ﰡ
قال الشافعي رحمه الله تعالى : فأصل القرعة في كتاب الله عز وجل في قصة المقترعين على مريم، والمقارعي يونس مجتمعة، فلا تكون القرعة ـ والله أعلم ـ إلا بين قوم مستوين في الحجة. ولا يعدوا ـ والله تعالى أعلم ـ المقترعون على مريم أن يكونوا، كانوا سواء في كفالتها فتنافسوها، فلما كان أن تكون عند واحد منهم أرفق بها، لأنها لو صيرت عند كل واحد منهم يوما، أو أكثر، وعند غيره مثل ذلك، كان أشبه أن يكون أضرَّ بها، من قِبَل أن الكافل إذا كان واحدا كان أعطف له عليها وأعلم بما فيه مصلحتها للعلم بأخلاقها، وما تقبل وما ترد، وما يحسن به اغتذاؤها.
فكل من اعتنف٢ كفالتها كفلها غير خابر بما يصلحها، ولعله لا يقع على صلاحها حتى تصير إلى غيره، فيعتنف من كفالتها ما اعتنف غيره. وله وجه آخر يصح، وذلك أن ولاية واحد إذا كانت صبية غير ممتنعة مما يمتنع منه من عقل يستر ما ينبغي ستره، كان أكرم لها، وأسْتَرُ عليها أن يكفلها واحد دون الجماعة.
قال : ويجوز أن تكون عند كافل، ويغرم من بقي مؤنتها بالحصص، كما تكون الصبية عند خالتها وعند أمها، ومؤنتها على من عليه مؤنتها.
قال : ولا يعدوا الذين اقترعوا على كفالة مريم أن يكونوا تشاحوا على كفالتها. وهو أشبه ـ والله تعالى أعلم ـ أو يكونوا تدافعوا كفالتها، فاقترعوا أيهم تلزمه فإذا رضي من شح على كفالتها أن يمونها، لم يكلف غيره أن يعطيه من مؤنتها شيئا برضاه بالتطوع بإخراج ذلك من ماله.
قال : وأي المعنيين كان، فالقرعة تلزم أحدهم ما يدفع عن نفسه، وتخلص له ما يرغب فيه لنفسه، وتقطع ذلك عن غيره ممن هو في مثل حاله.
قال : وهذا معنى قرعة يونس صلى الله عليه وسلم لما وقفت بهم السفينة فقالوا : ما يمنعها من أن تجري إلا علة بها، وما علتها إلا ذو ذنب فيها، فتعالوا نقترع، فاقترعوا، فوقعت القرعة على يونس عليه السلام فأخرجوه منها، وأقاموا فيها٣. وهذا مثل معنى القرعة في الذين اقترعوا على كفالة مريم، لأن حال الركبان كانت مستوية، وإن لم يكن في هذا حكم يلزم أحدهم في ماله شيئا لم يلزمه قبل القرعة، ويزيل عن آخر شيئا كان يلزمه، فهو يلبث على بعض حقا، ويبين في بعض أنه برئ منه، كما كان في الذين اقترعوا على كفالة مريم غرم وسقوط غرم.
قال الشافعي رحمه الله تعالى : وقرعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل موضع أقرع فيه في مثل معنى الذين اقترعوا على كفالة مريم سواء لا يخالفه. وذلك أنه أقرع بين مماليك أعتقوا معا، فجعل العتق تاما لثلثهم، وأسقط عن ثلثيهم بالقرعة٤. وذلك أن المعتق في مرضه أعتق ماله ومال غيره، فجاز عتقه في ماله، ولم يجز في مال غيره، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم العتق في ثلثه ولم يبعضه، كما يجمع القسمين أهل المواريث ولا يبعض عليهم.
وكذلك كان إقراعه لنسائه أن يقسم لكل واحدة منهن في الحضر. فلما كان السفر كان منزلة يضيق فيها الخروج بكلهن، فأقرع بينهن فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وسقط حق غيرها في غيبته بها. فإذا حضر عاد للقسم لغيرها، ولم يحسب عليها أيام سفرها٥.
وكذلك قسم خيبر٦، فكان أربعة أخماسها لمن حضر، ثم أقرع، فأيهم خرج سهمه على جزء مجتمع كان له بكماله، وانقطع منه حق غيره، وانقطع حقه عن غيره. ( الأم : ٨/٣-٤. ون الأم : ٥/١١١. وأحكام الشافعي : ٢/١٥٧-١٦٣. والسنن الكبرى. ١٠/٢٨٦. )
٢ - اعْتَنَفْتُ الشيء: كرهته ووجدت له علي مشقة. وقيل: إذا أخذته أو أتيته غير حاذق به ولا عالم. اللسان: عنف..
٣ - ن تفسير ابن جرير ١٠/٥٢٦..
٤ - سبق تخريجه. ن تفسير الآية ١٨٠ من سورة البقرة..
٥ - روى أبو داود في النكاح (٦) باب: في القسم بين النساء (٣٩)(ر٢١٣٨) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها ليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة.
ورواه البخاري في النكاح (٧٠) باب: القرعة بين النساء إذا أراد سفرا (٩٦) (ر٤٩١٣) بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشة وحفصة.. الحديث.
ورواه مسلم في فضائل الصحابة (٤٤) باب: في فضل عائشة (١٣) (ر٢٤٤٥).
ورواه ابن ماجة في النكاح (٩) باب: القسمة بين النساء (٤٧) (ر١٩٧٠)..
٦ - روى أبو داود في الخراج والإمارة والفيء (١٤) باب: ما جاء في حكم أرض خيبر (٢٤) (ر٣٠١٥) عن مجمع بن جارية الأنصاري ـ وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن. قال: قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهما. ورواه كذلك في الجهاد (٩) باب: فيمن أسهم له سهما (١٥٥) (ر٢٧٣٦).
ورواه البخاري في المغازي (٦٧) باب: غزوة خيبر (٣٦) (ر٣٩٨٨).
ورواه البيهقي في قسم الفيء والغنيمة باب: ما جاء في سهم الراجل والفارس ٦/٣٢٥..
٢ - عرق النسا: وجع يبتدئ من مفصل الورك، وينزل من خلف على الفخذ، وربما امتد على الكعب، وكلما طالت مدته زاد نزوله ويهزل معه الرجل والفخذ. ن الطب النبوي ص: ٥٦. لابن قيم..
٣ - زقا يزقو ويزقي زقوا وزُقَاء وزَقُوًّا وزقيا: صاح. وكل صائح زاق. اللسان: زقا. فزقاء: بمعنى صياح..
٤ - ن ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير ابن جرير ٣/٣٤٩..
قال الشافعي : أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال : لما نزلت :﴿ وَمَنْ يَّبْتَغِ غَيْرَ اَلاِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُّقْبَلَ مِنْهُ ﴾٢ الآية، قالت اليهود : فنحن مسلمون ؛ فقال الله تعالى لنبيه فحُجَّهُم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم :« حُجُّوا » فقالوا : لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا قال الله جل ثناؤه :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ اِلْعَالَمِينَ ﴾ قال عكرمة : من كفر من أهل الملل فإن الله غني عن العالمين٣. وما أشبه ما قال عكرمة بما قال، والله أعلم. لأن هذا كفر بفرض الحج، وقد أنزله الله. والكفر بآية من كتاب الله كفر.
أخبرنا مسلم بن خالد وسعيد بن سالم، عن ابن جريج قال : قال مجاهد في قول الله عز وجل :﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ قال : هو ما إن حج لم يره برًّا، وإن جلس لم يره إثما٤. كان سعيد ابن سالم يذهب إلى أنه كفر بفرض الحج.
قال الشافعي : ومن كفر بآية من كتاب الله كان كافرا، وهذا إن شاء الله كما قال مجاهد، وما قال عكرمة فيه أوضح، وإن كان هذا واضحا.
قال الشافعي : فعم فرض الحج كل بالغ مستطيع إليه سبيلا. ( الأم : ٢/١٠٩. ون أحكام الشافعي : ١/١١١-١١٢. ومعرفة السنن والآثار : ٣/٣٦٨-٣٧٠. )
ــــــــــــ
١٠٠- قال الشافعي رحمه الله تعالى : ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخثعمية٥ بالحج عن أبيها٦، دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قول الله :﴿ مَنِ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾٧ على معنيين : أحدهما : أن يستطيعه بنفسه وماله. والآخر : أن يعجز عنه بنفسه بعارض كبرٍ، أو سقمٍ، أو فِطْرَة خِلقةٍ، لا يقدر معها على الثبوت على المركب، ويكون من يطيعه إذا أمره بالحج عنه إما بشيء يعطيه إياه وهو واجد له. وإما بغير شيء، فيجب عليه أن يعطي إذا وجد، أو يأمر إن أطيع، وهذه إحدى الإستطاعتين.
وسواء في هذا الرجل يسلم ولا يقدر على الثبوت على المركب، أو الصبي يبلغ كذلك، أو العبد يعتق كذلك، ويجب عليه إن قدر على الثبوت على المحمل بلا ضرر وكان واجدا له أو لمركب غيره وإن لم يثبت على غيره، أن يركب المحمل أو ما أمكنه الثبوت عليه من المركب. وإن كان واحدا من هؤلاء لا يجد مطيعا ولا مالا، فهو ممن لا يستطيع بالبدن ولا بالطاعة فلا حج عليه. وجماع الطاعة التي توجب الحج وتفريعها اثنان، أحدهما : أن يأمر فيطاع بلا مال، والآخر : أن يجد مالا يستأجر به من يطيعه، فتكون إحدى الطاعتين. ولو تحامل فحج أجزأت عنه ورجوتُ أن يكون أعظم أجرا ممن يخف ذلك عليه. ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة أن تحج عن أبيها إذ أسلم وهو لا يستمسك على الراحلة فدل ذلك على أن عليه الفرض إذا كان مستطيعا بغيره، إذا كان في هذه الحال. والميت أولى أن يجوز الحج عنه. لأنه في أكثر من معنى هذا الذي لو تكلف الحج بحال أجزأه، والميت لا يكون فيه تكلف أبدا. ( الأم : ٢/١٢١. ون أحكام الشافعي : ١/١١٢-١١٣. ومعرفة السنن والآثار : ٣/٣٧١-٣٧٢. )
ـــــــــــــــــــــــــ
١٠١- قال الشافعي : وقال الله عز وجل :﴿ وَلِلهِ عَلَى اَلنَّاسِ حَجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ﴾٨ الآية، فكان ذلك دلالة كتاب الله عز وجل فينا وفي الأمم، على أن الناس مندوبون إلى إتيان البيت بإحرام، وقال الله عز وجل :﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ اِلسُّجُودِ ﴾٩ وقال :﴿ فَاجْعَلَ اَفْئِدَةً مِّنَ اَلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ ﴾١٠. قال الشافعي : فكان مما ندبوا به إليه إتيان الحرم بالإحرام. قال : وروي عن ابن أبي لبيد١١، عن أبي سلمة بن عبد الرحمان أنه قال : لما أهبط الله تعالى آدم من الجنة طأطأه فشكا الوحشة إلى أصوات الملائكة، فقال : يا رب مالي لا أسمع حس الملائكة ؟ فقال : خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فإن لي بيتا بمكة فائته فافعل نحوه نحو ما رأيت الملائكة يفعلون حول عرشي. فأقبل يتخطى موضع كل قدم قرية وما بينهما مفازة فلقيته الملائكة بالردم١٢ فقالوا : برَّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام١٣.
أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي لبيد، عن محمد بن كعب القُرَضِي١٤ أو غيره قال : حج آدم ولقيته الملائكة فقالت : بر نسكك يا آدم، لقد حججنا قبلك بألفي عام١٥.
قال الشافعي : وهو إن شاء الله تعالى كما قال. وروي عن أبي سلمة وسفيان بن عيينة كان يشك في إسناده.
قال الشافعي : ويحكى أن النبيين كانوا يحجون فإذا أتوا الحرم مشوا إعظاما له، ومشوا حفاة. ولم يحك لنا عن أحد من النبيين ولا الأمم الخالية أنه جاء أحد البيت قط إلا حرما، ولم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة علمناه إلا حرما إلا في حرب الفتح١٦. فبهذا قلنا إن سنة الله تعالى في عباده أن لا يدخل الحرم إلا حراما. وبأن من سمعناه من علمائنا قالوا : فمن نذر أن يأتي البيت يأتيه محرما بحج أو عمرة. قال : ولا أحسبهم قالوا إلا بما وصفت وأن الله تعالى ذكر وجه دخول الحرم فقال :﴿ لَّقَدْ صَدَقَ اَللَّهُ رَسُولَهُ اَلرُّءْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ إِن شَاء اَللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ﴾١٧ قال : فدل على وجه دخوله للنسك، وفي الأمن، وعلى رخصة الله في الحرب وعفوه فيه عن النسك، وأن فيه دلالة على الفرق بين من يدخل مكة وغيرها من البلدان، وذلك أن جميع البلدان تستوي لأنها لا تدخل بإحرام، وأن مكة تنفرد بأن من دخلها منتابا لها لم يدخلها إلا بإحرام. ( الأم : ٢/١٤١. )
٢ - آل عمران: ٨٥. وتمامها: ﴿ وَهُوَ فِى اِلاَخِرَةِ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ ﴾..
٣ - رواه ابن جرير في التفسير ٣/٣٦٩..
٤ - نفس المصدر السابق ٣/٣٦٨..
٥ - أسماء بنت عُميس الخثعمية، من المهاجرات الأول. عنها: ابنها عبد الله، وعون ابنا جعفر، وحفيدها القاسم بن محمد. تزوجها علي بعد أبي بكر. الكاشف: ٣/٤٠٦. ون الإصابة: ٧/٤٨٩. والتهذيب: ١٠/٤٥٢. وقال في التقريب: صحابية..
٦ - أخرج البخاري في أول الحج (٣٢) (ر١٤٤٢) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم» وذلك في حجة الوداع. وأخرجه في الإحصار وجزاء الصيد، وفي المغازي، وفي الاستئذان. وأخرجه مسلم في الحج (١٥) باب: الحج عن العاجز (٧١) (ر١٣٣٤-١٣٣٥). ورواه أصحاب السنن..
٧ - آل عمران: ٩٧..
٨ - آل عمران: ٩٧. وتمامها: ﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ اِلْعَالَمِينَ﴾..
٩ - البقرة: ١٢٥..
١٠ - إبراهيم: ٣٧..
١١ - عبد الله بن أبي لبيد، أبو المغيرة المدني. عن: أبي سلمة، والمطلب بن عبد الله. وعنه: السفيانان. ثقة. الكاشف: ٢/١١٨. ون التهذيب: ٤/٤٤٨. وقال في التقريب: ثقة رمي بالقدر..
١٢ - الردم: بالفتح سد ينسب إلى بني جمح بمكة. معجم البلدان..
١٣ - رواه عبد الرزاق عن عطاء وقتادة بلفظ مغاير في كتاب الحج باب: بنيان الكعبة (ر٩٠٩٢-٩٠٩٦)..
١٤ - محمد بن كعب القرضي. أرسل عن: أبي ذر، وغيره، وعائشة، وأبي هريرة، وزيد بن أرقم. وعنه: يزيد بن الهاد، وأبو معشر نجيح، وعبد الرحمن بن أبي الموالي. ثقة حجة. قال أبو داود: سمع من علي وابن مسعود. ت سنة: ١٠٨هـ. وقيل: ١١٦. الكاشف: ٣/٧٤. ون التهذيب: ٧/٣٩٧. وقال في التقريب: ثقة عالم..
١٥ - رواه الشافعي في المسند (ر٧٣٦)..
١٦ - روى البخاري في المغازي (٦٧) باب: أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح (٤٦) (ر٤٠٣٥) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خَطَلٍ متعلق بأستار الكعبة. فقال: «اقتله» قال مالك: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نرى ـ والله أعلم ـ يومئذ محرما. ورواه في الإحصار وجزاء الصيد، وفي الجهاد، وفي اللباس.
ورواه مسلم في الحج (١٥) باب: جواز دخول مكة بغير إحرام (٨٤)(ر١٣٥٧) وروى عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة (أو قال قتيبة: دخل يوم فتح مكة) وعليه عمامة سوداء بغير إحرام (ر١٣٥٨).
ورواه أصحاب السنن..
١٧ - الفتح: ٢٧..
ــــــــــــ
١٠٥- قال الشافعي : قال الله تبارك وتعالى :﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِى اِلاَمْرِ ﴾ قال الشافعي : أخبرنا ابن عيينة عن الزهري قال : قال أبو هريرة : ما رأيت أحدا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم٤. وقال الله عز وجل :﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ﴾٥.
قال الشافعي : قال الحسن : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم لغنيا عن مشاورتهم، ولكنه أراد أن يستن بذلك الحكام بعده.
إذا نزل بالحاكم الأمر يحتمل وجوها أو مشكلا، انبغى له أن يشاور، ولا ينبغي له أن يشاور جاهلا، لأنه لا معنى لمشاورته، ولا عالما غير أمين فإنه ربما أضل من يشاوره، ولكنه يشاور من جمع العلم والأمانة. وفي المشاورة رضا الخصم والحجة عليه. ( الأم : ٧/٩٥. ون أحكام الشافعي : ١/١١٩-١٢٥. )
٢ - الأحزاب: ٦..
٣ - النساء: ٦٥..
٤ - رواه ابن كثير في التفسير: ٢/١٢٨..
٥ - الشورى: ٣٨..
والعلم يحيط أن لم يجمع لهم الناس كلهم، ولم يخبرهم الناس كلهم، ولم يكونوا هم الناس كلهم. ولكنه لما كان اسم « الناس » يقع على ثلاثة نفر، وعلى جميع الناس، وعلى من بين جميعهم وثلاثة منهم، كان صحيحا في لسان العرب أن يقال :﴿ اِلذِينَ قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ ﴾. وإنما الذين قال لهم ذلك أربعة نفر :﴿ إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ﴾ يعنون المنصرفين عن أُحُد. وإنما هم جماعة غير كثير من الناس، الجامعون منهم غير المجموع لهم، والمخبرون للمجموع لهم غير الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غير الجامعين ولا المجموع لهم ولا المخبرون. وقال :﴿ يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اِللَّهِ لَنْ يَّخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَّسْلُبْهُمُ اَلذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾١ قال : فمخرج اللفظ عام على الناس كلهم. وبين عند أهل العلم بلسان العرب منهم أنه إنما يراد بهذا اللفظ العام المخرج بعض الناس دون بعض، لأنه لا يخاطب بهذا إلا من يدعوا من دون الله إلها، تعالى عما يقولون علوا كبيرا، لأن فيهم من المؤمنين المغلوبين على عقولهم وغير البالغين ممن لا يدعو معه إلها.
قال : وهذا في معنى الآية قبلها عند أهل العلم باللسان، والآية قبلها أوضح عند غير أهل العلم، لكثرة الدلالات فيها.
قال الشافعي : قال الله تبارك وتعالى :﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ اَلنَّاسُ ﴾٢ يعني : بعض الناس، وهذه الآية في مثل معنى الآيتين قبلها، وهي عند العرب سواء. والآية الأولى أوضح عند من يجهل لسان العرب من الثانية، والثانية أوضح عندهم من الثالثة، وليس يختلف عند العرب وضوح هذه الآيات معا، لأن أقل البيان عندها كافٍ من أكثره، إنما يريد السامع فهم قول القائل، فأقل ما يُفْهِمُهُ به كاف عنده. وقال الله جل ثناؤه :﴿ وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾٣ فدل كتاب الله على أنه إنما وقودها بعض الناس. لقول الله :﴿ إِنَّ اَلذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا اَلْحُسْنى أُوْلَائِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾٤. ( الرسالة : ٥٨-٦٢. ون أحكام الشافعي : ١/٢٥. والأم : ٤/١٥٢. )
ــــــــــــ
١٠٧- قال الشافعي : قوله جل وعلا :﴿ إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ﴾٥ إنما أراد به أبا سفيان. ( مناقب الشافعي : ١/٢٢٢. ون مناقب الإمام الشافعي ص : ٦٠. )
٢ - البقرة: ١٩٩..
٣ - البقرة: ٢٤. والتحريم: ٦..
٤ - الأنبياء: ١٠١..
٥ - آل عمران: ١٧٣..
قال الشافعي : أخبرنا سفيان ابن عيينة قال : أخبرنا جامع بن أبي راشد٢ وعبد الملك بن أعين٣ سمعا أبا وائل٤ يخبر عن عبد الله ابن مسعود يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة شجاع أقرع يفر منه وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه » ثم قرا علينا :﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ ﴾٥ ٦.
قال الشافعي : أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار قال : سمعت عبد الله بن عمر وهو يسأل عن الكنز فقال : هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة٧.
قال الشافعي : وهذا كما قال ابن عمر إن شاء الله تعالى، لأنهم إنما عذبوا على منع الحق، فأما على دفن أموالهم وحبسها فذلك غير محرم عليهم، وكذلك إحرازها. والدفن ضرب من الإحراز، ولولا إباحة حبسها ما وجبت فيها الزكاة في حول، لأنها لا تجب حتى تحبس حولا.
قال الشافعي : أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن أبي هريرة أنه كان يقول : من كان له مال لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطلبه حتى يمكنه يقول أنا كنزك٨. ( الأم : ٢/٧٥. ون الأم : ٢/٣. )
٢ - جامع بن أبي راشد الكاهلي. عن: أبي الطفيل، وأبي وائل. وعنه: السفيانان، وشريك. ثقة. الكاشف: ١/١٣٢. ون التهذيب: ٢/٢١. وقال في التقريب: ثقة فاضل..
٣ - عبد الملك بن أعين الكوفي أخو حمران. عن: أبي عبد الرحمن السلمي، وأبي وائل. وعنه: السفيانان. شيعي صدوق. روى له البخاري، ومسلم مقرونا بآخر. الكاشف: ٢/٢٠١. ون التهذيب: ٥/٢٨٧. وقال في التقريب: صدوق شيعي، له في الصحيحين حديث واحد متابعة. وتعقبه صاحب التحرير ٢/٣٧٩ فقال: بل ضعيف يعتبر به في المتابعات والشواهد. فقد قال ابن معين في رواية الدوري: ليس بشيء. ونقل ابن شاهين عنه أنه قال: كوفي ليس به بأس. ـ ونحن نشك في هذا النقل ـ وقال أبو حاتم: محله الصدق، صالح الحديث، يكتب حديثه. وذكره البخاري في «الضعفاء». وابن حبان في «الثقات»..
٤ - شقيق بن سلمة أبو وائل الأسدي. مخضرم. من العلماء العاملين. سمع: عمر ومعاذا. وعنه: منصور، والأعمش. قال: أدركت سبع سنين من سني الجاهلية. ت سنة: ٨٢هـ. الكاشف: ٢/١٥. ون الإصابة: ٣/٣٨٦. والتهذيب: ٣/٦٤. وقال في التقريب: ثقة: مخضرم..
٥ - آل عمران: ١٨٠..
٦ - رواه الترمذي في التفسير (٤٤) (ر٣٠١٢).
ورواه النسائي في الزكاة (٢٣) باب: التغليظ في حبس الزكاة (٢) (ر٢٤٤٠).
ورواه ابن ماجة في الزكاة (٨) باب: ما جاء في منع الزكاة (٢) (ر١٧٨٤).
ورواه البيهقي في الزكاة ٤/٨١. والشافعي في المسند (ر٦١٠)..
٧ - رواه مالك في الزكاة (١٧) باب: ما جاء في الكنز (١٠) (ر٢١).
ورواه البيهقي في الزكاة باب: تفسير الكنز الذي ورد الوعيد فيه ٤/٨٣. والشافعي في المسند (ر٦١٣)..
٨ - رواه البخاري في الزكاة (٣٠) باب: إثم مانع الزكاة (٣) (ر١٣٣٨) موصولا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزميه، يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا: ﴿لا يَحْسِبَنَّ اَلذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ الآية.
ورواه مالك موقوفا في الزكاة (١٧) باب: ما جاء في الكنز (١٠) (ر٢٢).
ورواه البيهقي في الزكاة باب: ما ورد من الوعيد فيمن كنز مال زكاة ٤/٨١.
ورواه الشافعي في المسند (ر٦١١)..