تفسير سورة آل عمران

تفسير آيات الأحكام للسايس
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب تفسير آيات الأحكام للسايس المعروف بـتفسير آيات الأحكام للسايس .
لمؤلفه محمد علي السايس .

من سورة آل عمران
قال الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى أنه واهب الملك، المعزّ المذلّ، القادر على جميع الأشياء في الدنيا والآخرة، حيث قال جلّ شأنه: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ [آل عمران: ٢٦] إلى آخره نبّه المؤمنين إلى أنّه لا ينبغي لهم أن يوالوا أعداءه، أو يستظهروا بهم لقرابة أو صداقة قديمة، بل ينبغي أن تكون الرغبة فيما عند الله تعالى وعند أوليائه دون أعدائه.
نزلت هذه الآية في قوم من المؤمنين كانوا يوالون رجالا من اليهود، فقال لهم رفاعة بن المنذر وابن جبير وسعد بن خيثمة: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأبوا النصيحة «١».
وقيل نزلت في عبادة بن الصامت البدري النقيب، فقد كان له حلفاء من اليهود، فلما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب قال له عبادة: يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فاستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ.
لا ناهية، فالفعل مجزوم، أو نافية فالفعل مرفوع، وتكون الجملة خبرية في معنى النهي.
أَوْلِياءَ جمع ولي، وهو الناصر والمعين، فلا يركن المؤمنون إلى الكفار، ويستعينوا بهم لقرابة أو محبة مع اعتقاده بطلان دينهم، فإنّ ذلك منهيّ عنه، لأنّ الموالاة قد تجرّ إلى استحسان طريقتهم.
وفي هذا المعنى نزلت آيات كثيرة لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: ١١٨] لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: ٢٢] لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: ٥١] لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١]
(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٢/ ١٥٢).
190
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: ٧١].
وأما الموالاة بمعنى المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، مع عدم الرضا عن حالهم فذلك غير منهيّ عنه، والموالاة لهم بمعنى الرضا بكفرهم ومصاحبتهم لذلك كفر، لأنّ الرضا بالكفر كفر، فلا يبقى المرء مؤمنا، مع كونه بهذه الصفة.
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ حال من الفاعل، أي متجاوزين المؤمنين إلى الكفار استقلالا أو اشتراكا. فالظرف لا مفهوم له، لأنّه لبيان الواقع، فقد ورد في قوم مخصوصين حصلت منهم الموالاة للكفار دون المؤمنين، وقيل: الظرف في حيّز الصفة لأولياء.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاتخاذ، وإنما عبّر بالفعل للاختصار، أو لإبهام الاستهجان بذكره، وجواب الشرط فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وفي الكلام حذف مضاف، أي فَلَيْسَ مِنَ ولاية اللَّهِ فِي شَيْءٍ أو من دين الله، وتنوين شَيْءٍ للتحقير، وذلك لأنّ موالاة المتضادين لا تكاد توجد.
قال الشاعر:
تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني صديقك، ليس النّوك عنك بعازب
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، والعامل فيه لا يَتَّخِذِ فلا تتخذوهم أولياء في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم.
وقيل: استثناء مفرّغ من المفعول لأجله، فالمعنى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء لشيء من الأشياء إلا للتقية مِنْهُمْ من جهتهم، تُقاةً مفعول به، أي شيئا يتّقى منه، فالجار والمجرور حال من تقاة، حيث تقدّم عليها، والمعنى:
إلا أن تتقوا شيئا يتّقى منه حاصلا من جهتهم، كالقتل وسلب المال مثلا أو تُقاةً بمعنى اتقاء، فتكون مفعولا مطلقا، وتُقاةً متعلقة به في مكان المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف للعلم به، وعدّي بمن، لأنه بمعنى خاف، فالمعنى إلا أن تخافوا منهم ضررا خوفا.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ إي عقاب نفسه، وفي ذلك تهديد عظيم مشعر بتناهي الاتخاذ في القبح، حيث ربط التحذير بنفسه، لأنه لو حذف وقيل: ويحذركم الله، فإنه لا يفيد صدور العقاب من الله، بل يحتمل أن يكون منه تعالى، وأن يكون من غيره. فلمّا قال: نَفْسَهُ علم أنّه صادر منه تعالى، وذلك أعظم أنواع العقاب لكونه تعالى قادرا على ما لا نهاية له، ولا قدرة لأحد على رفعه أو منعه مما أراد.
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المرجع، والإظهار لتربية الروعة والمهابة في النفوس، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها.
191
وفي الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الغزو، وإليه ذهب بعض المالكية، وقالت الحنفية والشافعية بالجواز، وأنه يسهم لهم في الغنيمة، لكن بشرط أن تكون الاستعانة على قتال المشركين لا البغاة،
وما ورد عن عائشة رضي الله عنها من رد النبي صلّى الله عليه وسلّم لرجل مشرك كان ذا جرأة ونجدة أراد أن يحارب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر وقال له: «ارجع فلن أستعين بمشرك» «١»
فمنسوخ، بدليل استعانته صلّى الله عليه وسلّم بيهود قينقاع وقسمه لهم، واستعانته بصفوان بن أمية في هوازن «٢».
وذكر بعضهم أنّ جواز الاستعانة مشروط بالحاجة والوثوق، أما بغيرهما فلا يجوز، وهو الراجح. وعلى ذلك يحمل خبر السيدة عائشة، وما كان من السبب الثاني للنزول، ويحصل به أيضا الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز.
ومن الناس من استدلّ بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمّالا ولا خدما، ولا يجوز التعظيم والتوقير لهم في المجالس، والقيام عند قدومهم، فإنّ دلالته على التعظيم واضحة قوية.
وفي الآية أيضا دليل على مشروعية التقيّة، وعرّفوها: بالمحافظة على النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء.
ولما كان العدوّ نوعين: عدوا كان الاختلاف في الدين سببا لعدوانه، والثاني ما ثبتت عداوته على الأغراض الدنيوية كالمال والمتاع والإمارة، كانت التقية قسمين:
أما القسم الأول: فكل مؤمن وجد في مكان لا يقدر فيه على إظهار دينه، فهذا تجب عليه الهجرة من ذلك المكان إلى مكان يستطيع إظهار دينه، بشرط ألا يكون من الصبيان أو النساء أو العجزة، فهؤلاء قد رخّص الله تعالى لهم فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) [النساء: ٩٧، ٩٨].
فإن كان من المستضعفين: وكان التخويف بالقتل ونحوه ممن يظنّ منهم أنهم يفعلون ما خوّفوا به، جاز المكث والموافقة ظاهرا بقدر الضرورة، مع السعي في حيلة للخروج والفرار بدينه.
والموافقة حينئذ رخصة، وإظهار ما في قلبه عزيمة، فلو مات فهو شهيد قطعا،
(١) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٤٤٩)، ٣٢- كتاب الجهاد، ٥١- باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر حديث رقم (١٥٠/ ١٨١٧).
(٢) رواه أبو داود في السنن (٣/ ٢٨٥)، كتاب البيوع، باب تضمين العارية حديث رقم (٣٥٦٢) وأحمد في المسند (٤/ ٢٢٢).
192
بدليل ما
يروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لأحدهما: أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم نعم نعم، ثم قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم. فتركه. ثم دعا الثاني وقال: أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟
قال: نعم، فقال له أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصمّ، قالها ثلاثا، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أمّا هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضيلة فهنيئا له، وأمّا الآخر، فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه» «١».
والقسم الثاني: من كانت عداوته بسبب المال والإمارة، وقد اختلف العلماء في وجوب هجرة صاحبه، فقال بعضهم: تجب، لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥] وبدليل النهي عن إضاعة المال. وبدليل
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قتل دون ماله فهو شهيد» «٢»
، وقال آخرون: لا تجب، لأنّها لمصلحة دنيوية، ولا يعود من تركها نقصان في الدين، ولكنّ المنصف يرى أن الهجرة قد تجب هنا أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه، أو هتك عرضه بالإفراط.
قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، مع إثبات التوحيد، ومحاجّة أهل الكتاب في ذلك، وفي بعض ما استحدثوا في دينهم.
وفي هذه الآيات وما قبلها يدفع الله شبهتين من شبههم.
قالوا: إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين من بعده فكيف تستحل ما كان محرّما عليه وعليهم كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فما يكون لك أن تدّعي أنك مصدّق لهم، وموافق في الدين، ولا أن تقول إنك أولى الناس بإبراهيم.
فرد الله هذه الشبهة بقوله: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [آل عمران: ٩٣] وأنه لم يحرّم عليهم شيئا إلا ما كان عقوبة لهم، كما جاء في قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: ١٦٠].
وأما الشبهة الثانية: فهي أنهم قالوا: إن الله وعد إبراهيم أن تكون البركة في
(١) قال السيوطي رواه ابن أبي شيبة، انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٤/ ١٣٣). [.....]
(٢) رواه مسلم في الصحيح (١/ ١٢٤)، ١- كتاب الإيمان، ٦٢- باب الدليل على أن من قصد، حديث رقم (٢٢٦/ ١٤١).
193
نسل ولد إسحاق، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظّمون بيت المقدس، ويصلّون إليه، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظّمت ما عظّموا، ولما تحوّلت عن بيت المقدس، وعظّمت مكانا آخر اتخذته مصلّى وقبلة، وهو الكعبة، فخالفت الجميع.
فردّ عليهم بقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) وتقريره أنّ البيت الحرام الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت للناس يعظّمونه، ويتعبدون الله فيه، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام لأجل العبادة خاصّة، وقد قال إبراهيم: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: ٣٧].
ثم بنى سليمان بن داود عليهما السلام بيت المقدس بعد ذلك بعدة قرون.
فماذا فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم غير أن امتثل أمر ربّه، فرجع إلى قبلة أبيه إبراهيم، واتخذها مصلّى. وأوّلية البيت قيل: أولية شرف، وقيل: أولية زمان، ولا مانع من أن يكون كل منهما مرادا، فقد مرّ أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا البيت المحرّم للعبادة، ثم جاء سليمان وبنى بيت المقدس، فالأولية زمانية، وهي تستلزم أولية الشرف.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه أول بيت وضع على الأرض بالنسبة للبيوت مطلقا، فقالوا: إن الملائكة بنته قبل خلق آدم، وأن بيت المقدس بني بعده بأربعين سنة.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي ذر قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أول بيت وضع للناس؟ فقال: «المسجد الحرام، ثم بيت المقدس» فقيل: كم بينهما؟ قال:
«أربعون سنة» «١».
وقد يقال: إنّ هناك تعارضا بين ما ذكرنا من أنّ بناء الكعبة كان قبل بناء بيت المقدس بعدة قرون، وأن الذي بناه إبراهيم، وبين ما روي من أن الذي وضعها الملائكة قبل بيت المقدس بأربعين سنة، وقد أجيب بأنّ الوضع غير البناء، وبأنه لعل الذي كان من إبراهيم وسليمان كان إعادة، ومعلوم أن بين إبراهيم وسليمان عدة قرون فلا منافاة.
لَلَّذِي بِبَكَّةَ بكة اسم لمكة كما روي عن مجاهد، وإبدال الميم باء كثير في كلامهم، وقيل: هو بطن مكة حيث الحرم.
مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ بيان لحاله الحسية الحسنة، والمعنوية الشريفة، وأما الأولى فهي ما ساق الله إليه من بركات الأرض، ومن ثمار كل شيء، ومن جميع الأقطار، مع
(١) رواه البخاري في الصحيح (٤/ ١٦٤)، ٦٠- كتاب أحاديث الأنبياء، ٤٠- باب قول الله تعالى:
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ حديث رقم (٣٤٢٥)، ومسلم في الصحيح (١/ ٣٧٠)، ٥- كتاب المساجد، حديث رقم (١/ ٥٢٠).
194
كونه بواد غير ذي زرع، وأما الثانية فهي جعل أفئدة الناس تهوي إليه، وتتعلّق به، ويأتون للحج والعمرة رجالا، وعلى كل ضامر من كل فج، وتولية وجوههم شطره في الصلاة، وأيّ ساعة تمرّ ليلا أو نهارا وليس فيها من يتجه إلى ذلك البيت يصلي!! فقد أجيبت دعوة إبراهيم على أتمّ وجه رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ.
وقد أشير إلى هاتين الحالتين في قوله تعالى حكاية عن المشركين: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) [القصص: ٥٧].
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ فيه: أي البيت دلائل وعلامات ظاهرة لا تخفى على أحد: منها مقام إبراهيم أي موضع قيامه للصلاة والعبادة، فأيّ دليل أبين من هذا على كون هذا البيت أول بيت وضع ليعبد الناس فيه ربّهم؟ وإبراهيم هو أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم.
وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً آية ثانية على أنّ البيت الحرام حقيق بالتعظيم، فقد اتفقت قبائل العرب طرّا على احترام هذا البيت وتعظيمه بنسبته إلى الله، وقد اشتدّت مبالغة العرب في ذلك، حتى إن من كان قاتلا، واستباح حرماتهم، ولجأ إلى البيت فإنه يصير آمنا ما دام فيه.
مضى على هذا عمل الجاهلية مع ما بين أهلها من اختلاف المنازع، وتباين الأهواء والمشارب، وتعدّد المعبودات، وكثرة الأضغان والأحقاد، وقد أقرّ الإسلام هذه الميزة للبيت الحرام، وأما ما كان من المسلمين يوم فتح مكة فكان لضرورة تطهيره من الشرك، ولأجل أن يعبد الله وحده، ومع ذلك
فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إنها حلّت له ساعة من النهار، ولم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده «١».
على أنّ فتح مكة لم يؤثّر على أمر الحرم شيئا، لأنّ
النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر مناديه أن ينادي: «من دخل داره، وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» «٢».
هذا وقد اتفق الفقهاء على أنّ من جنى في الحرم فهو مأخوذ بجنايته، سواء أكانت في النفس أم فيما دونها.
واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم، ثم لاذ إليه فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن زياد إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لم يقتصّ منه ما دام فيه،
(١) رواه البخاري في الصحيح (٢/ ٢٦٠)، ٢٨- كتاب جزاء الصيد، ٩- باب لا ينفر صيد الحرم حديث رقم (١٨٣٣).
(٢) انظر تفسير ابن جرير الطبري، المسمى جامع البيان (٢/ ٣٣١- ٣٣٢).
195
ولكنه لا يجالس، ولا يعامل، ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه، فيقتصّ منه، وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم، ثم دخل الحرم اقتصّ منه.
وقال مالك والشافعي: يقتصّ منه في الحرم لذلك كله، وقد روي عن ابن عباس، وابن عمر، وعبيد الله بن عمير، وسعيد بن جبير، وطاووس، والشعبي، فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل.
قال ابن عباس: ولكنه لا يجالس، ولا يؤوى، ولا يبايع حتى يخرج من الحرم، فيقتل، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه الحدّ.
وروى قتادة عن الحسن أنه قال: لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه، قال: وكان الحسن يقول: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً كان هذا في الجاهلية، لو أنّ رجلا جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرّض له حتى يخرج من الحرم. أما الإسلام فلم يزده إلا شدة، من أصاب الحد في غيره ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد.
وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا: إذا أصاب حدا في غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم أخرج عن الحرم، حتى يقام عليه، وروي مثل هذا عن مجاهد، وهذا يحتمل أن يراد به أن يقاطع، فلا يجالس، ولا يعامل، حتى يضطر إلى الخروج، فيقام عليه الحد.
وفيما عدا رواية الحسن فالاتفاق حاصل بين السلف من الصحابة والتابعين أن من دخله لاجئا إليه، وكان قد جنى في غيره أنه يقاطع حتّى يخرج فيقتص منه.
ومثل قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: ٦٧] وقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً [القصص: ٥٧] وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة: ١٢٥].
قال أبو بكر الرازي «١» : ولما عبّر الله تارة بالحرم وتارة بالبيت علم أنّ حكم الحرم حكم البيت في باب الأمن ومنع قتل من لجأ إليه.
ولمّا لم يختلفوا أنه لا يقتل من لجأ إلى البيت، لأنّ الله وصفه بالأمن فيه، وجب مثله في الحرم فيمن لجأ إليه.
هذا وقد فسّر بعض العلماء الأمن هنا بالأمن في الآخرة من العذاب، وروى في ذلك آثارا صحيحة، ولا مانع من إرادة العموم، بأن يفسّر بالأمن في الدنيا والآخرة.
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
(١) أحكام القرآن للإمام الرازي (٢/ ٢٠- ٢٣).
196
لما ذكر الله فضائل البيت أردفه بذكر إيجاب الحج، وفي قوله: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وجوه من الإعراب لا نتعرض لذكرها.
والمعنى: أن الله جلت قدرته أوجب على عباده أن يحجوا إلى بيته متى تيسّر لهم الوصول إليه، ولم يمنعهم من الوصول إليه مانع، سواء أكان بدنيا أم ماليا أم بدنيا وماليا معا.
فالبدني كالمرض والخوف على النفس من العدو ومن السباع، وعلى الجملة ألا يكون الطريق مأمونا.
والمالي كفقد الزاد والراحلة إذا كان ممن يتعسّر عليهم الوصول إلى البيت إلا بزاد وراحلة، والذي يجمعها فاقد الزاد والراحلة، والمريض، أو الذي لا يأمن الطريق.
وقد اتفق الأكثرون على أنّ الزاد والراحلة شرطان داخلان في الاستطاعة، ويؤيد شرطيتهما ما رواه جماعة من الصحابة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه فسّر استطاعة السبيل بالزاد والراحلة.
فقد روى أبو إسحاق عن الحارث عن علي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من ملك زادا وراحلة تبلغه بيت الله، ولم يحجّ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا» «١»
وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
وروي عن ابن عمر قال سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى: قال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قال: «السبيل الزاد والراحلة» «٢».
وروى عطاء عن ابن عباس قال: السبيل الزاد والراحلة، ولم يحل بينه وبينه أحد.
فأنت ترى من هذه الأخبار أن الزاد والراحلة من السبيل الذي ذكره الله تعالى، ومن شرائط وجوب الحج.
وقد يقول قائل: إنّ الله تعالى يقول: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وقد بيّن النبي صلّى الله عليه وسلّم السبيل أنه الزاد والراحلة، فيلزم ألا يجب الحج على من كان بينه وبين البيت مسافة يسيرة، ويمكنه الذهاب إلى البيت ماشيا.
ولكنا نقول: إن الله سبحانه وتعالى لما قال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وهو عامّ في القريب والبعيد، قد لا يتيسّر له الحج، قال: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أي أنّ
(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ١٧٦)، كتاب الحج، باب ما جاء في التغليظ حديث رقم (٨١٢).
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ١٧٧)، كتاب الحج، باب ما جاء في إيجاب الحج حديث رقم (٨١٣) وابن ماجه في السنن (٢/ ٩٦٧)، كتاب المناسك، باب ما يوجب الحج حديث رقم (٢٨٩٦).
197
الوجوب على المستطيع، واقتصار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في البيان على الزاد والراحلة إنما كان للرد على من يزعم أنه يجب الحج على الناس مطلقا، ولو كانوا في بلاد نائية، ويقدرون على المشي، بدليل أنه لم يذكر عدم المرض وأمن الطريق مثلا، مع أنهما شرطان من شروط الاستطاعة اتفاقا، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم اقتصر على بيان بعض الحالات، والحالات الأخرى تؤخذ من عمومات أخرى، كقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: ١٨٥] وقوله: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: ٧٨].
ومعلوم أنّ شرط الزاد والراحلة إنما هو لئلا يشقّ عليه، ويناله ما يضره من المشي، فإذا كان من أهل مكة، أو ما قاربها، ويمكنه الوصول إليه دون مشقة، فهذا مستطيع، ويجب عليه الحجّ.
وإذا كان لا يصل إليه إلا بمشقة فهذا الذي خفّف الله عنه، ولم يلزمه الفرض حتى يكون مستطيعا إليه سبيلا: زادا وراحلة.
ويرى بعض العلماء أنّ وجود المحرم للمرأة من شرائط وجوب الحجّ مستدلا بما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي رحم محرم أو زوج» «١».
وروي عن ابن عباس أنه قال: خطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا تسافر امرأة إلّا ومعها ذو محرم».
فقال رجل: يا رسول الله إني قد اكتتبت في غزوة كذا، قد أرادت امرأتي أن تحجّ.
فقال عليه الصلاة والسلام: «احجج مع امرأتك» «٢».
وهذا يدل على أن المرأة إذا أرادت الحجّ ليس لها أن تحج إلا مع زوج، أي ذي رحم محرم، من وجوه:
أحدها: أن السائل فهم من قوله:
لا تسافر...
إلخ ذلك، ولذلك سأله عن امرأته التي تريد الحج ماذا يفعل، وقد اكتتب في الغزو؟ ولم ينكر النبي عليه ذلك.
وثانيها:
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: حج مع امرأتك
وفي ذلك دلالة على أنه حين
قال: «لا تسافر امرأة...
إلخ أراد ما يعم سفر الحج.
ثالثها: أنه أمره بترك الغزو وهو فرض للحج مع امرأته، ولو جاز لها الحج بغير محرم أو زوج لما أمره بترك الغزو.
(١) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٩٧٧)، ١٥- كتاب الحج، ٧٤- باب سفر المرأة حديث رقم (٤٢٣/ ١٣٤٠).
(٢) رواه أحمد في المسند (١/ ٢٢٢).
198
وفي عدم سؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم للرجل عن حج امرأته أفرض هو أم تطوّع دليل على أنه لا فرق بين أن يكون الحج فرضا أو تطوعا.
وقد ورد في السنة ما يؤخذ منه باقي شروط الاستطاعة، كاستمساك من يجد الراحلة عليها.
هذا وقد اختلف في حج الفقير البعيد عن البيت الذي لا يجد الزاد والراحلة. إذا أمكنه المشي، فقال الشافعية والحنفية: لا حج عليه، وإن حج أجزأه ذلك عن حجة الإسلام.
وحكي عن مالك أن عليه الحج إذا أمكنه المشي، وروي عن ابن الزبير والحسن أن الاستطاعة ما تبلّغه كائنا ما كان.
وأنت ترى أن الآية بظاهرها،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الاستطاعة الزاد والراحلة»
يدلان على أنّ لا حج عليه، غير أنه متى وصل إلى هناك في أشهر الحج، فكأنه صار من أهل مكة، فيكون حكمه كحكمهم، فإذا فعله أغناه ذلك عن الفرض.
وقد حكى الجصاص «١» الخلاف بين الحنفية والشافعية في العبد إذا حجّ، هل يجزئه أم لا؟
قال الشافعية: يجزئه، واستدلّ الشافعيّ بقياس العبد على الفقير، فإذا قلتم: إن الفقير إذا حجّ فقد أجزأه ذلك، وهو لا يجب عليه، فكذا العبد وأيضا العبد لا تجب عليه الجمعة، وإذا فعلها أجزأته عن الظهر، فكذا إذا فعل الحجّ.
واستدل الحنفية بما
روى أبو إسحاق عن الحارث عن علي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ثمّ لم يحجّ فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا» «٢»
فعلم من ذلك أن شرط الحج ملك الزاد والراحلة، والعبد ليس أهلا للملك بحال، فلا يكون أهلا للخطاب بالحج بحال، فلم يجزئه حجّه، كما إذا حج الصبيّ، فإنه إذا بلغ مستكملا الشروط وجب عليه الحج.
وأجابوا عن القياس على الفقير بأن الفقير أهل لأن يملك، وقد يعرض الملك له في الطريق، فهو بهذه العرضية أهل في الجملة، فإذا وصل إلى مكة وهو لا يملك، فقد سقط هذا الشرط في حقه، لأنه صار من أهل مكة. وأما العبد فالمانع من خطابه رقّه، وهو إنما يفارقه بالعتق.
واستدلوا أيضا بما
روي عن جابر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أن صبيا حجّ عشر حجج، لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا».
(١) أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (٢/ ٢٦).
(٢) سبق تخريجه.
199
هذا ملخّص كلام الجصّاص.
ولكنّ المعروف في مذهب الشافعي أنّ العبد إذا حجّ لم تجزئه حجته عن حجة الإسلام إذا عتق.
ولعلّ خلاف الشافعي فيمن أحرم بالحج، ثم عتق وهو واقف بعرفة، أو قبل الوقوف بها فإن حجه يجزئه عن حجة الإسلام، خلافا لأبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما. أما إذا كان العتق بعد فوات الحج، فإنه لا يجزئه، قال النووي من الشافعية:
وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال العلماء كافة.
ثم إنّ الحج لا يجب إلا مرة واحدة، لأنّه ليس في الآية ما يوجب التكرار،
وقد روي عن ابن عباس أنّ الأقرع بن حابس سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله الحجّ في كل سنة أو مرة واحدة فقال: «بل مرّة، فمن زاد فتطوع» «١».
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ قيل: إنّ هذا الكلام مستقلّ بنفسه، وهو وعيد عام لكلّ من كفر بالله، ولا تعلّق له بما قبله.
وقيل: إنه متعلّق بما قبله، ومن القائلين بهذا من حمله على تارك الحجّ، ومنهم من حمله على من لم يعتقد وجوبه.
فأما الذين حملوه على تارك الحج فقد عوّلوا على ظاهر الآية، حيث أوجب الله الحجّ، ثم أتبعه بقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ففهم منه أنّ هذا الكفر هو ترك ما تقدم، واستندوا إلى ما
ورد من قوله عليه الصلاة والسّلام: «من استطاع ومات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا».
وعن سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة، ولم يحجّ لم أصلّ عليه.
وتأويل هذه الأخبار عند الجمهور أنّ الغرض منها التنفير من ترك الحجّ، والتغليظ على المستطعين، حتى يؤدّوا الفريضة، فهو نظير
قوله عليه الصلاة والسلام: «من أتى امرأة حائضا في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد».
واستدلّ الأكثرون لمذهبهم بما
روي عن الضحاك في سبب النزول قال: لما نزلت آية الحجّ، جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين وقال: «إنّ الله كتب عليكم الحجّ فحجوا البيت»
فلم يقبله إلّا المسلمون، وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي
(١) رواه أبو داود في السنن (٢/ ٦٨)، كتاب المناسك، باب فرض الحج حديث رقم (١٧٢١)، وابن ماجه في السنن (٢/ ٩٦٣)، كتاب المناسك باب الخروج حديث رقم (٢٨٨٦).
200
إليه ولا نستقبله فأنزل قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
قال الفخر الرازي: هذا القول هو الأقوى.
قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بازدياد قوة الإسلام ونصرة أهله حتى يهلكوا به إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما خفي فيها.
وهو يحتمل أن يكون من تتمة المقول لهم. أي قل لهم: إن الله عليم بما هو أخفى من عض الأنامل إذا خلوتم، فيجازي به.
ويحتمل أن يكون خارجا عن المقول لهم: أي قل لهم ما تقدم، ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم، فإني عليم بما خفي في ضمائرهم.
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها المسّ هنا والإصابة بمعنى واحد والمراد بالحسنة هنا النفع الدنيوي: كالصحة، والخصب، والألفة، واجتماع الكلمة، والظفر بالأعداء. والمراد بالسيئة: المحنة كإصابة العدو من المسلمين واختلاف الكلمة فيما بينهم.
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً الكيد هو أن يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه، وفسره ابن عباس هنا بالعداوة.
والمعنى: أن من صبر على الطاعة واتّقى ما نهى الله عنه كان في حفظ الله، فلا يضره كيد الكائدين، ولا حيل المحتالين، وتحقيق ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق للعبادة كما قال: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) [الذاريات: ٥٦] فمن وفّى بعهده العبودية في ذلك فالله أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه من كل مكروه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: ٢، ٣].
إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ إطلاق لفظ محيط على الله تعالى مجاز، لأن الإحاطة بالشيء من صفات الأجسام، لكنه تعالى لما كان عالما بكل الأشياء، قادرا على كل الممكنات جاز في مجاز اللغة أنّه محيط بها.
والمراد أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى، وسيجازيهم عليها.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠).
المراد من أكل الربا أخذه، وعبّر به لما أنّه معظم ما يقصد به، ولشيوعه في المأكولات، والأضعاف جمع ضعف، وضعف الشيء مثله معه، وضعفاه مثلاه معه. فإذا قيل: ضعف العشرة لزم أن تجعلها عشرين، لأنّ العشرين أول مراتب تضعيفها. ولو قال:
201
له عندي ضعف درهم لزمه درهمان، وله عندي ضعفا درهم لزمه ثلاثة دراهم.
كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فإذا حل الأجل، ولم يكن المدين واجدا لذلك المال، قال: زد في المال وأزيدك في الأجل، فربما جعله مائتين، ثم إذا حل الأجل الثاني، فعل مثل ذلك، إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها. فهذا هو المراد من قوله تعالى: أَضْعافاً مُضاعَفَةً وليست هذه الحال لتقييد المنهيّ عنه: حتى يكون أصل الربا غير منهي عنه، بل لمراعاة الواقع، وللتشنيع عليهم، بأن في هذه المعاملة ظلما صارخا، وعدوانا مبينا، واحتجّ بهذا نفاة مفهوم المخالفة، القائلون بأن المخصوص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه.
وأجيب بأنّ من شرط مفهوم المخالفة ألا يكون للمذكور فائدة غير التخصيص بالحكم، ومتى ظهرت له فائدة سوى التخصيص بالحكم بطل وجه دلالته عليه، والوصف بالتضعيف قد ذكر هنا لبيان الواقع كما تقدم، فظهرت له فائدة غير التخصيص بالحكم، فانتفى شرط العمل بمفهوم المخالفة هنا لذلك.
وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما نهيتم عنه، ومن جملته أكل الربا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفلحوا، أو راجين الفلاح، فمن أكل الربا ولم يتق الله لا يرجى فلاحه، وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر.
وَاتَّقُوا النَّارَ أي احذروها بالتحرّز عن أكل الربا المفضي إلى دخول النار، الَّتِي أُعِدَّتْ هيئت لِلْكافِرِينَ النار مخلوقة للكافرين معدّة لهم أولا وبالذات وغيرهم من عصاة المؤمنين يدخلها على وجه التبع، وفي ذلك إشارة إلى أن أكلة الربا على شفا حفرة الكافرين. روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول: إن هذه الآية هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه.
وتدل هذه الآية على أن النار مخلوقة الآن، لأنّ قوله تعالى: أُعِدَّتْ إخبار عن الماضي، فلا بد أن يكون ذلك الشيء المعدّ قد دخل في الوجود.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) لمّا ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرّة في القرآن الكريم.
202
Icon