣٧٦)، ٣٢- كتاب الجهاد، ١٤- باب التنفيل حديث رقم (٤٧/ ١٧٥٦). [.....]
435
ذكر الله في التقسيم، وأنه قد ردّه على المجاهدين بأعيانهم، وأنه قد أعطى بعضه وكله: وهذا يدل على أنّ ذكر هذه الأصناف في الآية بيان لبعض المصارف، لا بيان استحقاق وملك إذ لو كان استحقاقا وملكا لما جعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض الأحيان في غيرهم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
يقول الله: أيقنوا أنما غنمتم من شيء فقسمه كما بيّنت لكم، فاقطعوا أطماعكم عما ليس لكم من الخمس إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم يوم فرّقنا بين الحق والباطل ببدر، فأدلنا للمؤمنين من الكافرين، وذلك يوم التقى الجمعان، جمع المؤمنين وجمع المشركين، والله على ذلك وغيره قدير لا يمتنع عليه شيء أراده.
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
كان المؤمنون في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم أربعة أصناف:
الأول: المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر، وربما تمتد أو يمتد حكمها إلى صلح الحديبية سنة ست.
الثاني: الأنصار.
الثالث: المؤمنون الذين لم يهاجروا.
الرابع: المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
وقد بين في هذه الآيات حكم كل منها ومكانتها فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا هو الصنف الأول وهو الأفضل الأكمل. وقد وصفهم بالإيمان- والمراد به التصديق- بكل ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، ووصفهم بالمهاجرة من ديارهم وأوطانهم فرارا بدينهم من فتنة المشركين إرضاء لله تعالى ونصرا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ووصفهم بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. فالجهاد بذل الجهد بقدر الوسع والطاقة ومصارعة المشاق.
فأما ما كان منه بالأموال فهو قسمان: إيجابي: وهو إنفاقها في التعاون
436
والهجرة، ثم في الدفاع عن دين الله كصرفها للكراع والسلاح، وعلى المحاويج من المسلمين، وسلبي: وهو سخاء النفس بترك ما تركوه في وطنهم عند خروجهم منه وأما ما كان منه بالنفس فهو قسمان أيضا:
قتال الأعداء وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم، وما كان قبل إيجاب القتال من مغالبة الشدائد، والصبر على الاضطهاد، والهجرة من البلاد.
وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل: هو متعلق بجاهدوا قيد لنوعي الجهاد، ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين هاجروا وجاهدوا. ولعل تقديم الأموال على الأنفس لما أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعا وأتم دفعا للحاجة حيث لا يتصور المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال.
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا هذا هو الصنف الثاني في الفضل كالذكر. ووصفهم بأنهم الذين آووا الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن هاجر إليهم من أصحابه، ونصروهم، ولولا ذلك لم تحصل فائدة الهجرة، ولم يكن مبدأ القوة والسيادة، فالإيواء يتضمن معنى التأمين من المخافة، إذ المأوى هو الملجأ والمأمن، ومنه إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [الكهف: ١٠] آوى إِلَيْهِ أَخاهُ [يوسف: ٦٩] وقد كانت يثرب مأوى وملجأ للمهاجرين، شاركهم أهلها في أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، وكانوا أنصارا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقاتلون من قاتله، ويعادون من عاداه، ولذلك جعل الله حكمهم وحكم المهاجرين واحدا في قوله: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي يتولى بعضهم من أمر الآخرين أفرادا أو جماعات ما يتولونه من أمر أنفسهم عند الحاجة من تعاون وتناصر في القتال، وما يتعلق به من الغنائم، وغير ذلك، لأنّ حقوقهم ومصالحهم مشتركة، حتى إن المسلمين يرثون من لا وارث له من الأقارب.
وقال بعض المفسرين: إن الولاية هنا خاصة بولاية الإرث، لأنّ المسلمين كانوا يتوارثون في أول الأمر بالإسلام، والهجرة دون القرابة، بمعنى أنّ المسلم المقيم في البادية أو في مكة أو غيرها من بلاد الشرك لم يكن يرث المسلم الذي في المدينة وما في حكمها إلا إذا هاجر إليها، فيرث ممن بينه وبينه مؤاخاة من الأنصار، وذلك أنّ المهاجري كان يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري، واستمر ذلك إلى أن فتحت مكة، وزال وجوب الهجرة، وغلب حكم الإسلام، فنسخ التوارث بالإسلام المصاحب للهجرة، وهذا التخصيص باطل، والمتعين أن يكون لفظ الأولياء عاما يشمل كل معنى يحتمله كما تقدم.
والمقام الذي نزلت فيه هذه الآية- بل السورة كلها- يأبى أن يكون المراد به حكما مدنيا من أحكام الأموال فقط، فهي في الحرب، وعلاقة المؤمنين بعضهم ببعض،
437
وعلاقتهم بالكفار. وكل ما يصح في مسألة التوارث أنها داخلة في عموم هذه الولاية.
وقال الأصم: الآية محكمة، والمراد: الولاية بالنصرة والمظاهرة، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا هذا هو الصنف الثالث من أصناف المؤمنين، وهم المقيمون في أرض الشرك تحت سلطان المشركين وحكمهم- وهي دار الحرب والشرك- بخلاف من يأسره الكفار من أهل دار الإسلام، فله حكم أهل هذه الدار.
وكان حكم غير المهاجرين أنه لا يثبت لهم شيء من ولاية المؤمنين الذين في دار الإسلام، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم، ولا إلى تنفيذ هؤلاء لأحكام الإسلام فيهم. والولاية حقّ مشترك على سبيل التبادل، ولكنّ الله خص من عموم الولاية المنفية الشامل لما ذكرنا من الأحكام شيئا واحد فقال: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فأثبت لهم حق نصرهم على الكفار إذا قاتلوهم أو اضطهدوهم لأجل دينهم.
وإن كانوا هم لا ينصرون أهل دار الإسلام لعجزهم، ثم استثنى من هذا الحكم حالة واحدة. فقال: إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ يعني إنما يجب عليكم أن تنصروهم إذا استنصروكم في الدين على الكفار الحربيين، دون المعاهدين، فهؤلاء يجب الوفاء بعهدهم، لأنّ الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة بنقض العهود.
وهذا الحكم من أركان سياسة الإسلام الخارجية العادلة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تخالفوا أمره، ولا تتجاوزوا ما حدّه لكم، كيلا يحل عليكم عقابه.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي في النصرة والتعاون على قتال المسلمين، فهم في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين، وإن كانوا مللا كثيرة يعادي بعضهم بعضا. وقيل: إنّ الولاية هنا ولاية الإرث كما قيل بذلك في ولاية المؤمنين فيما قبلها، وجعلوه الأصل في عدم التوارث بين المسلمين والكفار. وفي إرث ملل الكفر بعضهم لبعض.
وقول بعض المفسرين: إن هذه الجملة تدل بمفهومها على نفي المؤازرة والمناصرة بين جميع الكفار وبين المسلمين، وإيجاب المباعدة والمصارمة وإن كانوا أقارب غير مسلّمين، لأنّ صلة الرحم عامة في الإسلام للمسلم والكافر كتحريم الخيانة. والأصح عند الشافعية أنّ الكافر يرث الكافر، وهو قول الحنفية والأكثر، ومقابله عند مالك وأحمد. وعنهما التفرقة بين الذمي والحربي، وكذا عند الشافعية.
وعن أبي حنيفة «١» لا يتوارث حربي من ذمي، فإن كانا حربيين شرط أن يكونا من دار واحدة.
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني ط ١، بيروت، دار الكتب العلمية، ١٩٩٠ (٢/ ٦١٠).
438
وعند الشافعية لا فرق. وعندهم وجه كالحنفية، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ أي إن لم تفعلوا ما ذكر، وهو ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، وتناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ تحصل فتنة عظيمة فيها: هي ضعف الإيمان، وظهور الكفر بتخاذلكم وفشلكم المفضي إلى ظفر الكفار بكم، واضطهادكم في دينكم، لصدكم عنه وَفَسادٌ كَبِيرٌ وهو سفك الدماء على ما روي عن الحسن، فالمراد فساد كبير فيها. وقيل: مفسدة كبيرة في الدين والدنيا.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا هذا ليس مكررا مع ما تقدم، لأنّ مساق الأول لإيجاب التواصل بينهما، ومساق الثاني الثناء عليهم، والشهادة لهم بأنهم هم المؤمنون حقّ الإيمان وأكمله، دون من أقام بدار الشرك مع حاجة الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين إلى هجرته، وأعاد وصفهم الأول لأنهم به كانوا أهلا لهذه الشهادة، وما يليها من الجزاء المذكور في قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لا يقدر قدرها وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لا تبعة له ولا منة فيه.
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ هذا هو الصنف الرابع من المؤمنين في ذلك العهد، وهم من تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى، أو عن نزول هذه الآيات. فيكون الفعل الماضي آمَنُوا وما بعده بمعنى المستقبل، وقيل:
عن يوم بدر، وقيل: عن صلح الحديبية، وكان سنة ست. وجعلهم تبعا لهم وعدهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين.
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أولوا الأرحام أصحاب القرابة، وهو جمع رحم ككتف وقفل. وأصله رحم المرأة الذي هو موضع تكوين الولد من بطنها، ويسمّى به الأقارب، لأنهم في الغالب من رحم واحد. وفي اصطلاح علماء الفرائض: هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب.
والمعنى المتبادر من نص الآية أنها في ولاية الرحم والقرابة بعد بيان ولاية الإيمان والهجرة. فهو عزّ وجلّ يقول: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ أجدر وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتناصر والتعاون. وكذا التوارث في دار الهجرة في عهد وجوب الهجرة. ثم في كل عهد هم أولى بذلك فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين، وأوجب به عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذي القرابة في هذه الآية وغيرها.
وجملة القول إنّ أولوية أولي الأرحام بعضهم ببعض هو تفضيل لولايتهم على ما هو أعم منها من ولاية الإيمان وولاية الهجرة في عهدها. فالقريب أولى بقريبه ذي رحمه المؤمن المهاجر والأنصاري من المؤمن الأجنبي. وأما قريبه الكافر فإن كان
439
محاربا للمؤمنين فالكفر مع القتال يقطعان له حقوق الرحم. ثم ختم الله هذه السورة بقوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو تذييل لجميع أحكام السورة وحكمها، مبيّن أنها محكمة لا وجه لنسخها ولا نقضها.
فالمعنى: أنه شرع لكم هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود وصلة الأرحام عن علم واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدينية والدنيوية.
ما يستفاد من الآيات
١- ثبوت ولاية النصرة بين المؤمنين في دار الإسلام.
٢- عدم ثبوت ولاية النصرة بين المؤمنين الذين في دار الإسلام والمؤمنين في دار الحرب أو خارج دار الإسلام إلا على من يقاتلهم لأجل دينهم، فيجب نصرهم عليه إذا لم يكن بيننا وبينه ميثاق صلح وسلام بحيث يكون نصرهم عليه نقضا لميثاقه.
٣- ولاية الكفار بعضهم لبعض.
٤- أننا إذا لم نمتثل ما شرعه الله من تحقيق ولاية النصرة بيننا بأن والينا الكفار أدى ذلك إلى ضعفنا، وظهورهم علينا.
٥- أن ما شرعه الله سبحانه من أحكام القتال والغنائم وقواعد التشريع وسنن التكوين والاجتماع، وأصول الحكم المتعلقة بالأنفس ومكارم الأخلاق والآداب ناشئ عن علم واسع شامل محيط بالمصالح الدينية والدنيوية والله تعالى أعلم.
440
Icon