هذه أولى آيات سورة آل عمران، و هي مدنية، و قد سميت بآل عمران لاشتمالها على قصتهم، إذ قال سبحانه :﴿ إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين ٣٣ ﴾ ( آل عمران ) إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة التي ساقها.
موضوعات السورة :
و إن هذه السورة الكريمة :
( ١ ) فيها تنويه بذكر القرآن و أقسامه، و إشارة إلى محكمه و المتشابه منه، و أقسام الناس في تلقي ذلك الهدى الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.
( ٢ ) و فيها قصة آل عمران، و ولادة مريم البتول، و يحيى النبي، و عيسى الرسول، و ما اكتنف ولادتهم من آيات تدل على كمال إرادة الله تعالى في خلقه.
( ٣ ) و فيها إشارات إلى معجزات عيسى عليه السلام، و كفر من دعاهم بعد هذه المعجزات الظاهرة القاطعة، و إن ذلك يدل على أن العناد يضع غشاء على العين فلا تبصر، و على البصيرة فلا تدرك.
( ٤ ) و فيها مجادلة النبي صلى الله عليه و سلم مع النصارى و اليهود، و بيان طائفة من أخلاق اليهود و اعتقادهم أن الإيمان احتكار المذهب، و تغليق القلوب عن غيره، إذ قالوا :﴿ و لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ٧٣ ﴾ إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة.
( ٥ ) و فيها بيان أن الإسلام في لبه ومعناه هو دين كل الأنبياء السابقين، لأنه دين الله السرمدي، سبق بالدعوة إلى حقيقته النبيون، و ختم الله الدعوة بخاتم النبيين محمد الأمين.
( ٦ ) و فيها بيان فريضة الحج المحكمة و بيان الوحدة الإسلامية، و في جمعها مع الحج في موضع واحد إشارة إلى أن الحج من وسائلها، و أعقب ذلك ببيان فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و أنها ركن الوحدة الإسلامية و دعامتها، و الذريعة لجعل هذه الوحدة على أسس فضيلة مشتقة من هدى الدين الحكيم.
( ٧ ) و فيها بيان واجب قادة المؤمنين من ألا يتخذوا بطانة من غير المؤمنين، إذ هم في حقيقة أمرهم لا يألون المؤمنون خبالا و يودون عنتهم، ثم فيها تفصيل محكم لغزوة أحد، و بيان سبب الهزيمة و أعقابها، و العبرة في هذه الغزوة التي كانت فيها هزيمة و لكن لم يكن في ها خذلان، بل كانت العبرة فيها و الاعتبار بها باب الفتح المبين. و في أثناء القصة و ختامها بيان حال قتلى المؤمنين و أنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
( ٨ ) و فيها إشارة إلى أعمال المنافقين في النصر و الهزيمة، و اتباع ضعاف الإيمان لسوستهم، و صيانة الله لأقوياء الإيمان من أعمالهم.
( ٩ ) ثم فيها عزاء للنبي صلى الله عليه و سلم بذكر ما كذب به الأنبياء السابقون مع أنهم أتوا بالبينات و الأدلة الحسية القاطعة إذ قال سبحانه :﴿ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات و الزبر و الكتاب المنير ١٨٤ ﴾.
( ١٠ ) و فيها بيان أن الله سبحانه سيبتلي المؤمنين و يختبرهم، و في الابتلاء صقل إيمانهم.
( ١١ ) و فيها بيان أخلاق المؤمنين و تفكرهم في خلق السماوات و الأرض و ما بينهما، و ضراعتهم إلى ربهم، و استجابة الله تعالى لهم، و جزاؤهم يوم القيامة، و المقابلة بينه و بين جزاء الكافرين الذين اغتروا بالحياة الدنيا مع أن متاعها قليل، و فيها إنصاف كريم لبعض أهل الكتاب الذين آمنوا و صدقوا و لم يسرفوا على أنفسهم بالإنكار و التكذيب مع قيام الدلائل الواضحة القاطعة.
( ١٢ ) ثم ختم سبحانه بدعوة المؤمنين إلى مجاهدة المشركين بالتقوى و بالصبر و بإعداد العدة، فقال تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و اربطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون ٢٠٠ ﴾
ﰡ
﴿ الم ( ١ ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( ٢ ) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه و أنزل التوراة و الإنجيل ( ٣ ) من قبل هدى للناس و أنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد و الله عزيز ذو انتقام ( ٤ ) إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ( ٥ ) هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( ٦ ) ﴾
﴿ الم ﴾ هذا الاسم القرآني الذي سمى به القرآن هذه السورة، و هذه حروف تقرأ في القرآن الكريم بأسمائها، و هي ألف لام ميم. و المعنى الذي تدل عليه هذه الحروف غير معلوم على وجه اليقين كما أسلفنا في سورة البقرة و الله أعلم بمراده منها، و لا يستطيع عالم يعتمد على الحقائق العلمية أن يقرر المراد من هذه الحروف، و المعنى المحرر لها، و أقصى ما ذكره العلماء لها حكم يدل عليها ذكرها، و من أحسن ذلك أن يقال : إن هذه الحروف تشير إلى أن القرآن الكريم من جنس ما يتكلم به العرب، و أنه مكون من الحروف التي يتكون منها كلامكم، و مع ذلك تعجزون أن تأتوا بمثل سورة منه، فهي إشارة إلى العجز مع الطمع في أن يحاولوا، و لن يأتوا بسورة من مثله. و من أحسن ما يقال أيضا أن النبي الأمي كان ينطق بهذه الحروف التي كان لا يعرفها إلا من يقرأ و يكتب، فاشتمال القرآن عليها مع أميته – عليه السلام – دليل على أنه من عند الله. و من ذلك أيضا ما قيل من هذه الحروف الصوتية التي اشتملت عليها بعض أوائل السور إذا أنطق بها الناطق مع ما فيها من مد طويل أو قصير، استرعى ذلك الأسماع فاتجهت إليه، و إن لم يرد السامعون. و يروى في ذلك أن المشركين من فرط تأثير القرآن قد تفاهموا على ألا يسمعوا لهذا القرآن :﴿ و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون ٢٦ ﴾ ( فصلت ).
﴿ الله لا إله إلا هو الحث القيوم ﴾ : هذه الجملة السامية تبين أصل التوحيد، و تقرر معناه، فابتدأت بلفظ الجلالة الذي يدل على كمال الألوهية، و انفراده – سبحانه – بحق العبودية، إذ إنه الإله وحده الذي أنشأ الخلق و رباه و نماه، و لا مالك لهذا الوجود و من فيه و ما فيه سواه. و لفظ " الله" علم على الذات العلية المتصف بكل كمال و النزهة عن كل نقص، و التي لا تشابه الحوادث، و لا يشبهها شيء من الحوادث :﴿ ليس كمثله شيء و هو السميع البصير ١١ ﴾ ( الشورى ). ثم صرح سبحانه و تعالى بما يتضمنه لفظ الجلالة و هو الانفراد بالألوهية و حق العبودية فقال سبحانه :﴿ لا إله إلا هو ﴾ أي لا معبود بحق إلا هو، أو لا إله في الحقيقة و الواقع إلا هو، و كل ما يدعى له الألوهية من شخص أو وثن فهو ليس إلا أسماء سماهم بها المشركون الضالون، و ليس من حقيقة الألوهية في شيء ﴿ إن هي إلا أسناء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان... ٢٣ ﴾ ( النجم ) ثم بين سبحانه الوصاف التي تبين استحقاقه وحده لحق العبودية، فقال سبحانه :﴿ الحي القيوم ﴾ أي الدائم الحياة الذي لا ينفى، و ينفي ما سواه، و لا يستمد حي حياته إلا بإرادته سبحانه، و هو القائم بنفسه، و القائم على كل شيء، و المدبر لكل شيء. فهذا معنى القيوم ١.
و قد ذكر تنزيل القرآن مقترنا بأمرين متصلا بهما :
أولهما : أنه حق في ذاته، و مبين للحق مشتمل عليه، و داع إليه، فقال الله تعالى :﴿ بالحق ﴾
أي مصاحبا له مقترنا بما ملازما له، فهو حق لأنه نزل من عند رب العالمين، و اشتمل على الحق، فكل ما فيه من قصص و أخبار و شرائع و أحكام و عقائد حق لا شك فيه، و هو يدعو إلى الحق و العدل، فهو الحق الملازم للحق، الناصر للحق.
و ثاني الأمرين : أنه مصدقا لما بين يديه، أي الشرائع الإلهية التي سبقته، و لذا قال سبحانه :﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ فهو في لبه و معناه مبين لكل الشرائع مصدقا لصدقها، و هذا يدل على أن الشرائع الإلهية واحدة في لبها و معناها و أصولها، و لذا قال سبحانه :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تفرقوا فيه... ١٣ ﴾ ( الشورى ). فالإسلام هو لب الأديان و غايتها، و لذا قال سبحانه :﴿ إن الدين عند الله الإسلام... ١٩ ﴾ ( آل عمران ).
﴿ و أنزل التوراة والإنجيل ﴾ هذا تصريح ببعض ما تضمنته الجملة السامية السابقة، إذ قد تضمنت الجملة السابقة أن القرآن يصدق الثابت النازل من عند الله في الشرائع السابقة، و هي تتضمن أنها كانت هداية للناس، و هذه الجملة تصرح بأن التوراة أنزلت هي و الإنجيل من عند الله هداية للذين أنزلت لهم. و في هذه الجملة إشارة على معنى آخر، و هو أن لكل أمة كتابا و هداية خاصة، و إن كانت في معناها مشتقة من الهدى الإلهي العام، حتى إذا كانت دعوة محمد صلى الله عليه و سلم كانت هي الهدى العام الخالد إلى يوم القيامة.
﴿ التوراة ﴾ اسم للكتاب الذي اشتمل على شريعة موسى عليه السلام، و نزل عليه من رب العالمين، و ليست هي التوراة التي يتلوها اليهود اليوم، لأن هذه التي تسمى بهذا الاسم الآن تشمل على ما نزل في عهد موسى، و تشمل ما جاء بعد ذلك في عهد النبيين الذين بعثوا في بني إسرائيل كداود و سليمان و غيرهما، و فوق ذلك فإن القرآن الكريم أشار في عدة مواضع إلى أن أهل الكتاب نسوا حظا مما ذكروا به، و حرفوا الكلم عن مواضعه، و غيروا و بدلوا، ثم كانت التخريبات التي حلت بأورشليم في عهد بختنصر أولا، ثم في عهد الرومان ثانيا سببا في أنهم نسوا حظا مما ذكروا به، فليست التوراة المذكورة في القرآن هي التوراة الشائعة الآن.
﴿ و الإنجيل ﴾ كلمة يونانية ١ معناها البشارة، و الإنجيل هو الكتاب الذي نزل على عيسى، و ليس هو هذا الأناجيل التي يقرؤها المسيحيون اليوم، فإن هذه مؤلفات ألفت بعد السيد المسيح عيسى عليه السلام، نسبت إلى بعض الحواريين من أصحابه، و لقد كان للمسيح عليه السلام إنجيل غير هذه الأناجيل، و هو الذي ذكره القرآن الكريم على أنه هداية للناس. و لقد قرر الأحرار من النصارى ذلك، فقد قال أكهارن من مؤلفي تاريخ النصرانية :" إنه كان في ابتداء المسيحية رسالة مختصرة يجوز أن يقال أنها هي الإنجيل الأصلي، و الغالب أن هذا الإنجيل كان للمريدين الذين لم يسمعوا أقوال المسيح بآذانهم و لم يروا أحواله بأعينهم، و كان هذا الإنجيل بمنزلة القلب، و ما كانت الأحوال المسيحية مكتوبة فيه على الترتيب " ٢.
و قد ذكرت ذلك الإنجيل الأناجيل المنسوبة لبعض الحواريين وهي المعروفة الآن، فقد جاء في إنجيل متى ما نصه :" و كان يسوع يطوف كل الجليل، يعلم في مجامعهم، و يكرر ببشارة الملكوت، و يشفي كل مرض و كل ضعف في الشعب " و بشارة الملكوت هي ترجمة دقيقة لكلمة إنجيل، فإن كلمة إنجيل يونانية كما نوهنا، فقد كانت إذا بشارة أي إنجيل غير هذه الأناجيل، و هو المذكور في القرآن و إن لم يعلم الآن.
٢ راجع تاريخ الأناجيل و صحة نسبتها في كتاب " محاضرات في النصرانية " للأستاذ محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي..
﴿ إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد و الله عزيز ذو انتقام ﴾ ذكر سبحانه عقاب الذين يكفرون بآيات الله، أي معجزاته الباهرة، و آياته المتلوة القاهرة، بعد أن ذكر كتب الديانات الثلاث : اليهودية، و النصرانية، و الإسلام، للإشارة إلى أن الذين يكفرون بمحمد إنما يكفرون بشرائع الله المنزلة كلها، لأنه شريعته كمالها، و بها تمامها و ختامها، و للإشارة إلى أن اليهود و النصارى الذين لا يتبعون محمدا، إنما يكفرون بحقيقة النصرانية نفسها، و اليهودية ذاتها إذ يكفرون بمحمد صلى الله عليه و سلم، فليست رسالة محمد إلا الخطوة الأخيرة في الشرائع الإلهية، و هي الكمال، و قد بشرت به الكتب السابقة كلها، فالكفر به كفر بها، و الإسلام سيمر بالشرع الإلهي إلى أقصى غايته، و لو كان موسى حيا ما وسعه إلا الإيمان بما جاء به محمد كما أشار بذلك النبي صلى الله عليه و سلم.
و من أجل هذا كان الذين يكفرون بمحمد لهم عذاب شديد، و خصوصا إذا كانوا من اليهود و النصارى، لأنهم حينئذ يكفرون بكل آيات الله تعالى.
ثم وصف سبحانه ذاته الكريمة بما يفيد انه غالب، و أنه لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فقال :﴿ و الله عزيز ذو انتقام ﴾ أي أنه سبحانه بعزته غالب على كل شيء، مسيطر على كل شيء، ليس فوقه احد، و هو القاهر فوق عباده. و هو انتقام، أي أنه سبحانه له انتقام شديد لا يدرك كنهه، و لذلك نكر الانتقام. و الانتقام إنزال النقمة و الشدة في مقابل ما يرتكبه الشخص، فإن كان من عادل حكيم كان عقوبة عادلة، و جزاء وفاقا، و كذلك يكون عقاب الله تعالى، فانتقام الله ليس تشفيا و شفاء غيظ كما هو الشأن في البشر، بل انتقام الله عقوبة عادلة، و قصاص رادع. و عبر ب ﴿ ذو انتقام ﴾، أي صاحب انتقام، للإشارة إلى أن هذا الانتقام في قدرته سبحانه و سلطانه ينزله أنى شاء، و متى شاء بمقتضى حكمته وإرادته وقدرته، وعلمه الذي يحيط بكل شيء، و لذا قال بعد ذلك :
و التصوير : مأخوذ من مادة صار إلى كذا بمعنى تحول إليه، أو من صَارَهُ إلى كذا بمعنى أماله و حوله، فالتصوير معناه إذن تحويل شيء من حال إلى حال مغيرا في شكله و هيئته بإمالته من مشابهة شيء إلى مشابهة شيء آخر، و كذلك صنع الله تعالى في النطفة، فإنه يحولها إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة، ثم يجعل المضغة عظاما، و هكذا، و تحويل الله و تصويره ليس تغييرا في الشكل، بل هو تنمية، و تكوين، و تدرج في هذا التكوين يستمر من وقت إيداع النطفة في مستودعها، حتى يصير إنسانا في أحسن تقويم، بل يستمر التكوين حتى يبلغ أشده.
و الأرحام : جمع رحم، و هو مستودع النطفة في المرأة الذي فيه يتربى و ينمو، و يجري تصوير الله له و تكوينه إياه، حتى يبرز في الوجود حيا يحس و يسمع، ثم يعلم و يتعلم، و الله سبحانه و تعالى على كل شيء قدير.
و قوله تعال :﴿ كيف يشاء ﴾ فيه بيان لأمرين :
أحدهما : أن هذا التكوين تبع لمشيئة الله و إرادته، فلم يكن وجوده كوجود المعلول من علته، و كالمسبب من سببه، إنما وجوده و تكوينه و نموه بإرادة الله تعالى و مشيئته، و هو فعال لما يريد.
الأمر الثاني : بيان أن الله وحده هو الذي يجعله ذكرا و أنثى، و جميلا أو دميما، و أبيض أو أسود، بل إنه سبحانه يكتبه وهو في رحم أمه شقيا أو سعيدا، مؤمنا أو كافرا، عالما أو جاهلا، تعالى الله سبحانه في عمله علوا كبيرا.
و لقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة فيها رد على بعض النصارى الذين اعتبروا المسيح عيسى بن مريم إلها، لأنه ولد من غير أب، فالله سبحانه و تعالى يبين في هذه الآية أنه هو الذي صوره وكونه في رحم أمه، كما يكون سائر الناس، و ما كان الإله قابلا للنمو من الصغر إلى الكبر، و من النطفة إلى العلقة، فالمضغة، فالعظام، و إذا كان رب البرية قد ألقى في رحم مريم ما هو خمن جنس النطفة البشرية من غير أب يودعها فإن التكوين الذي يسري على البشر سرى عليه فيكون إلها ؟ و يزكي هذا أن الآيات من أول السورة إلى ثمانين آية كان سبب نزولها – فيما يروى في أسباب النزول – وفد نجران و مناقشة النبي صلى الله عليه و سلم، و سواء أصح ذلك سبب للنزول أم لم يصح فإن الآية فيها رد على من يدعي ألوهية المسيح.
﴿ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴾ في هذه الجملة السامية تقرير للوحدانية و انفراده سبحانه و تعالى بالألوهية و حق العبودية، بعد أن قدم ما هو دليل على هذه الوحدانية، و هو العلم الشامل لكل شيء الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ة لا في السماء، و بعد أن أشار سبحانه إلى أنه المكون لكل شيء و خص الإنسان بالذكر، لأنه هو الذي يتمرد ويضل، و كل ما في الوجود مسخر له كما قال تعالى :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا... ٢٩ ﴾ ( البقرة ).
ثم ختم سبحانه وتعالى بالعزة و الحكمة، لبيان كما لسلطانه في ملكه الذي خلقه، و إثبات انه لا سلطان لأحد معه حي يشترك في عبادته سبحانه و تعالى، و كيف يكون إله لا سلطان له ! و لبيان أن الله سبحانه يدبر هذا الكون بواسع علمه و عظيم حكمته، إنه على كل شيء قدير، و هو نعم المولى و نعم النصير.
في الآيات السابقة ذكر سبحانه منزلة القرآن بين الكتب السماوية، و أنه فرقانها و ميزانها، و ذكر أنه سبحانه و تعالى العليم بكل شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، فهو العليم بخلقه، و العليم بما ينزل عليهم من آيات بينات، و العليم بمداركهم البشرية، و طاقتهم العقلية، يطالبهم بما يدركون ويكلفهم ما يستطيعون، و في هذه الآية يبين أقسام القرآن من حيث قوة إدراكهم له، و تطلعهم لفهمه، و تباين مقاصدهم في طلب حقيقته و معناه، و غايته و مرماه، و فيها بيان أنها قسمان : قسم لا تدركه كل العقول، و قسم تدركه كل العقول المميزة، و أن ما يعلو على الإدراك، أصله ما أدركه كل الناس. و لذا قال سبحانه :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ الضمير يعود إلى الذات العلية التي وصفت في الآيات السابقة، إذ قد وصف ذاته – جلت قدرته – بأنه الحي القيوم على كل شيء، و الذي به يقوم كل شيء، و بأنه منزل الكتب من السماء، و جاعل القرآن ميزانها، و أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، و أنه سبحانه الذي يعلم الإنسان منذ يكون نطفة في بطن أمه إلى أن يصير إنسانا مستويا كامل التكوين، و هو الذي يصوره ذلك التصوير، و يكونه ذلك التكوين، و هو العزيز الغالب المسيطر على كل شيء خلقه، و لا شيء في الوجود إلا كان خلقه، الذي يتصرف في هذا الكون بمقتضى حكمته و علمه بكل شيء، فقوله تعالى :﴿ هو الذي أنزل ﴾ الضمير يعود إلى المتصف بهذه الصفات. و قوله :﴿ الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ معناه أن هذا الكتاب العظيم الشأن الذي هو ميزان الكتب السابقة و فرقانها، أنزله الله العلي القدير المتصف بهذه الصفات عليك، و قد اختارك موضع رسالته، و أداء أمانته، و ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته... ١٢٤ ﴾ ( الأنعام ) و هو أعلم بشأن الكتاب و ما جاء فيه، و تلقي الناس له، و مقدار إدراكهم لما فيه، و قد شاء بحكمته الواسعة أن يجعله قسمين، أحدهما : يدركه كل الناس، و الثاني : فوق مستوى عامة الناس، و لذا قال بعد ذلك :
﴿ منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات ﴾ أي أن القرآن من حيث بيانه وإدراك الناس له : محكم، و متشابه، و لقد وجدنا القرآن الكريم وصف بأنه كله محكم في مثل قوله تعالى :﴿ الر كتاب أحكمت آياته... ١ ﴾ ( هود ) أي أنها نزلت محكمة لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها، و وصفه الله سبحانه و تعالى بأنه متشابه، فقد قال تعالى :﴿ كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله.. ٢٣ ﴾ ( الزمر ) و معنى التشابه هنا هو انه على شاكلة واحدة من حيث قوة تأثيره، و تآخي معانيه، و إحكام نسقه، و فصاحة ألفاظه، و قوة تأثيره بألفاظه و معانيه، فهو في هذا متشابه، أي يشبه بعضه بعضا.
و في هذه الآية التي نتكلم في معانيها وصف القرآن بأن منه آيات محكمات، و أخر متشابهات، فلا شك أن معنى محكم هنا غير معناها في قوله تعالى :﴿ كتاب أحكمن آياته... ١ ﴾ و تشابه غير معناها في قوله تعالى :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتاب متشابها مثاني... ٢٣ ﴾ و إن ذلك يتضح من تفسير كلمة محكم و متشابه في أصل معناها اللغوي. وهذا ما جاء في كتب اللغة : العرب تقول : حاكمت و حكمت و أحكمت بمعنى رددت و منعت، و الحاكم يمنع الظالم من الظلم، و حكمة اللجام هي التي تمنع الفرس من الاضطراب. و روى إبراهيم النخعي : أحكم اليتيم كما تحكم ولدك. أي امنعه عن الفساد.
و قال ابن جرير الطبري : أحكموا سفهاءكم أي امنعوهم، و بناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له. و سميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي. و أما التشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز، قال تعالى :﴿ إن البقر تشابه علينا... ٧٠ ﴾ ( البقرة ) و قال في وصف ثمار الجنة ﴿ و أتوا به متشابها... ٢٥ ﴾ ( البقرة ) أي متفق المنظر مختلف الطموع، و قال تعالى :﴿ تشابهت قلوبهم... ١١٨ ﴾ ( البقرة ). و منه يقال : اشتبه علي الأمران، إذا لم يفرق بينهما وقال عليه الصلاة والسلام :" الحلال بين، و الحرام بين، و بينهما أمور متشابهات ". و في رواية أخرى " متشابهات " ١. ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمى كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقا، سواء أكان له مشاله أم لم يكن له مشابه ٢.
و على هذا الأساس اللغوي : نقول : إن التشابه في القرآن أطلق على ما لا يمكن فهمه مطلقا، أو ما لا يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل، أو ما يدق و يختفي على العامة، و لا يستغلق على الخاصة. هذان هما الوجهان اللذان يحتملهما معنى التشابه، فإما أن نقول إنه ما لا يكون معرفة حقيقته على الوجه الأكمل في هذه الدنيا، و إما أن نقول إنه ما يمكن معرفته و لكن لبعض الخاصة الراسخين في العلم، و المحكم هو ما يقابل التشابه، و هو الواضح البين للعامة و الخاصة الذي لا تتفاوت في إدراكه الأنظار، و ما يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل، و هو أم الكتاب، لأنه الأصل الذي يجب على كل مؤمن معرفته، و الجزم بمعناه، و التصديق بمغزاه. فالآيات المحكمات أم الكتاب، أي أصله الذي يرجع إليه، و يحمل المتشابه عليه، و يخرج بتخريج لا يناقضه إن كان ممكن الإدراك على الوجه الكامل. فالآيات المحكمات هي الحكم الذي يفصل بين التأويل الزائغ، و التأويل الصادق، فما شهدت له، فهو الصادق الذي يتفق مع أصل التنزيل، و ما يخالفه فهو الزيغ في الدين، و الخروج عن جادته.
و المتشابه ينتهي كما ذكرنا إلى أحد معنيين، إما أن نقول إنه الغيب الذي لا يستطيع الإنسان معرفته، كحقيقة الروح، و حقيقة الجن و الملائكة، و ما يكون يوم القيامة، و كيف يكون نعيم الجنة الحسي، و عذاب الجحيم المادي، و كيف ينشئ الله الخلق، و كيف يعيده، و كيف يتجلى سبحانه يوم الحساب، و هكذا مما غيبه الله تعالى علينا، لأن عقولنا مأسورة بالحس الذي نحسه، و بالمادة التي ندركها، و علم الغيب قد أخفاه الله سبحانه عنا، لأنه يعلو عن مداكرنا في هذه الدنيا، و علينا أن نؤمن بما أخبرنا به القرآن الكريم، و ما جاءت به السنة الصحيحة، فإن من صفات أهل الإيمان الإيمان بالغيب، إذ قال سبحانه في أوصافهم :﴿ الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون ٣ ﴾ ( البقرة ).
هذا هو الوجه الأول الذي يحتمله تفسير كلمة المتشابه.
أما الوجه الثاني فمعنى المتشابه أنه الذي يدق معناه إلا على طائفة خاصة من أهل العلم، كبعض العبارات القرآنية الخاصة بالكون و تكوين السماء و الأرض، و بعض ما ذكر في القرآن من أوصاف لله سبحانه و تعالى، و نحو ذلك من الحقائق التي لا يخوض فيها إلا أهل الذكر، و هي دقيقة في معناها.
هذان هما الوجهان اللذان تحتملهما الآية الكريمة، و يدخل في عمومها كل الأقوال التي قيلت في هذا المقام ٣. و نرى أن كلا الوجهين تحتملها الآية، من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، بل يصح لنا أن نقول :
إن الوجهين معا مرادان، و سنختار ذلك، و نبين وجهه عندما نتكلم في تأويل المتشابه إن شاء الله تعالى.
و إن وجود هذين القسمين في القرآن الكريم كان سببا في أن وجد الذين زاغوا و أضلهم الله على علم سبيلا لأن يفتنوا الناس عن دينهم و يضلوهم، و ذلك بمحاولة تأويل المتشابه من غير أن يلاحظوا الموافقة بينه و بين الآيات المحكمات و هن أم الكتاب، و لذا قال سبحانه :
﴿ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله ﴾ في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه و تعالى أن الذين يتلقون هدى القرآن قسمان، كما أن آيات القرآن قسمان، و لكلام الله تعالى المثل الأعلى، فالقسم الأول يتلقى الهدى القرآني مستضيئا بنوره آخذا بهديه، ما يعرفه يهتدي به، و ما لا يغرفه يؤمن به، و يفوض فيه الأمر إلى ربه، و يقول :﴿ قل ما أسألك عليه من أجر و ما أنا من المتكلفين ٨٦ ﴾ ( ص ). و القسم الثاني زاغ، فأزاغه الله عن الحق. و قد ذكر الله ذلك القسم، و يفهم القسم الأول من قوله تعالى في حق الراسخين في العلم أنهم يقولون :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ﴾.
و الزيغ أصل معناه في اللغة : الميل عن الاستقامة. و التزايغ التمايل، و رجل زائغ : أي مائل عن الطريق المستقيم في طلب الحق. و المعنى على هذا : أن الذين في قلوبهم زيغ، أي ميل عن طلب الحق و عدم أخذ بالمنهج المستقيم، لا يتجهون إلى المحكم يطلبون منه حكم القرآن، بل يتبعون ما تشابه من القرآن، لأنه بغيتهم، و يجدون في الاشتباه ما يتفق مع اعوجاج نفوسهم، و عدم استقامة تفكيرهم، و ما ينطوي عليه مقصدهم الباطل، فإن اعوجاج القلوب يجيء من تحكم الهوى في النفس، و إذا تحكم الهوى و سيطرت الشهوات المختلفة كشهوة التسلط و الغلب و حب السلطان، و شهوة المال، و شهوة النساء، و شهوة المفاسد، فإن القلوب تركس، و تفسد، فلا تطلب الحق لذات الحق، بل تطلب ما يحقق شهوة النفوس، و أولئك لأنهم لا يطلبون الحق يتبعون المتشابه يتقصونه و يتعرفون مواضع الريب، ليثيروا الشبهات حول الحق، و يشككون الناس فيه، و لذا قال سبحانه :﴿ ابتغاء الفتنة ﴾ أي طالبا لفتنة الناس عن دينهم و خدعهم، و إثارة الريب في قلوبهم، بأوهام يثيرونها حول المتشابه الذي جاء في القرآن، مثل أن يقولوا : ما نعيم الجنة و ما جحيمها ؟ و ﴿ أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد... ٥ ﴾ ( الرعد ). و كيف يخلق الله العالم ؟ و هكذا يثيرون هذه الأوهام المشتقة من مألوف الحياة الفانية، ليشككوا في حقيقة الحياة الباقية. فابتغاء الفتنة مقصودهم الأول، و لذا ذكر أولا، ثم أعقبه سبحانه بابتغاء التأويل فقال :﴿ و ابتغاء تأويله ﴾ فهم قد ابتغوا التأويل بانبعاث من الهوى و الرغبة في تضليل الناس و إثارة الشكوك حول حقائق الدين، فالرغبة في الفتنة هي المقصد الأول، و الرغبة في التفسير أو معرفة المآل جاءت تابعة إذ لا تتحقق الفتنة إلا بها.
و التأويل في اصل معناه اللغوي كما قال الأصفهاني في مفرداته " من الأول أي الرجوع إلى الأصل، أي رد الشيء إلى الغاية المقصودة منه عملا أو فعلا " فهو معرفة الغاية، إما بمعرفة المراد المقصود، و لذلك أطلق التأويل على التفسير و معرفة ما يخفى من الحقائق و إرادة غير الظاهر لقرينة تدل عليه، و إما بمعرفة المآل و النتيجة عملا، كما في قوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كمنا نعمل قد خسروا أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون ٥٣ ﴾ ( الأعراف ).
و التأويل الذي يبتغيه الزائغون هو معرفة المآل في الدنيا، كأن يطلبوا إنزال العذاب الذي يهددون به، و كأن يطلبوا إحياء بعض الموتى، و قد يفسرون تفسيرات المقصود منها تشويه الحقائق و تضليل العقول، و قد قصدوا في الأمرين الضلال.
و إن الله سبحانه و تعالى قد بين بعد ذلك أن معرفة المآل عند الله تعالى وحده، و
٢ جاء في هامش الأصل هذا التحقيق اللغوي منقول من التفسير الكبير للفخر الرازي، بتصرف قليل..
٣ جاء في هامش الأصيل: اختلف المفسرون في المحكم و المتشابه على أقوال كثيرة:
منها أن المحكم ما اتفقت عليه الشرائع السماوية، و المتشابه ما خالف فيه الإسلام ما سبقه.
و منها أن المتشابه أوائل السور المبتدأة بالحروف.
و منها أن المحكم الناسخ، و المتشابه المنسوخ.
و منها أن المحكم ما كان دليله واضحا و المتشابه ما يخفي دليله إلا على الراسخين.
و منها أن المحكم ما أمكن الاستدلال عليه جلي و خفي، و المتشابه ما لا يمكن الاستدلال عليه.
و منها أن المحكم ما فيه بيان الحلال و الحرام و المتشابه ما سواه.
و منها أن المتشابه ما احتمل في تأويله عدة وجوه، و المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا.
و منها أن المحكم و المتشابه في القصص، فما فصل منها محكم، و ما أجمل متشابه.
و قال ابن تيمية: المحكم: ما يجب الإيمان به و العمل به، و المتشابه ما يجب الإيمان به من غير تكليف بعمل.
و منها أن المتشابه آيات الصفات، و غيرها محكم.
و قال ابن حزم الظاهري: كل القرآن محكم ما عدا الحروف التي ابتدأت بها بعض السور، و أقسام القرآن مثل قوله تعالى: ﴿و الشمس و ضحاها ١﴾ ( الشمس )..
﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ﴾ هذه ضراعة يجب على كل مؤمن أن يتضرع بها إلى ربه. و قد قال بعض العلماء إنها من مقول الراسخين في العلم، فهم يقولون :﴿ آمنا به كل من عند ربنا ﴾ و يقولون أيضا :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا ﴾ و كأنهم إذ يعلنون الإيمان و الإذعان يضرعون إلى الله تعالى أن يحفظه و يبقيه بإبعادهم عن الزيغ و الاضطراب في العقيدة.
و قال بعض المفسرين : إن هذا كلام جديد، و هو تعليم من الله تعالى للمؤمنين ليدعوا بهذا الدعاء، و المعنى على الحالين : ربنا أي يا خالقنا و العليم بنفوسنا و القيوم على أمورنا ﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا ﴾ : لا تبتلينا بابتلاء و اختبار تزيغ معه قلوبنا، و تضطرب معه نفوسنا، فتكون الإزاغة عن الطريق المستقيم و المنهاج الحق. و الزيغ يبتدئ دائما بسيطرة الهواء على النفوس، فتضطرب فتحيد، فيكتب الزيغ فتزيغ، و هذا قول تعالى :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم... ٥ ﴾ ( الصف ) و روت أم سلمة رضي الله عنها أن أكثر دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم :" يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ". فقالت له : يا رسول الله ما أكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ؟ فقال :" يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا و قلبه معلق بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، و من شاء أزاغ " ١.
﴿ و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ﴾ هذا بقية الدعاء و الضراعة التي تجري على ألسنة الراسخين في العلم، و هي من تعليم الله سبحانه و تعالى، و هذا الدعاء يتضمن طلب الرحمة، و قد تضمن الأول طلب تثبيت الإيمان، و هو أول أبواب الرحمة، و الأصل لكل رحمة، فبعد أن علمنا الضراعة بأن لا تميل قلوبنا، وجهنا لطلب الأثر كذلك و هو الرحمة، و رحمة الله تفضل و نعمة و إنعام على العبد، لأنه و ما يملك ملك لله تعالى يتصرف فيه كما يتصف المالك في ملكه، و ليس لأحد عند رب العالمين حساب. والرحمة المطلوبة كملة شاملة جامعة، فتجمع النصر في الدنيا و القرار و الاطمئنان فيها، و النعيم في الآخرة. و التعبير بقوله تعالى :﴿ من لدنك ﴾ أي من عندك، و لدن لا تستعمل بمعنى عند إلا إذا كانت العندية في موضع خطير جليل عال. و المعنى على هذا أن الرحمة فيض من فيوض الله ينزل على عباده كما ينزل المطر من مرتفع السماء إلى الأرض. و قد ختمت الآية الكريمة بما يدل على أن هبة الرحمة شأن من شئون العلي القدير، و وصف من أوصافه، فقال سبحانه على ألسنة الضارعين المبتهلين :﴿ إنك أنت الوهاب ﴾ في هذا تأكيد رحمة الله تعالى بعدة مؤكدات، منها " إن " التي للتوكيد، و منها تأكيد الضمير بقوله " أنت " و منها القصر، أي لا يهب أحد سواك، و ذاك بتعريف الطرفين، و منها التعبير بصيغة المبالغة، و هي : الوهاب، و إنه سبحانه قد انفرد بالرحمة و هبة الرحمة لمن يشاء، و إن رجمته وسعت كل شيء.
و الأساس في العلم باليوم الآخر هو إخبار الله تعالى الذي لا يحتمل إخلافا، و لذلك قال سبحانه بعد ذلك :﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ أي إن اليوم الآخر الذي لا ينبغي لمؤمن أن يرتاب فيه هو وعد الله الذي وعد به المتقين، و نذيره الذي أنذر به الجاحدين الضالين، و الله سبحانه و تعالى لا يخلف الميعاد. و في هذه الجملة السامية ﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ إشارة إلى الجزاء الأخروي و ما فيه من جزاء بعد الحساب، فهي تتضمن تبشيرا للمؤمنين، و إنذارا للعاصين الكافرين. جعلنا الله من المتقين المهتدين، الذين لا يزيغون في فهم دينه، و تفهم قرآنه، و المذعنين للحق الطالبين له.
و هنا بعض إشارات بيانية منها قوله :﴿ لن تغني عنهم أموالهم ﴾ فقد قال بعض المفسرين : إن معناها لن تدفع عنهم من عذاب الله شيئا. فتغني معناها تدفع، و الدفع المنفي هو منع العذاب، و لكن كلمة تغني لا تدل على معنى الدفع إلا على سبيل المجاز، الذي يشرح له و يقويه قوله تعالىا :﴿ من الله ﴾ و " من" هنا بمعنى البدلية، و المعنى يكون على هذا : لا تكون الأموال و الأولاد مغنية أي غناء و نافعة أي نفع بدل رحمة الله تعالى و قدرته و إرادته و نفعه لعباده، فالغاية أن الأولاد و الأموال لا تجلب رحمة بدل رحمة الله تعالى و نفعه لعباده شيئا من الغناء أو النفع.
ثم قوله في نفي نفع الأولاد بعد نفي نفع الأموال ﴿ و لا أولادهم ﴾ إشارة إلى أن قوة النفع بمقتضى الفطرة و العادات الجارية في الأولاد أكثر، و لذا أكد النفي فيه بعد تأكيده أولا بتكرار " لا" كأن نفي نفع الأموال أسهل قبولا من نفي نفع الأولاد، و لذا زاده توكيدا بعد توكيد، و إن أولئك الكافرين إذا كانوا قد حرموا نفع الأموال و الأولاد، و لم يستبدلوا برحمة الله شيئا، فلهم مع ذلك عذاب شديد، و لذا قال سبحانه بعد ذلك :
﴿ وأولئك هم وقود النار ﴾الإشارة في قوله :﴿ وأولئك ﴾إلى أولئك الكافرين الذين غرهم غرور الأموال والأولاد فضلوا لفرط اعتزازهم بسلطان المال والعصبية، وفي الإشارة إليهم وهم موصوفون بالكفر المؤكد الذي لا سبيل إلى الشك في ولا الريب بيان ان السبب في العقاب الذي ينزله الله بهم هو هذا الكفر الذي دفع إليه الغرور والاعتزاز بغير الله وبغير الحق. والجملة السامية﴿ وأولئك هم وقود النار ﴾دالة على عقابهم الشديد يوم القيامة. وقد أكد الخبر بثلاثة مؤكدات :
أولها : الإشارة إلى البعيد ب﴿ أولئك ﴾الدالة على غلوهم في الكفر، وإيغالهم فيه، وكلما قوى المسبب، وكلما اشتدت الجريمة اشتد العقاب، فهي مثلة للجزاء.
وثانيهما : ذكر ضمير الفصل"هم"، فهو، يؤكد ؛إذ فيه تكرار لذكر الموضوع الذي يرد عليه الحكم، وكل تكرار فيه تأكيد فوق ما يدل عليه من الاختصاص.
وثالثهما : التعبير عن العقوبة النارية التي تنزل بهم، بأنهم يكونون وقود النار ؛فإن الوقود هو الحطب الذي تحرق به النار، وأصله من وقدت النار تقد إذا اشتعلت، والمصدر الوقود، وبالفتح ما يكون به الاتقاد والاشتعال. والمعنى على هذا أن الكافرين يكونون وقود النار ؛أي أن النار يشتد اشتعالها فيهم حتى كأنهم هم مادتها التي بها تتقد وتشتعل. وقرئ﴿ وقود ﴾١، وهذا يكون فيه مبالغة في شدة احتراقهم، أي أنهم يحترقون بالنار ويسجرون فيها كأنهم الاشتعال لا مادة الاشتعال، ولا من يكوى بهذا الاشتعال.
وإن هذا العقاب هو الغرور ينتظر الكفار جميعا، وإن حال منكري الإسلام في الإنكار والجحود والغرور بالمال والولد، والعزة بالنفر والعصبية، كحال من سبقوهم، ولذا ينزل ما نزل بأولئك ؛ولهذا قال سبحانه وتعالت آياته :﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ﴾.
وقد شبه الله سبحانه وتعالى حال الكافرين الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، بحال آل فرعون والذين سبقوا فرعون من الطغاة العتاة القساة المغرورين، وقد كان وجه السبب في أمرين :
أولهما : أن الغرور هو الذي دفع إلى الجحود واللجاجة فيه والإصرار عليه، حتى إنهم ليردون الدليل تلو الدليل، وما تزيدهم الآيات إلا كفورا، وما تزيدهم الموعظة إلا عتوا في الأرض وفسادا.
وثانيهما : في الجزاء.
وهنا يرد سؤالان أولهما : لم ذكر آل فرعون، ولم يذكر فرعون ؟، والثاني : لماذا نص على قوم فرعون من بين الذين سبقوهم بالكفر والجحود ومعاندة النبيين ؟
والجواب عن السؤال الأول : ان ذكر آل فرعون يتضمن ذكر فرعون ؛لأنه إذا كان العناد في التابع فهو في المتبوع أشد ؛وفوق ذلك فإن آل فرعون وحاشيته ونصراءه هم السبب في طغيانه، وهم الذين سهلوا له سبيل الطغيان وضنوا بالموعظة في إبانها، وهم الذين حرضوه على الاستمرار في الشر والإيغال فيه، فهم اتبعوه اولا، ثم حرضوه على الطغيان ثانيا بمبالغتهم في مرضاته، واستحسان ما يفعل.
وأما الجواب عن السؤال الثاني، وهو اختصاص فرعون وآله بالذكر، فلأن فرعون كان أقوى الطغاة وأشدهم، وكان أكثرهم مالا، وأعزهم نفرا، وأكثرهم غرورا ؛ أليس هو القائل :﴿ أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي... ٥١ ﴾[ الزخرف ]أليس هو الذي ذهب به فرط غروره على ان يقول في حماقة ظاهرة :﴿ يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب٣٦ أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى... ٣٧ ﴾[ غافر ]ولقد كان مستكبرا يصم آذانه عن سماع الحق حتى لقد قال سبحانه فيه :﴿ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق... ٣٩ ﴾[ القصص ].
ولقد بين سبحانه وتعالى نتيجة الغرور في آل فرعون والذين من قبلهم، وهو التكذيب بآيات الله، وقد ترتب على التكذيب نزول العقاب الشديد ؛سنة الله في الذين كفروا ولجوا ولم يثوبوا إلى رشدهم، وينيبوا إلى ربهم، فقال سبحانه :
﴿ كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب ﴾هذا هو الدأب والعادة، وهو الغرور المردى، وهذه نتائجه التي تجمع بين المغرورين دائما ؟، وهو التكذيب بآيات الله تعالى. وفي هذه الجملة السامية يقرر الله سبحانه ثلاث حقائق ثابتة ؛اثنتان منها تتعلقان بالكافرين المغرورين، وهما : التكذيب بآيات الله تعالى، والعقاب الذي يأخذهم سبحانه وتعالى به ؛والثالثة بيان شأن من شئون الله تعالى جلت قدرته، وهو أنه سبحانه وتعالى شديد العقاب، كما انه سبحانه غفور رحيم، وانه المنتقم الجبار، كما انه اللطيف الخبير.
فأما الحقيقة الأولى فقد قال سبحانه فيها﴿ كذبوا بآياتنا ﴾أي كذبوا بالآيات والأدلة التي تثبت رسالات الرسل، وتثبت وحدانية الله تعالى. وأضاف سبحانه الآيات إليه جلت قدرته، للإشارة إلى عظم دلالتها وقوة إثباتها، وأنها آيات الخالق لتعريف خلقه، وأدلة الواحد الأحد لإثبات وحدانيته، ومع ذلك لجوا واستمروا في غيهم يعمهون.
والحقيقة الثانية : قال سبحانه وتعالى فيها :﴿ فأخذهم الله بذنوبهم ﴾أي أنه سبحانه وتعالى يعاقبهم على هذه الذنوب بما يساويها، وبما يقابلها، وعبر عن العقاب بهذا التعبير ؛لأنه يفيد أمورا ثلاثة :
أولها : ان الأخذ يفيد الوقع التام في سلطان الله تعالى، فهو سبحانه أخذهم كما يؤخذ الأسير، لا يستطيع من أمره فكاكا.
ثانيها : أن التعبير بالباء يفيد أمرين : المصاحبة والمقابلة ؛فهم قد أخذوا مصاحبين ومتلبسين بذنوبهم لم يقلعوا، ولم يتوبوا، بل استمروا على حالهم ملابسين لها ومقترنة بهم، كما تدل على ان العقاب مقابل للذنوب، فهو بدل ببدل، وكما انهم قدموا الذنب، فليتسلموا العقاب.
وثالثها : ان هذا التعبير فيه إشارة إلى عدل الله سبحانه وتعالى الكامل ؛فالذنب هو الذي ولد العقاب، وهو يماثله تمام المماثلة، وما ظلمهم الله ولكن انفسهم يظلمون.
والحقيقة الثالثة : قال سبحانه وتعالى فيها :﴿ والله شديد العقاب ﴾وفي ذكر هذا الوصف للذات العلية إشارة إلى شدة العقاب لشدة الجريمة، وإشارة إلى أن العدالة الإلهية تقتضي شدة العقاب ؛لأهن لا يستوي الذين يحسنون والذين يسيئون، ولا يستوي الأخيار والأشرار ؛فإن المساواة هي الظلم في هذه الحال. ثم في هذا الوصف للذات العلية تعليم للناس بأن كل فعل يجب ان يكون له جزاءه﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره٧ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره٨ ﴾[ الزلزلة ]. وهذا النص الكريم فوق ذلك المهابة في النفس، ويجعل كل مؤمن يغلب الخوف على الرجاء، فإن الخوف يجعل العابد يستشعر الطاعة دائما ولا يدل بالعبادة، وتغليب الرجاء يمكن للنفس الأمارة بالسوء أن تسيطر، ويجعل العابد يدل بعبادته.
فهذه الآية الكريمة إنذار للمشركين بأن الهزيمة ستلحقهم في الدنيا، وان العذاب سيستقبلهم في الآخرة. وقد امر الله سبحانه نبيه بان يواجههم بهذا الخطاب، ولم يوجهه سبحانه وتعالى إليهم ؛لأن أولئك المغترين المفتخرين كانوا يدلون بقوتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتزون بها في مخاطبته صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقولون له :﴿ نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين٣٥ ﴾ [ سبأ ]. وكانوا يأخذون من عزتهم في الدنيا دليلا على عزتهم في الآخرة، فكان حالهم كحال هذا العامل الذي حكى الله سبحانه عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن ان تبيد هذه أبدا٣٥ وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت على ربي لأجدن خيرا منها منقلبا٣٦ ﴾[ الكهف ]وهكذا الطبيعة الإنسانية عن استغنت طغت في حاضرها، وغرها الغرور في قابلها :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى٦ ان رآه استغنى٧ ﴾[ العلق ].
وإذا كانوا يجابهون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فإن يكون من المناسب ان يتولى هو الرد، وهو الذي جرد من المال والولد، ولا ناصر له إلا الله سبحانه وتعالى.
وإن ذلك الاغترار كان من المشركين واليهود الذين كانوا يجاورون النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقد جابهوا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عندما دعاهم إلى الإسلام بعد واقعة بدر التي انتصر فيها المسلمون ؛فإنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في سوق بني قينقاع، وقال لهم :"يا معشر اليهود، احذروا مثل ما نزل بقريش، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم انى نبي مرسل". فقالوا : لا يغرنك انك لقيت أقواما أغمارا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أننا نحن الناس، وانك لم تلق مثلنا١.
وإذا كان الاغترار من الفريقين فإنه يصح ان نقول عن الخطاب للكفار جميعا الذين يغترون مثل هذا الغرور، وخصوصا ان النبي صلى الله عليه وسلم امر بأن يخاطب بهذا الذين كفروا، سواء أكانوا من هؤلاء ام كانوا من أولئك، وإن الكفر بالحقائق الواضحة البينة التي تدركها العقول السليمة يكون سببه دائما اغترار بأمر مادي مسيطر على النفس يجعل عليها غشاوة فلا يدرك العقل، ولا يؤمن القلب.
وهنا يرد بحث لغوي وهو : لماذا ادخل السين في قوله تعالى :﴿ ستغلبون ﴾ولم يقل تعالت كلماته : ستحشرون ؟.
والجواب عن ذلك : ان السين لتأكيد القول، والذي كان موضع شك عند هؤلاء هو كون النبي صلى الله عليه وسلم سيهز مهم في الدنيا، والحشر قد أكده سبحانه وتعالى في كثير من آي الكتاب. وفوق ذلك فإن السين مقدرة في تحشرون باعتبارها معطوفة على"ستغلبون"والعطف على نية تكرار العامل.
ولقد أشار سبحانه إلى ان الحشر سيكون تجميعا للكفار يساقون بعده على نار جهنم، وجهنم هي الجزء العميق في النار ؛ لأنه بعد الحشر يكون السوق على نار جهنم وتعدت كلمة يحشرون ب"إلى" ؛إذ قد تضمنت مع معنى التجمع معنى السوق والأخذ إلى نار جهنم. ثم أشار سبحانه إلى شدة العذاب بقوله تعالى :﴿ وبئس المهاد ﴾أي انها ليست مقاما محمودا بالنسبة لهم، بل هي مقام مذموم منهم يصح ان يقال فيه بالنسبة لهم﴿ بئس المهاد ﴾فجهنم ليست موضع ذم في ذاتها باعتبارها دار جزاء عادل، ولا يذم الجزاء العادل ولو كان قاسيا، ولكن هي موضع الذم ممن ينزل به لأنه سيتلقى قسوته. ومعنى المهاد : الفراش المبسوط السهل اللين المريح، فيقال : مهد الرجل الأمر بسطه وهيأه واعده، وعلى هذا فالتعبير فيه نوع من التهكم بهم، إذ هي لا تكون أمرا ممهدا.
﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين ﴾هذه الآية نزلت بعد غزوة بدر، فالفئتان المشار إليهما في الآية : ا لمسلمون، والمشركون. والمسلمون الفئة التي تقاتل في سبيل الله، أي في سبيل إعلاء كلمة وطلبا لمرضاته، والأخرى الكافرة : المشركون. والمعنى على هذا ان الله سبحانه إذ ينذر الكافرين بأنهم سيغلبون في الدنيا، ينذرهم بما قامت عليه البينات، وظهرت به الأمارات ؛وذلك لأن لهم آية أي أمارة ودلالة تدل على صدق ما يوجهه النبي صلى الله عليه وسلم من انهم سيغلبون، وتلك الآية الدالة على صدق ذلك التهديد والإنذار الشديد هي في حال الطائفتين اللتين التقتا في حرب قوية، إذ انتصرت الفئة التي تقاتل في سبيل الله وهي القلة، على الفئة الكافرة وهي الكثرة، ومع ان أولئك الذين يقاتلون في سبيل الله كانوا يعلمون ان أولئك أكثر عددا، وأكثر عدة.
ونريد ان نبحث هنا في بعض ألفاظ التي لها إشارات بيانية :
فقوله تعالى عن الفئة الكافرة :﴿ وأخرى كافرة ﴾فيه إشارة إلى بعد ما بين الفريقين من حيث الغاية من القتال ؛ففيه إشارة على تقدم الأولى معنويا، وتأخر الثانية ؛فالأولى تقاتل لا لعرض من أعراض الدنيا، ولا لغاية مادية مبتغاة، بل للحق، وفي سبيل الحق، ومرضاة للحق جل جلاله ؛والأخرى تكفر بكل هده المعنويات فتقاتل في الباطل وللباطل ولنصرة المادة، ولأعراض الدنيا ؛وفرق ما بين الفئتين عظيم ؛فإن كانت الأولى فقيرة في المال قليلة في العدد، فهي قوية بالمقصد والغاية، والثانية على نقيض ذلك تماما، فهي كثيرة المال وكثيرة العدد، ولكنها فقيرة في الإيمان.
وقوله تعالى :﴿ يرونهم رأي العين ﴾فيه بيان ان المؤمنين يرون المشركين﴿ مثليهم ﴾أي أكثر منهم مرتين، فالمثل معناه المساوى، والمثلان لأمر ضعفه، والمعنى على هذا ان المؤمنين الذين أعطاهم الله ذخيرة من الإيمان واليقين وطلب الحق يرون أعداءهم رأي العين لا بالوهم والخيال ضعفهم، ومع ذلك لم يجنبوا ولم يضعفوا. فالتعبير بقوله :﴿ رأي العين ﴾تأكيد الرؤية بأنها رؤية بصرية، لا رؤية تقديرية ؛فهم يعاينون معاينة لا لبس فيها ولا غموض انهم ضعفهم. فالذين يعتزون بالكثرة عليهم ان يعرفوا أي الفريقين غلب، والذين يعتزون بالمادة عليهم ان يعرفوا لمن كانت النصرة : أهي للمادة ام للروح والإيمان ؟ فالذين رأوا خصومهم مثليهم هم المؤمنون. وهذا ترجيح ابن جرير الطبري. وقد رجح الزمخشري ان الذين رأوا : هم المشركون، قد رأوا المؤمنين مثليهم. وإن الأول في نظرنا أولى ؛لأن المسلمين في غزوة بدر كانوا فعلا أقل عددا من المشركين، وأقل عدة، ولأن التعبير بقوله تعالى﴿ رأي العين ﴾يفيد ان رؤية هذه الكثرة كانت بصرية بالمعاينة، لا بالتقدير او التخيل او التوهم، ولا يمكن ان يتحقق ذلك في رؤية المشركين للمؤمنين ؛لأنه كان يكذب، ولذلك نختار ان الرؤية كانت رؤية المؤمنين للمشركين، ولكن قد ورد اعتراضان :
أحدهما : ان المشركين في بدر كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين تقريبا ولم يكونوا ضعفهم.
ثانيهما : أن الله سبحانه قد قال في غزوة بدر :﴿ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله امرا كان مفعولا... ٤٤ ﴾[ الأنفال ].
وإن رد الاعتراض الأول سهل ؛فإن العين لا تقدر تقديرا عدديا، ولكنها تقدر تقديرا تقريبا ؛فثلاثة الأمثال قد ترى رأي العين مثلين. وقد يقال إن المراد بكلمة مثلين ليس التثنية إنما المراد مجرد التكرار وذلك استعمال عربي، كما في قوله :﴿ ثم ارجع البصر كرتين... ٤ ﴾[ الملك ]، فالمراد تكرار النظر، لا التقدير بمرتين اثنتين ؛كذلك هنا المراد التكرار العددي لا مجرد مثلين اثنين، وإن ذلك شائع، فيقال مثلا : اقرأ هذا مرتين ولا تكتف بالنظرة الأولى، والمراد التكرار.
أما الاعتراض الثاني، فقد أجاب عنه ابن كثير في تفسيره المستمد من الأثر، بأنهم عندما أرادوا حسبانهم رأوهم ضعفهم او يزيدون، فلما ألقى في قلوب الذين آمنوا البأس والقوة، والتقوا بهم استهانوا بهم ؛ ولذا روى عن ابن مسعود انه قال في غزوة بدر :"نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا"وتلك حكمة الله العلي الخبير ؛رأوهم يزيدون عليهم أضعافا، وذلك هو الحس الواقع، ولكن عند اللقاء ضعف امامه فيكون الانهزام، وإن استهان مع الحرص كان النصر ؛ولذا سئل على رضي الله عنه : كيف كنت تصرع من يبارزك ؟فقال :"كنت أكون وهو على نفسه"أي ان عليا يقدم مستعليا بإيمانه على خصمه، وخصمه يحس بالخوف فتكون عليه قوتان ينتفع بهما على : قوة من نفسه، وقوة من نفس خصمه ولدها الخوف.
﴿ والله يؤيد بنصره من يشاء عن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾
اشتمل ذلك النص الكريم على حقيقة مقررة، ودعوة على التأمل والاستبصار لولى الأبصار، ليمتنع الناس عن الاغترار بالقوة والاعتزاز بغير الله تعالى. أما الحقيقة فهي ان الله ينصر من يشاء، فهو الذي سينصر ويخذل، وان من يعتمد على قوته وحده من غير اعتبار بما تجري به المقادير يخذله الله، وإن شان الذين يغترون بالقوة المادية دائما ويعتزون بها لا يعتمدون على الله تعالى، ولا يعملون حسابا للقدر الذي يجريه خالق الكون حسب مشيئته وتدبيره، وأنهم إذ ينسون هذا يأتيهم القدر من حيث لا يحتسبون، فينهزمون حيث يرتقبون النصر ؛وإذا كان النصر والخذلان بيد الله تعالى، فالله سبحانه ينصر من ينصره، ويخذل من يكفره، كما قال تعالى :﴿ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم٧ ﴾[ محمد ]وكما قال تعالى :﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز٤٠ ﴾ [ الحج ].
وأما الدعوة إلى الاعتبار فقد ذكرها رب البرية بقوله تعالى :﴿ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾أي إن ذلك الذي رأوه وشاهدوه وهو ان الفئة القليلة المؤمنة التي تقاتل في سبيل الله، غلبت الفئة الكثيرة الكافرة التي في سبيل الشيطان مع كثرتها وعدتها وأموالها فيه اعتبار بان يجعلوا منه سبيلا لإدراك المستقبل ؛فإن العبرة معناها في اللغة وفي عرف القرآن والناس ان يؤخذ من الأمور الواقعة المحسوسة دليل على ما يمكن ان يأتي المستقبل غير المحسوس والمكشوف، فكان الكفر مع كثرته، ان القوة المادية ليست كل شئ ؛وإن الذي يدرك ذلك هم أولوا الأبصار، أي أصحاب المدارك الصحيحة التي تفهم الأمور على وجهها، فالمراد من الأبصار ليس البصر الحسي بل البصر المعنوي العقلي ولكن الذين طمست عليهم المادة لا يدركون الأمور على وجهها، كما قال تعالى :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون١٤٩ ﴾[ الأعراف ].
وإنه لكي تخرج النفس من ربقة المادة تذكر الله دائما، كما قال تعالى :﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب٢٨ ﴾[ الرعد ]. اللهم ثبت قلوبنا على دينك والإيمان بنصرك وعدلك يا رب العالمين.
في الآيات السابقة بين سبحانه اغترار المشركين بأموالهم وأولادهم وكثرتهم، وكثرة النفر الذين يعاضدونهم، وأشار إلى اغترار آل فرعون بسلطانهم، وعاقبة أمرهم ؛وفي هذه الآية يبين سبحانه مصدر الغرور وأسباب الاغترار في هذه الدنيا، وما ركز في قلوب الناس من حب الشهوات التي يؤدي الاشتداد في طلبها إلى الانحراف في التفكير وإلى ان يطمس على البصيرة فلا تدرك الأمور على وجهها ؛ثم يبين سبحانه منزلة ما في هذه الدنيا من متع فانية بجوار ما في الآخرة من نعيم دائم. وإذا كان قد بين سبحانه وتعالى اولا مآل المغترين المعتزين بأعراض الدنيا، فقد بين في هذه الآيات مآل المتقين وأوصافهم، ومقدار فهمهم لزخارف هده الحياة وما فيها من شهوات مردية عند الانحراف في طلبها. ولقد ابتدأ سبحانه بما ركز في فطرة كل إنسان من حب وطلب لهذه الشهوات في مواضعها، فقال سبحانه :
﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ﴾هذه زينة الحياة الدنيا، وهذه متعها، وهي مصدر الخير، ومصدر الشر فيها، وبها تكون الرفعة، وبها يكون السقوط، وبها تكون العزة، وبها تكون الذلة ؛والإرادة الإنسانية هي التي تجعلها في احد الطريقين، فإن كانت الإرادة قوية حازمة جعلت من هذه الأمور مصدر خير وطريقا إلى الجنة، وغن تحكم الهوى وغلب الشيطان إلى النار ؛فهي طريق الجنة عند الأبرار، وطريق النار عند الأشرار، وكل امرئ وما تهوى نفسه.
وإن هذه الأمور محببة لنفس الإنسان، مجبول بفطرته على الميل إليها، والاستشراف لها وطلبها، فهي طلبة النفس الإنسانية ؛إذ هي من طبيعتها، وهي تتقاضاها طبيعة الإنسانية، ومن يحاول ان ينزع الميل إلى هذه الأشياء الستة من نفسه، فإنما يحاول اقتلاع الخاصة الإنسانية من كونه، فالطبيعة الإنسانية قد ركز فيها حب هذه الأمور، ولا تخرج هذه الأمور من النفس الإنسانية إلا إذا بعد الإنسان عن طبعه.
ولأن هذه الأمور في الفطرة الإنسانية عبر سبحانه وتعالى بالبناء للمجهول، فقال سبحانه :
﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء ﴾فأبهم سبحانه من زين حب هذه الأمور للإشارة إلى انها في الفطرة الإنسانية، نشأت في الإنسان منذ خلقه سبحانه وانزله إلى هذه الدنيا، فهو قد كونه سبحانه ومعه تلك الطبيعة الإنسانية، وغنه ينتهي الأمر إلى ان الذي زين هذا الحب هو الله سبحانه وتعالى، وقد يؤكد ذلك قراءة مجاهد( زين للناس )١بالبناء للفاعل، ويكون الفاعل ضميرا يعود على الله سبحانه وتعالى. ومعنى﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾ : أودعت فطرتهم حب هذه الشهوات، وأنهم لا يرون فيها نقصا ولا مخالفة للكمال والشهوات المراد بها موضع الشهوات، فهي من باب ذكر المصدر وإرادة اسم المفعول ؛فهذه الأمور الستة هي المشتهيات، وليست هي الشهوات، ولكن أطلق عليها اسم الشهوات للإشارة إلى شدة محبتها والحرص عليها. ولقد قال الزمخشري في ذلك :"جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشهاة محروصا على الاستمتاع بها"فالمراد انهم يحبون هذه الأشياء، ويرون محبتها امرا حسنا، ولا غضاضة فيه.
ويرى الزمخشري ان قوله تعالى :﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء ﴾ فيه إشارة على حساسة هذه الأمور، ويقول في ذلك :"والوجه انه يقصد تخسيسها فيسميها شهوات ؛لأن الشهوة مسترذلة مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية، وقال :﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء ﴾ثم جاء بالتفسير ليقرر في النفوس ان المزين لهم حبه ما هو غلا شهوات لا غير، ثم يفسره بهذه الأجناس فيكون أقوى لتخسيسها، وأدل على ذم من يستعظمها ويتهالك عليها ويرجح طلبها على طلب ما عند الله".
ولسنا نرى رأي الزمخشري في ان هذه خسيسة في ذاتها، او يقصد إلى تخسيسها في ذاتها، وغنما نرى انها فطرة الله يبينها الله سبحانه وتعالى، ويشير على انها مطلوبة من كل إنسان، وان المقتصد يجمل في الطلب ويجعله للخير، وغير المقتصد يسرف فيفحش، فيكون الشر. وزينة الله التي خلقها ليست حراما، وهي من قبيل هده المشتهيات، ؟فيقول تعالى :﴿ قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق... ٣٢ ﴾[ الأعراف ]. وقال تعالى :﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا غنه لا يحب المسرفين٣١[ الأعراف ] وقال تعالى :{ وانزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم... ٢٢ ﴾[ البقرة ]، وقال صلى الله عليه وسلم في الخيل :" الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة"٢.
وقال في الحرث وهو الزرع :"ما من مسلم يغرس غرسا او يزرع زرعا فيأكل منه إنسان او دابة غلا كان له به صدقة"٣. وقال صلى الله عليه وسلم :"حبب إلي من دنياكم : النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"٤. وقال صلى الله عليه وسلم :"ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء ؟المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته"٥. وقال تعالى :﴿ ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة عن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون٢١ ﴾[ الروم ].
وبهذا يتبين ان هذه العيان ليست خسيسة في ذاتها، ولا يقصد تخسيسها، وإن كانت هي دون نعيم الحرة ومتعها.
وقوله تعالى :﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾فيه إشارة إلى ان الناس يحبون هذه الشهوات ويستحسنون هذه المحبة ؛وذلك لن الإنسان قد يحب شيئا ولكنه في محبته له غير راض عن نفسه، كأولئك الذين يميلون إلى بعض الآفات الاجتماعية، كالخمر، والميسر ؛فإنهم مع ميلهم إليها يستنكرون حالهم، ولا يحمدون ما يفعلون، إلا إذا كانوا قد طمس الله على بصيرتهم، فعموا وضلوا، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا، ولكن الناس جميعا مع محبتهم لهذه الأمور يستحسنون هذه المحبة، ويرضون عن انفسهم في ميلهم إليها ؛وإن ذلك الاستحسان من عامة الناس يدل على ان محبة هذه الأمور من فطرة الإنسان ومن طبيعته ؛وغن هذا الميل لا يدل على خسة في الطبع، ولكنه يدل على انها في الفطرة.
وإن محبة هذه الأشياء، وهي رمز للطبيعة الإنسانية ليست بدرجة واحدة، بل تختلف بمقدار قوة نزوع النفس إليها، وتختلف بمقدار ما تشبع به الحاجات والغرائز الإنسانية.
وقد يقول قائل : وكيف يكون حب الذهب والفضة فطريا، مع انه ليس من الفطرة ؟والجواب عن ذلك : ان الذهب والفضة يشبعان الحاجات الإنسانية، فهما من الوسائل للوصول إلى النساء وغيرهن، وهما في خدمة تلك الفطرة، وأحبهما الناس لنهما يوصلان دائما إليها، ثم صار حبهما لذاتهما، وأشبه ان يكون من الفطرة.
ولنذكر هذه الأمور الستة، وهي مرتبة مراتب بترتيب القرآن الكريم :
المرتبة الأولى : النساء، وحبهن فطري في الطبيعة الإنسانية مستكن فيها، لا يختلف فيه الناس إلا من إيفت٦ مشاعره وفسدت طباعه، وهن زهرة هذا الوجود الإنساني، ولقد سماهم القرآن كذلك فقال تعالى :﴿ ولا تمدن عينيك على ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا... ١٣١ ﴾[ طه ].
وقال تعالى في العلاقة بين الرجل والمرأة :﴿ هن لباس لكم وانتم لباس لهن... ١٨٧ ﴾[ البقرة ]. وإن الرجل في حب النساء قد يستهين بكل شئ. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم :"ما تركت بعدي فتنة اضر على الرجال من النساء"٧. وقد يقول قائل إن المراة من المكلفين ومن الناس فلماذا ذكر حب الرجال للنساء، ولم يذكر حب النساء للرجال، وكلاهما فطري في الطبع الإنساني ؟وقد أجاب عن ذلك بعض المفسرين بأن طلب الرجل للمرأة اشد وأقوى واحد، وكثير من الرجال من يفتتنون بالنساء، وقليل من النساء من تظهر فتنتهن بالرجال، والحس يؤيد طلب الرجل للمرأة، فهو يبذل النفس والنفيس في طلبها، ولا يعرف من النساء إلا قليلا من يبذل ذلك.
والرأي عندي ان ذكر حب الرجال للنساء فيه إشارة إلى علاقة المحبة المتبادلة بين الفريقين ؛فهي إشارة إلى تلك العلاقة الفطرية من الجانبين، فذكر محبة الرجل للمرأة فيه تنبيه إلى محبة المراة للرجل ؛وما يستفاد بالإشارة يستغنى فيه عن العبارة، واكتفى بذكر حب الرجل لن حبه الأوضح، ولأنه الأشد، ولأنه الذي يؤدي في جملة أحواله إلى الفتنة، ولأن المرأة مجيبة في هذا الباب لا طالبة، وإن سبقت هي بالمحبة حاولت ان تخلق الطلب في نفس من تحب.
وحب النساء ليس شرا ؛لأن الله جعل المرأة رحمة للرجل، إنما يكون الشر في الإسراف في الطلب حتى يكون النساء خلب كبده، وطلب الحرام، وفي طلب الجمال من غير ملاحظة الدين ؛فلقد قال صلى الله عليه وسلم :"إياكم وخضراء الدمن"٨، وقال صلى الله عليه وسلم :"تنكح المراة لمالها وحسبها وجمالها ودينها، عليك بذات الدين تربت يداك"٩.
ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"من أراد ان يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر"١٠.
المرتبة الثانية : حب البنين، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء ؛لأن البنين ثمرة الحب الأول ؛ وفيه إشارة إلى التوجيه الإسلامي، وهو ان يكون حب النساء ذريعة على الإنجاب والنسل لا لذاته، كما قال صلى الله عليه وسلم :"تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم المم يوم القيامة"١١. وهل المراد من البنين الذكور فقط ؟الظاهر ذلك، ويزكي هذا قوله تعالى :﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا... ٤٦ ﴾[ الكهف ]وما هو واقع بين الناس في الماضي والحاضر من انهم يطلبون الذكر دون الأنثى، وإنهم يرون في كثرة البنين نصرة وفخارا، وفي البنت غير ذلك ؛ولكن لو أننا قلنا إن المراد الأولاد ذكورا كانوا او إناثا لكان في النص القرآني متسع ؛لأن الابن يطلق ويراد الذكر والأنثى على سبيل المجاز، وإن محبة الولد بعد ولادته امر فطري لا فرق بين المحبة الفطرية لأولاده جميعا، والعرب انفسهم كانوا يحبون بناتهم وإن كانوا لا يعتزون إلا بالبنين. وإني أميل إلى هذا ؛ فالأولاد جميعا ثمرات القلوب وقرة الأعين ؛ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إنهم لثمرة القلوب وقرة الأعين، وغنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة".
والمرتبة الثالثة : حب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. روى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال :"القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية"١٢ وإن كانت الأوقية التي نعرفها هي الأوقية التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم فالقنطار الذي نعرفه في مصر هو القنطار الذي ذكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ؛لأن القنطار( ١٢٠٠ )أوقية لأنه مائة رطل والرطل( ١٢ )أوقية. وقد قال الزجاج في أصل معنى القنطار : إنه مأخوذ من عقد الشئ وإحكامه، تقول العرب : قنطرت الشئ إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها، والقنطرة المعقود، فكأن القنطار شئ محكم يسع ذلك المال، أو أنه جمع قدر كبير من المال متراص الأجزاء محكم الربط. والمقنطرة معناها مضاعفة مقادير القنطار، فمعنى قناطير مقنطرة عدد كثير من القناطير متضاعف، كقولك
٢ متفق عليه رواه البخاري: الجهاد والسير-الخيل معقود في نواصيها الخير(٢٦٣٨)، ومسلم: الإمارة(٣٤٨٠)..
٣ رواه بهذا اللفظ احمد في مسند المكثرين(١٣٠٦٥)]، والحديث متفق عليه فقد رواه البخاري: المزارعة-فضل الغرس(٢١٥٢)، ومسلم: المساقاة(٢٩٠٤)..
٤ رواه النسائي: عشرة النساء-حب النساء(٣٨٧٨)، أحمد: مسند المكثرين(١٨٤٥)..
٥ رواه أبو داود: الزكاة-حقوق المال(١٤١٧)..
٦ أي أصابتها الآفة..
٧ متفق عليه؛رواه البخاري: النكاح-ما يتقى من شؤم المراة(٤٧٠٦)، ومسلم: الذكر والدعاء(٣٩٢٣)عن أسامة بن زيد رضي الله عنه..
٨ سبق تخريجه. وراجع الإكمال من الجامع الصغير، والكامل لابن عدي..
٩ متفق على صحته وقد رواه البخاري: النكاح-الأكفاء في الدين(٤٧٠٠)، ومسلم: الرضاع-استحباب نكاح ذات الدين(٢٦٦١)..
١٠ رواه ابن ماجة: النكاح-تزويج الحرائر(١٨٥٢)عن أنس بن مالك رضي الله عنه..
١١ فتح الباري في شرحه حديث: من استطاع منكم الباءة (٤٦٧٧)..
١٢ أخرجه ابن ماجة: الأدب-الوالد والإحسان إلى البنات، واحمد: مسند الشاميين(١٦٩٠٤)..
وبعد ان كان الاستفهام الذي سيق للتنبيه كان الجواب هو :
﴿ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله ﴾هذه متع الآخرة، وهي أعلى مقاما، وأعظم مكانا من نعيم الدنيا، وهي أربعة :
أولها :﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾، وفي هذه الجنات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وثانيها : الخلود، وهو نعمة وحده، فكل ما في الدنيا عرض زائل يعروه الفناء، وما في الآخرة دائم البقاء.
وثالثها :﴿ وأزواج مطهرة ﴾لا دنس فيها، ولا ما يشينهن او يوجد الريب، فلا معكر من شر او ما يشبهه.
و رابعها : وهو أعظمها بل أعظم ما في الوجود، وهو﴿ ورضوان من الله ﴾أي رضا عظيم من خالق الخلق، ومبدع الكون ومنشئ الوجود، فالرضوان مصدر كالرضا، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم ؛لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولأن التنكير قصد به التفخيم والتعظيم، ولأنه إبهامه ثم بيان مصدره فيه إشارة إلى شرف هذا الرضا بإضافة لأعظم نسبة إذ هو منسوب إذ هو منسوب إلى الله جل جلاله.
﴿ والله بصير بالعباد ﴾أي أن الله سبحانه جل جلاله عليم بأحوال العباد علم من يبصر ويرى، فهو يعلم دقائق أحوالهم وخفى أمورهم، وخلجات قلوبهم. وصدر سبحانه القول بلفظ الجلالة لتربية المهابة في القلوب، وإشعارها بعظمته. وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما بخفى أحوالهم، فإنه سيجزى المحسن إحسانا والمسئ عقابا ؛فهذه الجملة السامية فيها وعد ووعيد، وفيها إشعار برقابة العلي القدير، مما يجعل المؤمن التقي يشعر دائما بأن الله يراه، وغن لم يكن هو يراه، ويتحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم :"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"١.
هذه خمسة أوصاف للمؤمنين الصادقي الإيمان، والمذعنين حق الإذعان :
أولها : انهم صابون، والصبر صفة الإيمان حقا وصدقا، وقد حث عليه القرآن في أكثر من سبعين موضعا، والصبر له شعب كثيرة، منها وهي أدناها الصبر عند الشديدة، وتحملها من غير أنين ولا شكوى، وهذا هو الصبر الجميل، فإن ضج الصابر وشكا فصبره غير جميل، ومنها الصبر بضبط النفس عن الشهوات وقدعها عن الأهواء المردية، وجعل العقل متحكما دائما ؛وهذه مرتبة عالية في الصبر. ومنها الصبر على تحمل النعم ؛فإن النعم تحتاج إلى صبر لكيلا يطغى الإنسان بسبب النعمة فتؤدي إلى الكفر بدل الشكر. ولقد قال تعالى :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه غنه ليئوس كفور٩ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني غنه لفرح فخور ١٠إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير١١ ﴾[ هود ].
والوصف الثاني : أنهم صادقون، والصدق من أكمل الصفات الإنسانية، وهو شعب أيضا فمنها الإخبار بالحق ؛ومنها ان يصدق نفسه، فلا يخدعها، ويزين لها سوء العمال، ويغالط قلبه وحسه ؛ ومنها ان يتعرف عيوب نفسه بالحق ويتكشفها ويتعرفها ولا يسترها عن نفسه، لتكون بين يديه ماثلة دائما فيستيقظ ضميره، وهذا هو طريق التهذيب الروحي الحق.
والوصف الثالث : انهم قانتون، والقانت هو الطائع المديم للطاعة غير متململ منها، ولا متبرم بها، ولا خارج على حدودها، فالقنوت يصور الإذعان المطلق.
والوصف الرابع : أنهم المنفقون، أي انهم ينفقون المال في مصارفه سواء أكانت عامة ام كانت خاصة، وقد بينا مناهج الإنفاق الديني فيما أسلفنا.
والوصف الخامس : انهم مستغفرون بالأسحار، والأسحار جمع سحر، وهو آخر الليل، وهذا الوقت وقت التهجد، وتذكر ما كان من عمل، واستقبال ما يكون من أعمال، فالاستغفار فيه باستشعار الضراعة وتذكر الله، والشعور بمراقبته، يجعل المؤمن يستقبل أعمال الحياة بقلب سليم نقي كما هو، فلا يكون فيه إلا خير، وليس الاستغفار هو ترداد كلمة أستغفر، إنما هو الشعور بالخضوع، ومراقبة الله والضراعة إليه سبحانه، وليس كذلك أكثر المستغفرين ؛ولذا قالت رابعة العدوية :"استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير". ولقد روى البخاري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"سيد الاستغفار أن تقول : اللهم انت ربي لا إله إلا انت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا انت. ومن قالها بالنهار موقنا فمات من يومه قبل ان يمسي فهو من اهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات من ليلته قبل أن يصبح فهو من اهل الجنة"١.
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أوصاف المؤمنين في تبتلهم، وصدق إيمانهم، وإذعان نفوسهم، وصبرهم وضبط شهواتهم ؛وهنا يبين حقيقة الإيمان والإسلام وان الإسلام شريعة النبيين أجمعين، وهو دين الله المتين ؛وابتدأ سبحانه بحقيقة الإيمان فقال :
﴿ شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ﴾الشهادة : الحضور، إما بالبصر، وغما بالبصيرة ؛ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ ليشهدوا منافع لهم... ٢٨ ﴾[ الحج ]وقوله تعالى :﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين٢ ﴾[ النور ] ثم أطلقت الشهادة على الإخبار المبني على المشاهدة والمعاينة، ثم أطلقت بمعنى العلم، وبمعنى الحكم ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وشهد شاهد من اهلها... ٢٦ ﴾[ يوسف ].
وقوله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم ﴾للعلماء في تفسير الشهادة فيه طريقان :
أحدهما : ان الشهادة الإخبار، وقد اخبر الله سبحانه وتعالى عن وحدانيته بالآيات القرآنية التي انزلها على نبيه في القرآن الكريم مثل قوله تعالى :﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم... ٥٥ ﴾[ البقرة ]وقوله تعالى :﴿ قل هو الله احد١الله الصمد٢ لم يلد ولم يولد٣ولم يكن له كفؤا احد٤ ﴾[ الإخلاص[ واخبر الله سبحانه وتعالى عن وحدانيته أيضا بالآيات الكونية التي وجه النظار إليها من خلق السموات والأرض وما بينهما، ومن تسخير الشمس والقمر، ومن إيلاج الليل في النهار. واخبر سبحانه عن وحدانيته بالأدلة القاطعة التي أشار إليها في كتابه العزيز، من مثل قوله تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون٢٢ ﴾[ الأنبياء ].
وإخبار الملائكة عن وحدانيته سبحانه، بعبادتهم له سبحانه وطاعتهم المستمرة﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون٦ ﴾[ التحريم ]ونزولهم على الأنبياء بأخبار الوحدانية.
وشهادة أولى العلم من الناس هي إخبارهم أيضا بما يستنبطونه من الأدلة العلمية الكونية الدالة على وحدانيته سبحانه، وتصديقهم لما جاء به الرسل، ونطقهم بما آمنوا به ودعوتهم إليه ؛وهذه الشهادة مختصة بأهل العلم الذين قد اخلصوا في طلب الحقيقة ؛فقد قال تعالى عن الجهال :﴿ ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق انفسهم... ٥١ ﴾[ الكهف ].
وفي إجماع هذه الأخبار-إخبار خالق الكون، وإخبار الملائكة الأطهار، وبنى آدم الأبرار-دليل على انه معنى مقرر لا مجال لأن يرتاب فيه عاقل.
المعنى الثاني للشهادة في قوله تعالى﴿ شهد الله انه لا إله إلا هو ﴾هو العلم. والمعنى : علم الله في علمه الأزلي، وعلم الملائكة بفطرهم وبما أنشاهم عليه رب العالمين، وعلم اهل العلم من الناس باستنباطهم وتقصيهم لأنواع الاستدلال المختلفة انه لا إله غلا هو. وفي جمع العلم على هذا النحو إشارة على ان أنواع العلم الثلاثة قد اتفقت على الوحدانية. فعلم الله الأزلي، قد تلاقى مع علم الملائكة النوراني وعلم الناس الاستدلالي على ان الله واحد، فكيف يختلف الناس فيه ؟ !تعالى الله سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
وقوله تعالى :﴿ قائما بالقسط ﴾معناه انه هو الواحد الأحد، الذي يسيطر على العالم بالقسط والعدل والميزان، وكل شئ في هذا الكون بمقدار، يسير على نظام محكم بقدرته سبحانه، لا يتعدى أي جزء من أجزاء ذلك الكون الطور الذي أعده الله سبحانه له، كما قال سبحانه :﴿ والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم٣٨ ﴾[ يس ]وهذا التعبير السامي﴿ قائما بالقسط ﴾فيه مع المعنى الذي ذكرناه إشارة إلى مقام الربوبية، وهو انه وحده المستحق للعبادة، ما دام هو وحده القائم على كل شئ وفيه إشارة على مقام العبودية، وهو انه لا يعبد سواه، فلا قوة لحد او لشئ بجوار قدرة الله ؛فهو سبحانه الديان، والمجازى للخلق على ما يعملون، بمقتضى قيامه على هذا الكون بالقسط، فإنه بحكم القسط لا يستوي الذين يعملون الخير، والذين يعملون الشر ؛ولهذا نقول : إن في هذه الجملة الكريمة ﴿ قائما بالقسط ﴾إشارة أيضا إلى اليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب.
وكرر سبحانه تقرير الوحدانية فقال :
﴿ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴾وفي هذا التكرار إشارات إلى معان جديدة.
منها : الإشارة إلى انه سبحانه وتعالى لا يترك الناس سدى، فهو بمقتضى انفراده بالربوبية والألوهية والعبودية، وقد شرع الشرائع بمقتضى حكمته، وهو يحميها بعزته وسلطانه ؛ولذا وصف سبحانه بأنه﴿ العزيز الحكيم ﴾أي الذي يدير هذا الكون وأمور الناس، ويشرع لهم الشرائع ويحميها ؛ لأنه العزيز الحكيم.
ثم في هذا النص أيضا إشارة إلى كمال سلطانه وانفراده وحده بهذا السلطان.
وفيه أيضا رد على الذين يتخذون لله شفعاء يحسبون ان لهم سلطانا، وما لحد عند رب العالمين من سلطان، فكل خلقه بالنسبة لقدرته وعلمه وإرادته سواء.
وقبل ان نترك القول في هذه الآية الكريمة لا بد من ان نتكلم كلمة موجزة في أولى العلم ؛فمن هم أولو العلم الذين قرن اسمهم باسم الملائكة بل بلفظ الجلالة، ووضعت شهادتهم مع شهادته سبحانه، وشهادة ملائكته الأطهار ؟هذا سؤال يتردد في نفس كل قارئ يتلو كتاب الله العظيم. ونقول في الإجابة عنه :
إنهم الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في قوله :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء... ٢٨ ﴾[ فاطر ]وهم الذين وصفهم الله تعالى بالتفويض والإخلاص في قوله :﴿ والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب٧ ﴾[ آل عمران ]ولذا نرى ان اول وصف من أوصافهم الإخلاص في طلب الحقيقة، والصدق في القول والعمل، فلا يقال لهم مثلا :﴿ لم تقولون ما لا تفعلون٢ كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون٣ ﴾[ الصف ] وقد أشار سبحانه إلى وصف آخر من أوصافهم فقال :﴿ وأولوا العلم ﴾أي الذين صاحبوا العلم ولزموه، واتجهوا إلى المعاني الروحية، ولم يخلطوا بالمعاني العلمية الرغائب المادية، ولم يجعلوا العلم مطية للأهواء والمآرب المادية ؛فهاتان صفتان لازمتان او هما خاصتان من خواص العلماء، وهما الإخلاص، والانصراف التام لطلب الحقائق العلمية بألا يجعل العلم طريقا للمنافع الذاتية الآثمة. ولقد قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في العلماء الذين كانت فيهم هاتان الخاصتان :"العلماء أمناء الله على خلقه"١ وقال فيهم :"العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم اهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا"٢.
هؤلاء هم العلماء الذين قرنت شهادتهم بشهادة الله والملائكة، فإن لم يكونوا كذلك فإنه يخشى أن يكونوا ممن خوف أمته منهم في مثل ما روى عنه عليه الصلاة والسلام انه قال :"أخوف ما اخاف على أمتي رجل منافق، عليم اللسان غير حكيم القلب، يغيرهم بفصاحته"٣.
٢ راجع تلخيص السنن للمنذري، وقد اخرجه عن ابي الدرداء الترمذي: العلم-ماجاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٠٦) واحمد (٢٠٧٢٣)والدارمي: المقدمة(٣٤٦). سنن أبي داود: العلم-الحث على طلب العلم..
٣ رواه احمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة(١٣٧)..
وإضافة الدين إلى الله تعالى بقوله سبحانه :﴿ عند الله ﴾واعتبار الإسلام وحده دين الله، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين، فيه بيان فضل الإسلام بالمعنى الذي ذكرناه ؛لأنه له ذلك الشرف الإضافي، وهو ان الله لا يقبل غيره، فوق انه الحق الخالص من شوائب الشرك.
والإضافة فوق ذلك تفيد انه الدين الذي نزل على كل النبيين، وانه الأصل في كل شرائع السماء ؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا غليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى... ١٣ ﴾[ الشورى ] فهو دين الله، وقد صرح سبحانه بأنه دين أبي الخليقة الثاني نوح كما يعبر بعض القصصيين، ودين آخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا فدين جميع النبيين دين واحد، وهو دين الله، وهو دين الإسلام.
﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾وعلى هذا كانت شريعة الله واحدة، وغن اختلفت الديانات السماوية التي لم يجر فيها التحريف والتبديل، فإن ذلك لا يكون في الأصل، بل يكون في الفرع، ولا يكون في الكليات، بل يكون في الجزئيات ولكن لوحظ مع ذلك ان كثيرين من اهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم، فقالت اليهود ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ، واختلفت كل طائفة فيما بينهم على فرق، كل واحدة تحسب انها اختصت بالخلاص وحدها، وتكفر الأخرى او تشلحها من حظيرة الإيمان المقدسة ؛ثم اختلفوا مجتمعين على المسلمين، ونابذوهم العداوة، وقد كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فكانت هذه المنابذة عن بينة، ولم تكن عن جهل، بل غنهم يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم، ولم يؤمن بالحق كثيرون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ولذا قال الله سبحانه وتعالى فيهم :﴿ ولو انهم أقاموا التوراة والإنجيل وما انزل غليهم من ربهم لكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعلمون٦٦ ﴾[ المائدة ] وقد بين سبحانه ان سبب ذلك الاختلاف هو البغي والظلم ؛ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾فالسبب هو البغي فيما بينهم ؛لأنهم قد بغى بعضهم على بعض بالباطل، وتبادلوا ذلك البغي، كل يبغي على غيره، وإذا تبادل قوم الباطل ضعف في نفوسهم الإيمان، فإن شدة الخصومة تورث الريب، ومع الريب يكون النفاق، والمنافق لا يؤمن بشئ ولقد قال الإمام جعفر الصادق :"إياكم والخصومة في الدين، فإنها تحدث الريب وتورث النفاق"فتبادل البغي فيما بينهم كما قال سبحانه وتعالى :﴿ بغيا بينهم ﴾كان سببا في عدم إيمانهم بالحق، بل في عدم إيمانهم بشئ وغن كانوا يعلمونه ويفهمونه، فليس مصدر الإيمان العلم فقط، بل مصدر الإيمان علم وإخلاص في طلب الحق، وإذعان له إذا بدا نوره.
ولماذا قدم سبحانه وتعالى كلمة"﴿ إلا من بعد ما جاءهم ﴾إذ عن السياق هكذا : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم، فقدم حينئذ المستثنى على بعض المستثنى منه ؟ والجواب عن ذلك : ان هذا البيان موضع التوبيخ والاستنكار ؛إذ إن ذلك الاختلاف ما كان عن تعذر العلم بالحقائق، ولكنه كان مع ان العلم بها قد جاءهم، وكان في قدرتهم ان يصلوا إلى الحق في المر من غير اختلاف ولا نزاع ولا إثارة للشك، وكيف يختلفون مع ان العلم قد جاءهم، وكان بين أيديهم ان يعرفوا السائغ منه والحق ان العلم كالنور لا ينتفع فيه غلا الذين أوتوا بصرا يميزون به وينظرون، وكذلك لا بد لإدراك العلم من بصيرة نافذة، وقلب يخضع للحق ؛اما إذا كانت البصيرة غير نافذة، والقلب قد ران الله عليه، فإنه لا يدرك، وإن كسب السيئات يضع غلافا على القلب يمنعه من إدراك الحق ؛ولذا قال سبحانه وتعالى في شأن الضالين :﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون١٤ ﴾[ المطففين ]فأسباب العلم لا تكفي للوصول إلى الحقائق، بل لابد معها من قلب منير، والذين أوتوا الكتاب لم يكن أكثرهم على ذلك من الإخلاص في طلب الحقيقة والإذعان لحكمها ؛ ذلك لن الشهوات تحكمت في قلوبهم واستولت على نفوسهم، فجعلتهم يبتغون الباطل، ويطلبونه طلبا شديدا ؛ولهذا جعل الاختلاف مع وجود العلم أساسه البغي فيما بينهم، غذ إنهم يبتغون بالأمر السيطرة والسلطان واحتيازا للسيطرة الدينية ؛ولذا قال :﴿ بغيا بينهم ﴾أي ظلما وتحاسدا، وتغالبا بالباطل بينهم.
وهؤلاء جاءهم العلم ولم يلازموه ولم يصاحبوه ولم يذعنوا لحكمه ؛ولذا لم يقل سبحانه"أوتوا العلم"بل قال :﴿ جاءهم العلم ﴾إذ قد جاءهم ولم يردوا موارده العذبة، والعلم كالمطر الغزير لا تستفيد منه الأرض الطيبة، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا النفوس الطيبة، فأولئك الظالمون جاءهم العلم، ولم يكونوا علماء يخشون الله، ولم يكونوا أولي العلم الذين يشهدون بوحدانية الله.
﴿ ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ﴾آيات الله تشمل آياته الكونية الدالة على وحدانيته، وآياته المنزلة الداعية إلى شريعته، والمبينة لها. والمعنى : من يكفر بآيات الله جاحدا غير مذعن لحكمها طامسا لداعي الفطرة في قلبه فإن الله محاسبه ومعاقبه، والله سريع الحساب. فقوله تعالى :﴿ فإن الله سريع الحساب ﴾قائم مقام الجواب المحذوف، والسياق هكذا : ومن يكفر بالله فإن الله معاقبه ومحاسبه، والله سريع الحساب، وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب، وعلى العلم الكامل للمحاسب وهو الله سبحانه وتعالى، فهو لا يحتاج إلى فحص وبحث، وتدل على قيام البينات القاطعة، إذ تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم بما اقترفوا، بل تشهد عليهم قلوبهم بما جحدوا، وختم الكلام عن اهل الكتاب بهذه العبارة السامية للإشارة على ان اختلافهم لا محالة راجع إلى كفرهم، وان الكفر له عقاب بعد حساب سريع مؤكد، ونتيجة عذاب أليم، وأسباب العلم حجة عليهم، وليست حجة لهم. اللهم لا تجعلنا ممن أضله الله على علم، ووفقنا للهداية، وانطق ألسنتنا بالحق، واهدنا سواء الصراط.
٢ رواه ابن ماجة: المقدمة-الإيمان(٦٤)عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه..
ذكر سبحانه اختلاف اهل الكتاب فيما بينهم، واختلافهم على أنبيائهم بعد ان جاءتهم البينات من ربهم ؛وفي هذه الآية يبين سبحانه محاجتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وأشار إلى انها محاجة ليس أساسها الإذعان للحق إذا تبين، بل أساسها محاولة طمس الحق، واللجاجة بالباطل ؛وذلك لن المجادلة قسمان : قسم يراد به طلب الحق وتمحيصه، ودراسة الأمر من كل نواحيه، وتبادل الأدلة ليستبين من بينها نور الحق، وهذا القسم محمود لا شك فيه. والقسم الثاني لا يقصد به طلب الحق، بل يقصد به الدفاع عن فكرته من غير نظر إلى كونها حقا او باطلا، فهو يجادل ليغالب خصمه، لا ليهتدي إلى أقوم المناهج ؛ومن ذلك النوع الأخير مجادلة أولئك الذين اختلفوا من اهل الكتاب، ومجادلة أولئك الذين جحدوا بالآيات من المشركين الذين قال الله سبحانه وتعالى في أمثالهم :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم... ١٤ ﴾[ النمل ] وإذا كان جدل هؤلاء من ذلك النوع الذي لا يقصد به رفع منار الحق او طلب الحق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه طلب إليهم ان يخلصوا في طلب الحقيقة كما اخلص هو ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم ﴾ المحاجة : ان يتبادل المتجادلان ما يعتقده كل فريق انه حجة بأن يقدم كل واحد حجته، ويطلب من الآخر ان يرد عليها او يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعمه الحق الذي لا شك فيه. والمعنى : فغن حاجك اهل الكتاب، ومن لف لفهم، وسلك مثل طريقهم، فلا تسر معهم في لجاجتهم ؛فهم لا يطلبون الحق مخلصين في طلبه لا يبغون بدله، ولا يريدون غيره ؛بل إنهم قد شاهت عقولهم، وتأشبت بالغرض المردى نفوسهم وكلامهم هو التمويه الكاذب ولذلك لا تجارهم في هذه اللجاجة، واطلب تصفية قلوبهم من الغرض والهوى، وابدأ بنفسك فبين سلامة مقصدك ونيتك :﴿ فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ﴾. والوجه المراد به الذات ؛لأنه هو الذي تكون به المواجهة، وهو مجمع محاسن الجسم ؛فالتعبير به عن الجسم تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل. ومعنى أسلمت وجهي : أخلصت وسلمت نفسي وتفكيري لله سبحانه وتعالى، فلا أفكر إلا في الله، ولا أطلب الأمر إلا لله، ولا أقصد في طلبي إلا وجه الله. ومعنى قوله :﴿ ومن اتبعن ﴾أي قد أسلم الذين اتبعوني وارتضوا الإسلام دينا ؛ فقد اخلصوا في طلب الحق واسلموا وجوههم لله تعالى. وإن إسلام الوجه لله تعالى وحده فيه إشارة إلى التوحيد، وان محمدا وأتباعه لا يعبدون إلا الله، وفوق ذلك لا يطلبون أي امر من الأمور إلا لوجه الله تعالى ؛وتكون هذه الجملة السامية كقوله تعالى :﴿ يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضكم بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون٦٤ ﴾[ آل عمران ].
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قد أخلصوا لله ذلك الإخلاص في العبادة فإن الأساس الذي تبنى عليه المجادلة بالتي هي أحسن، أن يطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم ان يكونوا على مثل تلك الحال من الإخلاص في طلب الحقيقة ؛ولذا امر الله نبيه بأن يطلب إليهم ذلك، فقال سبحانه :﴿ وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم ﴾.
أهل الكتاب : هم اليهود والنصارى ؛لأن أسلافهم قد أوتوا الكتاب أي أعطوه كاملا وأخذوه كاملا، وإن كانوا مع ذلك قد نسوا حظا مما ذكروا به. والأميون هم المشركون، وجاء التعبير عن المشركين بالأميين ؛لأنهم أولا تغلب فيهم الأمية ؛إذ قليل منهم من يقرأ ويكتب، وليست لهم علوم ؛ ولذا كان يقول العرب عن أنفسهم ؛نحن امة أمية، ولأنهم لم يعرف لهم كتاب يرجعون إليه في أحكام دينهم. وفوق ذلك هذا التعبير فيه توبيخ لليهود والنصارى ؛إذ إنهم بعدم تسليمهم للحق وإذعانهم له تساووا مع أولئك الذين كان يسميهم اليهود أميين ولا يحترمونهم، ويقولون عنهم :﴿ ليس علينا في الأميين سبيل... ٧٥ ﴾[ آل عمران ]. ومعنى النص الكريم : قل لأهل الكتاب والمشركين : إذا كنت قد أخلصت في طلب الحق فهل أخلصتم ؟
والاستفهام في قوله تعالى :﴿ أسلمتم ﴾للحض على ان يسلموا وجوههم لله ويخلصوا في طلب الحقيقة مجردين أنفسهم من كل هوى وغرض وتعصب، بدل أن يحاولوا الإلحان بالحجة والمغالبة بالقول، وان يستمروا على اللجاجة في الجدل. وبهذا يتضمن الاستفهام معنى جليلا وهو ان يبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن العبرة في طلب الحقائق ليس بالأدلة تصطنع، والحجج تزور، وإنما العبرة بإسلام الوجه والإخلاص في طلب الحقيقة، وقد قال في ذلك الزمخشري :"وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة، ولم تبق من طرق الاستدلال طريقا إلا سلكته : هل فهمتها ؟لا أم لك ! "ويكون الاستفهام حينئذ عند الزمخشري من قبيل التوبيخ على عدم الإخلاص.
وعندي ان الاستفهام بمعنى الحض، والمعاني على أي حال متقاربة. ولقد بين سبحانه نتيجة الإخلاص إن اخلصوا فقال :﴿ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ﴾والمعنى : إن أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا دينهم لله، ولم يلاحظوا في طلب الحقيقة عصبية مذهبية او جنسية، فقد اهتدوا أي سلكوا طريق الحق، ومن سار على الدرب وصل. وقد فسرها بعض العلماء بمعنى يهتدون، وعبر بالماضي لتحقق الهداية تحققا كاملا. وعندي ان نفس ذلك الإخلاص، وهو إسلام الوجه لله تعالى هو الهداية الحق، فمن أسلم وجهه لله تعالى مخلصا في طلب الحق، فقد اهتدى حقا وصدقا ؛إذ إن ذلك الإخلاص هو روح الدين وغايته، قمن وصل إليه فإنه لا محالة سيتبع الدين الذي يوصل إليه وهو الإسلام.
هذا إن اخلصوا، وإن تولوا أي اعرضوا عن هذا الإخلاص، وانصرفوا إلى المثارات البيانية يثيرونها ليطفئوا نور الحق، فما من حجة تهديهم، وما من آية ترشدهم، وقد أديت ما وجب عليك وهو التبليغ ؛ولذا قال سبحانه :﴿ وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ﴾وقد بلغتهم فالمحاجة معهم لا تجدي ؛ لأنهم مكابرون، والمكابر لا تزيده قوة الحجة إلا إصرارا وعنادا ولجاجة ؛فإن اعرضوا فأعرض عنهم، واتجه إلى المخلصين طلاب الحقيقة تهديهم وترشدهم، وتأخذ بيدهم إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا وثوابهم في الآخرة. ثم ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى :﴿ والله بصير بالعباد ﴾.
والمعنى انه سبحانه وتعالى عليم علم من يبصر بالعباد، يعلم نفوسهم ما يهديها وما يرديها، وما يصلحها وما يجدبها ؟، وعليم بنفوس هؤلاء المتمردة التي لا تبغي سدادا، ولا تريد رشادا، وعليم بمسالكهم في الدنيا، وأعمالهم التي اركستهم في ذلك الضلال المتكاثف، والذي يزيده إمعانهم في الإنكار والجحود ظلاما، وعليم بما يصيبهم في الآخرة. فهذا التذييل لتلك الآية الكريمة فيه عزاء للنبي عن كفرهم وإشارة إلى أحوالهم، وإنذار بسوء مصيرهم.
وقبل ان نختم الكلام في هذه الآية الكريمة نقرر ان جمع اهل الكتاب والأميين في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى عموم رسالته، كما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا... ٢٨ ﴾[ سبأ ]ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"بعثت إلى الحمر والأسود"١ وقال صلى الله عليه وسلم :"كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة"٢ ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"والذي نفسي بيده لا يسمع بي احد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من اهل النار"٣.
٢ هذه الرواية تفسر قوله عليه الصلاة والسلام:"بعثت إلى الأحمر والأسود"يعني:"إلى الناي كافة"، وبالأول رواها مسلم في صحيحه باللفظ المشار إليه في التخريج السابق. مسلم: المساجد ومواضع الصلاة فيها(٨١٠)، النسائي: الغسل والتيمم(٤٢٩)، أحمد: باقي المكثرين (١٣٧٤٥)، والدارمي الصلاة(١٣٥٢)..
٣ رواه مسلم: الإيمان-وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم(٢١٨)، واحمد: باقي مسند المكثرين(٧٨٥٦)..
ولماذا ذكر سبحانه وتعالى كلمة﴿ بغير حق ﴾مع ان قتل الأنبياء لا يمكن ان يكون بحق أبدا ؟والجواب عن ذلك ان هذا تصريح بموضع الاستنكار، فموضع الاستنكار اعتداؤهم على الحق بالاعتداء على النبيين، وللإشارة على انهم بما طمس الله على بصائرهم صاروا أعداء للحق لا يألفونه، ولا يريدونه ولا يخلصون في طلبه. وذكر سبحانه كلمة الحق الثابت، والحق المزعوم، والحق الموهوم، أي لم يكونوا معذورين بأي نوع من أنواع العذر في هذا الاعتداء، فلم يعتقدوا انه الحق، ولم يزعموه، ولم يتوهموه، بل فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون انهم على الباطل، فكان فعلهم إجراما في باعثه، وإجراما في حقيقته، وأبلغ الإجرام في موضوعه.
هذا قتل الأنبياء، وهو أفظع جرم في هذا الوجود، ويليه ومن جنسه قتل الدعاة إلى الحق، والقسط الذي هو الميزان في كل شئ، فإن قتل هؤلاء كقتل النبيين منشؤه صمم الآذان عن سماع الحق، وإعراض القلوب، والتململ من اهل الحق والتبرم بهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم :"بئس القوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية"١ !وروى ان أبا عبيدة عامر بن الجراح سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس عذابا يوم القيامة ؟فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :"رجل قتل نبيا، أو من امر بمعروف ونهى عن المنكر"٢.
ولماذا قال سبحانه :﴿ من الناس ﴾في قوله :﴿ الذين يأمرون بالقسط من الناس ﴾مع انهم حتما من الناس ؟والجواب عن ذلك ان هذا للإشارة إلى انهم عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء إشارة إلى بيان منزلتهم، وأنهم يعملون عمل النبيين وأنهم حقيقة ورثة الأنبياء، بالقيام بحق هذا الواجب المقدس ؛فإن لم يقوموا بهذا الواجب فليس لهم من وراثة الأنبياء شئ.
وقد ذكر سبحانه عقاب هؤلاء وهو العذاب الأليم، فقال تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾أي ان جزاءهم في الآخرة عذاب مؤلم ينزل بهم.
وفي هذا الجزء من الآية بحثان لفظيان :
أحدهما : دخول الفاء في خبر الذين وهو :﴿ فبشرهم ﴾وقد دخلت الفاء لأن الجملة طلبية، والجملة الطلبية تحتاج إلى الفاء لتصلح خبرا في كثير من ألأحيان ؛ولن الاسم الموصول في معنى الشرط، وخبره في معنى الجواب، وإذا كان الجواب جملة طلبية فإن الفاء تدخله.
والثاني : هو في التعبير بقوله تعالى عن العذاب :﴿ فبشرهم ﴾ مع ان البشارة لا تكون إلا في الأخبار السارة ؛لأن البشارة والبشرى الخبر السار الذي تنبسط له بشرة الوجه ؛والجواب عن ذلك ان هذا التعبير من قبيل التهكم ؛وذلك لن هؤلاء الضالين من بني إسرائيل وغيرهم مع انهم جحدوا، وفعلوا بالأنبياء ودعاة الحق ما فعلوا، وكانوا يقولن : نحن أبناء الله وأحباؤه، وأن لهم البشرى بجنسهم لا بعملهم ؛فالله يقول له :﴿ فبرهم بعذاب اليم ﴾أي ان البشرى التي يرتقبونهما بسبب المحبة التي يدعونها هي عذاب أليم وليست بنعيم مقيم، وليس هذا العذاب في الآخرة فقط، بل إنه في الدنيا بفساد جماعتهم ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾ :
الإشارة إلى هؤلاء الذين يحاجون بالباطل، ولا يسلمون وجوههم لله، ولا يذعنون للحق، ويقتلون الأنبياء، ويقتلون دعاة الحق ؛هؤلاء بسبب هذه الصفات وهذه العمال حبطت أعمالهم، أي بطلت وأصبحت لا تنتج إلا شرا لصاحبها، كالدابة التي تأكل شر الثمار حتى ينتفخ بطنها من سوء ما تأكل، وحبط العمال ان لا تنتج خيرا لصاحبها، وان يكون الجزاء عليها شرا، وان تكون نتيجتها سوءا، فيحاسب الله الفاعلين على نياتهم التي طويت في صدورهم وعملوا العمال باسم الخير، وهي للشر، وأولئك الأشرار يبطل الله أعمالهم ويحبطها، فجزاؤها شر في الآخرة بعذاب اليم، وفي الدنيا بذهاب دولتهم وسلطانهم ؛لأن الإعراض عن الحق، ومعاقبة من ينطق بكلمة الحق، وقتل الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، من شانه ان يفسد الدولة، وإذا فسدت الجماعة ذهبت القوة، ولذا قال سبحانه :﴿ وما لهم من ناصرين ﴾أي ليس لهم أي ناصر، فالنفي المستغرق مع تأكيده بمن الزائدة، يفيد انه لا يمكن ان يكون لكن يقتل الداعي إلى الخير ناصر مطلقا ؛لن الناس لا يثقون به ويتقونه ولا يطمئنون إليه، ولا يمكن ان يعيش امرؤ هنيئا إلا بثقة من الناس. ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"خير الناس آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، واتقاهم لله، وأوصلهم للرحم"٣.
٢ رواه الإمام احمد(٣٦٧٤)في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وراجع الدر المنثور-ج٢ ص١٣..
٣ رواه احمد: مسند القبائل(٢٦١٢٥)..
ولماذا ذكر سبحانه وتعالى كلمة﴿ بغير حق ﴾مع ان قتل الأنبياء لا يمكن ان يكون بحق أبدا ؟والجواب عن ذلك ان هذا تصريح بموضع الاستنكار، فموضع الاستنكار اعتداؤهم على الحق بالاعتداء على النبيين، وللإشارة على انهم بما طمس الله على بصائرهم صاروا أعداء للحق لا يألفونه، ولا يريدونه ولا يخلصون في طلبه. وذكر سبحانه كلمة الحق الثابت، والحق المزعوم، والحق الموهوم، أي لم يكونوا معذورين بأي نوع من أنواع العذر في هذا الاعتداء، فلم يعتقدوا انه الحق، ولم يزعموه، ولم يتوهموه، بل فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون انهم على الباطل، فكان فعلهم إجراما في باعثه، وإجراما في حقيقته، وأبلغ الإجرام في موضوعه.
هذا قتل الأنبياء، وهو أفظع جرم في هذا الوجود، ويليه ومن جنسه قتل الدعاة إلى الحق، والقسط الذي هو الميزان في كل شئ، فإن قتل هؤلاء كقتل النبيين منشؤه صمم الآذان عن سماع الحق، وإعراض القلوب، والتململ من اهل الحق والتبرم بهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم :"بئس القوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية"١ !وروى ان أبا عبيدة عامر بن الجراح سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس عذابا يوم القيامة ؟فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :"رجل قتل نبيا، أو من امر بمعروف ونهى عن المنكر"٢.
ولماذا قال سبحانه :﴿ من الناس ﴾في قوله :﴿ الذين يأمرون بالقسط من الناس ﴾مع انهم حتما من الناس ؟والجواب عن ذلك ان هذا للإشارة إلى انهم عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء إشارة إلى بيان منزلتهم، وأنهم يعملون عمل النبيين وأنهم حقيقة ورثة الأنبياء، بالقيام بحق هذا الواجب المقدس ؛فإن لم يقوموا بهذا الواجب فليس لهم من وراثة الأنبياء شئ.
وقد ذكر سبحانه عقاب هؤلاء وهو العذاب الأليم، فقال تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾أي ان جزاءهم في الآخرة عذاب مؤلم ينزل بهم.
وفي هذا الجزء من الآية بحثان لفظيان :
أحدهما : دخول الفاء في خبر الذين وهو :﴿ فبشرهم ﴾وقد دخلت الفاء لأن الجملة طلبية، والجملة الطلبية تحتاج إلى الفاء لتصلح خبرا في كثير من ألأحيان ؛ولن الاسم الموصول في معنى الشرط، وخبره في معنى الجواب، وإذا كان الجواب جملة طلبية فإن الفاء تدخله.
والثاني : هو في التعبير بقوله تعالى عن العذاب :﴿ فبشرهم ﴾ مع ان البشارة لا تكون إلا في الأخبار السارة ؛لأن البشارة والبشرى الخبر السار الذي تنبسط له بشرة الوجه ؛والجواب عن ذلك ان هذا التعبير من قبيل التهكم ؛وذلك لن هؤلاء الضالين من بني إسرائيل وغيرهم مع انهم جحدوا، وفعلوا بالأنبياء ودعاة الحق ما فعلوا، وكانوا يقولن : نحن أبناء الله وأحباؤه، وأن لهم البشرى بجنسهم لا بعملهم ؛فالله يقول له :﴿ فبرهم بعذاب اليم ﴾أي ان البشرى التي يرتقبونهما بسبب المحبة التي يدعونها هي عذاب أليم وليست بنعيم مقيم، وليس هذا العذاب في الآخرة فقط، بل إنه في الدنيا بفساد جماعتهم ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾ :
الإشارة إلى هؤلاء الذين يحاجون بالباطل، ولا يسلمون وجوههم لله، ولا يذعنون للحق، ويقتلون الأنبياء، ويقتلون دعاة الحق ؛هؤلاء بسبب هذه الصفات وهذه العمال حبطت أعمالهم، أي بطلت وأصبحت لا تنتج إلا شرا لصاحبها، كالدابة التي تأكل شر الثمار حتى ينتفخ بطنها من سوء ما تأكل، وحبط العمال ان لا تنتج خيرا لصاحبها، وان يكون الجزاء عليها شرا، وان تكون نتيجتها سوءا، فيحاسب الله الفاعلين على نياتهم التي طويت في صدورهم وعملوا العمال باسم الخير، وهي للشر، وأولئك الأشرار يبطل الله أعمالهم ويحبطها، فجزاؤها شر في الآخرة بعذاب اليم، وفي الدنيا بذهاب دولتهم وسلطانهم ؛لأن الإعراض عن الحق، ومعاقبة من ينطق بكلمة الحق، وقتل الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، من شانه ان يفسد الدولة، وإذا فسدت الجماعة ذهبت القوة، ولذا قال سبحانه :﴿ وما لهم من ناصرين ﴾أي ليس لهم أي ناصر، فالنفي المستغرق مع تأكيده بمن الزائدة، يفيد انه لا يمكن ان يكون لكن يقتل الداعي إلى الخير ناصر مطلقا ؛لن الناس لا يثقون به ويتقونه ولا يطمئنون إليه، ولا يمكن ان يعيش امرؤ هنيئا إلا بثقة من الناس. ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"خير الناس آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، واتقاهم لله، وأوصلهم للرحم"٣.
٢ رواه الإمام احمد(٣٦٧٤)في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وراجع الدر المنثور-ج٢ ص١٣..
٣ رواه احمد: مسند القبائل(٢٦١٢٥)..
قد بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عن ماضي اليهود من اهل الكتاب انهم اختلفوا بغيا بينهم مع ان أسباب العلم متوافرة بين أيديهم، ولكن البغي ومجاوزة الحد إن سكنا في رؤوس قوم اذهب عنهم الهداية، وتحكمت فيهم الغواية مهما تكن أسباب العلم قائمة ؛ وبين سبحانه أيضا انهم قوم غير مخلصين في طلب الحقيقة، وأنهم لو أخلصوا لوصلوا، وان محاجتهم للنبي صلى الله عليه وسلم منبعثة عن الهوى والغرض. وفي هذه الآيات يبين سبحانه صورة حسية عن مناقشتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ؛يكون الحق محسوسا بين أيديهم ويعرضون بعد ان تتبين الحجة ناصعة.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون على كتاب الله ليحكم بينهم ﴾هذه الآية نزلت في طائفة من اليهود، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدين الحق فأعرضوا، ودعاهم ليحكم بينهم كتاب الله فأعرضوا، ولكن ما كتاب الله الذي دعاهم إليه ؟روى في ذلك ابن جرير الطبري روايتين :
إحداهما : ان المراد من كتاب الله التوراة، فهي في أصلها كتاب من عند الله، وغن حرفوه وغيروه ؛ويروى في ذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل مدراس اليهود، وهو بيت تدارسهم، فدعاهم إلى الله فقال قائلهم له : على أي دين انت يا محمد ؟قال : على ملة إبراهيم، فقال القائل : إن إبراهيم كان يهوديا، فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :"هلم إلى التوراة فهي بيننا وبينكم"هذه هي الرواية الأولى. وإطلاق كلمة﴿ كتاب الله ﴾على التوراة باعتبار أصلها، وباعتبار ان الجزء الذي كان التحاكم إليه فيها هو الجزء الباقي الذي لم يدخله تحريف.
والرواية الثانية : أن كتاب الله هو القرآن ؛وذلك لن طائفة من اليهود تحاكموا غليه صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بحكم القرآن، فلما تبين لهم الحكم وانه على غير هواهم اعرضوا وناوأ بجانبهم عن سماع قول الحق والإنصات إليه.
وأياما كان الكتاب المشار إليه في الآية فالمر دليل على انهم لا يذعنون لحق ولا يهتدون بهدى، بل هم قوم غلبت شقوتهم، وغلب هواهم على تفكيرهم وطمس الله على أبصارهم وبصائرهم، فهم لا يهتدون، ولا ترجى منهم هداية، فلا تعجب إذا لم يؤمنوا.
وقوله تعالى :﴿ ألم تر ﴾هذا تعبير قرآني معناه لقد رأيت وتحققت وعجبت من امر أولئك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كيف يدعون إلى حكم الحق فيتولون ويعرضون. والاستفهام داخل على الفعل المنفي، وهو استفهام إنكاري تعجبي، فهو نفي دخل على فعل منفى، ونفى النفي إثبات، إذ إن نفى عدم الرأي معناه ثبوت الرؤية، وسيق الكلام على ذلك النحو لتأكيد المر، وللتعجب، ولبيان انه ما كان يصح ان يقع، ولكنه وقع.
وقوله تعالى :﴿ أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾يشير إلى أمرين :
أولهما : انهم يتعلقون باسم الكتاب ولكن لا يأخذون به ؛فالنصيب المراد به الجزء المعنوي من الكتاب، وهو انهم تلقوا كتاب التوراة واخذوا منه ترديده وذكره، ولم يأخذوا منه الهداية والإيمان.
وثانيهما : انهم حرفوا هذا الكتاب وغيروه، فما عندهم هو نصيب من الكتاب أي جزء منه، وليس كل الكتاب.
وعبر هنا بقوله تعالى :﴿ أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾وفي الآيات السابقة قال سبحانه :﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم... ١٩ ﴾[ آل عمران ]وذلك لن الكلام هنا في الذين كانوا يعاصرون النبي صلى الله عليه وسلم، والذين كانوا يعاصرون النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عندهم قطعا إلا حظ من الكتاب، ولم يكن عندهم كل الكتاب ؛أما في الآيات السابقة فقد كان الكلام في الذين عاصروا النبيين السابقين من بني إسرائيل، وقد كان عندهم الكتاب كله، ومع ذلك ضلوا على علم، وذلك لسيطرة الهوى على قلوبهم، وغلبته على نفوسهم، فبغوا وطغوا، وقتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط من الناس.
دعي أولئك اليهود إلى كتاب الله تعالى ليحكم بينهم، وقد كانت النتيجة انهم لم يذعنوا للحق كما قررنا، بل تولوا عنه، او تولى فريق منهم عن الحق، ولذا قال تعالى :
﴿ ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ﴾أصل تولى الأمر او الشخص الإقبال عليه، والانصراف إليه ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ومن يتولهم منكم فغنه منهم... ٥١ ﴾[ المائدة ]أي من يتخذ منهم ولاية ونصرة، ويقبل عليهم فهو منهم. وإذا عدي هذا الفعل ب"عن"أو قدرت في القول كانت بمعنى الانصراف عن المر وعدم الإقبال عليه ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين٦٣ ﴾[ آل عمران ]وقوله تعالى :﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا امثالكم٣٨ ﴾[ محمد ]. والمعنى في هذه الآية هو من هذا القبيل، أي أنه بعد الدعوة إلى تحكيم كتاب الله تعالى ينصرفون عن الحق، ويولونه أدبارهم، بدل ان يولوه قلوبهم.
وعبر هنا بثم التي تفيد التراخي للإشارة إلى تباين حالهم مع ما كان ينبغي منهم ؛وذلك لنهم ليسوا أميين او جاهلين فيعذروا، بل هم قوم اهل علم ودين، ونزلت بين أيديهم كتب السماء فهم كانوا جديرين بأن يرضوا بحكم الكتب المقدسة، ولكنهم بدل ان يخضعوا ويذعنوا اعرضوا، واستمروا في غيهم يعمهون، فكان هذا التفاوت بين ما كان ينبغي، وما هو كائن، سببا في التعبير بثم المفيدة للتراخي بين المعطوف والمعطوف عليه، والتباعد بينهما زمانا او معنى.
وقوله تعالى :﴿ وهم معرضون ﴾قال بعض المفسرين : غنه تأكيد لمعنى التولي، والحق انها أفادت معنى جديدا، إذ أفادت أمرين :
أولهما : ان حال هؤلاء الناس حال إعراض دائم عن الحق، فليس توليتهم غذ دعوتهم على ان يحكم كتاب الله بينهم امر عارض لحال وقتية اقتضته، بل الإعراض صفة مستمرة لفريق منهم لا تنفصل دائما عن تفكيرهم.
الأمر الثاني : ان تلك الحال المستمرة الدائمة من الإعراض هي سبب توليهم عن الحق عندما يدعون على كتاب الله تعالى ليحكم بينهم.
والقرآن الكريم ينصف الحق في إخباره، كما هو الحق في ذاته ؛ولذلك لم يعمم الحكم على كل الذين أوتوا الكتاب بل قرر أن التولي كان من فريق منهم، ولم يكن من كلهم ؛وهذا كقوله تعالى :﴿ منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون٦٦ ﴾[ المائدة ].
ولماذا كان الاستخفاف بالعقاب وعدم الاهتمام بالوعيد سببا في الإعراض عن الحق ؟الجواب عن ذلك ان الحق يصل غليه المؤمن بأحد أمور ثلاثة : إما بإشراق النفس، واستقامة القلب، وسلامة الفكر من الهوى والغرض، وذلك شان من زكت نفوسهم وعلت قلوبهم ؛وغما شكر للنعمة، ووفاء لحق المنعم، وذلك شان عباد الله الخيار ؛وغما خوف العقاب والحساب، وذلك شان المتقين وأولئك قد حرموا الأول والثاني، فلم إلا الثالث، فاستهانوا بالعقاب فكانوا قوما بورا. وغن المؤمن يجب ان يصون نفسه دائما بخوف العقاب، وان يغلب الخوف على الرجاء ؛فإنه عن زاد الرجاء عن الخوف تسربت الاستهانة على النفس وإذا تسربت الاستهانة هانت النفس فأر كست في السيئات، وارتكبت الموبقات ؛ وذلك شان كثيرين من المنتسبين للأديان، وشان كثيرين من المسلمين في هذه الأيام. وإنه يجب على المؤمن ألا يغتر، ولا يأخذه الغرور فيستهين بعقاب. ولقد رد الله سبحانه وتعالى في غير هذه الآية على اليهود في زعمهم انهم لا يعاقبون إلا أياما معدودة، فقد قال الله تعالى :﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ام تقولون على الله ما لا تعلمون٨٠بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون٨١ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون٨٢ ﴾[ البقرة ].
﴿ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴾يقال غررت فلانا أي أصبت غرته ونلت منه ما أريد بسبب ذلك، والغرة : الغفلة والغفوة. ومعنى﴿ وغرهم فيد دينهم ما كانوا يفترون ﴾ : أصاب موضع الغرة والغفلة منهم في دينهم ما كانوا يفترون أي يكذبونه متعمدين قاصدين.
وإن الأوهام التي ترد على النفس وتستولي على القلب تدفع على الضلال، وكذلك شان هؤلاء اليهود : تعصبوا تعصبا شديدا لدينهم، وابغضوا غيرهم بغضا شديدا، حتى إنه لا يتصور ان يهوديا احب غير يهودي لغير مآرب من مآرب الدنيا، او غاية من غاياتها ؛وحتى بقد حسبوا ان الديانة جنس، واندفعوا تحت تأثير ذلك التعصب إلى اعتقاد أوهام، ثم تأييد هذه الأوهام بأكاذيب افتروها، ثم تكاثفت تلك الأكاذيب جيلا بعد جيل، حتى أصابت غرة وغفلة في عقولهم، فاعتقدوا ما لا يعتقد ؛ اعتقدوا انهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، واعتقدوا ان الجزاء بالجنس لا بالعمل ؛وهذا ما يفيده قوله تعالى :﴿ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴾أي ما استمروا على افترائه جيلا بعد جيل.
﴿ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾كيف : يستفهم بها عن الحال، أي ما حالهم وما شانهم إذا جمعهم الله رب العالمين/ليوم لا ريب فيه ؟لا شك انهم يفاجئون بذهاب غرورهم الذي اغتروه، وضلالهم بسبب استمرار افترائهم الذي أحدثوه فدلاهم في غرورهم ؛وإنه في هذا اليوم الذي لا ريب فيه توفى كل نفس ما كسبت أي جزاء ما كسبت، وهم لا يظلمون أي لا ينقصون مما فعلوه شيئا، فسيجزون بالخير الحسنى، وبالشر السوء.
وفي الآية الكريمة بعض البحوث اللفظية نشير غليها واحدا واحدا ؛لأن في بيانها توجيها إلى معان دقيقة في النص الكريم :
أول هذه الأمور : الفاء في قوله تعالى :﴿ فكيف ﴾فإنها هي ما تسمى فاء الإفصاح، وهي التي تفصح عن شرط مقدر، أي انه إذا كانت العقوبة المقررة عليكم أياما معدودات في اعتقادكم مهما ارتكبتم، فماذا تكون حالكم إذا كانت المفاجأة التي لم تقدروها وطمس عليكم فلم تعلموها ؟.
وثاني هذه المباحث اللفظية قوله تعالى :﴿ جمعناهم ﴾فإن التعبير بلفظ الجمع فيه إشارة إلى معنى المساواة التامة، وانه لا فضل لجنس على جنس، وإضافة هذا الجمع إلى رب العالمين، خالق الناس أجمعين يزكي هذه المساواة ؛لأنه خالق الجميع، ورب الجميع، وجامع الجميع يوم القيامة، فالجميع بين يديه سواء في الأصل والتكوين وفي الربوبية والحفظ، وفي الجمع يوم القيامة فيكونون سواء في الحساب والعقاب والثواب، وكل وعمله.
وثالث هذه الأمور : تنكير"يوم"في قوله تعالى :﴿ ليوم لا ريب فيه ﴾فإن ذلك التنكير للتهويل، وبيان عظم شانه وانه يوم عبوس، وانه مع شدته وشدة الحساب لا ريب في وجوده ولا شك. وذكر قوله :﴿ لا ريب فيه ﴾في هذا المقام لأن من اليهود طائفة تنكر البعث، فالتأكيد لجل هذه الطائفة المنكرة الملحدة في دين الله، الخارجة على كل أديان السماء، والباقون عن اعتقدوا بعقولهم لم يذعنوا بأفعالهم.
ورابع هذه المباحث اللفظية في التعبير بقوله تعالى :﴿ وفيت كل نفس ما كسبت ﴾إسناد التوفية إلى ما كسبت وعدم ذكر الجزاء، فيه إشارة إلى عدل الله اللطيف الخبير، وهو مساواة الجزاء للعمل، وكان المثاب يوفى عمله، ولا جزاء عمله، وذلك لشدة المساواة بينهما. وقد أكد سبحانه وتعالى معنى العدالة وان كل شئ بالقسطاس المستقيم بقوله :﴿ وهم لا يظلمون ﴾أي سيجزون بأعمالهم، وسينالون ما يستحقون، وكل ما ينالهم بسبب ما فعلوا هو العدل عينه، ولا ظلم، فإذا ألقوا في السعير فليس في ذلك ظلم هو العدل. وغن سبب ضلال اليهود انهم زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا.
فاللهم أرنا عيوب أنفسنا، وجنبنا الاغترار في ديننا، إنك سميع الدعاء.
بين سبحانه وتعالى اعتزاز المشركين بقوتهم الدنيوية وغلبهم وسلطانهم، وذكر انهم في غرورهم كفرعون ذي الأوتاد، واعتزازه بقهره لشعبه، وطغيانه في ملكه إذ يقول :﴿ و نادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفلا تبصرون٥١ ﴾[ الزخرف ]. ثم أشار سبحانه على طغيان اهل الكتاب، واختلافهم على النبيين، وقتلهم بعض الأنبياء، وقتلهم الذين يأمرون بالقسط من الناس، وما كان ذلك الإعراض عن الحق بعد ان تبين لهم إلا لأن حب السلطان والغلب قد استولى عليهم واستغرق نفوسهم، ولذلك كانوا إذا حاجهم النبي صلى الله عليه وسلم او حاجوه نظروا في محاجتهم على المر من وراء ذلك الغرض، وتلك الشهوة ؛وقد امر الله سبحانه نبيه بان يقابل هواهم بإعلان إخلاصه في طلب الحق، وإسلامه وجهه لله سبحانه !وفي هذه الآية :
﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ﴾إشارة إلى الإخلاص للذات العلية، وطلب الحق إرضاء لله، لا لأحد سواه، فيه اتجاه إلى السلطان الحق من مالك الملك.
﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ﴾الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل قارئ للقرآن الكريم مؤمن بالله مذعن للحق، أن يضرع إلى الله تعالى ناطقا بهذه الحقيقة ؛فإنها الحق في هذا الوجود، ولا يعرف مؤمن سواها ؛والمعنى في هذا الدعاء الكريم الضراعة على الله تعالى ونداؤه بأنه مالك السلطان المطلق في هذا الوجود، فليس فقط صاحب السلطان، بل إنه يملك ذوات السلطان، يؤتيه ويعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء ؛أي يسلبه ممن يشاء ممن يكون السلطان في يده. والملك هنا السلطان، وفسره بعضهم بالنبوة، وعبر عن النبوة بالملك عند هؤلاء باعتبار ان الملك الحق لازم من لوازمها ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ ام يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما٥٤ ﴾ [ النساء ] والظاهر ان المراد هو السلطان. وقوله تعالى :﴿ اللهم ﴾نداء على الذات العلية بلفظ الجلالة، والميم المشددة في الآخر قائمة مقام حرف النداء على ما قال الخليل وسيبويه. وقال بعض الكوفيين : عن الميم المشددة هي"أم"بمعنى قصد، أي أقصدك يا مولاي بضراعتي، وأنت صاحب السلطان.
ولكن خطا ذلك النظر الزجاج، وقرر ان معنى القصد ثابت بمجرد الالتجاء والدعاء. وقوله :﴿ مالك الملك ﴾نداء آخر وضراعة على تقدير أداة النداء، أي يا مالك الملك، فكان في النص دعاءين : دعاء للذات العلية بلفظ الجلالة، وقد اشتمل على كل معاني العبودية، والتنزيه والتقديس، والخضوع التام، والتسليم لله سبحانه وتعالى بكل معاني الألوهية ؛والدعاء الثاني لمالك الملك، وفيه كل معاني الإحساس بالربوبية، والضعف امام جبروت الله سبحانه وتعالى وملكوته.
وقلنا عن قوله تعالى :﴿ مالك الملك ﴾أبلغ من صاحب الملك او صاحب السلطان ؛لن من يملك شان امة لا يملك ملكها، ولكنه يستولي على ملكها ويده فيها ليست يد ملك ولكنها يد عارية ؛اما سلطان الله تعالى ذي الملكوت فسلطان مالك متصرف في السلطان، يعطيه من يشاء عطاء عارية، ويمنعه ممن يشاء، ويسترد عاريته ممن يشاء ؛ولذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ﴾.
وهنا أمران لا بد من الإشارة إليهما :
أولهما : التعبير عن إزالة الملك بقوله تعالى :﴿ وتنزع الملك ممن تشاء ﴾فالتعبير بالنزع مع تكرار كلمة ملك، فيه إشارة على انه يأخذه منه بعد ان استقر فيه وثبت له وظن انه لا مزيل لسلطانه، فيأتيه الله من حيث لا يحتسب، ويأخذ ملكه اخذ عزيز مقتدر ثم إن في النزع إشارة على ان من يؤتى سلطانا يطغى فيه ويبغى ولا يسير بسنة الحق والعدل لا يتركه طائعا، بل لابد ان يمكن الله منه من ينزعه من يده، وقد يأخذه منه من كان يأتمنه "ومن مأمنه يؤتى الحذر". وفي كثير من الحيان يكون السبب في زواله هو من كان السبب في طغيانه.
الأمر الثاني الذي تجب الإشارة إليه : ان الله سبحانه وتعالى بمقتضى حكمته وما سن من نظم في هذا الوجود، وما تسير عليه أعماله في خلقه، لا يعطي الملك غلا من يستحقه، ويأخذ بالأسباب العادلة في طلبه، ويقصد به رفعة قومه، ولا ينزعه إلا ممن يسئ ويطغى، ويفهم ان الملك متعة تشتهى وليس تبعات تؤدى، فينزعه منه غيره، وكذلك سنة الله تعالى في الحكم بين الناس : من لا يسوس الملك يخلعه، ومن حل محله ينزل به ما نزل بسابقه إن سار سيرته.
وكلمة"الملك"ليس المراد منها ما تعارفه الناس من الحكم بمقتضى الوراثة في أسرة، إنما المراد بالملك السلطان في هذه الأرض، سواء أكان سلطانا بالغلب، أم كان سلطانا بالاختيار والانتخاب، أم كان سلطانا بالوراثة، وسواء أكان محدودا بجزء من الدولة، ام ناحية من نواحيها، أم كان عاما شاملا لكل أجزائها تجتمع في يد صاحبه كل السلطات فيها، فكل هذا ملك لأنه سلطان. وقد ذكر سبحانه بعد ذكر الملك يعطيه من يشاء وينزعه ممن يشاء العزة، فقال :
﴿ وتعز من تشاء ﴾العزة ليست مرادفة للسلطان، وإن كان الأصل في كلمة عز معناها غلب ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وعزني في الخطاب٢٣٢ ﴾[ ص ] ولكن العزة صارت تستعمل بعد ذلك في معنى نفسي، وهو عدم الخضوع إلا للحق، والتسامي عن الخضوع الذي ينافي المروءة والخلق الكريم، وقد يكون ذلك في ضعيف في بدنه مستضعف عند الناس، مادام قد علا عن الخضوع غلا لذات الله تعالى ؛وغن صهيبا وآل ياسر، وخباب بن الأرت وغيرهم، كانوا وهم المستضعفون في مكة الأعزاء في انفسهم ؛لأنهم لم يجعلوا قلوبهم مراما للأقوياء، فلا عزة غلا مع الإيمان بالله وحده، والاعتماد عليه وحده ؛ولذلك لا يكون المنافقون مهما يؤتوا من مال ونسب وسلطان إلا أذلاء. ولما قال المنافقون في شأن المؤمنون :﴿ ليخرجن العز منها الأذل... ٨ ﴾[ المنافقون ]. نفى سبحانه وتعالى عنهم العزة فقال سبحانه :﴿ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون٨ ﴾[ المنافقون ]. وكيف يكون المنافق عزيزا وهو الذي جعل نفسه وفكره ولسانه ملكا لغيره ؟فهو قد سلب كل شئ حتى قلبه ولسانه.
ومشيئة الله تعالى في العزة والذلة تسير على مقتضى حكمته، فهو لا يعطي العزة غلا لمن خلص قلبه من كل أدران الهوى والشهوة، فالشهوات مردية، ولا يكون عزيزا بين الناس من يكون عبد شهوته ؛فإن العزة تبتدئ من النفس، فإن ضبط المرء أهواءه وشهواته وسيطر عليها أعطاه العزة، فكان بين الناس عزيزا ؛ومن سيطرت عليه أهواؤه ومطامعه وشهواته كتب الله عليه الذلة، وكان الذليل وإن ظهر انه العزيز ؛ولذا كان من حكمة السلف الصالح قولهم :"أذل الحرص أعناق الرجال".
﴿ بيدك الخير إنك على كل شئ قدير ﴾هذا تسليم بأن ما يفعله الله تعالى دائما خير، وأن الخير كله بيده سبحانه وقوله تعالى :﴿ بيدك الخير ﴾معناه إنك وحدك الذي تملك الخير كله، ف"ال" في قوله"الخير" للاستغراق الشامل ؛فكل خير هو بيد الله سبحانه. والتعبير ب"يد"هنا إشارة إلى الملكية التامة لسيرة، فهو استعارة تمثيلية، فقد قرب سبحانه-ولله تعالى المثل الأعلى-لهاننا معنى سلطانه وكمال ملكه لكل الأمور، بحل من يكون المر في يده وقبضته، ولا سلطان لأحد من الناس فيما بيده، وفي قبضته. ومعنى قوله تعالى :﴿ إنك على كل شئ قدير ﴾شمول قدرته على الأشياء كلها : ما يتخذه الناس سببا للخير عنهم، وما يتخذونه سببا للشر عندهم. وفي الجمع بين قوله تعالى :﴿ بيدك الخير ﴾و﴿ إنك على كل شئ قدير ﴾إشارة إلى أمرين :
أولهما : أن كل ما يفعله الله تعالى هو خير، فلا يقال إن بيده الخير والشر، فإن الشر معنى نسبي
للعبيد، ولكن بالإضافة إلى الله تعالى فإن الله لا يفعل إلا خيرا. ولقد قال الزمخشري في هذا المقام ما نصه :"إن كل أفعال الله تعالى من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه".
الأمر الثاني : إثبات أن الله تعالى خالق الأسباب، إلا النفع فيكون ما يفعلونه فسادا وضررا عاما.
و أشار إليه سبحانه بقوله تعالى :﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾فكل ما في ا الوجود من أشياء وأعمال ومخلوقات تحت قدرة الله، وكله خير بالنسبة له سبحانه، والشر والخير بالنسبة لمقاصد الناس، ولانتفاعهم بما مكن الله تعلى في ه الأرض. وإنه يلاحظ دائما ان الشر نسبي للناس، ولا يصح ان يقال في فعل الله إلا انه خير.
﴿ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ﴾ا مظهر حسي لقدرة الله تعالى في ا الكون. تولج معناها تدخل، أي تدخل الليل في النهار وتدخل النهار في الليل. وقد فسر بعض العلماء دخول الليل في النهار بزيادة الليل حتى يصل إلى أقصى الزيادة، وفي هذا الوقت ينقص النهار حتى يصل إلى أقصى النقصان، وكذلك دخول النهار في الليل فمعناه أن يأخذ النهار جزءا من معدل النسبة بينهما وهو تساويهما، فيدخل النهار في الليل. وفقد فسره الزمخشري مع كثير من المفسرين دخول الليل في النهار ودخول النهار في الليل بالتعاقب بينهما بأن يكون الوقت نهارا ثم يصير ليلا، ويكون ليلا ثم يصير نهارا، ولكن كيف نسمي ذلك التعاقب دخولا لليل في النهار، ودخولا للنهار في الليل ؟والجواب عن ذلك : أن الليل لا ينقلب نهارا دفعة واحدة، بل إنه يدخل النهار في الليل شيئا فشيئا، فيبتدئ النور يدخل في الظلمة شيئا فشيئا، فيبتدئ النور يدخل في الظلمة شيئا فشيئا، ويبتدئ الفجر الكاذب فالصادق، فتنفس الصبح لحظة بعد لحظة، والنور يغزو الظلمة حتى تنجاب غياهبها، فيكون الضوء الساطع ؛وكذلك لا يجئ الليل دفعة واحدة، بل يبتدئ الضوء يضعف من الأصيل حتى تجئ الغروب، ثم تجئ العشية، فيكون ظلام وتمحى آية النهار.
وإن توجيه الأنظار إلى دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، سواء أكان بالمعنى ام كان بالمعنى الثاني، فيه توجيه الأذهان إلى عظمة الكون وكمال سلطانه سبحانه وتعالى فيه، فما كان تعاقب الليل والنهار وتداخلهما إلا ظاهرة لدوران الأرض حول الشمس، وحركة الدوار المستمرة الدائبة بقدرة الله تعالى وقيامه على كل شئ، وفي الليل تبدو الكواكب والنجوم، وتظهر آيات ذلك النظام العجيب المحكم الذي يسيره سبحانه بقدرته وحكمته.
﴿ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ﴾هذا مظهر كوني حسي يدل على عظيم قدرة الله، وبيان انه لا إرادة في هذا الكون غير إرادته، وانه القادر على كل شئ، يخرج الضد من ضده، وهو المبدع لكليهما، المسير لهما ؛فالله سبحانه يخرج الحي من الميت، ويجعل من هذا الحي الذي أخرجه ميتا ؛وإخراج الحي من الميت ليس هو الخلق الأول الذي ذرأ الله به الأحياء، وهو خلق آدم من طين، فإن الخلق غير الإخراج ؛إذ الخلق إبداع وإنشاء ابتداء، والله هو الخلاق العليم، ولا خالق سواه، والإخراج تحويل فيه معنى الاستخراج والتوليد ؛وإخراج الله الحي من الميت قال بعض العلماء وهم الأكثرون : إنه إخراج الجسم النامي الذي يسير في مدراج
الحياة، من الجسم الجاف الذي لا تبدو فيه حياة، كإخراج الشجرة من النواة، والعود من البذرة ؛وإخراج الميت من الحي هو أيضا إخراج النواة الصلبة من الجسم الحي النامي، وإخراج البذرة الجافة من العود الحي الرطب. وقد يعترض على ذلك بأن النواة الجافة والبذرة الصلبة فيها حياة تولدت عنها تلك الحياة المحسوسة للنبات، وكذلك النطفة التي تبدو سائلا ليس فيه حياة فيها أحياء تتوالد فتكون ذلك الحيوان المحسوس. وقد يجاب عن ذلك بأن ذلك اصطلاح علمي، وإن الحياة التي تعرفها اللغة مظهر ذلك النماء المتدرج المستمر. وفي الحق عن إخراج الحي من الميت امر محسوس مرئي كل يوم ؛فإن تلك الشجرة او ذلك العود النامي يتغذى من الهواء والضوء والماء والتراب، وكلها جماد لا حياة فيها، وما يتم التحول المتدرج في الحياة إلا بتلك العناصر التي هي غذاء الحي، فهي إخراج الحي من الميت، وليس المراد من الميت من كانت به حياة ثم انتهت، إنما الظاهر من كلمة الميت هو ما لا حياة فيه ؛وإن إخراج الميت من الحي امر واضح لا مجال للشك فيه ؛فهذا العود الأخضر يصير حطاما، وهذا الجسم الحيواني يتحلل فيكون رميما ثم يكون ترابا.
وعلى هذا نقول إن إخراج الحي من الميت ليس فلق النوى بإخراج النبات والشجر منه فقط، بل بهذا وبتدرج الحياة، وإدخال عناصر الغذاء التي تكون الحي وأكثرها من جماد ؛ولذا قال سبحانه في آية أخرى :﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون٩٥ ﴾[ الأنعام ].
﴿ وترزق من تشاء بغير حساب ﴾هذا مظهر من مظاهر قدرة الله تعالى المحسوسة بين الناس، وهو الرزق للعباد، وكلمة الرزق تشمل إعطاء الله عبيده مالا، وإعطاءهم علما، وإعطاءهم حزما ورأيا، وإعطاءهم صحة، فكل هذه أرزاق يعطيها رب العالمين. ولذا قال الراغب الأصفهاني في مفرداته :"الرزق يقال للعطاء الجاري تارة، دنيويا كان ام أخرويا، وتارة للنصيب، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى منه به تارة أخرى ؛يقال اعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علما ؛قال تعالى :﴿ وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل ان يأتي أحدكم الموت... ١٠ ﴾[ المنافقون ]أي أنفقوا من المال والجاه والعلم".
فالله سبحانه وهو الرزاق ذو القوة المتين، قد وزع رزقه بين عباده بالقسطاس المستقيم ؛فمنهم من أعطاه صحة وعافية، ومنهم من اعطاه مالا وحرمه من نعيم العلم، ومنهم من اعطاه جاها وسلطانا، ومنهم من أعطاه أولادا تقر بهم عينه، ومنهم من وهب له ذكرا حسنا بين الناس. ومن قصر الرزق على المال فقد ضل ضلالا بعيدا، كذلك المعترض الذي يقول :
كم عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا
فما في ذلك حيرة إلا في رأس القائل، فتلك هي القسمة العادلة : حرم هذا من المال وأعطاه علما، وحرم هذا من الولد و أعطاه ذكرا بين الناس... و هكذا لو اجتمعت كلها في واحد، لكانت الحيرة، وعلاجها التفويض المطلق لرب العالمين.
وقوله تعالى :﴿ بغير حساب ﴾معناه انه ليس فوقه احد يحاسبه، تعالى الله علوا كبيرا، وان عطاءه كثير يعلو على العد والحساب، وهو يعطي من يشاء بسنة الحكمة والعدل والفضل، وإليه مصير كل شئ، ولا ينتج عمل عامل نتيجته إلا بفضل من الله. روى الحافظ ابن كثير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال :"بسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب"في هذه الآية :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير ﴾.
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الملك كله بيد الله سبحانه وتعالى، وانه هو الذي يعطي بعض عباده سلطانا، وهو الذي ينزع السلطان من أيديهم عن لم يحسنوا القيام عليه ؛وفي هذه الآية يبين سبحانه انه لا يصح للمؤمن ان يستعين بسلطان غير المؤمن لما يراه من قوة سلطان غير المؤمن، فإن الملك بيد الله، قد يديل سبحانه من دولة الشرك والكفر١، ويكون لله ولرسوله الكلمة العليا ؛فكان الآيات السابقة مقدمة، وهذه الآية نتيجة ؛أي انه إذا كان الملك لله سبحانه، وهو مالك الملك، فلا يسوغ لمؤمن ان يدخل في سلطان غير مؤمن وولايته ؛لأنه بذلك يخرج من ولاية الله مالك الملك إلى ولاية كافر أعير الملك، والعارية مستردة لصاحبها في أي وقت، وهو الحق سبحانه الذي لا سلطان فوق سلطانه ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ ولا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾أولياء جمع ولى، وهو من الولاء. وأصل هذه الكلمة بينها الأصفهاني في مفرداته، فقال :"الولاء والتوالي : أن يحصل شيئان حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة، ولاعتقاد. والولاية( بكسر بالواو )النصرة. والولاية( بالفتح )تولى المر. وقيل الولاية والولاية واحدة نحو الدلالة والدلالة". وعلى ذلك تكون كلمة ولى تطلق بمعنى الصديق وبمعنى النصير، وبمعنى من يتولى امر غيره. وما المراد بها هنا ؟الظاهر ان المراد هو من يتولى امر غيره، فمعنى﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾نهى المؤمنين وسلطانهم ؛فإن على المؤمنين ان يكونوا لأنفسهم دولة وولاية تظلهم، ولا يكون أحد منهم في ولاية غيرهم والدليل على ان أولياء هنا معناها متولون الأمر قوله تعالى :﴿ من دون المؤمنين ﴾فإن دون هنا بمعنى غير، وهذا يومئ إلى ترك ولاية المؤمنين ليكونوا في ولاية غيرهم ؛فالمعنى إذن انه لا يجوز لطائفة من المؤمنين ان يكونوا في ولاية غير المؤمنين. وهنا إشارة بلاغية رائعة في قوله تعالى :﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ﴾وفي وقله :﴿ من دون المؤمنين ﴾ ؛فإنه من المقررات البيانية ان اللفظ إذا ‘عيد معرفا ب"أل" كان الثاني هو عين الأول، فإذا قلت : خاطبت رجلا، فأفهمت الرجل حقيقة موقفه، كان الثاني عين الأول، فتكرار المؤمنين بالتعريف الذين يدخلون ولاية غيرهم يتركون أنفسهم، ويتخذون من عدوهم نكاية لأنفسهم.
وإن النهي عهن تولي المؤمنين لغير المؤمنين غير معلل هنا صراحة، وإن كان قوله تعالى :﴿ من دون المؤمنين ﴾يشير إلى ان تولي المؤمنين لغيرهم يكون نكاية لأنفسهم، وفي آية أخرى كان النهي معللا صريحا ؛فقد قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم... ٥١ ﴾[ المائدة ]. وقال تعالى :﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير٧٣ ﴾[ الأنفال ].
ففي هاتين الآيتين تعليل صريح للنهي عن ان يكون المؤمنون او بعضهم في ولاية غير المؤمنين، وأن تكون سيوفهم وكل قوتهم لغير المؤمنين. والذي يستفاد من هاتين الآيتين ان السبب في انه لا يجوز للمؤمنين ان يتولوا غير المؤمنين بأن يكونوا في ولايتهم، يتكون من ثلاثة أمور :
أولها : أن غير المؤمنين لا يمكن ان يرعوا حقوق المؤمنين الذين يخضعون للأمم الأوروبية كمسلمي يوغسلافيا مع قيامهم بحق إقليمهم في نصرته لا يكادون يستمتعون بأي حق سياسي، ولا يتولون أعمالا إدارية إلا في صغير الأمور.
وثانيهما : أن الذي يكون في ولاية غير المسلمين تكون نصرته وقوته لغير المسلمين ؛ولذا قال سبحانه :﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾إذ تكون كل قوته و كل نشاطه الإنساني و الاجتماعي لهم، وليس منه شيء.
و ثالثهما : أن المسلمين الذين يكونون في ولاية غيرهم يفتنون في دينهم، ولو من قبيل العدوى وعدم تنفيذ أحكام الإسلام في الدولة، وفي ذلك فساد أي فساد ؛ولذا قال تعالى :﴿ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾أي إلا تمتنعوا عن الدخول في ولاية غير المسلمين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
هذا، ويجب التنبيه إلى ان تولي المؤمنين لغيرهم ليس معناه المحبة، فإن بر المؤمن لغير المؤمن واجب عن تحقق السبب الموجب للبر ؛فقد قال تعالى :﴿ ولا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين٨إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم ان تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون٩ ﴾[ الممتحنة ].
﴿ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم ثقاة ﴾أي من يدخل في ولاية الكافرين، ويترك ولاية المؤمنين فقد قطع صلته بالله سبحانه وتعالى قطعا تاما ؛لأن ولاية المؤمنين هي ولاية الله تعالى ؛وهذا معنى قوله تعالى :﴿ ومن يفعل ذلك فليس من الله فيس شئ ﴾. وقد أولها بعض العلماء على حذف مضاف، والمعنى : فليس من ولاية الله في شئ، وبعضهم قال : فليس من الصلة بالله في شئ، ولكن ولكن لم حذف المقدر، وجعل النفي عن ذات الله مباشرة ؟والجواب عن ذلك هو الإشارة إلى ان من دخل في ولاية غير المؤمنين تاركا ولاية المؤمنين، فقد ترك ذات الله سبحانه وتعالى وكان مختارا لقوة الكفار دون قوة العزيز الجبار، فهو يعاند الله نفسه، ويحاد الله سبحانه، والله عزيز ذو انتقام، وهو ذو القوة المتين، وهو الناصر، فإن نصر فلا خذلان، وإن خذل فلا نصر :﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم... ١٦٠ ﴾[ آل عمران ].
هذا حكم الجماعة الإسلامية او بعضها في الدخول في ولاية غير المسلمين، ولكن قد يكون بعض الآحاد في حال ضعف، وهم مضطرون لأن يعلنوا الموالاة لبعض الكافرين، فهل يسوغ ذلك ؟ذكر الله حكم هؤلاء في هذا الاستثناء، فقال سبحانه :﴿ إلا أن تتقوا تقاة ﴾أي أن براءة الله سبحانه وتعالى من الذين يوالون الكفار ثابتة قائمة إلا في حال الخوف وخشية الضرر المؤكد لبعض المسلمين فإنه يجوز لهؤلاء أن يظهروا لهم الولاء، وهم بذلك يتقون ضررهم المؤكد، ومعنى :﴿ أن تتقوا منهم تقاة ﴾أي تخافوا خوفا شديدا لضرر مؤكد، فتجعلوا إظهار الولاء وقاية تتقون بها الضرر ؛وقد أكد سبحانه وتعالى الخوف بالمصدر فقال :﴿ أن تتقوا منهم تقاة ﴾أي يكون الضرر ثابتا لا مجال للشك فيه، وألا يتجاوز الولاء المظهر واتخاذ الوقاية المؤقتة. و"تقاة"مصدر وقى على وزن فعلة، وأصله وقية، قلبت الواو تاء كما في تؤدة أصلها وأدة، وتهمة أصلها وهمة.
وإن هذا النص يستفاد منه ان التقية جائزة، والتقية ان يظهر المؤمن غير ما يعتقد اتقاء الأذى الذي يتلف الجسم على ان يكون نزول الذي مؤكدا، وهذا مأخوذ من قوله تعالى :﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان... ١٠٦ ﴾[ النحل ] على أن يكون ذلك مقصورا على الأحوال الأحادية لا الأحوال الجماعية، وعلى أن يجتهد الذين يكونون في ولاية غير المؤمنين ان يخرجوا من ولايتهم وألا يبقوا مستضعفين في الأرض ؛فقد قال تعالى :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا٩٧ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا٩٨ فأولئك عسى الله ان يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا٩٩ ﴾[ النساء ].
هذا، هو التخويف لجل الحذر واليقظة، والعمل على منع الأمر المخوف قبل وقوعه. والتحذير لا يكون إلا حيث يتوهم الشخص الآمن، ويعتقد انه لا مخاف، ولا ما يثير الخوف ؛وإن مقام التحذير هنا واضح بين ؛لأن أولئك الذين يوالون الكافرين يظنون ان ذلك من دواعي الأمن والاستقرار، والواقع أنهم عن امنوا الكفار ومالأوهم على هذا واختاروا ولايتهم دون المؤمنين، فإنهم لا يأمنون عقاب الله، فعليهم ان يحذروه.
ومعنى﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾قال بعض العلماء فيه : إن الكلام على حذف مضاف وهو : عقاب الله او نقمته، وعندي انه لا حاجة إلى تقدير مضاف، بل إن التحذير من ذات الله، والتحذير من ذات الله يقتضي الخوف ووقوع الرهبة في النفس من الذات العلية، كما يقول القائل ولله المثل الأعلى : احذر الأسد ؛فإنه لا يقدر : صولته ولا شدته، إنما يريد أن ذاته في كل أحوالها مخوفة مرهوبة. وعبر سبحانه عن التحذير من ذاته العلية بقوله :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾للإشارة إلى تأكيد معنى المعاندة لله تعالى عند موالاة الكافرين، فإن كلمة نفس تقال لتأكيد التعبير عن الذات، كما يقول القائل : خاصمت زيدا نفسه، وغاضبت عمروا نفسه ؛وللإشارة إلى ان ما ينزله الله تعالى مغيب غي معلن الآن ؛إذ إن التعبير بالنفس يكون لما يخفى في أطوائها، كما قال الله تعالى عن نبيه عيسى :﴿ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك انت علام الغيوب١١٦ ﴾[ المائدة ].
وهذا التحذير من ذات الله تعالى تحذير ممن يكون عقابه أدوم بقاء، ونقمته أكثر استمرارا ؛ولذا قال بعد ذلك :﴿ وإلى الله المصير ﴾أي إليه وحده المآل وانتهاء امر العباد، فلا يكون ثمة معقب لما يقول ويفعل، والمصير إليه حيث تذهب سطوة الكفار الذين يمالئونهم على المؤمنين ويوالونهم دون المؤمنين ؛فإن كانت للكافرين قوة ظاهرة في الدنيا فهي حال ليست باقية، والمصير إلى الله والعاقبة للمتقين، وإن كان للكافرين عزة في الأرض فاجرة، فالعزة الحقيقية لله ولرسوله وللمؤمنين.
وجعل البيان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد ان وجه سبحانه وتعالى الترهيب بذاته العلية ؛لأن ذلك التنويع من شأنه ان يربي المهابة، كما يقول ذو السلطان محذرا مخوفا : أحذركم مخالفتي، ثم يتركه لصفى من أصفياءه يبين له مدى سلطانه وقوته وعلمه.
﴿ ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شئ قدير ﴾في هذا بيان شمول علم الله تعالى وشمول قدرته، فهو يعلم سرائر النفوس وظواهرها، كما بين في الجملة السابقة، ويعلم الكون وما يجري فيه من نجوم سارية، وأفلاك دائرة، وشمس مشرقة، وقمر منير، والسحاب وما تحمل، والرياح المسخرات بين السماء والأرض، ويعلم كل الأحوال، وكل الأزمان، وكل اللحظات، وجميع الأوقات، وما من شئ في هذا الوجود إلا تحت سلطان علمه، وفي متعلق إرادته، وفي شمول قدرته ؛إنه فعال لما يريد ؛فكيف يتصور من عاقل أن يترك ولاية المؤمنين وهم أولياؤه، ويدخل في ولاية الكافرين وهم أعداؤه ؟فإن كانت الولاية للعزة والقدرة والسلطان والعلم، فلله وحده العزة والكبرياء في السموات والأرض. وقد ذكر سبحانه شمول القدرة بعد شمول العلم ؛لأن القدرة الكاملة لا تكون إلا عن العلم الكامل، فكمال القدرة من مظاهر كمال العلم. ولقد قال الزمخشري في معنى هذا النص الكريم :"هذا بيان لقوله :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾لأن نفسه، وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات متصفة بعلم ذاتي، لا يختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها، وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدرات كلها، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة فلاحق به العقاب، ولو علم بعض عبيد السلطان انه أراد الاطلاع على أحواله فوكل همه بما يورد ويصدر، ونصب عليه عيونا، وبث من يتجسس على بواطن أموره، لأخذ حذره وتيقظ في امره، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به، فما بال من علم ان العالم بالذات الذي يعلم السر وأخفى وهو آمن، اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك"
﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ﴾المعنى الجملي للنص الكريم : خافوا الله واحذروه، واخشوا حسابه وعقابه، وارجوا ثوابه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ظاهرا ثابتا واضحا، كأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأي العين، وما عملت من شر معلوما كذلك كأنه رأى بالحس والبصر، وتود كل نفس ان لو يتأخر أمدا طويلا بعيدا، وذلك لأن ما يخافه الإنسان يتمنى ان يتأخر ويؤجل ؛ليكون عنده أطول فسحة من الأمان. وهنا عدة مباحث لفظية تجلى المعنى :
المبحث اللغوي الأول-متعلق﴿ يوم تجد ﴾ : لقد ذكر العلماء ثلاثة توجيهات ؛أولها ذكره الزمخشري انه متعلق ب"تود"والمعنى : تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا أي زمنا طويلا وقت ان تجد كل ما عملت محضرا من خير او سوء.
وهذا يؤدي على ان من عملت خيرا تود أمدا بعيدا، ومع من عملت سوءا، مع ان رجاء الثواب يسوغ تمنى المسارعة لا تمنى التأجيل ؛ولهذا لا نوافق عليه.
والوجه الثاني : أنه متعلق بقوله تعالى :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾بدليل قوله تعالى مكررا التحذير، فقال :﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾مرة أخرى، ولكن يرد على هذا بعد القول، ومجئ جملة مستقلة بينهما، واختلاف القائل ؛فالأول من قول الله تعالى والتحذير من الله، والثاني من قول النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله ولكن يرد على هذا الاعتراض بأن قوله تعالى :﴿ قل عن تخفوا ما في صدوركم او تبدوه ﴾معترضة بين كلامين متلازمين للمسارعة بإثبات شمول علم الله تعالى وقدرته.
التوجيه الثالث : انه متعلق بمحذوف تقديره : اذكروا، وهذا أسلمها في نظري.
المبحث اللغوي الثاني-قوله تعالى﴿ وما عملت من سوء ﴾أهي معطوفة على﴿ ما عملت من خير ﴾ أم"ما"مبتدأ خبره"تود" ؟أظهر الأقوال انها مبتدأ وجملة تود خبر، والمعنى : ما عملت : ما عملت من خير تجده محضرا، وما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمد بعيد.
المبحث الثالث-الأمد اسم للزمان كالأبد يتقاربان، لكن الأبد كما قال الأصفهاني مدة من الزمان ليس لها حد محدود، ولا يتقيد، فلا يقال : أبد كذا ؛اما الأمد فمدة لها حد مجهول، إذا لم يضف إلى غاية معينة، فإن أضيف كان محدودا بهذه الغاية. والمعنى ان النفس التي تجد عملها السيئ محضرا تود لو يتأخر أمدا بعيدا، ولكن لا تحقيق لهذا التمني.
ولقد كرر الله سبحانه التحذير من نفسه تذكيرا، وليكون في بال المؤمن دائما، ولبيان أن ذلك التحذير من دواعي الرحمة كما هو من تربية الرهبة، فهو قد ذكر تمهيدا لقوله تعالى :﴿ والله رءوف بالعباد ﴾فتذكير العباد وتحذيرهم من رحمته بهم حتى لا يؤخذوا اخذ عزيز مقتدر، وختمت الآية بهذا التذييل الكريم ؛لإثبات ان عقاب المسئ وثواب المحسن من الرحمة، فليس من الرحمة في شئ ان يتساوى المحسن والمسئ، ولإثبات ام ولاء المؤمنين ومعاداة الكافرين من الرحمة بالعباد، حتى لا يعم الظلم وينتشر الفساد. اللهم وحد الولاية الإسلامية، واجعل المسلمين جميعا بعضهم أولياء بعض.
يؤمن المؤمن رغبة في الثواب، ويؤمن المؤمن خوفا من العقاب، ويؤمن المؤمن إذعانا للحق، ومحبة للرب، وإخلاصا وخلاصا من أدران الهوى، ومآتم هذه الدنيا ؛وتلك أعلى المراتب، وأشرف المناصب، وبها يعلو المؤمن.
وفي الآية السابقة حذر الله المؤمن من نفسه، فقال :﴿ ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير ﴾ وقال :﴿ ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ﴾ فكانت هذه الآية تدعو المؤمن إلى الطاعة ولزوم الجماعة بالترهيب، وفيها إشارة إلى الترغيب في قوله تعالى :﴿ والله رءوف بالعباد ﴾.
وفي هذه الآية يدعو إلى الطاعة لا خوف العقاب ولا رجاء الثواب، ولكن لأن الطاعة تؤدى إلى أعلى منازل السائرين، وهي المحبة : محبة الله لعبده، ومحبة العبد لربه.
قال بعض السلف : ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية المحبة :
﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ﴾الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل سبحانه وتعالى الخطاب منه للنبي صلى الله عليه وسلم إليهم لبيان شرف النبوة وعلوها، ومكانة الاتصال بينها وبين الله سبحانه وتعالى ؛إذ جعل إتباع الرسول يكون من نتائجه محبة الله تعالى.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يخاطب بذلك ويقرره، وان الله تعالى يمضي ما يقرره، علو بمقام الرسالة المحمدية، وبمقام النبوة ؛لأن فيه إشعارا بعظم محبة الله لنبيه، وأنها فوق كل محبة ؛فإذا كان من يتبعه يحبه، فهو إذن في أعلى درجات المحبة ؛ولأن فيه بيان أقوى الاتصال ؛لأن خطابه لهم هو خطاب من الله لهم، بدليل ان المحبة من الله تجئ نتيجة لإتباعه الذي دعا إليه صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾فيه إيجاز معجز، وهو إيجاز حذف دل عليه المقام ؛لأن المعنى : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني، وإن اتبعتموني يحببكم الله ؛لن جواب فعل الأمر في معنى الجزاء، فكان ثمة فعل شرط مقدر ؛وإن هذه الجملة السامية تدل على ثلاثة أمور :
ألهما : أن أول طرق محبة الله تعالى هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن طاعة الرسول طاعة لله تعالى جلت قدرته، و عصيان الرسول عصيان لله تعالى، و ليس من المعقول أن يحب الله تعالى و يعصيه، و لذلك يقول الشاعر الصوفي :
تعصى الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
الأمر الثاني الذي يدل عليه النص الكريم : أن طاعة ومحبة العبد لربه يترتب عليهما حتما محبة الله سبحانه و تعالى لعبده. و أى منزلة للطاعة أسمى من أنه يتبعها حتما محبة الله سبحانه و تعالى.
الأمر الثالث : الذي يدل عليه النص القرآني :﴿ ويغفر لكم ذنوبكم ﴾أن من يصل إلى مرتبة المحبة التي تبتدئ بالطاعة وتنتهي بمحبة الله تعالى يغفر له الله سبحانه وتعالى كل ما كان له من تقصير سابق وإثم قد جلته المحبة عن القلب ؛وذلك لن السيئات أدران تعلق بالقلب، فإذا وصل إلى درجة محبة الله تعالى، بعد قيامه بحق الطاعات، انصهر قلبه بهذه المحبة، وإذا انصهر القلب بالمحبة زال عنه كل خبث ومحا كل درن، فصفا، والله سبحانه وتعالى يغفر لمن يصل إلى هذه المرتبة. ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله :﴿ والله غفور رحيم ﴾ :
وصفان كريمان للذات العلية : أولهما انه غفور ؛أي انه كثير الغفران لعباده ؛لأن فعول تدل على المبالغة، ووصف الله تعالى نفسه بهذا الوصف للإشارة إلى انه يحب من عباده الطاعة، ويحب ممن عباده التوبة ؛فهو ليس كحكام الدنيا الذين يفرضون العقاب ولا يتمنون لرعاياهم الخلاص منه، بل يتمنون إنزال العقوبة بهم، والله سبحانه وله المثل العلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم يقبل التوبة عن عباده، ويحب المغفرة، ولذلك وصف بالتواب ؛فالعقاب ليس لذاته، ولكن لكيلا يتساوى المسئ بالمحسن، وليحمل المسئ على الطاعة ويستمر المحسن على إحسانه.
والوصف الثاني الذي وصف به ذاته العلية : أنه رحيم. وكان من رحمته ان قبل التوبة وغفر الذنب، ومن رحمته انه أرسل الرسل بالبينات ليقيموا القسط بين الناس، ويعلموا هذه الشرائع التي بها صلاح الدنيا، وبها تقوم على الخير والفضيلة ؛ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين١٠٧ ﴾[ الأنبياء ]، وكان من رحمته ان سن العقاب للمسئ المستمر على إساءته الموغل في الفساد ؛فإن من يفسد في الأرض يكون من الرحمة عقابه، ومن لا يرحم الناس كان من مقتضى الرحمة بالناس ان لا يرحم ؛ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم"من لا يرحم لا يرحم"١.
وقبل ان نترك الكلام في هذه الآية الكريمة، لابد من الإشارة الواضحة إلى أمرين :
أولهما : في معنى الإتباع الذي يوجب المحبة، ومعنى ترتيب المحبة على الإتباع.
وثانيهما : التعريف بهذه المحبة التي يتصف بها العبد، وتترتب عليها محبة الله تعالى : أهي الطاعة ام شئ أعلى من الطاعة ؟وما محبة الله : أهي الرحمة أم امر أعلى من الرحمة والإحسان، ولله الفضل والمنة في كل حال.
أما بالنسبة للأمر الأول ؛فإن النص الكريم﴿ قل عن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾يفيد الطريق والغاية، أو الدليل والنتيجة ؛اما الطريق فهو إتباع الشريعة، وأما الغاية القصوى فهي محبة العبد لربه، ومحبة الرب لعبده، أي تبادل المحبة بين الخالق والمخلوق، وكل بما يليق به، وبما يتفق مع نوع وجوده ؛فواجب الوجود وذو الكمال المطلق جل جلاله محبته تليق بذاته العلية، وجائز الوجود الحادث المخلوق محبته حال يتفق مع حدوثه، ونقص وجوده.
وقد فصل الله الإتباع الذي يوجب المحبة السامية بعض التفصيل في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم... ٥٤ ﴾[ المائدة ].
فعلامات الإتباع التي يترتب عليها ان يحبهم الله ويحبوه، أربع :
أولها : أنهم أذلة على المؤمنين، وقد قال عطاء في هذا : إنهم للمؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته :﴿ أشداء على الكفار رحماء بينهم... ٢٩ ﴾[ الفتح ].
والعلامة الثانية : انهم أعزة على الكافرين، أي لا يخضعون للكافرين ولا يحالفونهم على المؤمنين، ولا يختارون ان يدخلوا في ولايتهم ويتركوا ولاية المؤمنين.
العلامة الثالثة : الجهاد في سبيل الله بالنفس واللسان والمال، وذلك هو تحقيق دعوى المحبة.
والعلامة الرابعة : انهم لا يأخذهم في الله لومة لائم، وهذه علامة صحة المحبة، فكل أخذه اللوم عن محبوبه فليس بمحب على الحقيقة٢
تلك هي آيات الإتباع الذي يوجب هذه المحبة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان الذي يوجب هذه المحبة، فقال :"أن يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما"٣ وهذا الوصف هو الجامع لكل المارات التي لا يند عنه٤ شئ منها.
هذا هو القول في المر الأول، وهو الإتباع الذي تترتب عليه المحبة. بقى ان تتكلم في المر الثاني وهو التعريف بالمحبة التي تكون من الله للعبد، والمحبة التي تكون من العبد لله تعالى :
اما محبة الله فحال من أحوال الذات العلية لا نعرف كنهها، ولا ندرك حقيقتها وهي تليق بذاته الكريمة، وتتفق مع صفات الجلال والكمال التي يتصف بها واجب الوجود، والذي خلق بقدرته كل موجود، وهي غير الإحسان، وإن كانت من فضل الله، وغير الرحمة، وغير الرضا ؛لن الله سبحانه وتعالى جعلها لبعض عباده، والإحسان والرحمة يعمان كل موجود، والرضا وغن جعله جزاء أعلى للمحسنين، كما قال في جزاء المؤمنين بعد ذكر الجنات والنعيم المقيم :﴿ ورضوان من الله اكبر... ٧٢ ﴾[ التوبة ]نجد المحبة أكثر منه. وقد ذكرها الله سبحانه اللفظي لهما متغاير، وإن كانت المحبة تتضمن الرضا لا محالة، بل إنها لا تكون إلا حيث يكون أقصى الرضا، هذه إشارة إلى محبة الله لبعض عباده الذين اصطفاهم.
وأما محبة العبد لربه، فقد قال الحارث المحاسبي في تعريفها بأنها : الميل بكليته لربه، وإيثاره على نفسه وماله، ثم مرافقته له سرا وجهرا، ثم اعتقاده تقصيره في حقه مهما يؤد من واجبات وطاعات.
ومحبة العبد لربه غير طاعته المجردة لأوامره ونواهيه، وغن كانت ملازمة للإتباع المطلق للأوامر والنواهي، وفي الحقيقة عن طاعة العبد لربه لها مرتبتان :
أولاهما : الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب، والثانية : الطاعة محبة لله تعالى ولقد قال في هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم في وصف بعض أصحابه"نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه". ولقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين المتقين :﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه عن عذاب ربك كان محذورا٥٧ ﴾[ الإسراء ]فإن هذا النص الكريم ذل على أن ثمة مقامين جليلين : مقام الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب، والطاعة بالتوسل إلى الله والتقرب منه، كما قال تعالى :﴿ أيهم أقرب ﴾وهذا مقام الطاعة محبة وازدلافا إليه سبحانه، وهذه هي الوسيلة المبتغاة، والمحبة المرتجاة، وإن المحبة تقتضي الأنس بذكر الله تعالى، فتكون النفس ممتلئة بالسرور لقرب الله، ومعرفة الله، وكمال العبودية له، والشعور بكمال ألوهيته، حتى يستغرق ذلك كل حسه، وكل نفسه وقلبه، ولا يكون موضع لتذكر سواه.
والمحبة هي غاية التصوف العالي وسمته وعنوانه ؛ولذا يقول ابن القيم في مدارج السالكين :"المحبة سمة هذه الطائفة المسافرين إلى ربهم، الذين ركبوا جناح السفر إلى، ثم لم يفارقوه على حين اللقاء، وهم الذين قعدوا على الحقائق، وقعد من سواهم على الرسوم".
والمحبة ثلاث درجات :
أولاها : استغراق النفس بذكر الله، فلا يرتفع إلى مقامه في القلب ذكر شئ سواه، ويصف الهروي في"منازل السائرين"تلك المحبة بأنها : تقطع الوساوس، وتسلي عن المصائب، وتثبت تلك الدرجة من الشعور بقوة الله، ومن إتباع السنة المحمدية، والشعور بالحاجة والفاقة إليه تعالى.
والدرجة الثانية : وهي أعلى من هذه في درجات المحبة-هي التي يلهم فيها اللسان بذكر الله بعد امتلاء القلب، والجوارح بإيثار الحق، ويقول فيها ابن القيم :"فيها مطالعة الصفات، وشهود معاني آياته المسموعة، والنظر إلى آياته المشهودة. وكل منها داع قوي إلى محبته سبحانه ؛لأنها أدلة على صفات كماله، ونعوت جلاله، وتوحيد ربوبيته وألوهيته، وعلى حكمته وبره وإحسانه، ولطفه وجوده، وكرمه وسعة رحمته، وسبوغ نعمه، فإدامة النظر فيها داع لا محالة على محبته"٥.
والدرجة الثالثة : المحبة التي يكون فيها الشهود بنور القلب. وجاء في"منازل السائرين"في هذه المحبة( هذه المحبة هي قطب هذا الشأن، وما دونها محاب نادت عليها الألسن، وادعتها الخليقة وأوجبتها العقول ).
هذه إشارات موجزة إلى ما يقوله اهل التصوف في المحبة بين العبد وربه، وقد قبسنا منها قبسه نرجو ان تضئ في هذا الموضوع، وإن كانت لا تدفئ.
وإن العبرة في هذا الموضوع هي ان الشريعة لا يصح ان تنسى حتى في أعلى مقام للمحبة، فإنها هي الدليل المرشد، والمصباح المنير لمن يريد ان يصل إلى أحكام الشرع وهو طريق المحبة عند اهل السنة ا
٢ جاء في هامش الأصل: راجع في هذا الجزء الثالث من"مدراج السالكين}، ابن قيم الجوزية، ص١٤..
٣ البخاري: الإيمان-حلاوة الإيمان(١٥)، مسلم: الإيمان(٦٠)..
٤ أي لا يشرد. ند البعير يند ندودا إذا شرد. لسان العرب-باب النون-ندد..
٥ مدارج السالكين ج٣ ص٢٥.
.
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعوهم على طاعة الله وطاعته، وهو معنى الإتباع في الماضي، وتكرر المر بهذه الصيغة للإشارة إلى ان إتباع الرسول هو طاعة لله وللرسول، فمن اتبع الرسول لا يطيع الرسول فقط، بل يطيع الله رب العالمين، وما كان الرسول ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، والسبب في التكرار في ذاته هو تأكيد المعنى الذي قررناه، وهو ان محبة العبد للرب ليس لها طريق إلا الإتباع، ولذا يقول الزمخشري في الكشاف :"من ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب، وكتاب الله يكذبه، وإذا رأيت من يذكر محبته، ويصفق بيديه مع ذكرها، ويطرب وينعر ويصفق، فلا تشك في انه لا يعرف ما الله، ولا يدري ما محبة الله. وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته غلا لأنه تصور في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله ودعارته ثم صفق وطرب ونعر صعق، على تصورها".
وهنا إشارة بلاغية تتفق مع المقصد الأسمى من الآيتين الكريمتين، وهو إثبات ان محبة الله تعالى طريقها المستقيم الذي لا عوج فيه هو إتباع الرسول، وتلك الإشارة انه سبحانه قال :﴿ قل أطيعوا الله والرسول ﴾فقد ذكر الأمر بالإطاعة غير مكرر عند العطف، فلم يقل : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وعدم التكرار يومئ إلى ان الطاعة واحدة، وان إطاعة الرسول إطاعة لله تعالى، كما صرح سبحانه وتعالى بذلك في قوله تعالى :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا٨٠ ﴾[ النساء ]وإن من إعجاز القرآن الكريم ان تكون العبارات والإشارات البيانية كلها تتجه إلى مقصد النص الكريم وترشح له.
﴿ فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ﴾أي فإن اعرضوا عن إتباع ما تدعوهم وهو إتباعك الذي به تكون إطاعة الله ومحبته، فإنهم لا ينالون محبة الله تعالى ؛لأنهم كافرون ؛إذ تعمدوا الا يطيعوك، وأنكروا ان إتباعك طريق محبة الله رب العالمين. ففي هذا النص الكريم دلالة على ان محبة الله لا ينالها غلا من يتبع الرسول بأبلغ ما يكون من بيان، وذلك لوجوه :
أولها : انه سبحانه عبر بأنه لا يحبهم، وليس بعد نفي الحب إلا البغض والسخط، فالله ساخط على من لا يتبعون الرسول، وإذا كان رب العالمين ساخطا عليهم، فمن المؤكد انه لم يعتبر حالهم حال من يحبونه ويبتغون رضاه.
وثانيها : أنه عبر عن تركهم إتباع الرسول بالتولي وهو الإعراض، وكيف يكون طالبا لمحبة الله من يعرض عن طاعة الله.
وثالثها : أنه سبحانه وتعالى عبر عنهم في حال الإعراض متعمدين منكرين بأنهم كافرون، وكيف يكون محبا لله ومحبوبا من الله من يكون كافرا بأوامره، منكرا لرسالته، معاندا لرسوله !إن ذلك في القياس غريب.
اللهم وفقنا لاتباع نبيك لنرتفع إلى مقام من يحبونك، ولننال سمو محبتك. فقد قال نبيك وقوله الحق :"إن الله إذا احب عبدا دعا جبريل فقال إني احب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول : إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا ابغض عبدا دعا جبريل، فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه، قال : فيبغضه جبريل ثم ينادي في اهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض"١.
أشار سبحانه وتعالى في الآيات السابقة إلى اختلاف المشركين وقتالهم المؤمنين وإلى اختلاف اهل الكتاب فيما بينهم، وقال سبحانه وتعالى :﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم بغيا بينهم... ١٩ ﴾[ آل عمران ]، ثم أشار سبحانه إلى محبته لعباده الذين يطيعونه ومحبتهم له، ورأفته سبحانه وتعالى بعباده، وسبق رحمته لغضبه وفي هذه الآيات :﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ﴾بين سبحانه وتعالى وحده الإنسانية التي ما كان يسوغ معها خلاف إلا ممن ضل سبيل الهداية، ووحدة النبوة والرسالة الإلهية، التي وحدت بها شريعته تعالى، وما كان يسوغ بعد هداية الله تعالى خلاف إلا إذا كان الضلال. ثم بين سبحانه من يجتبيهم ومن يصطفى ويحب من عباده، وكيف يحبونه هم ويخلصون لذاته العلية : بأن يسلموا وجوههم له سبحانه وتعالى، ويحررون أولادهم لعبادة الله تعالى.
وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذا أربع قصص، كلها يصور قدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته في خلقه، ولا تخلو واحدة منها من خوارق العادات.
وأولى هذه القصص : قصة مريم البتول، وكيف كانت خالصة لله تعالى مذ حملت بها أمها، حتى ولدت، ولزمت المحراب، وكفلها زكريا، وكيف كانت مرزوقة مكفولة يأتيها رزقها رغدا بغير حساب.
والقصة الثانية : قصة زكريا، وكون الله سبحانه وتعالى قد وهب له يحيى، مع انه قد بلغ من الكبر عتيا، وامرأته عاقر، وبذلك خرقت العادة المعروفة، وهو ان العاقر لا تلد قط، وهذا قد أنجب وقد أصابته الشيخوخة، وامرأته عاقر لا تلد.
والقصة الثالثة : قصة ولادة السيد المسيح عليه السلام، وقد كان ذلك أعظم خرق للعادات، إذ ولد من غير أب، وفي ذلك تتسلسل القصص الثلاث في خوارق تبتدئ بالخارق القريب من المعروف ثم بغير المعروف مطلقا، ثم بالخارق الغريب الذي لم يعرف قط لغير عيسى بعد ان انتشر بنو آدم في الأرض.
القصة الرابعة : قصة حياة عيسى، التي اشتملت على خوارق كثيرة كانت في ذاتها اغرب من ولادته ؛منها : إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله على يديه، وهكذا غيرها.
وقصص القرآن ليس المقصود منه مجرد السرد التاريخي، كما يسجل التاريخ وتدون قصصه، إنما قصص القرآن المقصود به أولا : العظة والاعتبار، كما قال تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لولي الألباب... ١١١ ﴾[ يوسف ]، ثم ثانيا : إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ؛وذلك لن هذا القصص الحق يتفق مع الصادق من كتب اهل الكتاب يجري على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس إلى معلم، ولم تعرف ملازمته لحد من اهل الكتاب حتى يطلعه على ذلك، بل كان المنقطع في بلد أمي ليس به علم يدرس، ولا فلسفة تبحث. ثم المقصود ثالثا : بيان وحدة الشرائع الإلهية السماوية ؛ لأنها جميعها تنبعث عن مصدر واحد، وهو رب السموات والأرض وما فيهما ؛ فبيان قصص النبيين السابقين وما كانوا يلقون في الدعوة إلى التوحيد دليل على ان التوحيد هو الوحدة الجامعة بين كل الشرائع، وهو الحد الفاصل بين ما هو من السماء، وما هو من إفك أهل الأرض. وفي بيان قصص النبيين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسرية عن شدائده بالاستبصار فيما لقيه غيره من عنت.
وفي قصص النبيين وكفر أقوامهم مع الآيات الحسية التي اتى بها النبيون بيان ان الكفر ليس منشؤه نقصا في البينات، ولكنه ينشأ من الجحود وغلبة الهوى، والإعراض عن مناهج الاستدلال الصحيح. ولعل أوضح مثل لذلك، الآيات التي أجراها الله تعالى على عيسى عليه السلام ؛فما كانت وراءها آيات تقرع الحس، وتدل على خوارق العادات كهذه الآيات، ومع ذلك كفروا وما آمنوا، وما ازدادوا إلا طغيانا وعتوا.
هذه تقدمة نقدم بها قصة أولئك الأبرار الأطهار، ونبتدئ بما ابتدأ به القرآن الكريم من قصة مريم البتول :﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ﴾ :
معنى الاصطفاء : طلب الصفوة من كل شئ، ولذلك قالوا إن معناها اختارهم مؤثرا لهم على غيرهم، وفي التعبير بالاصطفاء إشارة إلى ان آدم و نوحا، وآل إبراهيم وآل عمران هم صفوة الناس والتعبير بعلى في قوله تعالى :﴿ على العالمين ﴾إشارة إلى معنى التفضيل على غيرهم من الناس ؛فهم صفوة الناس، وهم مفضلون على كل الناس. وآل إبراهيم هم أسرة إبراهيم بفروعهم، سواء منهم من أووا إلى مكة وكان منهم صفوة الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كانوا في الأرض المقدسة وكان منهم النبيون من بعد ؛وآل عمران هم ذرية عمران، وهو أبو مريم البتول، ومن ذرية عمران السيد المسيح عليه السلام الذي خلقه رب العالمين بكلمة منه هي"كن".
وإن في ذلك التسلسل إشارة إلى ان الخليقة لم تخل من هاد يهديها إلى الحق وإلى صراط مستقيم ؛ فقد ابتدأت الهداية بأبي الإنسانية آدم كما قال تعالى :﴿ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ١٢٢ ﴾ [ طه ] فهو اول خليفة، وأول هاد للإنسانية بمقتضى أبوته، وبمقتضى اجتباء الله تعالى له، وقد حكم بأنه هداه، واهتدى به بنوه من بعده.
ثم جاء نوح من بعده بسنين وقرون لا يعلمها إلا علام الغيوب، وهو الأب الثاني للخليقة، فاصطفاه رب العالمين للهداية كما قال تعالى :﴿ وكلا هدينا ونوحا هدينا من قبل... ٨٤ ﴾[ الأنعام ].
ثم جاء من بعد ذلك قرون لا يعلمها إلا فاطر السموات والأرض أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فكان هو وآله من أقارب كلوط وذريته التي جاءت من بعده فيها صفوة الخلق وفيهم النبوة، فكان منهم إسماعيل ومحمد في فرع، وإسحاق وبنوه في فرع آخر، وكان من هؤلاء آل عمران وهم ذرية عمران و أقاربه كزكريا ويحيى عليهما السلام، ومن تلك الدوحة النبوية عيسى عليه السلام الذي ختمت به تلك الشعبة من أولاد إبراهيم. وتسلم الرسالة الخالدة إلى يوم القيامة الفرع الثاني من أولاد إبراهيم وهم ذرية إسماعيل، فكان محمد، وبه ختمت الرسالة الإلهية في هذه الأرض. وعمران هذا هو ابو مريم كما نصت على ذلك الآية التالية، ولا حاجة لفرض انه عمران آخر، وهو أبو موسى، فذكر اسم واحد في مقام واحد يشير إلى ان المدلول واحد، ولا حاجة إلى فرض التغاير. وكلمة الآل تشمل الأقارب من العصبات، والذرية.
الذرية هم الفروع من الأولاد وأولادهم مهما نزلوا، وأصلها من مادة"ذرأ"وقيل منّ الذرو"وقيل من ّالذر"، وكل هذه الألفاظ تنتهي إلى التكوين والتفريع فرعا من بعد فرع ؛ومعنى النص الكريم ان أولئك المصطفين الأخيار بعضهم ذرية من بعض، فهم متصلوا النسب بسلسلة لا تنقطع ؛فنوح من ذرية آدم، وآل إبراهيم من ذرية نوح، وآل عمران من ذرية آل إبراهيم، وهكذا، فهي سلسلة متصل بعضها ببعض في النسب والهداية. ويترتب على ان بعضهم من بعض ان تتشابه صفاتهم في الخير والفضيلة ما داموا جميعا مصطفين، وما داموا جميعا من سلسلة ونسبة واحدة. وقد قال بعضهم عن معنى﴿ ذرية بعضها من بعض ﴾أنهم متشابهون، كقوله تعالى :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض... ٦٧ ﴾[ التوبة ]فهم يشبه بعضهم بعضا، وهم ذرية واحدة لآدم. والحق ان ذلك المعنى يجئ بالالتزام من المعنى الأول فليس مغايرا له من كل الوجوه.
ثم ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله :﴿ والله سميع عليم ﴾إشارة إلى كمال إحاطته، وإلى أنه إذ اصطفى هؤلاء اصطفاهم على علم كعلم من يسمع، أي انه علم دقيق لا يخفى على الله شئ في الأرض ولا في السماء، وإن ذلك النص الكريم فيه تمهيد لما سيتلى من بعد، وهو قول امرأة عمران، فقد قال تعالى حاكيا عنها :﴿ وإذ قالت امرات عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك انت السميع العليم ﴾
وعمران : هو أبو مريم بهذا النص، وهو عمران المذكور اولا كما ذكرنا، وفرض المغايرة بأن يكون الأول عمران أبا موسى، وان عمران هذا هو ابو مريم، تكلف لا حاجة إليه، وليس في النص ما يدل عليه.
قصدت امرأة عمران تلك العبادة واحتسبت هذه النية راجية ما عند ربها، وأول رجائها ان يقبل نذرها ؛ولذلك تضرعت إليه ان يقبل فقالت :﴿ فتقبل مني إنك انت السميع العليم ﴾. أي أضرع إليك ان تقبل نذري، فإنك سمعت ما قلت، وما حدثت به نفسي، وما احتسبت به القربى عندك، فكان النذر بذاته عبادة، وكان الدعاء بالقبول عبادة أخرى، فإن الدعاء مخ العبادة، خصوصا في ذلك المقام الروحاني السامي الجليل، والتقبل هو الأخذ بالأمر في طريق القبول، حتى يتم القبول، فكأنها ما كانت تطمع في القبول بادئ ذي بدء، بل تطمع في أن ينظر في المر نظرة رضا حتى ينال القبول، وتلك مرتبة الصديقين يستصغرون أعمالهم بجوار رضا الله. ولقد كانت إجابة الله تعالى لهذه العبادة التي طويت في ثنايا النذر، والعبادة الأخرى التي طويت في ثنايا ذلك الدعاء الضارع، ما حكاه بقوله تعالى من بعد لما وضعتها :﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن ﴾.
﴿ فلما وضعتها قالت رب غني وضعتها أنثى والله اعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ﴾أي انها قدرت الحمل ذكرا، وقدرت لذلك أن يكون في خدمة البيت وأنها لذلك تتحسر ؛لأنه لا يستطيع المولود بعد ان تبين انه أنثى الخدمة، فليس في هذه الخدمة المقدسة الذكر كالأنثى، فإن الأنثى لا تستطيع ذلك. وقوله تعالى :﴿ والله اعلم بما وضعت ﴾جملة معترضة بين كلاميها ؛وهي تشير إلى ان الله تعالى اعلم منها بما وضعت، فليس لها هذا الاعتذار لأن من تعتذر إليه، وتتحسر بين يديه اعلم منها بما وضعته ؛لأنه هو الذي خلقة وجعله أنثى، وهو اعلم بما يصلح له، وهو وحده العليم بما هيأ له في لوح القدر، فإذا كانت لا تستطيع خدمة البيت كالذكر فقد اختارها رب العالمين ليكون منها عيسى عليه السلام من غير أب ؛ولذا قال الزمخشري في هذا :"قال الله تعالى :﴿ والله اعلم بما وضعت ﴾تعظيما لموضوعها.. ومعناه والله اعلم بالشئ الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور، وان يجعله وولده آية للعالمين، وهي جاهلة بذبك لا تعلم عنه شيئا". وقوله تعالى :﴿ وليس الذكر كالأنثى ﴾إما من كلام الله فيكون في الجملة المعترضة، ويكون المنى وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي أعطيت في الشرف والمكانة والعبادة بل هو دونها، وهذا هو الظاهر ؛وإما ان يكون من كلامها وهو غير الظاهر ؛إذ يكون الأولى حينئذ التعبير بقولها : وليس الأنثى كالذكر لأنها ترى الذكر أفضل.
ومع ان هذه التقية تتحسر على ان مولودها لم يكن ذكرا كما قدرت ؛ليكون في خدمة بيت الله تعالى كما نوت، فقد رضيت بما وهب الله تعالى، وضرعت غليه ان يهديها ولذا قالت :
﴿ وإني سميتها مريم وغني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ﴾فهي قد اختارت الاسم راضية بما أعطيت، قال الزمخشري في الكشاف :"وغن اختيار الاسم فيه تقرب إلى الله تعالى ؛لأن مريم في لغتهم معناها العابدة والخادم فأرادت بذلك التقرب إلى الله، والطلب إليه ان يعصمها، حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها، وان يصدق فيها". ولذا طلبت إلى ربها ان يعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم. ومعنى الإعاذة ان تكون في ملجأ من الله تعالى يعصمها من الشيطان ؛وذلك لن التعوذ الالتجاء. فمعنى أعوذ بالله ألجأ إليه، واتخذ منه معاذا ؛ومعنى أعذته بالله من الشيطان جعلت الله تعالى معاذا له منه، وهذه الإعاذة كانت دعاء من الله تعالى، فكان هذا الدعاء عبادة أخرى. وهكذا اقترنت ولادة مريم وحملها من قبل بعبادات متضافرة متوالية مستمرة، وضراعة تدل على خلاص النفس وإسلام الوجه لله تعالى.
والشيطان : ما يوسوس في النفس، وهو يجري من الإنسان مجرى الدم. والرجيم أي المطرود المنبوذ من رحمة الله من وقت قال له رب البرية :﴿ قال فاخرج منها فإنك رجيم٣٤ وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين٣٥ ﴾[ الحجر ]. وإن الله تعالى عصم بهذا الدعاء مريم وابنها من ان يمسها الشيطان. وقد ورد في ذلك بعض الآثار.
ولقد قال الزمخشري في ذلك : يروى من الحديث"ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها"١ فالله اعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى :﴿ ولأغوينهم اجمعين٣٩ إلا عبادك منهم المخلصين٤٠ ﴾[ الحجر ] واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي :
لما تؤذن به الدنيا من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ﴾قلنا عن التقبل هو اخذ المر بالنظرة الراضية المستحسنة غير المستهجنة، ويكون القبول نتيجة له، وقد ضرعت ام مريم ان يؤخذ نذرها مأخذ الرضا والاستحسان من ربها، فيقبل، وقد أجاب الله دعاءها، وعلى ذلك لا يكون التقبل بمعنى القبول، ولقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني( إنما قال :﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن ﴾، ولم يقل : بتقبل حسن ؛للجمع بين الأمرين التقبل الذي هو التدرج في القبول، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة ).
هذا هو قبول النذر، أما إجابة الدعاء وهو الا يمسها الشيطان او لا يكون له سلطان عليها ؛ لأنها من عباد الله المخلصين، فقد بينه الله تعالى بقوله :﴿ وأنبتها نباتا حسنا ﴾أي أنشاها برعايته ومحبته وحصنها، وكانت حالها كالنبات ينبته رب العالمين فينمو يوما بعد يوم حتى يستوي على سوقه، فكذلك كان مع مريم : تولى رعايتها من المهد، وغذاها بغذاء من الروح، فبعدت عن كل شر، وغذاها ونماها جسميا، فجعل لها رزقا مستمرا يأتيها من حيث لا تحتسب، ولا يحتسب كافلها، اما التنشئة الروحية التهذيبية فقد كانت : بأن نشأت في بيت العبادة، وغن كان الكافل لها نبيا من الأنبياء، وأما الثاني فبالرزق المستمر كما أشرنا، وقد ذكرهما الله تعالى بقوله :
﴿ وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ﴾ :
﴿ وكفلها ﴾ : أي ضمها إلى زكريا ؛لأن الكفالة في أصل معناها الضم، وقد ضمها إليه لتكون في رعايته، وكان ذلك بإرادة الله، ونتيجة اقتراع كان بينهم ؛ذلك بأن الصالحين من قومها تنازعوا فيمن يكفلها، فاقترعوا فكانت القرعة لنبي الله زكريا ؛ولذا قال سبحانه :﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم غذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم غذ يختصمون٤٤ ﴾[ آل عمران ] فكانت تلك القديسة الطاهرة في رعاية نبي، وتربت في مهد النبوة، لتكون هي وابنها آية للعالمين.
وأما كفالة الله تعالى لرزقها، فقد أشار إليها سبحانه بقوله :﴿ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ﴾المحراب هو مقدم بيت العبادة، فكأنها كانت في عكوف دائم بالمسجد منذ غرارة الصبا، بل كان ذلك وهي بالمهد، والرزق كان يجئ من حيث لا يحتسب كافلها، إما من هبات توهب لها، أو من فيوض الله تعالى عليها، وهو خالق كل شئ، فمن خلق من العدم كل هذه الموجودات قادر على ان يؤتى لهذه المصطفاة رزقا جاريا لا يعلمه إلا هو، وهو على كل شئ قدير. ومن أنكر ذلك، فقد أنكر علم الغيب، وهذا التخريج الأخير هو ما نراه حقا ؛ولذا عجب زكريا منه، فقال سبحانه حاكيا عنه :
﴿ قال يا مريم انى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾عجب نبي الله فقال : أنى لك هذا ؟أي من أين لك هذا ؟فإن أنى تكون بمعنى كيف، كما قال تعالى :﴿ فأتوا حرثكم انى شئتم... ٢٢٣ ﴾[ البقرة ]وتكون بمعنى من أين، وهي هنا كذلك ؛عجب نبي الله من هذا الرزق، وما كان العجب إلا لأنه لا يعرف سببه، ولو كان يعرف انها هبات تأتيها ما ثار عجبه، ولقد كانت إجابتها إجابة الربانيين الأبرار ؛﴿ قالت هو من عند الله ﴾. أكدت انه رزق الله، ولذلك أتت بالضمير، ثم أكدت ذلك بما يزيل العجب، فقالت :﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾أي ان رزق الله كثير غير محدود بحد، ولا مقدر بقدر ؛ولذا لا يحده الحساب، ولا تجري عليه الأعداد التي تنتهي. ويصح ان تكون هذه الجملة السامية من كلام الله تعالى لتقرير ما قالت، وبيان ان الله أجرى عليها الرزق لينمو جسمها مع نمو روحها، ويتم لها الإنبات الحسن في الجسم والروح معا، والله سبحانه وتعالى على كل شئ قدير.
في الآيات السابقة ذكر سبحانه قصة ولادة مريم، وفي هذه الآيات يقص ولادة يحيى، وإن ولادة مريم كانت ذات صلة وثيقة بولادة يحيى عليه السلام، تتدرج في خوارق العادات، تبتدئ بالقريب من المألوف ثم تنتهي بخوارق لم يكن للناس بها عهد من قبل.
وانتهينا في قصة مريم البتول إلى ان نبي الله زكريا كفلها، وأنها تربت منذ صغرها في المسجد، بيت الله المقدس، وان الله أفاض عليها بالخير والنعم الظاهرة والباطنة، فملأ قلبها إيمانا وروحانية، وغذاها بلبان المعرفة، وبغذاء مادي طيب.
ولقد كان زكريا، ومريم تدرج في مدارج الصبا، شيخا هرما يئس من الولاد، ولكنه رأى مريم وتنشئتها على الإيمان والمعرفة ومحبة من الله تعالى، ورآها ترزق بغير حساب، ورأى منها مع صغر السن نجابة وتفويضا وإيمانا راسخا، حن إلى الولد حنينا، ورغب في الذرية، وكان بين حالين متناقضين : حال تلك الرغبة وعدم اليأس من رحمة الله القادر على كل شئ، وحال الكبر الذي أصابه، والشيخوخة الفانية التي هو فيها ؛ولكنه قد تحرك فيه عامل الرغبة عندما تكلم مع مريم في المحراب يسائلها عما عندها من رزق كلما دخل عليها، ؛ولذا قال سبحانه وتعالى في قصته.
﴿ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ﴾ففي هذه الحال التي رأى فيها مريم تغلب فيه جانب الرجاء على جانب اليأس، ولذا قال تعالى :﴿ هنالك دعا زكريا ربه ﴾أي في هذا المكان وهو المحراب الذي كان يلتقي فيه بمريم الفينة بعد الفينة، ويسائلها فيه، وتتكلم بلسان البر والتقوى، تحركت غريزة الأبوة في ذلك المكان المقدس، فدعا ربه. والتعبير بدعا ربه إشارة إلى شعوره بقدرة الله تعالى على كل شئ، إذ هو ربه الذي ذراه ونماه صغيرا، حتى بلغ أشده ثم تولاه حتى بلغ من الكبر عتيا، فقد اتجه إذن في دعائه إلى الرب القادر العليم الذي أبدع كل شئ على غير مثال سبق، قال :﴿ رب ﴾أي خالقي الذي خلقني، وخلق كل شئ من طين، وصدر عنه كل ما في الوجود بإرادته العالية :﴿ هب لي من لدنك ﴾أي أعطني انت عطاء كريما لا سبب له إلا إرادتك، ولا باعث عليه إلا رحمتك، فلا يكون المر فيه جاريا على مقتضى الأسباب ومسبباتها، إنما يكون على مقتضى الهبة المجردة، والعطاء الخالص الذي لا سبب له إلا إرادتك الأزلية وإلا رحمتك :﴿ من لدنك ﴾أي من عندك ؛أي السبب يكون من عندك لا من عندي ؛لأن الأسباب عندي قد زالت، ولم يعد إلا سبب منك، وإلا معجزة تكون فيها المانح المعطى من غير أي علة او ترتيب. والتعبير ب﴿ لدنك ﴾التي لا تكاد تستعمل في القرآن إلا في جانب الله تعالى يفيد العندية العالية السامية، لا العندية القريبة المقارنة، ولا العندية المقاربة
ودعاء نبي الله ان يهب له ذرية طيبة، فلم يذكر الله سبحانه عنه في هذه الآية سوى انه يطلب ذرية طيبة، والذرية قد بينا معناها من قبل. والطيبة : هي الذرية الحسنة المرغوب فيها التي تكون ذات اثر طيب ؛لأن الطيب هو الأمر الحسن المحبوب المرغوب فيه الذي لا ينتج إلا خيرا، ويأتي بخير الثمرات وأحسن النتائج ؛ومن ذلك قوله تعالى :﴿ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا... ٥٨ ﴾[ الأعراف ].
وبعد ان ضرع هذه الضراعة بدأ رجاؤه في الإجابة بقوله :﴿ إنك سميع الدعاء ﴾أي إنك تعلم بدعائي علم من يسمع، وغن المر إليك إذ علمته وسمعته ؛فإن أجبت فبرحمتك، وغن لم تجب فبحكمتك، فأنت العليم الحكيم، والرحمن الرحيم. والصيغة تفيد قرب الرجاء وإمكان الإجابة.
وفي هذه السورة لم يبين سبحانه شكل الدعاء أكان جهرا ام كان خفيا، وفي سورة مريم بين حاله، وبين نوع ما يطلب من الذرية، فقال سبحانه :﴿ كهيعص١ ذكر رحمة ربك عبده زكريا٢إذ نادى ربه نداء خفيا٣قال رب إني وهن عظمي مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ٤وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا٥يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا٦ ﴾[ مريم ].
وفي هذا النص الكريم يتبين انه مع رجائه كان يذكر شيخوخته الفانية، وكون امرأته عاقرا لا تلد، ومع ذلك تغلب عليه جانب الرجاء، فدعا ذلك الدعاء، وضرع على الله تعالى تلك الضراعة.
﴿ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ان الله يبشرك بيحيى ﴾والتعبير ب"الفاء"يفيد ان النداء كان في زمن قريب من الدعاء. وهنا ثلاث نقط نريد ان نوضحها بعض التوضيح :
أولاها : في النداء ونسبته إلى الملائكة، فهل خاطبه بهذا عدد منهم ؟لقد أجاب المفسرون عن ذلك بجوابين ؛أحدهما : أن الذي ناداه هو جبريل الذي ينزل بالوحي على النبيين، ولقد قال في ذلك التفسير ابن جرير الطبري"يقال خرج فلان على بغال البريد، وغنما ركب بغلا واحدا، وركب السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وكما يقال : ممن سمعت هذا ؟فيقال : من الناس، وإنما سمعه من رجل واحد، وقد قيل إن منه﴿ الذين قال لهم الناس عن الناس قد جمعوا لكم... ١٧٣ ﴾[ آل عمران ] والقائل فيما ذكروا كان واحدا".
هذا التوجيه من قال إن المراد جبريل. و ذكر الملائكة بالجمع إشارة إلى الجنس، أى أن الله سبحانه كان من رحمته به أن أجاب دعاءه، وسارع بتبشيره بإجابته، وكانت الإجابة بملائكته، و إن كان المبلغ واحد.
وأما التخريج الثاني : فهو ان المراد بالجمع من الملائكة ؛لأن من كمال عناية الله تعالى بعباده ان ألقى إليه بالبشرى عدد كبير من الملائكة لا واحد منهم، وهذا ما رجحه ابن جرير ؛ولذا قال :"والصواب من القول في تأويله ان يقال إن الله جل ثناؤه. أخبر ان الملائكة نادته، والظاهر من ذلك انها جماعة الملائكة دون الواحد، وجبريل واحد، فلا يجوز ان يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثرمن الكلام المستعمل في السن العرب دون الأقل، ما وجد إلى ذلك سبيل، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى انه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب ألمخرج بالخفي من الكلام والمعاني"ولا شك ان العدد فيه مبالغة بالتبشير، وكان حال هذا النبي الكريم في يأسه من الولد لشيخوخته الفانية وكون امرأته عاقرا وعجوزا، كان يحتاج فيها إلى عدد من المبشرين ليزول من نفسه كل يأس، ويحل محله الرجاء.
النقطة الثانية : أن النداء الذي وجهته الملائكة كان وهو قائم يصلي في المحراب، فهو في وقت مواجهته لربه، ومناجاته لخالقه، وغنه بابتداء القول بالفاء الدالة على التعقيب من غير تراخ، وكون خطاب زكريا لمريم كان وهو في المحراب، وان الدعاء كان وهو في المحراب، يتبين ان إجابة الدعاء كانت فور الدعاء، فهو قد ضرع إلى الله خالص النية، طاهر النفس والحس فأجاب الله دعاءه على سنته في إجابة المهديين من خلقه دعاءهم، كما قال تعالى :﴿ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين٦٠ ﴾[ غافر ].
النقطة الثالثة : في قوله تعالى :﴿ أن الله يبشرك بيحيى ﴾وهنا قراءتان في ان، إحداهما بالكسر على تضمين النداء معنى القول، أي فنادته الملائكة قائلين عن الله يبشرك بيحيى، والفتح على ان الباء محذوفة والتقدير فنادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى، واقتران التبشير بالتسمية بيحيى للإشارة إلى ان ذلك المولود سيحيى اسمه وذكره بعد موته، وبذلك تتحقق الإجابة الكاملة للدعاء، إذ قال كما في سورة مريم﴿ يرثني ويرث آل يعقوب واجعله رب رضيا٦ ﴾[ مريم ].
وقد أجاب المولى القدير كل دعاء زكريا، فكان المبشر به رضيا في خلقه ودينه ؛ولذا قال سبحانه في وصفه :
﴿ مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ﴾وصفه الله سبحانه وتعالى بصفات أربع كلها بجعل من الله وتكوينه وخلقه : وأولى هذه الأوصاف : أنه كان مصدقا بكلمة من الله، وتصديقه بكلمة من الله اختلف المفسرون في تحرير معناها، لاختلافهم في معنى :"كلمة"، فمنهم من اتجه إلى ان كلمة الله هو المسيح عيسى بن مريم، ما قال تعالى من بعد ذلك لمريم :﴿ يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم... ٤٥ ﴾[ آل عمران ]ويكون المدح في يحيى حينئذ بأنه صدق عيسى وأذعن للحق إذ تبين له، فلم يكن من المعاندين الذين يجحدون بآيات الله تعالى، ويكفرون ببيناته، وسمى عيسى"كلمة من الله" من الله ؛لأنه نشأ بكلمة منه سبحانه، ومن المفسرين من قال إن المراد من كلمة الله تعالى كتابه ؛وذلك لأنه تطلق الكلمة ويراد منها الكلام، وذلك من هذا القبيل، والظاهر عندي هو الأول ؛لأنه في هذا المقام ذكرت كلمة الله على انها المسيح عليه السلام، والاسم المكرر في مقام واحد تكون فيه وحدة المقام دليلا على وحدة المسمى. وكان في هذا التعبير إيذان بأن ولادة المسيح ستكون قريبا من ولادة يحيى وفيه إيماء إلى ان زكريا نبي الله قد أوتي علما بأن المسيح عهده قريب.
والوصف الثاني من أوصاف يحيى : أنه سيد، والسيد فيعل من السيادة، وهي الشرف والتفوق والعلو، وتبتدئ السيادة بسيادة الإنسان على نفسه بأن يملك زمامها، ويضبطها ويأخذ بعنانها، فلا تذل، ولا تتكبر ولا تجمح، ولا يزال يترقى في معنى السيادة من ضبط النفس والعلو عن سفساف الأمور، والاستغناء عما في هذا المصر ؟فقيل له : الحسن البصري فقال : وبم ساده ؟قيل استغنى عما في أيدي الناس، واحتاج الناس إلى ما في يده، فقال : ذلك هو السيد حقا.
فكلمة السيد في النص القرآني الكريم تتضمن كل معاني السؤدد ومكارم الأخلاق.
والوصف الثالث : أنه حصور. واصل الحصر معناه الحبس، والمراد انه حبس نفسه عن الشهوات، حتى لقد روي انه امتنع عن النساء زهاده واستعفافا، واتجاها على الروحانية. وقيل إنه كان لا يأتي النساء عجزا، وذلك غير صحيح، والحق أنه إن كان قد امتنع عن النساء فعن قدرة واختيار لا عن عجز ؛وذلك لن الله سبحانه وتعالى ساق ذلك الوصف في مقام المدح والثناء، ولا يتحقق معنى المدح والثناء إلا إذا كان فيه اختيار، ولم يكن عجزا وجبرا. ولأن"حصور"صيغة مبالغة لحاصر، أي أنه يبالغ في منع نفسه من الشهوات.
وليس في النص ما يدل على انه امتنع عن النساء بخاصة، بل النص يدل على أنه حبس نفسه عن الشهوات، وقدعها عن أهوائها.
والوصف الرابع : أنه نبي من الصالحين، وفي هذا بشارة أخرى لزكريا بأن الله سيختار ابنه نبيا ؛ فإن الوصاف السابقة فيها إجابة لدعائه، ولكن الله سبحانه وتعالى من عليه بأعظم مما دعا به، وأعطاه النبوة وقوله﴿ ومن الصالحين ﴾إشارة إلى موطن النبوة. وموضع اختيارها، والله سبحانه وتعالى اعلم حيث يجعل رسالته، وهو سبحانه وتعالى لا يختارهم إلا من الصالحين، فالله سبحانه يقيهم الانغماس في الشر قبل النبوة، ويعصمهم عن المعاصي بعدها.
﴿ انى ﴾هنا بمعنى"كيف"، فهو يعجب من الحال، ولا يصح ان تكون بمعنى"كم أين"لأن الله سبحانه وتعالى اخبر انه سيعطيه الولد، فلا يليق ان يسأل من أين، إنما العجب من حال العطاء مع حاله هو وامرأته ؛ولذا كانت الجملة من بعد ذلك جملة حالية صدرت بواو الحال، فقال :﴿ وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ﴾كان وجه العجب من ناحيتين : الناحية الأولى : أنه شيخ فان قد أصابه الكبر بما فيه من ضعف، والثانية ان امرأته عاقر لا تلد، والعقر يوصف به الرجل والمرأة، فيقال رجل عاقر، وامرأة عاقر أي بينة العقر، والعقر مصدر عقر يعقر عقرا ويظهر ان امرأته مع شيخوختها كانت عقيما لا تلد، فكان العجب إذن من ثلاث نواح : شيخوختها، وعقرها. وقد عبر عن شيخوخته بقوله :﴿ وقد بلغني الكبر ﴾ولم يقل قد بلغت الكبر وهو الظاهر، ولكنه عدل هنا للإشارة إلى ان الكبر قد أصابه بضعفه وما فيه من آلام وأسقام وضعف. ويقول في ذلك الزمخشري :( وقد بلغني الكبر كقولهم أدركته السن العالية، والمعنى أثر في الكبر فأضعفني )وعلى ذلك يكون قوله تعالى :﴿ بلغني الكبر ﴾يتضمن بلوغ الشيخوخة، وأنها أوجدت فيه ضعفا وعجزا، ويكون هذا في معنى قوله تعالى في سورة مريم حكاية عن زكريا :﴿ وقد بلغت من الكبر عتيا٨ ﴾[ مريم ].
وقد أجابه سبحانه وتعالى بما يزيل عجبه، ويمنع حيرته ؛وذلك بأن بين ان الله تعالى فوق السنن الكونية وفوق الأسباب في الخلق ؛لأنه خالق الأسباب ؛فقال تعالى :
﴿ كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾أي مثل ذلك الذي رأيته من ان يكون لك وأنت شيخ وامرأتك عاقر، يفعل الله تعالى ما يشاء، أي ان الله سبحانه يفعل بمشيئته واختياره غير مقيد بالأسباب والمسببات والعادات وأحوال الناس ؛لأنه سبحانه وتعالى خالق الناس، وخالق الأسباب، وخالق مجاري العادات التي تجري بينهم. فالإجابة لا تتضمن فقط إزالة تعجب زكريا عليه السلام بل تتضمن مع ذلك تقرير قضية عامة، وهو ان الله يفعل ما يفعل باختياره وإرادته غير مقيد بأي قيد غنه سبحانه فعال لما يريد.
ولماذا كان ذلك الخارق، وما يجئ بعده ؟الجواب عن ذلك : ان هذا لأن بني إسرائيل كانوا لا يؤمنون إلا بالجسد، إذ كانوا يفسرون كل شئ تفسيرا ماديا، وقد سادت عندهم الفلسفة المادية، وكثر بينهم القول بأن الأشياء تنشأ عن العقل الأول نشأة المسبب عن السبب او المعلول عن علته، فكان لابد من صادع يقرع حسهم بحادث من هذا الصنف الذي تتخلف فيه فلسفتهم، فيوجد المسبب من غير سبب فيدل هذا على ان المنشئ فاعله مختار يفعل ما يريد، وهو اللطيف الخبير ؛ولذا قال سبحانه﴿ كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾.
في تفسير هذا النص الكريم اتجاهان :
أولهما : أن سيدنا زكريا عليه السلام طلب علامة تدل على موعد الحمل، فقال :﴿ اجعل لي آية ﴾أي علامة أعرف منها موعد الحمل، فقال له ربه : آيتك أي علامتك الا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، أي لا تستطيع ان تكلم الناس إلا بالرمز والإشارة، وان تستطيع ذكر الله، فاذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار، أي في المساء، وفي الصباح من وقت الفجر إلى الضحى، وقد وضح هذا الاتجاه الزمخشري فقال :"آيتك الا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام، وإنما خص تكليم الناس ليعلم انه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ؛ولذلك قال :﴿ واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ﴾، يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس، وهي من الآيات الباهرة. فإن قلت لم حبس لسانه عن كلام الناس ؟قلت ليخص المدة بذكر الله لا يشغل لسانه بغيرها، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة، وشكرها الذي طلب الآية من اجله، كأنه لما طلب الآية لأجل الشكر قيل له آيتك ان تحبس لسانك إلا عن الشكر. وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه".
هذا هو الاتجاه الأول. و أساسه أن ثمة أمر آخر خارقا للعادة، و هو عجزه عن الكلام الناس مع قدرته على الذكر.
هذا هو الاتجاه الثاني، فأساسه غير ذلك، إذ عن معنى النص الكريم على هذا الاتجاه ان زكريا شعر بإكرام الله تعالى إكراما خصه به، وكانت آية ذلك الإكرام بين الناس انه قد أنجب من عاقر وعجوزا ولدا، وقد بلغ من الكبر عتيا، فدعا ربه ان يجعل له بين الناس آية تدل على عظيم شكره، وان يختص من بين الناس بهذا الشكر، ليعلم الناس علامة شكره كما علموه علامة إكرامه، فقال سبحانه :
﴿ آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ﴾بأن تحبس انت لسانك عن حديث الناس وتجعله خاصا لله ثلاثة أيام لذكره وتسبيحه طرفي النهار وزلفا من الليل، فهذه آية شكر في نظير آية إنعام، وقد يزكي ذلك الاتجاه انه لا دليل في الآية على العجز عن الكلام، فما قال تعالت كلماته ألا تستطيع الكلام، بل قال :﴿ ألا تكلم الناس ﴾وإضافة عدم الكلام إليه يدل بظاهره على انه امتنع اختيارا لا اضطرارا، وان النسب بشكر النعمة ان يكون امتناعه عن كلام الناس بالكف عنه، لا بالعجز عنه، فإن الأول اختياري يعد شكرا، والثاني غير اختياري يعد عجزا، وإن سياق القصة في سورة مريم اظهر في الدلالة على الاختيار دون الإجبار غذ يقول سبحانه :﴿ قال رب اجعل لي آية قال آيتك الا تكلم الناس ثلاث ليال سويا١٠فخرج على قومه من المحراب فأوحى غليهم ان سبحوا بكرة وعشيا١١ ﴾[ مريم ].
وقد كان الدعاء بطلب الولد في المحراب وإجابته فوره كما نوهنا، وكانت المجاوبة فيه أيضا، فخرج إلى الناس ينفذ طلب ربه في أن يحبس وهو مختار لسانه عن ذكر الله تعالى، ويعتزم العكوف على الذكر والتسبيح ويدعو الناس إليه بالرمز والإشارة، لا بالكلام والعبارة. وإن هذا الاتجاه لا ينكر الخوارق، ولكنه ليس في الآية ما يدل على الخارق، ويعتبر من مرشحات شكر النعمة ان يكون ترك كلام الناس اختيارا. وفوق ما تقدم فغن عطف قوله تعالى :﴿ ألا تكلم الناس... ﴾ جملة طلبية ؛لأن الجملة الطلبية لا تعطف إلا على مثلها، وإذا كان الامتناع عن كلام الناس طلبا من الله العلي القدير، فهو اختياري من المكلف وليس حبسا وعجزا، أما إذا كان خارقا فهو إخبار وليس بطلب.
وهنا بعض عبارات نفسرها لفظيا :
الأولى : كلمة﴿ إلا رمزا ﴾قد جاء في تفسير الزمخشري :"إلا إشارة بيد أو رأس او غيرهما، واصله التحرك، يقال ارتمز إذا تحرك، ومنه قيل للبحر الراموز، وقرأ يحيى بن وثاب"إلا رمزا بضمتين جمع رموز كرسول ورسل ؛وقرئ"رمزا"بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم.
والثانية : كلمتا﴿ بالعشي والإبكار ﴾ ؛فالعشي من حين تزول الشمس إلى ان تغيب، والإبكار من طلوع الشمس إلى وقت الضحى.
والثالثة : كلمتا ذكر وتسبيح ؛فإن الذكر معناه ان يستحضر الإنسان عظمة ربه، وينطق بها لسانه، والتسبيح معناه التنزيه المطلق لله سبحانه وتعالى، وقد كان طلب الذكر والتسبيح في هذا المقام مناسبا لتلك النعمة التي أسداها لعبده ونبيه زكريا عليه السلام ؛فإن سيادة المادية في بني إسرائيل وطغيانها على الروح أنستهم ذكر الله، وسيادة الفلسفة المنكرة للإرادة جعلتهم لا ينزهون الله تعالى، فدعا ربه لأن يقوم بهذا المر الذي فيه استذكار كل معاني الألوهية وانصراف بالكلية للنواحي الروحية. وفي التسبيح إدراك لله وتنزيه له عن العلية ؛ولذا اتخذ زكريا من هذا الخارق للعادة بإنجابه ولدا سبيلا لأن يدعوهم إلى التسبيح وهو التنزيه عن العلية والسببية وكل ما لا يليق بذات الله تعالى، وان يتركوا ما هم عليه من ماديات وفلسفة تنكر الإرادة لرب العالمين، فأوحى إليهم ان سبحوا بكرة وعشيا.
بين الله سبحانه المر الخارق للسنن التي سنها في خروج الحي من الحي، بالنسبة لولادة يحيى من عجوز عاقر، وغن الذي خرق هذه السنن هو خالق السنن، وغنما خرقها الذي خلقها ليعلم الناس انه سبحانه خلقها بإرادته وحكمته ؛فإنه سبحانه وتعالى فعال لما يريد. وبعد ان بين ذلك، وهو العليم، مهد سبحانه لخارق أعظم وأبين، ليقرع حس الناس في عصر غلب فيه التفكير المادي على التفكير الروحي ؛وذلك هو خلق عيسى بن مريم من غير أب، كما خلق من قبل آدم من غير أب ولا ام، وكان ذلك التمهيد ببيان الإرهاصات التي سبقت ولادة عيسى عليه السلام، وهو اصطفاء مريم واختيارها لتكون محل تلك الوديعة التي يودعها الله رحمها من غير علاقة ذكر بأنثى، وكان الاصطفاء بالطهارة والعفة والقنوت، والركوع والخضوع لرب العالمين، ثم باختيارها النهائي للوديعة الربانية ؛ولذا قال تعالى :
﴿ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ﴾"الواو"هنا عاطفة، وهي تعطف هذا النص الكريم على قوله تعالى :﴿ إذ قالت امرات عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا... ٣٥ ﴾[ آل عمران ]فهذا عود إلى قصة مريم البتول التي ابتدأت بالنذر بها وهي حمل، ثم ببيان حال أمها عند وضعها وبعد وضعها، وما كان من رزق الله تعالى لها وكفالة نبي الله زكريا إياها، مما جعلها تنشأ تنشئة التقوى والورع، ولما شبت عن الطوق واكتملت في تكوينها وأنوثتها وخاطبتها الملائكة بذبك الخطاب﴿ قالت الملائكة يا مريم ﴾وتفسر كلمة الملائكة هنا بعدد منهم، لا بواحد، كما استظهرنا مع ابن جرير في خطاب الملائكة لمريم البتول ؟أكان بالمخاطبة كما يخاطب النبيون، أم كان بالإلهام او الرؤيا الصادقة في النوم ؟لم تبين الآية هنا نوع الخطاب ؛ولذا قال بعض العلماء : إن الخطاب كان بالإلهام، وغلى هذا يومئ الزمخشري رضي الله عنه، ولكنه صرح بقوله :"روى انهم كلموها شفاها معجزة لزكريا، أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه السلام".
وبعض العلماء كما ترى قرر ان الخطاب كان مشافهة ولم يكن إلهاما، ولا رؤيا صادقة في النوم ؛وإنا نميل إلى ذلك الرأي، ؛لأنه ثبت بنص القرآن الصريح الذي لا يحتمل تأويلا ان الملك خاطبها حين ابتدأ حملها، كما جاء في سورة مريم، إذ قال الله سبحانه وتعالى :﴿ واذكروا في الكتاب مريم إذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا١٦ فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا غليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا١٧ قالت إني أعوذ بالرحمن منك عن كنت تقيا١٨ قال إنما انا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا١٩ ﴾[ مريم ].
والروح الذي ذكر مضافا إليه سبحانه هو روح من عند الله، أرسله سبحانه ليبشر مريم البتول بعيسى عليه السلام، ولم يكن الملك يحمل وديعة كما يحمل الإنسان ؛لأنه ليس بإنسان، والعلاقة الجنسية من خواص الآدمية ؛ بل الوديعة التي يحملها هي بشرى، والخلق والتكوين لرب العالمين، وهو يخلق الحي من غير جرثومة حياة، كما يخلق جرثومة الحياة نفسها.
وإذا كانت الملائكة قد خاطبت مريم مشافهة فهل هي نبية، لن الملائكة خاطبوها ؟هكذا قال بعض العلماء.
ولكن الأكثرون على انه لا يمكن ان تكون نبية، وخطاب الملائكة لها لا يقتضي النبوة ؛لن النبي من يوحى إليه بشرع، ومريم لم يوح إليها بشئ من الشرع، ولكنه كان خطابا للبشارة بواقعة معينة دالة على علة منزلتها، واصطفاء الله سبحانه وتعالى لها.
والاصطفاء افتعال من صفا ؛فمعنى اصطفى طلب الصفوة المختارة ؛والمعنى اللازم هو اختيار الله تعالى لها باعتبارها من صفوة الإنسانية البرة التقية. ولقد كان اصطفاء الله تعالى إياها مرتين بينهما طهر وتقي ؛فأما الاصطفاء الأول فحين قبولها نذرا من أمها البرة التقية، واختيارها لسدانة البيت المقدس ؛وأما الاصطفاء الثاني فهو حين اختارها لتكون اما لمن لا أب له، إذ تلد بعد ان تحمل من غير علاقة تناسلية مما يجري بين البشر ؛وبين الاصطفاءين طهر وتقي وعفاف، وإيمان وانصراف للعبادة، وهذا هو معنى قوله تعالى عن خطاب ملائكته لمريم :﴿ إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ﴾وذكر في الاصطفاء ما يدل على انها به مختارة دون نساء العالمين ؛لأن الاصطفاء الأول ومعه الطهر والتقى لا تختص به مريم، فكم من عابدات قانتات قوامات بالليل صوامات بالنهار ؛أما الاصطفاء الثاني وهو ان تلد من غير أب فإن ذلك قد اختصت به لم تشركها فيه امرأة في هذا الوجود ؛ولذا قال فيه :﴿ واصطفاك على نساء العالمين ﴾.
وإن هذا التعبير يدل فوق دلالته على اختصاصها بهذا الاصطفاء، يدل على ان لها فضلا على نساء العالمين، إذ إن التعبير﴿ على نساء العالمين ﴾يتضمن معنى الأفضلية عليهم، وإن لها ذلك الفضل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري :"كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"١وروى من طرق صحيحة :"خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد"٢.
٢ أخرجه الحاكم في المستدرك ج٦ ص١٨٦، عن أنس رضي الله عنه، ورواه الترمذي: المناقب- مناقب خديجة رضي الله عنها(٣٨١٣)وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح..
وعلى ذلك يكون بالسجود من قبيل المر العام بالانصراف للعبادة والطاعة ؛لأن فيه أظهر مظاهر إسلام الوجه لله، ويكون الأمر بالصلاة ثابتا بقوله﴿ واركعي مع الراكعين ﴾.
ويصح ان نقول عن الأمر بالسجود هو امر بالصلاة مطلقا، إذ انه اظهر مظاهر الصلاة، وأقواها تأثيرا في النفس، وكان الأمر على هذا النحو بأن تديم الصلاة منفردة وفي خلواتها ؛وقوله تعالى :﴿ واركعي مع الراكعين ﴾أمر آخر بأن تصلى مع الجماعة وإلا تنقطع عنهم لفضل الصلاة في الجماعة، وكان في النص تعبيرا عن طلب الصلاة بتعبيرين ؛أولهما : طلبها بعبارة "اسجدي" والثانية : طلبها مع الجماعة، بعبارة"اركعي"، والبلاغة تسوغ ان تعبر عن المعنى الواحد بعبارتين مختلفتين في صيغتهما ومادتهما في مقام واحد، وإن كان الأمر الأول مطلقا، وكان الثاني مقيدا.
﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ﴾الإشارة إلى القصص الحكيم الذي شمل نذر أم مريم، وولادتها، وكفالة زكريا لها، ودعا زكريا وإجابة الله دعاءه، ولزوم مريم للعبادة، وخطاب الملائكة ؛ فبين الله سبحانه وتعالى ان هذا القصص من أنباء الغيب، أي من الأخبار العظيمة الشأن التي اختص بها علم الله، وهي مغيبة عن الناس لم يدونها تاريخ، ولم يذكرها كتاب، فهي مغيبة عن علم الناس لا يعلمها أحد إلا من الله تعالى، وهي عظيمة الشأن في مجرى التاريخ الديني، وجرى الفكر الإنساني، ومجرى التاريخ بشكل عام ؛وذلك لأنها تتعلق بآية من آيات الله الكبرى في هذا الوجود، وهي إيجاد إنسان كامل مستو من غير أب، وحمل امرأة من غير تلقيح ؛فإن هذا يفتق ذهن الإنسان المفكر لأن يدرك ان الله يخلق الأشياء بإرادته غير مقيد بسنن كونية، ولا بنظم في الخلق والإنشاء ؛لأنه خالق كل السنن وكل النظم ؛وبذلك يرد أقوال الفلاسفة الذين زعموا ان العالم نشأ عن العقل الأول نشوء المعلول عن العلة من غير إرادة مبدعة مسيرة.
والأنباء جمع نبأ، والنبأ هو الخبر العظيم الشأن، فليس كل خبر يسمى نبأ، والغيب هو الأمر المغيب المستور الذي لا يعلم إلا من قبل الله تعالى. وقوله :﴿ نوحيه إليك ﴾إشارة إلى موضع الصدق وهو انه بوحي من الله تعالى ؛ وهو كالنتيجة لكون الموضوع مغيبا، لم يذكر في واقعة تاريخية ولا في كتاب ديني من قبل، لأنه إذا كان مغيبا عن الناس جميعا فعلمه لا يكون إلا من الله تعالى. وفي قوله :﴿ نوحيه إليك ﴾مع كونه من قبل كان مغيبا إشارة إلى معنى الاختصاص، وفي الاختصاص بالتعريف كل معاني التكريم الإلهي لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت حال مريم وخلوصها لعبادة الله تعالى مجهولة للناس قبل بيان القرآن، فإن القرآن صاحب الفضل في بيان براءتها من الدنس، ومقامها في عبادة الله تعالى، وكفالة الله تعالى لها بنبي من أنبيائه، وتشريف الله تعالى بخطاب ملائكته لها مبشرين بالآية الكبرى والمعجزة الإلهية القاطعة، وذلك بولادة عيسى عليه السلام.
وفي ذلك إشارة إلى وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وهو إخباره بالصادق الذي لا يوجد دليل قط على كذبه مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ ولم يكتب، ولم يتعلم، والخبر لم يكن مدونا من قبل حتى يتلقاه من احد كأولئك ؛الذين ادعوا انه كان يقول ما يقول عن أخبار بني اسرائيل من حداد بمكة، وقد رد الله تعالى فريتهم بقوله تعالى :﴿ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين١٠٣ ﴾[ النحل ]. فلا يمكن ان يدعى لأخبار مريم ؛لأنه ما كان معلوما قبل بيان الله تعالى، ولذلك سماه غيبا.
وقد وضح سبحانه وتعالى هذا المعنى، وهو كون هذا بوحي، لا من عند محمد عليه الصلاة والسلام، بقوله :
﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾الأقلام جمع قلم، من قلمه بمعنى قطعه، والمراد بالأقلام القداح التي يضربون بها القرعة. والاختصام معناه في الأصل ان يكون كل في خصم أي جانب، والاختصام هنا هو التنافس بينهم في كفالة مريم ؛وذلك لأنها ولدت يتيمة، وقد تيمن العباد من بني إسرائيل بها، وكل يرجو خيرا من كفالتها، ويتخذ من هذه الكفالة قربة وزلفا إلى الله العزيز الحكيم، العليم الخبير، فلما كان الاختصام والتنافس اتفقوا على القرعة تحكم بينهم، وقد كانت نتيجة القرعة أن آلت كفالتها إلى نبي الله زكريا عليه السلام، وهكذا كان الله تعالى يختار لها ولابنها ؛فاختارها من صفوة آل عمران، واختارها منذورة للعباد محررة لها، واختارها مكفولة بنبي، واختارها لخطاب الملائكة إياها، ثم كانت النتيجة لهذا كله ان اختارها على نساء العالمين لتكون موضع آيته الكبرى في هذا الوجود.
والمعنى الجملي للنص الكريم : وما كنت لديهم أي عندهم إذ يختصمون ويتنافسون على كفالة مريم، كل يريدها في كنفه ورعايته، وما كنت لديهم إذ يحتكمون إلى القرعة، ليعرفوا بطريق التفويض للغيب أيهم يكفل مريم فتضم إليه، وقد ذكر سبحانه من قبل ان الكفالة بهذه القرعة آلت إلى زكريا عليه السلام، إذ قال من قبل :﴿ وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا... ٣٧ ﴾[ آل عمران ].
ما كنت عندهم في هذا الوقت، وما تلقيت بالسماع من احد، وما كنت تقرأ في كتاب، فمن أي شئ علمت هذا الغيب الذي لا يعلمه احد ؟إنه لا بد أن يكون من عند الله تعالى، فهذه الجملة الكريمة سيقت لإثبات ان العلم كان وحيا من عند الله العليم الخبير.
وهنا بعض مباحث نشير إليها :
أولها : أن"لدى"معناها"عند"، و"لدى"هنا تشير إلى معنى ليس في"عند" ؛ذلك انها تشير إلى عندية بعيدة غير حاضرة ولا قريبة في الزمن ؛فهي تشير إلى أن خبر مريم وولادتها خبر بعيد موغل في القدم بالنسبة للإنسان، فما كانت هذه العندية متصورة، وما كان لأحد ان يعلم ما عند القوم علم من يشاهد ويعاين ؛لأن كثيرا منها كان نفسيا قلبيا، وبعضه كان حسيا ماديا ولكن لم يعلم للناس.
وثانيها : ان هذه القصة ليست معلومة على هذا الوجه عند المسيحيين، ولا يسعهم تكذيبها ؛لأنها اقرب إلى العقول مما ينسبونه لمريم من انها كانت ذات بعل، أو مخطوبة او نحو ذلك، فما عندهم مدعاة للشك، وما ذكره القرآن مدعاة للصدق والطهر والنقاء، وهذا الذي يرشح للآية الكبرى بولادتها من غير حمل ؛فأي الخبرين أصدق قيلا ؟
وثالثها : وهو ان هذه القصة بما تشير إليه الآية الكريمة :﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم ﴾تشير إلى بعض معاني الإعجاز في القرآن الكريم، وهو حكاية أخبار الأولين التي لم يكن يعلمها احد إلا رب العالمين، وهي حكاية دلائل الصدق فيها واضحة، وبينات الحق فيها لائحة ؛وإذا كان النبي لا يعلمها عن مشاهدة ولا عن سماع، فطريق العلم بها هو الله، وهذا يدل على ان القرآن من عند العزيز الحكيم، وهو سجل الشرائع السماوية الخالد إلى يوم القيامة، ولوكره الكافرون، كما قال منزله سبحانه :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون٩ ﴾[ الحجر ].
توالت في هذه القصة خوارق العادات متدرجة من القريب من المألوف إلى البعيد الذي لا يعرفه الناس قط بمقتضى السنن الكونية المطردة ؛فقد ولدت مريم البتول بعد ان نذرت لتكون خالصة للبيت المقدس، وكان يأتيها في المحراب الرزق من حيث لا تحتسب ولا تقدر، حتى أثار ذلك عجب نبي الله زكريا، ثم كانت ولادة امرأة زكريا، وهي عجوز عاقر، وهو قد بلغ من الكبر عتيا ؛ثم كانت الحادثة الكبرى التي تدل على ان الله تعالى مبدع الكون وخالق الأسباب ينشئ الكون كما يريد، وتلك الحادثة هي ولادة عيسى من غير أب ؛وهذا هو ما اصطفى الله به مريم ابنة عمران ؛ ولذا يقول سبحانه :
﴿ إذ قالت الملائكة يا مريم عن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ﴾الكلام في هذه الآية الكريمة متصل بما سبقها ؛فإذا هنا متعلقة بما تعلقت به إذ في قوله تعالى :﴿ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين٤٢ ﴾[ آل عمران ]فإذا هنا في مقام البدل أو البيان من الأولى ؛لأن هذا فيه تفصيل لمعنى الاصطفاء الذي اختصت به على نساء العالمين ؛والمعنى : اذكر إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك.. إذ كان ذلك الاصطفاء على نساء العالمين ؛بأن كانت هي التي تلقت البشارة الكبرى بأن تلد مولودا من غيرأب قد أنجبه. والملائكة الذين خاطبوا مريم بذلك الخطاب يتضح من السياق انهم الذين خاطبوها بالاصطفاء ؛ فكأنهم قد بشروها بالاصطفاء على نساء العالمين، وبشروها مع ذلك بنوع الاصطفاء. وقد استظهرنا كما استظهر ابن جرير الطبري ان الملائكة الذين بشروا بالاصطفاء كانوا عددا ولم يكونوا واحدا، فلابد إذا ان الذين بشروا بحقيقته كانوا عددا أيضا، ولكن سورة مريم فيها بيان ان الذي أنبأها نهائيا بهبة الله تعالى لها كان ملكا تمثل في صورة بشر قد أودعها ما يكون منه الولد من غير تلقيح جنسي ؛لأن الملك ليس له تلك الشهوة الإنسانية ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا١٦ فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها من روحنا فتمثل لها بشرا سويا١٧قالت إني أعوذ بالرحمن منك عن منت تقيا١٨قال إنما انا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا١٩قالت انى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا٢٠قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان امرا مقضيا٢١ ﴾[ مريم ].
وإن التوفيق بين هذا النص الكريم، والنص الذي نتكلم في معناه سهل يحتاج إلى إعمال فكر ؛ذلك ان الله سبحانه وتعالى أرسل ملائكته غليها يبشرونها بالاصطفاء ويبشرونها بنوع الاصطفاء، ثم أرسل إليها بعد هذه البشارات المتكررة ملكا تمثل لها بشرا سويا، ليودع رحمها نهائيا تلك الهبة التي أهداها رب العالمين إليها.
ذكر سبحانه البشارة بأنها كلمة منه، وان معنى هذه الكلمة شخص حي يسرى عليه حكم الأحياء اسمه المسيح عيسى ابن مريم، فلماذا اعتبره الكريم كلمة منه ؟لأنه سبحانه خلقه وأبدعه بكلمة منه ؛ فإذا كان سبحانه قد خلق الحياء بطريق التناسل : الرجل يلاقح الأنثى، ويخرج الولاد من أصلاب
الآباء، فإن عيسى عليه السلام لم يخلق ذلك الخلق، بل خلقه الله تعالى خلقا آخر ؛خلقه بكلمة منه وهي"كن"فكان، جديرا بأن يعتبر كلمة، وان تكون هذه الكلمة منسوبة على الله تعالى.
ويقول ابن جرير : إن الكلمة هي كلمة البشرى، تشريفا لمريم البتول، وتكريما لها بأن تكون البشرى بكلمة من الله، أي بخطاب من الله تعالى مرسل منه إليها. ويزكي هذا قوله تعالى :﴿ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه... ١٧١ ﴾[ النساء ]. وقوله تعالى :﴿ اسمه المسيح عيسى ابن مريم ﴾هو ما تضمنته البشارة، ويكون التأويل : يبشرك ببشارة جازمة قاطعة لا احتمال لتخلفها ؛هذه البشارة هي ولد اسمه المسيح عيسى ابن مريم. وكان"اسمه المسيح"تكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : البشارة ولد اسمه المسيح عيسى بن مريم.
وقد عرف سبحانه وتعالى ذلك المولود بثلاثة تعريفات : لقب، واسم وكنية ؛أما اللقب فهو المسيح، وأما الاسم فعيسى، وأما الكنية فهو ابن مريم، وهذه التعريفات الثلاثة، كل واحد منها يومئ إلى معنى قد تحقق في السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ؛فأما الكنية فللإشارة إلى ان نسبة ثابت لأمه لا لأحد سواها، فليس ابنا لأي حي من الأحياء، وليس ابنا لله تعالى كما توهم او كما لبس على نفسه كل من لا يريد ان يحكم عقله فيما لقن من عقائد باطلة، ولا تعلق لهم في أن عيسى قيل عنه كلمة الله، فالكلمة هي البشارة، وهي مخلوقة، او لأنه خلق بكلمة الله وهي"كن"وكلتاهما لا يمكن ان تكون ابنا لله تعالى. وأما الاسم فينبئ عن البياض والصفاء المعلم الواضح ؛ولذلك يقول الأصفهاني :"عيسى اسم علم وإذا جعل عربيا أمكن ان يكون من قولهم : بعير أعيس وناقة عيساء، وهي إبل بيضاء يعترى بياضها بعض الظلمة، أي فيها اغبرار يعطى بياضها صفاء وجمالا، فهو ينبئ عن جمال تكوينه، وجمال دعوته وصفاء رسالته.
وأما اللقب فهو ينبئ عن البركة والفضل، وهو أحسن ما قيل في ذلك ؛فقد ذكر الزمخشري ان كلمة مسيح في أصلها العبري، وهو مشيح، معناه مبارك، وهذا قد جاء في شكره لربه إذ قال :﴿ وجعلني مباركا أين ما كنت... ٣١ ﴾[ مريم ].
وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأربعة أوصاف وأحوال ؛أولها : أنه وجيه في الدنيا والآخرة، والثاني : انه من المقربين، والثالث : أنه يكلم الناس في المهد وكهلا، والرابع : أنه من الصالحين. وقد ذكرت هذه الأوصاف كلها لأمه وقت البشارة به، فكانت أجل تبشير لأم رءوم في مثل تقوى مريم البتول.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الوصفين الأولين بقوله تعالى :
﴿ وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ﴾هذان وصفان تما لعيسى الرسول بعد كمال رجولته، وظهرا أتم ظهور في أداء رسالته، واحدهما وصف ذاتي أضفاه الله تعالى على ذاته النبوية الطاهرة ليكون صاحب رسالته، وداعي هدايته، وناشر رحمته، وذلك الوصف هو الوجاهة في الدنيا، والوصف الثاني وصف إضافي، وهو انه في موضع المقربين من الله تعالى، وهذا وصف يضفى شرفا إضافيا، فوق شرف النبوة، وشرف الرسالة الإلهية.
وكلمة"وجيه"مشتقة من الوجه ؛لأنه هو الذي يلقى به الناس، وهو مظهر كل ما في النفس مما يوجب الاحترام، ومنه اشتقت كلمة جاه، أي ان من له جاه يكون ذا وجه دال على الاحترام والشرف، فمعنى"وجيها"أي انه ذو شرف ومكانة ؛اما مكانته يوم القيامة، فأمر مقرر ثابت، وإذا لم يكن لمثل عيسى وهو وأمثاله من النبيين عليهم السلام وجاهة فوق تقديرنا، فلمن تكون وجاهة الآخرة ؟
وأما وجاهة الدنيا فأمر ثابت مقرر، وأي وجاهة وشرف وأثر في النفوس اكبر من وجاهة رجل روحاني يبرئ الكمه والأبرص ويحيى الموتى، ويؤثر في القلوب فتنجذب له، ولم يستطع ان ينال خصومه منه شيئا، وإذا قيل إن اليهود آذوه وطردوه فليس ذلك بمانع من وجاهته، بل إنه دليل وجاهته وأثره في القلوب، ولو كان خاملا ما تحركوا لإيذائه، ومع ذلك لم ينالوا منه شيئا، ولم يمكنهم الله من رقبته، بل نحاه من شرورهم ودسائسهم، فكيف لا يكون وجيها عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ؟ !.
فعيسى عليه السلام كان وجيها، ووجاهته أكمل أنواع الوجاهة، وهي الوجاهة التي تتجرد من كل سلطان إلا سلطان الحق والروح، وبهما ملك القلوب. والجاه الحق-كما قال الغزالي-هو ملك القلوب.
وأما كونه من المقربين إلى الله تعالى، فمعناه انه مقرب إلى الله تعالى كما هو قريب من الناس، وانه وجيه عند الله تعالى ذو مكانة قريبة منه، كما هو ذو مكانة عند الناس.
﴿ ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ﴾المهد : هو مضجع الطفل، من مهد يمهد مهدا، بمعنى انه مهيأ مسهل له وهو في الرضاعة.
ومن في المهد يكون طفلا صغيرا يحمل لا يتصور منه كلام مطلقا، والكهل هو الرجل السوي، والمر الخارق للعادة في هذا ان عيسى عليه السلام تكلم وهو في المهد، وكلامه وهو في المهد ليس لغو صبيان، بل هو كلام شبان مكتهلين، وقد بلغوا تمام الرجولة والاستواء العقلي، وجمعهما معا في الكلام يدل على ان كلامه في الأول من نوع كلامه في الثاني ؛ولذا يقول الزمخشري :"ومعناه يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة، وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل، ويستنبأ فيها الأنبياء"وإن ما حكاه الله تعالى عن كلامه في المهد ليوضح ذلك ؛ففي سورة مريم :﴿ فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا٢٩ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا٣٠ وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا٣١ وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا٣٢ والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت يوم أبعث حيا٣٣ ﴾[ مريم ].
وقد ذكر سبحانه حالا ثانية من أحواله، او وصفا من أوصافه، وهو انه من الصالحين، وهذا رمز إلى ما يأتي به من إصلاح خلقي واجتماعي، وروحي فكري ؛إذ يزيل النزعة المادية من قلوب المؤمنين ؛فإن الصالح حقا هو الذي يصلح، فليس بصالح صلاحا كاملا من لم يرشد غيره إلى طريق الصلاح.
هذه الجملة السامية تدل على بالغ عجبها، وتومئ إلى ارتياعها الذي عبرت عنه كما في سورة مريم :﴿ ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا٢٣ ﴾[ مريم ]. صدرت إجابتها بالنداء للرب، وفيه معنى الاعتراف بالخلق والتكوين، وكمال الربوبية لله سبحانه وتعالى، فهو تسليم بالقدرة الإلهية، وبأن خالق كل شئ لا يكبر عليه شئ، سبحانه وتعالى.
و﴿ أنى ﴾في قوله تعالى :﴿ أنى يكون لي ولد ﴾هي بمعنى كيف، أي كيف يكون منى ولد ولم يمسسني بشر أي لم يكن مني ما يكون بين الرجل والمرأة مما يكون منه ولد. فالاستغراب في الكيفية، لا في أصل القدرة الإلهية. وكلمة﴿ لم يمسسني ﴾إما ان نعتبرها كناية عن اختلاط الرجل بالمرأة، وهذا ظاهر، وتعبير القرآن عن اتصال الرجل بالمسيس مجاز مشهور معروف، حتى يكاد يكون حقيقة عرفية في لغة القرآن الكريم ؛أو نقول : المس المراد به حقيقته، وهو انها لم يلمسها رجل ؛لأنها متبتلة دائما منصرفة للعبادة لم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط ؛وبذلك ينتفي بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس، فموضع العجب والسؤال هو ان يكون ولد من غير اتصال رجل بامرأة. ولقد أزال عجبا رب البرية بقوله تعالى :
﴿ قال كذلك الله يخلق ما يشاء ﴾أي كهذا الخلق الذي تجدينه في ان يكون لك ولد من غير ان يمسك رجل وهو إبداع، يخلق الله تعالى ويبدع ما يشاء ويريد إبداعه، وكلمة يخلق غير ينشئ ؛لأن الخلق إنشاء على غير مثال سبق، فالتعبير ب"يخلق"يفيد الإبداع، وانه منهاج في التكوين يخالف منهاج غيره في التكوين. وهذه الجملة السامية تفيد أمورا ثلاثة :
أولها : ان هذا النوع من التكوين، وهو إنجاب من غير أب هو في قدرة الله تعالى ؛لأنه الخالق المبدع، وما هو غريب عليكم هو في قدرته سبحانه ؛لأن من خلق الخلق وخلق السنن الكونية وغيرها قادر تغييرها ؛لأنه مبدعها ومنشئها.
ثانيها : ان خلق عيسى امر من امر الله تعالى، وعيسى ليس إلا مخلوقا من مخلوقاته، فهو أبدعه كما أبدع غيره من المخلوقات، فليس إلها ولا ابن إله.
ثالثها : ان خلق الله تعالى بمشيئته وإرادته، وهذا فيه إشارة إلى السبب الذي من اجله خلقه الله تعالى من غير أب وهو ان المخلوقات لا تصدر عن الله صدور المعلول عن علته، ولكنها توجد بإيجاده وتنشأ بإبداعه :﴿ بديع السموات والأرض انى يكون له ولد ﴾وفي ذلك رد عملي على اهل الفلسفة المادية التي تقول إن العالم نشأ عن العقل الأول نشوء المعلول عن علته.
ثم أشار سبحانه على عظيم قدرته بقوله تعالى :
﴿ إذا قضى امرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾أي ان الله سبحانه وتعالى إذا أراد ان يوجد امرا لا يوجده إلا بكلمة"كن"وعبر سبحانه عن الإيجاد ب"قضى"للإشارة إلى ان إيجاده للأشياء ليس إلا من قبيل الحكم عليها بالوجود، فإذا حكم بالوجود في امر نفذ حكمه، وحكمه هو ان يقول كن، فيترتب على ذلك أن يكون.
وهل الأشياء حقيقة تنشأ بمجرد الإرادة الإلهية، ام ان هذا تصوير لسهولة الخلق ؟الظاهر ان هذا بيان لسهولة ذلك على خالق الخلق، وبارئ النسم ؛فهو تمثيل لبيان قدرة الله تعالى الشاملة، وسهولة الإنشاء عليه سبحانه، ونفاذ إرادته في خلقه، ولذلك جاءت الإجابة في مثل هذا المقام بهذا المعنى في سورة مريم فقد قال تعالى في الإجابة عن استغرابها في تلك السورة :﴿ قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا٢١ ﴾[ مريم ]. فهذا التعبير الكريم صريح في ان السياق لبيان سهولة مثل هذا الخلق على خالق الخلق، ويفيد أيضا ان المقصود بيان ان الله سبحانه فعال لما يريد، وهو على كل شئ قدير. ربنا لا ترهقنا من أمرنا عسرا.
في هذا القصص القرآني تستمر الآيات الكريمة متممة قصة البشارة بعيسى عليه السلام ؛بشرت به أمه قبل ان يكون في بطنها، وقد أوحى إليها انه ستكون له تلك المنزلة في الدنيا والآخرة التي اصطفاه الله تعالى لها، وإن من سنة الله تعالى في كلامه المعجز ان يشتمل الكلام على الإيجاز، الذي هو من أسرار الإعجاز، ففي أثناء البشارة قبل الحمل كان بيان رسالته وما هيأه الله به لأداء الرسالة، والمعجزات الكبرى التي أجراها الله سبحانه وتعالى على يديه، وماهية الرسالة التي جاء بها، ومقام رسالته من الرسالات قبلها، ثم بيان تلقي الذين أرسل إليهم هذه الرسالة مؤيدة بهذه المعجزات الباهرة القاهرة، ثم بيان النهاية التي انتهى بها، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ولقد ابتدأ سبحانه ببيان علم الرسالة الذي تكون به قوة الرسول الذي يدعو قوما معاندين من أمثال اليهود والمشركين من الرومان، فقال :
﴿ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾في هذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه وتعالى علم الرسالة التي أرسله بها، وهو علم بأربعة أمور : علمه بالكتاب، وعلمه بالحكمة، وعلمه بالتوراة، وعلمه بالإنجيل. اما علمه بالكتاب فقد قال بعض مفسري السلف : غنه العلم بالخط والكتابة، وتوجيه ذلك التفسير ان عيسى بعث في أمة اشتهرت بالعلم والمعرفة، فلا بد ان يكون فيه ما هو سبيل العلم والمعرفة وهو الكتابة، وقد كانت آيته في إثبات رسالته فوق علم العلماء، وقدرة الناس قاطبة. وقال بعض مفسري السلف أيضا : إن علم عيسى بالكتاب هو علمه بما نزل على النبيين السابقين. وإنا نختار الأول ؛فإنه على التفسير الثاني يكون تكرارا ؛لأن علم الرسالات السابقة، في التوراة التي ذكر انها من علمه، والتأسيس أولى من التأكيد. وأما علمه الثاني، وهو الحكمة، فهو العلم الذي يحكم صاحبه في القول والعمل، وسياسة الناس في القول والعمل، ولذا يقول العلماء : إن الحكمة هي العلم النافع ؛فهي العلم الذي تظهر ثمرته في القول والعمل وهداية الناس، وقيادة نفوسهم ؛ولذلك قال الله تعالى آمرا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن... ١٢٥ ﴾[ النحل ]وإن هذا النوع من العلم هو ألزم العلوم لمن يقود الناس إلى الإيمان، ويدعوهم بدعاية الرحمن.
وأما العلم الثالث والرابع : فهما علم التوراة وعلم الإنجيل، والتوراة تومئ إلى علم الرسالات التي كانت قبلها، وعلم الإنجيل هو العلم برسالته التي بعث بها في وسط تلك المادية التي استولت على بني إسرائيل، وهذا يدل على اتصال رسالته بالرسالات التي سبقته، وكل رسول مبعوث لا تكون رسالته مقطوعة عما قبلها، بل هي موصولة بها متممة لها، وهي لبنة في صرح الرسالات الإلهية.
أي بعثه سبحانه وتعالى رسولا إلى بني إسرائيل. ومعنى الكلام : ويجعله او يبعثه رسولا إلى بني إسرائيل. وذكر بنو إسرائيل خاصة مع ان دعوته كانت تعم كل الذين علموها من اليهود والرومان وغيرهم حتى يجئ من السماء ما ينسخها او يكملها، وهي الرسالة العامة الخالدة، رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ؛والسبب في اختصاص بني إسرائيل بالذكر انهم هم الذين خرج عيسى من بينهم، فهو منهم وقد كانوا يدعون انهم أولى الناس بعلم الرسائل الإلهية، وكانت دعوته بينهم، وانبعثت منهم على غيرهم، فكان تخصيصهم بالذكر، فيه إشارة إلى حقيقة واقعة وتوبيخ لهم ؛ لنهم أوتوا العلم برسالات الأنبياء، مع ذلك كفروا برسول مبعوث منهم، أوتي بمعجزات لا تجعل للعقل مساغ لإنكار.
ولقد ذكر سبحانه في هذه الآيات معجزات عيسى التي أرسله الله بها لإثبات رسالته، فقال سبحانه :
﴿ أني قد جئتكم بآية من ربكم ﴾وهذا النص الكريم فيه معنى هذه الرسالة التي كان بها رسولا، أي انه يتبين معنى انه رسول بقوله :﴿ أني قد جئتكم بآية من ربكم ﴾فالجملة عطف بيان لمعنى الرسالة المنطوي في الكلام. وفي الكلام التفات وانتقال من خطاب الله لمريم، إلى بيان رسالة بشارة الله إليها، وجاء بيان الرسالة على لسانه هو، وابتدأ بيان الرسالة ببيان إثباتها، وهو المعجزة، وكأن المعجزة جزء من الرسالة ؛لأنها ركنها ودعامتها التي قامت عليها، ولن معجزة عيسى كانت تومئ إلى معان من رسالته ؛ذلك بان عصره ماديا، لا يؤمن بالإرادة المختارة لله تعالى، ويؤمنون بالأسباب التي تجري في الحياة على انها المؤثرات في إيجاد الأشياء، فكانت معجزاته عليه السلام إعلانا لبطلان تأثير الأسباب، بدليل خرق هذه الأسباب، بإحياء الموتى ؛وقد جرت الأسباب المادية التي ترى على ان من مات لا يحيا في هذه الدنيا، وان الأكمه الذي ولد أعمى لا يرتد بصيرا، وان إخراج الحي من الطين مباشرة لا يكون، فجاء عيسى بكل هذا، فكان إعلانا قويا بان الله فاعل مختار، وذلك جزء من رسالته.
والآية هنا هي المعجزة، وهي في أصلها العلامة، والمراد بها هنا العلامة الدالة على الرسالة، وأطلق على الجزء من القرآن آية ؛لأن كل آية في كتاب الله تعالى معجزة في ذاتها، دالة بوحدتها على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد ذكر بعد ذلك سبحانه آيات، وكانت الآيات المذكورة في هذا المقام أربعا ؛وعبر عنها بآية ؛لن مجموعها دال على رسالته، وغن كانت كل واحدة منها تصلح حجة قائمة بذاتها ؛فذكرها بلفظ المفرد للإشارة إلى انها جميعا كانت آيته.
والآيات الأربع : هي انه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص، وانه يحيى الموتى، وانه ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ؛فهذه آيات أربع.
والآيات الأربع ذكرت مضافة إلى السيد المسيح عليه السلام ؛لأنها كانت تجري على يديه، ولأنها هي التي كان يقيم بها الدليل على رسالته ؛وقد خاطب بها بني إسرائيل، ومن استمع إليه من الرومان وغيرهم.
وأول هذه الآيات تصوير الطين ثم النفخ فيه فيكون طيرا، وقد ذكرها سبحانه وتعالى بقوله :﴿ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ﴾ :
الخلق المراد به هنا التصوير، أي انه صور من الطين كهيئة الطير، أي بشكله، فينتفخ فيه، فكان طيرا بإذن الله تعالى، فهنا أعمال ثلاثة"اثنان منها لعيسى عليه السلام، والثالث لله تعالى جل جلاله وعظمت قدرته، أما اللذان لعيسى فهما : تصوير الطين كهيئة الطير، والنفخ فيه، وأما الثالث الذي هو من عمل الله تعالى وحده، فهو خلق الحياة في هذه الصورة التي صورها عيسى عليه السلام ؛ولذلك قال :﴿ بإذن الله ﴾أي بأمره وإعلامه، والكون كله بأمره سبحانه﴿ إنما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون ﴾. وهذا يدل على انه لك يكن في عيسى ألوهية، ولا أي معنى من معانيها.
ولقد قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده : إن الصيغة التي ذكرت بها هذه الآية وهو قوله :﴿ أني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ﴾تدل على استطاعته ذلك ولكنها لا تدل على الوقوع، وعندي انها تومئ إلى الوقوع لن ذكر الكيفية وهو انه يتخذ من الطين صورة الطير، ثم النفخ ثم الكون طيرا يدل على الوقوع لا على مجرد الاستطاعة وفوق هذا فغن آية المائدة تدل على الوقوع بشكل أوضح من هذا ؛فإنه سبحانه وتعالى يقول :﴿ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ﴾فهذا النص الكريم دليل على الوقوع، لا على إمكان الوقوع ؛لأن الله تعالى لا يمن عليه إلا بالذي وقع فعلا.
والآية الثانية والثالثة : بينهما سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ وأبرئ الكمه والأبرص واحيي الموتى بإذن الله ﴾الأكمه هو العمى الذي يولد أعمى، أي الذي لم يؤت حاسة الإبصار ؛أجرى الله تعالى على يد عيسى عليه السلام إبراءه. والأبرص هو الذي يكون في جلده بياض مشوب بحمرة، وهو مرض لا يبرأ منه من يصاب به ؛فهذان مرضان لا يتصور بمقتضى العادة، والأسباب الجارية بين الناس انه يمكن ان يكون منهما شفاء ؛لأن الأول يولد به الشخص ناقصا حاسة الإبصار، والثاني لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منه، فإذا كان الله قد أجرى على يدي عيسى عليه السلام الشفاء بهما فإن هذا يقنع الماديين بأن وراء هذه السباب فاعلا مختارا، وليست الأسباب مؤثرة في الإيجاد، غنما المؤثر هو الله سبحانه وتعالى.
وإحياء الموتى وحده برهان قاطع على ان الأسباب العادية ليست هي المؤثرة وغنما الخالق المكون هو المؤثر، وان الأشياء لم تخلق بالعلية، إنما خلقت بالإرادة المختارة المبدعة المنشئة المكونة، وعبر بقوله :﴿ بإذن الله ﴾في كل هذا للإشارة على ان المبدع المنشئ هو الله سبحانه وتعالى، وانه ليس ما يجري على يدي عيسى لمعنى الألوهية فيه، إنما هو لله العلي القدير.
والآية الرابعة بينها سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾ :
الإنباء والتنبؤ : الإخبار بالخبر العظيم، إما لموضوعه، وغما لعظم شأن الإخبار نفسه، والإخبار عن شئ من غير رؤيته، إخبار عظيم في ذات شانه ؛ولقد كان عيسى لفرط روحانيته، ولما أكرمه الله به من إجراء الخارق للعادة على يديه تأييدا لرسالته، يخبر من بعث إليهم بما يأكلون، أي ما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم، وهذا نوع من الكشف النفسي أعطاه الله لنبيه عيسى عليه السلام، وهو ليس من قبيل الإخبار عن المستقبل، وإنما هو من قبيل الإخبار عن الحاضر الواقع ممن لا يراه.
وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يخبر عن بعض الأمور المستقبلة، كما اعلمه الله تعالى، مثل قوله تعالى :﴿ غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ﴾وكإخباره عليه الصلاة والسلام عما يحدث لأمته في الأزمان المستقبلة، وكإخباره عليه الصلاة والسلام عن فشو الربا في أمته، مثل قوله عليه الصلاة والسلام :"يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا"قيل : الناس كلهم يا رسول الله ؟ !قال"من لم يأكله ناله غباره"١. هذه المعجزات الأربع وغيرها، هي آية الله تعالى لإثبات رسالة السيد المسيح عليه الصلاة والسلام ؛ولذا قال تعالى بعد ذكرها :
﴿ إن في ذلك لآية لكم عن كنتم مؤمنين ﴾أي إن في هذه الأمور التي أجراها الله على يد السيد المسيح عليه السلام لآية، أي لعلامة واضحة بينة تدل على صدق رسالته، وتثبيت دعوته، ويقتنع بها من يريد الاقتناع. وقوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾إيماء إلى ان الذين يقتنعون بالحجج والآيات هم الذين من شانهم ان يذعنوا للحق، ويخضعوا له ؛فالناس قسمان : قسم يذعن للحق ويؤمن به إن قام الدليل عليه، وأولئك هم الذين من شأنهم الإيمان والإذعان للحق ؛وقسم لا يزيده الدليل عليه إلا عنادا واستكبارا، وأولئك هم الذين من شأنهم ان يجحدوا ولا يذعنوا للحق إذا دعوا إليه ؛ولذلك عبر بالوصف في قوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾أي إن كان الإيمان والإذعان للحق شانا من شئونكم، ووصفا ذاتيا لكم.
وإن هذه المعجزات الباهرة القاهرة التي خضع لها من خضع، وكفر بعدها من كفر، ذليل على ان الدليل مهما يكن قويا لا يكفي للإيمان، بل لا بد من اتجاه نفسي لطلب الحق من ان يتأشب بالنفس أي داع من دواعي الهوى، او أي غرض من أغراض الدنيا ؛وأي دليل حسي أقوى في الدلالة على الرسالة الإلهية من إحياء الموتى، وان يصور من الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله، ومع ذلك آمن من آمن، وكفر من كفر، وكان الذين عاندوا أكثر عددا من الذين أذعنوا وآمنوا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
بعد ان أشار سبحانه إلى الآيات الكبرى التي أجراها على يدي السيد المسيح عليه السلام، أشار إلى رسالته، وهي تتلخص في أمرين : انها مصدقة لما جاء في التوراة مع إحلال لبعض الذي حرم على اليهود فيها، وثانيها : انه يدعو إلى الإيمان بان الله خالق كل شئ ومبدعه ومنشئه بإرادته المختارة ؛وهذا ما تضمنه قوله تعالى :﴿ وجئتكم بآية من ربكم ﴾.
ولذا احل الله لهم على يديه بعض ما حرم عليهم بظلمهم وقسوتهم وجفوتهم﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم... ١٦٠ ﴾[ النساء ]ولقد قال تعالى :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما او الحوا يا او ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وغنا لصادقون١٤٦ ﴾[ الأنعام ]. ذلك لنهم قست قلوبهم وغلظت أكبادهم، واستناموا إلى الراحة واسترخت أجسامهم، فابتلاهم الله بهذا التحريم لينشطوا ويعملوا، ويكونوا قوة عاملة، ولا يكونوا أجساما مسترخية ؛فلما جاء عيسى عليه السلام، وقد نزل بهم من البلاء ما نزل، احل الله لهم على لسانه ما كان قد حرم. وقوله تعالى :﴿ وجئتكم بآية من ربكم ﴾ذكرت الآية، لأن جزءا من الرسالة العيسوية إثبات خلق الأشياء بالإرادة المختارة، ومعجزته كلها تتجه نحو هذا الاتجاه، فهي في ذاتها جزء من دعوته ؛لإثبات قدرة الله تعالى وإرادة في الخلق والإبداع.
وبعد ان أشار سبحانه إلى ما تضمنته الرسالة العيسوية، ذكر دعوة عيسى لقومه بهذه الرسالة، فقال سبحانه حاكيا قول عيسى لهم :
﴿ فاتقوا الله وأطيعون ﴾كانت دعوة عيسى تتجه إلى هذين المرين : تقوى الله تعالى، وان يطيعوه بان يتبعوه في منهاجه الذي رسمه لهم ووجههم إليه تبليغا لرسالة ربه. أما تقوى الله تعالى فكان لا بد ان تكون لباب الدعوة العيسوية ؛لأن اليهود كانوا قد اعرضوا عن الله تعالى إعراضا تاما، حتى لقد كان فريق منهم، وهم الصدوقون لا يؤمنون باليوم الآخر، وحتى لقد حسب أكثرهم ان العقاب الذي هدد الله به هو العقاب الدنيوي، لا العقاب الأخروي ؛ومن اجل ذلك سرى في قلوبهم حب الدنيا والحرص عليها شديدا أيا كانت حياتهم فيها ؛ولذا قال تعالى عنهم :﴿ ولتجدنهم احرص الناس على حياة... ٩٦ ﴾[ البقرة ].
وأما الطاعة لعيسى عليه السلام ف[ ان يتخذوا منه قدوة حسنة في زهادته وروحانيته وسماحته، ليخففوا من غلظتهم وقسوتهم. واليهود إلى الآن في أشد الحاجة إلى مثل هذه الدعوة، وهي التقوى والعفة والسماحة، ولكنهم أجابوا في الماضي داعي الحق بمحاولة قتله، وكذلك يفعلون الآن، فهم يحاولون قتل من حموهم وآووهم.
﴿ إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ﴾أي ان الله تعالى خلقني وهو الذي يربني ويكلؤني ويحييني، وهو أيضا الذي خلقكم وينميكم ويكلؤكم ويحييكم، وإذا كان كذلك فحق علينا ان نعبده وحده ولا نشرك به أحدا سواه، فإن العبادة تكون شكرا لهذه النعمة، وقياما بحقها، وصلاحا لمر الناس في هذه الدنيا. وعبادة الله وحده والاعتراف بربوبيته وألوهيته وحده هي الصراط أي الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، اللهم أهدنا إلى سواء السبيل.
هذا القصص الحكيم مستمر في قصة عيسى، وقد انتقل في الآيات السابقة من بشارة مريم بأن تكون المختارة لتكون منها الآية الكبرى وهو ان يولد منها ولد هو إنسان حي يأكل ويشرب وينمو من غير أب ينجبه، إلى ملاقاة قومه له وتكذيبه ؛ولم يكن ذلك الانتقال مفاجئا من غير تمهيد بل مهد له، فأشار في البشارة إلى مقامه ورسالته وآيته الباهرة القاهرة ؛وبهذا علم القارئ الذي يتلو كتاب الله من السياق رسالته والمعجزات التي تحدى بها قومه ان يأتوا بمثلها ؛وعلى ذلك لم يبين في هذا الموضع ولادة عيسى عليه السلام، وحال مريم عند ولادته، وتكلمه في المهد صبيا، وبين ذلك في سورة مريم في قوله تعالى :﴿ فحملته فانتبذت به مكانا قصيا٢٢ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليثني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا٢٣ فناداها من تحتها الا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا٢٤ وهزي عليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا٢٥ فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر فقولي غني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم إنسيا٢٦ فاتت به قومه تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا٢٧ يا أخت هارون ما كان أبوك امرا سوء وما كانت أمك بغيا٢٨ فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا٢٩ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا٣٠ وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا٣١وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا٣٢ والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم ابعث حيا٣٣ ﴾[ مريم ]. ففي سورة مريم فصل خبر ولادته، وفي هذه السورة فصل الآيات التي أثبت بها نبوته، وكان هذا مناسبا لما يجئ بعد ذلك من ملاقاة قومه لدعوته على الله، وإقامته الآيات التي تدل على رسالته، فقال :
﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ﴾هذا النص الكريم كان معقبا للآيات الباهرة من إحياء الموتى وإبراء الكمه والأبرص، وتصوير الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله. وتعقيبه لهذه الآيات، وكون الكثرة لم يكونوا مؤمنين كما يشير النص، يدل على ان الآية مهما تكن باهرة قاهرة لا تحمل الجاحدين الذين غلفت قلوبهم دون نور الهداية على الإيمان، والفاء هنا كأنها فاء التعقيب على الآيات الباهرة، أي انهم فور هذه الآيات كفروا ولم يتدبروا، وأحس منهم عيسى هذا الكفر، فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله. والإحساس هو العلم الذي يكون بالحواس، وإطلاقه على العلم المجرد بعد ذلك من قبيل تشبيه العلم اليقيني القاطع البدهي بالعلم المدرك بالحواس.
ولما أحس عيسى الذي أوتي هذه البينات الكفر من قومه، وعلم ذلك علما يقينا، اتجه إلى من يدعوهم يتعرف من أصاب الإيمان قلبه ليتخذ منهم قوة للدعوة وليكونوا صورة للمهتدين الصادقين ؛ولذلك قال :﴿ من أنصاري إلى الله ﴾أي من الذين رضوا ان يكونوا أنصاري لأواجه بهم الذين يحاربون دعوتي، على ان يكون أولئك الأنصار منصرفين متجهين إلى الله تعالى لا يبغون غير رضاه، وهذا التعبير الكريم فيه إشارة إلى معان ثلاثة :
أولها : ان الأكثرين لم يكونوا مؤمنين ؛ولذلك عبر بقوله تعالى :﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر ﴾فنسب الكفر إليهم، وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة، والمؤمنون هم القلة المغمورة، حتى بحث عنهم السيد المسيح عليه السلام بقوله : من أنصاري إلى الله تعالى.
المعنى الثاني : الذي يشير إليه النص الكريم : ان السيد المسيح عليه السلام أحس بأنه أصبح مقصودا بالأذى، وان الدعوة الحق أصبحت مهاجمته من تلك الكثرة الساحقة ؛ولذلك طلب ان يكون له نصراء يجعلون للحق منعة وقوة من جهة، ويكونون مدرسة الدعاية له، والخلية التي تدرس فيها حقائقه من جهة أخرى.
المعنى الثالث : الذي يشير إليه النص : هو ان النصرة الحقيقية في مثل هذا المقام أساسها إخلاص النية لله تعالى، والاتجاه إليه، وتفويض الأمور إليه، فإنهم عن كانوا قليلا فهم بمعونة الله كثيرون ﴿ ولينصرن الله من ينصره عن الله لقوي عزيز٤٠ ﴾[ الحج ] ولذلك كان في سؤال السيد المسيح عليه السلام إضافة النصراء إلى الله، فقال :﴿ من أنصاري إلى الله ﴾وقد قال في ذلك الزمخشري :"إلى الله من صلة أنصاري مضمنا معنى الإضافة، كأنه قيل : من الذين يضيفون انفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني، او يتعلق بمحذوف حالا من الياء، أي من أنصاري ذاهبا إلى الله او ملتجأ"والأوضح في نظري ان يكون المحذوف حالا من الأنصار انفسهم أي من أنصاري حالة كونهم متجهين ملتجئين على الله تعالى، وفي هذا طمأنة لهم بان نصرته هي نصرة الله، وان الذين ينصرونه يلتجئون إلى جانب الله تعالى، يعتمدون عليه، فهم إذا كانوا للحق منعة، في عزة من الله ومنعة منه، وغن دعوة الحق لا بد ان تجد نصيرا وإن طغى الباطل واشتد ؛ولذلك أجيب عيسى عليه السلام من المخلصين من قومه :
﴿ قال الحواريون نحن أنصار الله ﴾الحواريون هنا هم أنصار عيسى عليه السلام الذين اخلصوا له ولازموه، وكانوا عونه في الدعاية إلى الحق بعد الله تعالى الذي أمده بنور من عنده. واصل مادة ( حور ) : هي شدة البياض، او الخاص من البياض، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق : الحواري، وعلى النساء البيض : الحواريات، والحوريات ؛وعلى ذلك يكون تسمية صفوة الرجل وخاصته حواري ؛لأنهم اخلصوا له، ولنهم لباب الناس بالنسبة له، وكذلك كان حواريو عيسى عليه السلام ؛ فقد كانوا خاصته، والذين صفت نفوسهم، وخلصت من أدران الدنيا وأهوائها كما يخلص الثوب البيض الناصع البياض من كل ما يشوبه.
أجاب أولئك الحواريون عيسى عليه السلام عندما اخذ يبحث عن النصراء﴿ نحن أنصار الله ﴾وهم بذلك بينوا اهتداءهم لأمرين :
أولهما : انهم علموا انه يتكلم عن الله تعالى وانه رسول أمين ؛ولذلك اعتبروا إجابة دعوته هي من إجابة دعوة الله، وأنهم إذا كانوا نصراءه فهم نصراء الله تعالى ؛ولذا قالوا : نحن أنصار الله، ولم يقولوا نحن أنصارك.
الأمر الثاني : انهم فهموا ان نصرته تكون بإخلاص النية لله تعالى، وتصفية نفوسهم من كل أدران الهوى، حتى تكون خالصة لله تعالى، ولذلك أردفوا قولهم هذا بما حكاه سبحانه وتعالى عنهم بقوله تعالى :﴿ آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ﴾فهذا النص الكريم يفيد مقدار إدراكهم لمعنى نصرة الله تعالى ونصرة رسوله عيسى عليه السلام ؛قالوا﴿ آمنا بالله ﴾أي آمنا بأنه الواحد الحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا احد، وانه خلق الأشياء بإرادته المختارة، وبقدرته الفعالة، ولم توجد عنه الأشياء وجود المعلول عن العلة، والمسبب عن السبب، كما كان يدعي بعض الفلاسفة في عصرهم، وأردفوا قولهم بما يدل على الإذعان المطلق لله تعالى، وإخلاص نياتهم وقلوبهم له سبحانه بقولهم :﴿ واشهد بانا مسلمون ﴾. الشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة، فهم يطلبون من سيدنا عيسى ان يعلم علم معاينة بأنهم مسلمون أي مخلصون قد اسلموا وجوههم لله رب العالمين، وصاروا بتفكيرهم وقلوبهم وجوارحهم لله تعالى، وغن ذلك فوق انه إعلام لحقيقة نفوسهم هو إشهاد من قبلهم بما خلصت به أرواحهم.
﴿ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول ﴾وقد صدروا ضراعتهم إلى الله تعالى بالاعتراف الكامل بالربوبية، وفي الاعتراف بالربوبية إحساس صادق بجلال النعم، وتقديم شكر المنعم، لن كمال الخضوع لله لا يكون إلا بالإيمان بالربوبية، ووراء هذا كله الإفراد بالعبودية، ثم بعد الضراعة بلفظ الربوبية أعلنوا الخضوع والإذعان الكامل، فقالوا :﴿ آمنا بما أنزلت ﴾أي صدقنا تصديق إذعان وتسليم وهداية بما أنزلت. وما انزل الله تعالى على عيسى عليه السلام هو تكليفات ؛فالإيمان الصادق بها يقتضي العمل، لن العمل يدل على كمال الإيمان، ولن المخالفة من غفوة الإيمان، ومن قبيل ذلك قول محمد صلى اله عليه وسلم :"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"١
. وقد تأكد ذلك المعنى وهو العمل بمقتضى ما انزل لهم بعد ذلك في ضراعتهم﴿ واتبعنا الرسول ﴾وهو عيسى عليه السلام، وإتباع الرسول يكون بالعمل بهديه، والأخذ بسنته.
وإذا كانوا قد ضرعوا إلى ربهم بهذا الإيمان تلك الضراعة، فقد اتجهوا مع ذلك إلى دعائه راجين بإجابته ان يقوي الله سبحانه وتعالى إيمانهم، وان ينقلهم من الإيمان الغيبي إلى الإيمان الذي يصل إلى درجة المشاهدة ؛ولذا قالوا :
﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾أي إذا كنا امتلأت قلوبنا بربوبيتك، وإلوهيتك وعبوديتك فارفعنا إلى مرتبة أعلى هي ان نكتب مع الشاهدين ؛ومن هم الشاهدون ؟يصح ان نقول غنهم الذين صفت نفوسهم وزكت مداركهم، حتى وصلوا إلى درجة العلم الذي يكون كعلم المشاهدة والرؤية، الذين قال في أمثالهم محمد صلى اله عليه وسلم :"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"٢فهذه مرتبة من الإيمان، والمعرفة أعلى من مجرد الإيمان. ويصح ان تسمى هذه المرتبة مرتبة الشهود او المشاهدة التي يقول عنها الصوفية، فالمؤمن يتعبد، ويصفى نفسه من أدران الدنيا، حتى يصبح كأنه يشاهد الله رب العالمين في أعلى ملكوته، ويحس في كل فعل كأنه في حضرته العلية كمن يعاينه.
وإن النص الكريم يدل على وجود ذلك الصنف من العباد الأصفياء الأتقياء الأبرار، وأنهم في أعلى درجات اليقين، بدليل ان هؤلاء الأتقياء طلبوا ان يكونوا في هذا الصنف، وحكى العلي القدير للأجيال طلبهم الذي رشحهم له فرط ضراعتهم وتقواهم، وأولئك الشاهدون هم الأنبياء والصديقون والشهداء.
أحس عيسى عليه السلام بحدة كفر الكافرين، وشدة نضالهم ؛ولذلك اتجه إلى ان يكون له دعاة مناصرون أطهار، تكون منهم مدرسة الحق، واخذ يبث تعاليمه في تلاميذه، وينتقل في أراضي بيت المقدس وجبالها وآكامها هاديا مرشدا باعثا الأرواح إلى الإيمان بالحق، ولكن جحدوا بالحق بعد ان ظهرت أماراته، وقامت بيناته، ثم أخذوا يحولون بينه وبين هدايته، ودعوة الحق التي يدعو بها، ولما رأوا ان نور الحق يزداد انتشارا، قرروا انه لا بد ان يقطعوا حركته نهائيا بتدبير الشر لشخصه. ويستفاد من الإشارات القرآنية انهم حاولوا قتله، ولا عجب فقد قتلوا يحيى بن زكريا عليه السلام الذي عاصره. ولا يستغرب على اليهود عمل فاجر، فهم في ماضيهم كما نراهم اليوم في حاضرهم.
٢ سبق تخريجه..
أي ان هؤلاء الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر، ورآه عيانا منهم بعد ان كون فيهم مدرسة الهداية بالحواريين، واخذوا يدبرون التدبير للقضاء عليه او على دعوته. والمكر، كما يظهر من عبارات القرآن : هو التدبير الذي يجتهد صاحبه في إخفائه عمن يمكر به ؛ولذا ذكر المكر إلى الله تعالى، ولا يمكن ان يكون عمل الله تعالى إلا خيرا، ولذا ذكر المكر موصوفا بالسوء في قوله تعالى :﴿ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله... ٤٣ ﴾[ فاطر ]فدل هذا على ان مطلق المكر لا يعد سوءا، مكر الفجار لإيذاء الأبرار لا يمكن ان يكون خيرا، ومكر الله تعالى لإحباط تدبير الأشرار لا يتصور إلا ان يكون خيرا. وقد قصر بعض المفسرين المكر على التدبير السيئ، وسمى تدبير الله لإحباط تدبيرهم مكرا من قبيل المشاكلة ورد الفعل بمثله وغن لم يكن له وصفه، كتسمية رد الاعتداء اعتداء في مثل قوله تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم... ١٩٤ ﴾[ البقرة ]وما هو إلا عمل عدل ولكن سمى به للتماثل بين الفعلين في الواقع ليتحقق الدفاع العادل.
دبر أولئك قتل عيسى عليه السلام كما قتلوا يحيى، فكانوا-لاستيلاء الفساد على قلوبهم-قد أصابهم شره لدماء الأطهار دبروا ذلك، والله يدبر حمايته، وقد تم ما أراد الله تعالى ؛ولذا قال تعالى :
﴿ والله خير الماكرين ﴾فسرها بعض المفسرين بان الله سبحانه لا يصدر عنه إلا الخير، فمكره خير مكر لأنه لا يتصور فيه شر قط. وفسر الزمخشري قوله :
﴿ والله خير الماكرين ﴾بقوله : أقواهم مكرا، وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب ؛وذلك كلام مستمد من ذوق بياني رائع والله من وراء كل من يدبر الشر للأطهار، وهو الذي يحفظ بعلمه وقدرته الأبرار، ربنا هيئ لنا من أمرنا رشدا.
هذه الآيات موصولة بالقصص السابق، والذي تدل عليه الآيات قبلها هو ان معركة قائمة بين الخير والشر ؛فعيسى عليه السلام ينادي أنصاره إلى الله تعالى، ويجيبه الحواريون بالإيمان والإخلاص والاستعداد للابتلاء في سبيل إيمانهم ونصرتهم للسيد المسيح عليه السلام، والشر يدبر التدبير السيئ، والله من ورائهم محيط، يدبر الخير ويهدي إليه﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ﴾وفي هذه الآيات يبين سبحانه خيبة تدبيرهم ونجاته عليه السلام من شرهم، وذلك قوله تعالى :﴿ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ﴾ :
والمعنى : اذكر يا محمد للعظة والاعتبار قصص عيسى بن مريم، غذ قال الله تعالى له في نداء رحيم منجيا له من أذى اليهود الذين كانوا ولا يزالون أعداء لكل خير، أنصار لكل شر :﴿ يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ﴾والمعنى المتبادر من هذا النص الكريم ان الله تعالى توفى عيسى كما يتوفى النفس كلها، وانه رفع مكانته برفع روحه غليه سبحانه وتعالى، كما ترفع أرواح الأنبياء إليه سبحانه وتعالى، هذا ظاهر هذا النص، ولكن جاءت نصوص أخرى يفيد ظاهرها ان الله تعالى رفعه بجسده غليه سبحانه ؛فقد قال تعالى :﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينا١٥٧ بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما١٥٨ ﴾[ النساء ]فظاهر هذا النص أن الله تعالى رفعه إليه بجسمه ؛لأنه مقابل بالقتل والصلب، ولا يصلح مقابلا لهما رفعه بالروح ؛لأنه يجوز ان يجتمع معهما، ويؤيد هذا ما ورد في صحاح السنة من ان عيسى عليه السلام سينزل على الأرض فيملؤها عدلا، كما ملئت جورا وظلما ؛فقد روى مسلم عن ابي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص١ فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، ويدعون على المال فلا يقبله أحد"٢ فإن ظاهر هذا الحديث يفيد انه ينزل بجسمه من الملكوت الأعلى.
وإزاء تعارض ظواهر النصوص على ذلك النحو، كان لا بد من تأويل جانب منها لتكون ثمة مواءمة بينه وبين الأخرى ؛ففريق من العلماء وهم الأقل عددا، أجروا قوله تعالى في الآية الكريمة التي نتكلم في معناها على ظاهرها وأولوا ما منزلتك وروحك إلي، فالله سبحانه وتعالى توفاه كما يتوفى النفس كلها، ورفع روحه كما يرفع أرواح النبيين إليه.
وإذا كان أصحاب هذا الرأي قد فسروا الآية على ذلك الظاهر، فقد قرروا انه لا معارضة بينها وبين الأحاديث التي تفيد النزول ؛لأنها تدل على مجرد العودة عن أخذناها بظاهرها، وليس الله سبحانه وتعالى بعاجز عن ان يرد روحه إلى جسمه، وهو الذي يحيى العظام وهي رميم، وكما قال تعالى :﴿... كما بدأكم تعودون٢٩ ﴾[ الأعراف ]وفضل عيسى عليه السلام انه عاد إلى جسده قبل ان يعود غيره على جسده، هذا إذا قبلت هذه الأحاديث بظاهرها من غير تأويل، ومن غير نزر إلى سندها وكونها أخبار آحاد لا يؤخذ بها في الاعتقاد.
وأما التوفيق بين الآية الكريمة وبين قوله تعالى :﴿ بل رفعه الله إليه ﴾فإنه في نظر أصحاب ذلك النظر لا يحتاج إلى عناء في التأويل ؛لن الإضراب الذي تضمنته"بل"إضراب عن القتل والصلب، وليس إضرابا عن الموت الطبيعي، وكونه لا يقتل ولا يصلب لا يقتضي انه لا يموت موتا طبيعيا، والتعبير بقوله :﴿ بل رفعه الله إليه ﴾فيه إشارة إلى معنى الكرامة والإعزاز والحماية، وانه تعالى حاميه منهم، ومانعه دونهم، وأنهم لن يتمكنوا من رقبته ؛إذ إن الذي يحميها هو خالق الكون، وخالق القدر.
هذا هو التفسير الأول للآية الكريمة، وهو الذي يجريها على ظاهرها من غير أي تأويل، ويقرر انه إن كان لا بد من تأويل فهو فيما يعارض ظاهره ظاهرها، على ان التوفيق في ذاته ممكن من غير تأويل بعيد او قريب، إذ الظاهر أن التفسيرين في نظرهم غير متعارضين، والتوجيه الصحيح لمعانيها يجعلها متلاقية غير متنافرة وإن التأويل إنما يكون بترك ظاهر الآية الكريمة :﴿ متوفيك ورافعك إلي ﴾.
والتفسير الثاني : يقرر ان الرفع بالجسم لا بالروح فقط، وان عيسى حي في السماء، وان الأرض قد خلت منه ليعود إليها فيملؤها عدلا، بعد أن ملئت جورا ؛وغن أصحاب هذا الرأي وهم الأكثرون ويحتاجون بلا ريب إلى تأويل هذه الآية، ولهم في التأويل طرق مختلفة، منها ان قوله﴿ متوفيك ﴾ ليس معناها مميتك، بل معناها هو المعنى اللغوي الأصلي ؛إذ إن التوفي في اللغة أخذ الشئ وافيا تاما، والمراد في نظرهم أني موفيك حياتك كلها في الدنيا على الأرض ببقائك فيها، ثم رافعك إلى السماء تستوفي حظك من الحياة. ولكن يعارض هذا التأويل ان القرآن له استعمال في العبارات يخصصها، وقد خصص هذا اللفظ بالموت، كما خصصته اللغة، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ والله يتوفى النفس حين موتها ﴾وقوله تعالى :﴿ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم... ١١ ﴾[ السجدة ].
ومن التأويلات : انهم فسروا الوفاة بمعنى النوم باعتبار ان النوم هو الموتة الأولى، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار... ٦٠ ﴾[ الأنعام ]. والمعنى على هذا منومك نوما عميقا، ثم رافعك في أثناء هذا النوم إلي.
ومن التأويلات : ما ذكره القرطبي بقوله :﴿ إني متوفيك ورافعك إلي ﴾على التقديم والتأخير ؛لن الواو لا توجب الرتبة، والمعنى إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد ان تنزل من السماء، كقوله تعالى :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما واجل مسمى١٢٩ ﴾[ طهي، والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما٣ أي ان الوفاة ستكون، وليست سابقة على الرفع، بل هي متأخرة عنه، أي أنه عليه السلام يموت بعد ان ينزل إلى الأرض ولا شك ان هذا ضرب من التأويل، وليس ظاهر النص.
ذانك نظران في تفسير الآية الكريمة، أولهما يعتمد على ظاهر الآية الكريمة، وعلى انه لا تعارض بين هذا الظاهر وظواهر النصوص الأخرى، ومنهم من يقف من أحاديث نزوله إلى الأرض موقف المستفهم ؛لماذا اختص عيسى بهذا ؟ ولماذا لا يكون هذا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ويخشى ان يكون ذلك من دس النصارى، وكم دسوا في الإسلام ؛ولقد كان في عصر التابعين يوحنا الدمشقي في بلاط بني أمية يؤلف الجماعات السرية التي تدس الآراء والأفكار التي من شانها ان تفسد عقائد المسلمين.
أما النظر الثاني فاعتماده الأكبر على الأخبار التي وردت بنزول عيسى عليه السلام وأول من أجلها هذه الآية الكريمة، مع ان الأخبار احاديث آحاد، وأولئك هم الأكثرون كما قلنا.
﴿ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ﴾التطهير معناه إزالة الأدران والخبائث، والله سبحانه وتعالى طهر المسيح عليه السلام من الآثام التي حاول ان يلصقها به وبأمه اليهود ومن جاءوا بعده ممن ادعوا إتباعه وهم لم يتبعوه، وأبدى سبحانه وتعالى للملأ من اليهود طهر أمه وعفتها ونزاهتها، كما أبدى روحانية وسلامته مما رماه به من عادوه وأفرطوا في عداوته، وما رماه به من أحبوه وأفرطوا في محبته حتى حسبوا انه غله او ابن إله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. هذا تطهير الله لعيسى عليه السلام، ولقد طهره أيضا بأن لم يمكن ليهود والرومان من صلبه ومن قتله بل شبه لهم، ونجاه الله تعالى من كيدهم ؛وهكذا طهر الله عيسى من كل رجس معنوي او حسي، ومن كل أذى حسي او معنوي.
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وهنا يسأل القارئ لكتاب الله : من هم الذين اتبعوه ؟ومن هم الذين كفروا به ؟وما هذه الفوقية التي تكون للذين اتبعوه ؟
ليس الذين اتبعوه هم الذين قالوا إنا نصارى او نحن نتبع المسيح وكانوا يزعمون انه ثالث ثلاثة او ابن الله ؛لأنه ما قال هذا وما ادعاه، ولكنه جاء بالتوحيد، والإيمان بالله العلي القدير وحده ؛وغنما الذين اتبعوه هم الذين آمنوا به، وبأنه رسول من رب العالمين، وبأنه بشر كسائر البشر، وان تعاليمه هي العدالة، والرحمة، والسماحة، والإخلاص في طلب الحق وعبادة الله تعالى كما امر الله ؛ولذلك لم يجانب الحق من قال إن أتباعه هم المسلمون، لأنهم هم الذين يؤمنون برسالته حق الإيمان من غير إفراط ولا تفريط، ومن غير ان يتجاوزوا به قدره الذي قدره الله تعالى له وسواء عليه.
والفوقية ليست هي القوة ؛فإن الأسد أقوى من الإنسان، ولكنه ليس فوقه ولا أعلى منه، بل الفوقية هي فوقية الإدراك والإيمان والإخلاص ؛وذلك لن سبب الفوقية هو الإتباع، والمسبب من جنس السبب، فالسبب معنوي روحي فالفوقية روحية معنوية، فليست الفوقية إذن فوقية سيف وسنان، بل فوقية حجة، وبرهان، . ولقد قال الزمخشري في ذلك :"يعلونهم بالحجة، وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف، ومتبعوه هم المسلمون ؛لأنهم متبعوه في أصل الإسلام، وغن اختلفت الشرائع، دون الذين كذبوه، والذين كذبوا عليه من اليهود والنصارى"٤.
﴿ ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾إن الفوقية التي أشرنا إليها هي فوقية الحجة القوية الثابتة عن النظر بعين الحق السائغ، والقسطاس المستقيم، وإن هذه الحجة قائمة في الدنيا إلى يوم القيامة، حتى إذا انتهوا إلى ذلك اليوم المعلول المقطوع بأنه سيقع لا محالة، يكون الاحتكام بها إلى الحكم العدل العليم ؛ولذا قال سبحانه :﴿ ثم إلي مرجعكم ﴾أي إلي رجوعكم ومآبكم، وإذا كان المرجع إلى الله والمصير إليه سبحانه وهو العليم بكل شئ، فهو الذي يحكم بينهم فيما كانوا يختلفون فيه، وحجة بعضهم فوق حجة الآخرين، فالفاء في قوله تعالى :﴿ فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾هي التي تسمى فاء الإفصاح ؛لأنها تفصح عن شرط مقدر، وقد ذكرناه في مطوي كلامنا.
٢ متفق عليه، وقد رواه بهذا اللفظ عن ابي هريرة-رضي الله عنه-مسلم: الإيمان-نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا(٢٢١)، وبه رواه احمد: باقي مسند المكثرين(١٠٠٠١)، ورواه البخاري: البيوع-قتل الخنزير(٢٠٧٠)..
٣ أحكام القرآن للقرطبي ج٤ ص٩٩..
٤ الكشاف: ج ١ ص١٩٢..
﴿ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾هذا هو الجزء الأول من الحكم، وهو عذاب الذين كفروا، وفي التعبير بالموصول إشارة إلى ان سبب العذاب هو كفرهم، وقد أكد سبحانه وتعالى شدة العذاب بعدة تأكيدات، أولها : بنسبة التعذيب إليه، وهو القوي القهار الغالب على كل شئ، وفيه إشعار بعدالة العذاب عدالة مطلقة، وثانيها : بالتأكيد بالمصدر، وثالثها : بالوصف بالشدة، ورابعها : بعدم رجائه إنهاءه او إزالته ؛إذ لا يوجد لهممن ناصر ؛ولذا قال سبحانه :﴿ وما لهم من ناصرين ﴾وهو نفي مؤكد مستغرق، أي ليس لهم من ناصر أيا كان هذا الناصر، وأيا كانت نصرته، ولو كانت ضئيلة.
ولقد ذكر ان العذاب في الدنيا. وفي الآخرة ؛أما عذاب الآخرة فالأمر فيه إلى الله تعالى العلي القدير، وأما عذاب الدنيا بالنسبة لمن كذبوا المسيح من اليهود فهو هذه الذلة والتفريق في الأرض، ومهما يحاول الكافرون أمثالهم لهم من معاونة فإن حبلها مقطوع بعون الله تعالى العلي القدير﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون٢٢٧ ﴾[ الشعراء ]وأما النصارى فإن العذاب الذي هم فيه يبدو للناظر الفاحص من اختلافهم فيما بينهم، وتفرقهم أحزابا وشيعا، وجعل بأسهم بينهم شديدا، وهذه هي الحروب بينهم مستمرة مفنية مدمرة، وأي عذاب اشد من هول الحروب التي وقعت بينهم في الحربين العالميتين السابقتين ! !فكم من دماء أهر قها أولئك الذين كفروا بالمسيح فيما بينهم، وأي ذرية أبادوها، وكم من العمران خربوه ! !ولا يدري إلا الله ما سيكشف عنه المستقبل من عذاب شديد يعده بعضهم لبعض، حتى يصيروا في نهايتهم بورا.
﴿ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ﴾ذلك القصص الذي ذكرت فيه قصة آل عمران، وقصة مريم وولادتها و زكريا ونداءه وإجابته، وعيسى وروحانيته وآياته الباهرة، نتلوه، أي نقصه عليك بعضه تلو بعض فنتلوه في بيان رائع، وهو من الآيات البينات المثبتة لرسالتك، فما كنت لديهم غذ حدثت هذه الوقائع الثابتة التي لا مجال للريب ولا للشك في صدقها، وما كنت تقرأ في كتاب، ولا تلقيته بيمينك، إنما هو وحي به إليك لتثبت به رسالتك، وتؤيد به دعوتك، وهذا القصص مع دلالته على نبوتك هو في ذاته يحمل العظة والاعتبار ؛ولذلك كان هو من﴿ والذكر الحكيم ﴾أي الذكر الذي يربي الحكمة في القلوب التي تقرأ وتعي وتدرك، إذ هو يذكر القارئ بأن الأدلة مهما تكن قوتها لا تجعل الضال يهتدي ما لم يفتح قلبه لها، فالأدلة كالنور لا يراه إلا من له بصر يبصر به، اللهم افتح قلوبنا لإدراك الحق والإيمان، إنك على كل شئ قدير.
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى كيف كان الحمل بعيسى، وما أجراه الله تعالى على يديه من معجزات، وكيف كان عبدا من عباده الصالحين، وذكر دعوته على ربه، ومعاداة قومه له، وتقدم الحواريين ليكونوا أنصاره إلى الله، وكيف مكر القوم به وأحبط الله مكرهم، ثم توفاه سبحانه، ورفعه غليه، وجعل فوقية للذين اتبعوه في هدايته، فآمنوا بوحدانية الله وبرسالته، وليس منهم قطعا أولئك الذين قالوا إنا نصارى وادعوا ألوهيته، او انه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وإنه في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى حقيقة تكوين عيسى، ويزيل وجه الغرابة في ولادته، وان الله تعالى لا يتقيد بالأسباب والمسببات ؛لأنه خالق كل شئ، وهو الفاعل المختار، يخلق الأشياء بإرادته واختياره، ولا تصدر عنه المخلوقات صدور المعلول عن علته، كما يتوهم الماديون الذين عاصروا عيسى عليه السلام، والذين يعاصروننا اليوم، وغن الله سبحانه كما خلق الإنسان الأول آدم من غير أب ولا ام، فكذلك خلق عيسى من غير أب، وهو سبحانه ذو القوة المتين.
ولقد بين سبحانه هذه الحقيقة بقوله :
﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ﴾يبين الله بهذا النص الكريم مكان خلق عيسى عليه السلام من قدرته سبحانه وتعالى، بجوار خلق آدم من تراب ؛فالله سبحانه وتعالى خلق آدم من تراب، أي من غير أب ولا ام، ومن مادة ليس من شانها ان يكون منها إنسان حي ينطق ويتكلم، وقد تعلم الأسماء والأشياء كلها ؛ومعنى النص الكريم : إن حال عيسى في تصويره وتكوينه من غير أب بالنسبة لقدرة الله تعالى كحال آدم صوره وكونه من طين.
وفي هذا التمثيل احتجاج على النصارى الذين الهوا المسيح عيسى ابن مريم لأنه خلق من غير أب، واعتبروه ابن الله والاحتجاج من وجهين :
أولهما : أنه إذا كان خلق عيسى من غير أب مسوغا في زعمهم لن يكون إلها او ابن إله، فأولى بذلك ثم أولى آدم ؛لأنه خلق من غير أب ولا ام، ولا أحد من الناس ادعى ألوهية آدم لهذا السبب فيبطل حينئذ ذلك الزعم الباطل لانهيار الأساس الذي قام عليه.
ثانيهما : ان الله سبحانه وتعالى إذا كان قادرا على خلق إنسان حي من غير أب ولا ام، ومن مادة ليس من شأنها ان يتكون منها إنسان حي، فأولى ان يكون قادرا على خلق إنسان من غير أب، ومن ام هي إنسان يلد ويحيا ويموت، وهي وعاء لحياة الإنسان وهو جنين ؛وإذا فلا غرابة في خلق عيسى من غير أب، وما كان يصح ان يكون هذا دافعا لهذا الضلال المبين.
والنص الكريم فوق ما تضمنته من حجة دامغة تقطع دعوى المبطلين، وهو بيان لقدرة الله تعالى العلي القدير في خلق الأحياء وخلق الأشياء، من حيث إنها تخلق بإرادته المختارة، وانه بهذه الإرادة يخلق الحي من غير الحي، ويخلق الحي على غير النظام الجاري في مجرى العادات، وما نسميه طبائع الأشياء في التكوين والتوالد، ولا تصدر عنه الأشياء كما يصدر المعلول عن علته، وإلا ما كان من الطين إنسان حي ناطق هو ابو الخليقة آدم عليه السلام. ولذا بين سبحانه بعد ذلك عظم إرادة الله تعالى في خلق آدم :
﴿ ثم قال له كن فيكون ﴾هذا تصوير لخلق الله تعالى آدم من تراب، أراد سبحانه وتعالى ان يكون فصوره من طين، ثم قال له لما صوره آمرا له امرا تكوينيا"كن"فكان. وهذه الجملة السامية تصور خلق الله سبحانه وتعالى للأشياء الأحياء وغير الأحياء، فليست إلا ان تتجه الإرادة إلى تكوينها، فيكون المر التكويني، وتكون الاستجابة التكوينية، ويكون الأمر كما أراد سبحانه. وقال سبحانه وتعالى بالنسبة لخلق آدم عليه السلام :﴿ كن فيكون ﴾ولم يقل كن فكان، وهو المناسب للماضي، وذلك لن التعبير بالمضارع دائما فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت، ومن جهة أخرى فصيغة المضارع في هذا المقام تنبئ عما كان، وتومئ إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله تعالى المستمر في المستقبل كما كان في الماضي.
﴿ الحق من ربك فلا تكن من الممترين ﴾أي هذا الذي أخبرك الله به سبحانه من ان عيسى خلق من غير أب، وكونه كذلك، وكون خلق آدم من طين، وكون هذا التكوين العام هو بإرادة مختارة، لا قيد يقيدها، وأنها خالقة الأسباب، هذا هو الحق، والحق هو الثابت اليقيني الذي لا مجال للشك فيه. وقد أكد سبحانه وتعالى كونه الحق الذي لا مجال للريب فيه بثلاثة تأكيدات :
أولها : بتعريف كلمة الحق بأل، فإن مؤدى ذلك ان خلق الله بإرادته المختارة على النحو الذي بينه هو الحق وحده، ولا حق سواه.
ثانيها : أنه بين ان إثبات ذلك الحق هو من ربك الذي ذرأك وحفظك، وفي ذلك ما يدل على صدق الإثبات صدقا لا ريب فيه.
ثالثها : أنه نهى عن الامتراء والشك في ذلك الحق، فقال سبحانه :﴿ فلا تكن من الممترين ﴾أي انه لا مجال فيه للشك، أو للجدال والمراء المثير للشك. والخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع ان النبي صلى الله عليه وسلم لا شك عنده، وكان كذلك لإثارة الاهتمام والاتجاه إليه، وبيان انه لا موضع فيه للجدال والامتراء، فيكون الاطمئنان إلى الحق المبين، وإذا كان هذا دعوة للنبي إلى الابتعاد عن الامتراء فغيره أولى بأن توجه إليه الدعوة القاطعة لكل ريب.
والامتراء : هو الشك الذي يدفع إلى المراء والمجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق ولذلك قال الراغب الأصفهاني في معنى الامتراء ما نصه :"المرية التردد في المر، وهو اخص من الشك، قال تعالى :﴿ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه... ٥٥ ﴾[ الحج ]﴿ فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء... ١٠٩ ﴾[ هود ]﴿ فلا تكن في مرية من لقائه... ٢٣ ﴾[ السجدة ]﴿ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم... ٤٥ ﴾[ فصلت ]والامتراء والمماراة : المحاجة فيما فيه تردد، وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب".
فمؤدى كلمة الامتراء هو الحاجة فيما فيه ريب، فكان الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه الكريم أو لقارئ القرآن العظيم : فلا تكن من الذين يجادلون في هذا شاكين ؛فإنه ليس موضع شك من جهة، وليس موضع جدال ؛لأن الذين يجادلون فيه يجادلون في قدرة الله تعالى ﴿ وهو شديد المحال١٣ ﴾[ الرعد ]وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم منهيا عن المجادلة في هذا الأمر لأنه لا مسوغ فيه للجدل، فماذا يكون من أمره عن حاجوه هم ؟
﴿ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴾المحاجة تبادل الحجة، سواء أكانت الحجة قوية ام كانت حجة داحضة عند ربهم، والفاء هنا فاء الإفصاح ؛إذ غنها تفصح عن شرط مقدر ؛ والمعنى إذا كانت هذه حقيقة السيد المسيح عليه السلام، وهذه إرادة الله تعالى في الخلق والتكوين، فكل ما يدعى له من الألوهية باطل، ولا يؤمن به احد، فمن حاجك الخ : والمعنى : فمن حاجك في شانه من حيث كونه إلها او ابن غله او غير ذلك من الترهات الباطلة، بعد ان علمت من شأنه ما علمت، وذلك بعلم الله الذي أعلمك إياه، ووحيه الذي أوحاه غليك، فلا تبادلهم حجة بحجة لنهم لا يؤمنون بحقيقة ما يقولون، ولا يذعنون للحق الذي تقول، وغن كانوا يعلمونه، ولكن قل لهم :﴿ تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ﴾والمعنى ندع من عندنا من ذرية ونساء، ومن عندكم من ذرية ونساء، ومن عندنا من رجال، ومن عندكم ؛أي يتلاقى جمعنا وجمعكم، ثم نتجه نحو الحقيقة طالبين لها، او على الأقل يعلن كل واحد منا إيمانه بما عنده، ونبتهل إلى الله ضارعين إليه، متجهين بقلوبنا نحوه ان يجعل لعنته وطرده من رحمته على الكاذبين في دعواهم المنحرفين في اعتقادهم.
وهذا المعنى هو ظاهر الآية ؛إذ فيه الدعوة الاجتماعية من الفريقين ليكون الجمع في مقابل الجمع فيعرف المحق من المبطل.
وهناك معنى آخر تشير إليه مرويات الصحاح من السنة، وهو ان يدعو النبي خاصته من اهل بيته، وهم نساء قرابته وذريته، ورجال أسرته ؛وقد روى البخاري وغيره ان النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى المباهلة ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي١.
والمعنى على الأول يشير إلى ان المباهلة بين أهل الحق مجتمعين، وأهل الباطل مجتمعين، ثم يتجهون جميعا على رب العالمين ؛لأن الأمر يهم الجميع، فإما ان يذعن احد الفريقين للآخر، وإما انه يطرد من رحمة الله تعالى. وعلى الثاني يشير إلى ان المباهلة بين النبي وأسرته، وكبراء الفريق الآخر وأسرهم، وإلى ان الذي يؤمن بما يقول لا يمتنع عن تقديم احب الناس إليه في المباهلة ما دام مؤمنا بان الحق في جانبه.
وإن النبي تقدم إلى هذه المبارزة المعنوية الاعتقادية، ولكنهم أحجموا ولم يتكلموا ورضوا ان يدفعوا عن يد وهم صاغرون.
والابتهال قال فيه الزمخشري :﴿ ثم نبتهل ﴾ : ثم نتباهل بأن نقول بهله الله على الكاذب منا ومنكم، والبهلة بالفتح والضم اللعنة، وبهله الله : لعنه وأبعده من رحمته، من قولك ابهله إذا أهمله. واصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن التعانا.
وفي الآيات الكريمة إشارة إلى عدة معان نفسية واجتماعية :
أولها : أن المجادل المماري لا تزيده الحجة القوية اقتناعا، ولا تحمله على الإذعان، إنما يحمله على الإذعان التوجيه النفسي، بأن يدرس مقدار اقتناعه هو بما يقول، وفي الابتهال وسط لجاجة أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه دعوة لهم إلى ان يفتشوا قلوبهم ويعرفوا مقدار إيمانهم بما يقولون، ومقدار الحق فيما يعدلون ؛ولذلك خروا صاغرين، ولم يستطيعوا جدالا.
وثانيها : أن الدعوة بالتي هي أحسن توجب على الداعي ألا يفرط في المجادلة، كما كان يقول الإمام مالك : بين الحق ولا تجادل فيه، فإن كل مجادلة توجب على الفريق الآخر ان يلتزم موقفه.
ثالثها : انه يجب ان تعلم الذرية والنساء شئون الدين ؛ولذلك كانوا مشتركين في تلك المنزلة بين الحق والباطل وهذه المعركة النفسية الفاصلة بين إيمان المؤمنين، وانحراف المنحرفين.
ورابعها : التعاون الفكري والنفسي بين المؤمنين ؛فإن تلك المباهلة كانت بين اهل الإيمان متعاونين على دعوة الحق، وأهل الباطل مدعوين إلى التعاون عليه فيها عن كانوا مؤمنين به، فلم يحيروا جوابا.
وإن هذا الخبر يتضمن في ذاته ان المسيح عيسى عليه السلام ليس إلها ولا ابن إله، وانه عبد الله ورسوله الأمين، وانه من أولى العزم من الرسل، وان الألوهية الحق هي لله تعالى وحده ؛ولذا صرح بهذا عقب تأكيده القصص الحق، فقال تعالى :﴿ وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ﴾ :
هذا نفي بات قاطع للألوهية من غير الله تعالى، وإثبات الألوهية لله وحده، وقد أكد النفي بكلمة "من"فهي تفيد استغراق النفي استغراقا مستمرا ثابتا مؤكدا، وفي النفي والإثبات تأكيدا لمعنى المستثنى ابلغ تأكيد، وغن هذا النفي فيه رد بالغ على النصارى الذين ادعوا ألوهية للمسيح عليه السلام.
وقوله تعالى :﴿ وإن الله لهو العزيز الحكيم ﴾معناه ان الله سبحانه وتعالى المنفرد بالألوهية وحده هو العزيز الغالب الذي لا يقهر، الحكيم الذي يدبر كل شئ بكمال سلطانه وسيطرته على هذا الوجود الذي لا ينازعه السلطان فيه غيره كائنا من كان. وغن الجملة السامية فيها تأكيد لمعنى العزة والسلطان الكامل بالتعبير بإن، وباللام، وبضمير الفصل، وبتعريف الطرفين.
وفي هذا الكلام رد على أولئك الذين يزعمون ان المسيح إله، ويعتقدون مع ذلك انه غلب على امره وصلب ولم يستطع لنفسه حولا ولا طولا، ولا حيلة يخرج بها من ذلك المأزق، ولكن هكذا يعتقدون، وبه يؤمنون.
وقوله تعالى :﴿ فإن الله عليم بالمفسدين ﴾ليس هو جواب الشرط ولكنه ينبئ عن جواب الشرط المحذوف، إذ تقدير القول : فإن تولوا واعرضوا فأنذرهم بسوء المغبة وسوء العقبى، فإن الله عليم بالمفسدين. وهذه الجملة السامية تتضمن في ذاتها تهديدا شديدا، إذ إن الله تعالى إذا علم بالمفسد لا يسكت عنه، ولا يتركه يعيث في الأرض فسادا، بل غنه يأخذه اخذ عزيز مقتدر، ويوم القيامة يأخذه بالنواصي والأقدام، وكذلك الشأن في كل من يعرضون عن الحق إذا دعوا إليه.
اللهم مكن الحق من قلوبنا، واجعلنا ممن يؤمنون به، ويذعنون له، واعز الإسلام، واجعل أهله يؤمنون به، ويفتدونه، إنك انت العزيز الحكيم.
ذكر سبحانه وتعالى فيما سبق مريم البتول، وخبر ابنها عيسى الذي رفعه الله مكانا عليا، ثم ذكر سبحانه وتعالى الآيات الكبرى التي أجراها على يد عيسى عليه السلام لإثبات رسالته، وتوثيق دعوته، ثم آمن به الحواريون، وكفر به الأكثرون، مما يدل على ان المعجزة لا تحمل على الإيمان حملا، ولكنها تنير السبيل اما طالبي الحق الذين لا يبغونها عوجا ؛ثم أشار سبحانه إلى انحراف الذين جاءوا بعد عيسى وادعوا انهم اتبعوه، وما اتبعوه في شئ ؛فقد ادعوا انه إله أو ابن إله، وليس إلا عبد الله ورسوله، وقد اعتمدوا هواهم على انه خلق من غير أب، فأبطل سبحانه قياسهم بقياس أدق وأقوى إنتاجا، وهو ان آدم خلق من غير أب وأم فكان أولى ان يعبد، إن كان قياسهم سليما، ولكنه غير سليم.
ثم امر سبحانه وتعالى ان يخاطب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نصارى عصره بما يكشف خبيئة نفوسهم، وهي انهم لا يؤمنون بشئ إيمانا صادقا، ولكنهم يمارون، وما امره سبحانه به هو ان يبتهل هو وهم، فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين، فلم يدخلوا في تلك المبارزة النفسية التي يبارز فيها الحق اليقين الثابت الباطل المتردد المتحير.
وفي هذه الآيات ينتقل سبحانه وتعالى من الخصوص إلى العموم، فيخاطب اهل الكتاب من نصارى ويهود على لسان نبيه، يدعوهم جميعا إلى الحق الذي يتساوى عنده الجميع، فقال تعالى :
﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾النداء هنا لهل الكتاب عامة، لا لطائفة خاصة منهم ؛فهو يشمل اليهود والنصارى جميعا، لا فرق بين طائفة منهم وطائفة، وكان النداء في هذا عاما ؛لن العيب عام فيهم، والدواء واحد ؛فلوحدة الداء ووحدة الدواء كان النداء عاما ؛ذلك ان عيبهم هو التعصب لما عندهم تعصبا أعماهم عن الحق عند غيرهم، فهم يظنون انهم وحدهم أهل علم النبوة لا ينزل على غيرهم ولا يدينون به لسواهم، فهم يزعمون انهم أبناء الله وأحباؤه، وكل يتعصب لما عنده، فاليهود يقولون : ليست النصارى على شئ، والنصارى يقولون : ليست اليهود على شئ، وكلاهما يقولون : ليس غيرنا على شئ، والدواء واحد أيضا، وهو طلب الحق لذات الحق من غير إذعان لهوى، ولا إفراط في العصبية، وحتى لا تؤدى إلى الانحراف.
وناداهم سبحانه : ب"أهل الكتاب"مع انهم حرفوا فيه الكلم عن مواضعه، وانحرفوا عن مبادئه، وفرقوا في أحكامه، وتفرقوا في فهمه ؛والسبب في هذا النداء هو اولا توبيخهم على ما كان منهم ؛ لأن علمهم بالكتاب كان يوجب عليهم الإذعان للحق بدل التفرق فيه، ﴿ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم... ١٤ ﴾[ الشورى ] ثم هناد سبب آخر، وهو ان علمهم بالكتاب في الجملة يجعل الاحتكام إلى ما بقي منه عندهم كافيا لإذعانهم إن كانت عندهم أثارة من إيمان بالحق وطلب له مع ما هم فيه من تعصب.
ولقد أمر الله نبيه بأن يدعوهم بقوله :﴿ كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾أي كلمة هي مستوية بيننا وبينكم، أي فيها إنصاف لنا ولكم، ونلتقي فيها معكم، وتلتقون عندها عن طلبتموها، وكلمة سواء تطلق بمعنى العدل والنصفة، وقد قال زهير بن أبي سلمى :
أروني خطة لا ضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء
فالسواء هنا هو العدل، واصل السوي الاستواء، وإذا فتحت السين منها صارت سواء، ولقد قال تعالى :﴿... مكانا سوى٥٨ ﴾[ طه ] أي مكانا مستويا.
والمؤدى ان الله سبحانه وتعالى أمر نبيه ان يدعوهم إلى كلمة يستوي فيها النبي معهم، وكان ينبغي ان يستووا بالنسبة لها معه، وتلك الكلمة، او تلك الحقيقة المقررة الثابتة في كل الكتب السماوية التي لا يفترق فيها كتاب عن كتاب هي ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ﴾فهذه الكلمة التي يستوي فيها الإسلام مع الأديان التي سبقته هي التوحيد، والتوحيد بشمول معناه يشمل التوحيد في العبودية، والتوحيد في الربوبية، والتوحيد في العبودية ألا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا ما بينه سبحانه وتعالى بقوله على لسان نبيه :﴿ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ﴾. فلا يصح ان يشرك مع الله في الألوهية حجر ولا بشر، فلا يقال : فلان إله، ولا ابن إله ولا عنصر ألوهية قط في حجر.
أما التوحيد في الربوبية، فهو ما أشار إليه سبحانه بقوله تعالى :﴿ ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ﴾أي لا يتخذ احد من البشر في مقام الرب، بأن يكون له فضل في التكوين أو الإنشاء او التأخير في الخلق بأي نوع من أنواع التأثير، فإن هذا كله من عمل الرب، والله سبحانه وتعالى هو رب العالمين وحده، ولا رب سواه، فلا مؤثر في الكون ولا في الأشخاص، ولا في الأشياء سواه، فلا أثر لحجر ولا لبشر كائنا من كان هذا البشر.
وهناك معنى آخر للربوبية يدخل في مضمونها، وهو ان يكون الشرع كله لله تعالى، فلا يتكلم عن الله احد إلا نبي يوحى إليه، والجميع بعد ذلك امام الشرع سواء، إلا ان يكون فهم متميز متفهم متعرف، ومن ادعى انه يتكلم عن الله باسم الله من غير وحي يعتمد عليه، فقد ربا يؤخذ عنه ؛ولذلك عبر القرآن عن علماء النصارى واليهود الذين ادعوا ان قولهم دين يتبع، وتقاليد تؤثر، بأنهم قد اتخذوهم أربابا من دون الله، فقال تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله... ٣١ ﴾ [ التوبة ]ذلك بأنهم جعلوا لهم الحق في ان يشرعوا باسم الله ما لم يشرعه الله، وان يخالفوا ما امر الله سبحانه وتعالى، فهم جعلوهم في مقام الرب جل جلاله، ولقد روى عندما نزل قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾قال عدي بن حاتم : ما كنا يا رسول الله !فقال الرسول عليه السلام :"أليسوا كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذوا بقولهم ؟"قال : بلى. قال النبي صلى الله عليه وسلم :"هو ذاك"١.
وعن بعض التابعين أنه قال : لا أبالي أطعت مخلوقا في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة ! ! فكانت التسوية كاملة بين الأخذ في دين الله بغير ما انزل الله، والخروج عن الإسلام الذي رمز إليه ذلك التابعي الجليل، وهو ألا يكون من اهل القبلة.
عرض النبي بأمر الله تعالى ذلك المر الذي يكون فيه نصفة له٢ ولهم، وكانت الدعوة إلى اخذ دين الله من ينبوعه الصافي فيهما فائدتان : إحداهما : ألا يتزيدوا على ما امر الله تعالى وما نهى عنه ؛ والثانية : أن أولئك المجادلين هم الذين يبثون في نفوس أتباعهم التعصب العمى، محافظة على سلطانهم ان يزول ؛فكانوا في زعامتهم بمنزلة زعماء قريش وأشباههم من انهم خشوا على سلطانهم من أتباع النبي الكريم صلى اله عليه وسلم.
وإذا كان قد دعاهم إلى هذا الإنصاف وإلى ترك التعصب جانبا، وعدم الخضوع لأسبابه، فإن حال الذين يخاطبهم إحدى حالين : غما ان يخلصوا في طلب الحق، ويجيبوا داعية، وتلك خير الخصلتين، وإما ان لا يجيبوا داعية وتلك هي السوءة، فإن كانت الأولى فتلك هداية الله، وإن كانت الثانية فإن الله تعالى قد كتب عليهم الشقوة، ولا سبيل لن يدخل النور قلوبهم، فإن من طلب منه الإنصاف فأعرض عنه فلا سبيل إلى هدايته، والجدل معه لا يجدي ؛ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ إن تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون ﴾ :
أي فإن اعرضوا ونأوا بجانبهم عن إجابة داعي الإنصاف، والدعوة بالتي هي أحسن فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم، فإن الجدل مع من لم يجب داعي العدالة لا يزيده إلا لجاجة وعنادا ؛وإن الحقائق تتبعثر على ألسنة المتجادلين، ويتبدد رونقها، ويذهب بهاؤها، وتفقد النفس عند الجدل الإيمان بالحقائق والإذعان لها، بل أمرهم الله تعالى بقوله :﴿ فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾أي يقول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين لأولئك الذين مردوا على الجدال وبعثرة الحقائق في حومة الجدل : اشهدوا بأنا مسلمون، مذعنون لطلب الحق والإنصاف، فلم تجيبوا، والآن ننصفكم مرة أخرى بان نشهدكم بأننا مخلصون في طلب الحق مذعنون له ؛ومن جانبنا ؛فإن أذعنتم مثلنا فنعما هي، وغن لم تذعنوا فلنا ديننا، ولكم دينكم، والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. وإن إعلان الإذعان للحق من جانب المؤمنين فيه دعوة للحق بإعلان المثل الواضح البين السامي، وهو يؤثر في الدعوة إلى الحق أكثر من الجدل، إذ يكون فيه ذكرى لمن له قلب او ألقى السمع وهو شهيد. وإن الجدل يثير غبارا يجعل الوصول إلى الحق عسيرا وسط عجاجة المتجادلين.
وإن هذه الآية الكريمة صورة سامية من الدعوة إلى الحق. ولذا كان يتخذها النبي صلى الله عليه وسلم منهاجه في دعوته، فقد كانت في الصيغة التي اختارها في دعوة الملوك والحكام الكبراء إلى الإسلام، وهذا نص كتابه عليه الصلاة والسلام إلى هرقل ملك الروم :
"من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم ؛سلام على من اتبع الهدى. اما بعد فإني ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين٣، ويا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"٤.
ولقد كان النصارى يحاجون بولادة عيسى، ويتخذون منها دليل ألوهيته، واليهود يتحاجون ويجادلون بما عندهم من توراة، أو بالأحرى بما بقي عندهم منها ؛ولما كان كل من الفريقين يدعي ان إبراهيم ابا الأنبياء كان على مثل دينهم، وذلك ليبينوا ان ديانتهم هي ديانة السابقين، كما هي ديانة المتأخرين ؛
٢ النصفة: الإنصاف، وهي المعاملة بالعدل..
٣ جاء في الهامش: الأريسيون هم: العمال والفلاحون، أو الدهماء بشكل عام..
٤ متفق عليه؛رواه البخاري: بدء الوحي(٦)، ومسلم: الجهاد والسير-كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل(٣٣٢٢)، عن أبي سفيان(صخر)بن حرب رضي الله عنه..
والمحاجة معناها مبادلة الحجة، فما هذه المحاجة ؟أكانت مع النبي صلى الله عليه وسلم ام كانت فيما بينهم ؟ظواهر النصوص تفيد بمقتضى السياق انها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يقيمون الحجة على سلامة دينهم بأنه دين إبراهيم الذي كان موضع إجلال الجميع، والذي بنى البيت الحرام الذي هو اول بيت وضع للناس، والذي كان موضع تقديس العرب أجمعين.
ولكن مع هذا الظاهر روى ابن إسحاق عن ابن عباس انه قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله تعالى :﴿ يا اهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم ﴾ الآية١.
وسواء أكانت المحاجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ام كانت فيما بينهم فإنها غير معقولة في ذاتها ؛ولذا وبخهم سبحانه وتعالى عليها بقوله تعالت كلماته :
﴿ أفلا تعقلون ﴾هذا النص الكريم هو نتيجة لهذا الحكم الذي يتحاجون فيه، وهو كون إبراهيم يهوديا او نصرانيا ؛إذ أن ذلك هو حكم من لا يعقل ؛ولذلك كانت الفاء التي تفيد السببية، وهو كون ما قبلها سببا لما بعدها، فتلك الحال التي هم عليها من الغرابة هي السبب في ذلك السؤال عن أصل عقلهم، وإدراكهم لمعناها.
والاستفهام إنكاري ؛فهو نفي لكونهم يعقلون في هذه الأمور التي يتجادلون حولها، وذلك يؤدي إلى السؤال عن أصل وجود العقل عندهم، وإن هذا النفي يدركون الأمور على وجهها، وينسيهم البديهيات التي لا تختلف فيها المدارك والعقول، حتى يكون أصل العقل عندهم موضع إنكار.
أي أنتم معشر اهل الكتاب حاججتم وبادلتم الحجة، سواء أكانت داحضة ام دامغة في امر عندكم أسباب العلم به، سواء أكنتم تجادلون بمقتضى هذا العلم ام تخالفون مقتضاه، وتلوون منطقه، وتبعدون به عن الحجج، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ؟وبيان ذلك ان اليهود والنصارى عندما كانوا يتجادلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما بينهم كانوا يتجادلون في امر أسباب العلم به قائمة حاضرة مهيأة وغن كانوا ينحرفون بها عن غاياتها، ويلوونها عن مقاصدها ومراميها تبعا لأهوائهم وشهواتهم، فكانت محاجة في امر لهم به علم، وغن لم يسيروا على مقتضى أحكام العلم، اما جدلهم في كون إبراهيم كان يهوديا او نصرانيا، أو في كون النبي صلى الله عليه وسلم المبعوث في المستقبل يكون عربيا او عبريا فجدل ومحاجة في امر لا علم لهم به، وإن العاقل ينأى به عقله عن ان يجادل في امر ليس عنده شئ من أسباب العلم به، ولكن هكذا يتردى اهل العقول عندما تنحرف نفوسهم إلى التعصب، فيتحكم الهوى في العقل.
وهنا مباحث لفظية :
أولها : أن الهاء المكررة في قوله تعالى :﴿ ها انتم هؤلاء ﴾هي هاء التنبيه، وتكرارها في موضع واحد للدلالة على غرابة ما هم عليه ومجافاته لكل تفكير ولكل عقل، وكيف دلاهم التعصب في هذا الانحراف الفكري.
وثانيها : أن"هؤلاء"إشارة إلى النصارى واليهود الذين قالوا في إبراهيم ما قالوا، وقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعده، فهي تتضمن الأحوال الغربية التي كانت منهم، وأنها أدت إلى شذوذ عقلي آخر.
ثالثها : أن الزمخشري ذكر أن بعض العلماء قال هنا إن"هؤلاء"بمعنى"الذين"وإن هذا يفيد ان الذي أدى إلى ترديهم العقلي هو انهم يتكلمون فيما يعلمون وفيما لا يعلمون.
﴿ والله يعلم وانتم لا تعلمون ﴾ختم الله سبحانه وتعالى ببيان علمه تعالى المؤكد، فقرر العلم المطلق له سبحانه، ونفى عنهم العلم في هذا المقام، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم حال إبراهيم عليه السلام، ويعلم الحق فيما يتحاجون به بعلم وبغير علم، ويعلم من الذي يكون أهلا لرسالته أيكون من العرب ام يكون من العجم ؟﴿ الله ؟اعلم حيث يجعل رسالته... ١٢٤ ﴾[ الأنعام ] وهو الذي يعلم بخفايا نفوسهم، والحقد الدفين فيها، والحسد للناس على ما آتاهم الله من فضله. وقد قرر سبحانه انهم لا يعلمون، فقال :﴿ وانتم لا تعلمون ﴾فهم لا يعلمون حال إبراهيم عليه السلام ولا من هو أهل للرسالة ؛وليس من شأنهم ان يعلموا ؛لأن أحقادهم تحول بينهم وبين ان يدركوا الذي عليه من يخالفونهم، فإنه لا شئ كالحقد والحسد يحول بين المرء والإدراك السليم والعلم الصحيح.
اللهم وفقنا للحق، وهيئ لنا أسباب العلم به، والإذعان له ؛فإن الهداية منك وإليك، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة ما يشير إلى ان كلتا الطائفتين من اليهود والنصارى كانت تدعي ان دينها هو دين الله الخالص، وانه دين النبيين جميعا، وانه دين أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وأنهم ما غيروا وما بدلوا ؛وكذلك كان يدعي المشركون ؛لنهم من سلالة إبراهيم عليه السلام، وحسبوا هذا يسوغ لهم ذلك الإدعاء ؛وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ان إبراهيم عليه السلام برئ من هذه النحل ؛لأنه نبي الوحدانية، هادم الأوثان، وحطمها، والذي تعرض للأذى بالنار لجرأته الكبرى عليها وعلى عبادها، وما نجاه إلا الله، كما قال تعالى :﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم٦٩ ﴾[ الأنبياء ]ولقد قال سبحانه في تقرير هذه البراءة من اليهودية والنصرانية والشرك :
﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ﴾وفي هذا النص القرآني الكريم نفى لوصف اليهودية والنصرانية عن خليل الله تعالى، ومرمى النص هو براءته منهم، وفي نفي الوصف على ذلك النحو توكيد لهذه البراءة، وتثبيت لهذه النزاهة ؛إذ إن المؤدى انه لو كانت اليهودية او النصرانية على ما هما عليه تنتمي إلى إبراهيم عليه السلام لكان متصفا بهما، وهو قد نزهه ربه عن ان يتصف بما عليه اليهود من ضلال ؛فنفي وصف اليهودية عنه عليه السلام تضمن براءته منهم، وفيه التعريض بما فيهما من ضلال لا يليق ان يلصق بنبي من أنبياء الله، والتنويه بشان إبراهيم من ان يكون في مثل حماة اليهود والنصارى الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر سبحانه على سبيل الاستدراك وصفه الحقيقي، ودينه الحق فقال تعالى :﴿ ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ﴾.
فقد ذكر سبحانه في وصفه الحقيقي ثلاثة أوصاف تتنافى كلها تمام التنافي مع ما عند اليهود والنصارى، وهذه الأوصاف هي انه : حنيف، ومسلم، وما كان من المشركين.
والوصف الأول وهو حنيف معناه : الميل إلى الحق وطلبه، والاتجاه إليه، وتحريه والاستقامة في الوصول إليه ؛ولقد قال الأصفهاني في مفرداته :"الحنف ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال. والحنيف هو المائل إلى ذلك، قال عز وجل :﴿... قانتا لله حنيفا... ١٢٠ ﴾[ النحل ]وقال :﴿ حنيفا مسلما ﴾وجمعه حنفاء ؛ قال عز وجل :
﴿ واجتنبوا قول الزور٣٠ حنفاء لله... ٣١ ﴾[ الحج ]. وتحنف فلان أي تحرى طريق الاستقامة".
ووصفه عليه السلام بأنه حنيف يطلب الحق مستقيما في طلبه فيه بيان منافاة أخلاق اليهود والنصارى لأخلاقه وهديه، فهم لا يطلبون الحق لذات الحق، ولكن يطلبون هوى انفسهم، فإن يكن الحق لهم يأتوا عليه مذعنين، وإن يكن الحق عليهم أعرضوا عنه وذلك لمرض قلوبهم.
والوصف الثاني من أوصاف إبراهيم خليل الله انه مسلم، والإسلام هو الإخلاص لذات الله، والمحبة والانصراف إليه سبحانه وتعالى، حتى لا يعمر القلب بغير نوره، وهذا أيضا وصف مناف لما كان عليه اليهود والنصارى، فإلههم هواهم، ومحبتهم لنفسهم لا لله، وإنما هي أعراض الدنيا أركست نفوسهم، وأغلقت دون نور الله قلوبهم.
والوصف الثالث : وصف سلبي، وهو انه كان غير مشرك، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن خليله وصف الشرك بهذه الصيغة الجامعة فقال :﴿ وما كان من المشركين ﴾ولم يقل"وما كان مشركا " لأنها تتضمن نفي الإشراك كله وشوائبه عن إبراهيم عليه السلام ؛فإن المشركين أصناف وألوان ؛ فمنهم من يعبد الأوثان، يتخذون من يجعل لله ابنا يعبد، ومنهم من يجعل الله ثالث ثلاثة، ومنهم من يتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ومنهم من يتخذون وساطة بين العبد والرب، وهكذا، فما كان إبراهيم من أي صنف من هذه الأصناف. وفي ذكر الصيغة السامية في نفي الشرك عن إبراهيم تعريض بين حالهم وما هم عليه من الشرك الظاهر، فكيف يدعون الانتساب لإبراهيم عليه السلام، وهم على ما هم من الشرك.
﴿ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ﴾أي إن أشد الناس ولاية بإبراهيم وأجدرهم بالاتصال به، للذين اتبعوه، وهذا النبي والذين آمنوا بهذا النبي، فهم أصناف ثلاثة قد أكد سبحانه اتصالهم بإبراهيم بثلاثة تأكيدات ؛أولها :"إن"وثانيها : أفعل التفضيل، وثالثها : اللام في قوله تعالى :﴿ للذين اتبعوه ﴾.
والذين اتبعوه موصول عام يشمل الذين اتبعوا هدايته في حياته، وأجابوا دعوته، ولم يخالفوه، والذين اتبعوه من بعد وفاته، وغنهم لكثيرون، وكان يمكن ان يكون من هؤلاء اليهود والنصارى، لو اتبعوا هديه فطلبوا الحق واخلصوا لله في طلبه، وتجنبوا الشرك بكل ضروبه وبكل أشكاله، وفي هذا توبيخ لهم على انهم لم يتبعوه، وادعوا الانتماء إليه. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالنص عليه بالذات على انه أولى الناس بإبراهيم عليه السلام، ولم يذكره في ضمن الذين اتبعوه ؛لن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى الهداية من السماء كما تلقاها إبراهيم، ولن محمدا صلى اله عليه وسلم خاتم النبيين، ولأنه آخر دعامة في بناء صرح الرسالة الإلهية إلى الأرض. وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تمهيد لبيان أولوية الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم وبسيدنا إبراهيم من اليهود والنصارى ؛لأنهم حنفاء طلبوا الحق وتحروه وآمنوا به واهتدوا، واخلصوا دينهم لله تعالى، وصار الله ورسوله احب إليهم من انفسهم. والذين آمنوا في الآية هم من آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبى وخليل ربي إبراهيم"١.
وولاية إبراهيم للنبي ومن اتبعهما بإحسان إلى يوم الدين أساسها الإخلاص لله تعالى وتوحيده، فهي من ولاية الله ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ والله ولي المؤمنين ﴾أي ان الله سبحانه وتعالى جل جلاله، وعظمت قدرته، وتعالت حكمته، وتسامت عظمته، هو ولي المؤمنين وناصرهم، وهم اهل محبته ورضوانه ؛وذلك لنهم لا يطلبون إلا رضاه، ولا يبتغون إلا محبته ورضوانه ؛فهم بإخلاصهم قد نالوا ولاء الله ومحبته ؛والله سبحانه وتعالى لا يوالي إلا من يؤمن للحق ويذعن له، ولا يطلب سواه.
وفي هذه الجملة السامية إشارة على عدة معان عالية :
أولها : ان اتصال النبي صلى الله عليه وسلم اتبعوه، والذين اتبعوا إبراهيم بخليل الله ؛لنهم اتصلوا بالله تعالى، والمؤمنون بعضهم لبعض ولى ونصير ؛لأنهم جميعا أولياء الله. فالمؤمنون برسالة محمد كلهم أولياء، لنهم جميعا أولياء الله تعالى، وفي ذلك يبين سبحانه لليهود وغيرهم الطريق الحق الذي يجعلهم أولى بإبراهيم كالنبي ومن اتبعه.
ثانيها : الإشارة إلى أن ولاية الله هي الغاية الكبرى التي يجب ان يطلبها كل مؤمن، وطريقها الإحسان في كل شئ، وأساس الإحسان الإخلاص ؛ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"٢.
ثالثها : الإشارة إلى منزلة اهل الإيمان عند الله والوعد بنصرتها مهما يتكاثف عددهم :﴿ إن الله لقوي عزيز٤٠ ﴾[ الحج ].
٢ متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
وإن الذي يعلم الحق، ويحاول ان يضلل غيره يزداد ضلالا ويعمى عن طريق الهداية، حتى ينتهي الأمر به إلى ان يجهل الذي كان يعلمه، وكذبك كان هؤلاء ؛ولذا قال سبحانه :
﴿ وما يضلون إلا انفسهم وما يشعرون ﴾أي انهم بسبب غوايتهم وعمايتهم واستيلاء الهوى على قلوبهم اخذوا يثيرون الشك على أهل اليقين، فما أثر الشك في أهل الحق، ولكن تأثرت نفوسهم هم بهذا الشك الذي أثاروه ليضلوا غيرهم، فضلوا، فهم حاولوا إضلال المؤمنين، فأكد الله سبحانه انهم ما أضلوا إلا انفسهم، وكان ضلالهم لنفسهم من ناحيتين :
إحداهما ما ذكرناها من ان إيرادهم للشك في الأمر الذي كانوا يعلمون الحق فيه قد اوجد فيهم هم انفسهم حيرة بعد ان كانوا يعلمون، ومثل هذا مثل الكذوب الذي يكذب ويكرر كذبته حتى يعتقد صدقها.
الناحية الثانية : انهم كلما لجوا في الدعوة إلى الباطل الذي استمسكوا به بعدوا عن الإذعان للحق، فبمقدار ما كانوا يثيرون حول الحق من أكاذيب كانوا يبتعدون من الإيمان والإذعان، فيزدادوا ضلالا فوق ضلالهم ؛وتلك حال نفسية يقيمون فيها ولا يشعرون بها.
﴿ يا اهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون ﴾صدر النداء هنا ب"أهل الكتاب"زيادة في التوبيخ، وكل توبيخ لهم يعد قليلا مهما يتكاثر وتترادف عباراته، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار ما وقع منهم ؛ذلك بأنهم لبسوا وخلطوا الحق بالباطل، وكتموا الحق الذي يشهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بالصدق وهم يعلمون به، فكان الاستفهام للتوبيخ على هذا الذي وقع منهم ؛فقد وقع منهم أمران، وثبت فيهم امر ثالث :
أما الأمر الأول : فهو خلط الحق بالباطل، بأن حاولوا ان يزيفوا الحق، فألبسوه ثوب الباطل، وأظهروه بمظهره إمعانا منهم في التضليل. وقد فسر الكثيرون كلمة"تلبسون"بمعنى تخلطون، وهي في المؤدى كذلك، ولكن لا بد ان يلاحظ معنى الستر واللباس في الكلمة، ذلك بأنهم جاءوا إلى الحق المبين فألبسوه ثوب الباطل ليستبهم ؛ولقد قال في هذا المعنى الأصفهاني : أصل اللبس ستر الشئ، ويقال ذلك في المعاني، يقال لبست عليه امره، قال :﴿ وللبسنا عليهم ما يلبسون٩ ﴾ [ الأنعام ]، وقال :﴿ لم تلبسون الحق بالباطل... ٧١ ﴾[ آل عمران ].
الأمر الثاني : كتمان الحق الذي عندهم فهم يسترون الحق الذي يقدمه النبي صلى الله عليه وسلم بلباس الباطل الذي يخترعونه، ويكتمون الذي عندهم، ويشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أقصى ما يمكن ان يصل إليه الكفر بالحق، يكون عند الكافر دليل الحق، ومع ذلك ينكر الدليل الذي يقدمه صاحب الحق، ويحاول ان يزيفه بالباطل. وكل ذلك وهم يعلمون الحق في ذاته، ولكنهم أضلهم الله على علم.
اللهم اكتبنا فيمن هديتهم، وامنحنا التوفيق ؛وأنقذنا من الضلال، ووفقنا لإدراك الحق، والإذعان له، والإيمان به، إنك سميع الدعاء.
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة ان اهل الكتاب يودون ان يضل المؤمنون، ويعملون على إضلالهم، وكلما أمعنوا في هذا الطريق ازدادوا ضلالا، وما ازداد المؤمنون إلا إيمانا، وإن وجدوا في ضعاف الإيمان ما يشبع نهمتهم وقتيا فإنهم سرعان ما يقوي إيمانهم بالحق، ويرتد أولئك المضلون في طغيانهم يعمهون.
وفي هذه الآيات يبين سبحانه طريق طائفة منهم في إضلال المؤمنين، وإثارة الشك في قلوب ضعاف المؤمنين، وهي ان يظهروا الإيمان والإذعان والاطمئنان إلى الحقائق الإسلامية، ليظن فيهم الظن الحسن من لم يعرف مكرهم وكيدهم، حتى إذا اطمأن الناس إليهم أعلنوا كفرهم، بعد مظهر الإيمان ليوهموا المؤمنين انهم كانوا مخلصين في إيمانهم طالبين الحق بهذا الإيمان، فلما تبين لهم البطلان خرجوا، فقد يخرج بهذا الخروج ضعاف الإيمان، ويلقون بذلك بين المسلمين شكا عمليا. وقد حكى الله سبحانه وتعالى عمل هذه الطائفة الماكرة الخبيثة فقال عز من قائل :
﴿ وقالت طائفة من اهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروه آخره ﴾ أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة التابعي انه قال :" قال بعض أهل الكتاب لبعض : أعطوهم الرضا بدينهم اول النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر ان يصدقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيه ما تكرهونه، وهو أجدر ان يرجعوا عن دينهم". واخرج ابن جرير أيضا عن السدى انه قال :"قالوا لبعضهم : ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا : نشهد ان محمدا صادق، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا : إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا، فسألناهم فحدثونا ان محمدا كاذب، وانتم لستم على شئ، وقد رجعنا إلى ديننا، فهو اعجب إلينا من دينكم لعلهم يشكون، فيقولون هؤلاء كانوا معنا اول النهار فما بالهم ؛فأخبر الله سبحانه وتعالى رسوله بذلك وروى انهم نفذوا قولهم عملا"والروايات في هذا كثيرة، وكلها متلاقية في المعنى غير متنافرة.
وخلاصتها : ان أولئك المضللين الذين أكل الحسد قلوبهم دعا بعضهم ان يظهروا الإسلام ليبدوا طلاب حقيقة، فإن رجعوا استطاعوا ان يجتذبوا معهم بعض ضعفاء الإيمان.
والمراد بوجه النهار ما يقابل آخره، وهو اول النهار، وعبر عنه بالوجه ؛لن اول النهار هو وقت إقباله، والوجه هو مظهر الإقبال، والوجه أيضا كناية عن الظهور، وأول النهار هو وقت الظهور ووقت الوضح، بعكس آخره. وهل معنى الاتفاق الذي اتفقوا عليه هو ان يبدءوا في الضحى فيسلموا ثم يكفروا في المساء ؟ظاهر اللفظ ذلك، ولكن يبدو للمتأمل البصير انهم يريدون ان يسلموا حينا من الزمان حتى تتم الثقة بهم والاطمئنان إليهم، ثم يكفروا من بعد ذلك، على ألا يستغرق إظهارهم الإسلام إلا أمدا يستطيعون فيه جلب الثقة إليهم ؛ويكون حينئذ التعبير كله من قبيل الاستعارة التمثيلية، سيقت لتصور حالهم التي اتفقوا عليها، وهي انهم يظهرون الإيمان ثم يكفرون بعد أمد قصير. فالاستعارة لتصوير سرعة الرجوع وإظهار الكفر، وتأكد التعاقب بين إظهار الكفر وإظهار الإسلام، كما يتعاقب ظهور آخره بعد أوله. وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم مقصدهم ومكرهم السيئ بقوله تعالت كلماته :
﴿ لعلهم يرجعون ﴾فهذا التعبير يفيد بيان مقاصدهم وهو رجاء ان يرجع بعض المؤمنين إلى الكفر بعد الإيمان، ولكنهم عبروا عن البعض باسم الكل، فإنه لا يمكن ان يرجعوا جميعا، بل الذي يرجى رجوعه من المسلمين هو الضعيف غير القوي في دينه، غير المطمئن في يقينه، ولكن كفر هذا الفريق بعد إيمان يحدث اضطرابا في جماعة المسلمين، فيكون التظنن فيهم، وحيث جرى الشك في الجماعة كان وراءه التفرق وفقد الثقة، وكان وراءهما الفشل الذر يع، وإنهم من بعد ذلك يطمعون ان تعود الجزيرة العربية إلى الشرك بعد هذا الإيمان الذي هددهم في كيانهم ؛وكذلك سولت لهم نفوسهم، فإن الذي يركب رأسه الشيطان توسوس له نفسه بالشر، ويتسع أفق تصوره حتى يتمنى الأماني البعيدة القاصية كأنها قريبة دانية.
وإن تلك الطريقة التي سلكوها من أقوى ما تفتق عنه التدبير الإبليسي ؛فإن إظهار الكفر بعد إظهار الإيمان مع التذرع بتلبيسات مضللة من شأنه ان يدخل الحقائق صدقا وأجدرها باليقين ؛ولذلك كانت عقوبة الردة التي ثبتت بقوله صلى الله عليه وسلم :
"من بدل دينه فاقتلوه"١. هي القتل ؛وذلك لقطع السبيل على الذين يدخلون في الإسلام ظاهرا، وهم يريدون إثارة الشك حول حقائقه، وليس في ذلك منافاة للحرية الدينية التي قررها الإسلام في قوله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي... ٢٥٦ ﴾[ البقرة ]ولقد كان أولئك الذين اخذوا بذلك الطريق الخبيث لإفساد العقائد يظهرون في عصور الإسلام الوقت بعد الآخر، وهم الزنادقة، فهم كانوا في باطنهم كفارا يستترون بستار الإسلام ليفسدوا الأمر على اهل الإسلام، ويشككوا الناس في عقائدهم.
وإن الفقهاء كانوا يحذرون الناس من سمومهم التي ينفثونها، وقرر جمهورهم ان كل مرتد يستثاب إلا من عرف بالزندقة، فإنه يتخذ التوبة ستارا ليستطيع بها الكيد للإسلام وأهله، فيرد عليه في نحره، وإن ظهر منه الكفر الذي يحاول ستره يؤخذ بالنواصي والأقدام.
أي لا تذعنوا مصدقين مقرين بالحق إلا لمن تبع دينكم، أي لا تنطقوا بالحق الذي تعلمونه مذعنين له إلا لمن تبع دينكم ؛وذلك لنهم يعرفون محمدا كما يعرفون أبناءهم، وبين أيديهم الأدلة الصادقة الناطقة بصحة دعوته ؛فهم يعرفون ذلك ويتذاكرونه فيما بينهم، ولكنهم يتناهون عن ان يقولوه لغيرهم.
وقوله تعالى :﴿ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ﴾فيها قراءتان، إحداهما : بهمزة واحدة، والأخرى بهمزتين إحداهما سهلة، والثانية قراءة ابن كثير١، وإحدى الهمزتين على هذه القراءة تكون للاستفهام الإنكاري.
وقوله تعالى :﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾يحتمل ان تكون معترضة، ويكون قوله تعالى :﴿ ان يؤتى احد.. ﴾متصلا بقوله :﴿ ولا تؤمنوا ﴾ويحتمل ان تكون غير معترضة، وتكون متصلة بما بعدها.
وعلى الاحتمال الأول مع قراءة الهمزة الواحدة يكون تخريج القول هكذا : ولا تصدقوا مذعنين ومقرين إلا لمن تبع دينكم كراهة ان يؤتى أحد بمثل ما أوتيتم من كتاب منزل من السماء ومنزلة دينية بين الناس، وكراهة ان يحاجوكم بسبب ذلك الإذعان وذلك الأمر من عند ربكم، وقد اعترض سبحانه وتعالى بين قولهم بقوله :﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾أي إن هداية الله تعالى ملك له وحده يعطيها لمن يشاء، فليست حكرا لأحد، ولا امرا مقصورا على أحد، بل يعطيها من يشاء.
وسبب ذلك الاعتراض هو المسارعة ببيان بطلان زعمهم من انهم ذوو المنزلة الدينية وحدهم، ولبيان ان المنزلة منشؤها الهداية، والهداية طريقها وحدها فلهم ان يتبعوها، ولبيان انهم بذلك التفاهم على الشر والتواصي على الباطل قد خرجوا عن نطاق الهداية فحقت لغيرهم. وعلى قراءة الهمزتين لا يتغير المؤدى، ويكون تقرير القول هكذا : ولا تذعنوا مصدقين إلا لمن تبع دينكم، أتقرون بذلك لن يؤتى احد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم.
هذا هو تخريج الآية الكريمة على احتمال ان قوله تعالى :﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾جملة معترضة بين متلازمتين، أما تخريجها على احتمال انها متصلة بما يليها فهو هكذا : لا تذعنوا مصدقين إلا لمن تبع دينكم، بذلك ينتهي قولهم، فيرد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله :﴿ قل عن الهدى هدى الله ﴾ثم يبين سبحانه وتعالى ان هدى الله ان يؤتى احد مثل ما أوتيتم بأن ينزل بينهم وحي السماء كما نزل بينكم، او يحاجوكم به عند ربكم، و"أو"هنا تكون بمعنى الواو. وعلى قراءة الاستفهام يكون المعنى : أتنكرون ان يؤتى احد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم.
ذانك الاحتمالان ؛وإني أميل إلى الاحتمال الأول، وأن تكون الجملة السامية﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾معترضة، وان قوله :﴿ أن يؤتى احد مثل ما أوتيتم ﴾من قولهم، وذلك ليستقيم امر الله بعد ذلك لنبيه بقوله :﴿ قل إن الفضل بيد الله ﴾فإنه لا يتضح معناه إلا إذا كان عقب قولهم، ليكون معنى جديد للأمر الثاني بعد المر الأول ؛إذ لو كان قوله :﴿ أن يؤتى أحد ﴾من كلام الله تعالى المأمور به ما اتضح لنا معنى الأمر الثاني :﴿ قل إن الفضل بيد الله ﴾إلا إذا كان لتكرار هدايته وفضله، والتأسيس أولى من التأكيد.
لقد بين سبحانه بعد ذلك ان الهداية هي فضل من الله تعالى يتفضل به على من يشاء من عباده ؛ولذلك قال سبحانه :﴿ إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ﴾ :
فهداية الله تعالى، والنبوة والرسالة التي تنبعث منها هداية المؤمنين الذين يذعنون للحق ؛ذلك كله فضل من الله تعالى لعباده، فليس حقا عليه لهم، بل هو منه تكرم وعطاء، والمتفضل المتكرم ليس بملزم بالعطاء لأحد، فإن كان قد جعل الرسالة حينا في بني إسرائيل فبفضل منه وبرحمته، وليس ذلك بملزم له، ولا بمسوغ لهم بأن يمنعوها عن غيرهم، ويستنكروا ان تكون في قوم أميين ؛وعليهم ان يذعنوا للحق أينما كان، ومن أي جهة كان النداء به، فالله أعلم حيث يجعل رسالته ؛وليس فوق إرادة الله سبحانه وتعالى إرادة، وليس من حق طائفة من الناي ان تقول نحن أبناء الله وأحباؤه.
ثم بين سبحانه وتعالى سعة فضله وجليل حكمته، وإحاطة علمه، فقال عز من قائل :
﴿ والله واسع عليم ﴾أي ان رحمة الله تعالى واسعة، وفضله عظيم، لا يكون لقبيل دون قبيل، وغن تعدد من يؤتون فضلا لا يغض من قدر الفضل عند غيرهم، فالذين يريدون ان يحتكروا الهداية، أو يحتكروا بينهم وفي أوساطهم رسالة الله إلى أهل الأرض، غنما يضيقون واسعا، ويحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله من غير ان يعود عليهم من هذا الحسد شئ. ووصف سبحانه وتعالى ذاته بأنه واسع مع ان الظاهر سعة فضله ؛لبيان ان شمول فضله شأن من شئونه سبحانه، يظهر آثاره في خلقه، فما من شئ في هذا الوجود إلا وهو بفضله سبحانه وتعالى.
﴿ يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾اختص تستعمل لازمة ومتعدية، فيقال اختصه الله بفضله، ويقال اختص بفضل الله، والله سبحانه وتعالى بمقتضى علمه وحكمته يختص برحمة معينة من رحماته خلقا من خلقه، فقد يقول قائل عن كل من في الوجود في رحمة الله تعالى، ما من احد من خلق الله تعالى غلا ناله نصيب من رحمة الله، ومنهم من يشكر، ومنهم من يكفر، فلم عبر سبحانه وتعالى بهذا الاختصاص، ولا عام أعم من رحمة الله، ولا عموم إلا في فضل الله تعالى ؟.
والجواب عن ذلك ان الرحمة التي يختص الله تعالى بعض عباده بها هي الرحمة النوعية، فيختص سبحانه هذا بالعلم، وذلك بالمال، وهذا بالجاه، وذلك بالراحة، وهذا الفريق بالرسالة والهداية، وذلك الفريق بالغلب والسلطان ؛و"كل ميسر لما خلق له"١.
فإذا كان بنو إسرائيل وأشباههم قد نفسوا على بني إسماعيل٢ ان تكون فيهم النبوة الكبرى التي تختتم بها رسالة السماء إلى الأرض، فذلك مما اختص به سبحانه وتعالى بعض عباده بالرحمة، وليس لحد ان يعترض على فعل الله، فإن فضله على من اختصه عميم ؛وفضله أيضا على من لم يمنحه هذا النوع من الرحمة عظيم ؛ولذا ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾فلا عظمة تساوي عظمة فضل الله تعالى على خلقه، فالاختصاص النوعي لبعض الرحمات لا يعارضه عموم الفضل على خلقه، ولا عظمة هذا الفضل.
اللهم من علينا بتوفيقك لنعرف فضل نعمتك، ونشكرك ولا نكفرك، وتب علينا، إنك انت التواب الرحيم.
٢ أي ضنوا عليهم. الصحاح..
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة استهانة بعض أهل الكتاب الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم بالحق وتلبيسهم الحق بالباطل، وكذبهم وافتراءهم على النبيين وعلى رأسهم ابو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ثم بين تعصبهم، وحرصهم على ان يظهروا بين الناس بأن الهداية في حوزتهم وحدهم، وان الناس ما عداهم دونهم، ثم ذكر ما يتواصون به فيما بينهم من النفاق بان يؤمنوا اول النهار ويكفروا آخره، لعلهم يفسدون بذلك عقائد المؤمنين ؛وهكذا مما يدل على فساد اعتقادهم وعدم إذعانهم للحق، وكذبهم فيما يدعون.
والكذب والخيانة توأم، كما ان الصدق والأمانة توأم، وفساد النفس يترتب عليه فساد العمل، وعدم الإذعان للحق في الاعتقاد يترتب عليه عدم الإذعان للحق في المادة، فإذا كان بعض أهل الكتاب قد كان منهم ذلك النفاق الديني، فإنهم قد بدت منهم الخيانة المادية، ولذا قال سبحانه :
﴿ ومن اهل الكتاب من عن تامنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تامنه بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائما ﴾قسمان متقابلان احدهما يبلغ الغاية من الأمانة، فيعطيها عند طلبها مهما تكن قيمتها ؛ومهما تكن نفاستها، وعبر عن الكثرة بالقنطار من الذهب، ولم يذكر كونه من الذهب ؛لأنه مفهوم من السياق ؛لأن الدينار لا يكون إلا من الذهب، فلا بد ان يكون القنطار الذي يكون في يد الأمين من الذهب، وهذا القسم الذي يكون على هذا القدر من الأمانة هو الذي يجيب داعي الحق ويؤمن به إذا دعي إليه ؛ لأن التسليم بالحق في الماديات التي تصورها الأمانة لا ينشأ إلا من ينبوع النفس التي تؤمن بالحق في المعنويات ؛بل إن هذا في الحق ينتهي إلى معنى الأمانة ؛لأن نصر الحق والإذعان له بعد قيام الدليل عليه نوع من الأمانة، إذ إن الله سبحانه أودعنا هذه القوى المدركة لنجعلها للحق وللنفع، فذو العلم عليه أن يؤدى أمانة العلم، وذو المال عليه ان يؤدى أمانة المال، ومن قام بين يديه الدليل على صدق دعوة إلى الحق لا يكابر ولا يمارى، وكانت الأمانة ان يعلن تلك الحقيقة ويناصرها ويؤيدها، ولذلك قال كثيرون من العلماء : إن الأمانة التي حملها الله للإنسان بمقتضى الفطرة هي إدراكه لمعنى التكليفات الإنسانية والإلهية وقيامه بحقها، وقد قال تعالى :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان غنه كان ظلوما جهولا٧٢ ﴾[ الأحزاب ].
هذا هو القسم الأول، وقد قال العلماء إنهم اهل الكتاب الذين آمنوا برسالة محمد صلى اله عليه وسلم، كعبد الله بن سلام، وغيره من اليهود الذين سارعوا إلى الإسلام، وكذلك الشأن في كل كتابي علم الحق في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأذعن له ؛لأنه يكون ممن يؤدى الأمانة.
والقسم الثاني هو الذي لا يؤدى الأمانة، وهو في مقابل الأول ؛لأن الأول في السماك الأعزل، وهذا في الحضيض الأوهد. وصور الله سبحانه الفرق بينهما ذلك التصوير الحكيم البين الواضح بان الأول لو ائتمن على قنطار من ذهب لأداه، والثاني إن ائتمن على دينار لا يؤده إلا بالملازمة الدائمة، والتتبع والإلحاف الشديد، وعبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الملازمة بقوله تعالى :﴿ إلا ما دمت عليه قائما ﴾أي إلا إذا استمررت مطالبا له مصمما على ان يؤدى مشرفا عليه في غدوه ورواحه. ودام معناها استمر، وقائما معناها ملازما متتبعا ؛ذلك لن قام في استعمال القران الكريم لها تكون كما قال الراغب في مفرداته :"على أضرب، قيام بالشخص إما بتسخير او اختيار، وقيام للشئ وهو المراعاة للشئ، والحفظ له، وقيام هو بمعنى العزم على الشئ.. ومن المراعاة للشئ قوله تعالى :﴿ كونوا قوامين لله شهداء بالقسط... ٨ ﴾[ المائدة ]وقوله تعالى :﴿ قائما بالقسط... ١٨ ﴾[ آل عمران ]وقوله تعالى :﴿ أفمن هو قائم على نفس بما كسبت... ٣٣ ﴾[ الرعد ]وقوله تعالى :﴿ ليسوا سواء من اهل الكتاب امة قائمة... ١١٣ ﴾[ آل عمران ]وقوله تعالى :﴿ إلا ما دمت عليه قائما ﴾أي ثابتا على طلبه.
وغن هؤلاء الذين لا يؤدون الأمانة المادية إلا بهذه المطالبة الدائمة، والملازمة المستمرة-هم الذين لا يتركون التضليل كما اشرنا، فلا يأمن اهل الحق شرهم إلا برقابة مستمرة لمنع تضليلهم، وفتنة الناس عن دينهم، ثم هم يخونون العهود، وطالما خانوا النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه مع المشركين، حتى اضطر لإجلائهم عن المدينة وما حولها.
وإن هؤلاء يبررون خيانتهم للأمانة المادية بقولهم كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم :﴿ ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ﴾.
أي ذلك الامتناع عن وفاء الحق، وأداء الأمانة والإذعان لبواعث الهداية الذي هو أداء الأمانة المعنوية سببه زعمهم الذي قالوه، ونطقوا به وهو انهم ليس عليهم سبيل أي تبعة او ملام او عتاب في شان الأميين وأموالهم، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ ليس علينا في الأميين سبيل ﴾فالأميون هم العرب، وسموا أميين ؛لأنهم لم يكن عندهم علم ولا حضارة، وكانت تغلب عليهم الأمية، وهي الجهل بالكتابة والقراءة، فكان هذا الإسم لهم لغلبة الأمية عليهم ؛ومعنى سبيل حجة ملزمة ؛لأن السبيل هو الطريق، وهو يطلق بمعنى الحجة باعتبارها طريق الإلزام وتحمل التبعات، وقد قال الزمخشري في تفسير هذه الجملة السامية﴿ ليس علينا في الأميين سبيل ﴾أي لا يتطرق علينا عتاب وذم في شأن الأميين، يعنون الذين ليسوا من اهل الكتاب، وما فعلنا بهم ما فعلنا من حبس أموالهم والإضرار بهم ؛إلا لأنهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم، ويقولون لم يجعل لهم في كتابنا حرمة، وقيل :"بايع اليهود رجالا من قريش، فلما أسلموا تقاضوا قالوا ليس لكم علينا حق، حيث تركتم دينكم".
وإن هذه أخلاق الذين يظنون في انفسهم العلو المطلق، ويستخدمون ذلك الظن الباطل، لأكل أموال الناس بالحق، وليفسدوا في الأرض وهو ما عليه اهل أوروبا ؛يقومون بالحق في بلادهم، ويثبتون دعائمه في عشائرهم لا يضيع عندهم حق ؛فإذا تجاوز الحق أقطارهم أنكروه، ولم يذعنوا له ؛ وتقولوا الأقاويل وادعوا انه ليس للأمم المتخلفة في الحضارة حق كحق غيرها، وانه ليس للملونين حق كحق غيرهم.
وإن هذا مبدأ اليهود، وهم مغرقون فيه، فقد كانت التوراة تحرم الربا تحريما مطلقا، وكان النص فيه : لا تأخذ ربا من أخيك إذا أقرضته، فزادوا كلمة أخيك الإسرائيلي لأنهم لا يشعرون بالأخوة الإنسانية في ذاتها.
وإن المبادئ الخلقية الفاضلة لا تعرف جنسا ولا لونا ولا ثقافة ؛ولذا قال تعالى ردا عليهم مبنيا كذبهم.
﴿ يقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾في هذه الجملة السامية رد عليهم بان ما قالوه من انه ليس عليهم في الأميين سبيل كلام لا أصل له في شرع سماوي فهو ليس دينا، وإذا كانوا قد قالوه على الله تعالى فقد كذبوا على الله تعالى، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في قضية عامة تدل على ان من شانهم ان يقولوا الكذب على الله تعالى، وهم يعلمون انه كذب فقد كذبوا فادعوا انهم أبناء الله وأحباؤه، وكذبوا فادعوا ان إبراهيم كان يهوديا، وكذبوا فادعوا انه لا نبي إلا من بني إسرائيل، فكان الكذب على الله تعالى شانا من شئونهم، ولذلك عبر بالمضارع، أي ان شانهم ان يقولا الكذب على الله، قالوه في الماضي، ويقولونه في الحاضر، وسيقولونه في المستقبل، وذلك شان الذين يحتكرون لنفسهم حق التكلم في الدين، ويحسبون غيرهم ليس من حقهم ان يتكلموا فيه.
وإن الأمانة كانت توجب عليهم الا يقولوا إلا الحق، ولكنهم خانوها في الماديات، وما ذلك إلا لأنهم فقدوها في المعنويات، فكان هذا هو أساس ذلك الضلال البعيد، ولقد روى سعيد بن جبير ان النبي صلى الله عليه وسلم قال في أهل الكتاب عندما نزل قوله تعالى عنهم :﴿ ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ : قال عليه الصلاة والسلام :
"كذب أعداء الله، ما من شئ في الجاهلية، إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البر والفاجر"١.
و يروى أن رجلا سأل ابن عباس، فقال :( ( إنا نصيب في الغزو من اموال أهل الذمة الدجاجة، و الشاة، فقال ابن عباس : فتقولون ماذا ؟ قال نقول : ليس علينا بذلك بأس. فقال حبر هذه الأمة : هذا كما قال أهل الكتاب :﴿ ليس علينا في الأميين سبيل ﴾. إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ) ).
هذا تأكيد لبيان كذبهم على الله تعالى، و بلى هنا معناها إثبات ما نفوه، لأنها تجئ في القول لإثبات المنفي، لقد نفوا أنه عليهم في الأمين سبيل، فقال سبحانه بل عليكم فيهم سبيل، و أنتم معذبون بما تجرمون في شأنهم، ومثابون إن أوفيتم لهم بعدهم و آمنتم، وقد علل سبحانه ذلك الحكم العادل بقضية دينية عامة ثابتة، و هي قوله سبحانه :﴿ بلى من أوفى بعهده و اتقى فإن الله يحب المتقين ﴾.
وإن معنى هذا النص السامى أن الذي ينال محبة الله تعالى ورضاه سبحانه، لابد أن يتحقق فيه وصفان :
أولهما الوفاء بالعهد، فكل ما يلتزمه من عهود، سواء أكان موضوعها أمرا ماديا كأداء الأمانات أم كان الموضوع أمرا معنويا كالقيام بحق من الحقوق – الوفاء به يستوجب رضا الله سبحانه، و كل غدر يكون فيه إبعاد عن رضوان الله سبحانه و محبته.
ويدخل في العهود ما أودعه الله سبحانه قلب كل إنسان من إدراك للحق، وفهم له وإدراك لمعنى الدليل، فإذا لم يذعن له ويعلنه لا يكون موفيا للعهد.
الوصف الثاني المستوجب لرضا الله ومحبته-هو التقوى بأن يشعر بحق الغير عليه ويؤمن به، ويجعل بينه وبين الاعتداد أيا كان نوعه وقاية.
هذان هما الوصفان اللذان يستوجبان محبة الله تعالى، وقد خلا اليهود منهما، فليسوا من محبة الله في شئ، وإن هذين الوصفين متداخلان فالوفاء بالعهد داخل في التقوى، ولذلك قال سبحانه في جزاء الوصفين معا :﴿ فإن الله يحب المتقين ﴾أي من أوفى بعهده واتقى فقد استحق محبة الله، لأن محبة الله تعالى لا يعطيها إلا لأهل التقوى الذين يجعلون بينهم وبين غضب الله تعالى وقاية، فيوفون بالعهد ويعطون كل ذي حق حقه، ويخشون مقت الله وعذابه، وأن الذي يسهل عدم الوفاء بالعهد أعراض الدنيا، وهي ثمن لا يساوي شيئا في جانب عدم رضا الله تعالى ؛
أي إن الذين يتركون عهد الله تعالى في مقابل عرض من أعراض الدنيا يستبدلون ثمنا قليلا بأمر جليل إذ إن من يترك عهد الله الذي عاهد الناس عليه ويمين الله التي وثق بها ذلك العهد يفقد ثقة الناس، ومن فقد ثقة الناس لا يأمنونه، وتلك خسارة كبيرة، وإذا فقد المجتمع الثقة بين آحاده صار كل واحد ينظر إلى الآخر كما ينظر الوحش إلى فريسته، فيذهب الاطمئنان، فتكون الجماعة كقطيع من الذئاب.
وعهد الله تعالى يشتمل معنيين : أحدهما ما التزمه بمقتضى فطرته والتكاليف الدينية والمدارك العقلية من أداء الحقوق والواجبات ومراعاة الأمانات، والثاني ما يعطيه هو من عهود يذكر فيها اسم الله تعالى، ويوثقه بيمين الله تعالى أو لا يوثقه. وغن ترك هذه العهود له اثر في الدنيا وفي الآخرة، اما في الدنيا فالنبذ والطرد. وأما أثره في الآخرة، فذكر سبحانه بعضه بقوله :﴿ أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ﴾أي أولئك الذين ينكثون بالعهود ولا يحترمون يمين الله لا نصيب لهم في الآخرة من ثواب ؛ولكن مغبتهم حساب وعقاب، فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
﴿ ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ﴾أربعة أنواع من الجزاء تنالهم أولها : أن الله لا يكلمهم، وهذا كناية عن عدم محبته، لأن المحب مقبل على حبيبه، متحدث إليه، ومن فقد محبة الله فقد فقد معنى الوجود، وثانيها : انه لا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يرعاهم ؛لنهم إذا فقدوا النظر إليهم منه سبحانه فقدوا كلاءته وحمايته، فعدم النظر كناية عن انه لا يحميهم من العقاب، ولا ينزل بهم نعيما، والنوع الثالث : انه لا يزكيهم، وذلك كناية عن عدم رضاه سبحانه ؛لن من يرضى عن شخص يزكيه ويطريه ويثنى عليه. والجزاء الرابع الذي هو نتيجة ما سبق من بغض الله، وسخطه، ومنع حمايته هو ان لهم عذابا مؤلما :
اللهم قنا عذاب النار، وامنحنا رضاك واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين.
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة كذب اليهود والنصارى الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم والذين سبقوه، ومن جاء بعد هؤلاء وأولئك ؛كيف كانوا يكذبون في الوقائع البديهية، فيدعون ان إبراهيم ابا الأنبياء كان يهوديا أو نصرانيا وكيف كان اليهود وغيرهم يدعون ان هداية الله حكر احتكروه، وهي في حرزهم لا تخرج عنهم إلى غيرهم، وقد اندفعوا إلى النفاق بإظهار الإيمان وإبطان الكفر، ثم اندفعوا إلى خيانة الأمانات المادية، واكل أموال الناس باسم انهم الصنف الممتاز في هذه الأرض الذي يباح له كل شئ. وفي هذه الآيات التي نتكلم الآن في معانيها السامية قد أعظموا في البطلان كما يحكى رب العالمين، فكذبوا على الله تعالى، وهذا الكذب هو أصل الداء، وأبعد غايات الافتراء، كذبوا على الله فحرفوا الكتاب، وقرءوا أهواءهم على انها من عند الله، وما هي من عند الله، وعلى انها من الكتاب وما هي من الكتاب ولذا قال تعالى :
﴿ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ﴾هذا من عدل القرآن الكريم في حكمه على الطوائف والجماعة، لا يعمم الحكم على الجماعة كلها، ولكن يخص بالذكر الذين ارتكبوا ابتداء كبر الشر، وإن عم ضلالهم من بعد الطائفة كلها، ولهذا نسب التحريف ابتداء إلى طائفة منهم، وإن كان الضلال شاملا.
ولى اللسان معناه، فتله عند النطق لتوجيه الكلام نحو معنى لا يقصد من ظاهر اللفظ ؛وهذا يشمل معاني كثيرة ؛فيشمل إخفاء بعض الحروف عند النطق بكلمة، فيتغير المعنى ؛كمن يقول( السلام عليكم )فيخفي ( اللام ) فتصير الكلمة"السام عليكم"ويكون المعنى مناقضا للمعنى الأصلي، إذ السلام عليكم هو : الأمن، والسام هو : الموت، والاول دعاء له، والثاني دعاء عليه ؛ومن اللي، ان يغير لفظا بلفظ آخر، ويومئ اللفظ الثاني إلى معنى غير المقصود من الأول، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن بعض أهل الكتاب :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ول انهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم... ٤٦ ﴾[ النساء ] فكان لي اللسان ان استعملوا كلمة( راعنا ) بدل كلمة( انظرنا ) وكلمة راعنا-في لغة السريان والعبرانيين-للسب، فهم باختيارها يشيرون إلى معنى السب في هاتين اللغتين، وبذلك يطعنون في الدين، ويسبون النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لي اللسان، ان تقرا عبارات في الكتاب بنغمته، وهي ليست منه. ومن اللي المعنوي، تحريف المعاني بتوجيهها إلى غير المراد منها.
وبهذه الأنواع الأربعة كان بعض اليهود والنصارى يلوون ألسنتهم بالكتاب أي عند قراءته و"الباء"في قوله تعالى : ب﴿ الكتاب ﴾ ؛بمعنى"في"فهم ينظرون إلى الصحائف التي تحوي التوراة، ويقرءون غير ما فيها بلي ألسنتهم إما بحذف حروف يغير المعنى حذفها، او بتغيير كلماتها، أو بقراءة كلام غيرها بنغمتها وتجويده، أو بتحريف معانيها، ليتجهوا إلى معان ليست فيها ؛وليس شئ من هذا في الكتاب الذي يوهمون سامعيه انه منه، وليس منه، وبذلك ضلوا وأضلوا كثيرا، وصلوا عن سواء السبيل، وإن ذلك هو أصل الشر فيهم، واصل فساد الاعتقاد عندهم.
والضمير في قوله سبحانه :﴿ لتحسبوه من الكتاب ﴾وفي :﴿ وما هو من الكتاب ﴾يعود إلى ما لووا به ألسنتهم ؛وتكرار الكتاب في النفي ؛لبيان شدة براءة الكتاب المنزل على موسى وعيسى عليهما السلام مما يدعون ويفترون.
﴿ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾في هذا النص السامي بيان مدى الخطورة في لي ألسنتهم بالكتاب، وإيهام الناس أن ما يقرءون وما يقولون من كتاب الله حتى يحسبه الناس كذلك، فإنهم إذ يفعلون ذلك ينسبون لله تعالى ما لم يقله فيقولون : إن كلامهم هو من عند الله، وليس من عند الله، وذكر"هو"في كلامهم يفيد إصرارهم على ما يدعون مع علمهم بأنهم يكذبون ويفترون وذكره في نفي ادعائهم لتأكيد هذا النفي، وبيان انه منصب على كلامهم، لا على أصل الكتاب، ويقول الزمخشري في قوله تعالى :﴿ ويقولون هو من عند الله ﴾تأكيد لقوله :﴿ لتحسبوه من الكتاب ﴾، وزيادة تشنيع عليهم، وتسجيل بالكذب، ودليل على انهم لا يعرضون، ولا يورون، وغنما يصرحون بأنه في التوراة هكذا، وقد انزله الله تعالى على موسى عليه السلام كذلك ؛لفرط جراءتهم على الله تعالى، و قساوة قلوبهم، ويأسهم من الآخرة. وقد سجل سبحانه وتعالى عليهم الكذب بقوله سبحانه :
﴿ ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ﴾في هذه الجملة السامية بيان مقدار جرأتهم في الباطل، وكذبهم على الحق، فهم يكذبون على الله، وهم يعلمون انهم كاذبون. وقد أكد سبحانه وتعالى شناعة تصرفهم وتبجحهم بأربعة مؤكدات :
أولها : ان كذبهم لن يكن تعريضا، ولا بلسان الفعال، بل كان بالقول الصريح.
وثانيها : ان المفترى عليه هو الله سبحانه وتعالى، فهم لا يفترون على بشر مثلهم، ربما لا يعلم افتراءهم عليه، لا إنهم يكذبون على علام الغيوب الذي يعلم ما تنطق به الألسنة وما تكنه القلوب، وإذا كانوا ينكرون علمه واطلاعه، فقد كفروا بهذا الإنكار قبل ان يكفروا بهذا البهتان.
وثالثها : أنهم يعلمون الحق، وينطقون بالباطل، ويعلمون حكم الله تعالى، ويكذبون عليه، ويتقولون الأقاويل، وهم يعلمون انها غير صادقة.
ورابعها : انه أكد علمهم بذكر الضمير، في قوله :﴿ وهم يعلمون ﴾، أي : هم بأعيانهم وأشخاصهم يعرفون كذبهم، وذلك هو الضلال البعيد.
لقد ادعى النصارى ان المسيح إله وعبدوه، وادعوا ان ذلك من رسالته، واتخذ اليهود والنصارى الأحبار والرهبان أربابا من دون الله تعالى بمعنى انهم لم يتصلوا في معرفة الدين بنصوص كتابهم من غير حجاب، بل اتصلوا به عن طريق تفسير الأحبار والرهبان، وأولئك حرفوا وبدلوا، وكانوا ينشرون كلامهم على انه من دين الله، وما هو منه.
وقوله تعالى :﴿ ما كان لبشر ﴾استعمال قرآني يفيد نفي الشأن وعدم اتفاق هذا المعنى مع الحقيقة المفروضة في الرسول، وقد قالوا إن كلمة"ما كان"في هذا المقام وما يشبهه في معنى ما ينبغي. وذلك مثل قوله تعالى :﴿ ما كان لله ان يتخذ من ولد... ٣٥ ﴾[ مريم ]. وقوله تعالى :﴿ ما يكون لنا ان نتكلم بهذا سبحانك... ١٦ ﴾[ النور ].
والنفي في هذا النص القرآني منصب على اجتماع الرسالة مع القول الذي يكذبون به على أنبياء الله، ومعنى النسق هذا، لا ينبغي لبشر ان يخاطبه الله تعالى ويعطيه الحكم والنبوة ان يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله فليس النفي بالبداهة منصبا على إيتاء الله الكتاب والحكم والنبوة، بل هو منصب على المعطوف، وهو ان يكون منه-مع ما آتاه الله-ذلك الادعاء فيدعو الناس إلى عبادته.
و"الكتاب"المراد به سجل الشريعة التي جاءت، و"الحكم"قيل المراد به الحكمة، ومن ذلك قول اكتم بن صيفي( الصمت حكم، وقليل فاعله )، وأنا أرجح ان المراد هو الشريعة المنزلة التي يحكم بها بين الناس، و"النبوة"هي الرسالة الإلهية التي حملها النبي من أنبياء الله تعالى، وتلك النعم التي انعم الله بها على هذا النبي لا تتفق مع ما ينسب إليه، فالكتاب الذي آتاه حجة عليه والشريعة التي جاء بها تتجافى عن هذا الادعاء، والأمانة التي تحملها برسالة عن الله تعالى تمنعه من ان ينطق بهذا البهتان الصريح ؛فإنه ليس في كتابه ولا شريعته، ولا يتفق مع معنى رسالته، وإذا كان من المستحيل أن يدعي تلك الدعوة فإن المعقول ان تكون دعوته متفقة مع هذه الأمور، ولذا قال سبحانه في دعوته :
﴿ ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ﴾أي : ولكن يقول أولئك الذين أوتوا علم الكتاب، وعلم الشريعة، وفضل النبوة والسفارة الإلهية للناس :﴿ كونوا ربانيين ﴾ والربانيون، نسبة إلى الرب سبحانه وتعالى وقويت النسبة بزيادة اللف والنون، ومعنى هذه النسبة إلى الله تعالى يتضمن أنوارا يتخلق بها المؤمن.
أولها : ألا يعبد إلا الله وحده، فيكون بعقله وقلبه وأحاسيسه خالصا لله سبحانه وتعالى ولا يشرك فيها أحد سواه.
وثانيها : ألا يعرف حقيقة شرع إلا عن الله، فلا يوسط في تعرفها عبادا لهم أهواء وشهوات، يحرفون الكلم عن مواضعه إلا أن يكونوا ذوي فهم في كتاب الله تعالى قد حرم هو منه، فيستعين بهم على فهم كتابه سبحانه لا ان يأخذ أقوالهم على انها دين الله.
ثالثها : ألا ينفذ من الحكام إلا أحكام الرب سبحانه وتعالى.
رابعها : ان تكون كل أعماله خالصة لوجه الله فلا يماري ولا ينافق.
خامسها : أن يخضع للحق لذات الحق، وقد بين سبحانه-حكاية عما ينبغي ان يقوله الرسل وقد قالوه-كيف تتربى الربانية في نفس المؤمن، فذكر انها علم الكتاب المنزل والعكوف على دراسته، فقال :﴿ بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ﴾. أي ان الذي يربي الربانية هو الاستمرار والدءوب على أمرين اثنين :
أولهما : دراسة الكتاب المنزل الذي بينه الرسول، فهو يدرسه مع شارحه، ويقطع كل الحجزات التي تحول بينه وبين هذه الدراسة، فلا يأخذ دين الله عن غير كتاب الله الذي بينه رسول الله تعالى.
ثانيهما : استيعاب علم الكتاب وتعليمه من البعض ليتمكن الدارسون من ان يعرفوا حقيقة كتاب الله، والاهتداء بهديه. وقدم تعليم علم الكتاب على دراسته لأمرين :
أولهما : الإشارة إلى جرم اهل الكتاب الذين اتجهوا إلى تعليم الناس أهواءهم بدل ان يعلموهم كتاب الله.
وثانيهما : أن بيان الدراسة من غير تعليم وتدريس خبط عشواء. وسير في ظلماء ؛كما يحاول ملا حدة اليوم الذين يريدون ان يفهموا القرآن من غير ان يعلموا شيئا حتى علم العربية :
﴿ أيأمركم بالكفر بعد إذ انتم مسلمون ﴾هذا استفهام إنكاري بمعنى النفي أي : ان الرسل لا يمكن ان يأمروا بالكفر بالله، وقد أوتوا علم الكتاب وفضل السفارة، وتنفيذ شريعة الله تعالى، ذلك لنهم يكونون مضللين ولا يكونون هادين، وقوله :﴿ بعد إذ أنتم مسلمون ﴾فيه إشارة إلى ان الناس بمقتضى فطرهم يسلمون ويخلصون وجوههم لله سبحانه وتعالى، فهذا شأن من شئونهم، وطبيعة في فطرهم، حتى لقد قال بعض العلماء : إن معرفة الله تكون بالعقل ؛واوجب أبو حنيفة معرفة الله بالعقل ؛وما كان الرسل ليصرفوا الناس عن مقتضى الفطرة والعقل ؛فعبادة الله وحده في فطرة الله التي فطر عليها الناس.
اللهم جنبنا الهوى، واهدنا إلى الرشاد.
بين سبحانه وتعالى أحوال اليهود الذين عاصروا الرسالة المحمدية، وكيف كانوا يتعصبون لما عندهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه ؛تشددا في التمسك بما عندهم على ان يكون على هواهم. وبين سبحانه كيف أداهم ذلك إلى الظلم، وإلى فساد الاعتقاد. بعد هذا بين سبحانه وتعالى وحدة الشرائع السماوية، وأنها يكمل بعضها بعضا. وأنها كالقصر المشيد، كل لبنة منه جزء من كيانه، وهو جماع لبناته وأركانه وأشكاله ؛وأكد سبحانه تلك الوحدة في الرسالة الإلهية ببيان انها ميثاق الله على الأنبياء، وان الله سبحانه أخذه عليهم ليصدق بعضهم بعضا فقال تعالى :﴿ وإذ اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ﴾.
الميثاق مأخوذ من الوثاق، وهو ما يشد به المر، ويثبت ويؤكد ؛والميثاق الذي أخذه الله على النبيين هو ميثاق بمقتضى الهداية التي جاءوا بها، والحق الذي يناصرونه، وهو مشتق من معنى النبوة، والرسالة الإلهية ؛فإن هذه الرسالة بمقتضى وظيفتها وعملها هي عهد موثق بين العبد المختار، والرب الذي اختاره، كمن يرسل رسولا، فإنه يكون ثمة عهد بين الرسول ومن أرسله، بأن يقوم بواجب الرسالة على الوجه الأكمل.
وإنه بمقتضى هذا العهد الموثق الذي اشتق من منصب الرسالة الأسمى، تكون الرسالة الإلهية واحدة في مقصدها وغايتها، وهي إسعاد البشرية، وتنظيم العلاقات الإنسانية على دعائم من الأخلاق الفاضلة المنبعثة من النفس العابدة، والروح الزاهدة، التي لا تحرم طيبات ما احل الله.
وإذا كانت الوسائل تختلف أحيانا قليلة، فالغاية واحدة، وهي الرحمة، وإقامة الحق والقسط بين الناس.
وكل نبي متمم ما بدأ به النبي الذي سبقه، او بالأحرى يؤكد ما جاء به ويوثقه ويقويه، حتى ختم الله أنبياءه بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكان خاتم النبيين، ولذلك كان حقا على كل نبي ان يصدق ويؤمن بما يجئ به النبي الذي بعده، والذي أعلمه الله تعالى به، وإذا كان حقا على النبي المبعوث أن يؤمن بمن سبقه، ومن يجيئون بعده ممن اخبره الله تعالى بمجيئهم، فإنه بلا ريب حق على الذين يتبعونه ان يصدقوا ذلك النبي الذي يجئ بعده ؛لأنهم يتبعونه في كل ما يؤمن به ؛فحق على اليهود والنصارى بمقتضى العهد، ان يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا ما كانوا متبعين لموسى وعيسى عليهما السلام، إنما يكونون متبعين لأهوائهم وشهواتهم ؛ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه جابر :"لو موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا ان يتبعني"١.
هذا هو معنى النص الكريم بالإجمال، بقي أن ننظر في تخريج هذه المعاني السامية من الألفاظ المقدسة، فنقول : إن في الآيتين قراءتين٢ ؛إحداهما : القراءة بفتح"اللام"وتكون اللام في هذه الحال هي اللام الموطئة للقسم، التي تشعر بأن في الكلام قسما تضمنته سابقها ؛وان ما بعدها يتضمن الجواب ؛وتكون( ما ) شرطية، ويكون معنى الكلام : مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن ؛أي أنه ميثاق الله وعهده عن أتاكم علم الكتاب والحكمة، وهي الشريعة الحاكمة، وجاء رسول أن تؤمنوا فالعهد الأساس بينكم معشر الرسل، وبين من أرسلكم، انه إن جاء كتاب الرسالة، وشريعتها التي هي حكمتها الحاكمة هو ان تؤمنوا بكل رسول يجئ بعدكم مصدقا لما معكم كإيمانكم بكتابكم : هذا تخريج معاني الآية على قراءة فتح"اللام".
وثانيتهما القراءة بكسر( اللام ) وتكون ( ما ) بمعنى الذي، فهو أسم موصول، وقوله تعالى :﴿ ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ﴾عطف على الصلة، ويكون المعنى : أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق على النبيين بسبب الكتاب الذي نزل، والحكمة التي جاءوا بها، وتصديق النبي الذي جاء من بعدهم-أخذ عليهم عهدا بان يؤمنوا به.
وقوله تعالى :﴿ لتؤمنن ﴾جواب القسم الذي تضمنته معنى الميثاق ؛لأن الميثاق المؤكد الموثق هو في حكم القسم المؤكد الموثق، وقوله تعالى :﴿ ولتنصرنه ﴾عطف على لتؤمنن أي ان مقتضى العهد والميثاق على النبيين ان يؤمنوا بما جاء به الرسول الذي صدق ما معهم ؛وان ينصروه إذا اختلف مع المشركين. ولكن قد يسال سائل : إنهم قد مضوا، فكيف منهم النصرة ؟.
إن تصور الإيمان منهم ممكن باعتبار ان الله تعالى مخبرهم بمبعثه، ولكن النصرة غير متصورة، والجواب عن ذلك : أن الكلام بالنسبة للأنبياء فرضي، وبالنسبة لأتباعهم واقعي ؛وكان المراد ان هؤلاء الأنبياء لو كانوا أحياء في عهد الرسول الذي يجئ مصدقا لما معهم، لآمنوا به، ولاتبعوه ونصروه وآزروه ؛لأن ذلك ميثاق الله الذي ربط النبوات بعضها ببعض، فهي متلاقية عند غاية واحدة، وإذا كان النبيون لا يفرض فيهم إلا ذلك فأتباعهم يجب عليهم ان يفعلوه إن كانوا متبعين لهم.
بعد ان صور الله سبحانه وتعالى ذلك العهد الموثق بمقتضى الرسالة الإلهية قال :
﴿ قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ﴾في الجملة السابقة بين سبحانه عهد الله على النبيين، وفي هذه الجملة يوثقه ويؤكده بأخذ إقرار منهم بهذا الميثاق، وبأخذ عهد آخر عليهم، وهو ان يتولوا هم أخذ العهد على غيرهم بان يقوموا بعهد الله تعالى الذي عاهدهم عليه ؛أي انه سبحانه يأمرهم بان يأخذوا ذلك العهد على أتباعهم ؛وهذا معنى﴿ وأخذتم على ذلكم إصري ﴾أي أخذتم من أتباعكم على ذلك الميثاق-ان ينفذوه وان يتبعوه، وان يقوموا بحقه عليهم، فثمة إذن عهدان : عهد الله على النبيين، وعهد النبيين على أتباعهم، وهذا هو الإصر الذي أخذوه عليهم. فالإصر هنا هو العهد الموثق الشديد، وقد قال الراغب في أصل اشتقاق"أصر" :"والإصر عقد الشئ وحبسه بقهره يقال أصرته فهو مأصور". قال تعالى :﴿ ويضع عنهم إصرهم... ١٥٧ ﴾[ الأعراف ] أي الأمور التي تثبطهم، وتقيدهم عن الخيرات، وعن الوصول إلى الثوابات.. و"الإصر"العهد المؤكد الذي يثبط ناقضه عن الثواب، وعن الخيرات، قال تعالى :﴿ أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ﴾.
وإذا كان أتباع النبيين قد اخذ عليهم العهد بأن يؤمنوا بالرسول ويصدقوه وينصروه، فإنه في عنق اليهود والنصارى ان يؤمنوا بمحمد وينصروه ويؤيدوه ؛لأن ذلك جزء من الرسالة التي أتوا بها.
ولقد زكى سبحانه العهد الذي أخذه النبيون على أتباعهم بقوله تعالى :﴿ قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ﴾.
أي ان الله سبحانه قد اخذ هذا الإقرار على أنبيائه، واخذوا هم ذلك الميثاق على أتباعهم، وبعد ذلك أمرهم سبحانه بان يشهدوا على أتباعهم بأنهم اخذوا ذلك الميثاق عليهم، فمعنى قوله تعالى :﴿ قال فاشهدوا ﴾أي فاشهدوا أيها الأنبياء على أتباعكم بأنكم أخذتم عليهم تلك العهود بأن يؤمنوا بالرسول الذي يجئ مصدقا لما معكم، وأنهم إذا لم يفعلوا فقد خالفوا العهد والميثاق، ونقضوا عهد الله بشهادته سبحانه وتعالى، وليس كمثله شئ، وهو السميع البصير ؛ولذا قال سبحانه :﴿ وأنا معكم من الشاهدين ﴾وأي شهادة اجل وأعظم من شهادة خالق السموات والأرض ومن فيهما.
وإن هذا كله ينتهي بلا ريب إلى ان اليهود والنصارى عليهم ان يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وان ينصروه، وان يؤمنوا به، وعليهم ان يعلموا ان ذلك إتباع لدينهم، وأنهم إن ناوءوا الرسول، فإنما يناوئون أنبيائهم، وأنهم بمخالفتهم له قد خرجوا عن دينهم الذي ارتضوا، والذي يزعمون انهم يناقضون النبي صلى الله عليه وسلم لتأييده ونصرته.
وإن هذه الآية السامية تدل على وحدة الرسالة الإلهية إلى اهل الأرض، فما جاء به إبراهيم وموسى وعيسى هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؛ولذا قال تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه... ١٣ ﴾[ الشورى ].
٢ قرأها(لما) بكسر اللام حمزة، وقرأ الباقون﴿لما﴾ بفتح اللام. غاية الاختصار- ج٢/٤٥١..
أي فمن اعرض بعد ذلك عن ألإيمان بمحمد وعن نصرته وتأييده، فأولئك هم الفاسقون، أي الخارجون على كل دين غير المؤمنين بأي نوع من الإيمان، فلم يؤمنوا لا بأنبيائهم ولا بمحمد، ولا بمن يدعون الإيمان بهم، وقد أكد فسقهم بالإشارة بالبعيد، وبتعريف الطرفين الذي يفيد انحصارهم في الفسق وانحصار الفسق فيهم، وأكد أيضا بضمير الفصل الذي يفيد التخصيص.
والاستفهام هنا للتوبيخ، واستنكار ما يفعلون، وبيان ان مؤداه انهم يطلبون غير دين الله سبحانه وتعالى، وأنهم لا يمكن ان يكونوا مؤمنين بنبي قط، إذا أنكروا رسالة نبي من الأنبياء، وخصوصا محمدا صلى الله عليه وسلم الذي جاء بكتاب مصدقا لمن بين يديه من الكتب.
وفي هذا الكلام إشارة إلى ان دين الله واحد لا يتجزأ، فمن كفر ببعضه، فقد كفر بكله، وان حقيقة هذا الدين تتجلى في كل ما جاء به الرسل لا في بعضه، وانه يتلاقى كله في مجموعه، ولا يتعارض إلا ما يكون من جزئيات عملية ضئيلة، فلا تختلف رسالات الرسل في قواعد كلية.
وهنا مباحث لفظية. أولها : ان الفاء هنا للترتيب والتعقيب، وهي مؤخرة عن تقديم ؛لأن الاستفهام له الصدارة دائما، والمعنى انه ترتب على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم انه وجه إليهم ذلك الاستفهام الإنكاري توبيخا لهم على ما فعلوا وما أنكروا، وما ضللوا.
وثانيها : إسناد الدين إلى الله تعالى، ففيه إشارة إلى ان من يكفر ببعضه غنما يكفر بالله، لا بنبي من الأنبياء فقط.
وثالثها :{ تقديم المفعول على الفعل، أي تقديم كلمة"غير دين الله"على"يبغون"ففيه تنبيه إلى موضع الاستنكار وهو انهم أرادوا غير دين الله تعالى، فقدم المفعول لأهميته، إذ هو موضع التنبيه والتوبيخ.
ورابعها : التعبير ب﴿ يبغون ﴾بدل يريدون، فإنه يفيد شدة إلحافهم وإصرارهم، وفي ذلك إشارة إلى أنهم بذلك ظالمون.
وقد بين سبحانه ان ذلك المر الذي ابتغوه وطلبوه كان تمردا على الله، وخروجا على طاعته، مع انه سبحانه قد أسلم له كل من في السموات والأرض طوعا وكرها ؛ولذلك قال سبحانه :
﴿ وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها ﴾. أي انهم يبغون غير دين الله، ويخرجون عن طاعته ؛مع انه قد أسلم له من في السموات والأرض طوعا وكرها ؛وتقديم الجار والمجرور لإفادة القصر، أي له وحده، لا لأحد سواه، خضع واخلص كل من في السموات والأرض من عقلاء. ﴿ طوعا وكرها ﴾أي انهم خاضعون مستسلمون له بنوعين احدهما : بالطاعة، والإخلاص، والإذعان، وقبول كل ما يحكم به، والتقرب منه بعبادته، وأولئك هم الأخيار.
وثانيهما : بالخضوع لقوته القاهرة، وكونه سبحانه مسير الأكوان ؛لأنه لا أحد من الخلق له أثر في تسييرها، وفيما يكسب من خير وشر، والجميع في قدرته وحفظه، وهذا الخضوع هو الخضوع كرها وقسرا، وهو سار على الخيار والأشرار.
ثم هددهم سبحانه بقوله تعالى :﴿ وإليه ترجعون ﴾. أي إليه وحده المرجع والمآب، يحاسب كلا على ما صنع من خير وشر.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين.
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة شدة تعصب بعض الذين أوتوا الكتاب، وأنهم غلقوا بهذا التعصب باب النور فلم تشرق قلوبهم بهداية الإيمان، ثم بين سبحانه ان صرح النبوة واحد، وان كل نبي متمم لما جاء به سابقه مصدق له، ومبشر بالنبي الذي يجئ بعده، وان ذلك عهد الله وميثاقه، وفي هذه الآية يشير إلى وحدة الرسالة الإلهية، وان محمدا صلى الله عليه وسلم مؤمن بكل رسول جاء من قبله، وان ذلك الإيمان جزء من رسالته عليه الصلاة والسلام ؛ولذلك امره ربه بقوله تعالى :
﴿ قل آمنا بالله وما انزل علينا وما انزل على إبراهيم وإسماعيل ﴾وهذا امر من الله لنبيه بأن يبين لهم ارتباط شرائع الله، وأنها سلسلة متصلة، كل حلقة منها آخذة بالحلقة الأخرى، لتنتهي معها إلى نهاية واحدة، وهي الإخلاص، وقد ابتدأ سبحانه بذكر الإيمان بالله، فقال :﴿ قل آمنا بالله ﴾والإيمان بالله هو جماع الشرائع كلها، إذ الإيمان بالله يقتضي الإيمان بوجوده واحدا منفردا بالعبودية، ومنفردا بالتكوين والإنشاء، ويقتضي الإخلاص لذاته العلية فيطيعه فيما يأمره به، وينتهي عما ينهاه عنه، وتصديق رسله، وعدم الاستكبار على احد منهم، وذلك هو الإيمان حقا وصدقا، والإسلام الذي هو دين النبيين أجمعين، وإذا كان الإيمان بالله يقتضي تصديق كل ما جاءت به رسل الله- ذكر سبحانه بعد ذلك الإيمان بما انزل على النبيين، وهو عطف للمسبب على السبب وللنتيجة على المقدمة، لبيان شرف النتيجة في ذاتها، وأنها غرض مقصود لذاته، وليس فقط تابعا لغيره ؛وذلك لأن ما انزل على الرسل فيه لب الشريعة السماوية المشتركة في كل الديان التي ذكرها الله سبحانه بقوله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه... ١٣ ﴾[ الشورى ].
وإن الأنبياء الذين ذكرتهم الآية هم الأنبياء الذين يدعى اليهود والنصارى انهم يتبعونهم، وفيهم إسماعيل أبو العرب، وفي ذكرهم بيان ان اليهود والنصارى قد خرجوا عن دينهم بكفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.
و الأسباط هم أولاد يعقوب الا ثنا عشر، والمراد بما أنزل على الأسباط هو ما انزل على ذريتهم كالذي أنزل على داو وسليمان وغيرهما من الأنبياء الذين جاءوا من سلالة هؤلاء الأسباط، فكان المعنى : آمنا بما انزل على إبراهيم وولديه إسماعيل وإسحاق وحفيده يعقوب، ثم من جاء بعد ذلك من ذرية الأسباط الذين هم أولاد يعقوب، فأنبياء بني إسرائيل لا يخرجون عن ذلك، ثم خص اثنين من أنبياء بني إسرائيل بالذكر، وهما موسى وعيسى، فقال :﴿ وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم ﴾.
وهن قد يسأل سائل ما الذي أوتيه موسى وعيسى والنبيون، أهو شئ آخر غير ما انزل عليهم : ونجيب عن ذلك السؤال بأن ما ذكر بأنه أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، هو الجزء الذي لا تختلف فيه الديانات السماوية قط، وهو لبها وخلاصتها، وأساسه التوحيد المطلق، والإيمان بفضائل الأخلاق، وغيرها مما لا يقبل النسخ والتغيير، وأما الذي أوتيه موسى وعيسى والنبيون من ربهم فهو ما اختص به كل نبي من أحكام توافق زمنهم، ويصح ان نقول جوابا آخر وهو أن ما أوتيه موسى وعيسى والنبيون هو معجزاتهم التي أقاموا بها الدليل على رسالة ربهم، ويصح ان يكون الجواب شاملا للأمرين معا.
وقد أورد الزمخشري، سؤالا وأجاب عنه هو وغيره، وهو انه في سورة البقرة، قد قال الله تعالى :﴿ قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا وما انزل على إبراهيم... ١٣٦ ﴾بالبقرة ] فلماذا عبر هنا بقوله تعالى :﴿ أنزل علينا ﴾وهنالك﴿ أنزل إلينا ﴾ وقد قال الزمخشري في السؤال وفي الجواب ما نصه :"فإن قلت لم عدى ل"أنزل"في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء١. قلت لوجود المعنيين، وأخرى بالأخرى، ومن قال إنما قيل"علينا"لقوله :"قل"، و"إلينا" لقوله :"قولوا" تفرقة بين الرسول والمؤمنين ؛لأن الرسول يأتيه الوحي على طريق الاستعلاء، ويأتيهم على طريق الانتهاء-فقد تعسف، ألا ترى إلى قوله :﴿ بما أنزل إليك... ٤ ﴾[ البقرة ]، و﴿ أنزلنا إليك ﴾، وإلى قوله تعالى :﴿ آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا... ٧٢ ﴾[ آل عمران ].
وإنا نميل إلى ما اعتبره الزمخشري تعسفا ؛لأن الخطاب في الأول من الله لنبيه، والوحي ينزل عليه، فكان من مقتضى الحقيقة ان يعبر بعلى، والثاني خطاب للمؤمنين، والوحي لا ينزل عليهم، ولكن ينتهي في نزوله إليهم، وكون الله تعالى عبر في مقام النزول على النبي ب"إلى"، وحكى عن اليهود انهم قالوا في مقام النزول إلى المؤمنين بعلى، فلأسباب واضحة في مقامها لا يخل بالتعليل في هذا المقام.
﴿ لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون ﴾هذه ثمرة الإيمان بالله وحده لا شريك له، والإيمان بكل رسله، وبكل ما انزل على رسله، فالنبي والمؤمنون معه إذ يؤمنون بكل ما جاء به الرسل لا يفرقون بين احد منهم، فلا يؤمنون بواحد ويكفرون بآخرين، ولا يؤمنون بجماعة ويفردون بالكفر واحدا، بل هم في الإيمان سواء، وإذا كان بينهم تفاضل في أشخاصهم، فأصل الإيمان برسالتهم واجب لا تفرقة فيه ؛ولكن التفضيل يكون بأمور أخرى وراء أصل التصديق والإيمان ؛ولذا قال تعالى :﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات... ٢٥٣ ﴾ [ البقرة ].
ثم بين سبحانه الوصف الكامل لهل الإيمان، وهو الإذعان لذات الله ولذات الحق، فيطلبون الحق مذعنين له مؤمنين به خاضعين، ولذا قال سبحانه :﴿ ونحن له مسلمون ﴾أي ونحن لله سبحانه وتعالى مذعنون مخلصون، لا نذعن إلا له، فلا نفكر في الأمور تحت تأثير عرض من أعراض الدنيا، أو عصبية جنسية او دينية، أو حب رياسة وسلطان، بل نطلب الأمر من الأمور وقد أخلصنا في طلبه، وخلصنا أنفسنا من شوائب الدنيا وأعراضها، فالإخلاص لله والإذعان له فيه الخلاص والاستقامة نحو الحق.
﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ﴾الإسلام هنا هو الإسلام في قوله تعالى :﴿ إن الدين عند الله الإسلام... ١٩ ﴾[ آل عمران ] فهو الإيمان بالله تعالى وحده، وإذعان العقل والنفس والقلب لله سبحانه وتعالى، فهو التوحيد، والانقياد، والإذعان، والإخلاص لذات الله، بحيث يحب الشئ لا يحبه إلا لله. وكان المعنى : من يطلب غير الإخلاص دينا لله تعالى فلن يقبل منه ؛لأن عدم الإخلاص لله تعالى إشراك للهوى ومآرب الدنيا في الاتجاه إليه سبحانه، وذلك نوع من الشرك الخفي، ولذا أكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله :﴿ فلن يقبل منه ﴾أي انه ليس من شأنه ان يقبل غير الإخلاص إذ إن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من عباده إلا ما كان خالصا له مجردا من كل هوى من أهواء الدنيا، ومن كان عنده ذلك الإخلاص الحق هو الذي قال سبحانه وتعالى في مثله :﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون٣٠ ﴾ [ فصلت ].
وإن الله تعالى إذا كان لا يقبل ذلك النوع من التدين، وهو الذي خلا من الإخلاص، فإن صاحبه يكون يوم القيامة من الخاسرين، ولذا قال سبحانه :﴿ وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾أي ان الخسران يوم القيامة يكون شأنه، إذ خسر رضوانه تعالى، وخسر النعيم المقيم، وخسر رحمة الله، فألقى به في الجحيم. الله هب لنا الإخلاص، وأنر به بصائرنا، وامنحنا قبولك ورضاك يا أرحم الراحمين.
إن لله سبحانه وتعالى سننا محكمة في خلقه، وكما ان الكون يجري على قوانين ثابتة لا تقبل التخلف إلا إذا أراد الله سبحانه وتعالى، كذلك هناك سنن في النفوس لا تقبل التخلف إلا ان يشاء ربك، ومن سننه تعالى في النفوس انه لا يهدي إلا من طلب الحق مخلصا في طلبه، لا يرين على بصيرته هوى يظلمها، ولا يعوق طريق الهداية عرض او عصبية، وإذا كان الله يهدي الضال عن جهالة، فإنه لا يهدي من يضل عن بينة ؛لأنه أركس نفسه في الشر، وسد ينابيع الخير في قلبه، وسد مطالع النور فلا تصل إليه ؛تلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا. وإن أولئك اليهود أضلهم الله على علم، فهم آمنوا بالله تعالى ثم كفروا به، ثم شهدوا بأن الرسول حق وجاءتهم البينات المثبتة المنيرة، ثم بعد ذلك كفروا به، لقد كانوا يعلنون بين المشركين انه سيجئ رسول يحطم الأصنام، ويستبشرون بمقدمه، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
ولذا قال سبحانه وتعالى في شانهم وشأن من يماثلهم بعد ان قص الكثير من قصصهم :
﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا ان الرسول حق وجاءهم البينات ﴾هذا استفهام للنفي واستبعاد الإيمان مع الحال التي عليها هؤلاء، فالمعنى ان هؤلاء مع حالهم التي هم عليها، وهي استيلاء الهوى على قلوبهم، وسيطرة الغرض على نفوسهم، وطمس العصبية لإدراكهم-لا يمكن ان يتحقق منهم إيمان وإخلاص صادق فلا يهديهم الله، فالنفي الذي اشتمل عليه الاستفهام هو النفي مع هذه الحال ؛ولذا كانت صيغة الاستفهام بلفظ كيف التي يستفهم بها عن الحال، ويكون النفي فيها أيضا مقيدا بهذه الحال التي هم عليها.
وحالهم التي أوجبت هذا النفي مكونة من عناصر أربعة : إيمان في الابتداء، وشهادة بأن الرسول حق، وكون البينات قد جاءتهم موضحة لهذا الحق، ثم بعد ذلك يكفرون، فلو كان حالهم حال ضلال عن غير علم لنار الله أبصارهم، ولو كانوا مخلصين جهلوا الحقيقة وطلبوها لكانت هداية الله لهم ثابتة، ولكنهم غير ذلك، فهم قد كانوا مؤمنين، ويشهدون بالحق، وذلك عن بينة وعن أدلة يقينية ملزمة، ومع ذلك استولى عليهم التعصب بالباطل، فكان العمى الذي أرادوه، فلا هداية إلى الحق من بعد، وذلك لن الله تعالى يهدي إلى الحق من اخلص وطلبه، فإن الإخلاص يقذف في القلب بالنور فيكون الإشراق الروحي، وتكون الهداية الربانية، أما من قصد إلى الباطل، ولم يخلص وعكرت بصيرته بالهوى، فإنه يكون محروما من هداية الله، حتى يغير من حاله بأن يتوب عن غيه، ويخلص وينيب.
والآية عامة لا ريب في ذلك، فهي تبين من يحرمه الله من هدايته، وهو الذي لا يذعن للحق إلا إذا كان متفقا مع غرضه، وهو من الذين قال الله تعالى فيهم﴿ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون٤٨ وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين٤٩ ﴾[ النور ].
ولكن المفسرين يذكرون لهذه الآية سببا للنزول، فيروى النسائي عن ابن عباس انه قال : كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد ثم ندم، فأرسل إلى قومه يطلب إليهم ان يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم : هل من توبة ؟فنزلت الآية١. وروى عن مجاهد انه جاء الحارث بن سويد فأسلم عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر فرجع إلى قومه نادما، فأنزل الله :﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ﴾فحملها إليه رجل من قومه، فقال الحارث :( إنك والله ما علمت لصدوق، وإن رسول الله لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة ) ثم رجع وأسلم٢، وروى عن الحسن البصري أنه قال : إنهم اهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين رأوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم في كتابهم وشهدوا انه حق، فلما بعث من غيرهم وحسدوا العرب على ذلك وأنكروه وكفروا بعد إقرارهم.
وإن هذا هو الذي أميل إليه، فقد قال تعالى في شان اليهود :﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا به فلعنة الله على الكافرين٨٩ ﴾[ البقرة ]. وغن قصص القرآن فيه بيان تعصب اليهود، ومعاملتهم للمسلمين، وتلقيهم لهداية القرآن، وتواصيهم بالنفاق والكفر.
على انه مهما يكن سبب النزول فإن الآية تقرر حقيقة ثابتة، وهي ان النفس التي تشهد بالحق وتؤمن به ثم تكفر للهوى والعصبية لا يرجى لها هداية إلا ان تزيل منها درن الغرض، وتنخلع عن العصبية الجامحة بالتوبة النصوح.
وفي النص السامي بعض مباحث :
أولها : ما حقيقة الهداية الإلهية في هذا المقام ؟وإنا نقول في الإجابة غير متعرضين لما بين المعتزلة والأشاعرة من خلاف : إن الهداية هنا هي الهداية المطلوبة في قوله تعالى :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ٦ ﴾[ الفاتحة ] والمذكور في قوله تعالى :﴿ ووجدك ضالا فهدى٧ ﴾[ الضحى ] وهي بيان الطريق الحق، والإرشاد إلى سبيل المعرفة الحقيقية ؛وإن من يكون على هذه الحال، وهي الإيمان، والشهادة بالحق ومجئ البينات السابقة-لا يحتاج إلى بيان فوق ما جاء إليه، بل يحتاج إلى عقاب صارم يجعله عبرة لكل من يكون على مثل حاله.
ثانيها : قوله تعالى :﴿ وشهدوا ان الرسول حق ﴾على أي شئ يكون العطف في العبارة السامية ﴿ وشهدوا ﴾وقد ذكر الزمخشري موضع العطف، فقال :"فيه وجهان : أن يعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل ؛لأن معناه بعد ان آمنوا، ويجوز ان تكون الواو للحال، بإضمار قد، بمعنى كفروا وقد شهدوا بأن الرسول حق.
ولماذا لا تكون عطفا على كفروا نفسها ويكون من باب الجمع بين المتناقضات، كما تقول قتل القتيل وبكى عليه، أي ان حال هؤلاء مذبذبة متناقضة، فهم يكفرون بالرسول ويشهدون بأنه حق، والعطف بالواو لا يقتضي ترتيبا، فيصح ان يكون الكفر في الوقوع متأخرا عن الشهادة ولكن يجئ سؤال : لماذا ذكر الكفر أولا ؟ والجواب عن ذلك ان الكفر هو موضع الاستنكار، فكان تقديمه لهذا المعنى.
ثالثها : ان الله تعالى يذكر انهم شهدوا بان الرسول حق، وجاء الحق وصفا للرسول، ولعل الظاهر ان يكون وصفا لما جاء به وهو القرآن، ولكن وصف به ؛ لأن اليهود ما كانوا ينكرون الشرائع السماوية، وما كان السبب في كفرهم هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان السبب هو الحسد لشخصه وللعرب، فأشار سبحانه إلى انهم كانوا يشهدون لشخصه، وأوصافه عندهم، وكانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فشهادتهم منصبة على شخص الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فهم يعرفون شخصه من أوصافه فهو في علمهم حق وكل ما جاء به هو الحق.
﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بهذا النص الحكيم للإشارة إلى انهم ظالمون، فهم ظلموا انفسهم، وظلموا الرسول !وظلموا الحقائق وطمسوا على بصائرهم، فلا يمكن ان تدخل الهداية إلى قلوبهم، وفي النص الكريم إشارة إلى ان الظلم يحدث في نفس الظالم ظلمة شديدة لا ينفع معها ضوء. فتغلق كل الأبواب التي ينفذ منها النور إلى موضع الإدراك، إذ إن أساس الظلم هو تسلط الهوى والغرض الفاسد والحقد والحسد على النفس، فتنحرف عن مدارك الحق ومشارق العرفان، فلا يمكن ان يكون للهداية موضع في النفس، فلا يهديه الله سبحانه، وغن الظلم بطبيعته يفسد الإدراك كله ؛لن إدراك الحقائق يستلزم صدق النفس في طلبها، وصدق النفس في طلب الحقائق لا يمكن ان يكون مع الظلم. الذي يجعل الهوى مسيطرا، فالظلم ظلمات في النفس، ظلمات يوم القيامة.
٢ رواه ابن جرير الطبري في تفسيره: سورة آل عمران٨٩: ٨٦..
ولكن ما اللعنة التي ضربها الله على الذين اتخذوا إلههم هواهم ؟قال علماء اللغة : إن اللعن في الأصل معناه الطرد، وإذا أسند إلى الله تعالى كان المراد الطرد من رحمته، وإني أرى انه قد يستعمل بمعنى غضب الله تعالى وسخطه، وهذا معنى لازم للطرد الذي هو الأصل في المعنى اللغوي ؛لأن الطرد يترتب عليه السخط والمقت والغضب ؛إذ لا يطرد من رضي الله عنه، ولا يطرد محبوب، وعلى ذلك تكون اللعنة هنا بمعنى سخط الله تعالى وغضبه، وسخط الملائكة وغضبهم، ولا مانع من ان يراد الطرد من رحمته إذا اجتمع مع الغضب في مثل قوله تعالى :﴿ وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما٩٣ ﴾[ النساء ]. فهذه معان متلازمة مترتب بعضها على بعض، فيترتب على الغضب الطرد من الرحمة، ويترتب على الطرد من الرحمة عذاب السعير، فإنها للجنة أبدا، أو للنار أبدا، كما قال صلى الله عليه وسلم٢.
وكون اللعنة تكون من الناس أجمعين معناه ان الفطرة الإنسانية السليمة كلها تتنكر وتلعن تلك القلوب المنحرفة التي لا تخضع لحق، ولا تؤمن للبينات، بل تتجه إلى طمس المعالم التي تنير وتهدي، فالمراد المعنى الإنساني العام لا الإحصاء والجمع لآحاد بني الإنسان.
٢ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد: يا اهل الجنة، فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه ثم ينادي: يا اهل النار، فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ:﴿وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي المر وهم في غفلة﴾وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا﴿وهم لا يؤمنون﴾..
وهذا العذاب في الآخرة عاجل لا يقبل التأخير، ولذا قال سبحانه :﴿ ولا هم ينظرون ﴾أي لا يؤجلون ولا يؤخرون لمعذرة يعتذرون بها او ليتمكنوا من إصلاح خطئهم، فإن الآخرة دار جزاء عما عملوا في الدنيا.
بين الله سبحانه وتعالى حال أولئك الذين أركسوا انفسهم في الضلالة وقد جاءتهم البينات من ربهم، وشهدوا ان الرسول حق، بين حالهم في الدنيا وحالهم في الآخرة، وان مصيرهم إلى النار، إلا إذا تابوا وعملوا عملا صالحا، فإن الله تواب رحيم، وغن الآيات السابقة تشير إلى احتمال توبتهم بيقظة الضمير بعد غفلته، فإن النفس قد تظلم وتشتد ظلمتها، ثم ينبثق إليها النور من إحدى النوافذ، فتكون الهداية بعد الضلال، والإيمان بالحق بعد الباطل، وذلك مشروط بألا يمعن الشخص في طريق الضلال فيزداد كفرا وشرا، أما الذين يمعنون في الغواية، ولا يقفون فيها عند نهاية، فإنهم يستمرون في غيهم يعمهون، ولا يتوبون ؛ولذا قال تعالى فيهم :﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم ﴾.
فهذا كما اشرنا قسم ممن كفروا بعد إيمان ؛لأن أولئك قسمان احدهما يرجى توبته، وذلك هو الذي لم يوغل في طريق الكفر والإمعان فيه، وقد أشار سبحانه بقبول توبته بقوله تعالى مستثنيا له :﴿ إلا الذين تابوا... ٨٩ ﴾[ آل عمران ] والقسم الثاني هم الذين كفروا بعد ان آمنوا، ولم يكتفوا بذلك بل لجوا في العناد، واسترسلوا في الغي، واستمروا في مقاومة الحق، فإنهم كلما أوغلوا في الباطل بعدوا عن التوبة والرجوع، ومثلهم كمثل من يسير في صحراء وقد ضل الطريق، فإنه كلما أوغل فيها ازداد ضلاله. وهذا القسم لا تقبل توبته ؛لأنه لا يتوب توبة نصوحا، وقد عبر سبحانه عن إيغالهم في الشر بقوله :﴿ ثم ازدادوا كفرا ﴾أي أن الكفر درجات، وكل إيغال فيه ازدياد ؛ ذلك لن الكفر جحود القلب مع قيام المارات والأدلة، وكلما اشتد العناد اشتد الجحود، واستغلظت الحجب التي تحول بين المرء والهداية، فإذا كان الحجاب عن الإيمان بالحق رقيقا اولا، فبالإمعان في العناد يغلظ الحجاب، ويستمر في الغلظ حتى يحكم الإغلاق، وهو الذي عبر الله عمن تصاب قلوبهم به بقوله تارة :﴿ طبع الله على قلوبهم... ١٠٨ ﴾[ النحل ] وتارة﴿ ختم الله على قلوبهم... ٧ ﴾[ البقرة ]وقوله تعالى مرة ثالثة :﴿ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون١٤ ﴾[ المطففين ].
وأولئك قال تعالى فيهم :﴿ لن تقبل توبتهم ﴾، فنفى سبحانه وتعالى قبول توبتهم، ولنا ان نفسر نفي قبول التوبة على ظاهره بمعنى انه قد تقع منهم توبة ولكنها ليست التوبة التي تقبل، ونص على قبولها في قوله تعالى :﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات... ٢٥ ﴾[ الشورى ] وعدم قبول توبتهم هذه لأنها بظاهر من القول، أو لأنها فلتات نفسية تحدث أحيانا في حال كرب او شدة، ثم يعودون لما كانوا عليه كما قال تعالى :﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا انهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين٢٢ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق... ٢٣ ﴾[ يونس ]. او تكون التوبة في آخر رمق في الحياة كتوبة فرعون وقد أدركه الغرق، فقد حكى الله تعالى ذلك عنه غذ يقول :﴿ حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت انه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين٩٠ الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ٩١ ﴾[ يونس ]. فإن هذه التوبة لا تقبل ؛لن الله سبحانه وتعالى يقول :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما١٧ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر احدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما١٨ ﴾[ النساء ].
هذا هو الفرض الأول في تخريج الآية الكريمة، وهو عدم قبول التوبة إن وقعت، والفرض الثاني أن نقول إن النفي المؤكد منصب على عدم قبول التوبة إن وقعت، والفرض الثاني أن نقول إن النفي المؤكد منصب على عدم وقوع التوبة، بله على عدم قبولها، فالمعنى لن تقبل توبتهم، لأنه لا توجد لهم توبة قد استوفت شروط القبول، ومؤدى الفرضين واحد، لأنه على تسليم وجود توبة في الفرض الأول يجب ان نقرر انها كلها توبة، وقد أكد سبحانه النفي بكلمة( لن ) التي تدل على تأكيد النفي، كما أكده ببيان استمرار ضلالهم فقال سبحانه :﴿ وأولئك هم الضالون ﴾ :
وفي الجملة السامية أكد سبحانه ضلالهم بثلاثة أمور : أولها الجملة الاسمية، وثانيها ضمير الفصل الذي يدل على تأكيد النسبة بين المسند والمسند إليه، وثالثها القصر والتخصيص، فقد قصر عليهم الضلال كأنه لكماله فيهم لا يوجد في غيرهم، وغن السبب في استمرار ضلالهم هو لجاجتهم وعنادهم، فهم كلما لجوا في مقاومة الحق ازدادت نفوسهم بعدا عنه. وكلما بعدوا عنه أوغلوا في الضلال، والإشارة في قوله سبحانه( أولئك )هي إليهم متصفين بما اتصفوا به من كفر بعد إيمان، وازدياد ولجاجة في هذا الكفر والجحود، فتلك الصفات هي السبب في هذا الاستمرار وتأكد الضلال، وإن هؤلاء الضالين سيموتون بلا شك وهم كفار فيندرجون تحت حكم الآية الكريمة الآتية :﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من احدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به ﴾
والجزاء الإيجابي هو العقاب الذي لا يكون منه مناص ولو بفدية مهما كبرت او عظمت، كما قال تعالى مخاطبا المنافقين :﴿ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير١٥ ﴾[ الحديد ] وقد أشار إلى هذا العذاب بقوله سبحانه :﴿ ولو افتدى به ﴾أي لو افتدى نفسه من عذاب الآخرة بمثل الذهب الذي يملأ الأرض. والواو هنا تفيد انه لا يقبل منه أي إنفاق يقدمه ولو كان ذلك الإنفاق قدمه ليفتدي به نفسه من عذاب الله. ثم بين سبحانه العذاب بقوله تعالى :﴿ أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ﴾.
أي أولئك الذين ماتوا وهم كفار بسبب الكفر الذي لازموه حتى موتهم، لهم عذاب مؤلم شديد الإيلام مستمر، وليس لهم ناصر، و ( من ) هنا لاستغراق النفي، أي ليس لهم أي ناصر مهما يكن، فمن كانوا يتخذونهم شفعاء لا يشفعون لهم، والرسل الذين كانوا يتعلقون بهم لا يعرفونهم، ولا نجاة لهم من عذاب الله، لا بفدية يفتدون بها انفسهم، ولا بناصر ينصرهم من دون الله، وبذلك يكونون حطب جهنم والنار مأواهم وبئس المصير، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وهنا بحث لفظي أثاره إمام اللغة الزمخشري، وهو لماذا عبر في الآية السابقة في الخبر من غير فاء، في قوله تعالى :﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم ﴾ وفي هذه الآية اتى بالفاء فقال :﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل ﴾إلى آخره، وقد أجاب عن ذلك بقوله :{ قد أوذن بالفاء أن الكلام بني على الشرط والجزاء، وان سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر، وبترك"الفاء" أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبب، كما تقول : الذي جاءني له درهم، لم تجعل المجئ سببا في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك : فله درهم.
وإن ذلك الكلام مغزاه ان الله سبحانه وتعالى أراد ان يبين لهم ان هذا الجزاء نتيجة للعمل، وانه مسبب عنه لن الجزاء من جنس الفعل دائما، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وأما في الآية الأولى فلأن عدم قبول التوبة ليس جزاء ؛إذ معناه عدم وجود توبة صالحة للقبول ؛أجرى القول مجرى الإخبار كأنه وصف ملازم لحالهم، أو هو حال أخرى من أحوالهم، وإذا كان الجزاء من جنس العمل دائما.
﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ الخطاب عام، وقد صدر بتأكيد النفي المنصب على نيل البر، والمعنى لن تنالوا وصف الأبرار الأخيار حتى تنفقوا مما تحبون، وفي هذه الآية حث على الإنفاق، وعلى القيام بالأعمال التي تكون فيها مخالفة للهوى ومنازعات النفس، وقد تكلم المفسرون في معنى البر المذكور في هذه الآية، فقال بعضهم : إن المراد الاتصاف به كقوله تعالى :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر... ١٧٧ ﴾[ البقرة ] إلى آخره، فالمعنى لن تنالوا وصف البر الذي هو خاصة الأخيار إلا بأن تنفقوا مما تحبون، وهذا ما نختاره، وهو الوضح مما عداه، ولكن لم يذكر على هذا جزاء الآخرة. ونقول إن ذلك حكم من الله تعالى بأن الذين يفعلون ذلك من الأبرار.
ولن ينال ذلك الوصف إلا المنفقون، وقد كنى بهذا اللفظ﴿ مما تحبون ﴾ عن المال، لأن جميع الناس يحبون المال. وقيل : معناه ما تحبون من نفائس أموالكم، دون أرذلها كقوله تعالى :﴿ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون... ٢٦٧ ﴾[ البقرة ]. وقد روى أي عليا رضي الله عنه اشترى ثوبا فأعجبه فتصدق به وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنة، ومن احب شيئا فجعله لله، قال تعالى يوم القيامة قد كان العباد يكافئون فيما بينهم بالمعروف وأنا أكافئك اليوم بالجنة"١.
ثم اعلموا ان الله يعلم كل ما تفعلون، ويعلم ما في نياتكم، ثم هو الذي يجازيكم على هذه العمال والنيات، فاختاروا لنفسكم، إذا كنتم ترجون أحسن ما عند الله فقدموا لنفسكم أحسن ما عندكم، نسأل الله عز وجل ان يوفقنا لما يحب ويرضى.
هذه الآيات الكريمة متصلة بمحاجة اليهود، ومجادلتهم في ذات الشرع الإسلامي، وذات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عدم استقامتهم في كلب الحق، وأنهم كانوا يتواصون فيما بينهم الا يؤمنوا ولا يذعنوا للحق إذ جاء إليهم، وكانوا يقولون : آمنوا بالذي انزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره، وقد اعترضوا على النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل وما اعترضوا عليه بحق قط، وما دفعهم إلى ذلك إلا تعصبهم المردى وظنهم انهم أولياء الله وأحباؤه، وان الناس جميعا مهما تكن منزلتهم دونهم، ولقد روى في الآثار، وكما تدل عبارة التوراة انهم كانوا يحرمون على انفسهم لحوم الإبل وألبانها، ويظهر انهم كانوا يعيرون العرب بأن طعامهم لحم الإبل وألبانها، وان غذاءهم الجوهري هو ذلك اللبن والتمر، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى انه حلال لهم أيضا ان يأكلوه، وانه طعام لهم كما هو طعام عند العرب، وأنهم إذ حرموه على أنفسهم قد خالفوا الفطرة وخالفوا التوراة ثم ادعوا ان تحريم لحوم الإبل كان شرعة إبراهيم، ولقد رد الله عليهم ذلك بقوله :
﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة ﴾ "حل"معناها حلال، ومعنى النص السامي ان كل الطعام قبل التوراة كان حلالا لبني إسرائيل حتى غلظت أكبادهم، واستولت عليهم الماديات، فأراد الله سبحانه وتعالى ان يفطموا نفوسهم عن أهوائها ليكبحوا جماح شهواتهم ولكيلا يندفعوا في الظلم والهواء المردية ؛ولذا قال سبحانه :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم... ١٦٠ ﴾[ النساء ].
والطعام هو ما يطعمه الإنسان ويستسيغه ويطلبه راغبا فيه، وهو في عمومه يشمل البر والذرة والشعير، وكل المواد النباتية والحيوانية ؛ ولذا قال تعالى :﴿ احل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة... ٩٦ ﴾ [ المائدة ]. و قال تعالى :﴿ اليوم احل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم... ٥ ﴾[ المائدة : ٥ ] والمراد ذبائحهم.
وبمقتضى هذا النص السامي يكون كل طيب مطعوم مرغوب فيه حلالا ولا يحرم إلا الخبائث من الميتة والخنزير وغيرهما، وان ذلك كان شريعة إبراهيم عليه السلام، وانه ما كانت لحوم الإبل ولا ألبانها من المحرمات لأنها من الطيبات، وإبراهيم وذريته على هذه الشريعة الفطرية، حتى قست قلوب بني إسرائيل ففطمها الله بذلك التحريم المؤقت.
إذن فلم يكن شيء من الإبل محرما، ولم يكن شيء من الطيبات محرما على بني إسرائيل من قبل التوراة، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، وإسرائيل اسم ليعقوب بن إسحاق عليهما السلام، وقد اختلف العلماء في تخريج قوله تعالى :﴿ إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ﴾ ما المراد بإسرائيل اهو القبيل كله، وهم اليهود ؛ام المراد ذات يعقوب الذي هو أبو القبيل، وإليه ينتمي ؟.
ذكر الزمخشري التخريجين، ورجح ان المراد ذات يعقوب عليه السلام، ويكون المعنى : إن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه باجتهاد منه لشخصه : إما لعلاج جسمي بأن وجد ان هذا الطعام يضره ويؤذيه، وان الابتعاد عنه ينفعه ويجديه، كما نرى من ناس يتجنبون بعض الأطعمة لأنها لا تناسب حالهم بإشارة طبيب أمين او بتجربة شخصية، وكل امرئ طبيب نفسه. وإما لعلاج نفسي كان يمتنع عن بعض ألوان الطعام قناعة وفطما للنفس، وما كان يتخذ ذلك شريعة تتبع بل اتخذه علاجا شخصيا لجسمه او لنفسه، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من الإسراف ان تأكل كل ما تشتهي".
هذا هو التخريج الأول.
أما التخريج الثاني فإن مقتضاه ان بني إسرائيل هم الذين حرموا بعض الأطعمة على انفسهم كما كان العرب يحرمون على انفسهم بعض أنواع الأطعمة، كتحريم البحيرة١ ونحوها مما نعاه القرآن الكريم عليهم.
ولعل القبيل كان يحرم على نفسه الإبل مثلا تقليدا ليعقوب فيما لا يجب التقليد فيه.
ولكنهم ادعوا ان تحريمهم لبعض الأطعمة التي لم يحرمها الله تعالى عليهم كان في التوراة منسوبا لإبراهيم، ولذلك تحداهم الله سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها عن كنتم صادقين ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو تكليف منه تعالت قدرته بان يطلب عليهم ان يأتوا بالتوراة ليبينوا النص الذي كان به التحريم اهو يدل على انه كان قبل التوراة ام كان بعدها ؟، و أيدخل في عموم التحريم تحريم لحوم الإبل وألبانها ؟ و"الفاء" في قوله :﴿ فاتلوها ﴾ فاء العطف، أي فأحضروها، واتلوها عقب إحضارها، وتلاوتها أي قراءتها بإمعان، وتبين التحدي في قوله تعالى :﴿ إن كنتم صادقين ﴾ والتعبير ب"إن" للإشارة إلى عدم صدقهم ؛لأنها تدل على الشك في الشرط، وعدم ترتب الجواب عليه، أي هم ليسوا صادقين فيما يدعون، ولذلك لا يتلون ولا يقرءون.
والمؤدى : أنكم لو جئتم بها وأمعنتم في تفهمها، لكذبتكم ولأثبتت افتراءكم على الله سبحانه وتعالى، وإن من افترى الكذب على الله تعالى ظالم لنفسه وللناس، ولذا قال تعالى بعد ذلك :
﴿ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ﴾.
.
ومن قصد إلى الكذب قاطعا به من غير دليل ولا حجة( بل قام الدليل على نقيض ما يقول ) فهو ظالم، ولذا قال تعالى :
﴿ فأولئك هم الظالمون ﴾ الإشارة إليهم محملين وصف الافتراء على الله تعالى وعلى النبيين، وهذا الوصف هو سبب الحكم بالظلم، وقد أكد الله تعالى وصف الظلم بقصر الظلم عليهم بضمير الفصل، وهم ظالمون للحقيقة إذ أخفوها وكذبوا، وظالمون لنفسهم لنهم يخادعون الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهم غذ يخادعون انفسهم ويضلونها باستمرارهم على السير في طريق الغواية، ؛إذ كلما أولجوا فيه بعدوا عن طريق الهداية، وظلموا بغمطهم الحق والناس، وحسدهم لهم على ما آتاهم الله من فضله.
﴿ قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ﴾المر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد امره ان يذكر لهم صدق الله تعالى فيما أخبره به من ان إبراهيم ما حرم الإبل ولا ألبانها، وان بني إسرائيل من قبل التوراة كان كل الطعام الطيب حلالا لهم غير حرام عليهم.
وفي ذلك إشارة إلى انهم يعاندون الله تعالى بأخبارهم الكاذبة، وان كلامهم لا يروج عند مؤمن، لأنه إما ان يصدق الله تعالى ذا الجلال والإكرام، المنفرد بحق العبودية، والمنفرد بالألوهية، وإما يصدق أخبارهم الكاذبة التي تتنزى بالحقد والحسد الدفين.
وإذا كانوا يتمسحون بإبراهيم فعليهم ان يتبعوه في اخص شريعته ولبها، ولذا قال :﴿ فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ﴾أي اتبعوا منهاجه وشرعته وطريقته، وقد كان طريقه هو طريق الفطرة السليمة، ولذلك وصفه بقوله"حنيفا" أي متجها إلى الحق لا ينحرف عنه إلى غيره، ولا يسلك غير سبيل المؤمنين يجيب داعي الحق إذا دعي إليه.
وإذا استمروا على طريقهم من معاندة الحق ومنازلته، وإثارة غبار الشك حوله، فإنهم بعيدون عن إبراهيم، كما بعد المشركون، وقد أكد سبحانه بعد إبراهيم عن الشرك بقوله :
﴿ وما كان من المشركين ﴾ هذا نفى الإشراك عن إبراهيم عليه السلام نفيا مؤكدا وهو مؤكد بالجملة الاسمية، وبالفعل"كان"، فهو نفى للكينونة أي الوجود، فهو لم يوجد مشركا ولا يمكن ان يكون مشركا، او يدخل في صفوف المشركين، وفي ذلك بيان براءة إبراهيم من مشركي قريش براءته من اليهود، فليس لأحد الفريقين ان يتمسح به، وان يذكر انه يسير على ملته، وهو لا يخلص في قول ولا يجعل وجهته رب العالمين.
اللهم اهدنا بهديك، وخلص قلوبنا، وأصلح أحوالنا، ووفقنا إلى الإخلاص في القول والعمل إنك سميع الدعاء.
بين الله سبحانه وتعالى بطلان ما كان يحتج به اهل الكتاب في الآيات السابقة، ورد عليهم بما يرشدهم إلى الصواب لو كانوا طلاب هداية، وباحثين عن الحقيقة لا يبغونها عوجا ؛ وفي هذه الآية وما وليها، يرشدهم إلى الأمر الجامع الذي يلتقون فيه مع العرب، وهو الاتصال بإبراهيم الذي يعتزون بنسبتهم إليه، وهو جد إسرائيل الذي كان منه الأسباط، وكان منه عن طريقهم من ينتمي إليهم من النبيين الذين انشأوا بيت المقدس، وأقاموا الدولة المقدسة في الأرض المقدسة، والتي لم يحسن اليهود من بعدهم القيام عليها ؛ بل عثوا فيها بالفساد، حتى مزقهم بختنصر شر ممزق، وشرد الرومان بعد ذلك بهم من خلفهم، حتى جاء المسلمون فأعادوا إلى الوادي المقدس شريعة الله المقدسة، وهي الإسلام الذي كتب له أن يعمره بها إلى يوم القيامة١ :﴿ وكان أمرا مقضيا ﴾[ مريم ]، ولقد ذكر الله سبحانه ذلك الأمر الجامع في بيان شرف بيت الله الحرام فقال :
﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا ﴾ البيت المقصود به هنا هو البيت الحرام، وهو الحرم المكي العامر إلى يوم القيامة، وقد عرفه بأنه الذي ببكة، وبكه هي مكة. وفي لغة العرب قلب الميم باء في أحوال كثيرة من غير انضباط، ولقد جاء في تفسير الزمخشري ما نصه :
( مكة وبكه لغتان فيها نحو قولهم : النبيط والنميط في اسم موضع بالدهناء ونحو : من الاعتقاب أمر راتب، وراتم، وحمى مغمطة ومغبطة. وقيل : مكة البلد، وبكه موضع المسجد، وقيل اشتقاقها من بكة إذا زحمه ؛لازدحام الناس فيها ). وقيل : بك بمعنى دك ؛ وذلك لن الله يدق عنق كل من يرومها بسوء.
وعرف البيت بأنه الذي ببكة للإشارة إلى ان مكة ذاتها هي مثابة الشريعة الباقية وهي شريعة النبيين أجمعين، وهي خالدة إلى يوم القيامة، وهي الإسلام جماع كل الشرائع السماوية ؛ وهو الذي وصى الله به إبراهيم وموسى وعيسى.
وما معنى أولية البيت الحرام ؟ أهي أوليته من ناحية انه اول بيت بني للعبادة ؟ ام انه اول بيت بني بإطلاق.
قيل : إنه أول بيت بني في الأرض ؛ فقيل عن الملائكة بنته لآدم ؛ كما ورد في بعض الآثار ؛ وليس ثمة مانع عقلي ؛ إن الذي يبدو من خلال الآيات : انه أول بيت من بيوت العبادة القائمة ؛فهو أسبق من بيت المقدس وجودا ؛ وهو أجمع للديانات السماوية من بيت المقدس ؛ لأن إبراهيم أبا الأنبياء أصحاب هذه الشرائع الباقية هو الذي بناه ؛بينما بني بيت المقدس في عهد داود وسليمان عليهما السلام٢.
فوجود مقام إبراهيم بالبيت الحرام، وآثار أقدامه الشريفة دليل على مكانة هذا البيت من ملة إبراهيم عليه السلام، وأما ما يدعيه اليهود من وجود آثار هيكل سليمان تحت لمسجد الأقصى، فلم يقم عليه دليل ولا بينة.
ووصفه سبحانه وتعالى بأنه مبارك ؛ أي فائض الخيرات كثير الثمرات المادية والمعنوية ؛فمن بركاته المادية انه يفد إليه الحجيج من كل فج عميق ؛ ويعتمرون فيه في كل أيام أشهر السنة، حتى انه لا يمر عليه يوم من غير وفود تجئ إليه، ومع هذه الوفود خيرات الأرض ؛ وكان ذلك إجابة لدعاء إبراهيم في قوله تعالى :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ٣٧ ﴾ [ إبراهيم ].
وقد كان في البيت تلك البركة المادية بتلك الوفود ؛ وبالثمرات التي كانت في باطن الأرض حوله او على مقربة منه فقد كشفت على مقربة منه فلزات الأرض وسيول الغاز، مما كان خيرا وبركة على سدنته ومن يعيشون حوله، وبذلك أجاب الله تعالى دعاء إبراهيم عليه السلام، وبقى على الذين يتنعمون بهذه الثمرات ان يشكروا الله :﴿ لعلهم يشكرون ﴾.
هذه هي البركة المادية، اما البركة المعنوية فهي انه موضع لأكبر عبادة جامعة وهي الحج، وهو مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه منازل وحيه، وإليه يتجه الناس في كل بقاع الأرض، وتلتقي عنده قلوب الأجناس والأوان المختلفة في عباداتهم، ولذا وصفه سبحانه بقوله :﴿ وهدى للعالمين ﴾ :
هذا عطف على قوله سبحانه﴿ مباركا ﴾ أي ان الله سبحانه وتعالى جمع لهذا البيت الكريم حالتين خاصتين به لم تجتمعا في بيت غيره، فهو قد اشتمل على البركة المادية والمعنوية، وحماه الله تعالى من اعتداء المعتدين، ولهذا قال :﴿ وهدى للعالمين ﴾أي هو بذاته مصدر هداية للعالمين أي للناس أجمعين ؛ففي وسط الشرك كانوا يلتحمون ويتقاتلون حوله، فإذا جاءوا إليه كان الرجل يلقى قاتل أخيه او أبيه فلا يمسه بسوء لعظم حرمة البيت في قلبه، وإن مس الشرك نفسه.
والذين أرادوه بسوء ما إن جاءوا إليه حتى ارتدوا على أدبارهم خاسئين ؛ وبذلك ثبتت حرمته، وأشع نوره لغير العرب، كما امتلأت قلوب العرب بحرمته، وبعد الإسلام كان قبلة المسلمين في كل العالمين ومزارهم وموضع مؤتمرهم الأكبر، وإلى ألبت الحرام يأرز الإسلام، فكون هذا البيت العتيق مصدر هداية ثبت جاهلية وإسلاما، وهدايته في الإسلام مطلقة، وهدايته في الجاهلية نسبية.
٢ عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال:"المسجد الحرام" قال قلت: ثم أي؟ قال:"المسجد الأقصى" قلت: كم كان بينهما؟ قال:"أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله؛ فإن الفضل فيه"[رواه البخاري: أحاديث الأنبياء- واتخذ الله إبراهيم خليلا(٣١١٥)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٨٠٨)]..
فيه علامات واضحة تبين شرف منزلته وقدمه وطهارته، وفيض الله سبحانه وتعالى عليه بالنور وأسباب الهداية، وانه لا بيت يدانيه في منزلته عند الله، وإن كان هذا البيت الآخر تشد إليه الرحال١. وقد قالوا إن قوله تعالى :﴿ مقام إبراهيم ﴾بيان لهذه الآيات البينات، ويصح ان نعتبرها وحدها بيان هذه الآيات من حيث الدلالة على قدمه، وان بانيه إبراهيم، وان آثار أقدامه واضحة خالدة فيه، وقد وضح هذا المعنى الزمخشري أتم توضيح فقال :
( فإن قلت كيف صح بيان الجماعة بالواحد ؟قلت فيه وجهان ؛ أحدهما : ان يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة، لظهور شانه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم عليه السلام، ومن تأثير قدمه في حجر صلد.. والثاني : اشتماله على آيات كثيرة ؛ لن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر الأنبياء آية، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملا حدة ألوف السنين آية ).
وهذا الكلام على اعتبار أن مقام إبراهيم هو موضع الآيات البينات ولكن الذي نراه وقد ذكره الزمخشري أيضا ان هذه الآيات البينات ليست مقام إبراهيم وحده، ولكنها مقام إبراهيم وكونه امن الناس ومثابتهم، وكونه المكان الذي يحج إليه المسلمون إلى اليوم، وكان العرب يحجون إليه ويقومون بكثير من المناسك، وإن خالطوها بشرك.
ولقد ذكر سبحانه الآية الثانية البينة لمقام البيت عند الله تعالى وهند العالمين بقوله :
﴿ ومن دخله مكان آمنا ﴾ أي آمنا من الأذى والقتل. وهذه آية لا شك فيها، فالعرب كانوا يحترمونه كما نوهنا، وكانت هذه نعمة أنعم الله بها عليهم، وبقيت حتى في شركهم ؛ ولذا يقول سبحانه :
﴿ أولم يروا انا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم... ٦٧ ﴾[ العنكبوت ]. وانعم عليهم سبحانه بأن حماه من كل من يغير عليه معتديا. حتى إن أبرهة عندما أغار بجيشه وأفياله ليهدمه، ارتد خاسئا كما قال تعالى :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل١ ألم يجعل كيدهم في تضليل٢ وأرسل عليهم طيرا أبابيل٣ ترميهم بحجارة من سجيل٤ فجعلهم كعصف مأكول٥ ﴾[ الفيل ].
وتلك آية من آيات الله الكبرى في البيت.
ولقد حماه الله سبحانه وتعالى في الإسلام، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة احترم أمنها فكان مناديه ينادي : من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل البيت الحرام فهو آمن٢ ووصف يوم الفتح بقوله :"هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة"٣.
﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾ هذه آية لتعظيم الله سبحانه وتعالى شان بيته المقدس، وحرمه الآمن إلى يوم القيامة، وذلك انه سبحانه فرض الحج إليه على من يستطيع، وجعله موضع المؤتمر الإسلامي الكبر، كما قال تعالى :﴿ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق٢٧ ﴾[ الحج ].
والحج بالمعنى الشرعي هو القصد إلى أداء المناسك ونية العبادة به، وهو في أصل معناه اللغوي القصد المجرد إلى مكان معين، وتقرأ كلمة"حج" بفتح الحاء، وهي لغة اهل الحجاز وبها قرأ أكثر القراء، وبكسر الحاء وبها قرأ الكسائي وحفص٤.
وقوله تعالى :﴿ من استطاع إليه سبيلا ﴾. بدل من ﴿ الناس ﴾، فالفرضية العينية منصبة على من يستطيع دون غيره ولكن تصدير الكلام بإضافة الفرضية إلى الناس، ثم البدل منهم بالمستطيعين يدل على ان عامة المسلمين عليه فرضية عامة، وإن لم تكن كفرضية المستطيعين، وهذه الفرضية نفسرها بأمرين.
أولهما : بالتكليف العام الذي يدخل في عموم فروض الكفاية، بمعنى ان عامة المؤمنين عليهم ان يسهلوا تلك الفريضة على من يريدها ويستطيعها، ويبتغي بها مرضاة الله تعالى ؛ فعلى ولى المر الذي يمثل جماعة المؤمنين ان يسهل هذه الفريضة لطلابها ؛ وعلى جماعة المؤمنين ان يعملوا على إقامتها كل في طاقته وفي حدود قدرته.
وثانيهما : ما يقرره الفقهاء من أصل الوجوب ثابت ما دام الشخص مكلفا ؛ ولكن وجوب الداء هو الذي يشترط فيه الاستطاعة. فمن لا يستطيع هذا العام قد يستطيع في قابل وهكذا.
والاستطاعة التي توجب فرضية الداء هي الحد الأدنى من الاستطاعة، ولذلك قال النص الكريم :﴿ من استطاع إليه سبيلا ﴾.
أي استطاع بأي سبيل للوصول إلى الحج، فليست الاستطاعة الموجبة للحج هي الاستطاعة الواسعة المعنى التي لا تكون إلا للأغنياء، ولذا فسرها الفقهاء بالقدرة البدنية، والقدرة على الزاد والراحلة أي ما يمكن ان يصل به ؛ ولابد ان يكون ذلك فاضلا عن حاجاته الأصلية وعمن يقوتهم، فإن ترك من يقوتهم بلا مال إثم، فقد قال عليه الصلاة والسلام :"كفى بالمرء إثما ان يضيع من يقوت"٥. والفرض لا يؤدي بالإثم. ومن استطاعة المرأة ألا تكون ذات أطفال صغار يخشى عليهم الضيعة إن تركت حضانتهم ولا حاضن لهم سواها، كما ان من استطاعتها ان يكون معها زوجها او ذو رحم محرم منها.
والحج عند الأكثرين فرض على التراخي، ولكن المالكية يقررون انه لا يسع من تجاوز الستين ان يؤخر عن قدرة، وغن كان أصل التراخي ثابتا لصريح الآثار الواردة في ذلك، والحج فرض مرة واحدة في العمر، والحج هو مؤتمر الإسلام الأكبر، وقد بيناه مرارا.
﴿ ومن يكفر فإن الله غني عن العالمين ﴾ في معنى هذا النص اتجاهان ؛ أحدهما : أن يكون الكلام في تارك الحج ويكون المعنى من ترك الحج جاحدا له منكرا لفرضيته فقد كفر وأضاع مصلحة نفسه ومصلحة أمته بالإجماع في المؤتمر الأكبر ؛ والله سبحانه غني عن العالمين أي عن الناس أجمعين. فهم محتاجون إليه، وهو غير محتاج إليهم.
والاتجاه الثاني : ان يكون الكلام متجها إلى اليهود الذين أنكروا فضل البيت وقدمه وبناء إبراهيم له. ويكون المعنى : من أنكر تلك الحقيقة الثابتة وجحدها بعد البينات فقد اركس٦ نفسه والله سبحانه غني عن العالمين.
اللهم اهدنا إلى الحق ووفقنا للإيمان به.
٢ صحيح مسلم: الجهاد والسير-فتح مكة(٣٣٣٢)..
٣ جزء من حديث رواه البخاري: المغازي-أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية(٣٩٤٤)..
٤ ﴿حج البيت﴾: قرأها بكسر عاصم وحمزة والكسائي وخلف-غير أبي بكر- ويزيد. وقرأ الباقون بالفتح.[غاية الاختصار –ص٤٥١] وقوله:"وحفص" أي عن عاصم..
٥ رواه بهذا اللفظ أبو داود: الزكاة –في صلة الرحم(١٤٤٢)، وأحمد: مسند المكثرين من الصحابة(٦٢٠٧)..
٦ أركس الشيء: رده مقلوبا. ومنه قوله تعالى:﴿والله أركسهم بما كسبوا﴾ أي ردهم إلى كفرهم..
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى شرف البيت، وانه اول بيت بني للعبادة، وضعه إبراهيم عليه السلام، وان على كل مؤمن ان يحج إليه، وكان ذلك في مساق الرد على اليهود الذين أنكروا فضل البيت الحرام، وادعوا ان بيت المقدس أقدم منه عبادة، فبين سبحانه انه اول بيت وضع للناس، وقد ذكر سبحانه وتعالى ان هؤلاء اليهود كانوا يحاولون دائما تضليل المؤمنين، وما كانت مجادلتهم هذه لنهم يتشككون، بل لنهم لا يذعنون للحق بعد غذ عرفوه، ويريدون ان يكون الناس جميعا على طريقتهم العوجاء، وعلى ما هم عليه ؛ لنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولقد أثاروا كثيرا من الشك في مجادلاتهم ليوهنوا امر العقيدة في قلوب المؤمنين، فلم يجدوا بين المؤمنين آذانا مصغية، ولا قلوبا مفتوحة لظلامهم، بعد ان أشرق فيها نور الحق، فإنه لا يلتقي في قلب واحد نور الله وظلمات الباطل، ولقد انتقلوا من التشكيك في العقيدة إلى إثارة الفتنة بين المؤمنين، لتعود العادات الجاهلية كما بدأت، فإنه يروى ان رجلا يهوديا قد عتا في الجاهلية، وكان شديد الضعن على المؤمنين-أراد ان يثير الفتنة بين الأوس والخزرج فأمر فتى بأن يجئ إليهم، وينشدهم بعض الأشعار التي كانوا يقولونها في الجاهلية متفاخرين، ففعل، فتذاكروا يوم بعاث، وهو يوم حرب من أيامهم في الجاهلية، وتكلموا في ذلك فتنازعوا وهم الحيان ان يتقاتلا، حتى جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم :"يا معشر المسلمين، الله الله، أتدعون بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد ان هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم امر الجاهلية، واستنفذكم به من الكفر، وألف بينكم، أترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ؟"١.
هذا فعل اليهود، كفروا بالحق بعد ان جاءتهم البينات، ولم يكتفوا بالكفر، بل أخذوا يصدون ويمنعون عن الحق أو الاستقرار فيه غيرهم ؛ ولذا قال سبحانه :
﴿ قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون ﴾ الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد امره سبحانه وتعالى ان يوبخهم على ما كان منهم، وأمره ان يناديهم ب"أهل الكتاب" للمبالغة في التوبيخ والاستنكار ؛ لن علمهم بالكتاب كان يتقاضاهم الإيمان، وان يذعنوا للحق، فإنه لا يستوي من يعلم ومن يجهل ؛ فإن كانوا مع علمهم بأخبار النبوات يكفرون، فهو دليل على فساد قلوبهم، ويقول سبحانه :﴿ لم تكفرون بآيات الله ﴾ والآيات هنا هي الآيات القرآنية، والكفر بها هو عدم الإذعان لأحكامها وإنكار صدقها، ومنازعة اهل الحق في معانيها، او نقول : آيات الله تعالى هي الأمارات التي ساقها الله سبحانه وتعالى لإثبات الحق في الرسالة المحمدية، فهم لإيغالهم في الجحود والإنكار لا يكتفون بإنكار الحق، بل ينكرون الدليل الذي قام عليه، وثبت به، وهم بذلك يغلقون قلوبهم، فلا يصل إليها نور الحق، وإذا كانوا ينكرون كل ذليل يصلهم بالهداية، فقد سارعوا إلى الكفر، وقوله تعالى :﴿ والله شهيد على ما تعملون ﴾ أي عالم علم المعاين الحاضر القائم الحاكم على ما يعملون دائما، سواء أكان العمل عمل القلب أم كان العمل عمل الجوارح.
والإنكار في الآية الكريمة منصب على كفرهم مع هذه الحال، والمعنى : يا أهل الكتاب الذين أوتوا علم النبوات لم تكفرون بالأدلة القائمة على صدق رسالته، والحال ان الله تعالى شهيد عالم معاين حاكم قوام على ما تعملون من خير ومن شر، فالنص السامي يتضمن توبيخا على الكفر، وتهديدا بالعقاب الشديد على ما يعملون، لأن الله تعالى إذا كان شهيدا على ما يفعلون، وهو الحكم العدل القادر على الثواب والعقاب، فإنه بلا ريب مجازيهم على فعلهم، ومحاسبهم على مقاصدهم في أقوالهم وأفعالهم.
وقد قال الزمخشري في معنى هذه الجملة السامية :"فإن قلت : كيف تبغونها عوجا، وهو محال ؟ قلت : فيه معنيان ؛ أحدهما : أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم ان فيها عوجا بقولكم : إن شريعة موسى لا تنسخ، وبتعييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها، ونحو ذلك. والثاني : إنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم". وهذا الكلام في جملته قريب منه ما بيناه آنفا.
ومعنى قوله تعالى :﴿ وانتم شهداء ﴾ والحال أنكم شهداء عالمون بالحق علم من يعاين ويشاهد ويحكم بأنه الحق والصواب، فهو جحود عن علم، وكفر ليس عن جهل، وإيغال في الكفر بالصد عن سبيل الله، وبينات الحق بين أيديكم وأماراته معلنة له في أيديكم.
والاستنكار التوبيخي متجه إلى جملة حالهم، ومعنى كلامه السامي سبحانه : لم تصرفون الناس عن طريق الحق، وتبغون الاعوجاج، أو توهمون الناس ان فيه عوجا والتواء، والحال أنكم تشهدون بالحق الذي اشتمل عليه، وتعلمه علم المعايش الذي يراه ويحسه، ولقد أنذرهم سبحانه بعد ذلك بقوله تعالى :
﴿ وما الله بغافل عما تعلمون ﴾ هذا نفي مؤكد لإهمال الله تعالى عملهم، وغفلته عنهم ومما يضمرون ويفعلون، وقد تأكد النفي بالباء الزائدة التي تفيد توكيد النفي، وكان ذلك النفي المؤكد لبيان عاقبة أعمالهم، فإذا كان ما يفعلون في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فإنهم مجزيون به، محاسبون عليه، وهو من جنس ما صنعوا، وما صنعوا بكفرهم وصرفهم الناس عن طريق الله تعالى، وطريق الحق- إلا شرا، وإلا خسارا يعود عليهم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يعود بالفشل والذلة، وفي الآخرة عذاب الهون بما كانوا يكسبون.
﴿ يا أيها الذين آمنوا عن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾ كان نزول هذه الآية وما وليها من آيات بعد تلك المحاولة التي حاولها الشيخ اليهودي في التفرقة بين الأوس والخزرج، والتي هم الفريقان بسببها ان يتشاجرا بالسيوف لولا ان نبي الرحمة تداركهم قبل ان يفعلوا، وأدركوا بكلمات الرسول أنها النزغة الشيطان، فحذرهم الله تعالى هذه النزغة مرة أخرى، وأمرهم بالحذر الشديد من اليهود خشية أن يكون فعلهم محاولة لما يريد أولئك الأشرار الذين ابتلى الله بهم البرية، ومطاوعة لمقاصدهم الآثمة، وصدر الخطاب بقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ تنبيها لخطر ما يدعوهم إليه، ولتحريك عناصر الإيمان في قلوبهم، فيكون منهم الحذر واليقظة، فإن الإيمان فطنة١، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين٢، ولأن علة الإجابة للطلب هي الإيمان، وفي قوله تعالى :﴿ إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ﴾ عبر في الشرط ب"إن" للإشارة إلى بعد وقوع الطاعة منهم لهؤلاء مع إيمانهم، لأن"إن" الشرطية تفيد الشك في وقوع الشرط، وبالتالي ترتب الجواب عليه، بخلاف"إذا"فإنها تفيد وقوع الشرط أو تؤذن بوقوعه وترتب الجواب عليه، كقوله تعالى :﴿ إذا السماء انشقت١ ﴾[ الانشقاق ] وقوله تعالى :﴿ إذا السماء انفطرت١ وإذا الكواكب انتثرت ٢ ﴾[ الانفطار ]، وقوله تعالى :﴿ وإذا الموءودة سئلت٨ بأي ذنب قتلت٩ ﴾ [ التكوير ] وذكر سبحانه وتعالى الذين يحاولون إركاس المسلمين في الفتنة وتضليلهم، بأنهم فريق من الذين أوتوا الكتاب ؛ لأنهم لم يكونوا كلهم، ولأنه يرجى الإيمان من بعضهم. بدل الاستمرار على الغي والفساد ؛ وأنهم أهل معرفة، ولكنهم استخدموها للضلال والتضليل، فصاروا بهذا كالأنعام بل أضل سبيلا ؛ لأن المعرفة إن لم تكن لنصرة الحق كان الجهل خيرا منها ؛ لأنه أدنى إلى المعذرة.
وقد رتب سبحانه على الطاعة المفروضة التي حذر سبحانه و تعالى منها نتيجتها إن وقعت، ولا تقع من مؤمن بحمد الله تعالى فقال سبحانه :﴿ يردوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾ وفي هذا يعبر سبحانه وتعالى بقوله :﴿ يردوكم ﴾ ولم يقل :﴿ ترتدوا ﴾ والمعنى متلاق، ولكن الأول في بيان تسلط الكفار على قلوب أهل الإيمان في حال تلك الطاعة، فهو نوع آخر من التحذير منهم ؛ لأنهم كالشياطين، فعلى كل مؤمن أن يحذرهم.
أما الارتداد فإنه يكون انبعاثا من نفس المرتد، بضلاله هو لا بتأثير من غيره.
وفي الجملة النص السامي الكريم سيق لتحذيرهم من ذلك العدو الذي اختلط بهم، وأخذ ينفث سموم الشر، وسموم التفرقة بينهم، وأنهم يعودون إلى الكفر إذا استجابوا لدعوته، ومكنوا لسمومه من أن تصل إلى قلوبهم، ولقد بين سبحانه بعد ذلك أنه ما كان يسوغ لهم أن يستمعوا إلى دعوات الأعداء، ويفتحوا الباب لتدبيرهم الخبيث، ورسول الله فيهم فقال :﴿ وكيف تكفرون وانتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ﴾ :
الاستفهام هنا للتعجب أو للإنكار، ومعنى التعجب فيه هو انه لا يتصور أن يكون منكم كفر، ولو تصور لكان موضعا للعجب والاستغراب ؛ لأن آيات الله تتلى عليكم، ورسوله بين ظهرانيكم، ويردكم للحق إن زغتم، وتهديكم آيات الله البينة إن ضللتم، وهذا فيه ما يومئ إلى إلقاء اليأس في قلوب اليهود من ان يصلوا إلى ما يبتغون من إيجاد الفرقة والانقسام بأمر جاهلي، وإما على اعتبار الاستفهام للإنكار فهو إما نفي للوقوع أي أنه لا يمكن ان يقع منكم الكفر، و رسول الله بينكم، وآيات الله تتلى عليكم، وإما انه نفى للواقع، فيكون للعتب، بالاستماع إلى كلماتهم المفرقة، فيكون الإنكار لما وقع باعتباره كان يؤدى إلى الكفر، فيعودون إلى ما كانوا عليه في الجاهلية يضرب بعضهم رقاب بعض، فإذا كان الإنكار للواقع يكون الإنكار للسبب الذي وقع ويؤدى إلى السبب وهو الكفر، لا أن الكفر قد وقع.
والإنكار او التعجب أساسه الحال التي هم عليها، وهي كونهم في حضرة الرسول صلى اله عليه وسلم وهو يتلو عليهم الآيات، فالمعنى كيف تكفرون أو يتصور منكم الكفر، او يسوغ لكم أن تسيروا في أسبابه، وآيات الله تتلى عليكم بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بلسان احد سواه، ويقول الزمخشري في توضيح هذا :( تتلى عليكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم غضة طرية، وبين أظهركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ).
٢ متفق عليه؛ رواه البخاري: الأدب- لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين(٥٦٦٨)، ومسلم: الزهد والرقائق(٥٣١٧) وجاء في فتح الباري..
﴿ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ﴾ بعد ان بين سبحانه ما يحاوله اليهود وما يتمنوه وهو لان يضلوا المؤمنين كما قال تعالى :﴿ ودت طائفة من اهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا انفسهم وما يشعرون٦٩ ﴾ [ آل عمران ] –أخذ يبين سبحانه طريق العصمة من مكايدهم، ويغلق أبوا القلب حتى لا يتأثر بما يحاولون ان يفسدوه به، فقال سبحانه :﴿ ومن يعتصم بالله ﴾ أصل الاعتصام معناه الامتناع والالتجاء والاستمساك، وهو من عصم بمعنى منع، يقال عصمه الطعام أي منع عنه الجوع، وعصمته النبوة أي منعته من ان يقع في إثم قط، ومعنى النص السامي : ومن يعتصم بالله أي يجعل الله تعالى عاصما له ومانعا، يستنصح بكتابه، ويلجأ إلى كلام رسوله إذا ادلهمت الظلمات، فقد هدى إلى صراط مستقيم، أي طريق مستقيم لا عوج فيه ولا انحراف، ومعنى الاعتصام بالله : الاعتصام بدين الله كما قال أكثر المفسرين، وإني أرى الاعتصام بالله هو الاعتصام بذاته سبحانه، وإن كان الاعتصام بالذات العلية يستلزم حتما الاعتصام بدينه الحق الخالد إلى يوم القيامة، ولكني اخترت الاعتصام بالله، وأن يكون الإسناد إلى ذاته سبحانه من غير تقدير مضاف ؛ لأن الاعتصام بالله يقتضي ألا يحب أحدا إلا الله، ويقتضي ان يكون الشخص ربانيا لا ينظر إلى عصبية جاهلية، ولا لهوى ولا لعرض من أعراض الدنيا، فيلجأ إلى الله، ويحب الشئ لذات الله كما ورد في الحديث الشريف :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشئ لا يحبه إلا لله تعالى"١، ويقتضي ان يتجه إلى الله ويتذكر عندما ينزغ في النفس نازغ، كما قال تعالى :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله... ٣٦ ﴾[ فصلت ]، ويقتضي الاعتصام بالله أن يتوكل على الله حق توكله، فيدبر الأمور ويعتزمها ثم يفوض أمر مصا يرها إليه سبحانه وتعالى، ويقتضي الاعتصام بالله ان يبتعد عن مواطن الريب، ولا يتبع الشبهات، كما قال تعالى :﴿ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب٧ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك انت الوهاب٨ ﴾[ آل عمران ].
ذلك بعض مظاهر الاعتصام بالذات العلية، ولذا نجد انه لا حاجة إلى تقدير مضاف هو لفظ دين، وفوق ذلك فإن هذا التقدير لا يستقيم معه نسق القول في نظري ؛ لأن الصراط المستقيم هو دين الله القويم، فكيف يكون دين الله هو الذي يهدي إلى دين الله، إنما الذي يهدي إلى دين الله هو الاعتصام بذات الله العلية.
وقوله تعالى :﴿ فقد هدي إلى صراط مستقيم ﴾ عبر فيه بالماضي للإشارة إلى التحقق والتأكد والثبوت، أي الجواب يترتب على الشرط لا محالة، فإذا وجدت حقيقة الاعتصام بالله- وإنها لأجل حقائق هذا الوجود- فإنه يوجد لا محالة الاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح الذي لا عوج فيه ولا أمت٢.
اللهم اعصمنا من الزلل، واهدنا فيمن هديت، ووفقنا لما يرضيك يا رب العالمين.
٢ الأمت: المكان المرتفع، والعوج: المرتفع. الصحاح. فالطريق المستقيم هنا هو المستوي الذي لا ارتفاع فيه ولا انخفاض..
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عناد بعض اهل الكتاب واستمرارهم في غيهم، وسدهم طريق الهداية في قلوبهم، وتحديهم للحق وأهله، ومعاندتهم للبينات الثابتة التي لا تقبل نكيرا، ثم مجاوزتهم الحد، ومحاولة صدهم المؤمنين عن الحق، وبث روح الفرقة والانقسام، لكي يعود أمر الجاهلية كما كان، ولكي يتفرقوا اوزاعا كما كانوا اولا. وفي هذه الآيات يبين للمؤمنين الحبل الوثيق الذي لا يضلون إذا استمسكوا به، ولا يفرقون ما داموا آخذين بعروته الوثقى، وهو تقوى الله حق تقاته، فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾.
صدر الكلام سبحانه بهذا الموصول الذي كانت الصلة فيه الإيمان، للإشارة إلى ان المطلوب من مقتضيات الإيمان ومن نتائجه، وهو غاية الغايات فيه، والثمرة الدانية له. وقوله تعالى :﴿ اتقوا الله حق تقاته ﴾ معناه : اتقوا الله تعالى"واجب تقواه" أي اتقوا الله تعالى بالقدر الذي يجب ان يتقى به، وهو الحق الثابت المستقر الذي ينبغي ان يستمر ولا ينقطع ؛ و"تقاة" مصدر على وزن فعلة كتؤدة، والواو قلبت تاء على ما هو الأصل في كلمة تقوى لأنها من الوقاية ؛ وكلمة "حق" منصوبة على انها مفعول مطلق مضاف إلى المصدر المشتق منه الفعل ؛ ومثل هذا قولنا ولكلام الله المثل الأعلى : أكرم فلانا حق الإكرام، او أدب ولدك حق التأديب، وإضافة تقاة إلى الله تعالى في قوله تعالى :﴿ حق تقاته ﴾ تفيد علو الواجب المطلوب له سبحانه وتعالى من التقوى، فالمطلوب هو التقوى الواجبة التي تليق بذي الجلال والإكرام القهار، والمالك لكل شيء، القاهر فوق عباده، الغالب على كل أمر، ويقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى :﴿ اتقوا الله حق تقاته ﴾ :﴿ حق تقاته ﴾ واجب تقواه وما يحق منها، وهو القيام بالمواجب، واجتناب المحارم، ونحوه﴿ فاتقوا الله ما استطعتم... ١٦ ﴾[ التغابن ] يريد بالغوا في تقوى الله حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا"
وهذا معنى مستقيم، وتخريج قويم، ويكون المعنى في الآيتين متلاقيا ؛إذ يكون معنى :﴿ اتقوا الله حق تقاته ﴾ اتقوه بأقصى الاستطاعة في التقوى، فبذل المستطاع منه هو عين التقوى، وهو أقصى غاياتها.
وقد زعم بعض المفسرين ان الصحابة عندما نزل قوله تعالى :﴿ اتقوا الله حق تقاته ﴾ شكوا إلى رسول الله مشقة ذلك عليهم، فنزل قوله تعالى :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم... ١٦ ﴾[ التغابن ] واعتبروا هذه الآية ناسخة للسابقة، وفي الحق، عن دعوى النسخ باطلة، فإنه إذا صحت الرواية، فإن المناسب لمعناها ان نقول : إن القوم لقوة إحساسهم الديني لم يرفقوا بل اشتدوا على انفسهم في العمل، فقاموا في صلاة الليل حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، كما ورد عن سعيد بن جبير، فبين الله سبحانه وتعالى المقدار الذي كلفوه، وهو الاستطاعة الدائمة، فهم لا يكلفون إلا المستطاع الذي لا يشق أداؤه، وهذا هو المعنى الذي يتفق مع الحقائق الإسلامية والسنن المروية الثابتة، فإنه يروى ان النبي صلى الله عليه وسلم رأى عابدا يعبد الله حتى أرهق نفسه وغارت عيناه، فقال له عليه الصلاة والسلام :"إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، إن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"١.
وإن أفضل التقوى في الإسلام ما يدوم، وما يمكن ان يستمر الشخص عليه من غير إجهاد ومشقة، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :"أحب الأعمال عند الله أدومها وإن قل"٢ وقال عليه الصلاة والسلام :"إن الله يجب الديمة من الأفعال"٣ وذلك لا يكون إلا في دائرة المستطاع، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم معنى تقوى الله حق تقاته في قوله :"حق تقاته : أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر"﴿ ولا تموتن إلا وانتم مسلمون ﴾ :
النهي ليس منصبا على الموت، وإنه بضم النهي إلى الاستثناء يكون المطلوب امرا إيجابيا، وهو ما بعد أداة الاستثناء، فيكون المعنى الجملي كونوا على حال الإسلام المستمرة إلى الموت ؛فإذا قال قائل : لا تكرم إلا محمدا، فمعنى القول أكرم محمدا وحده ؛ لأن معنى الاستثناء نفى وإثبات، فهو يتضمن النفي لما عدا ما بعد إلا، والإثبات لما بعد إلا، وقد يكون العكس ويكون موضع النهي هنا هو النهي عما يمنع استمرار الإسلام إلى الوفاة ولقاء الرب تعالت قدرته، وعظمت نعمته، فهو امر لهم بأن يقصروا انفسهم على حال الإسلام وحده إلى ان يتوفاهم الله سبحانه وتعالى.
ومعنى الإسلام هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى وحده، والإذعان له تبارك وتعالى، وألا يستمعوا إلا إليه، وان يصموا آذانهم عن كل دعوة تخالف ما يأمر به وما ينهى عنه ؛ فذلك هو الإسلام المطلوب ممن تشرفوا بذلك النعت الكريم، وهو ما قد بيناه من قبل عند الكلام في قوله تعالى :﴿ وله أسلم من في السموات والأرض... ٨٣ ﴾[ آل عمران ] وقوله تعالى :﴿ إن الدين عند الله الإسلام... ١٩ ﴾[ آل عمران ] وقوله تعالى :﴿ ونحن له مسلمون١٣٣ ﴾[ البقرة ] وإطلاق الإسلام بمعنى الإذعان الظاهري لا يكون في القرآن إلا بقرينة، ويعبر عنه في مقابل الإيمان، وبالفعل لا بالوصف، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم... ١٤ ﴾[ الحجرات ].
والخلاصة ان الله تعالى يأمر المؤمنين بأن يستمروا على إذعانهم للحق الذي يدعوهم إليه، ويمنعوا ان يدخل الانحراف إلى قلوبهم، فلا يجيبوا داعي اليهود وأشباههم الذين يريدون ان يصدوهم عن دينهم حسدا من عند أنفسهم.
٢ رواه البخاري: القصد والمداومة على العمل(٥٩٨٣)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها- فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره(١٣٠٥)..
٣ سبق تخريجه..
﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ﴾ العصمة : المنعة، ومعنى اعتصموا اجعلوا أنفسكم في عصمة ومنعة عن الزلل بحبل الله، ولكن ما هو حبل الله الذي أمر سبحانه بالاستمساك به، واعتبر الأخذ به عصمة من الزلل ؟
والجواب عن ذلك أن "الحبل" في أصل معناه اللغوي "السبب" الذي يوصل إلى الغاية، وله بعد هذا المعنى الأصلي اللغوي معان أخرى مشتركة، فيطلق على الرسن١، كما يطلق على العهد، كما في قوله تعالى :﴿ ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس... ١١٢ ﴾[ آل عمران ] ويطلق على الإيمان، كما يطلق على القرآن، وقد ورد بذلك الحديث النبوي، فقد قال عليه الصلاة والسلام :"إن القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن استمسك به"٢، وروى عن زيد بن أرقم ان النبي صلى الله عليه وسلم فسر حبل الله تعالى في هذه الآية بالقرآن، فقد قال :"حبل الله هو القرآن"٣ وإن ذلك هو الواضح، فحبل الله تعالى هو شريعته المحكمة الباقية إلى يوم القيامة، والمؤدى واحد، فشريعة الله سجلها القرآن، فهو بيانها، وهي حبل الله، والعروة الوثقى التي يضل من فصمها او تركها.
وقد ذكر سبحانه ان المر بالاعتصام لا يؤدى غايته وحقيقته إلا إذا اعتصمت الأمة جميعها، ولذلك قال سبحانه :﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ﴾ أي كونوا جميعا مستمسكين به ؛ وذلك لأن هذا الدين كل لا يقبل التجزئة، والجماعة الإسلامية كل وطائفة واحدة، وكلمة﴿ جميعا ﴾ يصح ان تكون حالا من الواو، ويصح ان تكون حالا من حبل الله تعالى، وعلى الأول يكون المعنى كونوا جميعا مستمسكين بحبل الله، ولا يصح ان ينفصل منكم طائفة لا تأخذ بذلك الحبل ؛ لأن الشيطان ينفذ إليكم عن طريق هذه الطائفة التي شذت وعصت امر ربها.
وعلى ان كلمة﴿ جميعا ﴾ حال من حبل الله، يكون المعنى خذوا بالقرآن كله، ولا تجعلوه عضينا تؤمنون ببعضه وتكفرون ببعضه، أو خذوا بشريعته كلها ولا تأخذوا بجزء منها دون جزء، فإنها كل لا يقبل التجزئة.
والأمران مرادان معا، فإن مقتضى النص ان نأخذ جميعا بالشريعة كلها، لا نفرق بينها، ولا نتفرق في أمرها ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ ولا تفرقوا ﴾ أي لا تتفرقوا في أنفسكم، فلا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا تتنادوا بنداء الجاهلية، ولا تتفرقوا في دينكم، فتذهبوا في فهمه شيعا وفرقا مختلفة، فتضلوا عن سبيل الله، ولا شيء يذهب بنور الحق المبين أكثر من اختلاف الأنظار في فهمه وإدراكه، والنظر إليه بروح التعصب الذي يغفل عن الاتجاه إلى الحق في كل جوانبه، ولذلك جاء النهي عن التفرق في الدين، فقد قال تعالى :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء... ١٥٩ ﴾[ الأنعام ] ولقد توقع النبي صلى الله عليه وسلم الافتراق لأمته، وانه سيكون سبب ضعفها، وان عودة قوتها في عودة اجتماعها، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، وإن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين، كلهم في النار إلا واحدة، قالوا : ومن هي يا رسول الله ؟ قال : ما انا عليه وأصحابي"٤.
وإن الطريق للخروج من الافتراق هو الذهاب إلى لب الدين بإخلاص، ومن غير انحراف إلى طائفة دون أخرى، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راض"٥ فإنه لا يفرق إلا الأهواء، ولا يهدي إلا الإخلاص، فإذا سيطرت الهواء المنحرفة، سرى الضلال إلى النفس وإلى الفكر، ولذا قال صلى الله عليه وسلم :"إنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله"٦.
وإن النهي عن التفرق توجب إطاعته الإخلاص والحذر، وطريقة الاعتبار، ولذلك قال تعالى :﴿ واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ﴾.
الخطاب عام لكل المؤمنين في كل الأجيال وكل الأعصار، ويدخل في عمومه كل الأجناس وكل الشعوب، فالدعوة إلى التذكر دعوة عامة، وهي تذكر لماضي الانقسام، ثم من بعد الاتفاق والوئام، والطريق إلى الوحدة، ولكن إذا كان التذكير عاما، فإن الاختلاف الذي أشار إليه النص الكريم كان خاصا بطائفة من المؤمنين، وهم الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فالأنصار أكلتهم الحرب التي قامت بين الأوس والخزرج حتى أتم الله عليهم نعمة الهداية، والعرب جميعا كانوا في تنابز وتنافر حتى كادت بعض قبائلهم تفنيها الحروب التي لا تبقى ولا تذر. ولماذا اعتبر الاختلاف السابق الخاص كأنه اختلاف عام، وخوطب به المؤمنون جميعا ؟ والجواب عن ذلك ان هذا للدلالة على وحدة الأمة، فما كان من ماضيها يخاطب به حاضرها للاعتبار والاتعاظ، ولن سبب الاختلاف في كل نفس لا يقي منه إلا الهداية، فما وقع من الماضين يتوقع ان يقع من الحاضرين، لأن الإنسان ابن الإنسان، ولأن الخلاص طريقه واحد، فما خلص به الماضون يخلص به الحاضرون، إن اعتزموا سلوك ما سلكه الذين من قبلهم.
والنعمة التي يذكرنا الله بها في قوله تعالى :﴿ واذكروا نعمت الله عليكم ﴾ هي نعمة الهداية والتأليف القلبي، وهو أعظم النعم على الجماعات والمم، وقد بينها سبحانه بقوله :﴿ إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ﴾فهذه نعمة بينة واضحة، وهذه النعمة ترتب عليها أثرها الجليل الخطير بفيض آخر من نعمته سبحانه أيضا ولذا قال :﴿ فأصبحتم بنعمته إخوانا ﴾ فالنعمة الثانية التي كانت امتدادا للنعمة وفيضا لها هي نعمة الأخوة العامة، التي تجعل الأهواء مشتركة، والمصالح متشابكة متوحدة، يتعاون كل واحد في الأمر الذي يحسنه لمصلحة الجميع، والآية ترمي إلى بيان ان تألف القلوب وحده نعمة و الأخوة المترتبة عليه المتعاونة نعمة أخرى، والتألف معنى نفسي، والأخوة مظهر اجتماعي عملي، ولقد شدد- سبحانه- في التذكير بمآتم الاختلاف بعد ان أشار إلى نعمة الوفاق بقوله :﴿ كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ﴾.
أي كنتم- بسبب اختلافكم وضلالكم وعبادتكم للأوثان وانحراف تفكيركم- قد أوشكتم على ان تقعوا في النار بسبب تغلغلكم في أسبابها وسيركم في طريقكم حتى صرتم كأنكم على شفا حفرتها، وشفا الحفرة حرفها، وقوله تعالى :﴿ فأنقذكم منها ﴾ الضمير يعود إلى الحفرة ؛ لن من يكون على شفاها يقع فيها لا محالة إلا ان يبعده مبعد عنها، فيكون منقذا له منها، والكلام فيه استعارة تمثيلية، وخلاصتها انه شبهت حالهم في ترديهم في الاختلاف والوثنية وسيرهم في طريق النار يوم القيامة بحال من يكون على طرف من النار لا يتماسك عن الوقوع فيها، وشبهت هداية الله تعالى لهم بحال من يتولى تجنيبهم التردي في تلك الحال الخطرة الخطيرة، ولقد ذكر سبحانه وتعالى سنته في بيان هدايته فقال :﴿ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ﴾.
أي كهذا البيان الذي بينه الله سبحانه وتعالى لكم في محكم القرآن، وبين لمن به سبيل هدايتكم، وبين لكم به نعمة هدايتكم ونعمة أخوتكم، يبين سبحانه وتعالى دائما الآيات البينات سواء كانت تلك الآيات قرآنية ام كانت كونية، وذلك لتقربوا دائما من الهداية، ولتكون بين أيديكم أسبابها، لعلكم تنالون الثمرة وهي الاهتداء الدائم، والله سبحانه وتعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.
٢ رواه بهذا اللفظ الدارمي: فضائل القرآن –باب من قرأ القرآن(٣١٨١) هكذا موقوفا على عبد الله بن مسعود..
٣ عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله عز وجل وهو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة". جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه: فضائل الصحابة- فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه(٢٤٠٨)..
٤ رواه الترمذي: الإيمان- ما جاء في افتراق هذه الأمة(٢٥٦٥)..
٥ رواه ابن ماجة: المقدمة- الإيمان(٦٩) عن انس بن مالك رضي الله عنه..
٦ جزء من حديث رواه أبو داود: السنة –شرح السنة(٣٩٨١)..
بعد ان امر سبحانه وتعالى بالاعتصام بحبل الله تعالى ؛والاستمساك بالقرآن الكريم، والالتفاف حوله، وعدم التفرق والانقسام-بين سبحانه وتعالى السبيل لهذا الاعتصام، والطريق للوحدة الفاضلة، التي لا تفرق فيها، ولا اختلاف يفك عراها، ويهدم بنيانها، وذلك السبيل هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولذلك فرضه سبحانه وتعالى بقوله تقدست كلماته :
﴿ ولتكم منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ المعروف هو الأمر الذي تعارفته العقول ولم تختلف فيه الأفهام ؛ وهو الذي يكون متفقا مع الفطرة الإنسانية التي لا تختلف في الناس، والمنكر هو ما تضافرت العقول الإنسانية على إنكاره وقبحه، وهو مناقض للفطرة الإنسانية. وإن العقول من بدء الخليقة تضافرت على أمور أقرتها، وعلى أخرى أنكرتها، فلم تختلف العقول في مدح الصدق والعدل والحياء والعفة، ولم تختلف العقول في استنكار الظلم والكذب والفجور والاعتداء بكل ضروبه، ومهما يحاول الذين يريدون حل المجتمعات الفاضلة وهدم بنيانها، من إنكار لتلك الحقائق، وادعاء أنها ليست مقومات الإنسانية، وأنها اتفاقات زمنية، وأوهام سيطرت على العقول- فلن يصلوا إلى غاياتهم، وإن ادعوا أن ما يقولونه هو طبيعة الوجود، ولذا سموا أنفسهم وجوديين، وذلك لأن كلامهم ضد طبائع النفوس، وضد السمو الإنساني عن الطبيعة الحيوانية، وضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وإن الأعرابي الذي سئل : لماذا آمنت بمحمد ؟ فقال : ما رأيت محمدا يقول في أمر : افعل، والعقل يقول لا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر : لا تفعل، والعقل يقول افعل- أكبر إدراكا من هؤلاء المتفلسفة، وأكثر اتصالا بطبائع الوجود الإنساني منهم، وهم في حقيقته أمرهم وتفكيرهم أكثر اتصالا بالطبائع البهيمية منهم بالطبائع الإنسانية.
و( من ) في قوله تعالى :﴿ ولتكن منكم أمة ﴾ قيل : إنها بيانية، وقيل. إنها تبعيضية، وهي تحتملهما معا، وعلى أنها بيانية يكون المعنى ان الأمة كلها عليها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون التخريج اللفظي لقوله تعالى تقدست كلماته :﴿ ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ﴾ مثل قول القائل : ليكن منك رجل خير، أو ليكن منك رجل جهاد، أي ليكن منك رجل خير ورجل جهاد، فالمعنى الجملي للنص الكريم : ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإذا كان ذلك الواجب على الأمة كلها، فهو يتفاوت بتفاوت مقدار ما أوتيه كل واحد من العلم والقوة، فعلى أولياء الأمر ان يرتبوا أمر الدعوة الإسلامية، وبيان الحقائق، ووضع النظم الزاجرة المانعة من الشر، أن يتفاقم أمره، ويشتد سيله، ويكون على العلماء واجب بيان الشرع في دروس عامة وخاصة، وبيان الحق في كل أمر يجد في شئون الناس، وبيان طرق الدعوة إلى سبيل الله، ويكون على العامة كل في محيط وجوده وبمقدار طاقته أن يرشد وأن ينصح، فمن رأى رجلا يرفث في القول، أو يجرح كرامات الناس، أرشده ونهاه، ومن رأى رجلا يفطر في رمضان وعظه وهداه، ومن رأى رجلا لا يصلي حثه على الصلاة، على أن يكون ذلك برقيق القول، لا بالجفوة والعنف فإن الجفوة لا تجدي بل تبعد، والمودة تجدي وتقرب، وبهذا تكون الأمة كلها تتواصى بالحق، وتتواصى بالصبر والهداية.
هذا سياق القول على ان( من ) بيانية، وأما سياقه على انها تبعيضية، فيكون المعنى : ليكن بعض منكم أمة أي طائفة تؤم وتقصد وتكون مجابة الدعوة، إذ تدعو إلى الخير أي إلى كل ما هو نافع في ذاته، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعلى ذلك يكون في الآية الكريمة طلبان :
أحدهما موجه إلى الأمة كلها، وهو إعداد هذه الطائفة التي تقوم بالإرشاد العام والتوجيه الفكري والنفسي، وتزويدها بكل ما يمكنها من أداء مهمتها، والقيام بالواجب عليها على الوجه الأكمل، وثاني الواجبين هو واجب هذه الطائفة التي تكونت، والوجوب عليها أخص من الوجوب الأول، وكذلك الشأن في كل الفروض الكفائية، فيها وجوبان : وجوب خاص على من عندهم الأهلية الخاصة للواجب الكفائي، ووجوب عام على الأمة كلها، وهو تمكين هؤلاء الخاصة من القيام بواجبهم وتزويدهم بما يحتاجون إليه.
وقد رجح الزمخشري أن تكون( من ) تبعيضية، وقال في ذلك"من" للتبعيض لن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته، وكيف يباشره، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف، وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه، وجهله في مذهب صاحبه، فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا، او على من الإنكار إليه عبث، كالإنكار على الجلادين وإضرابهم ).
والأمة التي تقصد وتكون من صفوة الأمة لها عملان متمايزان بنص الآية ؛ أحدهما : الدعوة إلى الخير، وثانيهما : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما الأول فهو توجيه الأمة إلى النفع العام، فالخير هو كل أمر نافع في الدنيا او في الآخرة، كتنظيم الاقتصاد، وترتيب العمران، وتنظيم حقوق الفقراء، وربط العلاقة بين الأغنياء والفقراء بوثائق من الدين والنصوص المحكمة التي لا تقبل التخلف، وإنشاء المساجد ودور التعلم وتوجيهها التوجه السليم، فكل هذا دعوة إلى الخير، وبعبارة عامة شاملة الدعوة إلى الخير تشتمل على كل ما يقوم عليه بناء الاجتماع من الناحية المادية والدينية.
أما الثاني وهو المر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمراد به نشر الفكر الإسلامي، وبيان الحقائق الدينية، وتوجيه النفوس إليها وجذبهم نحوها، ودفع كل ما ليس بإسلامي، وإقامة الحق والعدل، وهو مقام سام لا يصل إليه إلا ذوو الهمة والتقى من الرجال، وهو شاق عن أدى على وجهه، بحيث يرشد الحاكم والمحكوم، والقوي والضعيف، لا يخشى في الله لومة لائم، لا يجمجم إذا كان المنكر من قوى ظالم، ويغلظ ويعنف إن كان المنكر ممن لا يخشى بطشه ولا يرجى عطاؤه، ولا يتأول لتصرفات من يخاف شره ويطمع في خيره.
فإن كان المرشد على ذلك النحو فقد سار في طريق النبيين، ولقد روى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال :"من امر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في الأرض، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله"١ وهو بهذا الاعتبار خير الناس، ومعنى خلافته عن الله تعالى ان يكون مصلحا في الأرض غير مفسد فيها، ولذا قال تعالى عند خلق آدم للملائكة :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء... ٣٠ ﴾[ البقرة ] فخلافة الله في الأرض تقتضي الصلاح والدعوة إليه، وذلك ما يقوم به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ولقد سئل عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر : من خير الناس ؟ قال :"آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم وأوصلهم"٢. ولقد قال أبو الدرداء( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر او ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما، لا يجل كبيركم، ولا يرحم صغيركم، ويدعو عليه خياركم فلا يستجاب لهم، وينتصرون فلا ينصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم ).
وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب، تعلو كل مرتبة عن الأخرى بمقدار ما يكون فيها من مشقة وتعرض للعنت مع الجدوى والفائدة، ولذا كان أعلاه ما يوجه إلى الجائرين من الحكام والأمراء ؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"٣. وبذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المرتبة جهادا، واعتبر من يقتل في سبيلها شهيدا، كمن يقتل في الحرب، بل اعتبره في أعلى درجات الشهداء، فقد قال عليه الصلاة والسلام :"سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك"٤.
وإن ترك المر بالمعروف والنهي عن المنكر وخصوصا للأمراء والحكام هو الذي أضاع المسلمين في الماضي، وأضاع بني إسرائيل قبلهم، ولقد روى في ذلك احمد والترمذي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إن أول ما دخل النقض على بني إسرائيل ان الرجل كان يلقى الرجل، فيقول : يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك ان يكون أكيله وشربيه وقعيده، قلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم"٥.
وإن القيام بحق المر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، ولذا ذيل سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى :
﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾ أي أولئك الذين قاموا بهذا الواجب هم المفلحون، ولا يمكن ان يفلح سواهم ممن لم يقم بهذا الواجب، ففي النص قصر، أي نفي وإثبات، فهو يثبت الفلاح لهم، وينفي الفلاح عن غيرهم ممن لم يقم بهذا الواجب المقدس، فهو مناط عزة الأمة ورفعتها وقوتها وتقدمها، ونشر العدل والحق والإيمان في ربوعها، والإشارة هنا إلى الأمة كلها سواء اعتبرنا ( من ) بمعنى بعض، ام اعتبرناها بيانية، وإذا كانت بيانية فالأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان ؛ لن الأمة هي في جملتها الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر الداعية إلى الخير، وأما على أن الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر هي طائفة معينة من مجموع المؤمنين، فغن النتيجة من حيث الفوز والفلاح لا يعود على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وحدهم، بل الفائدة تعود عليهم أجمعين، إذ عن ضرر الترك يعود عليهم أجمعين، وغنه لا نجاة للأمة إلا إذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوم يركبون سفينة، ووجدوا واحدا يخرق السفينة، فإن تركوه غرق وغرقوا معه، وإن أخذوا على يده نجا ونجوا معه٦.
٢ سبق تخريجه..
٣ رواه النسائي: البيعة-فضل من تكلم عند سلطان جائر(٤١٣٨) عن طارق بن شهاب، وابن ماجة: الفتن- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(٤٠٠٢)عن أبي امامة الباهلي، وأحمد: باقي مسند المكثرين(١٠٧١٦) عن أبي سعيد الخدري..
٤ سبق تخريجه..
٥ سبق تخريجه..
٦ رواه البخاري: الشهادات –القرعة في المشكلات(٢٤٨٩) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما..
وقد يقول قائل : إن الاختلاف يؤدي إلى التفرق مع ظاهر الآية ان الافتراق هو الذي أدى إلى الاختلاف، ونقول في ذلك : عن الاختلاف الذي لا ينشأ عن التفرق ولا يؤدي إليه هو اختلاف تفكير، ولا بد أن يصل فيه المختلفون إلى الحق ولا يضلون، وأما الاختلاف الذي يؤدى إلى الافتراق، فهو بلا شك يؤدي إلى الضلال، ويترتب عنه ضلال مع وجود بينات الحق ؛ إذ التفرق معناه انحياز كل جماعة إلى ناحية وفرق معين، وكذلك السابق على الاختلاف، فإنه يكون نوعا من تحكم الهوى، او العصبية النسبية، او العصبية الإقليمية، فيكون كل تفكير تحت سلطان هذه العصبية، فلا تستقيم الحقائق، ولا تدركها العقول، مع قيام البينات.
وقد بين سبحانه نتائج هذا الضلال في الآخرة فقال سبحانه :﴿ وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾.
أي أولئك الذين فرقتهم الهواء فضلوا ولم يدركوا الحق مع قيام البينات عليه لهم عذاب عظيم في الآخرة، وهذا التهديد الشديد مقابل للنتيجة الحسنة التي تكون ثمرة التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهي الثابتة بقوله تعالى :﴿ وأولئك هم المفلحون٥ ﴾[ البقرة ]. فالافتراق نتيجته خسران في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة.
هذا تفصيل لما أشار إليه الإجمال، وفيه بيان العقوبة وسببها، وقوله تعالى :﴿ أكفرتم بعد إيمانكم ﴾ بيان لحالهم، أي ان حالهم حال من يستفهم عنها استفهام إنكار وتعجب فيقال لهم : أكفرتم وجحدتم الحق وأنكرتموه بعد إيمانكم به وإذعانكم، وهذا حقا موضع عجب، كمن يكون في روضة من الرياض فيها النعيم، ويتركها على الكفر والجحيم، فهم كانوا في روضة الإيمان، وبتفرق أهوائهم وتنازعهم وعصبيتهم انتقلوا إلى جحيم الكفر، وإذا كانوا كذلك فكفرهم كان كفرا عن علم بالحق وهم لذلك لاي عذرون، ولذا ترتب عليه العقاب فقال :﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ أي فادخلوا جهنم وذوقوا مرارة العذاب و آلامه كما ذقتم حلاوة الهوى، وكان ذلك العذاب بسبب استمراركم على الكفر، وموتكم عليه، ودل على الاستمرار التعبير ب﴿ كنتم ﴾، فإن ( كان ) تدل على الاستمرار، وقد استمروا على حال الكفر في أقبح صوره، وهو الكفر بعد الإيمان، وبعد هذا بين حال الذين ابيضت وجوههم فقال :
﴿ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ﴾ أي أن الذين أشرقت نفوسهم بنور الحق، وأدركت قلوبهم معنى الإيمان، وذاقت حلاوته، في رحمة الله تعالى، ورحمة الله تعالى تتسع لكل معاني النعيم المقيم، ورضوانه العظيم وهو اكبر الرحمة، ثم خصهم سبحانه بالخلود في هذا النعيم الذي لا يحد بحد، ولا يرسم برسم، ولا تبلغ العقول مداه، فقال سبحانه :﴿ هم فيها خالدون ﴾. أي هم في الرحمة باقون دائمون.
ويجب التنبيه هنا إلى أمرين :
أولهما : انه ذكر بياض الوجوه قبل، ثم ذكر حال الذين اسودت وجوههم قبل الذين ابيضت، ليختتم الآية برحمته، كما اختتم الآية السابقة ببيان من يفوز بهذه الرحمة.
الأمر الثاني : انه سبحانه ذكر وصف الخلود في النعيم، ولم يثبت الخلود لمقابله، وقد صرح به في غير هذا الموضع، وذلك أيضا من باب الرحمة ورجاء التوبة.
اللهم من علينا بهدايتك، وانعم علينا بنعمة الإيمان الدائم، واشرح صدورنا لكل ما تأمر به، واصرفنا عما نهيت عنه، فإن القلوب بيدك وأنت مقلب القلوب.
بعد ان بين سبحانه وتعالى ما كان من اليهود في ماضيهم، وكيف أضلهم الهوى، والعصبية العنصرية، ومنعتهم من ان يصل نور الحق إلى قلوبهم، حتى إنهم ليرون النور يمشي بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، ومع ذلك يصمون آذانهم عن سماعه، ويحجبون أضواءه عن نفوسهم ؛ذكر سبحانه انه بين ذلك في آياته ليعتبر من يعتبر، ولينتفع الحاضرون بنتائج ما وقع فيه الغابرون، فيستبصروا ويستبينوا ويعتبروا، ولذا قال سبحانه :﴿ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ﴾.
الإشارة في الآية الكريمة إلى ما كان من آيات سابقات بينت فيها أحوال النفوس التي ضلت وعميت عن الحق، وكانت الإشارة بالبعيد لعلو منزلة هذه الآيات في بيانها للحق، وإعلانها له، وصدقها فيما حكت وأعلنت، ومعنى﴿ نتلوها ﴾ : ننزلها عليك متلوة مقروءة واضحة مبينة سهلة الفهم لمن يريد الحق ويبتغيه، وقوله تعالى :﴿ بالحق ﴾ أي متلبسة بالحق مبينة له موضحة، والحق هو المر الثابت الذي لا مجال للشك فيه، ولا تختلف فيه العقول السليمة، والمدارك القويمة، ولا يوجد أمر ثابت كالحق، وهو ميزان الأفكار ومقياس الأشياء، وعليه قامت السموات والأرض وما بين ألناس. وإضافة التلاوة إلى الله تعالى والإظهار في موضع الإضمار، فقد قال سبحانه :﴿ تلك آيات الله نتلوها ﴾لكي يكون التصريح باسم الله سبحانه وتعالى مربيا في النفس المهابة والإجلال له، وهو المستحق وحده لوصف الألوهية، فلا إله سواه، ولا معبود بحق غيره، وهو ذو الجلال والإكرام، وهو المنشئ الموجد لهذا الكون وما فيه ومن فيه، وهو العلي القدير، فالتصريح باسمه الكريم يزيد البيان جلالا، ويتضمن معنى الحساب لمن يعرض عن آيات ربه، ويجعل النفس لا تسير وراء الهوى، ويتضمن معنى القدرة على إنزال العقاب والثواب بعد الحساب، وغنه إذا كان كل شئ في هذا الوجود أوجده ربه بالحق، واخبر عنه، فالظلم منفي عنه سبحانه وتعالى، ولذا قال سبحانه :﴿ وما الله يريد ظلما للعالمين ﴾ هذا نفي للظلم عن الله سبحانه، والتصريح بلفظ الجلالة في موضع الإضمار هنا، كان لمثل ما ذكرنا لتربية المهابة، وليكون ذلك تأكيدا لنفي الظلم، إذ كيف يظلم الموصوف بالألوهية، وحده، وكيف يريد الظلم مانح العالم كله الوجود ؛ وقال :﴿ للعالمين ﴾ وهم العقلاء في هذا الكون ؛ لنهم هم الذين يحسون بوقع الظلم وآلامه، ويشعرون بمتاعبه وآثامه، واصل الظلم معناه النقص، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا... ٣٣ ﴾[ الكهف ] ثم أطلق على نقص الحقوق وهضمها، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ فلا يخاف ظلما ولا هظما١١٢ ﴾[ طه ] وقوله تعالى :﴿ ومن يعمل سوءا او يظلم نفسه... ١١٠ ﴾[ النساء ] ثم أطلق الظلم على موضعا للحفر إنه ظلمها، ويقال عن التراب المظلوم، وعن الأرض المظلومة، ولقد قال الراغب في معنى الظلم :( الظلم عند اهل اللغة وكثير من العلماء : وضع الشيء في غير موضعه المختص به، غما بنقصان او بزيادة، وغما بعدول عن وقته ومكانه ).
والظلم الذي نفاه سبحانه وتعالى عن نفسه عام لا يخص نوعا دون نوع، وهو نكرة في موضع النفي، ومن المقررات اللغوية ان النكرة في مقام النفي تعم ولا تخص، فالمعنى لا يريد الله سبحانه وتعالى ظلما قط أي ظلم كان، فقد خلق السموات والأرض بالحق، وربطهما وما فيهما بميزان لا يتخلف إلا بإرادته سبحانه وتعالى، فليس فيهما شيء إلا في موضعه، ودبر أمور الكون والناس بدقة وإحكام، وهو العليم الحكيم اللطيف الخبير السميع البصير، وانزل سبحانه الشرائع بالحق والميزان، فليس فيها شئ إلا وهو عدل لا ظلم فيه، وأساس الشرائع السماوية كلها العدل الذي يستطيعه الإنسان، وقد قال تعالى :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي... ٩٠ ﴾[ النحل ]. وبهذا نفى الله سبحانه وتعالى الظلم عن نفسه، ونفى ان يكون نظام شرعه فيه إباحة لظلم العباد فيما بينهم، ولذا قال سبحانه في حديث قدسي :"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظلموا"١.
﴿ ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور ﴾كل ما في السموات من أفلاك وأجرام ونجوم وكواكب وأبراج وعوالم لا يحصيها إلا خالقها هو لله تعالى، أبدعها على غير مثال سبق، وأنشأها بإرادته، ونظم مسالكها وما يربطها بحكمته، وكل ما في الأرض من سهل وجبل، وصحراء وماء، وأقاليم مختلفة، ومزارع وأغراس تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، وكل ما يحتويه باطنها من معادن سائلة، وفلزات متماسكة، وأحجار تبهر الأنظار، ملك لله تعالى أبدعه وأنشأه، وإذا كان هو المبدع المنشئ لكل ذلك، وهو الذي وضع لكل شيء نظامه المحكم، وسيره المنظم، فإنه لا يتصور منه سبحانه ان ينقص شيئا او حقا، او يضع أمرا في غير موضعه، فهو خالق النظم، وخالق الأوضاع، والمسيطر على كل شيء.
وكما ان المبدأ منه فالعود إليه سبحانه، ولذا قال سبحانه :﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ فكل امر ونظام مرد بقائه وإنهائه إليه، كما كان إبداعه وإنشاؤه منه ؛ وكل تصرفات الناس راجعة إليه يوم القيامة، وهم محاسبون عليها، إن خيرا فخير، وغن شرا فشر، فهو مالك الميزان والقسطاس المستقيم في الدنيا وفي الآخرة.
﴿ كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ والخطاب في هذه الآية للمؤمنين الذين تلقوا الوحي من النبي صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، و"كان" في قوله تعالى :﴿ كنتم خير امة ﴾ يصح أن تكون بمعنى وجد، أي وجدتم خير أمة لهذه الأوصاف ما تحققت فيكم، ويصح ان تكون ناقصة، ويكون المعنى قدرتم في علم الله تعالى خير أمة إن قمتم بهذه الأمور، ويصح ان تكون بمعنى صار، أي تحولتم معشر المؤمنين الذين عاصرتم النبي صلى الله عليه وسلم من جاهليتكم إلى أن صرتم خير امة للناس بسبب الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحن نميل إلى ان تكون بمعنى وجد او ناقصة، والمعنى فيهما متقارب، ليشمل النص المخاطبين بتلك الحقائق في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن يجيئون بعدهم ويتبعونهم بإحسان إلى يوم القيامة.
وإن هذه الخيرية التي قدرها سبحانه لهذه الأمة منوطة بتحقيق أمرين احدهما : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثاني : الإيمان المطلق بالله والإذعان له وتفويض الأمور إليه بعد الأخذ في الأسباب، واعتقاد انه لا قوة في هذا الوجود غير قوته، ولا معبود بحق سواه، ولا خضوع لحد كائنا من كان غيره تعالت قدرته، فليست الخيرية التي خاطب بها المهاجرين والأنصار والذين يتبعونهم ؛ لنهم مسلمون فقط ؛ أو لأشخاصهم وذواتهم، بل لأنهم متصفون بأوصاف هي علة هذه الخيرية، ومناط تلك الرفعة الإلهية. وتلك الوصاف هي : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وقوله تعالى :﴿ تأمرون بالمعروف ﴾ موقعها من الإعراب إما ان تكون جملة حالية من ضمير الخطاب، وإما ان تكون كلاما مستأنفا مفصولا، ولذا قال الفخر الرازي في التفسير الكبير :"اعلم ان هذا الكلام مستأنف، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية كما تقول : زيد كريم، يطعم الناس ويكسوهم، ويقوم بما يصلحهم، وتحقيق الكلام انه ثبت في أصول الفقه :" ان ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف ؛فهنا حكم بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ثم ذكر عقبيه علة هذا الحكم".
هذا، ويصح ان نقول : عن الحكم بالخيرية مبهم، وقد بينه سبحانه بقوله :﴿ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾فالخيرية التي حكم سبحانه وتعالى بها هي هذه الوصاف، وهذا ينطبق على المثل الذي ساقه الرازي، وهو، فلان كريم : يطعم ويكسو، فإن يطعم ويكسو تفسير لمعنى كرمه، وبيان له، فالاستئناف إذن ليس لأن جملة "تأمرون"علة للخيرية، بل هي بيان للخيرية، ولذلك لا ينطبق الحكم بالخيرية على من لا يتصف بهذه الصفات، فالجماعات التي تهمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يكون فيها إيمان، لا يمكن أن تكون خير أمة، بل لا توصف بالخيرية قط ؛لأنه لا خير إلا في الفضائل والحق والعدل، ولا تقوم هذه الأمور إلا بالإيمان وقيام رأي عام مهذب لائم يقوم المعوج، وتنزوي فيه الرذائل انزواء، إذ يقتلها نوره المشرق وشمس الحقيقة الناصعة.
وهنا قد يسأل سائل : لماذا قدم المر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان ؟ ولماذا اقتصر في الإيمان على الإيمان بالله، ولم يذكر الإيمان بالرسل والملائكة واليوم الآخر والحساب والعقاب وغير ذلك مما يوجبه الإيمان، ولا يعد الشخص مؤمنا إلا به ؟ ويجاب عن السؤال الأول : بأن ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقدما لبيان انه مطلوب لذاته، وانه فضيلة لا تختلف فيها المم ولا الجماعات، فهو كالصدق والعدل والحق تتفق عليها الأفهام وبل ولا يمكن أن يتحقق بنيان جماعة من غير تحققه، وإلا كانت كالذئاب الضارية، أو كانت كالوحوش في الغابة، والإيمان سياج الجماعة وحمايتها من ان تضل، وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي يقوم به بناء الجماعة، والإيمان هو الذي يحميها ويسدد خطاها، فذكر ما يقوم به البناء ثم ذكر ما يكون به ذلك البناء في دائرة الفضيلة والخلاق الكريمة وهو الإيمان، وفي الحقيقة هما متلازمان، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق يتبعه إيمان الشذاذ الخارجين، والإيمان الحق بالله تعالى والإذعان لأوامره ونواهيه يتبعه حتما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذا هو الجواب عن الجزء الأول من السؤال، اما الجواب عن الجزء الثاني، وهو لماذا اقتصر على ذكر الإيمان بالله ؟فهو ان الإيمان بالله هو لب الإيمان بكل أجزائه وعناصره، فالإيمان بالله هو الإذعان المطلق لقوة غيبية تسير هذا الكون وتدبره، وتقوم على كلاءته وحمايته، والإيمان بقوة غيبية يقتضي الإيمان برسالتها للناس، ويقتضي الإيمان بالأرواح الطاهرة المطهرة، والإيمان بأن الله لم يخلق هذه الأشياء عبثا، وغن ذلك يقتضي الإيمان بقدرة الله على الإعادة كما بدأ الخلق بالتكوين، وبأن هنالك يوما آخر فيه الحساب، وإن من مؤمن بالله ولا يؤمن بهذه العناصر كلها لا يكون مؤمنا بالله حق الإيمان، ولا مذعنا لحكامه حق الإذعان، ولذا كان اهل الكتاب الذين أعلنوا إيمانهم بالله، وأنكروا رسالة الرسول مع قيام البينات عليها غير مؤمنين، وغير مذعنين للحق الذي ارتضاه الله.
ويجب التنبيه هنا إلى أمرين : أولهما : أن المر بالمعروف والنهي عن المنكر غير تغيير المنكر، وغير العمل بالفعل على منعه، فالأمر والنهي إرشاد وتوجيه ونصح وتنبيه، والتغيير يكون بالعمل المنظم والأحكام الرادعة، وذلك يتولاه الحكام، إلا إذا تقاصرت همم الحكام، فإنه يجب تغييرهم ليتولى من يقيم حدود الله، وينفذ المر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والأمر الثاني الذي يجب التنبيه إليه : انه ليست الخيرية مرادفة للقوة، فالخيرية هي أن يكون المجتمع فاضلا يقوم بحق العدل، وان يكون كل شيء فيه بقسطاس مستقيم، وأن تسوده الأخلاق الكريمة والسلوك القويم، وأما القوة فالأمر فيها لسيطرة المادة والغلبة والاستعداد الحربي، وإنا نرى أقوى الأمم الآن أشدها انتهاكا لحرمات الفضيلة في داخلها وخارجها، ومن الأمم الضعيفة ما يكون للفضيلة فيها موضع، وللأمانة فيها سلطان، وللحق فيها أنصار، ولا شك انها اقرب إلى الخير من تلك الأمم القوية، وفي الجملة، إن القوة تستمد من المادة إذا انفصلت عن الفضيلة، والخيرية تستمد من الحق والعدل والفضائل الإنسانية، والمساواة بين بني الإنسان من غير عصبية جنسية أو إقليمية، وهما في عصرنا الحاضر متمايزان لسيطرة المادة على الأقوياء، وفقدانهم قوة الإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد قلنا : إن الإيمان بالله يقتضي الإيمان بكل رسول إذا قامت الأدلة على رسالته ؛ ولذا نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن بعض أهل الكتاب، فقال تعالت كلماته :
﴿ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم ﴾ و"لو" هنا هي التي يقول عنها علماء النحو : إنها حرف امتناع لامتناع، أي امتنع الخير فيهم لأنفسهم لامتناع الإيمان الكامل، وقد ذكر نفي الإيمان عنهم مطلقا مع انهم يقولون إنهم يؤمنون بالله، ويقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه، وذلك لأنهم إذ لم يذعنوا لحكام الله تعالى وأوامره- وقد فسروها على حسب أهوائهم ومنازعهم العصبية والجنسية، واعتقادهم انهم شعب الله المختار- قد فقدوا الإيمان، إذ الإيمان كل لا يقبل التجزئة، فليس بمؤمن بالله من يكذب رسالة الله التي جاءت بها البينات، وقامت عليها الدلائل ؛ وفي نفي الإيمان نفيا مطلقا ما يومئ إلى ان الذين يجعلون هواهم مسيرا لاعتقادهم وفكرهم لا يؤمنون بحقيقة من الحقائق إلهية كانت او إنسانية.
وقد نفى سبحانه عنهم الإيمان بأي شيء، ولذلك لم يكن ثمة حاجة بعد هذا إلى نفي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛لن ذلك يقتضي الإيمان بالفضائل والمعاني الإنسانية، وهم لا يؤمنون بشيء منها، وإن ذلك ليس خيرا لهم في شيء ؛ لنهم بذلك تنحل جماعتهم، وتتفرق وحدتهم، ونفى الإيمان عن اهل الكتاب ليس نفيا له عن الكل، بل هو نفي عن الأكثر ؛ لذا قال سبحانه :
﴿ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ﴾ المؤمن هو المذعن للحق إذا قامت بيناته او ذلت أمارته، وهو ينشأ عن استقامة القلب، والتزام الجادة، والاتجاه دائما إلى الطريق المستقيم بإخلاص ونزاهة نفس عن الهوى، ولذلك كان غير المؤمن خارجا عن الاستقامة، ولذا يسمى فاسقا، باعتباره خرج عن منهاج الاستقامة، وترك طريق الحق، وسلك سبل الشيطان، ويسمى كافرا باعتباره جحد الحق، وستر ينابيع الإدراك في نفسه، وناسب ان يذكر وصف الفسق بالنسبة لغير المؤمنين من اهل الكتاب ؛ لأنهم خرجوا عن منهاج الكتاب المنزل، وفسقوا عن امر ربهم وتركوه وراءهم ظهريا.
وإن منهاج القرآن هو العدالة في الحكم دائما، ولذا لم يصفهم كلهم بالفسق وإن كان قد عمهم، بل وصف بعضهم وإن كان الأكثر، ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون٦٦ ﴾[ المائدة ] ولكن من هم المؤمنون ومن هم الفاسقون ؟ سنبين في تفسير الآيات الآتية، والله سبحانه وتعالى هو وحده العليم بالصواب.
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة منزلة المؤمنين من غيرهم إذا اخذوا بأحكام الإسلام واهتدوا بهديه، وكونوا منهم جماعة فاضلة تؤمن بالله تعالى حق الإيمان، وتذعن لشريعته حق الإذعان، وتتواصى بينها بالحق والصبر، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبين ان ذلك هو عصام الأمة وجامع وحدتها، والرابط بينها بأرسان١ من الهداية الربانية، فيستتر الشر ويختفي، ويظهر الخير وينكشف، وإن تلك المنزلة جعلها الله تعالى خير المنازل، وبين سبحانه ان اهل الكتاب الذين عادوا المسلمين، وهم يعلمون انهم اهل الحق وأهل الإيمان لو آمنوا بما انزل على الذين آمنوا لكان خيرا لهم، ولكن آثروه مجافاة الحق على إتباعه، وعداوة اهل الإيمان على موادتهم، ولقد بين سبحانه من بعد ان عداوتهم لا تضر المؤمنين ضررا بليغا له أثر، مادام اهل الإيمان مستمسكين بما رفع منازلهم وأعلى درجاتهم، ولذا قال تعالى :﴿ لن يضروكم إلا أذى ﴾ :
في هذا النص الكريم بيان ان الذين أوتوا الكتاب، ثم كفروا به وبالبينات لما جاءتهم، لن يضروا المؤمنين ضررا يبقى أثرا في جماعتهم، ويؤثر في قوتهم، وغن وقع منهم أذى ؛وذلك لن الضرر قسمان : ضرر يترك أثرا في الأمة، فيضعف قوتها، ويوهن أمرها. وضرر لا أثر له : كالأذى بالقول أو الفتنة في الدين تتناول الآحاد، او محاولة التأثير في ضعاف الإيمان، او محاولة بث روح النفاق بين الجماعة من غير ان يعم ويشيع، وقد نفى الله سبحانه وتعالى النوع الأول من الضرر نفيا مؤكدا بلفظ﴿ لن ﴾ فإنها تدل على تأكيد النفي باتفاق علماء اللغة، وقال الزمخشري وطائفة كبيرة من اللغويين : إنها تدل على تأييد النفي وعلى تأبيد النفي وعلى ذلك يكون الاستثناء متصلا، ولا يكون منقطعا، لأن الأذى مهما ضؤل نوع من الضرر، وإن لم يبق أثرا.
وإن الشرط في نفي الضرر الذي يؤثر في الجماعة الإسلامية ان تكون مؤمنة بالله حق الإيمان آخذة بتعاليمه ومهتدية بهديه، وان يسودها المر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو خاصتها، ورباط وحدتها، وإلا فإن الضرر البالغ يصيبها ؛لأنها فقدت مشخصاتها ومكوناتها.
ولقد بين سبحانه بعد ذلك حال أولئك الكفار من اليهود والنصارى مع المؤمنين الصادقي الإيمان :
﴿ وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ﴾ هذه الحال التي ذكرها الله سبحانه تفصيل لبيان ما تضمنته الجملة السامية من قبل، فإنها تضمنت ان هؤلاء لا يمكن ان يصيبوا المسلمين بضرر بليغ يبقى له أثر، وإنه من تفصيل بعض ذلك انهم ينهزمون في قتال المسلمين، ومعنى قوله تعالى :﴿ وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ﴾أنهم إن قاتلوا ينهزمون، وعبر عن انهزامهم بتوليهم الأدبار، لأن من ينهزم في ميدان القتال لا يقابل عدوه بوجهه، ولكنه يطلب النجاة بالفرار، ولسان حاله يقول : النجاء النجاء، والتعبير عن الهزيمة بتوليتهم الأدبار ؛ فيه إشارة إلى جبنهم، وأنهم يفرون فرارا أمام خصومهم، وكذلك كان الشأن في قتال المسلمين الأولين للكفار اليهود والنصارى، فقد قاتل المؤمنون بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر وغيرهم، وكانوا يفرون فرارا، وقد كتب الله على بعضهم الجلاء، وعلى بعضهم الفناء، وعلى بعضهم البقاء في ذلة، وكذلك كان الشأن مع النصارى بالشام ومصر.
وقد ذكر سبحانه وتعالى انهم مع انهزامهم في القتال لا يمكن ان ينتصروا على المؤمنين ما دام المؤمنون على الشرط الذي ذكرناه، ولذا قال سبحانه وتعالى مخبرا :﴿ ثم لا ينصرون ﴾ أي أنهم لا يمكن ان ينصروا أبدا، وهذه الجملة خبرية ليس لها صلة لفظية بالجملة الشرطية، فليست معطوفة على جواب الشرط، فهي إخبار عن نفي الانتصار غير مرتبط بكونه في قتال او غير قتال، ولقد وضح الزمخشري في الكشاف هذا المعنى أكمل توضيح، فقال( فإن قلت ؛ هلا جزم المعطوف في قوله :﴿ ثم لا ينصرون ﴾ ؟( قلت ) عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل ثم أخبركم انهم لا ينصرون، فإن قلت : فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى ؟( قلت ) لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بقتالهم كتولية الأدبار، فحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا، كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية انهم مخذلون منتف عنهم النصر والقوة، لا ينهضون بعدها بجناح، ولا يستقيم لهم امر، وكان كما أخبر حال بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع، ويهود خيبر ).
وكان العطف الخبري ب"ثم" على مضمون الجملة الشرطية كلها، وكان التراخي لتقرير عدم النصر، إذ إن عدم النصر المطلق الذي يكون بالقتال وغيره ينشأ من توالى الانهزام، إذ إن توالى الانهزام يلقى في قلوبهم بروح اليأس فلا تكون لهم من بعد ذلك نصرة في أية ناحية من النواحي.
ذلك خبر الله تعالى، وخبر الله تعالى صادق إلى يوم القيامة، ولكن الذي نراه منذ قرون هو انهزام المسلمين، وتوالي انتصار النصارى من اهل الكتاب، بل إن بلية البلايا ان ينتصر اليهود، فهل اخلف الله وعده ؟ !كلا، ما أخلف الله موعدا، وإن وعد الله لحق، وخبره صادق، ولكن الذي تغير هو حال المسلمين، فقد اشترطنا لتحقق نصر الله ان يكونوا مؤمنين بالله حق الإيمان، مذعنين لأحكامه حق الإذعان، متعاونين فيما بينهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فعندئذ يكونون أنصار الله تعالى :﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز٤٠ ﴾[ الحج ]. فهل كان المسلمون على هذا الشرط عندما انهزموا ؟ لقد تغيرت حالهم، فلم يذعنوا لأحكام الله تعالى، ونقض إيمانهم به، ولم يتواصوا بالحق والصبر، ولم يعودوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، بل صار بأسهم بينهم شديدا، وأخذ يأخذ يأكل بعضهم بعضا، وبذلك تغيرت حالهم فغير الله تعالى بهم، كما قال سبحانه :﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال١١ ﴾[ الرعد ]. ولئن عادوا إلى الإيمان والإذعان والتعاون والتواصي بالحق ليعودن النصر، فإنه وعد الله تعالى، والله لا يخلف الميعاد.
﴿ ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ﴾أي أحاطت بهم الذلة كما يحيط السرادق بمن فيه، وكما تحيط القبة بما في داخلها، فهم في نشاطهم وحركتهم في ذلة، لا ينتقلون من ذل إلا إلى ذل، و﴿ أين ما ثقفوا ﴾معناها أينما وجدوا جماعات ووحدانا، فجماعاتهم في ذلة، وآحادهم في جبن، ذلك بأنهم فقدوا الإيمان بالله، والاعتزاز بعزته، فاعتمدوا على عزة من الناس، ومن اعتمد على ان يستمد عزته من غير الله فهو الذليل، فأولئك الذين فقدوا الإذعان لأحكام الله تعالى قد استعانوا بغير الله فحقت عليهم كلمة الذلة.
ولقد استثنى سبحانه حالا يرتفعون فيها من الذلة فقال تعالى :﴿ إلا بحبل من الله وحبل من الناس ﴾. والحبل معناه في أصل اللغة ما يربط بين شيئين، ويطلق على العهد، وقد فسره جمهور المفسرين هنا بهذا المعنى وهو العهد، فالمعنى لا ترفع الذلة عن هؤلاء اليهود إلا بعهد من الله تعالى وعهد من الناس، وذلك العهد هو عقد الجزية الذي يربط بينهم وبين المسلمين، فهو حبل من الله تعالى يصلهم بأهل الإيمان غذ هي بأمر الله تعالى، والوفاء بها وفاء بعهد الله ورسوله، إذ يقول سبحانه :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا... ٩١ ﴾ [ النحل ]. والجزية أيضا حبل يربطهم بالمؤمنين ؛إذ يكونون بهذا العهد بين المسلمين، ترعى حقوقهم وتحفظ أموالهم ودماؤهم، ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
وهذا تفسير حسن، وهو مشتق من قواعد الإسلام ذاتها وأحكامه المقررة الثابتة، ولكن يلاحظ ان الله سبحانه قرر الاستثناء ان حبل العزة هو حبل من الناس، ولم يذكر انه حبل من المؤمنين ؛ إذ يقول سبحانه :﴿ إلا بحبل من الله وحبل من الناس ﴾. ولذلك يصح ان يفسره بما هو أعم من الجزية، فإن حبل الناس أوسع من معنى الجزية، وإن ذلك يفسره بعض الوقائع التي تجري في العصور الأخيرة، فقد كانت لهم عزة وقتية بسبب اتصالهم ببعض الناس، وتخاذل المسلمين عن الأخذ بحكم الكتاب والسنة والهدى الإسلامي، ولكنه على كل حال استثناء ؛ لأن الله ضرب عليهم الذلة، وإنه ليرجى ان يعود الإسلام كما بدأ في قلوب أهله، فيتحقق وعد الله لهم، إذا تحققت أسبابه.
﴿ وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ﴾ أصل معنى"باء" ساوى، فيقال باء فلان بدم فلان، أي : ذهب وساواه، ومن ذلك ما جاء في بعض أقاصيص العرب على لسان المهلهل أخي كليب :"بؤ بشسع نعل كليب" أي انه لا يساوي إلا هذا، ويطلق البواء بمعنى الإقامة، ومنه المباءة والبيئة أي شكل الإقامة، والمعنى الجملي أنهم قد صاروا في غضب، ويعتبر هذا مباءتهم التي باءوا بها والتي هم يستحقون، وقد ضربت عليهم المسكنة، أي أحاطت بهم واستولت عليهم، والمسكنة ضعف نفسي، وصغار ينال القلب، فيستصغر الشخص نفسه، ويحس بهوائها مهما تكن لديه أسباب القوة متوافرة متضافرة، والفرق بينهما وبين الذلة ان الذلة هو أن تجئ أسبابه من الخارج بأن يكون بفرض من قوى، أو يكون نتيجة انهزام حربي، اما المسكنة فهي هوان ينشأ من النفس لعدم إيمانها بالحق، وإتباعها للمادة، وإن توارث الذلة قرونا طويلة يورث هذه المسكنة، إن بواء اليهود والنصارى بغضب الله، وضرب المسكنة عليهم، لا استثناء فيه، بل هو أمر مستمر إلى يوم القيامة ما داموا على حالهم، ولا يغرنك ما عند النصارى وتقلبهم في البلاد، بل انظر إليهم إن أصابت فريقا منهم هزيمة فإنهم يخرون للأذقان يبكون صاغرين، مما يدل على أن المسكنة في طبيعتهم ؛ إذ عزة الحق قد فارقتهم. ثم ذكر سبحانه وتعالى السبب في استحقاق أهل الكتاب ذلك فقال تعالت كلماته :
﴿ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ﴾ الإشارة إلى هزيمتهم المستمرة، وأنهم لا يمكن ان ينتصروا، وان الذلة ضربت عليهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وأنهم في غضب من الله، وان المسكنة قد ضربت عليهم إلى يوم القيامة، فالصغار ملازمهم، لا يفارقهم أبدا، لأن الصغار والإيمان بالباطل متلازمان لا يفترقان. وقد ذكر سبحانه ان السبب في كل هذا أنهم كانوا يكفرون بآيات الله أي بأمارات الحق وأدلته التي يقيمها الله سبحانه وتعالى عليهم في كتبه وخلقه وعلى ألسنة رسله، وأنهم لا يكتفون بجحود الحق بعد قيام البينات عليه، بل يعتدون على الداعي إليه، فيقتلون الرسل الذين ينادون به، ويجاهدون دونه، ولقد قال سبحانه وتعالى :﴿ ويقتلون الأنبياء بغير حق ﴾ والحكمة في ذكر هذا انهم لم يكونوا في اعتدائهم لهم أية شبهة حق، ولذا نكر كلمة حق، وقد بينا هذا من قبل، ولماذا كان ذلك الكفر، وهذا الجحود المستمكن الذي يدفع إلى قتل الداعي إلى الحق ؟ ذكر سبحانه ذلك بقوله :﴿ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ :
أي ان الذي أورث في قلوبهم الجحود بالحق، والتمادي في الباطل، هو ارتكاسهم في المعاصي، وتعودهم الاعتداء على الناس، فإن المعاصي تنكت نكتا سوداء في القلب، فإذا استمر الشخص عليها وضعت عليه أغلفة من الظلمة تمنع ان يصل الحق إليه، فعمى القلب عن الحق وصم، ولذا قال تعالى :﴿ مما خطيئتهم أغرقوا فأدخلوا نارا... ٢٥ ﴾[ نوح ] وقانا الله شر المعاصي، وجعل قلوبنا تشرق بنور حكمته، ووفقنا لقصد السبيل، وجنبنا جائرة، إنه سميع الدعاء.
هذا من إنصاف القرآن، فهو لا يعمم حكمه إلا حيث يكون التعميم هو الحق الذي لا شك فيه، وإن كان في قوم من هم جديرون بالثناء ذكرهم، وكذلك كان الشأن في ذكر اهل الكتاب، فيقول :﴿ ومن اهل الكتاب من إن تامنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من عن تامنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما... ٧٥ ﴾[ آل عمران ] ويقول سبحانه :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون١٥٩ ﴾[ العراف ] وفي هذه الآية يذكر بالخير العظيم طائفة من هؤلاء فيقول الحكم العدل تعالت كلماته :﴿ ليسوا سواء ﴾.
أي ليسوا متساوين في هذه العمال وتلك الأخلاق، أو ليسوا متساوين مطلقا، فليسوا جميعا أشرارا. وإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق طائفة كبيرة من الناس اجتمعت على الشر اجتماعا مطلقا، بحيث يرتضيه الجميع ويقصدونه ويريدونه ويبتغونه عامدين مريدين معتدين، بل إن منهم الضال، ومنهم المضل، ومنهم الناطق بالحق الذي لا يجد داعيا، او يحمل على السكوت في وسط نكران الضالين، ففي وسط طغيان فرعون، وانقماع قومه في إرادته، وجد مؤمن آل فرعون، ينطق فيهم قائلا كما حكى الله تعالى عنه :﴿ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا ان يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وغن يك كاذبا فعليه كذبه وغن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم عن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب٢٨ يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد٢٩ ﴾[ غافر ].
وبعد ان ذكر سبحانه انهم ليسوا سواء، وقد ذكر أحوال أشرارهم، اخذ يبين أحوال أخيارهم.
﴿ من اهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ﴾ أي من اهل الكتاب الذين ذكرنا أوصاف الكثرة منهم- طائفة تؤم وتقصد موجودة حاضرة ليست ماضية خالية، فمعنى قائمة على هذا موجودة، وفسر الزمخشري كلمة قائمة بمعنى مستقيمة على العدل والحق، مأخوذة من قولهم أقمت العود فقام واستقام. وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذا الجزء من الآية الكريمة وصفين اثنين : أنهم يتلون آيات الله، والثاني انهم يسجدون، ومعنى يسجدون أي يخضعون ويتضامنون للحق ولا يجحدون، ويتجهون إلى ربهم. يرجون رضاه، ولا يستكبرون عن نداء الحق إذا دعوا، فكنى بالسجود عن الخضوع المطلق الذي يعد السجود مظهره، ويصح ان يراد به السجود الذي يقع في صلاة المسلمين على ما سنبين، وقد ذكر ذلك الوصف مصدرا ب"هم" إذ يقول : وهم يسجدون، فلم يقل ويسجدون ؛ للإشارة إلى أن الخضوع والإذعان للحق شأن من شئونهم، وليس حالا تعرض لهم، إذ إن ذكر الضمير فيه تقوية الإسناد وتوثيق لدوامه واستمراره.
وما هو الكتاب الذي يتلونه كما أشار الوصف الأول ؟ إن الجواب عن هذا السؤال يستدعي بيان من هذه الطائفة التي استحقت تلك الأوصاف الجليلة التي وصفها الله تعالى بها، ونقول في ذلك : إن العلماء قد اختلفوا في ذلك على رأيين :
أحدهما : انها طائفة من اهل الكتاب آمنوا بالله- تعالى- وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأذعنوا للحق الذي جاء به ودعا إليه، ومن هؤلاء عبد الله بن سلام وطائفة من اليهود الذين كانوا يقيمون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ينطبق على النصارى وغيرهم الذين يهتدون بهدي الإسلام، ويرتضونه عن بينة دينا لهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم وفي أمثالهم ممن يكونون في قابل الأيام :"ثلاثة لهم أجران : رجل من اهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده امة فأدبها وأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم اعتقها فله أجران"١ وعلى هذا الرأي يكون تفسير قائمة بمعنى موجودة ؛ لأنها قد وجدت حقيقة، وارتضت الإسلام دينا.
الرأي الثاني : ان هذه الطائفة من اهل الكتاب ولم تعتنق الإسلام، وكانت قبله او بعده ولم تبلغها الدعوة على وجهها، ولم تحرف التوراة او الإنجيل او لم تأخذ بالمحرف منهما، وقد أثر ذلك الرأي عن بعض السلف، فقد روى عن ابن عباس انه قال في معنى امة قائمة :"امة مهتدية قائمة على امر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه" وروى عن قتادة انه كان يقول في الآية :"ليس كل القوم هلك، لقد كان فيهم بقية".
ويكون معنى﴿ قائمة ﴾ على هذا التفسير بمعنى مستقيمة مهتدية مؤمنة بالحق مذعنة له.
وقد اختار التفسير الثاني الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيما نقله عنه صاحب المنار، فيقول ( وظاهر ان هذا كالذي قبله في اهل الكتاب حال كونهم على دينهم ).
وآيات الكتاب التي يتلونها على ذلك هي البقية الصحيحة من كتبهم التي تشتمل على أدعية كلها توحيد وضراعة ونحو ذلك من أمثال بعض مزامير داوود، مثل ما جاء في المزمور الخامس والعشري :( إليك يا رب أرفع نفسي، عليك توكلت، فلا تدعني أخزى، لا تشمت بي الأعدائي، كل منتظرك لا يخزون، ليخز الغادرون بلا سبب، طرقك يا رب عرفني، سبلك علمني، وربني في حقك وعلمني ). وأمثال هذه الدعية والمناجاة لعلها البقية الباقية من تلك الكتب التي حرف فيها الكلم عن مواضعه.
وعندي ان الآية الكريمة في اهل الكتاب الماضين الذين استقاموا على الحق، ولم يدركوا عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لن القرآن الكريم تكلم عن ماضي اهل الكتاب وحاضرهم، فحاضرهم كان سوءا، وذكر ما ضيهم فبين ان بعضه كان سوءا وكان منهم أمة مقتصدة، فهذه الوصاف في الأمة المقتصدة التي مضت، ويصح أن تطلق على المخلصين من اهل الكتاب الذين لم يبلغوا دعوة الإسلام، وكان فيهم إخلاص للحق وطلب له وإجابة لداعيه إن دعوا إليه، ويكونون داخلين بالقياس على الماضين.
﴿ يؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ هذا النص الكريم فيه بيان حال من أحوالهم، وهي الحال الدائمة المستمرة التي جعلتهم مستقيمين على الحق مهتدين بهديه، فإن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان يجعل المؤمن يذعن للحق، ويخلص في كل ما يطلب، ولا يحب الشيء إلا لله، ويكون الله تعالى سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، فلا يكون منه إلا ما يكون للحق جل جلاله، وتكون كل مشاعره وأهوائه تبعا لأوامر الله تعالى ونواهيه. هذا هو الإيمان بالله، اما الإيمان باليوم الآخر، فإنه يعرف به حقيقة هذه الدنيا، وأنها لعب ولهو، وزينة وتفاخر، وانه في هذه الحياة الآخرة يلقى الله سبحانه وتعالى، وانه إذ يلقاه يجد كل ما عمل من خير محضرا، وما عمل من شر يود لو ان بينه وبينه أمدا بعيدا، وإذا عمل حساب ذلك اللقاء ما أقدم على شر إلا مضطرا أو لماما.
﴿ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ هذا هو العمل الذي يفيضون به على غيرهم، ويشعرون بأن عليهم حقا بالنسبة للحق الذي أدركوه، وهو ان يتواصوا بالحق، ويتناهوا عن الباطل، ويأمروا بالمعروف الذي تقره العقول، ولا تنكره الفطرة المستقيمة، فإن المؤمن المذعن للحق يدعو إليه، ولا يسكت على باطل ولا يرتضيه، وتلك صفة اهل الخير من اهل الكتاب، وعلى عكس ذلك اهل الشر، فغنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. ولذا قال تعالى في اهل الشر منهم :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون٧٨ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون٧٩ ﴾[ المائدة ].
﴿ ويسارعون في الخيرات ﴾ هذه حال من أحوالهم المستمرة، وهي أنهم في خير مستمر، لا يجدون لحظة إلا يقومون فيها بخير، ولا تلوح لهم فرصة خير إلا يقدمون عليها.
ولقد ذكر بعض العلماء هنا وجه البلاغة في التعبير ب"في" دون "إلى" إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال يسارعون إلى الخيرات، ولكنه سبحانه وتعالى قال : يسارعون في الخيرات، للإشارة إلى ان هؤلاء يسيرون في كل أعمالهم في سبيل الخير، فهم ينتقلون من خير إلى خير، في دائرة واحدة هي دائرة الخير، ينتقلون بين زواياها وأقطارها، ولا يخرجون منها، فهم لا ينتقلون مسارعين من شر إلى خير، بل إنهم ينتقلون من خير إلى خير، فكان التعبير ب"في" له موضعه من البيان.
﴿ وأولئك من الصالحين ﴾ الإشارة هنا إلى الموصوفين بالصفات السابقة، من تلاوة الكتاب في خشوع وخضوع وتعرف لمراميه ومعانيه، وإذعان لحقائقه و مغازيه، ومن خضوعهم المطلق لله سبحانه وتعالى، ومن إيمانهم حق الإيمان بالله تعالى، وتصديقهم لكل ما جاء عن الله تعالى ببيناته وأدلته، ورجائهم لليوم الآخر، وخوفهم من عذابه، وترقبهم في كل ما يعملون لحسابه، فهذه الأوصاف كلها سلكتهم في عداد الصالحين، ولم تجعلهم في زمرة الفاسقين الذين ذمهم الله سبحانه وتعالى : والصالحون، ولم تجعلهم في زمرة الفاسقين الذين صلحت أحوالهم واستقامت أمورهم، وفي التعبير بقوله تعالى :﴿ من الصالحين ﴾ إشارة إلى أنهم بهذه المزايا، وتلك الصفات قد انسلخوا من عداد أهل الكتاب الذين ذمهم الله تعالى : وذكر ان أكثرهم فاسقون، فهم قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين.
وفي هذا النص الكريم إشارة إلى أن النية الطيبة في الخير مع سلامة العقيدة ونزاهة النفس تجعل العمل طيبا مرجو الثواب دائما، لأن الأساس دائما تقوى القلوب، ولذا قال تعالى في تذييل الآية :﴿ والله عليم بالمتقين ﴾.
وفي هذا التذييل الكريم إشارات إلى أمور ثلاثة :
أولها : أن تقوى القلوب هي أساس لكل خير، وهي المجنب من كل شر.
والثاني : ان التقوى إذا كانت شانا من شئون النفس، صار الشخص لا يوصف إلا بأنه من المتقين، وصار عمل الخير كسجية له من السجايا.
والثالث : ان الله عليم بكل ما تخفيه القلوب وهو يجزي بما يعلم، اللهم وفقنا لتقواك، وأنر بصيرتنا، وطهر قلوبنا من رجس الهوى، إنك سميع الدعاء.
بعد أن بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أعمال الكافرين، أشار إلى مبعث جحودهم، وهو اغترارهم بأموالهم وأولادهم، واعتزازهم بما يملكون من حطام الدنيا وما فيها، وقد أشار إلى هذه الموال وأولئك الولاد ببيان انها لن تغني عنهم من الله شيئا، ولذا قال سبحانه :﴿ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ﴾.
يقال : أغناه عن هذا المر فلان أي كفاه، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ما أغنى عني ماليه٢٨ هلك عني سلطانيه٢٩ ﴾ [ الحاقة ] وقوله تعالى :﴿ ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون٢٠٧ ﴾ ]الشعراء ] وقوله تعالى :﴿ لا تغن عني شفاعتهم شيئا... ٢٣ ﴾[ يس ] وهي في كل هذا بمعنى لا يكفي عنه، وهي هنا من هذا الاستعمال، فمعنى قوله تعالى :﴿ لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ﴾ لن تكفي عنهم بدل الله شيئا من الغناء، فمن هنا هي التي تستعمل بمعنى بدل، والغناء يتضمن هنا أمرين : أحدهما سد الحاجة، والثاني دفع الأذى، وإن الله سبحانه وتعالى قد قرر ان هؤلاء الكفار لن تدفع عنهم أموالهم أذى، ولن تسد عنهم حاجة قط، في وقت هم في أشد الحاجة إلى معونة، وقرر ذلك بصيغة التأكيد، وذلك بالتعبير ب"لن" تفيد تأكيد النفي.
وإن أولئك الكفار ما كانوا يعتزون إلا بالمال والولد، فهذا قائلهم يقول :﴿ انا أكثر منك مالا واعز نفرا٣٤ ﴾[ الكهف ]. ولقد كانوا يربطون بين المال وكل المعاني السامية، فكانوا يظنون ان كل الخير وكل الفضائل للأغنياء، وكل الرذائل للفقراء، فلا يتصور من الأغنياء إلا الخير، ولا يتصور من الفقراء إلا الشر، ولقد أخذ منهم العجب عندما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو فقير، فقد قال الله تعالى عنهم :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم٣١ أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون٣٢ ﴾[ الزخرف ] وفي هذا بيان خطأ نظرهم، فالغنى والفقر لا يتجاوز كل منهما انه قسمة الله تعالى للمعايش في هذه الحياة، اما رفع الدرجات فأمر آخر ليس مرتبطا بالمال قلة أو كثرة، ويشير إلى أن الرفعة تكون للفقراء ليسخر الأغنياء منهم، فيزداد الأولون من الله قربا، ويزداد الآخرون من الله بعدا.
وإن الله سبحانه إذ حكم بذلك، وهو أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، فقد أشار إلى ان السبب في ذلك كفرهم ؛ لأن التعبير بالموصول سببا لعدم غناء الأموال والأولاد، مع ان طبيعة هذا الوجود تجعلها غير مغنية مؤمنا او كافرا ؟ والجواب عن ذلك ان المؤمنين لا يعتقدون ان أموالهم وأولادهم تغنى عنهم من الله شيئا، فلم يكن ثمة حاجة للنفي بالنسبة لهم، وفوق ذلك فإن المؤمنين يتخذون من الأموال والأولاد سبيلا لرفع منار الحق وعزته، فهي تكفيهم بعض الكفاء، وإن كانت لا تغنيهم عن الله تعالى، ولأن كلمة"تغنى" في تكفيهم بعض الكفاء، وغن كانت لا تغنيهم عن الله تعالى، ولن كلمة"تغنى" في معناها دفع الأذى، والله سبحانه وتعالى منزل الأذى بالكافرين عقابا لجرائمهم ولشرورهم، وما تعرض المؤمن لهذا الأذى، فلا حاجة لهذا الدفع.
وفي ذلك النص السامي بحث لفظي، وهو تكرار النفي في قوله تعالى﴿ أموالهم ولا أولادهم ﴾ ف"لا" هنا تفيد ثلاثة أمور : أولها- مزيد تأكيد للنفي الثابت ب"لن". وثانيها( ان تكرار"لا" يفيد انهم كانوا يعتزون بالأموال والأولاد مجتمعين ويعتزون بأحدهما منفردا، فنفى سبحانه وتعالى الغناء عنهما مجتمعين ومنفردين أيضا. وثالثها- ان المال يكون قوة في مواضع، والولد يكون قوة في مواضع، فتكرار النفي يستبين انه لا قوة تدفع مقت الله وغضبه لا من المال ولا من الولد. وقد بين سبحانه تبعد ذلك عذاب الله تعالى الواقع الذي ليس له من دافع، ولا يغني فيه المال ولا الولد، فقال تعالى :﴿ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ :
الإشارة هنا إلى الذين كفروا، ليس لهم امام الله ولي ولا نصير، ولا عون ولا دفاع، فالله سبحانه وتعالى يحكم عليهم وهو خير الحاكمين بأنهم أصحاب النار الخالدون فيها. فمعنى المصاحبة هنا الملازمة الدائمة المستمرة، و"لعل" في هذا التعبير إشارة إلى انهم بعد ان كانوا يصطحبون في الدنيا أموالهم مفاخرين بها وأولادهم مستنصرين بهم، يصاحبون بدلهم في الآخرة نار الله الموقدة، وعذابه الأليم، وبعد ان تركوا نعيما غير مقيم استقبلهم شقاء دائم مستمر.
وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم العادل بعدة تأكيدات : منها التعبير بالإشارة المتضمن السلب من كل قوة كانوا يعتزون بها، ومنها ذكر مصاحبتهم للنار، ومنها بيان قصرهم على النار لا يتجاوزونها، ومنها ذكر الضمير( هم ) فهو لتأكيد الحكم.
﴿ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر ﴾ وفي هذا التشبيه بين سبحانه ان هذا الإنفاق ليس خالصا من الضرر في ذاته، فهو يحمل في ذاته ما يفسده ويجعله ضارا لا نفع فيه، وشرا لا يمازجه خير، فقد شبه سبحانه إنفاقهم في هذه الحياة من حيث اشتماله على الضار، وعدم إثماره وإنتاجه، بالريح التي لا ترسل لواقح، ولا تكون نسيما عليلا تلقى في النفوس بالبشر والحبور، ولا تكون ريحا يحمل للزرع عوامل النماء إذ يكون فيها غذاء، بل يكون فيها ما يميت الزرع والضرع، وهي الريح التي يكون فيها صر، والصر معناه البرد الشديد المميت للنبات، ومعنى اشتمالها على الصر وصفها به أب أنها ريح صر فهي ريح قارة باردة مهلكة مفنية وليست منمية مبقية، وهنا يرد سؤال : لماذا ذكر الصر على انه في الريح وأنها مشتملة عليه، وهي له ظرف وهو مظروف ؟ وقد أجاب الزمخشري عن ذلك بأنه ضرب من ضروب المبالغة، وبان"صر" مصدر في أصله فجئ به على أصله، كما تقول : ثوب فيه جمال، والكلام بمعنى جميل، وقد خرج تخريجات أخرى ليست واضحة.
ونحن نرى ان التعبير بقوله تعالى :﴿ فيها صر ﴾ يشير إلى ان الرياح فيها بطبيعتها رجاء، ولكنها اشتملت على ما يذهب بخيرها، وفي ذلك وصف من أوصاف من المشبه ؛ وذلك الإنفاق في ذاته قد يرجى منه النفع، ويظن فيه، ولكنه اشتمل في ذاته ما يذهب بخيره، ولا ينبت إلا باطلا، وذلك انه بمقاصده التي لا يقصد بها وجه الله ولا نفع الناس، ولكن يقصد التفاخر والتباهي والتنافر، والاستطالة على الناس بفضول القول، يذهب كل خيره، فالتعبير بقوله سبحانه :﴿ فيها صر ﴾ فيه إيماء إلى أن الأذى والضرر الذي لابس المشبه وهو الإنفاق لم يكن من ذاته، ولكن من قلب المنفق ونيته، وغايته من الإنفاق، وإن هذا الإنفاق- كما قلنا وكما أشار النص القرآني الكريم- يحمل في ذاته موجب رده، وقد بين سبحانه انه ضار مؤذ في الشطر الثاني من التشبيه، إذ قال سبحانه في وصف الريح :﴿ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ﴾.
الحرث هو الزرع، وأصل كلمة"حرث" فلح الأرض وإلقاء البذر فيها، ثم أطلقت في مجاز مشهور على ما هو نتيجة ذلك وهو الزرع، وقد أطلق على كل موضع يكون فيه إنتاج ولو لم يكن أرضا وزرعا، كما قال تعالى :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم... ٢٢٣ ﴾[ البقرة ].
ومعنى التشبيه في جملته- كما دل على ذلك هذا النص الكريم والنص الذي سبقه-أن حال هذا الإنفاق الذي لم يقصد به وجه الله تعالى بل قصد به التفاخر وكسب الثناء وتحدث الناس بالعطاء، كمثل الريح التي تكون باردة بردا شديدا يتوقع منها الناس الخير لزرعهم، فتهلكه وتبيد خضراءه وتجعله حطاما، والجامع في هذا التشبيه بين المشبه والمشبه به هو ان كليهما كان يرجى خيره، ولكن بما لابسه من ضر وأذى صار مؤذيا.
وفي هذا التشبيه بيان أن الضرر لاحق بهم من هذا الإنفاق ؛ ولاحق بالناس، لأنهم كانوا يعينون به على الشر، إذ كانوا ينفقونه في محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء المؤمنين ؛وهو سبب في استعلائهم واستكبارهم، ولو حرموا المال والإنفاق لكان خيرا لهم.
وفي النص القرآني إشارة إلى ان الله سبحانه وتعالى يعاقب بالريح من يظلمون انفسهم بارتكاب المعاصي، فقال سبحانه :﴿ أصابت حرث قوم ظلموا انفسهم فأهلكته ﴾، فإن هذا النص السامي يومئ إلى أن الله تعالى يرسل في الدنيا عقابا على أموال الظالمين فيهلكها، ولو اتخذوا الأسباب وما يجب اتخاذه من احتياط لحفظ الموال، وإن ذلك التخريج لا يوجد ما يمنع من قبوله، بل الإذعان له لأن تدبير العبد واحتياطه، لا يمنع تقدير الرب وقضاءه، وإن الريح كانت سببا في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، فإن الله تعالى أرسل على المشركين ريحا ألقت الرعب في قلوبهم مع كمال العدة والعدد، وقال تعالى في ذلك :﴿ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا٢٥ ﴾[ الأحزاب ]. ولقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور"١.
و إذا كان ذلك ثابتا فلماذا نستبعد أن يعاقب بعض الظالمين في الدنيا بإصابة حرثهم بريح، لفساد نياتهم، و لاستخدامهم المال في غير مواضعه، و إن الذين يستبعدون ذلك يفرطون في الإيمان بالأسباب العملية، و لا يذعنون للأحكام القدرية، و إن الزرع بالذات ليس لأحد أن يدعي أنه يستطيع حمايته من الرياح و الآفات، مهما يتخذ من الاحتياط، فإن للأجواء أثرها، و للآفات الوبائية حكمها، و لا سبيل إلى التوقى الكامل منها.
وإذا كان الزرع وغيره مهما يتخذ من احتياط لحفظه لا يتقى الريح والآفات، فإنه لا يصح ان يكون ذلك نتيجة للمصادفة، فإن المصادفة بالنسبة لمداركنا، اما بالنسبة لأعمال الله تعالى فإن كل شيء عنده بمقادير، ومقصود بإرادته السرمدية، وهو يكون ثوابا او عقابا او إملاء يملى الله به للظالمين حتى حين، كما قال تعالى :﴿ وأملي لهم عن كيدي متين٤٥ ﴾[ القلم ] وقد قال تعالى :﴿ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال١٢ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال١٣ ﴾ [ الرعد ].
إذن فالأمر في الريح يصيب الله بها بعض الظالمين لظلمهم حق لا ريب فيه، ولقد أخبر الله تعالى ان الظالم يسئ إلى نفسه دائما، فقال :﴿ وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ﴾.
والضمير هنا يعود إلى الذين أصيب حرثهم بسبب ظلمهم، أي ان الله تعالى ما ظلمهم بالريح تصيبهم، إنما هم الذين ظلموا انفسهم بفساد قلوبهم ونيتهم، واعتقادهم انهم يستطيعون التحكم في القدر، وفي هذا إشارة إلى أولئك الذين أنفقوا في الإفساد للافتخار والخيلاء والاستكبار، في ان الله ما ظلمهم بإبطال إنفاقهم، إنما هم الذين ظلموا انفسهم بأن تجنبوا إنفاق المال في الحلال بنية الحلال، بل أنفقوه في الحرام، وما أنفقوه في حلال إلا بنية الحرام.
وجوز الزمخشري ان يعود الضمير إلى الذين ينفقون في هذه الحياة، وهو ظاهر كل الظهور. ونضرع إلى الله ان يلهمنا الإنصاف في أقوالنا وأفعالنا، وان يرزقنا صدق القول، والإخلاص في إعمالنا له، إنه سميع الدعاء.
هذه الآية وما وليها من آيات فيها عود إلى التحذير مما يريده اهل الكتاب والمنافقون من اهل الإيمان والإخلاص، فقد قال تعالى من قبل :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين١٠٠ ﴾[ آل عمران ] وبين وجوب الاعتصام بحبل الله تعالى وهو كتابه تعالت كلماته، وعظمت آياته، لتتم الوحدة الإسلامية، ثم ذكر من بعد ذلك بعض أحوال اهل الكتاب، وما عساه قد يكون في بعضهم من خير، وما عليه سائرهم من شر، وفي هذه الآية يحذر تحذيرا شديدا من نوع آخر، فقد كان التحذير متجها إلى الحث على اليقظة الفكرية، حتى لا يفسد اهل الكتاب على المؤمنين دينهم الذي ارتضوا، فيهم انه لا يصح الاسترسال في إرضائهم، فإنه لا يرضيهم من المؤمن إلا أن يخرجوا عن دينه ويطرحه وراءه ظهريا، وان يسير وراء ركبهم، ولقد قال سبحانه :﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم... ١٢٠ ﴾ [ البقرة ].
فالتحذير هنالك للخوف على العقيدة ان لا يفسدها هؤلاء، اما التحذير هنا فهو للخوف من ان يفسد أولئك المنافقون من اهل الكتاب الجماعة الإسلامية، وينشروا فيها الاضطراب، وألا يكون نظام قائم ثابت الدعائم، ولذا قال سبحانه :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ﴾ بطانة الرجل : خاصته الذين يعرفون خفايا امره، ومنون سره ؟، ويستنبطون ما يخفى على غيرهم، فيعرفون موضع قوته وضعفه، ويتخذ منهم مستشاريه الذين يستشيرهم، ويستنصحهم إن احتاج إلى نصيحة، وأصل البطانة خلاف الظهارة، وتطلق على الثوب الخفي الذي يكون باطنا غير ظاهر، وقد استعير اللفظ للدلالة على الذين يختصون بالاطلاع على باطن امر الشخص، وكأنه شبه الذين يختصون بشئون الشخص خفيها وظاهرها ببطانة الثوب التي تلاصق الجسم او تقاربه، لقوة الاتصال في كل منهما، ولأن كليهما يمس ذاته وشخصه : بطانة الثوب تمسه حسا، وبطانة الرجل تمسه معنى، وكما ان الأولى أدرانها تكون أمكن في الأذى وتكون أسرع، كذلك الثانية تكون أمكن وأقوى تأثيرا وأسرع.
ومعنى النص الكريم انه لا يجوز للمؤمنين ان يتخذوا مستشارين ونصحاء، يستنبطون أمورهم من دونهم أي من غيرهم، فمعنى"دونكم" هنا"غيركم" الذين لم يبلغوا ما انتم فيه من قوة الإيمان والإخلاص للحق، ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ ويعملون عملا دون ذلك... ٨٢ ﴾[ الأنبياء ] أي غيره الأقل منه.
وصدر النداء بوصف الإيمان للإشارة إلى ان مقتضى الإيمان الا يستعينوا بأولئك الذين كفروا بآيات الله تعالى، وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم، فقضية إيمانكم وكفرهم توجب ألا تأمنوهم في خاصة أموركم، ولقد كان السلف الصالح يأخذون بذلك الهدى القرآني، فقد كان عمر رضي الله عنه ينهى عن اتخاذ الأعوان من اهل الكتاب وغيرهم، فقد قال رضي الله عنه :( لا تستعملوا أهل الكتاب، فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم ورعيتكم بالذين يخشون الله تعالى ) وقيل لعمر رضي الله عنه : إن ها هنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد اكتب منه، ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك ؟ فقال الإمام النافذ البصيرة :( لا آخذ بطانة من دون المؤمنين ).
وقد ذكر سبحانه الأوصاف والأحوال التي توجب الامتناع عن اتخاذ بطانة منهم، فذكر لهم أحوالا ثلاثة : أولها، وهي كافية في إبعادهم عن أسرار الدولة، وهي التي قال الله تعالى فيها :﴿ لا يألونكم خبالا ﴾.
الخبال كالخبل : الاضطراب والفساد وهما متلازمان، فلا اضطراب إلا ومعه فساده ولا فساد إلا يترتب عليه اضطراب، فهما معنيان متقاربان ومتلازمان، ومعنى"يألو" بقصر في بذل الخير ويبذل الأذى غير مقصر ولا متوان، بل ينتهز الفرص، وهي تتعدى إلى مفعول واحد، وقد تتعدى إلى مفعولين إذا تضمنت معنى المنع، ومعنى قوله تعالى :﴿ لا يألونكم خبالا ﴾( لا يقصرون في جهد يبذلونه لضركم، ولا يمنعونكم خبالا واضطرابا فيا لأمور )، أي لا يمنعونكم باذلين الجهد في تحقيق مقصدهم ومرادهم فسادا واضطرابا في الأمور، ليفسدوا عليكم دينكم، ويقوضوا دعائم دولتكم، ويخضدوا شوكتكم، ويكون أمركم بوارا بالفتن التي يبثونها، والريب التي يثيرونها.
ولقد صدق الله تعالى كلماته، فمن وقت ان صارت بطانة الملوك والمراء من أهل الكتاب، وأمور المسلمين فوضى، تختفي الفوضى السياسة عندما يكون الأمير أو الملك قويا، ولكن تكون في بث أفكار فاسدة، وآراء تحل الوحدة، وقد كان أول من اتخذ كتابا من أهل الكتاب معاوية بن أبي سفيان، وحسبك ان تعلم أنه في عهده انتشرت الإسرائيليات، والأفكار التي تثير الريب في الحقائق الإسلامية، وقد كان يوحنا الدمشقي كاتب عبد الملك بن مروان وأبوه الذي كان كاتبا لمعاوية يبثان الأفكار الفاسدة بين المسلمين، مثل ادعائهم عشق النبي صلى الله عليه وسلم لزينب بنت جحش، ومثل إثارة الكلام في الطلاق الثلاث، بل الكلام في أصل الطلاق، وإثارتهم الكلام في أن الله متصف بصفة الكلام أو غير متصف، وان القرآن قديم او غير قديم، ومثل إثارتهم الكلام في الجبر والاختيار.
وبذلك كانوا يحلون الوحدة الفكرية، ليتسنى لهم من بعد حل القوة الإسلامية، كما ظهرت النتائج من بعد.
﴿ ودوا ما عنتم ﴾ هذا هو الوصف الثاني، او الحال الثانية من أحوالهم، وهي سبب لإرادتهم البوار والفساد للمسلمين، فالأولى مظهر ونتيجة، والثانية باعث ودافع، فهم لا يودون للمسلمين السعادة والرفاهية والخير والقوة بل يودون لهم الشقاء والتعس والأذى، وليس لعاقل أن يطلع خفايا أموره ويستنصح من لا يود له إلا الشر والأذى.
ومعنى قوله تعالى :﴿ ودوا ما عنتم ﴾ أي ودوا وهلاككم، وإجهادكم وإنزال المشقة بكم، التي يترتب عليها تفريق جمعكم، وذهاب قوتكم. و"ما" في قوله تعالى :﴿ ودوا ما عنتم ﴾ هي ما المصدرية التي يسميها علماء النحو الموصول الحرفي، وهي وما بعدها بمصدر.
﴿ قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم اكبر ﴾ البغضاء : البغض الشديد المستمكن الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، فهي صفة ثابتة، وفرق بين البغض والبغضاء فالبغض حال تقبل الزوال، وأما البغضاء فهي كراهية يبعد زوالها، وهي على ذلك اخص من البغض المطلق، إذ هي بغض مقيد، وهي تظهر من عباراتهم وكلماتهم، كما قال تعالى :﴿ ولتعرفنهم في لحن القول... ٣٠ ﴾[ محمد ]. وليس معنى ذلك ان البغضاء لا تبدو إلا في الأقوال، بل تظهر أيضا في الأفعال، ولكن عند الفحص الدقيق، والوزن الصحيح، وإن ما يظهر على اللسان هو طفح مما امتلأ به القلب، فهي فيض الإناء وما يسيح منه، وما في الإناء أكثر وأغزر، وهو المادة الوفيرة التي كان منها طفح الكيل، ولذلك قال تعالى :﴿ وما تخفي صدورهم أكبر ﴾ أي ما يطوون في صدورهم وتنطوي عليه نفوسهم أكثر مما يظهر، إذ إن ما يظهر هو الجزء الذي انبثق من الوكاء، او هو في الحقيقة الرشح الذي ظهر من المسام التي تخفي ما وراءها.
وهذا الوصف هو في الحقيقة توبيخ لأولئك الذين يأتمنونهم، وحالهم في البغضاء ظاهرة مكشوفة، غير مخفية ولا مستورة.
﴿ قد بينا الآيات إن كنتم تعقلون ﴾ ختم الله تعالى هذه الأحوال بهذا النص الكريم، ليدعوهم إلى التفكير فيما هم مقبلون عليه، وليدعوهم إلى الحذر وتخير خاصتهم وبطانتهم، وخصوصا الحكام منهم، فإن البطانة تكون خيرا إن حضت على الخير، وتكون شرا إن حضت على الشر، والعميق النظر المدرك المتعقل فيما يفعل هو الذي يدرك الأخيار من الأشرار، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري :"ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالخير، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر، وتحثه عليه، والمعصوم من عصمه الله"١.
والآيات المراد بها تلك البينات التي ذكرها صفات وأحوالا لهؤلاء يعرفون بها، وقد بينها الله للحكام إن كانوا يدركون الأمور بعقولهم لا بشهواتهم وأهوائهم، فمعنى﴿ إن كنتم تعقلون ﴾ تدركون الأمور بعقولكم، وغن ذلك لحق، فما رأيت حاكما يتخذ خاصته من غير المؤمنين إلا إذا كان ممن غلبت عليه شهوته وأردته ودولته أهواؤه، وما رأيت حاكما مسلما يتجنب هؤلاء إلا إذا كان ممن غلب عقله هواه، وممن جنبه الله الزلل في الحكم.
الإشارة إما ان تكون لعامة المؤمنين : من يتخذون بطانة من الكافرين، ومن لا يتخذون، ويكون المعنى ها انتم أولاء أيها المؤمنون تحبونهم وترجون لهم الهداية والتوفيق، والخير والرشاد، وتؤمنون بالكتاب كله أي بالكتاب المنزل الذي يحوي شريعة الله تعالى التي لا تتغير ولا تتبدل، فالكتاب هنا جنس للكتب المنزلة كلها، وهم لا يحبونكم ولا يريدون الرشاد، واستمرار الهداية، بل يريدون إفساد أموركم.
وإما ان يكون الخطاب للذين يخطئون ويتخذون منهم خاصة وبطانة ويطلعونهم على سر الأمور، ويكون المعنى ها انتم أيها الذين أخطئوا تحبونهم وتقربونهم وتجعلونهم خواص لكم وهم لا يحبونكم، وانتم أكمل إيمانا وأقوى يقينا، لأنكم تؤمنون بالكتاب المنزل كله، ففي ضمن إيمانكم التصديق بالصادق عندهم، وهم ناقصو الإيمان، فكيف تثقون بهم وهم منكرون جاحدون لما عندكم ؟.
ثم ذكر سبحانه حالا لهم تكشف عن كراهيتهم وبغضهم ونفاقهم، فقال سبحانه :﴿ وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ﴾.
هذا بيان لنفاقهم، ولا يمكن ان يكون في بطانة المؤمنين إلا المنافق منهم، سواء أكان من المنافقين الذين أعلنوا الإسلام في ظاهر أحوالهم وعامة شئونهم وأضمروا غيره، أم كان من الذين لم يدخلوا في ضمن المسلمين ظاهرا ؛ إذ لا يمكن إلا ان يكون في قلبه حظ كبير من النفاق ما دام قد قبل أن يعمل خاصة وبطانة لمؤمن ؛لأنه لا يمكن ان يصل إلى هذه المنزلة إلا إذا أبطن غير ما يظهر، إن لم يكن في شئون الاعتقاد ففي غيرها، فمن كان شأنه كذلك يكون منافقا لا محالة.
ويصح ان يكون المراد المنافقين الذين أضمروا الكفر واظهروا الإسلام، ويكون هذا واضحا، ويؤيده قوله تعالى :﴿ وإذا لقوكم قالوا آمنا ﴾لأنهم يعلنون الإيمان، ولكن واضح أيضا ان قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ﴾. عامة تشمل المنافقين وغير المؤمنين، فكيف نذكر بعد ذلك أوصاف المنافقين فقط ؟ والجواب عن ذلك ان النهي عام، وقد ذكر التعليل خاصا بالمنافقين، لنهم الأقرب لئلا يعهد إليهم بخواص الأمور، إذ هم يعلنون الإسلام، ويبطنون غيره، فهم مظنة ان يخدع الحاكم فيهم، فدعاه القرآن الكريم إلى ان يتخير بطانته، وغيرهم لسان حالهم ينفر منهم إلا إذا كان الأمير او الحاكم ممن لا يحسنون الحكم ولا معرفة المصلحة.
وعلى النظر الأول، وهو ان يكون الكلام في قوله تعالى :﴿ وإذا لقوكم قالوا آمنا ﴾ عاما لكل الكافرين يكون معنى :﴿ قالوا آمنا ﴾ انهم يظهرون الرضا بحكم الإسلام والاطمئنان إليه، وأنهم يريدون قوة الدولة الإسلامية وعزتها، فليس الإيمان على حقيقته، بل معناه الرضا بقبول الحكم الإسلامي.
و لا شك أن التخريج الآخر أوضح و أبين
ومعنى﴿ وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ﴾ ان الحقد يأكلهم ولا يستطيعون إظهار الألم الشديد في حضرة المؤمنين، فيدخرون إظهاره حتى إذا خلوا أظهروه في أقسى مظاهره، وهي عض الأنامل من الغيظ، والأنامل قيل هي أطراف الأصابع، وقيل الأصابع نفسها، والمغيط المحنق دائما يعض الأنامل، فهذا مظهر لأعلى درجات الغيظ، وغن لم يقع من بعض الناس بالفعل، ولذا قال الشاعر :
فأقتل أقواما لئاما أذلة يعضون من غيظ رؤوس الأباهم١
فهذا التعبير كناية عن بلوغ أقصى درجات الغيظ، وفي هذا إشارة إلى ان من يكون إحساسهم نحو المؤمنين كذلك لا يصح ان يوثق بهم في مهامهم ؛ لأنهم منافقون، والمنافق ليس جديرا بالثقة، ولنهم لا يسرهم من المؤمنين غلا ان يكونوا في خبال.
وأنهم ما داموا لا يريدون إلا الشر بأهل الإيمان، فإنه يجب ان يستمروا على حالهم من الغيظ، لن الخير فيما يغيظهم، ولذا قال سبحانه :﴿ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ﴾.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء، ولكل مؤمن بالتبع له عليه الصلاة والسلام، وقوله﴿ موتوا بغيظكم ﴾ ظاهره المر بالموت او الدعاء بالموت، وحقيقته الدعوة إلى استمرارهم على غيظهم مادام غيظهم سببه نجاح الإسلام ودعوته، وعموم هدايته وصلاح شان المسلمين، فالأمر هنا طلب استمرارهم على غيظهم، فالمعنى استمروا على غيظكم، والاستمرار على الغيظ استمرار لسببه وهو نجاح الإسلام وقوته، وصيغة المر هنا للتهكم عليهم.
وقوله تعالى :﴿ إن الله عليم بذات الصدور ﴾لإفادة ان ما يبيتونه للمسلمين يعلمه الله ويحاسبهم عليه ويعذبهم، فحالهم في الدنيا شر حال، وفي الآخرة العذاب الأليم، فلهم كمد الدنيا، وعذاب الآخرة، وقد جوز الزمخشري ان تكون تلك الجملة من مقول القول المأمور به في"قل" وان تكون من قول الله تعالى، والمؤدى واحد، وهو ان الله عليم بالسرائر والضمائر، وفيها تطيب لنفوس النبي والذين آمنوا بان الله تعالى ناصرهم وكاشف امر أعدائهم إذا أطاعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، ولم يجعلوا من أولئك العداء بطانة لهم، حتى لا يمكنوهم من دخائل أمورهم، فيكون سر المسلمين مكشوفا، وأمر هؤلاء مستورا.
وإن هذا كله يدل على أنهم يكيدون للمؤمنين ويبالغون في الكيد لهم، وإن دفع هذا الكيد يستدعي الصبر والتقوى، ولذا قال سبحانه :﴿ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ﴾.
أي إن تصبروا، فتضبطوا أنفسكم ولا تناسقوا في محبة من لا يستحق المحبة، وتتحملوا مشاق التكليفات، وتقاوموا العداوة بمثلها، وتردوا اعتداءهم بمثله، وتتقوا الله تعالى، وتتقوا أذاهم، فلا تتخذوا منهم بطانة- إن فعلتم ذلك لا يضركم كيدهم وتدبيرهم السيئ شيئا من الضرر مطلقا، وإن لم تفعلوا ذلك فلم تأخذوا حذركم منهم، وسهلتم دخول الغفلة عليكم، ولم تضبطوا أنفسكم عن محبتهم، فإنهم يستمكنون منكم بكيدهم، ولا منجاة لكم من شرهم.
وقد قرئ قوله تعالى :﴿ لا يضركم ﴾ بالضم على أن ذلك من قبيل التخلص من التقاء الساكنين بالضم، فإن الفعل مجزوم، فيفك الإدغام، ويتخلص من التقاء الساكنين بالضم او الفتح، وقد قرئ بالفتح، كما قرئ"لا يضركم" من ضار يضير بمعنى ضر يضر.
﴿ إن الله بما يعملون محيط ﴾ذيل الله سبحانه الآية بهذا النص، ليطمئن المؤمنين ويهدد الكافرين، فالمعنى : الله تعالى محيط بما يعملون إحاطة علم وإحاطة قدرة، وإحاطة العلم فيها بيان انه لا تخفى عليه خافية من كيدهم، وإحاطة القدرة مؤداها انه محبط كل ما يدبرون﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين٥٤ ﴾[ آل عمران ].
هذه وصايا الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالنسبة لسياسة أمورهم مع مخالفيهم، يحترسون منهم، ولا يفرطون في الثقة بهم، فلا يتخذوا منهم بطانة وخاصة، وإلا كان الدمار والبوار والخبال، وهكذا نحن الآن، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا.
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى ما بيته أعداء المسلمين من خبال وآذى ينزلونه بهم إن اتخذوا منهم بطانة يلقون إليهم بالمودة ويكشفون سرائرهم لهم، وبين ان أولئك المنافقين تسؤهم مصلحة المؤمنين، وتسرهم مساءتهم، وانه لا علاج إلا ان تحذروهم وتصبروا عليه، وتتقوا الله تعالى، وتصونوا أنفسكم عن تمكينهم من الذي، وفي هذه الآيات يشير سبحانه إلى بعض صنيعهم في شديدة المسلمين، وكيف كانوا يبثون الشك والفوضى في نفوس المجاهدين، مما جعل بعضكم يفكر في أن يفشل ويعجز وتخور عزيمته، ولقد أشار سبحانه في ذلك إلى غزوة احد وغزوة بدر، فقال سبحانه :
﴿ وإذ غدوت من اهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ﴾ هذه الآية وما تليها نزلت في غزوة أحد، إذ خرج النبي صلى الله عليه وسلم في السحر من السابع من شوال في السنة الثالثة من حجرة عائشة، وأخذ يصف المؤمنين للقتال، ويقف كل فريق منهم في موقفه، وقد جعل الرماة من وراء المقاتلين، وأمرهم بأن يكونوا وراء ظهور المقاتلين ينضحون عنهم بالنبل، وقال لأميرهم :"انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك" وأمر الجيش كله ألا يتحرك إلا عندما يأذنه بالحركة، حتى إن أحد الأنصار استشرف للقتال وتمناه عندما رأى قريشا قد سرحت أفراسها وإبلها في زروع المسلمين، وقال :"أتى زروع بني قيلة( يعني الأنصار )".
وهذا مؤدى قوله تعالى :﴿ وإذا غدوت من اهلك ﴾ ومعنى غدوت : أصبحت مبكرا مسارعا إلى تنظيم جيش المؤمنين جيش الله تعالى، والغدوة والغداة اول النهار، ويذكر الغدو والغداة اول النهار، ويذكر الغدو مقابلا بالآصال أي وقت العصر وقبل المغرب، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ في بيوت أذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال٣٦ ﴾[ النور ]. وقوبلت الغداة بالعشي، ويطلق الغدو على الذهاب ويكون مقابلا للرواح، ومن ذلك قوله تعالى في الرياح :﴿ غدوها شهر ورواحها شهر... ١٢ ﴾[ سبأ ] وذلك لأن الذهاب عادة يكون في البكور، وتبوئ معناه تسهل وتنظم وتثبت، وأصله من البواء وهو مساواة الأجزاء في المكان، وبوأت له مكانا سويته، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى موسى وأخيه ان تبوءا لقومكما بمصر بيوتا... ٨٧ ﴾[ يونس ]. وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى :﴿ تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ﴾أي تسوي لهم بالتنظيم والترتيب مقاعد للقتال، فهي إذا تتضمن معنى التنظيم والتهيئة والاستعداد، ولقاء المشركين صفا واحدا، كأنهم بنيان مرصوص.
وهذا التنظيم إنما هو بيان مواقف القتال، وموضع كل فريق في الموقف الذي يقفه، ولكن النص السامي الكريم قال :﴿ مقاعد للقتال ﴾ فعبر عن المواقف بالمقاعد للإشارة إلى وجوب الثبات والسكون، حتى لا يتحركوا إلا بأمر من القائد الأعظم وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان الثبات سبب النصر في غزوة احد، والهزيمة كان سببها عدم الاستمرار في البقاء في مواقفهم، ذلك ان الرماة عندما رأوا المؤمنين قد انقضوا بأمر النبي صلى اله عليه وسلم على المشركين يقتلونهم ويزيلونهم عن مواقفهم، تركوا مواقفهم وذهبوا وراء المؤمنين يغنمون ويأخذون، فانقض عليهم من ورائهم فرسان المشركين، فتفرقوا، وهذا قوله تعالى :
﴿ حتى إذا فشلتم وتنازعتم في المر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة... ١٥٢ ﴾[ آل عمران ] ومن هنا كانت إصابة المسلمين في موقعة أحد.
﴿ والله سميع عليم ﴾ ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا النص السامي لبيان انه تعالى مطلع على ما كان يجري بين المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم من مشاورات، وما استقر عليه رأى كثرتهم، ثم نزوله عليه الصلاة والسلام عند رأى الكثرة، ثم عدول الكثرة إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قول النبي لهم معتزما إمضاء ما قرروا اولا، وإن كان غير رأيه الذي مال إليه، ليعلمهم ان التردد ولو للصواب المحتمل ضرره أكثر من المضي ولو في الرأي المحتمل للخطأ، فإن صواب الحروب وخطاها، لا يتبين، وإن التردد فيها يقتل، والمضاء فيها ينصر، وبين بهذا التذييل أيضا ان الله تعالى عليم بخفايا القلوب، فهو يعلم ما تهم به قلوب المؤمنين، وما توسوس به قلوب المنافقين، وما يبثونه من روح الذعر والهلع في نفوس المؤمنين، وبحديثهم مستجابا في قلوب ضعفاء الإيمان، وهم الذين قال القرآن عنهم :﴿ في قلوبهم مرض... ١٠ ﴾[ البقرة ].
ولقد علم الله ما كان من المؤمنين والمنافقين من مناقشات عندما ساور المدينة المشركون في العام الثالث، وأرادوا ان يثأروا من الدماء التي أصابتهم في بدر، فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليستشيرهم في المر، أيخرجون إليهم، ام يبقون حتى يجئ العدو إليهم في الديار، فقال بعض المؤمنين( أقم يا رسول الله بالمدينة، ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا ؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين ). وعارض ذلك الرأي الأكثرون ممن لم يحضروا بدرا فقالوا( اخرج بنا يا رسول الله إلى هؤلاء الأكلب لا يرون انا قد جبنا عنهم ). وما زال أولئك الذين لم يحضروا بدرا حتى نزل عند رأيهم، وقد كان إلى الأول أميل.
وتركهم وعاد إلى أهله١ ليلبس لمه الحرب، فتلاوم المسلمون فيما بينهم، وقال قائلهم : بئسما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه ؟فلما جاء إليهم الرسول قالوا : اصنع يا رسول الله ما رأيت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ذو العزم :"ما كان لنبي لبس لأمته ان يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه".
وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف، وكان مع المسلمين طائفة من المنافقين، على رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول، فرأى ان يحدث الخلل في الصفوف فرجع ومعه نحو ثلاثمائة ممن على شاكلته وضعاف الإيمان، وبرز تخاذله بأنه كان يرى الا يخرج إليهم المؤمنون وان يبقوا بالمدينة، ومنهم من زعم انه لا قتال، وقالوا :﴿ لو نعلم قتالا لاتبعناكم... ١٦٧ ﴾[ آل عمران ].
الهم هو حديث النفس واتجاهها إلى امر معين من غير تنفيذ، فحديث النفس هو ما يأخذ طريق التنفيذ، فإذا اخذ طريق التنفيذ فهو إرادة وعزيمة، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وهموا بما لم ينالوا ﴾ والفشل ضعف مع جبن، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم... ٤٦ ﴾ [ الأنفال ] ومن ذلك أيضا قوله تعالى :
﴿ حتى إذا فشلتم وتنازعتم في المر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ﴾ ومعنى النص اذكر أيها النبي الكريم انت وأمتك أثر إفساد المنافقين إذ اتخذتم منهم بطانة، اذكر ذلك إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا، أي إذ حدثت نفسها طائفتان من المؤمنين لا من المنافقين ان تفشلا تضعفا في وقت الشديدة والكريهة، مع ان الله تعالى وليهما وناصرهما، ومن يكون الله معه لا ينهزم إلا إذا خالف أوامر الله وأوامر نبيه وقائده العلى، فذكر ولاية الله تعالى في هذا المقام لسببين :
أحدهما : أن المنافقين استطاعوا ان يؤثروا في المؤمنين ذلك التأثير السيئ مع ان المؤمن يشعر دائما بولاية الله تعالى وعزته، وانه سبحانه وتعالى ينصر من ينصره، وهو القوي العزيز، وان هذا يوجب ان يعمل الهادي والمرشد على ان يصون نفوس المؤمنين من ان يدخل إليها شياطين الإنس من المنافقين والمخادعين.
الثاني : ان ذلك فيه معنى التوبيخ لأولئك الذين تأثرت نفوسهم بأولئك المنافقين لأنه ما كان ينبغي لهم ان يستمعوا إلى دعاية المنافقين، او ان يفتحوا لها بابا تدخل منه إلى قلوبهم، ولكن هكذا البشر تتسرب إلى نفوسهم وسوسة الشيطان من حيث لا يشعرون.
وإن الطائفتين اللتين همتا بالفشل هما بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، وكانا جناحي العسكر يوم أحد، وقد ذكر البخاري عن جابر قال : فينا نزلت :﴿ إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا والله وليهما ﴾. نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب انها لم تنزل لقول الله عز وجل :﴿ والله وليهما ﴾.
﴿ وعل الله فليتوكل المؤمنون ﴾ وإذا كان الله سبحانه وتعالى ولي المؤمنين حتى من يهم ان يضعف متأثرا بحركات المنافقين، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي يتوكل عليه المؤمنون، والمؤمن بوصف كونه مؤمنا لا يعتمد على حليف او نصير، وإنما يعتمد على الله تعالى وحده، فإذا كان المنافقون قد خذلوا المؤمنين في ساعة العسرة فإن الله معهم وناصرهم، ولن يخذلهم ما داموا آخذين بأوامره منتهين عن نواهيه، ولن يتمكنوا منهم في هذه الحال أعداؤهم﴿ والله من ورائهم محيط٢٠ ﴾[ البروج ].
والتوكل الحقيقي لا يستدعي ترك الأسباب، فإنه لا توكل إلا بعد الأخذ بالأسباب، إذ إن حقيقة التوكل الذي طالب الله تعالى به هو انه يأخذ بالأسباب ويستعد، ثم يترك الأمور لله تعالى، فإنه قد يعرض للإنسان ما ليس في حسبانه، فعليه ان يترك تلك المنطقة الغيبية لعلام الغيوب، والدليل على أن التوكل في القرآن والسنة يستدعي اتخاذ الأسباب، أنه يجتمع مع الجهاد والمشاورة، فالله تعالى يقول :﴿ وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله... ١٥٩ ﴾[ آل عمران ].
وفي الآية التي نتكلم في معانيها السامية جاء الأمر بالتوكل بعد ان أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، ويأخذ الأهبة ويستعد، وإذا كان التوكل ترك الأسباب فلم كان الأمر بالعمل والقتال وغيره من التكليفات التي تكون سببا لنتائج شرعية.
وإن ذكر هذا يدل على أمرين : أحدهما : انه لا بد من التفويض إلى الله تعالى مع اخذ الأسباب، والثاني : ان القلة مع نقاء القلوب وتلاقي العزائم يكون معها النصر ؛ لن توحيد الغرض قوة في ذاته تكافئ قوة العتاد والعدة.
وقد يقول قائل : كيف يعبر القرآن الكريم عن المسلمين بأنهم كانوا أذلة قبل بدر، والذلة أمر نفسي، وما كانوا كذلك في أي دور من أدوارهم، فأولئك الضعفاء الذين كانوا يفتنون في دينهم فلا يغيرون هم في عزة نفسية أكثر من مضطهديهم، والله تعالى يقول :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين... ٨ ﴾[ المنافقون ] ويقول في وصف المؤمنين :﴿ غنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون٥٥ ﴾[ المائدة ] ويقول تعالى :﴿ أشداء على الكفار رحماء بينهم... ٢٩ ﴾[ الفتح ] ؟.
والجواب عن ذلك ان الذلة التي وصف بها المؤمنون قبل بدر هي مظاهرها من ضعف العدة، وقلة العدد وقلة المال، حتى غنه لم يكن معهم ظهر، وقد خرجوا للقاء المشركين في بدر، وقد قال الزمخشري في معنى كلمة أذلة :"والأذلة جمع قلة، والذلان جمع الكثرة، وجاء بجمع القلة، ليدل على انهم على ذلتهم كانوا قليلا، وذلتهم انهم خرجوا على النواضح، يعتقب النفر منهم على البعير الواحد، وما كان بينهم إلا فرس واحد، وقلتهم انهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عددهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس والشكة والشوكة ).
فليست الذلة ذلة النفوس غنما هي ظاهر الحال وما كان فيه من ضعف.
﴿ فاتقوا الله لعلكم تشكرون ﴾إذا كان النصر من عنده تعالى، وهو ولي المؤمنين، فعليهم أن يتقوه، والتقوى معناها استشعار هيبته وجبروته وعظمته وقوته، وانه إن أراد بقوم خيرا فلا يستطيع اهل الدنيا ان يمنعوه، وإذا أراد بقوم سوءا فلا يستطيع ان يمنعه من قوة الله تعالى، فلا عزة إلا منه، ولا ذلة إلا في عصيانه، وان التقوى على هذا المعنى توجب الشكر، ولذلك قال بعد الأمر بالتقوى :﴿ لعلكم تشكرون ﴾ أي اتقوا الله تعالى وهابوه، وأقروا بأن الكبرياء له وحده في السموات والأرض، رجاء ان تشكروه بهذه التقوى، والرجاء من العبيد لا من الله تعالى، فهو الغني الحميد، فالتقوى هي في الحقيقة شكر الله تعالى، لأنه سبحانه هو لمنعم وهو المتفضل في كل ما يتعلق بالإنسان من نعم هذا الوجود، وشكره ان تعرف حق ما أسدى، وما تدل عليه النعم من جلال الله وعظمته، فاللهم وفقنا لتقواك، ليتحقق منا شكرك، إنك انت العلي الوهاب.
اختلف المفسرون في هذه الآيات، أهي في غزوة بدر الكبرى التي جعل الله فيها الكلمة العليا للمسلمين، والكلمة السفلى للمشركين، والتي خرجت بالمؤمنين من حال الضعف في الأرض إلى حال القوة فيها ؟ أم هي في غزوة احد التي اختير الله المؤمنين إذ لم يتبعوا امر الله تعالى الذي يتضمن الطاعة للرسول ولولي المر، فبين لهم سبحانه وتعالى نتيجة المخالفة بذلك الاختبار الشديد، قال بعض المفسرين : إن الآية في غزوة بدر الكبرى، لأن الله تعالى يقول قبل هذا الآية مباشرة :﴿ لقد نصركم الله ببدر وانتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ﴾.
فقد ذكر النصر مجملا في هذه الآية فيكون ما بعدها تفصيلا لمجملها، وتكون هذه الآيات الكريمة التي نتكلم في معانيها السامية بيانا لأسباب هذا النصر، وهذا يتفق مع السياق.
وقال أكثر المفسرين : إن هذه الآيات في غزوة احد، فقوله :﴿ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين١٢٤ ﴾[ آل عمران ] في موضع البيان او البدل من قوله تعالى :﴿ إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون١٢٢ ﴾[ آل عمران ].
إن الرواية تؤيد ذلك إذ روى عن كثيرين من التابعين ان إمداد الله بالملائكة كان في بدر بألف، كما قال تعالى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين٩ ﴾ [ الأنفال ]. وقد ذكر الضحاك في قوله تعالى :﴿ ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف ﴾ أن هذا كان موعدا من الله يوم احد، عرضه الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقد روى ان المجاهدين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ينظرون المشركين : أليس الله تعالى يمدنا كما أمدنا يوم بدر، فقال رسول الله﴿ ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ﴾.
ويرجح شيخ المفسرين ابن جرير ان هذه الآية في غزوة احد.
وإنا نختار ذلك الرأي ؛لأن الآيات من بعد ذلك ستتكلم على نتائج غزوة احد في تفصيل بين، وما كانت الإشارة إلى بدر إلا من قبيل التذكير في أثناء القتال أنتجت ذلك القرح الذي أصاب المسلمين في تلك غزوة وهي أحد :﴿ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ﴾.
على الرأي المختار وهو انها في غزوة احد تكون كلمة"إذ" ظرف زمان بدل من"إذ" في قوله تعالى :﴿ إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا والله وليهما ﴾ ففي هذا النص السامي بيان حال الوهن الذي أصاب بعض المؤمنين، وفي هذه الآيات التي نتكلم في معناها، عمل الله ونبيه على علاج هذا الوهن، وهو بالبشرى التي يزفها لهم من تأييد لهم بالملائكة ينزلون إليهم. وإن ذكر عدد الملائكة هنا مناسب لعدد المشركين ؛لأن عدد المشركين كان نحو ثلاثة آلاف أو يزيدون، وعدد المسلمين كان نحو ألف ؛ انخذل منهم نحو ثلثهم قبل القتال، وهم أولئك الذين اتبعوا رأس النفاق عبد الله بن أبي، كما ان عدد الملائكة كان مساويا لعدد المشركين كانوا نحو ألف، وعدد المؤمنين نحو ثلاثمائة، وإن هذا مما يزكي ان الآية التي نتكلم في معانيها السامية نزلت في غزوة أحد.
وقوله تعالى على لسان نبيه :﴿ ألن يكفيكم ان يمدكم ﴾تومئ إلى ان حالا من الخور قد اعترت نفوس بعض المحاربين، إذ إن الاستفهام كان منصبا على ( لن ) التي تفيد النفي المؤكد، والمعنى : امن المؤكد انه لا يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، وهذا فرق ما بين الاستفهام إذا دخل على"لا" والاستفهام إذا دخل على "لن" فالأول استفهام منصب على نفي غير مؤكد، والثاني استفهام منصب على نفي مؤكد، وذلك يدل على خور قد اعترى بعضهم، فكانت الحال في الابتداء عن بعض المحاربين تومئ إلى احتمال هزيمة.
﴿ بلى عن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ﴾"بلى" هنا إجابة لحاجتهم من المعونة الروحية، وفيها معنى الإضراب عن الإمداد الكثير إلى الإمداد الأكثر، والمعنى : يكفيكم ان يمدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة، ونرى من المقابلة بين النصين الكريمين ان النص الأول فيه استنكار للنفي المؤكد ب"لن" من ان ثلاثة آلاف لا يكفي، وفي هذا النص تأكيد بأنه يكفيهم خمسة آلاف، ولكن الكفاية لا تتحقق في ثلاثة آلاف او خمسة آلاف إلا بشرط، وهو الصبر، والتقوى، ولذا قال تعالى :﴿ بلى إن تصبروا ﴾ أي إن تسربلتم سربال الصبر، واستشعرتم تقوى الله، وعلمتم ان النصر من عنده، فإنكم لا محالة منتصرون، وسيمدكم الله بروح منه، أولئك الملائكة الأطهار، وإن الصبر هو قوة الحروب، والصبر يتقاضى ان يضبط المجاهد نفسه فلا ينساق وراء هوى المال، وان يضبط نفسه فلا يفر في لقاء، والتقوى تتقاضى التوكل بعد الأخذ في الأسباب، والاعتماد على القوي القهار الغالب على كل شيء، فبالتقوى والصبر تفيض الروحانيات المؤيدة التي هي مدد الله من الملائكة. ومعنى﴿ ويأتوكم من فورهم ﴾ أي من ساعتهم، والأصل في الفور انه مأخوذ من فوران القدر، ونحوها، ثم استعير للسرعة، ثم صار بمعنى التعقيب وعدم التراخي، ويطلق على كل حال لا تأخير فيها ولا بطء. ومعنى﴿ مسومين ﴾ أي مكلفين او مرسلين.
ومعنى النص الكريم : إن تصبروا وتتقوا ويأتوا من ساعتهم وقد استعددتم له أتم استعدادا، فإن الله- تعالى- ممدكم بخمسة آلاف من الملائكة- يرسلها تأييدا لكم.
ولقد قرر بعض العلماء ان الله أمد المؤمنين في بدر بالملائكة، ولم يمدهم بها في احد، وقد قال في ذلك الطبري : إن الله اخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم انه قال للمؤمنين : ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة، ثم وعدهم بعد الثلاثة آلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم، ولا دلالة في الآية على انهم امتدوا بالثلاثة آلاف، ولا بالخمسة الآلاف ولا على انهم لم يمدوا بهم ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت انهم أمدوا بالثلاثة آلاف، ولا بالخمسة، وغير جائز ان يقال في ذلك إلا بخير تقوم الحجة به، غير ان في القران دلالة على انهم أمدوا يوم بدر بألف، وذلك قوله تعالى :{ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة
مردفين }[ الأنفال ] أما في أحد فالدلالة على انهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا، وذلك انهم لو أمدوا لم يهزموا ونيل منهم ما نيل منهم".
ونحن نوافق شيخ المفسرين في ذلك، ذلك ان شرط الإمداد كان الصبر والتقوى ؛ والصبر أي ضبط النفس لم يكن من الرماة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهر المؤمنين، فلا يتحركوا سواء أكانت الجولة الأولى للمؤمنين ام كانت عليهم.
ولكن ما معنى الإمداد ؟وهل نزل الملائكة إلى الأرض حاملين السيوف مقاتلين في صفوف المؤمنين ؟ لقد ذكر بعض الرواة انهم نزلوا ذلك النزول، ويكون معنى الإمداد هو الإمداد الحسي الذي يرى ويسمع ولكن ليست هذه الرواية هي المشهورة وغن الحق في الموضوع انهم لم يروا مقاتلين، ولا محاربين.
وإذن كيف كان الإمداد ؟ الإمداد مكن مده بمعنى بسطه، ثم أطلق على الزيادة في المال والقوة، ويصح ان يطلق بمعنى الإمداد الروحي، وليس معنى الإمداد الروحي هو تقوية العزيمة فقط، بل معناه ان الله يفيض بأرواح الملائكة المطهرين، فتكون في قلوب المؤمنين تثبتهم وتقويهم، وتطهر نفوسهم، وتجعلها نحو الدين، ثم تفيض هذه الرواح من الملائكة فتثبط المشركين وتخذلهم وتلقى الرعب في قلوبهم، فعمل الملائكة تثبيت المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، ولذا قال تعالى في غزوة بدر الكبرى :﴿ غذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب... ١٢ ﴾[ الأنفال ] وعلى ذلك نحن نميل إلى ان نزول الملائكة نزول روحي، وأرواح الطاهرة المطهرة تحل في قلوب اهل الحق، إذا وجد عندهم الاستعداد لتلقيها، والاستعداد لتلقيها يكون بالتقوى وتخليص النفس من أهوائها، وضبط المشاعر والإحساس، حتى يكون الجو الروحي الذي يمكن ان تنزل فيه تلك الأرواح التي هي نور خلقه الله تعالى، ولذلك كان الشرط في نزول الملائكة، وإمدادهم للمؤمنين، ان يصبر المؤمنون جميعا ويتقوا. ولا يكون في فريق منهم ما يجعل للهوى في قلبه سبيلا فيمنعه من ذلك التلقي الروحي. وإن ذلك هو رأي الطبري فقد ذكر في تفسير قوله تعالى :﴿ فثبتوا الذين آمنوا ﴾ إذ قال( قووا عزائمهم، وصححوا نياتهم، في قتال عدوهم من المشركين، وقيل كان ذلك بمعونتهم إياهم بقتال أعدائهم ) ونرى بهذا انه اعتبر من قال إنهم قاتلوا معهم قوله ضعيف، ولذا عبر عنه بقيل، وقد أنكر أبو بكر الأصم من فقهاء الحنفية قتال الملائكة، وقرر ان ذلك إن كان فهو من أعظم المعجزات ولم يذكر قط انه معجزة، ولن ملكا واحدا يكفي لدك مدائن، فلا تكون ثمة حاجة لعدد من الملائكة ألفا او ثلاثة آلاف او خمسة آلاف، وغنما المراد تقوية القلوب والعزائم.
هذا، وإننا ننتهي من هذا إلى ان الملائكة وهي الرواح المطهرة نزلت، وامتزجت بأرواح أولئك الصديقين الأطهار في يوم بدر، وكان النصر من عند الله تعالى. وان الأرواح الطاهرة من الملائكة قد تلابس أرواح أمثالها، ولا دليل من العقل يمنع وقد قام الدليل من النقل، والله سبحانه وتعالى اعلم.
ولقد يقول قائل : كيف تكون البشرى مع ان النتيجة لم تكن نصرا، والبشرى يكون فيها الفوز ولا فوز هنا، والله سبحانه وتعالى لا يتخلف قوله ولا وعده ؟ ونقول في الجواب عن ذلك : عن تلك البشارة مقرونة بشرطها من جانبهم وهي ان يتقوا ويصبروا، وما صبروا او على الأقل ما صبر الرماة منهم لنهم ما ضبطوا انفسهم، بل خالفوا نهى النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعوا هواهم فكان ما كان، وفوق ذلك فإن البشرى قد تحققت في ان الله تعالى القي في قلوب المشركين الرعب عندما تلاوموا فيما بينهم بعد ان أصابوا من المؤمنين قرحا، وقال قائلهم :"لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكتهم وحدهم وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم" وما زالوا حتى أجمعوا الكرة على المؤمنين ولكن الله تعالى أركسهم وخذلهم، وألقى في قلوبهم الرعب، فرضوا من الغنيمة بالإياب.
﴿ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ﴾ هذا تقوية لمعنى البشرى، ورد على كل الأوهام التي ثارت، وفيها امر لهم بالتفويض لربهم، وأنهم إن كانوا قد أصابتهم جراح لأخطاء ارتكبوها، ومخالفات للطاعة وقعوا فيها، فإن الله تعالى لم يتخل عنهم، ولا نصر إلا من عنده، لأن كل شيء بيده، و قد حرم المشركين من ثمرات ما فعلوا حتى عادوا من غير نصر نالوه، وإنه يعدكم النصر منه متى أخذتم بالأسباب، وتركتم عوامل الخذلان، وقد وصف ذاته الكريمة بأنه عزيز حكيم ؛لأن ذلك هو الذي يناسب المقام، فالله سبحانه عزيز غالب قهار لا يغلب، وهو حكيم ؛ وهو حكيم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد وعد بالنصر، فالنصر آت لا ريب فيه.
الكلام متصل بغزوة احد وما فيها من عبر، فغنه يروى في الصحاح عن انس : ان النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم احد، وشج وجهه الكريم، حتى سال منه الدم الزكي، فقال عليه الصلاة والسلام :"كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم"١ فأنزل الله تعالى :﴿ ليس لك من المر شيء او يتوب عليهم ﴾.
وسواء أكان هذا هو السبب في النزول أم لم يكن، فإن الخبر صحيح في ذاته، والآية الكريمة متصلة بما قبلها، وهو اتصال تفسير وتتميم على بعض التخريجات، او اتصال موضوع على تخريج آخر، إذ إن موضوعها متصل بغزوة احد كالآيات قبلها، والتخريجات يظهران في تفسير قوله تعالى :﴿ او يتوب عليهم ﴾، فإن بعض العلماء يعتبرها معطوفة على قوله تعالى في الآية السابقة :﴿ او يكبتهم ﴾، ويكون قوله تعالى :﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ جملة معترضة ؛ والمعنى على هذا : إن النصر من عند الله العزيز الحكيم يعطيه عباده المؤمنين ليقطع طرفا من الذين كفروا او يكبتهم، بأن يخزيهم ويرد كيدهم في نحورهم، او يتوب عليهم او يعذبهم، ولكن المر في هذا ليس لك، إنما هو لله تعالى، لأنه يتصل بتدبيره سبحانه الكوني، وتقديره الأزلي، وليس لك ان تدبر ما تستطيعه، وتقدر ما يدخل في حسابك، وتنفيذ ما تكلف بتكليفه وقد رجح هذا التخريج الزمخشري، وقال فيه :( المعنى ان الله مالك أمرهم، فإما ان يهلكهم او يهزمهم او يتوب عليهم عن أسلموا، او يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء إنما انت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم ).
هذا هو التخريج الأول في قوله تعالى :﴿ او يتوب عليهم ﴾، وهناك تخريج آخر مؤداه ان الاتصال ليس عطف بين الآيتين، إنما هو اتصال موضوع فقط، وهذه الآية تكون لأمر جديد في الموضع، وهو بيان ان هؤلاء منهم من يفلح فيتوب، ومنهم من يصر على الكفر فيعذب، وتكون نصب( أو يتوب ) على تقدير( أن ) الناصبة، وتكون( أو ) بمعنى( حتى ) والمعنى : ليس لك من أمرهم شيء فيما يتعلق بمستقبلهم حتى يتوب الله عليهم فتفرح بتوبتهم، او حتى ي صروا فيعذبهم فترى آية الله فيهم وصدق وعده لأنبيائه، إذ قد وعد، ووعده حق وصدق.
وقيل عن( او ) هنا بمعنى( إلا )، والمعنى : ليس لك من أمرهم شيء إلا ان يتوب الله عليهم فتفرح، او يعذبهم فيذهب غيظ المؤمنين، والمؤدى واحد سواء كانت( او ) بمعنى"حتى" او"إلا".
وقوله تعالى :﴿ فإنهم ظالمون ﴾تعليل لعذابهم عند إصرارهم، فالسبب في التعذيب بعد هذا الإصرار انهم ظالمون، لأنهم اعتدوا على المؤمنين ففتنوهم عن دينهم الذي ارتضوا، واعتدوا على النبي صلى الله عليه وسلم بإيذائه والسخرية منه، واعتدوا مرة ثالثة بقتال المؤمنين، ومحاولة اقتلاع مدينتهم الطاهرة، واعتدوا على الحقائق فموهوها وزيفوها، واعتدوا على أنفسهم فأظلوها وأفسدوها ؛ اعتدوا كل هذه الأنواع من الاعتداء فكانوا ظالمين ومستحقين للعذاب، وقد أكد سبحانه وتعالى وصفهم بالظلم ب"إن"المؤكدة للحكم، وبالجملة الاسمية، وبوصفهم بالظلم كأنه شأن من شئونهم وطبيعة في نفوسهم، إذ لم تهدهم إلى الحق الحجج الدامغة، ولا الآيات البينة ولا القوة الغالبة.
وسلطانه تعالى في هذا مطلق لا قيد يقيده ؛لأنه الحكم المطلق الذي لا يرد حكمه، والقادر المهيمن القاهر فوق عباده، ولقد قيد الزمخشري الغفران بالتوبة، ويقول في ذلك( عن الحسن البصري ) يغفر لمن يشاء بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين، ويعذب من يشاء ) ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين لعذابه، وعن عطاء( يغفر لمن يتوب إليه، ويعذب من لقبه ظالما.. ) ويشير إلى اختيار ذلك الرأي الذي نقله، ويقرر ان السياق يؤدى إلى هذا، لأن هذا تفسير لقوله تعالى من قبل : أو يتوب عليهم او يعذبهم فإنهم ظالمون، إذ تكون المغفرة عند التوبة والعذاب عند البقاء على الظلم، ويرمي الذي يسوغون الغفران لغير التائبين بأنهم يتصادمون ويتعامون عن آيات الله فيخبطون خبط عشواء !.
والأمر في هذه القضية يرجع إلى ان المعتزلة يقررون ان الذنب لا يغفر إلا بالتوبة، لصدق وعد الله ووعيده وقد وعد المتقين والتائبين بالثواب، وأوعد الظالمين بالعقاب، والله سبحانه وتعالى منجز وعده ووعيده، وأكثر العلماء على ان الله تعالى وصف نفسه بالغفران، وقال :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ٤٨ ﴾[ النساء ] ولقد ذيل سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله :
﴿ والله غفور رحيم ﴾وصف سبحانه وتعالى ذاته العلية بصيغة المبالغة في الغفران، فقال "غفور" أي كثير المغفرة يحبها ويريدها، وهو رحيم، والرحمة أوسع معنى وأشمل من مطلق التجاوز عن الذنب، بل إن الرحمة قد تعم العقاب كما تعم الثواب، فاقتران الرحمة بالغفران يدل على ثلاثة أمور.
أولها : أن الله تعالى لا يكتفي بغفران الذنوب عن العصاة التائبين، بل يثبتهم على ما يفعلون من حسنات، وإن الحسنات عنده سبحانه وتعالى يذهبن السيئات.
ثانيها : أن الغفران من الرحمة، ومادام من الرحمة فلا قيد فسادا يقيده، والله أعلم بمن يكون موضع رحمته، ومكان مثوبته.
ثالثها : ان العذاب للمصر على الذنب الذي يعيث في الأرض فسادا، ويفتن الناس عن دينهم يعد من الرحمة ؛لأن رحمة الله تعالى عامة لا خاصة، ومن الرحمة بالعامة عقاب العصاة المفسدين، وثواب الطائعين الأبرار.
بعد أن أشار سبحانه إلى ان التفرق وعدم الطاعة للرسول كان سببا للهزيمة يوم احد، والتعاون والاتحاد كان أساس القوة والنصر والتأييد من الله تعالى يوم بدر أخذ يبين ان قوة الأمة تكون بالتعاون.
ولقد ذكر القفال-من علماء الشافعية- أن بين هذه الآية الناهية عن أكل الربا أضعافا مضاعفة، وغزوة احد مناسبة ظاهرة، وذلك ان المشركين في غزوة أحد أنفقوا على عساكرهم أموالا كثيرة جمعوها من الربا، ولعل ذلك يدعو بعض المسلمين إلى الإقدام على الربا، حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر ويتمكنوا من الانتقام منهم، فلا جرم نهاهم عن ذلك.
لقد ابتدأ الله سبحانه وتعالى الآية بالنداء بقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين أمنوا ﴾ لبيان ان أكل الربا ليس من شأن أهل الإيمان، وإنما هو من خواص اهل الكفر والعصيان، فإذا كان المشركون يأكلون الربا ويتقوون به، ويكاثرون أهل الإيمان بأموالهم التي اكتسبوها من السحت فليس لأهل الحق ان يجاورهم، بل عليهم ان يحرموه على أنفسهم، ولا يأكلوا إلا حلالا طيبا.
و"الربا" معناه الزيادة، والمراد بها هنا الزيادة على الدين، وهو ربا الجاهلية، ذلك أن الرجل منهم كان يكون له على رجل منهم مال فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول المدين : أخر عني دينك.
ولقد قال عطاء : كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية، فإذا حل الأجل قالوا : نزيدكم وتؤخرون، ولقد قال زيد بن ثابت : إنما كان ربا الجاهلية في التضعيف يكون للرجل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول :"تقضيني أو تزيدني".
وبهذا الأخبار الصحاح تبين أمران أولهما : أن ربا الجاهلية كان أساسه الزيادة في الدين للزيادة في الأجل من غير نظر إلى سبب الدين، وان هذا الربا المنصوص عليه في الآية هو ربا الجاهلية، وهو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، إذ قال :"ألا إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب"١ ويبين بهذا ان المضاعفة هي في الزيادة لا في أصل الدين، فهي التي تتضاعف سنة بعد أخرى، وذلك هو معنى اللفظ في واضح معناه ؛لأن المضاعفة في الآية موضوعها الربا، والربا ليس هو أصل الدين، إنما هو الزيادة عليه، وإن كلمة الربا مرادفة لكلمة الفائدة في لغة الاقتصاديين، فإذا قال قائل : لا تأكلوا الفائدة أضعافا مضاعفة، أفيكون المراد مضاعفة الدين ام مضاعفة الزيادة ؟ وإن ضعف الشيء معناه مثله ومعنى الإضعاف إضافة أمثاله، ومعنى ضاعفها أكثر من الإضعاف سنة بعد أخرى.
وهذا النوع من الربا هو الذي يسمى في لغة الصحابة والفقهاء بالنسيئة، وهو حرام لا شك، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل إنه يكفر من يجحد تحريمه، وقال ابن عباس : لا ربا إلا ربا النسيئة.
ويقابل ربا النسيئة ربا البيوع، وهو المنصوص عليه في حديث :"البر بالبر مثلا بمثل يدا بيد، والذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد، والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى"٢ وقد اتفق العلماء على ان بيع هذه الأصناف لا بد ان يكون بغير زيادة إذا كانت بمثلها كقمح بقمح، ولا بد من قبضتها، وإذا اختلف الجنس كقمح بشعير جاز الزيادة، ولا بد من القبض في المجلس، والتأخير يسمى ربا النساء، والزيادة المحرمة تسمى ربا الفضل، وما يماثل هذه الأصناف يكون لها مثل حرمتها كالأرز، والزيت ونحو ذلك، وقد اختلفوا في تعيين من يماثلها اختلافا طويلا قد دون في كتب الفقه، وأقرب الآراء في نظري هو قول حذاق المالكية :"إن علة التحريم هو الثمينة والطعم معا قبل الادخار ؛لأن نظام المقايضة في هذه الموال يؤدي إلى احتكارها في يد منتجيها، ويريد الإسلام الاتجار فيها بتوسيط النقدين لكيلا يكون تغرير ولا غرر، ولذلك قال بعض الصحابة للنبي صلى اله عليه وسلم : عندي تمر وأريد رطبا، فقال عليه الصلاة والسلام :"بع التمر واشتر الرطب"٣. ولا شك ان ذلك يمكن من ليس عنده تمر ولا رطب من ان يأكل، ولن السعر يكون مضبوطا، وتحريم المقايضة في الذهب والفضة إلا بالمثل لنهما مقاييس لضبط قيم الأموال فلا يصح أن تكون موضع اتجار حتى لا يقيد التقويم.
وربا الجاهلية المنصوص عليه في الآية يحرم كل زيادة قلت او كثرت، أيا كان سبب الدين، إذ يقول سبحانه في آخر البقرة وهي آخر آيات الربا نزولا :﴿ وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون٢٧٩ ﴾[ البقرة ].
وقد ادعى بعض الذين يريدون ان يطوعوا الشريعة لتخضع للنظام الربوي اليهودي القائم- أن ربا القرآن هو ربا الديون الاستهلاكية أي الديون التي تقترضها لغرض : ليأكل او ليسكن أو ليشتري ثيابا، وذلك قول باطل.
لأن تخصيص عموم القرآن لا يكون بالتحكم في عباراته، بل يكون تخصيصه بنصوص، او بقواعد مستمدة من نصوص الدين عامة، ولن العرب لم تكن حياتهم عريضة، ؛لن عيشهم كان ساذجا ولم يكن معقدا، إذ حياتهم تقوم على التمر واللبن وسكنى الأخبية، فلماذا يكون الاقتراض للاستهلاك ؟ !ولن ربا الجاهلية كان حيث التجارة، فقد كان في مكة والمدينة وهما يتجران كما هو ثابت في التاريخ إذ ينقلان بضائع الروم إلى الفرس، وبضائع الفرس إلى الروم عن طريق القوافل في الصحراء، وقد قال الله تعالى :﴿ لإيلاف قريش١ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف٢ ﴾ [ قريش ]، ولأن الدائنين الذين كانوا يرابون في الجاهلية لا يتصور منهم ان يجيئهم محتاج للمال ينفقه في حاجاته الضرورية فيمتنع عن إعطائهم إلا بربا، فهذا العباس الذي كان يسقى الحجيج جميعا نقيع الزبيب والتمر لا يتصور منه ان يجئ إليه محتاج، فلا يعطيه إلا بفائدة، إنما يتصور ان يعطى تاجرا يتجر في ماله ولا يحد له الكسب إلا بزيادة محدودة مستمرة لا بنسبة من الربح ؛ ولن المديني الذين جاءت الأخبار بذكرهم لم يكونوا من الفقراء، بل كانوا من التجار، فبنو المغيرة الذين كانوا مديني لبعض ثقيف هم تجار لا فقراء.
وبهذا يتبين ان تحريم الربا في الإسلام لإيجاد نظام اقتصادي تمنع فيه الأزمات، وقد بينا ذلك من قبل في عدة بحوث ومقالات، ولذا قال سبحانه :﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾.
أي اجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وقاية، فأطيعوه في أوامره ونواهيه، ولا تحاولوا التخلص منها بما تزعمون من أوهام لا أصل لها، فلا تأكلوا الربا، ولا تعينوا عليه، ولا تحرفوا الكلم عن مواضعه لعلكم تفلحون، أي لترجوا ان تنالوا الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة، وهذه إشارة إلى ان تحريم الربا فيه صلاح الدنيا، وان أولئك الذين يزعمون ان المصلحة في إباحته في عصرنا ويتأولون الشريعة ليخضعوها لتلك المدنية الآثمة، واهمون في معنى المصلحة، لأن علماء الاقتصاد يقررون ان نظام الفائدة هو سبب الأزمات، وهو نظام مؤقت حتى يجدوا ما يحل محله، وعندنا نظامنا، وأكثر البلاد الخاضعة للنظام الروسي او آخذة به حرمته، والاشتراكية الوطنية الألمانية قبل الحرب حرمته، ولم يضر مصلحتها شيء، بل حمت مصالح البلاد.
٢ رواه مسلم: المساقاة-الصرف وبيع الذهب بالورق(١٥٨٤)، وأحمد: باقي مسند المكثرين(١١٢٠٨)..
٣ روى الترمذي: البيوع-ما جاء في النهي عن المحاقلة والمز ابنة(١١٤٦)..
هذه الآيات موصولة بالآيات التي قبلها ؛إذ الآيات التي قبلها ختمت بالأمر بطاعة الله ورسوله، فقد قال سبحانه :﴿ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ﴾ وفي هذه الآيات بيان معنى هذه الطاعة المطلوبة التي تؤدى إلى التراحم والتواصل والتواد، ولذلك كانت هناك رواية بالقراءة من غير وصل بالواو﴿ سارعوا ﴾١ بدل﴿ وسارعوا ﴾. وإن رواية القراءة من غير وصل واضحة من حيث النسق في انها تفصيل لمعنى الطاعة المطلوبة، والقراءة المشهورة التي عليها القراء السبعة فيها ما يدل على انها لبيان معنى الطاعة بالمعاني لا بالنسق.
﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ﴾ المسارعة هنا معناها المبادرة و الاتجاه الذي لا تراخي فيه، ومعنى المسارعة إلى مغفرة الله تعالى المبادرة باتخاذ طريقها، بأن يطهر قلبه من المعاصي ونفسه من الأدران، ويتجه إليه سبحانه بقلب سليم قد رخص عنه المعاصي كما رحض الثوب من الأوساخ، ولقد فسر ذو النورين قوله تعالى﴿ إلى مغفرة من ربكم ﴾ بالإخلاص، أي بادروا بالإخلاص وتنقية القلوب إلى مغفرة الله تعالى فإن ذلك هو الطريق المستقيم لطلب رضا الله تعالى، ولقد عظم سبحانه وتعالى شأن المغفرة التي ينبغي طلبها والاتجاه إليها فذكر بأنها تجئ من ربكم الذي خلقكم ونماكم ورعاكم، فهي مغفرة تعلو بعلو مصدرها وهي الأمان والاعتصام.
ويلاحظ ان القرآن يعدى المسارعة في الخير ب"إلى"، والمسارعة في الشر ب"في"، فيقول سبحانه :﴿ يسارعون في الكفر ﴾، ويقول هنا"﴿ وسارعوا إلى مغفرة ﴾ ؛ لأن المسارعة في الكفر تنقل في براثنه فهم في قبته المظلمة التي تحيط بهم يتنقلون بالضلال في أرجائها، وهم في مرتبة واحدة، اما المسارعة إلى الخير، فإنها انتقال من رتبة إلى رتبة، ومن مقام صالح إلى مقام أصلح منه.
﴿ وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ﴾ هذا عطف على مغفرة، وفيها إشارة إلى ان مغفرة الله سبحانه تطلب وحدها ؛ لن فيها طلب رضا الله تعالى، ورضا الله تعالى أكبر غايات المتقين، ولذا قال تعالى في جزاء المتقين :﴿ ورضوان من الله اكبر... ٧٢ ﴾[ التوبة ]. فأكابر المتقين يطلبون رضا الله لذاته لا خفا من ناره ولا طمعا في جناته.
فالمطلوب الأكبر هو المغفرة، والمطلب الذي يليه هو"جنة عرضها السموات والأرض" وهو ما يطلبه الذين دون الصديقين والشهداء، والعرض ضد الطول، وهو أقصر منه في الغالب، والنص لبيان سعة الجنة، لأنها رحمة الله تعالى بعباده الأتقياء، ولذا عبر عن هذه السعة بأوسع ما يدركه الحس، وأوسع ما يعلمه الناس من خلقه سبحانه، وقد يقول قائل : لم ذكر العرض، ولم يذكر الطول، وهو أدل على الانفراج والبسط ؟ والجواب عن ذلك أن ذكر العرض أبلغ في الدلالة، لأنه إذا كان عرضها كعرض السموات والأرض فإنه يذهب العقل في إدراك طولها كل مذهب، ويتصور الكثير من الصور، وذلك كقول الله تعالى :﴿ بطائنها من إستبرق... ٥٤ ﴾[ الرحمن ] فإنه إذا كانت البطانة من الحرير الثمين فكيف يكون ما فوق البطانة مما تراه العين ويسر الناظرين ؟ وقد يقال إن ذكر العرض ذكر للطول فإن تنسيق البيان يوجب المساواة بين طول الجنة وطول السموات والأرض، كما ان عرضها كعرضهما، ويكون ذلك من الإيجاز البليغ.
وقد فسر أبو مسلم الأصفهاني- العرض هنا- بالأشياء القيمية المعروضة للبيع التي جمعها عروض، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :"ليس الغني عن كثرة العرض، ولكن الغني غنى النفس"٢، ويكون المعنى على هذا التفسير ان الجنة في قيمتها وعلوها وسموها ومكانتها تعادل السموات والأرض في قيمتها، فهي الحياة وهي النعيم المقيم الدائم :﴿ أعدت للمتقين ﴾أي هيئت ووضعت للمتقين، وهم الذين جعلوا بينهم وبين الشر وقاية أي جعلوا انفسهم في حصن فلا مدخل للشيطان إليها، ولا سارب له في قلوبهم، وصار ذلك شانا من شئونهم حتى كان وصفا وحالا دائمة مستمرة لهم.
٢ متفق عليه رواه البخاري: الرقاق-الغنى غنى النفس(٥٩٦٥)، ومسلم: الزكاة: ليس الغنى عن كثرة العرض(١٠١٥) عن ابي هريرة رضي الله عنه..
﴿ الذين ينفقون في السراء والضراء ﴾ ومعنى النص السامي انهم ينفقون، ويتجدد إنفاقهم آنا بعد آن، ولذا عبر المضارع ؛ لن التعبير بالمضارع يفيد التجدد المستمر، والتعبير بالماضي يفيد الواقع المنقضى، ومعنى قوله تعالى :﴿ في السراء والضراء ﴾ انهم ينفقون في حال مسرتهم، وحال مساءتهم، وهذا يشمل أحوالا كثيرة، فهم ينفقون في حال الغنى والفقر واليسر والعسر، وكل حال بمقدارها، وفي حال الصحة والمرض، وفي السرور والحزن، وحال عرس او مأتم او حبس، والمغزى في هذا انه لا تشغلهم انفسهم عن حاجة الناس إليهم او إلى أموالهم، ولا تشغلهم همومهم الخاصة عن هموم الناس، والإنفاق منهم ليس لمناسبات تعرض وتزول، ولا لأحوال تجئ ثم تحول، بل هو لطبيعة ثابتة فيهم مستقرة غير مفترقة لا تزايلهم. وقدم الإنفاق على غيره من الصفات، لأنه وصف إيجابي وما عداه سلبي او يتصل به، والإيجابي في أكثر أحواله أشق من السلبي، ولأنه أدل على الإخلاص، ولأنه في صدر الإسلام كان المجتمع أشد احتياجا إليه من غيره، إذ كان الفقر كثيرا، وكانت الحاجة إلى المال في الجهاد أشد ؛إذ كان ذلك ابتداء دولة، ولذلك قرن الأمر بالإنفاق بالنهي عن التعرض للتهلكة، فقال تعالى :﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة... ١٩٥ ﴾[ البقرة ].
﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ﴾ كظم الغيظ ان يمسك على ما في نفسه، فيحملها على الصبر، ولا يظهر أثرا لهذا الغيظ، ولقد قال الراغب الأصفهاني في مفرداته :( الغيظ أشد الغضب وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دمه ). والغيظ بلا شك يدفع إلى الثورة وهي مظاهر الغضب فكظمه إبقاؤه في النفس وعدم ظهور آثاره في القول او في الفعل، وأصل كظم من كظم السقاء إذا ملأه وسد فاه، والكظامة ما يسد به مجرى الماء، وكظم البعير إذا لم يجتر. وإن هذا الوصف ليس فيه منع للألم الذي يحدث من الأذى، بل إنه يدعو إلى جبح جماه الغضب ومنع نفسه من الاسترسال في مجاوبة الشر بمثله، وإن هذا لا ينال إلا بشق الأنفس وقوة الإرادة : ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"١ ولقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أقرب القربات ألا يغضب، واعتبر ان إبعاد المؤمن الغضب عن نفسه إبعاد لغضب الله تعالى عليه، فقد سأله أنس رضي الله عنه عما يبعد غضب الله تعالى، فقال له عليه الصلاة والسلام :"لا تغضب"٢.
وإن غضب المؤمن يجب ان يكون لأجل حقوق الله، وغيظه يجب ان يكون لانتهاك حرمات الله تعالى. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله تعالى"٣.
هذا هو الوصف الثاني من أوصاف المتقين ؛اما الوصف الثالث فهو العفو، وهو ثمرة لكظم الغيظ، وإنه يجب ان يكون معه لن الغيظ الشديد إذا لم يصحبه عفو فغنه يمض القلب، ويفسد النفس، وينهك القوى فلابد ان يقترن بالكظم العفو لمصلحة الشخص ولمصلحة الناس، ولكيلا تتولد الإحن٤، وتتكاثر المحن، وليس العفو هو الستر على الجرائم العامة، فإن الجرائم العامة إذا ظهرت وجب العقاب لأنه تقليم لأظفارها، وقطع لآثارها فلا يصح العفو عن زان يعلن جريمته، ولا عن سارق اعتاد السرقة واستهان بالحرمات، وروع الآمنين، كما لا يصح العفو عن فساق الألسنة، الذين يقذفون الناس، ويرمونهم بالسوء، ويعملون بذلك على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فإن العفو في هذه الأمور استهانة بحرمات الله تعالى، إنما العفو المطلوب هو الذي يكون في أنواع الأذى الشخصي وهي التي ينطبق عليها قول الله تعالى :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين١٩٩ ﴾[ الأعراف ] وقوله تعالى :﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم٣٤ ﴾[ فصلت ]، ولقد ذكرت عائشة في وصف النبي انه كان لا يغضب إلا ان تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لا يقوم لغضبه شيء حتى ينتقم لله٥.
ولقد ختم سبحانه هذه الآية بقوله تعالى :﴿ والله يحب المحسنين ﴾ وهي الصفة الرابعة، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى بهذه الصفة لتوجيه النظر إليها، ولبيان انها أعلى منازل التقوى، وأنها تنال بها محبة الله تعالى، والإحسان معناه الإتقان والإجادة، وهو يطلق في عبارات القرآن الكريم بإطلاقين احدهما ان يراد به الإجادة المطلقة في كل ما يطالب الله تعالى به عباده، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ إنا لا نضيع اجر من أحسن عملا٣٠ ﴾[ الكهف ]، وقوله صلى الله عليه وسلم في إحسان العبادة :"الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"٦. والثاني ان يكون العمل أكثر من المكافأة، فهو لا يكافئ بالعدل بل يزيد، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي... ٩٠ ﴾[ النحل ]، وقوله تعالى :﴿ وأحسن كما أحسن الله إليك... ٧٧ ﴾[ القصص ]، والإحسان بالإطلاق الأول يتعدى بنفسه ويذكر بجواره العمل، والثاني يتعدى ب"إلى"ويذكر بجواره المحسن إليه، وأقرب الإطلاقين في الآية الكريمة هو الثاني، فإنها تومئ إلى ان البر التقى يكظم غيظه، ويعفو عمن ظلمه بل يحسن إليه عن كان للإحسان موضع، وإن الله سبحانه وتعالى امر اهل الفضل بألا يذهب غيظهم بإحسانهم فقد قال تعالى :﴿ ولا يأتل أولوا الفضل منهم والسعة ان يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون ان يغفر الله لكم... ٢٢ ﴾[ النور ] فقد نزلت هذه الآية عندما حلف أبو بكر ألا يعطي بعض قرابته الذين خاضوا في حديث الإفك بالنسبة لعائشة زوج رسول الله وإن هذه الدرجة هي أقصى ما تصل إليه السماحة البشرية، وهي لا تكون إلا لنفس محبة للناس، ولذلك كانت المكافأة هي حب الله تعالى
٢ رواه احمد: مسند المكثرين(٦٣٤٦) عن عبد الله بن عمرو انه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل قال"لا تغضب"..
٣ رواه ابن ماجة: الزهد-الحلم(١٤١٧٩) عن ابن عمر رضي الله عنه..
٤ الإحن: جمع إحنة، وهي الحقد الصحاح..
٥ رواه البخاري: المناقب-صفة النبي صلى الله عليه وسلم(٣٢٣٩)، ومسلم: الفضائل-مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام(٢٣٢٧)..
٦ متفق عليه وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
.
ومعنى قوله تعالى :﴿ ذكروا الله ﴾ أي تذكروا اوامره ونواهيه وتذكروا عظمة الله تعالى وجلاله وقوته، ولذكر الله تعالى مرتبتان( أحدهما ) ذكر اوامره ونواهيه وما اعده للمذنبين وما اعده للمتقين( والثانية )وهي العليا ذكر جلاله وعظمته وعلمه بما تخفي الصدور وهذه لا ينالها إلا الأبرار المقربون.
وإن ذكر الله تعالى لا بد ان يتبعه لا محالة الاستغفار والإنابة، ولذا عقبه سبحانه بقوله :﴿ فاستغفروا لذنوبهم ﴾ فهو ثمرة ملازمة ونتيجة محتمة للذكر.
﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾الكلام موصول بالكلام السابق، وقوله تعالى :﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾فيه بيان إجابة الاستغفار وفيه بيان انه لا مفزع من الله إلا إليه، ولذا يقول الزمخشري في قوله تعالى :﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾"وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة، وغن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وإنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله، وان عدله يوجب المغفرة للتائب لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز، وفيه تطييب لنفوس العباد وتنشيط للتوبة وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط، وغن الذنوب وغن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم". وذلك كلام مستقيم لولا انه اوجب المغفرة حيث التوبة، والله تعالى لا يجب عليه شيء، وإن رحمة الله بعباده مع علمه بطبيعة تكوينهم الذي يتنازعه الخير والشر جعلت المغفرة قريبة، ولذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال :"والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم"١ وشرط الاستغفار المجاب ألا يصر المذنب على ذنبه، ولذا قال تعالى :﴿ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ أي لم يصروا على الفعل الذي فعلوه بأن تكون عندهم النية إلى العودة إليه، وقد فعلوه وهم يعلمون امر الله تعالى فيه ونهيه، ولذلك قال العلماء( لا توبة مع الإصرار ) وإن الاستغفار مع الإصرار ذنب في ذاته وقد قال الحسن البصري( استغفارنا يحتاج إلى استغفار ) وإن من الإصرار على الذنوب ان يعلن التوبة، وللناس عنده مظالم لا يردها، فحقوق العباد لا تقبل التوبة فيها غلا بعد ردها إلى أصحابها، وإن التائب المعترف بذنبه المستكبر له التائب عنه مقرب إلى ربه حتى عن الصوفية يقولون( إن معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت دلا وافتخارا ).
أشار سبحانه في الآيات السابقة إلى غزوة احد وإمداد الله بالملائكة للمؤمنين في الحروب إن صبروا في اللقاء، ولم يختلفوا على قائدهم في المعركة، وجعلوا ما عند الله تعالى الغاية والمرمى، ثم ذكر من بعد ذلك سبحانه ما هو دواء القلوب، وغذاء الإيمان، وهو الطاعة والتعاون، وألا يأكل احد حق أخيه او ماله بالباطل، وان المال الحلال هو قوة الحروب، والمال الحرام كمال الربا سحت، وطلبه من ضعف الإيمان، ويربي خور العزائم إذ عن شهوة المال، والشجاعة وحب الفداء خلال لا تجتمع في قلب رجل واحد، ثم بين سبحانه ان أعظم الذخائر هو تربية النفوس على التقوى وطلب مغفرة الله سبحانه وتعالى.
ولقد جاء بعد ذلك الكلام على اثر غزوة احد في نفوس المؤمنين، وقد نهاهم سبحانه عن الضعف والوهن والحزن، وأمرهم ان يتخذوا من الهزيمة سبيلا للنصر، وإنها سنة الله في خلقه فعليهم ان يخضعوا لها وقروا في ذات انفسهم بها، ولذا قال سبحانه :﴿ قد خلت من قبلكم سنن ﴾.
"خلت" معناها مضت وثبتت وتقررت، والسنن جمع سنة، وهي تطلق بمعنى الطريق المسلوك المعبد، وتطلق بمعنى المثال الذي يتبع، ولقد قيل إنها من قولهم سن الماء إذا صبه صبا متواليا فشبهت العرب به الطريقة المستقيمة المتبعة المستمرة، والمعنى انه قد مضت وتقررت من قبلكم سنن ثابتة ونظم محكمة فيما قدره الله سبحانه وتعالى من نصر وهزيمة، وعزة وذلة، وعقاب في الدنيا وثواب فيها، فالحق يصارع الباطل، وينتصر احدهما على الآخر بما سنه سبحانه من سنة في النصر والهزيمة، من طاعة للقائد، وإحكام في التدبير، وقوة إيمان، واستعداد للفداء، وهكذا ؛ ﴿ وكل شيء عنده بمقدار٨ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال٩ ﴾[ الرعد ].
وإن من سنن الله تعالى الثابتة ألا يمكن من الظلم وان ينتصر اهل الحق إذا عملوا على نصرته، وتضافرت على إقامته ولم ينحرفوا عن طاعته، وان اهل الباطل قد ينتصرون إن اتحدوا واستعدوا، فينالون الظفر لتخاذل اهل الحق وانقسامهم، أو إرادتهم عرض الدنيا، او عدم الصبر على طاعة القائد العظيم كما كان الشأن في احد.
وإن من سنن الله تعالى ان يجعل العاقبة للصابرين الصادقين، فإن أملى للكافرين سنة فإنه سيأخذهم من بعد اخذ عزيز مقتدر، وينصر عليهم اهل الحق، وإنما قدر الله تعالى نصرتهم الوقتية على اهل الحق ليصقل اهل الإيمان، وليهديهم هداية عملية إلى طريق الانتصار، وليميز من بينهم ضعيف الإيمان، ويظهر نفاق اهل النفاق، وبذلك تتبين الصفوة المختارة التي يعتمد عليها، ويذهب الذين مردوا على النفاق بنفاقهم، فلا ينخدع بهم احد، ولا يرجفون بكيدهم في الجماعة، ولقد بين سبحانه لأهل الإيمان عاقبة المكذبين تثبيتا لقلوبهم، وتأييدا لهم فقال جل من قائل :﴿ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾.
أي أنه إذا كانت سنة الله تعالى في خلقه، او العاقبة دائما للمتقين، فسيروا في الأرض، فانظروا الحال التي قد انتهى بها الكاذبون. والتعبير بلفظ( كيف ) الدال على الاستفهام يقصد به التصوير وتوضيح الحال في صورة تدعو إلى العجب وتثير الاستغراب، أي ان عاقبتهم التي انتهوا إليها من تدمير ديارهم، وتعفية آثارهم بعد ان طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، تثير العجب والدهشة لمن ضعف إيمانه، وتلقى بالطمأنينة والصبر والرضا لمن قوي إيمانه.
وفي هذه الآية وأمثالها من الآيات التي تدعو إلى السير في الأرض والبحث لمعرفة أحوال السابقين دعوة إلى أمرين : أحدهما- دراسة تاريخ الأمم بشكل عام، فإن التاريخ كتاب العبر، وسفر المعتبر، وهو رباط الإنسانية التي يربط حاضرها بماضيها.
و الأمر الثاني- دراسة أحوال الأمم من آثارها فإنها اصدق من رواية الرواة وأخبار المخبرين، فقد يكون التاريخ المكتوب أكاذيب، اما الآثار فصادقة لمن يعرف كيف يستنطقها، وغن الملوك وأشباههم يزيفون الأخبار المنقولة، وإنه ليحكى ان احد الملوك كلف كاتبا ان يكتب تاريخ دولته، فسأل بعض أصحاب الكاتب عما يكتب فقال :"أكاذيب ألفقها وأباطيل أنمقها".
.
الوهن : ضعف النفس، وقد يؤدي إلى ضعف الجسم عن العمل، والحزن ألم نفسي يصيب الإنسان عند فقد ما يحب او عدم إدراكه، او عند نزول أمر يهم النفس، ويجعلها في هم دائم، ومعنى النهي عن الوهن والحزن- وهما أمران نفسيان-هو النهي عن الاسترسال في الألم مما أصابهم، والمغزى : لا تسترسلوا في الهم والألم مما كان يوم احد، فإن ذلك يؤدي إلى ضعفكم عن القتال، فليس النهي منصبا على أصل الوهن والحزن، ولكنه منصب على سببهما الذي هو في قدرة المؤمن وهو الاسترسال في الوهن والحزن.
والآية الكريمة تضمنت ذلك النهي، وتضمنت بشارة وتسلية، كما تضمنت فوق ذلك بيان سبب النصر وهو صدق الإيمان.
فأما النهي فقد بينا ما يتجه إليه، وأما البشارة والتسلية، فهي قوله :﴿ وانتم الأعلون ﴾فهي تسلية للنبي وأصحابه من حيث إن فيها بيانا لأنهم أعلى، ومعنى العلو انهم قد كان لهم غلب أكثر مما كان للمشركين، فقتلى المشركين يوم بدر أكثر من قتلى المؤمنين يوم احد، والمؤمنون في احد ذاتها قد كانوا أعلى منزلة من الكفار ؛لأن قتلى المؤمنين في الجنة، وقتلى المشركين في النار ؛ ولأن قتال المؤمنين في سبيل الحق، وقتال المشركين في سبيل الطاغوت، وأي علو للإنسان أكثر من ان يشعر بأنه يقاتل لنصرة الحق، ويغالب في سبيله، فإن الحق في ذاته عزة وعلو، وفوق ذلك في النص بشارة بأن العاقبة للمتقين، وهو العلو في الأرض كما قال تعالى :﴿ ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين٥ ﴾[ القصص ].
وأما سبب النصر فهو صدق إيمان المؤمنين، فغن صدق الإيمان يصفى النفوس من أدرانها ويبعد عنها آثامها، ويجعل القصد هو إعلاء كلمة الحق، فيقدم المؤمن على القتال وهو يعلم انه يفوز بإحدى الحسنيين : الشهادة او النصر وكلتاهما غاية الطلب.
القرح بفتح القاف : الجرح، وبضمها : الألم الذي يترتب عليه، وقال الكسائي والأخفش : اللغتان بمعنى واحد وهو الجرح وأثره، وبهما قرئت الآية١، ولقد جاء في المفردات للأصفهاني( القرح الأثر من الجراحة من شيء يصيبه من الخارج، والقرح أثرها من الداخل، كالبثرة ونحوها ). فالقرح على هذا أثر الجراحات في الظاهر، وبالضم أثرها في الباطن وإذا كان القرح هنا معنويا، فيصح ان نقول : إنه بالفتح ما يعقب المعركة من ألم واضح للهزيمة، وهو بالضم الغم والحزن الذي يستولي على النفوس حتى يكون النصر من جديد، وغن الظاهر هنا ان الفتح أوضح ؛ لأن الله عبر عن أثره بأنه مس فقال :﴿ عن يمسسكم قرح ﴾ والمس إنما يتناول الظاهر فقط.
والقرح الذي أصاب المشركين هو يوم بدر، وما أصاب المسلمين هو يوم احد، وقد قرر الزمخشري انه يجوز ان يكون القرح الذي أصاب المشركين هو يوم احد ؛ لأن المشركين قتل منهم عدد، فكان فيهم مقتلة كما في المسلمين فقد قال الله تعالى :﴿ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم٢ بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في المر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون... ١٥٢ ﴾ [ آل عمران ].
ولكن الظاهر هو الأول، ليتحقق معنى قوله تعالى في بيان سننه إذ قال﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾.
هذه هي الفائدة الأولى التي تستفاد مما أصاب المسلمين يوم أحد، وهذه الفائدة هي ان يروا سنة الله قائمة، فلا نصر يدوم، ولا هزيمة تدوم ؛ لأنه لو دام النصر لكان الغرور، ومع الغرور الطغيان، ووراء ذلك الترف، وإذا أصاب الترف نفوس الشعوب ذهبت نخوتها وضؤلت قوتها كما توقع الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرب عندما يتوالى انتصارهم( والله لتألمن من النوم على الصوف الأذربي( أي صوف أذربيجان ) كما يتألم أحدكم من النوم على حسك السعدان )٣.
والمداولة معناها تبادل النصر، وقد كان ذلك في اول الإسلام مرة واحدة لكيلا يأخذ الترف السابقين من المؤمنين، وفسر الزمخشري مداولة الأيام بتبادل النصر وقال( المراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة. نداولها : نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء )، وأصل كلمة نداول من الدولة، وهو مصدر لدال يدول بمعنى انتقل من حال إلى حال، أو من يد إلى يد، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم... ٧ ﴾[ الحشر ]، أي يتداولون المال فيما بينهم، ولا يصل إلى أيدي الفقراء منه شيء.
والمعنى الجملي : فعلنا ذلك إجراء لسنة من سنن الله التي خلت من قبلكم وهي مقررة في قوله تعالى :﴿ وتلك الأيام نداولها ﴾ ولذا عطف عليه قوله تعالى :﴿ وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء ﴾ :
هاتان فائدتان أخريان لما أصاب المسلمين يوم احد، فأولاهما-تحقق علم الله تعالى وإظهاره المؤمنين الثابتين، والذين ينافقون، فمعنى علم الله تعالى هو تحقق ما قدره في الأزل، فيعلمه الناس، ويعلمه الله تعالى واقعا حاضرا، ولقد ذكر الزمخشري في تفسير علم الله في هذا المقام انه على وجهين : أحدهما ان يراد تمييز قوي الإيمان من ضعيف الإيمان فيتميز الخبيث من الطيب، ويكون هذا من قبيل التمثيل، أي فعل الله تعالى ذلك فعل من يريد ان يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت، والوجه الثاني-أن يكون علم الله الذي ثبت بالواقعة هو علم الجزاء أي يتحقق فيهم جزاء الله تعالى وفي الحق ان المؤدى في الأقوال كلها واحد وهو ان يظهر صادقو الإيمان وينكشف نفاق المنافقين، ويعلن بذاك للناس علم الله تعالى المكنون.
والفائدة الأخرى في الآية هي اتخاذ شهداء- أي وقوع الشهادة في المؤمنين أي قتل المؤمنين الذين يشهد لهم بالجنة ويشهد لهم بالفداء، وإن هذه فائدة ؛لأن هؤلاء يكونون مثلا عليا في الفداء يقتدي بهم غيرهم، ويستهينون بالموت في سبيل إعلاء كلمة الحق، وخفض كلمة الباطل ؛ ولأن هذا يجعل المجاهدين يعلمون ان إعلاء كلمة الحق، وخفض كلمة الباطل ؛ ولأن هذا يجعل المجاهدين يعلمون ان الحرب مع نصر الله غير خالية من الشدائد والاستعداد لها، والإصابة فيها.
﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ إذا كان من هؤلاء الذين تقدموا للقتال من كانوا من اهل الحق، ومنهم من كان من اهل الدنيا، وقد علم الله تعالى الفرقين، فإنه لا شك ان الذين لم يثبتوا على القتال وقد دخلوا، والمنافقين الذين ثبطوا الذين آمنوا حتى همت طائفتان منهم ان تفشلا-ظالمون، وإذا كانوا ظالمين، فمن نتائج المعركة ان يتميزوا وان يعلموا انهم ليسوا من اهل الله ؛ لأنهم فقدوا محبته، وفي هذا إذا إن هذا كان سبب الهزيمة، والله لا يحب الظالمين، ولا يحب أفعالهم، ولذلك قدر الهزيمة مع هذا الفعل، فعلى القائد ان يختار جنده من الصفوة دون غيرهم، وبهذا يكون ذلك النص فائدة رابعة.
٢ تحسونهم: تقتلونه..
٣ حسك السعدان: نبات شوكي وهو من أفضل مرعى الإبل، وفي المثل: مرعى ولا كالسعدان. الصحاح. سعد..
والفائدة الأخرى قررها الله سبحانه وتعالى بقوله :﴿ ويمحق الكافرين ﴾أي ينقصهم، إذ المحق معناه النقصان، ومنه المحاق لآخر الشهر ؛ لأن الهلال يبلغ أقصى مدى النقصان فيختفي، والمعنى ان هذه الإصابة التي ترتب عليها تخليص المؤمنين من الشوائب يترتب عليها ان يختفي علم الكفر فلا يظهر، وتنقص قوتهم فلا ينتصرون من بعد ؛ لن العزائم قد تحفزت حذرة لمنازلتهم، فكانت الهزيمة سبيلا للنصر، وكان الجرح سبيلا لإعلاء كلمة الله تعالى.
هذه عبرة ساقها العزيز القدير لهزيمة المؤمنين يوم أحد، وقد نبه سبحانه إلى طريق الاستفادة من الهزيمة، بان نخلص أنفسنا من شوائبها، ونمحص جماعتنا، فهل لنا ان نستفيد من ذلك ؟ ! إن الله تعالى يداول بين الناس وقد دالت علينا الأزمان بما فعلنا وبما ظلمنا أنفسنا وباستخذائنا وضعفنا، وقد بدت البشائر بأن الدولة أوشكت ان تعود إلينا، اللهم أجعلنا ننتفع بمواعظ القرآن، وهداية الرسول صلى الله عليه وسلم :﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا او أخطانا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين٢٨٦ ﴾[ البقرة ].
هذه الآية موصولة بما قبلها ؛ لأن موضوعهما واحد، إذ الكلام في أثره غزوة احد في نفوس المؤمنين، ومداواة العزيز الحكيم لهذه النفوس بالعبر يسوقها، وسننه تعالى يبينها، وآياته في الآفاق والنفس يكشفها، وقد بين سبحانه وتعالى في الآية السابقة مداولة الله سبحانه في الأمم بالنصر والهزيمة، وان العاقبة للمتقين، وفي هذه الآيات يبين ان الجماعات تصقل بالمحن، والمجاهدين يتميزون عند وجود الشدائد، وانه لا تخلص النفوس وتطهر إلا بالاختبار الشديد، ولذا قال تعالى :
﴿ أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾"ام" هنا إما ان تكون للإضراب، ويكون المعنى : بل حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، والإضراب هنا معناه الانتقال من طريق للبيان إلى طريق آخر، ففي الأول بين العبر والسنن بطريق التقرير، وفي هذه الآية يبين سنة أخرى بطريق الاستفهام الإنكاري، وفيه فضل تنبيه وفضل تقرير، والمعنى : أن سنة الله تعالى في نعيمه انه لا يستحقه على كماله إلا من بذل المهجة في حياته، وصبر في السراء والضراء، وهذا كقوله تعالى :﴿ ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله... ٢١٤ ﴾[ البقرة ]. وكقوله تعالى :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون٢ ﴾ [ العنكبوت ].
ويصح ان تكون"أم" هنا للمعادلة، أي تكون متصلة لا منقطعة، ويكون المعنى على هذا : أعلمتم ان لله تعالى سننا في خلقه وانه يداول النصر بين الناس، وان الحرب لا تخلو من فرح ونكاية، ام حسبتم وظننتم أنكم تدخلون الجنة من غير ان يصيبكم الجرح، وتدموا١ في الحروب، ويكون منكم شهداء.
وقوله تعالى :﴿ لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾.
والمراد من العلم فيها المعلوم، أي ولما يستبين لكم أمركم، ويظهر لكم جهاد المجاهدين وصبر الصابرين، فالمعنى ظهور علم الله الواقع فيكم وبيانه لكم، وذلك لن الله يعلم الأمور قبل وقوعها، فلا يتصور ان يكون غير عالم حتى تقع، بل المراد وقوع ما علمه الله تعالى وظهوره وكشفه وإعلانه محسا واقعا، بعد ان كان خفيا لا يعلمه إلا علام الغيوب، وقد تكلموا في الحكمة في أن الله تعالى عبر في نفي المعلوم الواقع بنفي العلم الثابت، فقال :﴿ ولما يعلم الله ﴾ ولم يقل : ولما يقع معلوم الله، ونقول : إن حكمة ذلك هو تعليمنا بألا نحكم إلا بما يظهر ويقوم عليه الدليل المحسوس، ولا يحكم احد بما يتوقع، فالله العليم بكل شيء يرشد إلى انه يترك الحكم في الأمر حتى يقع ما حكم به محسوسا ملموسا.
وقد نفى الله تعالى"العلم"بكلمة"ولما" وهي في معنى لم، بيد انها تمتاز عنها بأنها تنفى الأمر في الماضي والحاضر، وتومئ إلى وقوعه في المستقبل، ففي الآية إيماء إلى ان المعلوم وهو المجاهدون، لم يكونوا معلومين قبل الاختبار، وكانوا بعد الاختبار، وظهرت تلك الصفة فيهم.﴿ ويعلم الصابرين ﴾.
أي ويقع المعلوم الثاني الذي قدره الله تعالى، وهو ان يتميز الصابرون من غيرهم، فالابتلاء الشديد اظهر نوعين من الرجال : أولهما-المجاهدون الذين يجالدون ولا يفرون ولا يولون الأدبار، ولا يذهب ببأسهم قوة عدوهم، وفشل فريق من إخوانهم. والفريق الثاني الذي أظهره هم الذين صبروا ولم تذهب قلوبهم شعاعا، ولم يذهب تفكيرهم، ولم يضع رشدهم، ولم تطش أحلامهم، وقد يقول قائل : إن الجهاد يتضمن الصبر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إنما الصبر عند الصدمة الأولى"٢، وغن الصبر عدة الجهاد الأولى، فلماذا خص الصابرون بالذكر، وخص الصبر بالتنويه، ونقول في الإجابة عن هذا السؤال : إن الصبر ولو انه عدة الجهاد يفرد بمعنى آخر غير الجلد والبر تحت حر القتال وفي بريق السيوف، فإن الصبر يتضمن ثبات الفكرة واطمئنان القلب إلى الحقائق المقررة، وعدم طيش الأحلام، فإن الأخبار التي تثبط العزائم في الحروب إذا كانت كاذبة قد يصدقها المجاهد، ولكن شجاعته تدفعه إلى مواصلة القتال، وعدم التأثر، والصابر المطمئن النفس يمحص الأخبار في وسط الاضطراب النفسي، فإذا أشيع في ميدان القتال ان القائد قد قتل، كان الأبرار من الجند فريقين : احدهما-المجاهدون الشجعان الذين يستمرون على القتال، ولو كان الخبر صادقا، ويندفعون في الميدان. والفريق الثاني المجاهدون الذين نالوا حظ الأولين وكان لهم مع ذلك قدرة على التأمل أصادق الخبر أم كاذب، وإذا كان صادقا حثوا غيرهم على الاستمرار وبينوا لهم ان الواجب صار أشد وأقوى وألزم، فهذا فريق الصابرين، وإن هذا النوع من اصبر هو أعلى أنواع الصبر ؛لأنه ثبات الجنان، وتحمل التبعات بأبلغ أحوالها وأشد صورها، فهو صبر في جهاد الفكر، وجهاد النفس، وتحمل عبء الجاهلين الأغرار، وتولى إرشادهم وتوجيههم.
والنص يفيد أن الطريق إلى الجنة ليس سهلا يسلكه كل إنسان، إنما هو محفوف بالمكاره والشدائد، ولا يصل إلى غايته إلا الذين جاهدوا وصبروا وصابروا، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :"حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"٣ وذلك لأن المعاصي أسبابها اندفاع الشهوات الإنسانية، وانطلق الغرائز المنحرفة، فليس فيها جهاد بأي نوع من أنواعه، بل فيها تلذذ وانحراف، وأما الجنة فسبيلها جهاد للنفس ومغالبة للهوى، ومنازلة بين الحق والباطل، وتكليفات يجب القيام بها، وكل هذه مشاق يحتاج احتمالها إلى جهد في دائرة الطاقة، و﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها... ﴾٢٨٦ }[ البقرة ].
٢ سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن انس بن مالك رضي الله عنه..
٣ رواه مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها(٢٨٢٣)، والترمذي: صفة الجنة(٢٤٨٢)، وأحمد: باقي مسند المكثرين(١٢١٠١)، والدارمي: حفت الجنة بالمكاره(٢٧٢٠) عن انس رضي الله عنه.
.
كان المؤمنون يتمنون الموت حقا وصدقا، وصدق الله العظيم، ذلك انهم كانوا يتشوقون للشهادة ويريدونها ويطلبون أسبابها، وفي غزوة احد بالذات ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم رأى في الخروج من المدينة، ولكن شباب المجاهدين أرادوا اللقاء خارجها، فنزل عليه الصلاة والسلام على حكم الشورى وقادهم، وما كانوا يريدون عرضا من أعراض الدنيا، ولا غاية لهم إلا ان تنالوا إحدى الحسنيين الظفر او الشهادة، وفي كلتيهما إعلاء كلمة الحق، وخفض كلمة الباطل.
ومعنى تمنى الموت : تمنى لقاء سببه وهو الحرب، وكان الله سبحانه وتعالى ينبههم إلى انهم بتمنيهم لقاء العداء في الميدان يجب ان يفرضوا ان الموت ينالهم كما ان الحياة العليا قد ينالونها، فكان عليهم ان يتوقعوا الموت عند تمني اللقاء، وان يعلموا ان تمنيهم للقاء هو في ذاته تمن للموت، وان تمني الموت هو سبيل النصر وطريق الظفر، فإن الشجاع هو الذي يدخل الميدان طالبا الشهادة، فإنه لا يموت إلا إذا قتل عددا، ولقد وصف فارس الإسلام علي رضي الله عنه بأنه كان إذا تقدم إلى الميدان لا يدري أيقع على الموت ام يقع الموت عليه، فكان يقع رضي الله عنه على الموت يصيب به أعداء الله وأعداءه.
ولقد أورد الزمخشري في الكشاف اعتراضا خلاصته : كيف يتمنى المؤمنون الموت، وفي الموت غلبة ونصرة للأعداء فكأنهم يتمنون ذلك النصر لأعدائهم، وقد أجاب عن ذلك بأنهم يتمنون فضل الشهادة من غير نظر إلى ما يجره ذلك على العداء من ظفر، ونحن نجيب جوابا آخر، وهو ان تمنى الموت هو تمنى الحرب في سبيل نصرة الله، ومن دخل الحرب متمنيا الموت فإنه لا يترتب على قتله نصر للأعداء بل يترتب عليه هزيمة لهم، كما أشرنا قريبا، وقد كان السبيل الحق إلى النصر أن يدخلوا المجاهدون غير حريصين على حياتهم، إنما يحرصون على النصر، ولو كان يموت آحاد منهم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان كل واحد لا يحرص على الحياة، ولكن يطلب الموت، وإن طلب الموت يؤدي إلى الحياة، كما قال الصديق( طلب الموت توهب لك الحياة، وفر من الشرف يتبعك الشرف )، وإن الحرص على الحياة يؤدي إلى الجبن، والجبن يؤدي إلى الهزيمة، وإن المجاهد الذي يستحق شرف هذا الإسم يتقدم مريدا عزه الحق، وقابلا الموت، بل يتمناه ليكون شهيدا، وإذا وقع يكون امرا قد توقعه، ومن بقي من بعد عليهم ان يجددوا العزيمة، ويعيدوا الكرة عليهم، ولذا عتب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين إذ أصابهم الغم عندما اشتدت شديدة الحرب عليهم فأصابهم ما أصابهم بل أمرهم ان يثبوا مرة أخرى، وإذا كانوا قد تمنوا الموت، فقد وقع لبعض منهم ما تمنوا، ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ فقد رأيتموه وانتم تنظرون ﴾.
الفاء هنا للإفصاح، فهي تفصح عن شرط مقدر دل عليه صدر الكلام، ومعناه : إذا كنتم تمنيتم الموت فقد رأيتموه رأي العين وشاهدتموه، فوقع ما توقعتم، وقوله تعالى :﴿ وانتم تنظرون ﴾تأكيد لحال الرؤية او تصوير لرؤيتهم ؛لن الجملة حالية والتعبير بالمضارع يفيد التصوير، وإحضار الصورة الواقعة في الماضي كأنها واقعة في الحاضر، فيستحضرها العقل كما وقعت، وكما ظهرت في الوجود، والنظر الذي قرره سبحانه بقوله تعالى :﴿ وانتم تنظرون ﴾يتضمن النظر إلى الموقعة كلها، وكيف كان الانتصار في ابتداء المر عند الطاعة، ثم كيف كان الانهزام عند المخالفة إرادة عرض الدنيا من بعضهم كما قال تعالى :﴿ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة... ١٥٢ ﴾[ آل عمران ].
ويتضمن النظر بعد وقوع الانهزام كيف تفرقت الإرادات، وقد كانت إرادة واحدة، وكيف تضعضعت بعض اهمم، وكيف كثرت الظنون، وكيف أصابكم الغم، ولم تفكروا في إعادة الوثبة، ولذلك كان قوله تعالى :﴿ وانتم تنظرون ﴾ متضمنا تأكيد الرؤية ومصورا لها، ومتضمنا مع ذلك العتب او اللوم ؛ لن حالهم لم تكن متفقة مع ما كانوا يتوقعونه من قبل، إذ إن حالهم من بعد انتهاء الموقعة تفيد انهم كانوا يريدون النصر رخاء سهلا من غير عقبة تحول يجب تذليلها، ومن غير شدة عنيفة يجب الصبر عليها.
تقرير لحقيقة ثابتة وأمر واقع، وهو ان محمدا بشر من البشر، وانه يموت كما يموت سائر البشر، وقد قرر هذه الحقيقة ومعها دليلها، وذلك ببيان حقيقتين كل واحدة منهما تصلح مقدمة في دليل لإثبات انه ميت لا محالة كما قال تعالى :﴿ إنك ميت وإنهم ميتون٣٠ ﴾ [ الزمر ].
الحقيقة الأولى او المقدمة الأولى : ان محمدا صلى الله عليه وسلم رسول فقط فليس أكبر من رسول، ولذا قال تعالى :﴿ وما محمد إلا رسول ﴾ أي ليس له صفة تميزه على الناس إلا الرسالة، والحقيقة الثانية : أن الرسالة لا تقضي البقاء، فقد مضى رسل من قبله وماتوا، وقد قررها سبحانه بقوله :﴿ قد خلت من قبله الرسل ﴾.
ومن مجموع الحقيقتين يثبت ان محمدا سيموت ؛ لأنه إذا كان ليس إلا رسولا، والرسل من قبله قد ماتوا، فهو سيموت لا محالة.
وإذا كان محمد سيموت لا محالة فإن رسالته من بعده، ولا يصح ان ينقلب المؤمنون من بعده، بل عليهم ان يحملوا العبء من بعده، وقد بلغ رسالات ربه، وأتم بيان دينه، ولذا وبخ المؤمنون على ما كان منهم يوم احد إذ ذاع في وسطهم ان محمدا قد قتل، فقال تعالى :﴿ أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾.
الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أو للإفصاح عن شرط مقدر، والاستفهام للتوبيخ، والمعنى : أإذا مات وقد علمتم ان موته حق لا ريب فيه، أو قتل في الميدان والقتل طريق من طرق الموت، انقلبتم على أعقابكم، أي عدتم كفارا بعد ان آمنتم، وعباد أوثان بعد ان صرتم من اهل التوحيد، وضلالا بعد ان اهتديتم، والتعبير عن ذلك بقوله تعالى :﴿ انقلبتم على أعقابكم ﴾ تصوير سام لمن ضل بعد ان اهتدى، فهو تصوير لمن يرجع إلى الوراء وبصره إلى الأمام، وأعقابه هي التي تقوده، وهو منكس جعل رأسه في أسفل وعقبه في أعلى، وذلك أقبح منظر يكون للإنسان.
ولكن هل وقع ذلك الضلال أو كان ما يدل على احتمال وقوعه. يروى في ذلك ان عبد الله بن قمئة الحارثي أقبل يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فتصدى له مصعب بن عمير حامل راية المؤمنين فقتله المشرك، وظن انه الرسول فأذاع ذلك في المشركين، وانتقل الخبر إلى بعض المؤمنين، إذ قد اختلط الحابل بالنابل، فريعت قلوب بعض المسلمين وولوا مدبرين، وانطلق المنافقون يقولون : لو كان نبيا ما قتل، وثبت المؤمنون الصادقون، وقد مر انس بن النضر، ووجد قوما خارت عزائمهم فقال لهم : يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد حي لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه.. اللهم اعذر إليك مما يقول هؤلاء، وابرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وقد مر بعض المهاجرين بانصارى يتشحط١ في دمه، فقال له : أشعرت ان محمدا قد قتل، فقال : إن كان قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا على دينكم، ولقد أصيب أفلا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به.
وبهذا يتبين ان المحاربين كانوا فريقين : أحدهما رعب واضطراب، والثاني ثبت وجاهد، ولقد ذكر الله حال الفريقين، ومقام كل واحد من الحق ودعوته فقال تعالت كلماته في الفريق الأول :﴿ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ﴾.
أي ومن ينقلب على عقبيه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلن يضر دين الله تعالى في شيء، ولن دين الله تعالى بعد ان بلغ النبي رسالة ربه، وأكمل البيان لهذا الدين، قد ظهر وصار حقيقة ثابتة في الوجود، فلا عبرة بمن يخرج، كما قال تعالى :﴿ من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين... ٥٤ ﴾[ المائدة ].
وفي هذا تنبيه إلى ثلاثة أمور :
أولها : أن من يجاهد عليه ان يجاهد لحقيقة من الحقائق الثابتة الخالدة التي لا تفنى ولا تنتهي، ولا يقاتل لجل الأشخاص الذين ينتهون ويفنون، فالمعاني خالدة، والأشخاص ميتون.
الثانية : أن من يفسد قلبه فيرتد بعد إيمان ويكفر بعد يقين، لا يضر دين الله بل يضر نفسه ؛لن الضال المضل يضر نفسه قبل أن يضر غيره.
ثالثها : إخبار الله تعالى بأن هذا الدين خالد ثابت باق إلى يوم القيامة ؛لأنه سبحانه قد قرر انه لا يضره من يخرج عنه او يمرق عن أحكامه، او يتركها مستهينا، فإن للإسلام ربا يحميه، ورجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
ثم بين سبحانه من بعد ذلك جزاء الصابرين الذين لم يرعبوا ولم يضطربوا، فقال سبحانه :﴿ وسيجزي الله الشاكرين ﴾.
أي وسيجزي الله سبحانه وتعالى الذين صبروا في هذه الشديدة وشكروا الله تعالى في السراء والضراء، فلم يزعجهم البلاء كما لم تبطرهم النعماء، فصفة الشكر كصفة الصبر كلتاهما تظهر في السراء والضراء معا، فالصبر يكون في النعمة بالقيام بحقها، وفي الكريهة باحتمالها، من غير تململ وتضجر.
وقد يقول قائل : لماذا عبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين، والصبر هنا هو الأظهر، فنقول : إن الشكر في هذا المقام هو أعلى درجات الصبر، وذلك انهم لم يحتملوا البلاء فقط، بل تجاوزوا حد الصبر إلى حد الشكر على هذه الشديدة، فالشكر هنا صبر وزيادة، وقليل من يكون على هذه الشاكلة، ولذا قال تعالى :﴿ وقليل من عبادي الشكور١٣ ﴾[ سبأ ].
وإنا نضرع إلى الله تعالى ان يجعلنا من الصابرين في البلاء، الشاكرين في الضراء والسراء معا، إنك سميع الدعاء.
الكلام في هذه الآيات موصول بالآيات قبلها، ففي الآيات السابقة أشار سبحانه إلى اضطراب بعض المؤمنين عندما بلغهم كذبا ان النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فضعفت نفوس، ووهنت قلوب، واضطربت عقول، فبين الله سبحانه وتعالى أن محمدا رسول من البشر، وانه يموت كما يموت سائر البشر، وان له أجلا ملموسا، وان الدعوة الإسلامية كاملة ما دام النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغها وأتم تبليغها، وبهذا أتم ما عهد إليه، فإذا مات حمل هذه الأمانة من بعده ونقلوها إلى الخلاف، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى ان النفوس جميعها بيد الله، وانه سبحانه قد جعل لكل أجل كتابا.
﴿ وما كان لنفس ان تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ﴾ والمعنى ما تحقق وما ثبت أنفس ان تموت إلا بإذن الله تعالى، وقد كتب لها كتابا مؤجلا، ومعنى الإذن هنا يتضمن ان لله تعالى الإرادة المطلقة في قبض النفوس وإرسالها، فهي لا تموت إلا بمشيئته، ولا تحيا إلا بإرادته، وقد عبر سبحانه وتعالى عن الإرادة بالإذن، وذلك للإشارة إلى انه إذا كان القتل في الحروب سببا للموت، فإنه ما دام لم يجئ الإذن الذي يعلن مشيئة الله تعالى قتلها، فهذا النص الكريم يؤكد معنيين : أحدهما : ان الموت بالإرادة الأزلية، وبالمشيئة الإلهية، فما لم يأذن فلا موت. والثاني : ان القتال مهما يكن شديدا فلن تموت نفس لم يكتب الله تعالى لها الموت، وهناك إشارات في الآية كثيرة : منها ان الموت لا يحتاج بالنسبة لله تعالى إلى أسباب، فليس إلا ان يأذن بقبض الروح فيكون الموت من غير أي مجهود يبذل، ومنها تحريض المؤمنين على الجهاد، وتشجيعهم على لقاء العداء، فإن الحذر والحرص على الحياة لا يمنعان ما قدر الله تعالى، فإذا كان قد أذن للنفوس ان تلقى ربها فلا مانع يمنعها، ولا دافع يدفع عنها أسباب المنايا، ومنها الإشارة إلى حفظ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد تربص به الأعداء، وأحاطوا به من كل جانب، وصار قريبا من نهزة المختلس، ولكن الله تعالى أحاطه بكلاءته وعنايته، ومنها بيان ان الله سبحانه وتعالى قابض نبيه صلى الله عليه وسلم مهما يطل الأمد او يقصر.
وقوله تعالى :﴿ كتابا مؤجلا ﴾مفعول مطلق لفعل محذوف معناه : كتب كتابا مؤجلا، أي له اجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، وهو آت لا محالة.
﴿ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ﴾ وإذا كان الأجل مكتوبا، فإن ذلك لا يمنع ان العمل مكسوب، فعلى كل ان يعمل، وكل ميسر لما خلق له، وكل يكون جزاؤه في الدنيا والآخرة، فمن يرد ثواب الدنيا أي جزاءها والنتائج المطلوبة فيها، ويسلك السبيل القاصد الذي يوصل إلى الغاية، وينتهي إلى النهاية، ويمكنه الله تعالى من الأسباب، ويسهل له الحصول على النتائج، ومن كان يريد الآخرة ويقصد وجه الله تعالى في كل ما يعمل، ويقصد إلى الدنيا لا لذاتها، بل على انها مزرعة الآخرة، فإن الله تعالى يؤتيه من ثواب الآخرة ما ادخره لعباده المتقين، وهذا كقوله تعالى :﴿ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة... ١٥٢ ﴾[ آل عمران ]. وكقوله تعالى :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب٢٠ ﴾[ الشورى ].
فالنص الكريم يثبت ان الدنيا لها وسائل، والنجاح فيها أسباب توصل إلى النتائج، والآخرة لها أسباب وذرائع، وعلى ذلك لا يكون النجاح في شئون الدنيا دليلا على القرب من الله تعالى، ولا الفشل فيها دليلا على البعد عن الله تعالى، ذلك قول الفجار، الذين يتخذون من سطوة الكفار مع كفرهم دليلا على انهم أقرب إلى الله من المؤمنين، ويغفلون عن قول الله تعالى :﴿ ولولا ان يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون٣٣ ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون٣٤ وزخرفا وغن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين٣٥ ﴾[ الزخرف ].
وفي النص الكريم إشارات بينات، فهو يشير إلى الذين اتبعوا الغنائم وتركوا طاعة الرسول يوم احد بأنهم أرادوا الدنيا، ولكن لم يسلكوا مسالكها، ويشير إلى الذي يقاتلون طلبا للغنائم، وأنهم لا ينالونها إلا إذا استقاموا على مناهج القتال الصحيحة، ويشير إلى فضل الذين صبروا ويصبرون في الحرب، ويطلبون بها وجه الله تعالى لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، ويشير إلى ان القتال يجب ان يقصد به وجه الله تعالى، لعمارة الأرض ومنع الفساد فيها، ثم يبين سبحانه ان أولئك هم الذين ينالون الثواب، ولذا قال تعالى :
﴿ وسنجزي الشاكرين ﴾شكر النعمة القيام بحقها، وأداء ما ينعم الله تعالى به من نعم في مواضعه، فإذا أعطى فشكر العطاء بإنفاقه في مواضع الإنفاق، وإذا منح القوة فشكرها ان يجعلها لنصرة الحق وخفض الباطل، وإذا اعطى نعمة الحكمة والفكر السليم، فيكون الشكر بتسخير ذلك لنفع العباد، وهدى الناس، وإرشادهم إلى طرق البحث وتذليل الأرض لهم، وان يكون ما ينتجه للعمارة لا للخراب.
وهنا نجد النص لم يبين الجزاء، ولم يبين من الذين يتصفون بالشكر من طلاب الدنيا او طلاب الآخرة، وقد ترك الجزاء من غير بيان ليعم الجزاء الدنيوي، والجزاء الأخروي، فمن طلبوا الدنيا واتخذوا أسبابها، ونصروا الضعيف، وخذلوا القوي، وعمروا الأرض ولم يفسدوها، ولم يطرحوا ما عند الله تعالى بل طلبوه، كانوا من الشاكرين. واستحقوا الجزاءين : جزاء الدنيا بأن يصلوا إلى النتائج التي قصدوها، وهي العلو في الأرض من غير طغيان، والجزاء في الآخرة عند تجلي الرحمن.
ولم يبين سبحانه من هم الشاكرون ؟أهم طلاب الدنيا ام طلاب الآخرة، وذلك لأن المطلبين ليسا متضادين، بل غنهما يتلاقيان، وغنه عند التحقيق لا يعد طالب الدنيا سالكا طريقها إلا إذا طلب الآخرة فيها، وأذعن لقدرة الخالق في طلب الحياة الدنيا، فكل شيء عنده بمقدار، فمن اعتمد على الأسباب الدنيوية وحدها من غير تفويض الله معها فإنه يعاند قدرة الله، ولا ينجح له تدبير، ولا ينتهي إلى غاية في تفكير، ﴿ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير١٨ ﴾[ الأنعام ].
ولذلك كان الشكر مشتركا عند طلاب الدنيا إن طلبوها على وجهها وطلاب الآخرة، وإنه عند التحقيق أيضا طلب الآخرة لا ينقطع تماما عن طلب الدنيا، فإن الزهد في الإسلام طلب الحلال وليس إعراضا عن الدنيا، وإن من يحتطب لقوت أهله اعبد ممن ينقطع في صومعة للعبادة، ولذلك ورد في بعض الآثار"رهبانية أمتي في الجهاد"١.
كلمة﴿ وكأين ﴾ بمعنى كم الخبرية الدالة على الكثرة، أي كثيرون من الأنبياء قاتل معهم ربيون كثيرون، وهناك قراءة و"كائن"١، وهي لغة جائزة في كأين، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله :
كأين من عدو بعزنا وكائن أجرنا من ضعيف وخائف
والربيون هم المؤمنون الصادقون الإيمان الذين يقاتلون ابتغاء ما عند الرب، فهم منسوبون للرب سبحانه وتعالى لخلوصهم له، واتجاه قلوبهم إليه وحده، وقال الزمخشري : غنها نسبة غير فيها النسب، وقد قرئ بفتح الراء وضنها وكسرها، ولذا قال الزمخشري :"والربيون هم الربانيون، وقرئ بالحركات الثلاث، فالفتح على القياس والضم والكسر من تغييرات النسب".
والمعنى كثيرون من الأنبياء قاتل معهم مؤمنون صادقو الإيمان وكانوا يصابون، والقتال يتعاور فيه المقاتلون الجروح والدماء، فليس القتال ريحا رخاء سهلا، بل هو عاصفة وملحمة بشرية يدال بين المقاتلين في الميدان، فكانوا بهذه الجراح راضين صابرين لم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا ويذلوا، وهذا الكلام للاعتبار بحال الماضين الذين قاتلوا من قبل مع الأنبياء، ما ضعفوا عندما أصابهم القرح، فكذلك انتم ما كان يليق ان تضعفوا إذا اخطاتم فجرحتم يوم احد.
وقد فهم بعض العلماء ان المراد ان بعض الأنبياء قتل في الميدان فما وهن جيشه بقتله ولا ضعف، فما كان يسوغ لهم ان يضطربوا ذلك الاضطراب يوم أحد.
ولكنا نرى انه ليس في الآية ما يشير إلى هذا المعنى، حتى يتعين مرادا لها، والحق أن العبرة في كون النبيين كانوا يقاتلون ومعهم مؤمنون صادقو الإيمان، يصيبهم جراح، وتصيب أعداءهم، وما كانت جراحهم توهنهم او تضعفهم او تجعلهم يستكينون ويذلون، وقد نفى الله تعالى عن أولئك الربانيين ثلاثة أوصاف لا تتفق مع الإيمان :
أولها : الوهن فقد نفاه سبحانه وتعالى بقوله تعالى :﴿ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ﴾ والوهن اضطراب نفسي، وانزعاج قلبي، فهو يبتدئ في الداخل، وإذا وصل إلى الخارج كان ضعفا وتخاذلا، وإذا أنتج الضعف نتائجه كانت الاستكانة والذل، ولذلك ابتدأ بنفي الوهن، وقرن نفي الوهن بكون سببه ما أصابهم في سبيل الله للإشارة إلى ان الوهن ينافي قوة الإيمان، لأن من كان يقاتل في سبيل الله عليه ان يعلم الغاية من القتال، وهي توجب تحمل كل الشدائد، والعاقبة للمتقين.
الوصف الثاني : الضعف والتخاذل الذي يوجبه اليأس والاضطراب، وهذا كما قلنا نتيجة للوهن.
والوصف الثالث : الاستكانة، وهي الرضا بالذل والعيش مع الهوان، وذلك ليس شأن المؤمن.
وقد نفى سبحانه هذه الأوصاف الثلاثة مع ان واحدا يكفي نفيه لنفيها، لأنها متلازمة، لبيان قبح ما يقعون فيه لو سلطوا وصفا منها على نفوسهم فاستمكن فيها.
﴿ والله يحب الصابرين ﴾الله سبحانه وتعالى يشير بهذا إلى ان الذين لا يصيبهم وهن بسبب اشتداد المعركة ولا ضعف ولا ذل ولا استكانة واستسلام هم الصابرون حقا وصدقا. والله سبحانه وتعالى يحبهم. ونقف هنا وقفة قصيرة عند معنى الصبر، واستحقاقه للمحبة لا لمطلق الجزاء، إن الصبر ليس هو احتمال الشدائد، فقط، بل هو ألا يتضعضع عند نزولها، وإلا يضطرب التفكير عند اشتداد الشديدة، وان تنفى مطامع النفس إلا ما كان منها إجابة لداعي الحق ونصرته، وان تخلص القلوب عن شوائب الشهوات فلا تخضع لها ولا تذل، بل تتحكم كل نفس في أهوائها، وألا يكون أنين ولا شكوى ولا ضجيج، وهذا هو الذي سمى الصبر الجميل، والصبر على هذا المعنى هو اجل الصفات الإنسانية وأكملها ؛لأنه ضبط النفس، وكمال العقل، وسيطرة الحكمة وقوة الجنان، وهو يتضمن في ثناياه معنى الشكر، فهو عنصر من عناصره، ، ومظهر من مظاهره، وكان الجزاء أعلى جزاء، وهو المحبة من الله، ومحبة الله تعالى تتضمن رضوانه، وتتضمن ثوابه، وهي مرتبة أعلى منهما، ولا ينالهما إلا الصابرون.
ولقد كانت ضراعتهم إلى ربهم بالدعاء تتجه إلى ثلاثة أمور :
أولها : طلب غفران الذنب والإسراف، والذنب هو التقصير في حق الله تعالى، والإسراف في الأمور هو تجاوز الحد في الأمور، وأمرهم هو كل ما يتعلق بإجابة الله تعالى، فهم يستغفرون من التقصير في حق الله تعالى، وتجاوز حدود الله تعالى، وغن ذلك الدعاء مناسب للقتال لن المقاتل إما ان يقصر فيتخاذل، وغما ان يتجاوز الحد فيقتل في غير حاجة إلى القتال، فكان هذا الدعاء في موضعه، وإن الإسراف في القتل من غير حاجة إلى القتل مؤاخذ عليه كالتقصير، فمن يقتل امرأة او عاملا غير مقاتل أو شيخا هرما لا رأى له في القتال، او يقتل أسيرا، او يقتل بعد الأمان، يكون مسرفا في امره، فيكون مؤاخذا، ولذلك طلبوا الاستغفار من الأمرين : التفريط والإفراط.
وإن طلبهم هذا يدل على سلامة قلوبهم، واستصغار عملهم، وذلك شان الأتقياء، ولذا جاء في الكشاف في هذا المقام( هذا القول، وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى انفسهم مع كونهم ربانيين كان هضما لها واستقصارا ) ولقد كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :"اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما انت اعلم به منى"١.
الثاني : طلب تثبيت الأقدام بألا يهزموا ولا يفروا، بل يلاقوا الأعداء بصدورهم ولا يولوهم الأدبار، وفي تقديم الدعاء بالغفران إشارة إلى انهم يقدمون طهارة نفوسهم وتزكية القلوب واعتبارها أساس الثبات والصبر في مواطن القتال، وجاء في الكشاف :"والدعاء بالاستغفار مقدما على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على العدو ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع وهو اقرب إلى الاستجابة".
الثالث : طلب النصر على الكافرين، وهو غاية القتال ؛ لن الانتصار عليهم رفع لاعتدائهم، وتمكين لأهل الإيمان في الأرض، ومنع للفتنة في الدين، وإزالة الحواجز التي تحول بين النبي ودعوته، وذلك نصر لحق الله تعالى.
ذيل الله سبحانه وتعالى الآية التي تتعلق بالجزاء بأعظم جزاء وهو محبته الكريمة، وأشار إلى أن هؤلاء الربانيين قد استحقوه بسبب إحسانهم وإتقانهم لما عملوا وما جاهدوا فيه، وصبرهم في الشدائد والمكاره، وتلقيهم للأحداث بجنان ثابت وقلب رابط.
وإننا نجد ان الله تعالى وصف المؤمنين بثلاث صفات، وكل واحدة منها قد استحقت جزاء، فالوصف الأول انهم شاكرون، فقال :﴿ وسنجزي الشاكرين ﴾ ؛لن الشكر أول أبواب الطاعة، والرغبة في الفداء ؛إذ هو الإحساس بحق المنعم فيما انعم به.
والوصف الثاني هو الصبر ؛لأن الإيمان الذي هو اول ثمرات الشكر يقتضي ضبط النفس عن أهوائها ومنع الاضطراب في ( الصدمات ) والرضا بكل شديدة من غير أنين، والصابرون يحبهم الله، والوصف الثالث الإحسان، وهو نتيجة للصبر، وهو ان تكون النفس كلها لله، تراقبه في كل عمل تعمله، وكل قول تقوله، وكأنها ترى الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه، فغن لم تكن تراه، فغنه يراك"١ وبذلك يكون ممن يحبهم الله، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه في العبد الذي يحبه :"إذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها"٢.
اللهم إنا ما عملنا عملا نستحق به محبتك، ولكنا مع ذلك نطمع فيها، فإن أعطيتها فبفضلك، وغن منعتها فبحقك، وإنا لنضرع إليك من بعد الا نكون ممن غضبت عليهم وسخطت أعمالهم، إنك غفور رحيم.
٢ رواه البخاري: الرقاق-التواضع(٦٠٢١)..
كانت غزوة أحد فيها العبر، وهي عركة نفسية عركت بها قلوب المؤمنين، وتميزت فيها نفوس المترددين، وقد اتخذ القران الكريم منها درسا نبه المجاهدين على ما ينبغي ان يعلموه في المواقع والحروب، نبههم على ان النجاح في الأعمال مهما يكن.. أساسه التنسيق والتوزيع، وتخصيص كل طائفة لما تحسن، حتى تتلاقى الجهود كلها في ثمرات مفيدة للجماعة، والجهاد عمل من العمال، فلا بد ان تنسق فيه الأعمال، ويكون كل لما يخصص له، فإذا خرج عما هيئ له وأسند إليه، انتثر العقد، واضطربت الأمور، وخفت الثمرات، وذلك ما كان في احد، ولقد قرر الله تعالى أن يصاب المسلمون بذلك الجرح الدامي لتكثير العبر، فقد افترى من افترى فادعى ان النبي عليه الصلاة والسلام قد قتل، فاضطربت الأفهام، إذ لو كان الخبر صادقا لوجب على المجاهدين ان يتضافروا على حمل العبء لا ان تذهب نفوسهم شعاعا. ولقد أصابت الهزيمة قلوبهم، وأصابهم غم شديد فاخذ يبين ان القتال تتعاوره والنصر، وأن الهزيمة بسبب خطأ لاتوجب الوهن، ولكن توجب تجنب الخطأ.
ولقد وجد ناس وقد اشتد البلاء، وأظلمت نفوس، وذهب ما فيها من أضواء الحق، فتنادي بعضهم ان يوسطوا المنافقين ليتخذوا لهم عند أبي سفيان زعيم الشرك إبان ذاك عهدا بالأمن والاستسلام، وقد بين الله سبحانه بعد ما بين من عبر ان هذه هي الخطة الذليلة، وهي المنزلة الدون، والمكان الهون، فقال عز من قائل :
﴿ يا أيها الذين آمنوا عن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم ﴾النداء للمؤمنين بوصف كونهم مؤمنين، وفيها بيان انه لا يليق بهم بوصف كونهم مؤمنين ان يطيعوا الذين كفروا ؛فإن الكفر والإيمان نقيضتان لا يجتمعان، ولا يكونان في قلب رجل واحد، ولقد أشار سبحانه إلى احتمال ان يطيع المؤمنون الكافرين بالتعبير في أداة الشرط ب( إن ) دون( إذا ) ؛إذ إن( إذا ) للتحقق أي تحقق الشرط، وتحقق الجزاء، اما( إن ) فإنها لا تفيد تحقق الشرط، وبالتالي لا يتحقق الجزاء. والمعنى في هذا هو التحذير من مسايرة الكافرين بأي نوع من أنواع المسايرة ؛ إذ كل مسايرة طاعة، ولا يليق بالمؤمن ان يطيع كافرا ؛لأنه يجب ان يكون في حذر دائم، وغنه لو فرض وأطاعوهم فإنهم يرتدون على أعقابهم خاسرين.
والنداء متجه ابتداء للمؤمنين الذين حضروا أحدا، ووجد بينهم المنافقون ينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويرجفون في المدينة، ووجد أيضا المترددون الضعفاء الذين استجابوا او كانوا على استعداد للاستجابة، إذ دعا بعض المنافقين بأن يتوسطوا عند أبي سفيان لينجوا بأجسامهم.
ومع ان الخطاب ابتداء لهؤلاء له وجه عام، وهو نداء المؤمنين في كل الأجيال وفي كل الأحوال بألا يسايروا الكافرين، رجاء نصر، او تحقق نفع، وإلا يمالئوهم بأي نوع من أنواع الممالأة، فإن الكافرين في كل العصور لا يريدون بالمؤمنين إلا خبالا، ولا يرجون لهم إلا ان يكونوا قوما بورا، فالآية الكريمة تحذر المؤمنين تحذيرا عاما بألا يطيعوا الكافرين، ولا يستنصروا بهم، ولا يجعلوا لهم ولاية عليهم، لن ولايتهم غير ولاية الله، وولاية الله هي الولاية الحق، وهم موضع غضب الله تعالى دائما، والذي يتولاهم ويستنصر بهم، فإنما يتولى قوما غضب الله عليهم، والله تعالى يقول :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من اصحاب القبور١٣ ﴾[ الممتحنة ].
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى نتيجة إطاعة الكافرين في أي عصر من العصور عن كان هناك احتمال لذلك. فذكر في جواب الشرط نتيجتين، كلتاهما مترتبة على الأخرى، أولاهما : أشار إليها بقوله سبحانه :﴿ يردوكم على أعقابكم ﴾، والثانية المترتبة عليها : أشار إليها بقوله عز من قائل :﴿ فتنقلبوا خاسرين ﴾. ولنتكلم بكلمة موجزة في كل واحدة من هاتين النتيجتين المتلازمتين اللتين يقتضي وجود إحداهما وجود الأخرى :
فالنتيجة الأولى، وهي ردهم على أعقابهم، معناها ان يرجعوا إلى موضع الذلة الذي كانوا فيه قبل ان يؤذن لهم بالجهاد او يرجعوا إلى ما كانوا عليه في غير انتظام وفي اضطراب، والمضطرب دائما لا يملك زمام نفسه، والأعقاب جمع عقب، وهو مؤخر القدم، والتعبير ب :﴿ يردوكم على أعقابكم ﴾، فيه إشارات إلى أمور ثلاثة، أولها : ان هذا مطلب للكافرين، فإن أطعتموهم فقد حققتم لهم مقصدهم، وهو ان يردوكم، ولذا أسند الرد إليهم، ولم يقل ارتددتم، وثانيها : ان طاعتهم التي يترتب عليها ما ذكره سبحانه هي أقصى الهزيمة وهي الكبوة التي لا قيام بعدها، ولذلك عبر عن هذا بالرجوع على العقاب، فهو رجعة إلى الوراء وليس وثبة إلى الأمام، والأمر الثالث الذي يشير إليه النص هو ان زمام المؤمنين يكون نهائيا بأيدي الكافرين إذا أطاعوهم، وهذا هو ما آل إليه أمر المسلمين في العصور الأخيرة، وفي هذا تذكرة لمن يخشى.
والنتيجة الثانية هي الانقلاب خاسرين، والتعبير بالانقلاب في قوله سبحانه :﴿ فتنقلبوا خاسرين ﴾يفيد ان إطاعة الكافرين يكون حتما فيها تغيير حال اهل الإيمان، ولكنه تغيير هو انقلاب، وجعل أعلى ما فيهم أسفل، فهو نكسة تصيبهم، ويعز عليهم من بعد ان يعودوا مستقيمين يضعون أغلى ما فيهم وهو الإيمان في موضعه، وإن ذلك الانقلاب تلابسه لا محالة الخسارة المؤكدة التي لا احتمال فيها ؛ إذ يخسر المؤمنون إيمانهم، ويخسرون من وراء ذلك الآخرة، وينطبق عليهم قوله تعالى :﴿ خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين١١ ﴾[ الحج ]
المولى هنا هو النصير، وإذا كان الله ناصره، فإنه لا محالة غالب، فهو نعم المولى ونعم النصير. والمولى لا تدل على النصرة فقط، بل تدل على كمال الصلة والمحبة والقرب، والنصرة تجئ لازمة لهذه المعاني، و"بل" هنا للإضراب وهو إضراب انتقالي ؛إذ هو انتقال من الكلام في موالاة الكافرين، وما يترتب عليها من نكوص على الأعقاب، واضطراب بين الحق والباطل، واستكانة وذلة وخسران مبين، إلى الكلام فيما هو سبب العزة والرفعة والكرامة والقوة والسؤدد والنصر المؤزر الثابت، وهو موالاة الله تعالى، وعبر عن ذلك بقوله تعالى :﴿ الله مولاكم ﴾أي ان الله الخالق لكل ما في الوجود، والذي بيده مقاليد كل شيء، والمسيطر القوي الجبار القاهر فوق عباده هو مولاكم، فعليكم ان تطلبوا ولايته، ومن اعتصم به فقد آوى إلى ركن ركين، وحصن حصين، وذكر هذا الأمر بصيغة الخبر للإشارة إلى ان المؤمن بمقتضى كونه مؤمنا هو في ولاية الله تعالى فلا يخرج عن جماعتهم ولا يسلك غير سبيلهم، ولا يطيع أعداءهم، او يمالئهم، او يسايرهم، فإن ذلك يكون محادة لله ولرسوله ومشاقة لله ولرسوله، والله تعالى يقول :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله... ٢٢ ﴾[ المجادلة ] ويقول سبحانه جلت حكمته :﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا١١٥ ﴾[ النساء ].
وإذا كانت النفوس الضعيفة تجد في الالتجاء إلى الكافرين بعض الحماية فلتعلم ان المعاد والنصرة من عند الله ؛ولذا قال سبحانه :﴿ وهو خير الناصرين ﴾ أي إن الله تعالى هو الذي ينصر المؤمنين، ونصره هو المؤكد المحتوم الباقي، وهو نصر مالك القوي كلها، والمسيطر على العالم بكل ما فيه ومن فيه وما تجري به الأسباب، وما ارتبطت به شئون الناس والكون، ولذلك كان نصره خير نصر، إذ هو أدومه وأقواه، وما عند الناس من نصر فهو ظاهري، ولا يتحقق إلا بأسباب قدرها، فهو المسيطر المريد لكل ما يقع في الكون، ونصر الله تعالى معه العزة، ونصر الناس معه الذلة، فمن استنصر بالله عز، ومن استنصر بالناس ذل، وهذا على ان"خير" وهي من افعل التفضيل على بابه، وقيل : إن افعل التفضيل هنا على غير بابه، وان المعنى انه لا ناصر إلا الله، ولا ناصر سواه، فنصره هو النصر، ونصر غيره ليس بنصر.
الرعب الخوف والانزعاج، او امتلاء النفس بالخوف والانزعاج، حتى تضعف الجماعة مع وجود أسباب القوة، واصله من الملء مع الاضطراب، يقال سيل راعب، يملأ الوادي ويضطرب به، ورعبت الحوض ملأته، ومعنى إلقاء الله تعالى بث روح الخوف والفزع في قلوبهم، وإن إلقاء الله تعالى الرعب في قلوب المشركين كانت له مظاهر شتى : منها ان يضع سبحانه وتعالى فيهم الفزع، فيخافون عند النصر لهم من متابعته، كما كان عقب احد، فإن المشركين سارعوا بالعودة وبينما هم في الطريق ندموا وقال قائلهم : بئس ما صنعنا، قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد ثم تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم، ولما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، فانصرفوا لا يلوون على شيء، ومن مظاهر النصر بالريح، كما كان في غزوة الأحزاب، فقد جاءت إلى المشركين ريح شديدة قذفت في قلوبهم الرعب، فعادوا ولم ينالوا شيئا، وقال تعالى في ذلك :﴿ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا٢٥ ﴾[ الأحزاب ].
وقد روى في الصحيحين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"أعطيت خمسا لم يعطهن احد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس جميعا"١.
وقد ذكر سبحانه وتعالى السبب في إلقاء الرعب في قلوب أعداء اهل الإيمان فقال سبحانه وتعالى :﴿ بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ﴾ والسلطان هنا هو الحجة والدليل، كما قال تعالى :﴿ والذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم... ٣٥ ﴾[ غافر ]، وكما قال تعالى :﴿ فأتوا بسلطان مبين١٠ ﴾[ إبراهيم ]، وقال :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين٩٦ ﴾[ هود ].
فالمعنى انهم أشركوا بالله أحجارا لم ينزل الله بها حجة مثبتة لصحة عبادتها، لأنه لا دليل على سلامة هذه العبادة، ولا يوجد دليل قط يؤيدها. ويصح ان يفسر السلطان هنا بمعنى القوة والتمكن، والمعنى على هذا انهم أشركوا بعبادة الله تعالى أشياء لم ينزل أي لم يجعل فيها قوة تنفع وتضر، فهم يعبدون ما لا يملك نفعا ولا ضرا، ويشركونه في العبادة مع الذي يملك كل شيء، وهو الذي ينفع ويضر من غير شريك.
والسببية التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله :﴿ بما أشركوا بالله ﴾لها توجيهان :
أحدهما : ان الله تعالى يلقى الرعب في قلوبهم لنهم عاندوا الله سبحانه، وحادوه، وأشركوا معه في العبادة، ولنهم ينشرون بهذا التفكير الفاسد الشر والفساد في الأرض، والله تعالى لا يحب الفساد، وهو ينصر الخير على الشر، والصلاح على الفساد، فالسببية هي إرادة الله تعالى التي بها قوام كل معوج وصلاح كل فاسد.
وثانيهما : ان السبب في إلقاء الرعب من حالهم هم ؛ذلك لنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر، ولا تقوم عندهم حجة ولا شبه حجة على صلاحية ما يعبدون للعبادة، ويكون الوهم هو الذي سيطر، والهوى هو الذي تحكم، ومن تتحكم فيه أهواؤه وأوهامه يكون مضطرب النفس مزلزل القلب تزعجه الكوارث، ويضطرب عند نول أي حادث، فكان الشرك وتحكمه في النفس هو السبب في الرعب والخوف والفزع ؛ إذ هم يخافون من غير مخوف، ويفزعون في غير مفزع.
تلك هي حال الكافرين الذين ناوءوا أهل الإيمان، كان سبحانه يلقى الرعب في قلوبهم، ويثبت قلوب المؤمنين، فهل هذه سنة اهل الإيمان مع المشركين وأشباههم دائما ؟.
والجواب عن ذلك : انه شان المؤمنين حقا وصدقا إذا لم يضعفوا ولم يذلوا ولم يوالوا أعداء المؤمنين على المؤمنين، بل يأخذون الأهبة، ويغلبون الهدى على الضلال، ويجعلون الله مولاهم، فإذا رأينا الحال قد تغيرت، فليس ذلك لتغير سنة الله في خلقه، ووعده لأنبيائه والصديقين معهم، بل لتغير حال المؤمنين، ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ١١ ﴾[ الرعد ] ولقد تنبأ صلى الله عليه وسلم بما آل إليه المسلمون، وبين ان ذلك سببه الوهن الذي يتولد عن حب الدنيا، وكراهية الموت، وإنه عندما تصاب القلوب بهذه الإصابة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ان الله ينزع من قلوب أعدائهم المهابة منهم، فقال عليه الصلاة والسلام :"ولينزعن من قلوب عدوهم المهابة منكم"٢.
فإذا كنا نرى المؤمنين قد ألقي في قلوبهم الرعب بدل الكافرين، فليس في هذا مخالفة لوعد الله ؛ لن بعض المسلمين في هذه الأيام والوا الكافرين على المؤمنين، وذلوا تحت ولايتهم واستخذوا لهم واستعدوهم على اهل الإسلام، فنزع الله المهابة من اهل الإيمان، فكان ما كان، وشرط إلقاء الرعب في قلوب الكافرين ألا نطيعهم، فقد وقعنا إذن في المنهى عنه في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا عن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين١٤٩ ﴾[ آل عمران ].
ولقد اطعناهم وواليناهم دون المؤمنين، ولم نتخذ الله مولى لنا، فخسرنا خسرانا مبينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
﴿ ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ﴾ المأوى اسم مكان من أوى يأوي وهو الذي يرجع إليه الشخص ويعود إليه، ويقيم فيه إقامة طويلة، والمثوى اسم مكان من ثوى يثوي أي أقام إقامة لا نهاية لها، والمعنى ان الكافرين إذا ألقى الله في قلوبهم الرعب خسروا وباءوا بخسرانهم في الدنيا، وليس لهم مأوى في الآخرة إلا النار، وبئس هذه النار موضع إقامة دائمة لهم، وقد اظهر سبحانه وتعالى الاسم في موضع الإضمار، فلم يقل تعالت كلماته : وبئس النار مثواهم، بل قال :﴿ وبئس مثوى الظالمين ﴾ للإشارة إلى ان هذا المآل جزاء وفاقا لظلمهم فهو عقاب يستحقونه بسبب الظلم ؛إذ قد ظلموا انفسهم فأضلوها وصدروها عن الحق وسبيله بسبب الغواية التي ارتضوها، وظلموا الحق فصدقوا الناس عنه، وظلموا المؤمنين وحاولوا ان يفتنوهم عن دينهم واعتدوا عليهم وعثوا في الأرض مفسدين، وخضبوها بالدماء البريئة، فكان ما لقوه من هزيمة ورعب وخسران في الدنيا بعض الجزاء، والجزاء الأوفى في الآخرة. اللهم قنا عذاب النار، اللهم أهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وقنا شر ما قضيت. اللهم أعزنا بعزتك، اللهم قنا شر الاستخذاء والولاية لغيرك، إنك سميع الدعاء.
٢ رواه ابو داود ولفظه عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يوشك الأمم ان تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال:" بل انتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوب الوهن" فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال:"حب الدنيا وكراهية الموت"..
في الآيات السابقات إشارات إلى بعض ما كان في غزوة احد من اضطراب القلوب، والرجفة التي أصابت الصفوف، وشيوع القالة المثبطة للعزائم الممزقة للوحدة، وإنتاج هذه المقالة نتائجها في قلوب ضعيفة، ونفوس مريضة بالنفاق، وفي هذه الآيات وما وليها يذكر الله سبحانه وتعالى سبب الهزيمة مقترنا بنتائجها في نفوس المؤمنين الثابتين في إيمانهم، الأقوياء في عزيمتهم، الذين احتسبوا النية لله رب العالمين، فقال سبحانه :
﴿ ولقد صدقكم الله وعده غذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ﴾وعد الله تعالى الذين آمنوا بالنصر وعدا عاما عندما أذن لهم بالقتال، ووعدهم في أحد وعدا خاصا، فقد قال سبحانه وتعالى في الوعد العام :﴿ وأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وغن الله على نصرهم لقدير٣٩ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا ان يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره عن الله لقوي عزيز٤٠ ﴾[ الحج ].
والوعد الخاص في احد جاء ذكره في قوله تعالى :﴿ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين١٢٤ بلى عن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين١٢٥ ﴾[ آل عمران ].
ونرى الوعد بالنصر في الآية الأولى التي كان الوعد فيها عاما كان مقيدا بان ينصروا الله في قتالهم، لا يريدون مأربا دنيويا ولا عرضا من أعراض الدنيا، كما ترى الوعد في احد خاصة كان مقيدا بان يصبروا، وقد تخلف الشرطان في احد، فإن فريقا منهم أراد عرضا من أعراض الدنيا في أثناء المعركة، ولم يصبروا ؛ إذ لم يضبطوا إرادتهم ولم تستحصد عزائمهم في طاعة القائد، فإن طاعة القائد من سبل النصر، وتحتاج إلى صبر وضبط نفس، ولذلك لم يكن في أحد ما ينافي صدق الله وعده لنبيه، وصدق النبي في وعده لهم بإذن من ربه سبحانه وتعالى.
ومعنى صدق الوعد في قوله تعالى :﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ ان يقع الأمر في الوجود كما وعد الله تعالى وهنا( صدق ) متعدية إلى مفعولين، والمعنى قد أوقع الله سبحانه وتعالى الأمر في الوجود، كما وعدكم، بروح منه، ولكنكم انتم الذين لم تلتزموا الجادة، ولم تكونوا ناصرين الله تعالى في المعركة كلها ؛إذ لم يكن قتالكم لله تعالى في هذه المعركة من مبتدئها إلى انتهائها، ولم تضبطوا أنفسكم، وإن وعد الله تعالى لكم بتأييد الملائكة، وهي الأرواح الطاهرة المطهرة، كان مقيدا بالصبر النفسي، ولم تصبروا أنفسكم وبين سبحانه وتعالى وقت النصر، وهو وقت ابتداء الحرب، فقال سبحانه :﴿ إذ تحسونهم بإذنه ﴾ومعنى تحسونهم أي تصيبون حسهم بإزالته، وذلك يكون بقتله، فمعنى حسه أصاب حسه، مثل كبده أصاب كبده، وفاده أصاب فؤاده، وشغفه أصاب شغاف قلبه، ولقد قال في ذلك الأصفهاني :"حسست، وحسيت، وأحسست ) يقال على وجهين : أحدهما- يقال أصبته بحسي ( أي أدركته بإحساسي، ومنه شيء محسوس ) والثاني-أصبت حاسته نحو كبدته، وفادته، ولما كان ذلك قد يتولد عنه القتل عبر به عن القتل، فقيل( حسسته أي قتلته ).
والمعنى كان وعد الله صادقا كل الصدق عندما كنتم تقتلونهم بإذنه، مؤيدين منصورين، ومعنى الإذن هنا يتضمن معنى التأييد والتقوية والتثبيت، ولكنكم انتم الذين أبعدتم أنفسكم عن نصر الله تعالى، وأشار إلى ذلك سبحانه بقوله :﴿ حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ﴾ أي حتى إذا ضعفت نفوسكم وعجزتم عن مقاومة أهوائكم، وتنازعتم فيما بينكم انتبع الغنائم نجمعها، ام نطيع الرسول ؟ وانتهى أكثركم إلى العصيان من بعد ما أراكم الله- تعالى- ما تحبون من نصر مؤزر ثابت او من غنائم تحبونها، وتهواها أنفسكم. وهذا يفيد ان الترتيب النفسي يتفق مع الترتيب في الذكر ؛ وذلك لن الفشل، ومعناه العجز النفسي عن الصبر والاحتمال، ترتب عليه التنازع وعصيان الرسول، ولا بد أن نذكر هنا ما روى عن ذلك في غزوة احد، فقد روى البخاري عن البراء بن عازب :"لما كان يوم احد، ولقينا المشركين اجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير، وقال لهم :"لا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم" فلما التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن في الجبل١ وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا( أي ناس من الرماة ) يقولون : الغنيمة الغنيمة، فقال لهم عبد الله : أمهلوا اما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الا تبرحوا ؟ فانطلقوا، فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا"٢.
وإن الرماة لم يذهبوا جميعا إلى الغنائم يجمعونها، بل بقي منهم عدد قليل، قيل إنهم عشرة، ولكن نسب العصيان إليهم جميعا، بل نسب إلى الجيش كله، مع ان غير الرماة كانوا الفريسة لعصيان كثرة الرماة ؛ وذلك لأن ما يعم أثره ينسب إلى الجميع، باعتبار ذلك الأثر، وأنهم جميعا كان عليهم أن يتواصوا بالطاعة المطلقة للقائد الخبير، وذلك كقوله تعالى :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة... ٢٥ ﴾[ الأنفال ] فعلى كل جماعة ان تتضافر في منع ما يضر أثره بها كلها، لا بالظالمين فقط منها، وغن إثم الآثمين في الجماعات والمم، ينشأ من سكوت اهل الحق والعدل، ويعيش في ظل صمتهم، ولذلك ينسب العصيان إلى الجميع، ولقد بين سبحانه ان العصيان وإن نسب إلى الجميع كان فيهم من أراد الحق، وفيهم من أراد الدنيا من غير طريقها، فقال سبحانه :﴿ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ﴾.
هذا تفصيل للتنازع الذي كان بين الرماة، وما كان في الجيش نفسه، وهو خطاب لجمهور الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم.. منكم أيها المحاربون من يريد الدنيا بإرادة الغنائم، والقصد إليها، وقد غلبته على نفسه حتى نسي الطاعة الواجبة والخطة المرسومة، وهو إذ يطلب الدنيا في هذا المقام، إنما يطلبها بغير الأخذ في أسبابها الحقيقية التي توصل إلى الغاية فيها، ولذلك ذهب طمعهم بالغنيمة والنصر معا، ولو صبروا حتى سارت الحرب في طريقها، والخطة إلى غاياتها، لنالوا النصر والغنيمة معا، فإنه لا غنيمة إلا بالنصر المستقر، ولا نصر إلا بالتزام خطة القائد الرشيد، ومنكم أيها المجاهدون من يريد الآخرة، وهم انتم الذين ضبطوا انفسهم عن الغنيمة، ولم يعصوا ما امر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ذهبت الغنائم، وانتم الذين صبرتم في فتنة الهزيمة العارضة بعد ان اضطربت القلوب وأرجف المرجفون، وتنادي الكاذبون بأن محمدا قد مات، فقد صبرتم وصابر تم، وجاهدتم ونازلتم في الشديدة، والقوى حقا من يملك نفسه عندما تضطرب النفس، ويثبت عندما تكون دواعي الهزيمة، وأولئك أرادوا الآخرة ؛ لنهم ما طلبوا غنيمة، وكان ثباتهم في وقت الفزع دليلا على امتلاء قلوبهم بالإيمان بالله واليوم الآخر.
وهنا بحث لفظي يثيره العلماء، وموضوعه( إذا ) في قوله تعالى :﴿ حتى إذا فشلتم وتنازعتم ﴾. فقد ذكر الزمخشري وغيره ان فيها وجهين : أحدهما- ان تكون"حتى" بمعنى"إلى"، وان تكون( إذا ) لمجرد الوقت أي أن النصر كان حليفكم تقتلون فيه القتل الذر يع، إلى وقت ان فشلتم وتنازعتم في الأمر.
والوجه الثاني ان تكون شرطية، وجواب الشرط محذوف، وغن كان مفهوما انه شر لا خير فيه، وضرر لا نفع معه ؛ لن ما يكون مقدمه عجزا واضطرابا نفسيا وتنازعا في امر، ثم عصيانا يترتب عليه عدم تنفيذ خطة القائد الحكيم- لا يكون التالي المترتب عليه خيرا قط، ولم يذكر لتذهب فيه العقول كل مذهب، وللإشارة على انه شر عظيم لا يكتنه كنهه، ولا يتصورون حقيقته. وإنه كان من نتائج ذلك الضرر أنكم لم تنالوا بغيتكم من المشركين، ولذا قال تعالى :﴿ ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ﴾.
أي النتيجة التي صرتم غليها غير المقصد الذي قصدتم إليه، لقد خرجتم إليهم من مدينتكم لتقتلوهم وتنالوا منهم ما نلتموه في بدر، ولم تريدوا ان تكونوا في المدينة يأتون إليكم، بل أردتم ان تواجهوهم في الميدان لا في الأزقة وبين الجدران، ولكن بسبب ذلك العصيان من بعضكم صرفكم الله عنهم، أي انصرفتم عنهم بإرادة الله تعالى، ورضيتم ان تعودوا مقهورين، وقد خرجتم لتعودوا منصورين بتأييد الله، ولتفاوت ما بين المقصد الأصلي، والنتيجة التي انتهوا إليها بسبب هذا الخطأ الجزئي- عطف سبحانه وتعالى ب"ثم" بدل الواو او الفاء.
وكان التعبير بكلمة( صرفكم ) بدل ( هزمتم ) لن ما حدث في احد لم يكن هزيمة، وإن لم يكن نصرا ؛ لن الهزيمة تقتضي ان يولى المسلمون الأدبار، وأن يتحكم العداء، وليس ما حدث أكثر من ان القتلى في المؤمنين كانوا أكثر من القتلى في المشركين، ولم ينل المشركون بذلك مأربا، فكان الله سبحانه وتعالى يشير لهم بأن ما حدث لا يصح ان تبتئسوا له، ولا يصيبكم الحزن ؛ لأنه ليس هزيمة، بل هو نوع من الصرف عن الغاية التي من اجلها خرجتم. وكان هذا لا بد منه ليمحص قلوبكم، وليختبركم بالشدائد التي تصقل نفوسكم، وتجعلها مستعدة لما يأتي به القدر، ولبيان ان الطاعة للقائد الحكيم هي أساس الظفر، والعصيان سبب للاندحار.
﴿ ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ﴾في هذا النص السامي يبين سبحانه عفو الله تعالى ليرفع من نفوسهم، ويذهب الحسرة من قلوبهم، ويحيى موات العزة التي اختفت في وسط ذلك المضطرب، ولقد أكد سبحانه وتعالى عفوه بعدة تأكيدات أولها : بالتعبير ب"قد"، فإنها للتحقيق، واستعمالها في أكثر آي القرآن للتحقيق، وثانيها : باللام. وثالثها : بالتعبير بالماضي. ولماذا أكد سبحانه وتعالى عفوه بهذا التأكيد ؟ لأن أولئك الأبرار الذين اخلصوا دينهم لله تعالى قد تجسم في نفوسهم خطؤهم، حتى توهموا انه غير قابل للغفران، فإن المؤمن التقى يستكثر هفوته، ويستصغر حسنته ؛ لأنه يحس بحق الله تعالى عليه، ووجوب شكر النعم التي انعم بها، وبمقدار قوة الإيمان يغلب المؤمن خوف العقاب على رجاء الثواب.
ولقد ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى :﴿ والله ذو فضل على المؤمنين ﴾لبيان فضل الله تعالى العميم على عباده المؤمنين، فكل شيء بفضله، فنصرهم في بدر بفضل منه، ونصرهم في الابتداء في احد كان بفضل منه، وخذلانهم بفشلهم وتنازعتم فيه فضل بتعليمهم حق الجهاد وواجبه، وعفوه عنهم هو الفضل كله، ولقد تأكد فضل الله تعالى في الآية بقوله :﴿ ذو فضل ﴾ أي صاحب فضل، والمرمى ان الفضل يلازمه، ولا ينقطع عنه سبحانه وتعالى أبدا.
٢ رواه البخاري: المغازي- غزوة احد(٣٧٣٧) عن البراء رضي الله عنه..
ومعنى﴿ تصعدون ﴾ تسيرون في بطن الوادي ؛ لأن الصعود معناه الارتفاع، والإصعاد معناه السير في بطن الوادي ؛ وقال ابو حاتم في هذا( أصعدت إذا أمضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل او غيره ). وقال قتادة : أصعدوا يوم احد في الوادي. ومعنى( تلوون ) تعطفون في سيركم إلى مقصد تقصدونه. ولقد جاء في المفردات للأصفهاني : يقال فلان لا يلوي على احد إذا أمعن في الهزيمة.
والمعنى : عفا الله عنكم في الوقت الذي وقعتم فيه في الفوضى والاضطراب، وأصبحتم تسيرون في بطن الوادي لا تقصدون، ولا تبتغون امرا، ولا تتبعون غاية ايا كانت، بل تضربون في الأرض وتخبطون خبط عشواء، ولقد ذكر النتيجة الحتمية لهذا الاضطراب، وهي الغم الشديد، فقال تعالت كلماته :
﴿ فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ﴾ أثاب معناه أعاد وأعقب ما ارتكبوه كنتيجة غما بغم، فمعنى الثوب عودة الشيء ورجوعه إلى الأمر الذي كان مقدرا له على انه غايته ونتيجته، والغم أصل معناه في اللغة التغطية، ومنه غم الهلال إذا غطاه الغمام فلم ير، والغم يطلق على الألم الذي يغطي العقل والإحساس والمشاعر، والذي يكون الشخص معه في حال استسلام لا يدري ما الخلاص منه، فهو من الغمة، وقد جاء في أساس البلاغة( وانه لفي غمة من امره إذا لم يهتد للخروج منه ). والباء في قوله تعالى :﴿ بغم ﴾ يحتمل ان تكون للسببية، ويحتمل ان تكون بمعنى( على ) او دالة على المصاحبة، وعلى الأول يكون المعنى : أعقبكم الله تعالى غما بأن فاتكم النصر، نزلت بكم الجراح، وقتل من قتل منكم بسبب الغم الذي أنزلتموه على الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخالفة وعصيان أمره، وعلى الثاني يكون المعنى أعقب الله تعالى فيكم غما بعد غم او غما مصطحبا بغم، فقد أصابكم غم فوات الغنيمة، وغم فوات النصر، وغم الإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وغم الاضطراب.
وكان ترادف العموم هذه كنتيجة لمخالفتكم الأولى له غاية ونتيجة مؤكدة عن اعتبرتم واتعظتم، هو : الا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم ونصر، وما أصابكم من جراح وتقتيل، بل تستحصدون العزائم، وتتقون الخطأ من بعد. ويقول الزمخشري في تعليل ترتب عدم الحزن على ترادف العموم( لكيلا تحزنوا : لتتمرنوا على تجرع العموم، وتضروا٢ باحتمال الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا مصيب من المضار )، وإن ما ذكرنا من ترتب عدم الحزن اظهر في نظرنا، والله- سبحانه- اعلم بمراده.
﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا النص للإشارة إلى ان ما وقع كله كان في علم الله، يعلمه علما دقيقا قد أحصى فيه كل أعمالكم قبل وقوعها، وقدر نتائجها ونهاياتها، وما يعقبه بعد ذلك من عبرة يحملكم على الطاعة المطلقة للقائد الحكيم الذي يهديكم سبيل الرشاد، وانه لا نصر مع المعصية، ولا هزيمة مع الطاعة واحتساب النية، والله بكل شيء محيط.
٢ يقال: ضري الكلب وأضراه صاحبه أي عوده وأغراه بالصيد، ويجمع على ضوار.[لسان العرب- باب الضاد –ضرا]. والمقصود هنا انهم يتدبرون على احتمال الشدائد ومواجهة الصعاب؛ فيصيرون شجعانا تشبيها لهم بالسباع الضارية..
الآية الكريمة موصولة بما قبلها، فهي تبين ما أصاب القلوب التي توهمت انها أهزمت بعد موقعة احد، وقد بين في الآيات السابقة انها أصابها غم كان كثيفا على النفوس، وفي هذه الآية يبين ما حدث بعد الغم، فذكر سبحانه ان قلوب المؤمنين بعد هذا الغم اعتراها الاطمئنان إلى قدر الله تعالى المقدور، وثقتهم في المستقبل تحقيقا لوعده بنصر عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم والاطمئنان هو سبيل التدبير المحكم، والقلق لما كان في الماضي يجعل العقل مأخوذا بحوادثه فلا يفكر ولا يدبر، ولا يتحفز ويتوثب للمقاتلة مرة أخرى، ولقد قال تعالى في وصف حال المؤمنين التي أفاضها عليهم بعد الغم المتولى :
﴿ ثم انزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ﴾ أمنة : مصدر بمعنى المن، وقرئ( أمنة ) بتسكين الميم، وهي مصدر بمعنى المرة من الأمن، وقد بين سبحانه نوع الأمن او مظهره، بقوله :
﴿ نعاسا يغشى طائفة منكم ﴾ والنعاس فتور مع استراحة من غير فزع ولا قلق وهو النوم الهادئ، ومعنى يغشى : يغطى، أي انه يغطى الحس، ويستر الإدراك والتنبه، والمعنى انه سبحانه وتعالى أفاض وانزل بعد الغم الذي غمر النفوس بالألم أمنا كان مظهره نعاسا اطمأنت فيه النفوس واسترخت الأعضاء واستسلمت لمقادير الله تعالى وإرادته في خلقه ونصره دينه، مطرحين الماضي مكتفين منه بالعبرة ومتخذين منه نورا يضئ للمستقبل بخطئه وبصوابه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى النعاس مظهرا للاطمئنان قبل واقعة بدر، فقال تعالى :﴿ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام١١ ﴾[ الأنفال ].
وفي غزوة احد كان النعاس مظهر الاطمئنان والتسليم لله سبحانه وتعالى والثقة بالمستقبل- بعد الفزع والهلع والاضطراب.
وتلك الطائفة التي غشيها النعاس واطمأنت بعد الاضطراب، وآمنت بأن ما كان بخطأ من بعضهم، وانه عبرة لأولي الأبصار- هم المؤمنون الصاد قو الإيمان الذين يريدون ما عند الله تعالى، ولا يبتغون غير رضاه، ولقد اعتبرهم القرآن وحدهم الأهل للخطاب، لنهم هم الذين يعدون ذخيرة المستقبل، وجند الله الغالب، ولذلك قال :﴿ ثم انزل عليكم من بعد الغم أمنة ﴾. وإن أمنهم ونومهم مع ان الجراح قد أثقلتهم، والاضطراب كان قد أذهلهم، دليل على عمران قلوبهم بذكر الله وصدق وعده :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب٢٨ ﴾[ الرعد ].
والطائفة التي لم تكن على هذه القوة والإيمان ذكرها سبحانه على انها خارجة على الخطاب، وكأنها ليست من المؤمنين فقال تعالى :﴿ وطائفة قد أهمتهم انفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ﴾.
لأن نسق الآية يومئ على انها بعيدة عن الخطاب، قال أكثر العلماء : إنها من المنافقين، أي ان هذه الطائفة ليست مؤمنة، بل كافرة تظهر الإسلام وتبطن غيره، ولكن الأوصاف التي ذكرت لها من بعد تومئ إلى انهم من ضعاف المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بان في قلوبهم مرضا- في غير هذا الموضع ؛ وذلك لن الله تعالى يصفهم بأنهم يظنون ظن الجاهلية، وهذا يفيد انهم ليسوا من اهل الجاهلية، وهم يعتذرون لنفسهم بالقضاء والقدر، والله سبحانه وتعالى بين ان ما نزل كان للابتلاء والتمحيص وأدخلهم فيه، وليس كذلك المنافقون، والنص يومئ إلى انه كانت فيهم جراح، والمنافقون لم يخوضوا غمار الحرب، فلا جراح فيهم، ولا قتل، وهؤلاء كان فيهم قتل.
وفي الحق إن غزوة احد كان فيها عدد من ضعاف الإيمان، إذ قال سبحانه :﴿ إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون١٢٢ ﴾[ آل عمران ].
وعلى ذلك نقول : إن هؤلاء كانوا من ضعاف الإيمان لا من المنافقين.
ولقد وصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء بأنهم أهمتهم انفسهم، وبأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وكلمة"أهم" مأخوذ من الهم. والهم ما يهم به الإنسان، وما يحزنه، يقال : همني الأمر بمعنى أذابني من الحزن، ومعنى أهمتهم انفسهم، وجعلتهم لا يجعلون لهم امرا يهتمون به سواها، فلا يهمهم شان الإسلام، انتصر او انهزم، ولا شان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، بل الذي يهمهم وحده هو انفسهم، او يكون المعنى : أوقعوا انفسهم في الهم والحزن بعدم اطمئنانهم وعدم صبرهم وجزعهم المستمر.
وإن المرء إذا لم يكن له تفكير إلا في نفسه، ولا يهمه شيء سواها، أضفي عليها المعاذير إذا قصرت، وجعل السبب من غيرها لا منها، ومن هنا يجئ الوصف الثاني، وهو﴿ يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ﴾ والظن هنا ليس هو الاعتقاد الجازم، بل هو الوهم الملازم للضعف، المسيطر على النفس، وقوله﴿ غير الحق ﴾ مفعول مطلق وصف لمصدر محذوف، والمعنى يظنون ويتوهمون بالله ظنا ليس هو الحق، ولا الذي يجب ان يظن بالله تعالى، وهو العدل والمعاونة الصادقة، والتأييد عند الثبات، وقد بين سبحانه وتعالى ذلك الظن غير الحق والذي لا ينبغي ان يظن بالله تعالى، بينه بطريق عطف البيان، او البدل المبين فقال :﴿ ظن الجاهلية ﴾ وشان اهل الجاهلية ان يطرحوا عن انفسهم التبعات، ويدعوا الا مسئولية عليهم، وان الأمر للمقادير وحدها إذ كانت النتيجة على غير ما يبغون.
ولذا قال سبحانه في تفسير ظن الجاهلية :﴿ يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله ﴾.
هذا القول هو مظهر الظن الباطل الذي ظنوه بالله سبحانه وتعالى : والاستفهام هنا استفهام إنكاري بمعنى النفي المطلق الشامل، والمعنى : ليس لنا من الأمر شيء أي شيء، فلسنا مسئولين عن الهزيمة عن انهزمنا، إنما الأمر كله لله تعالى، فأمر النصر والهزيمة بيده، وقد وعدنا بالنصر ولم ننتصر، فهم يلقون عن انفسهم كل تبعة وكل مسئولية. وإن هذا إنكار للأسباب، وظن جاهلي ؛ لأن الجاهلي إذا انتصر فرح وأشر وبطر، وأصابته عزة النصر غير ملتفت إلى إرادة غير إرادته، وإن أصابته كارثة حسبها من المقادير ملقيا عن نفسه كل تبعة، وقد رد سبحانه وتعالى وهمهم بأن امر النبي بقوله :﴿ قل إن المر كله لله ﴾ أي ان تقدير الأمور كلها لله سبحانه وتعالى، لا امرا النصر والهزيمة، فكل شيء عنده بمقدار، ولكنه سبحانه وتعالى خلق كل شيء بحكمته ومشيئته وإرادته وحده، وهو الذي قدر الأسباب ومسبباتها، وربط بين الأفعال ونتائجها، فمن اختلفوا ولم يطيعوا قائدهم، وأقدموا على الغنائم في غير الوقت المعلوم فلا بد ان يحدث عن فعلهم الهزيمة والاضطراب، لأن هذا هو النظام الذي سنه رب البرية في الارتباط بين الأسباب ومسبباتها، فكون المر كله لله لا ينفي عنكم التبعة، بل يؤكدها وقوله تعالى :﴿ قل إن الأمر كله لله ﴾ جملة سامية معترضة بين متلازمين، وهو قولهم :﴿ هل لنا من الأمر من شيء ﴾ وقوله تعالى من بعد ذلك :﴿ يخفون في انفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ﴾.
ظاهر الجملة السابقة انهم يلقون عن انفسهم التبعة بتقرير ان امر النصر بيد الله تعالى، وانه قد حرمهم منه، وفي هذه الجملة يبين الله سبحانه وتعالى ان لهم غاية يقصدون إليها من وراء هذه الجملة، وهو إثبات ان الذي كان سبب قتلهم ووقوع الهزيمة عليهم هو خروجهم على هذا المكان، ولو بقوا في أماكنهم بالمدينة ما قتلوا، وكان في ذلك إشارة إلى ما كان من خلاف عند مجئ المشركين إلى المدينة أيخرج المؤمنون إليهم ليقاتلوهم في احد ام يبقون في المدينة حتى يقاتلوهم في الأزقة ومن وراء الجدران فلا يبقوا منهم أحدا، وان الذي اختارته الكثرة هو الخروج، وان النبي صلى الله عليه وسلم نزل على حكمها وغن كان يرى غيره. إلى آخر ما كان في هذه المشاورة، وعلى هذا تكون خلاصة المعنى : يخفون بقولهم هل لنا من الأمر من شيء امرا لا يريدون إبداءه، وهو انهم لو كان لهم رأي يطاع، وقول يسمع ما خرجوا إلى هذا المكان وقتلوا فيه، بل بقوا في ديارهم آمنين، ولكنه امر الله تعالى وتقديره، وتطوى هذه الجملة الإشارة إلى أمرين : احدهما- انهم ما كانوا يريدون القتال، ولكنه قدر الله وأمره لهم، وهذا يذكر بقوله تعالى :﴿ إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا والله وليهما... ١٢٢ ﴾[ آل عمران ]. والأمر الثاني الذي يشير إليه النص- انهم ما كانوا يرون الخروج من المدينة للقتال ؛ بل ينتظرون حتى يجئ إليهم الأعداء، وانه لو كان لهم شأن ما خرجوا وما قاتلوا.
وهم في كلتا الحالين يلقون تبعة الهزيمة عن انفسهم، ويشيرون على ان الخروج لم يكن رأيا حسنا، ولكنه قضاء الله وقدره جعلهم يقعون في هذا الخطأ.
وقد رد سبحانه وتعالى ذلك عليهم بقوله :
﴿ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل على مضاجعهم ﴾ أي ان الله سبحانه قدر الأمور تقديرا، ولكل اجل كتاب، فأولئك الذين كتب عليهم ان يقتلوا في الميدان، لا بد ان يقتلوا، فلو كنتم في بيوتكم، لخرجوا إلى الأماكن التي قتلوا فيها وقتلوا، ومعنى"برز" أي خرج من مكمنه المستور الذي لا يظن الخروج منه، والمضاجع جمع مضجع، وهو مكان النوم، والمراد هنا مكان قتلهم الذي قتلوا فيه وصرعوا وناموا على يوم البعث والنشور ؛ وهو المكان الذي خرجوا إليه في احد وماتوا فيه، وفي هذا يدعوهم رب البرية ان يستسلموا لحكمه، ويخضعوا لقدره، ويرضوا به، ويطمئنوا إليه ؛ لأن الاطمئنان إلى القدر بعد اخذ الأسباب رضا بحكم الله وقبول لإرادته في خلقه، وعدم الرضا بالقدر تمرد على الخالق، وانزعاج نفسي لا علاج له ؛ وإذا كان من الناس من يعيب الرضا بالقدر فهي نزعة إلحاد في النفس، والذين يشكون من المقادير، ويتمردون عليها لا يرضون برب المقادير حكما عدلا وهو اللطيف الخبير، السميع البصير، والرضا بالقدر يلقى في النفس بالاطمئنان والصبر والرضا والقدرة على الاحتمال، والاستعداد للقابل وعدم الالتفات إلى الوراء، فمن لا يؤمن بالقضاء قصير النظر، ومن يؤمن به متجدد الفكر ؛ نظره إلى الأمام دائما ثم قال سبحانه :﴿ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ﴾.
الواو هنا عاطفة ؛ والمعطوف عليه فعل دل عليه ما طوي في الكلام السابق، من معنى الدعوة إلى الصبر والاطمئنان والاستجابة للدعوة، لتتعودوا الصبر والاطمئنان والاستجابة للدعوة، ولتتعودوا ان الحياة قد اختلط حلوها بمرها، وليبتليكم.
ومعنى قوله سبحانه :﴿ وليبتلي الله ما في صدوركم ﴾ يعاملكم كعاملة المختبر لنفوسكم، فيظهر ما تنطوي عليه فيعالج هذه الأوزار التي تظهر بما يذهب بوضرها١ ويوجهها نحو الخير، ومعنى يمحص قلوبكم، يزيل ما عساه يعلق بها من أدران، ويطهرها مما يخالطها من ريب يحدث من الشدائد ؛ وذلك لأن محص ومحص في أصل معناهما تخليص الذهب مما يختلط به من مواد غريبة عنه.
وخلاصة معنى النص الكريم : نزل
التولي يستعمل بمعنى الإقبال وبمعنى الإدبار، فإن كان متعديا بنفسه كان بمعنى الإقبال، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا... ٥٦ ﴾[ المائدة ]، و﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم... ١٣ ﴾[ الممتحنة ] وإذا كانت متعدية ب"عن" أو غير متعدية أصلا كانت بمعنى الإعراض ومنه الإدبار عن الزحف والأمر في وقته، وهي هنا لذلك، والتولي الذي وقع فيه أولئك الذين ذكرهم سبحانه يوم التقى الجمعان كان في احد ويشمل فريقين : احدهما الذين أقبلوا على الغنيمة وتركوا مواقعهم من الرماية فأولئك بتركهم مواقعهم وإقبالهم على الغنيمة كانوا مدبرين يشبهون الفارين( والفريق الثاني ) الذين فروا من القتال يوم أن اضطربت الموقعة وأصيب المؤمنون بجراح، وكانت فيهم مقتلتهم. وقد ذكر سبحانه السبب فقال تعالى :﴿ إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ﴾ ومعنى استزلهم الشيطان طلب لهم الزلل وسهله لهم ببعض ما كسبوا من صغائر ؛ فإن النفس تمرد عليها١ وتسير في طريقها، ولقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني : استزله إذا تحرى زلته. وقوله تعالى :﴿ إنما استزلهم الشيطان ﴾ أي أستخرجهم حتى زلوا فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه، ومعنى هذا ان الشيطان لا يفتح معاقل النفس، ويغزو مواضع الفضيلة، إلا بالصغائر التي تسهل الرذائل، فإذا فتح النفس من هذا المعقل هجم بكل أسلحته، فتحكم الهوى والشيطان واستضعفت النفس وذلت، وأحاطت بها الخطايا، وسدت عنها منافذ الهداية والنور.
والمعنى الجملي ان أولئك الذين كانوا سبب تلك الجراح او فروا من الموقعة قد وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ان نفوسهم لم تتجه إلى الله بكلتيها ولهذا استزلهم الشيطان، وأمامهم الفرصة لتطهير نفوسهم، وقد أعلن سبحانه العفو عنهم فقال :﴿ ولقد عفا الله عنهم عن الله غفور حليم ﴾.
وقد أكد سبحانه عفوه بأربعة تأكيدات أولها : باللام فهي تنبئ عن القسم، والثاني : قد، فإنها تفيد تأكيد تحقق القول، والثالث : وصف الله تعالى بالمغفرة فإنه يؤكد ان العفو شأن في شئونه سبحانه، والرابع : الوصف بالحلم فإنه سبحانه لا يسارع بالعقاب :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة... ٤٥ ﴾[ فاطر ].
وقد أكد سبحانه امر العفو، لتذهب عن نفوسهم حيرتها، ولتنخلع من الماضي ولتستقبل الحاضر والمستقبل بقلب جرئ ثابت، ولتشعر بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده.
ربنا اعف عنا واغفر لنا وارحمنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
ما زالت النصوص القرآنية الكريمة تذكر العبر في هزيمة احد، وكان هذه الهزيمة التي لم تكن فاصلة، بل رجع فيها المنتصرون لم يلووا على شيء- فيها دروس فائدتها اكبر من فائدة النصر، وفيها كشف لأحوال نفسية، ومعرفتها ذريعة إلى الاستمرار على القتال والانتصار فيه، وفي هذه الآيات بين الله سبحانه وتعالى الفرق بين النفس المؤمنة إذا فقدت أحبابها أو أصفياءها في جهاد او ما يشبهه، والنفس الكفارة إذا أصيبت بمثل هذه الإصابة، وفي هذه الآيات أيضا يبين سبحانه ان النظر إلى الماضي المؤلم من غير الاقتصار على الاعتبار يؤدي إلى الحسرة والحزن الدائم، فالنفس الدبرية التي تلاحقها دائما بآلام الماضي لا تسعد في ذاتها، ولا تتأهب لعمل يحتاج إلى تضافر الهمم وتحفز العزائم، فإن تقرح القلب بآلام الماضي كفر بالله، وعدم تفويض إليه سبحانه، وعدم إيمان بالمستقبل الذي يكون يوم القيامة، ويكون المر فيه كله لله تعالى، وإن هذه الروح الدبرية هي روح الكافرين، وقد نهى الله سبحانه عن ان يكونوا مثلهم، فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم... ﴾.
الخطاب واضح بأنه للمؤمنين الصادقي الإيمان، وهو نهي عن التشبه بالذين كفروا، في حالهم التي يبينها سبحانه وتعالى، وفي التعبير بالذين كفروا إشارة إلى ان الجزع للحاضر او الماضي، والالتفات إلى الماضي، والنظر إلى وجوب تغييره، وقد سجل في الوجود، وأصبح لا سبيل إلى تغييره ؛ لأن ما وقع لا يكون- كل هذا من شأن الكافرين الذين يأسرهم ما يقع، ويتخذون"لو" التي هي سبيل الشيطان دائما وسواسا لنفوسهم، يكررون ما كان يجب، وقد وقع ما وجب، والبصير الذي آتاه الله نعمة الهداية والتوفيق لا يفكر إلا فيما يجب في المستقبل على ضوء ما وقع في الماضي وصيغة النهي التي عبر بها سبحانه :﴿ لا تكونوا كالذين كفروا ﴾ تفيد تباعد ما بين المقامين : مقام الإيمان، ومنزل الكفران، وانه لا يصح بالمؤمن ان ينزل إلى المرتبة الدون، بعد ان علا بالإيمان إلى مقام الأعلين الأبرار ؟، وفي هذا تقبيح المنهى عنه بأبلغ تعبير، وأرق تصوير ؛ إذ حسب الذين أهمتهم انفسهم، وقالوا عن إخوانهم في حال يأس مستول :﴿ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا... ١٥٤ ﴾[ آل عمران ]، أن يكونوا في هذا كالذين كفروا ؛ إذ يوسوس إليهم الجزع بأن يقولوا مثل هذه المقالة- حتى يبتعد المؤمنون عنها، ويجانبوها كل المجانبة، والأمر نهى عن المماثلة فيما حكاه سبحانه يقول :﴿ وقالوا إخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ﴾.
ضربوا في الأرض معناها سافروا وأبعدوا في السفر، ولم يكن سفرا قاصدا، بل كان سفرهم فيه مشقة وجهد، وتعرض فيه المسافر للأذى. وغزى : جمع غاز، كراكع وركع، وصائم وصوم، ونائم ونوم، وشاهد وشهد، وغائب وغيب، واللام في قوله تعالى :﴿ لإخوانهم ﴾ إما ان تكون دالة على موضع الخطاب، ويكون المعنى ان هؤلاء الذين كفروا لفرط جزعهم على الذين فقدوهم يقولون لإخوانهم الأحياء : لو كانوا مقيمين معنا، وملازمين بيوتهم، ولم يضربوا في الأرض ولم يغزوا فيها ما ماتوا وما قتلوا ؛فالأحياء يتبادلون الكلام في شأن الذين قتلوا او ماتوا.
ويقول الزمخشري : إن اللام هنا ليست دالة على الخطاب، إنما هي للتعليل، والمعنى : يقول أولئك الذين نجوا لأجل ما فقدوه من إخوانهم، وتحسروا وأسفا عليهم : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.
وهذا القول ينبعث من قلوب غير مؤمنة يسيطر عليها غم حاضر وهم غابر، وهو يدل على ضيق العقول، ومصادمة لكل معقول تحت تأثير الهوى الجامح المسيطر، فإنهم ما داموا قد خرجوا مختارين، فليس لكلمة"لو" مقام بعد ذلك في اعتبارهم، ثم إن هذا الكلام يضعف العزيمة، ويفتح القلوب للخور، فالمأسور بهزيمة الماضي لا ينتصر في المستقبل، وفوق هذا فإن ذلك القول يدل على عدم تفويض الأمور لله سبحانه، فهو مسير كل شيء، وكل شيء عنده بمقدار، وعلى المؤمن ان يعمل ويجد، ويترك تقدير الأمور لرب العالمين، وما حاول إنسان ان يضبط شئون المستقبل كما يجب إلا أصابه الله سبحانه وتعالى بما يخالف تقديره، ويبطل تدبيره، وهذا القول لا يصدر أيضا إلا عن قوم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يرجون ما عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك ذكر سبحانه انه من خواص الذين كفروا بالله واليوم الآخر، وغن تلك الحال اليائسة القاتلة شأن من شئون الذين يلحدون في الله دائما، وهي عقاب دنيوي لهم، ولذا قال سبحانه :﴿ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ﴾.
اللام هنا هي التي تسمى لام العاقبة، وهي تدل على المآل، ولا تدل على التعليل الباعث، وذلك مثل قوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا... ٨ ﴾[ القصص ] فإنه ما كان الباعث على الالتقاط هو ان يكون لهم عدوا وحزنا، بل كانت النتيجة هي العداوة.
ويصح ان تكون اللام للتعليل ؟، ويكون المعنى : ان الله سبحانه وتعالى خلق الكفار على هذه الخلاق اليائسة، أو قدر لهم هذه الأحوال الموئسة ليلقى الحسرة في قلوبهم، والغم في نفوسهم، والضلال بهذه الأقوال في عقولهم.
والحسرة هي الهم المعيي الكاشف للنفس الذي يلقى بالحزن المستمر فيها، وقد قال الأصفهاني في هذه المادة :"الحاسر من لا درع له، والحاسر المعيا لانكشاف قواه، ويقال للمعيا حاسر ومحسور، أما الحاسر فتصور انه قد حسر بنفسه قواه، وأما المحسور فتصور ان التعب قد حسره، وقوله عز وجل :﴿ ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير٤ ﴾[ الملك ] يصح ان يكون بمعنى حاسر وان يكون بمعنى محسور، وقال تعالى :﴿ فتقعد ملوما محسورا٢٩ ﴾[ الإسراء ]، والحسرة الغم على ما فاته، والندم عليه، كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، وانحسرت قواه من فرط غم، وأدركه إعياء من تدارك ما فرط منه، قال تعالى :﴿ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ﴾ ﴿ وإنه لحسرة على الكافرين ٥٠ ﴾[ الحاقة ]. ومن هذا يتبين ان معنى الحسرة يتضمن هما وحزنا وإعياء، وتكشفا للآلام يلقى تشاؤما وارتياعا وانزعاجا مستمرا.
والكلام السابق على أساس أن الحسرة نتيجة لقولهم واعتقادهم الفاسد، ذلك انها تلقى في قلوبهم ضعفا وألما، فالسبب في الحسرة على هذا التوجيه من انفسهم التي ركبها الله سبحانه وتعالى ذلك التركيب، ويصح ان تكون الحسرة نتيجة للنهي، وتكون اللام للتعليل، ولا تصلح ان تكون للنتيجة والمآل، ويكون المعنى على هذا : ياأيها المؤمنون لا تكونوا كالذين كفروا إذ يشغلهم الماضي ولا يفكرون في الحاضر، بل اتخذوا من الماضي عبرة، وفوضوا الأمور إلى الله تعالى ليجعل الله لكم بهذا قوة، ويكون ذلك حسرة في قلوب الكافرين ؛ إذ يرونكم مستبشرين بنعمة من الله وفضل دائما، فلا تألمون لمن تفقدون، ولا تتخاذلون بمن يقتلون من صفوفكم، بل تأخذون الأهبة، وتتقدمون طالبين الشهادة او النصر المؤزر، وذل هو سبب الحسرة.
﴿ والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ﴾ في هذه الجملة السامية ترشيح وتقوية لمعنى النهي السابق، وتأكيد لضلال الكفار ومن يحاكونهم في انشغال انفسهم بمن ماتوا، وظنهم ان الخروج هو الذي كان سببا في قتل من قتلوا، كما قال الكافرون :﴿ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ﴾، ففي هذه الجملة يبين سبحانه ان الأرواح كلها بيد الله تعالى يقبضها عن شاء، ويرسلها عن أراد، فهو سبحانه لا يتقيد بخروج للقتال، فالقعود لا يضمن الحياة، والخروج لا يكون معه التلف، بل ربما كانت فيه النجاة، وهذا مثل قوله تعالى :﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة... ٧٨ ﴾[ النساء ] وإنه إذا كانت الحياة والموت بيد الله وحده قد جعل لكل اجل كتابا ومن جاء اجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم، وان الله سبحانه وتعالى خالق الأسباب ومسبباتها، وهو الذي يربط بينهما برباط السببية لحكمة يراها، والأسباب لا تلزمه سبحانه، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، والله سبحانه في أفعاله كلها بالإحياء والإماتة يتصرف تصرف العليم الخبير، ولذا قال سبحانه :﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ أي ان الله تعالى عليم علم من يرى ويبصر بأعمالكم التي تعملونها، يعلم البواعث والنتائج ويعلم الحقائق والوقائع، فلا تذهب أنفسكم حسرات على الماضي، واستعدوا.
اشتمل الكلام على قسم وجملة شرطية واقعة، فالله سبحانه وتعالى يقسم وهو العزيز الحكيم بأن من يموت او يقتل في سبيل الله طالبا رضاه محتسبا النية في جهاده يناله جزاءان عظيمان : أحدهما- ان يغفر الله تعالى ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتلك نعمة عظيمة، لا يشعر بها إلا من يشعر بتقصيره ويحاول رضا مولاه، ويغلب الخوف على الرجاء، ويستصغر حسناته بجوار ما يرتكب من هفوات، وتلك مرتبة الصديقين والشهداء والصالحين، وذلك ما يتضمنه الوعد بالمغفرة من رضوان الله تعالى، فإن الله تعالى لا يغفر إلا لمن يرضى عنه، ويذهب عنه سخطه سبحانه وتعالى، ففي الوعد بالمغفرة نعمة الغفران، ونعمة الرضوان وهو أكبر.
الأمر الثاني- الرحمة من الله تعالى، ورحمة الله تعالى تتضمن الثواب، والنعيم المقيم يوم القيامة، وذكر رحمة الله تعالى في هذا المقام لكيلا تذهب نفوس المؤمنين حسرة على ما ماتوا منهم، فإنهم ليسوا في شقاء بل هم في نعيم، ﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء عند ربهم يرزقون١٦٩ ﴾[ آل عمران ].
وهنا بحوث ثلاثة حول هذا النص الكريم :
أولها : انه سبحانه وتعالى صرح بأن مغفرته ورحمته خير مما يجمع المشركون من أموال وعقار وكل أغراض الدنيا، ويقول ابن عباس فيما روى عنه من تفسير :( خير من طلائع الأرض ذهبة حمراء ) أي خير من ملء الأرض ذهب احمر، و"خير" افعل تفضيل، وهو هنا ليس على بابه فإن الخيرية في مغفرة الله تعالى، ولا خيرية فيما يكنزون، فإنها تكوى بها جباههم وجنوبهم، او تقول أفعل التفضيل على بابه، ويكون المراد من الخير مطلق النفع، ولا شك ان رحمة الله ومغفرته انفع لأنهما أبقى.
ثانيها : أنه ذكر ان الموت قد يكون في سبيل الله وذلك إذا كان المؤمن يعيش طول حياته مخلصا لله وللحق وللمعرفة والهداية يحب الشيء لا يحبه إلا لله تعالى، وكان الله ورسوله احب إليه من نفسه، فإن من يكون كذلك يعيش لله وفي سبيل الله ويموت في سبيل الله.
الخطاب الأول للتبشير بالنسبة للمجاهدين كما أشرنا والخطاب هنا يعم المجاهدين وغيرهم، ولذا قدم فيه( متم ) على ( قتلتم )، وبين أن الجميع سيلقون ربهم، وأنهم سيحشرون إليه، أي سيجمعون جميعا يوم الحشر مسوقين إليه سبحانه وتعالى، والتعبير بالحشر إشارة إلى ان الجميع يجتمعون لا يفلت منهم احد ؛ فالمنافقون والمشركون والمؤمنون الذين قتلوا والذين نجوا مجموعون عند ربهم، وسيلقاهم، وسيحاسب كل امرئ بما كسب، للمجاهدين مقامهم، ولغيرهم مهواهم الذي هووا إليه، ففي هذا إنذار وتبشر وتذكير بلقاء الله العلي الكبير، اللهم هب لنا من لدنك رحمة، إنك انت الغفور الرحيم.
بين سبحانه حال المؤمنين قبيل المعركة في غزوة احد، وبعدها، وفي أثنائها وما أصابهم من غم، ثم بين سبحانه دواء أسقامهم، ودعاهم إلى استئناف الجهاد، وإن يكونوا قد مسهم قرح، فقد مس القوم قرح مثله، وقد بين سبحانه أسباب الهزيمة ليتوقوها، فإن الغلط الذي يعلم الصواب خير، وليس بشر، ولقد بين بعد ذلك سبحانه حال النبي صلى الله عليه وسلم في القيادة الحكيمة، وما اتبعه وما تحلى به، وأمره سبحانه وتعالى بالاستمرار عليها، فبين سبحانه ان القيادة الحكيمة تكون مع العزيمة رحيمة، ومع استقبال الأحداث بقوة تكون خالية من الفظاظة والقسوة، وتلتزم الصفح عن الخطأ ليعتزموا الصواب، والاستغفار من الذنب لتجدد التوبة،
ولذا قال تعالى في حال النبي صلى الله عليه وسلم، وما انبعث منه في موقفه يوم احد، فقال تعالت كلماته :﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾.
"الباء" هنا باء السببية، و"ما" زائدة في الإعراب، ولكنها في المعنى لتقوية معنى الرحمة، والمعنى : بسبب رحمة أي رحمة عظيمة فياضة أفاضها المولى العلي القدير كنت لينا معهم في كل أحوالك، وكنت لينا لهم بعد الأخطاء التي وقعوا فيها، والكارثة التي نتجت عن مخالفتك، فما لمتهم، ولا عنفتهم بل سكت حيث رأيت ما أصابهم من غم أستغرقهم، وحزن استولى عليهم، ولقد شكر الله سبحانه وتعالى لنبيه ذلك اللين ؛ إذ لم يؤاخذهم، ولم يفرط في القول معهم ؛ لأن اللوم على الماضي ييئس النفس من غير جدوى، وهو رجعة إلى الوراء، والقائد الحكيم يتجه إلى الأمام، ولا يلتفت إلى ورائه إلا بمقدار ما ينير له السبيل امامه، وبمقدار ما يجنبه خطأ وقع فيه، وبمقدار ما يحفز همة من معه، ويشحذ عزيمتهم، وإن المبالغة في اللوم على ما وقع في الماضي يلقى باليأس، وفي اليأس الهزيمة، واليأس والقنوط إسراف على النفس بالهموم، ولا نجاح لمن في هم دائم، وحزن واصب، فكان لين النبي صلى الله عليه وسلم معهم في هذه الآلام التي أصابتهم كالبلسم الشافي لأسقامهم، والقائد الماهر الحكيم يجب ان يجمع إلى العزيمة القوية الموجهة إلى العمل البشر ولين العريكة، وتسهيل الخروج من أوضار الخطأ، حتى لا يعنتهم ولا يبهظهم١، وحسبهم ما أصابهم، وغن الشدة في مثل هذه الأحوال والغلظة في القول والعمل تنفر ولا تجمع، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله :﴿ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾.
وهذا النص الكريم يثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم ليس فظا ولا غليظا ولا قاسيا ؛ لأن( لو ) تدل على نفي الجواب لنفي الشرط، والمعنى انك لست فظا ولا غليظ القلب، وهذا هو الذي يتفق مع صفات النبوة والقيادة الحكيمة الرشيدة الهادية الموجهة على أمثل الطرق الجامعة للقلوب، لأنك لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. والفظاظة خشونة المظهر، والعشرة السيئة، وسوء القول، وتجهم الوجه ؛ وغلظ القلب قسوته، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن نبيه الغلظة في المظهر والباطن، فالغلظة في المظهر هي الفظاظة، والغلظة في الباطن قسوة القلب وكلا الوضعين من شانه ان ينفر، ولقد قال الله تعالى في وصف نبيه :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم١٢٨ ﴾[ التوبة ]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم باشا لطيف المعشر متسامحا رحيما لا يقسو ولا يتعنت أحدا ولا يغضب ولا يسب، وما ضرب أحدا بيده قط، وكان سهلا في معاملاته متسامحا، وكان طلق الوجه دائما، رآه أعرابي، فاسترعاه بشاشته وطلق محياه فقال له : أأنت الذي تقول عنه قريش إنه كذاب ؟ والله ما هذا الوجه بوجه كذاب !. وأسلم إذ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد وصف عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى اله عليه وسلم، فقال( إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بمثلها، ولكن يعفو ويصفح )٢. وكان عليه الصلاة والسلام لا يثير غيظه شيء، ويداري الناس إلا ان يكون في المداراة حق مضيع، ولقد روت عائشة رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض"٣.
وإذا كانت الغلظة منفرة فالعفو جامع، ولذلك امر الله تعالى نبيه الكريم بما يترتب على الرفق والبشاشة، وهو العفو فقال :﴿ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ﴾.
الفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي انه يترتب على اتصافك بالعفو والرحمة والبشاشة، والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب ان تكون عفوا، ولذا امره سبحانه بالعفو عن المخالفة التي وقعوا فيها، وترتب عليها ما ترتب من هزيمة وفوات فرصة، وإن العفو في هذه الحال ليس للرحمة فقط، بل هو للمصلحة أيضا ؛ لأنه يشحذ العزائم، إذ هو يقيل من العثرة، و ويرفع من الكبوة، وعندئذ تستقيم القلوب نحو الحق، كما قامت الأجسام بعد الوقوع.
وأمره سبحانه بأن يستغفر لهم، بأن يطلب من الله ان يغفر لهم ما أساءوا، وان يغفر هو لهم هذا الخطأ، وغن في استغفاره الله تعالى لهم، وإعلانه ذلك الاستغفار بينهم تأكيدا لعفوه، وتشجيعا، وضراعة إليه سبحانه ان يجعل حاضرهم وقابلهم خيرا من ماضيهم الذي أخطئوا فيه.
وقد امر نبيه بأمر ثالث، وهو ان يشاورهم، وإن المشاورة من بعد ما كان منهم دليل على عفو النبي صلى اله عليه وسلم بعد الله تعالى وغفرانه ؛ لأن مما اخطئوا فيه في الماضي ان النبي صلى الله عليه وسلم شاورهم في امر الخروج إلى لقاء المشركين في احد، وانه كان يميل إلى البقاء حتى يدخلوا المدينة، وشبابهم كان يريد الخروج، فنزل عليه الصلاة والسلام عند رأيهم، ثم كان ما كان منهم من ان طائفتين همتا بأن تفشلا، ثم ما كان من خروج الرماة عن مواقفهم، ولو بقوا في المدينة ما وقع هذا، ولكن الله سبحانه مع ذلك امره بمشاورتهم للإعلان عن سماحته المطلقة، ولأن المشاورة إن اخطات فيها النتيجة مرة، فصوابها كثير.
والشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، قد التزمها النبي صلى الله عليه وسلم في كل امر كان يمس أمور المسلمين العامة فقد استشار في غزوة بدر قبل وقوعها، واستشار في الأسرى غب وقوعها، واستشار في أحد، واستشار في غزوة الأحزاب، وكان من نتائج الشورى حفر الخندق والتحصن وراءه، واستشار في القتال يوم الحديبية، والتزم أبو بكر ومن بعده عمر الشورى، وما اضطرب حبل الأمور من بعد إلا عندما منعت امر الشورى.
والأمر الذي وجه للنبي صلى الله عليه وسلم في الشورى قال بعضهم غنه امر إلزام، وقال آخرون إنه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ليس امر إلزام، بل طلب استحباب، ولكن الأكثرين على انه امر إلزام، بدليل التزام النبي صلى الله عليه وسلم للمشاورة في كل أمر يمس مصلحة المسلمين في السلم او في الحرب، ولم يكن تبليغا لرسالة ربه ؛ وإن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تعليم لنا.
ومن المتفق عليه ان الشورى لازمة بالنسبة لغير النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى :﴿ وأمرهم شورى بينهم... ٣٨ ﴾[ الشورى ] أي الأمر الجامع للمسلمين يكون بالشورى وتبادل الآراء، والتعاون والإخلاص في القول، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"الدين النصيحة، قلنا : لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"٤. والنصيحة لعامة المؤمنين هي بالشورى التي تبدى فيها الآراء لله وحده، لا لشيء سواه، ولا لطلب الجاه عند الناس. ولقد قال البخاري :" وكان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من اهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها"٥.
ومع اتفاق الفقهاء على ان الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام لم نجد نصا قرآنيا وضع منهاجا لها، ولم نجد النبي صلى الله عليه وسلم وضح أسسها وطرائقها، نعم إنه كان يستشير من معه من اهل المدينة، وكذلك كان يفعل الشيخان ابو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلماذا لم يبين ذلك في كتاب ولا سنة ؟ والجواب عن ذلك ان مناهج الشورى تختلف باختلاف الجماعات وباختلاف الأحوال، وباختلاف الموضوعات ولا يوجد نظام ضابط لكل ذلك، بل ترك سن النظام للناس، ولا بد ان يتحقق معنى الشورى في النظام على ان يكون اهل الشورى من ذوي العلم والخبرة، ففي أمور الحروب يستشار اهل الحرب، وفي أمور القانون يستشار الفقهاء والمشرعون، وفي أمور العمران يستشار اهل الهندسة، ولذلك تتألف اللجان في المجالس النيابية من اهل الخبرة في كل امر من أمور العامة.
وفي الجملة فإن الشورى مطلب كالعدل، يجب تحققه من اقرب الوسائل إليه توصيلا، ولقد جاء في تفسير القرظي ما نصه :
" والشورى بركة، وقال عليه الصلاة والسلام :"ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار"٦ وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما شقى قط عبد بمشورة، وما سعد باستغناء رأي"٧.
وإنه يجب ان نعلم حقيقتين ثابتتين :
أولاهما : ان الشورى إحساس نفسي من الحاكم يدفعه على طلب امثل الطرق للحكم وتحقيق العدالة والمصلحة، فإن لم يكن في الحاكم ذلك الخلق، فإنه لا ينتفع بأي نظام للشورى مهما يكن، وإذا لم يكن المستشار يحس بأن إبداء القول في الشورى واجب عليه وليس مجرد حق له فإنه لا يمكن ان يكون من رجال الشورى.
ثانيهما : انه لا يعادى الشورى من الحكام إلا احد اثنين إما رجل قد أصابه داء الغرور، فظن ان قوله الحق الذي لا يخالطه باطل، وغما رجل يخاف من اطلاع الناس حتى لا يظهر شيء من أموره.
والمشاورة لها وقت معلوم، وهو وقت الدراسة والفحص، فإذا تمت المشاورة وجب الأخذ بالعزيمة في الأمر والإقدام على العمل ؛ ولذا قال سبحانه بعد الأمر بالشورى :﴿ فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ﴾.
العزيمة عقد النية على إتمام المر بعد الاستشارة، والنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لتحقق العزم سبق الاستشارة فاعتبر الشورى ركنا من أركان العزم، فقد سئل صلى اله عليه وسلم عن العزم، فقال :"مشاورة اهل الرأي ثم أتباعهم"٨. وفي النص القرآني الكريم، والحديث النبوي الشريف إشارة إلى انه بعد تعرف كل وجوه الرأي يكون الاعتزام ثم يكون العمل، ولا يصح ان تكون مشاورة أخرى بعد الدراسة العميقة السابقة إلا إذا جد امر لم يكن في الحسبان ولم يكن في تقدير الذين استشيروا اولا فإنه يعاد النظر إليهم، وفي غير هذه الصورة تكون العودة إلى الاستشارة ترددا يدعو إلى الهزيمة والاضطراب، ولا يصح ان يكون التعصب لرأي إذا لم يؤخذ به باعثا على إعادة النظر، فإن ذلك استبداد من أصحاب هذا الرأي، وفوضى في الشورى ؛ لأن ما يعتزم من آراء بعد الشورى هو رأي الجميع، ويجب ان يفنى معه كل رأي معارض وغن النبي صلى الله عليه وسلم مع انه في غزوة احد كان يرى البقاء في المدينة حتى يجئ إليها المشركون فيضيعوا في طرقها وأزقتها، وتكون الدور حصونا يرمون منها ولكن الكثرة رأت غيره، فنزل على رأيها، وأمضى الأمر، ولما وجدت حركة تدعو إلى رأيه وتكو
٢ رواه بنحوه البخاري: تفسير القرآن-﴿إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا﴾(٤٤٦١)، والدارمي: المقدمة-صفة النبي صلى الله عليه وسلم(٦)، واحمد مسند المكثرين(٦٣٣٣) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه..
٣ جمع الجوامع(٤٧١٣)، والسلسلة الضعيفة للألباني(٨١٠)، والفتح الكبير ج١، ص٢٦٩، وكنز العمال جزء١، ص ٥١٠..
٤ رواه مسلم: الإيمان-الدين النصيحة(٥٥)، وذكره البخاري في الترجمة: الإيمان-الدين النصيحة، كما رواه النسائي: البيعة- النصيحة للإمام(٤١٢٦)، والترمذي: البر والصلة- ما جاء في النصيحة(١٨٤٩) عن تميم الداري رضي الله عنه..
٥ من كلام البخاري في ترجمة باب: الاعتصام بالكتاب والسنة-(باب قول الله تعالى: وأمرهم شورى بينهم، وشاورهم في الأمر)..
٦ جاء في مجمع الزوائد: ج٨ ص١٨١ (٧٥٣١) عن انس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد". رواه الطبراني في الأوسط والصغير من طريق عبد السلام بن عبد القدوس، وكلاهما ضعيف جدا..
٧ القضاعي في مسند الشهاب: ج٢، ص٦(٧٧٣) عن سهل ابن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما شقي عبد قط بمشورة، وما سعد باستغناء برأي، يقول الله تعالى﴿وشاورهم في الأمر﴾ وقال تعالى﴿وأمرهم شورى بينهم﴾"..
٨ أورده السيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص٣٥٧..
أي انه إذا أراد الله تعالى ان ينصركم، واستحققتم نصره فإنه لا يوجد قوم من شانهم ان يغلبوكم، والتعبير باسم الفاعل في قوله تعالى :﴿ فلا غالب لكم ﴾ يفيد انه لا يوجد من عنده القوة ومن شانه ان يغلبكم ؛ لأنه عن كان قويا في نفسه فالله معكم وهو القاهر فوق عباده، وهو الحفيظ عليهم، وخلق الإنسان ضعيفا مهما تكن قوته، وغن استحقاق نصر الله يكون بأخذ الأهبة ومبادلة الرأي، وتعرف أسباب النصر، ثم التوكل على الله تعالى، وتفويض الأمور إليه. وإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ان اعد الأهبة اخذ يدعو الله تعالى بالنصر، ويكرر هذه العبارة :"اللهم إن تهلك هذه العصابة من اهل الإسلام لا تعبد في الأرض"١.
وإنه إذا فقد المؤمن نصر الله فلا ناصر له من غيره، ولذلك قال سبحانه :﴿ وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ﴾.
أي إن يكتب الله سبحانه وتعالى لكم الخذلان، ويحرمكم من معونته وتأييده، فلا احد ينصركم من بعده أي ممن هو دونه او من بعد خذلانه، لأنه لا احد عنده قدرة تقف امام قدرة الله تعالى، والاستفهام ليوجه أنظار المخاطبين إلى البحث عن قوى تكون قدرته كافية للوقوف امام إرادة الله تعالى الخذلان، فإنهم سيبحثون عن قوى لا تكون قوته إلى بقاء، ولن يجدوه، فعندئذ يحكمون بأن الله وحده الكبير المتعال، ولا ناصر سواه﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾.
أي عليه وحده لا على شيء سواه، وأفاد ذلك تقديم﴿ على الله ﴾ أي ان المؤمنين لا يتوكلون إلا على الله سبحانه وتعالى فالاتكال عليه وحده، والإيمان متلازمان لا ينفصلان، فغير المؤمن يعتمد على الأشخاص الفانين، ام المؤمن فلا يعتمد على احد سوى الله تعالى، والاتكال على الله من مقتضيات الإيمان بالله وحده ؛ لأنه جزء من الوحدانية، فالذين يعتمدون على غير الله من العباد يصيبهم نوع من الشرك الخفي ؛ لأنهم يفرطون في تقدير العباد، بل قد تفرط منهم عبارات التقديس، وقد كان بعض الذين لا دين لهم يعبرون عن بعض الملوك بالذات العالية، وذلك شرك بلا ريب، وأهل الإيمان الصادق لا يعتمدون إلا على الله بعد أخذ الأسباب ؛ لنهم لا يؤمنون إلا بالله :﴿ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير٤ ﴾[ الممتحنة ].
الكلام في غزوة احد وما فيها من عبر وما بينه الله سبحانه وتعالى من أحكام لمناسبة ما كان فيها ؟، وفي هذه الآيات يبين ما يجب من مراعاة الأمانة بالنسبة للغنائم في الحروب، ذلك ان الرماة الذين خالفوا امر النبي صلى الله عليه وسلم قد خالفوه لأنهم خشوا ان ينفرد المقاتلون بالغنيمة دونهم ؛ إذ ظنوا ان من يستولي على شيء فهو له، وهم بموقفهم موقف الحراسة لظهور المقاتلين سيحرمون إن لم يقاتلوا، فبينت هذه الآيات بالإشارة انه لا قسمة قبل انتهاء المعركة، وان الغنيمة لا يختص بها فريق دون فريق، وان الغنيمة نتيجة النصر، والنصر ثمرة تعاون الجميع، فحق ان تقسم الثمرة على الجميع، ولقد روى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للرماة :"أظننتم انا نغل ولا نقسم لكم"١.
وإن الله سبحانه وتعالى يسن الحكام العامة للمناسبات الخاصة، ليكون السبب موضحا للحكم، وإن كان الحكم عاما، ولذا قال سبحانه :﴿ و ما كان لنبي ان يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ﴾.
ابتدأ سبحانه بنفي وصف الغلول وهو الخيانة في الغنائم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لبيان ان التسوية في القسمة مطلوبة من الجميع لا فرق في ذلك بين قائد وقائد، ولو كان احد يسوغ له ألا يسوى في القسمة لما كان رسول رب العالمين، ولكنه اول من ينفى عنه هذا الوصف، ولأن الرماة تعجلوا خشية ألا يأخذوا، فبين الله لهم ان عدم تسويتهم في الغنيمة غلول، وما كان الغلول من شان النبي صلى الله عليه وسلم، ولبيان ان عدم توزيع الغنيمة بالعدل خيانة، فلا يستكبر قائد عن أن يوصف بها إذا وقع منه عدم التسوية.
ومعنى قول الله تعالى :﴿ وما كان لنبي ان يغل ﴾ ما ساغ وما صح لنبي ان يخون، فالنفي هنا نفي للشأن، أي ليس من شان النبي ان يخون، والتنكير هنا للتعميم، فليس من شان أي نبي يتكلم عن الله تعالى ان يخون، وإذا كان التنكير للتعميم لأنه تنكير في مقام النفي، فمؤدى الكلام ان النبوة والغلول نقيضتان لا يجتمعان، فما كان لحد ان يظن ان النبي سوف لا يقسم بالسوية، وإذا وقع ذلك الظن فهو من الظن الإثم :﴿ إن بعض الظن إثم... ١٢ ﴾[ الحجرات ].
وأصل الغلول من الغلل، وهو دخول الماء في وسط الشجر كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني، وسميت الخيانة في الغنيمة غلولا ؛ لأنها تدخل الملك من غير حله وفي خفاء، كجريان الماء بين الأشجار في خفاء، ويقال تغلغل في الشيء دخل فيه واختفى، ويطلق الغل بكسر الغين على الحقد لأنه يكون دفينا متغلغلا في كيان النفس الإنسانية ويفسدها.
وإن المعنى الذي يجري عليه جمهور المفسرين بأن المراد بالغلول المنفى عن الرسول وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هو الغلول المادي في شئون المادة، ولم تتعرض الآية الكريمة للغلول المعنوي وهو كتمان ما انزل الله تعالى وعدم بيانه ؛ ولكن قال بعض العلماء : إن الغلول المنفي عن الأنبياء هو كتمان ما انزل الله تعالى وعدم بيانه ؛ لأن الغلول المادي غير متصور الوقوع، ولكن السياق لا يؤيد هذا المعنى ؛ لأن السياق كله فيما قبله وما بعده يدل على انه في الحرب وما يتعلق بها من غنائم أغرت الرماة وأخرجتهم من محارسهم٢ ؛ ولما يجئ بعد ذلك من تعميم الحكم لكل من يغل غير الأنبياء من حيث إنه يأتي بما غل يوم القيامة ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ﴾.
والمعنى ان من يخون في الغنائم او غيرها بأن يكون ذا سلطان على مال، فيخص نفسه منه بما شاء يأتي يوم القيامة مأخوذا بإثم ما غل يوم القيامة، صغيرا كان او كبيرا، حقيرا كان او خطيرا، فالمراد على التفسير من قوله سبحانه :﴿ بما غل ﴾ وزره ؛ وذلك كقوله تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره٧ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره٨ ﴾[ الزلزلة ] فما يراه الإنسان يوم القيامة هو عمله المبرور وعمله الموزور، وأما موضوع العمل فلا وجود له إذ هو يرى الوزر او يرى البر. وظاهر كلام المفسرين انه يرى ذات الشيء الذي غله، لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان :" لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول : يا رسول الله أغثني، فأقول له : لا املك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول : يا رسول الله أغثني، فأقول : لا املك لك من الله شيئا قد أبلغتك.."٣ فإن ظاهر هذا الحديث ان موضوع الغلول يجئ بذاته يوم القيامة، ومثل ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من الغلول في جمع الصدقات، فقد روى ان رجلا اسمه ابن اللتبية جمع الصدقات، ثم قال : هذا لكم وهذا اهدى إلى، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال :"ما بال العامل نبعثه، فيجئ، فيقول هذا لكم، وهذا أهدى لي، الا جلس في بيت أمه او أبيه فينظر أيهدي له ام لا، لا يأتي احد منكم بشئ إلا جاء به يوم القيامة، إن كان بعيرا فله رغاء، او بقرة فلها خوار، او شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتى إبطيه، ثم قال : اللهم هل باغت، اللهم هل بلغت"٤.
والذي نراه ان هذه الأحاديث إنما هي تصوير لما يكون يوم القيامة من ان وزره يكون قائما بين يديه، صور ما وقع وموضوع أوزاره تكون قائمة في كتابه كأنها حاضرة بأعيانها، هذا هو الذي تدل عليه الألفاظ، ولا نقول عن حضور ذات الأشياء مستحيل على الله، فإن الله على كل شيء قدير، ولكن نقول : إن ذلك هو ما يؤدي إليه الذوق البياني العربي، وإن ذلك يومئ إلى دقة الحساب، وقيام الموازين بالقسط، ثم بين سبحانه نتيجة هذا الحساب، فقال سبحانه :﴿ ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾.
وبعد الحساب العسير لهؤلاء الذين يأكلون الأموال بالباطل، ويغلون في الغنائم ؛ ويغلون في أموال الدولة- يوفون جزاء ما كسبوا من غير ظلم، وفي النص الكريم عدة إشارات بيانية، الأولى : التعبير ب( ثم ) وهي تفيد التراخي بين إحضار الأعمال بأوزارها ثم يتولى جزاءها ؛ فإن هذا التراخي يفيد طول الحساب، وطول الحساب عذاب في ذات نفسه، وهو في الوقت ذاته يدل على دقته إذ تقام الموازين بالقسط. والثانية : التعبير ب( توفى ) فإن فيه إشارة إلى انه لا ينقص شيء مما عملت عن خيرا وإن شرا، إلا ان يتغمده الله برحمته فيعفو عن بعض السيئات وهو العفو الغفور، والثالثة : انه عبر سبحانه وتعالى عن المساواة بين العمل والجزاء بقوله سبحانه﴿ ما كسبت ﴾ فإن هذا التعبير يفيد بظاهره ان الوفاء يكون بالعمل ذاته، ولكن المعنى : جزاء ما كسبت ولكنه سبحانه عبر بهذا التعبير للدلالة على كمال المساواة بين العمل وجزائه، حتى كان الجزاء هو العمل ذاته، والرابعة : قوله تعالى :﴿ وهم لا يظلمون ﴾ فيه تأكيد للمساواة وفيه أيضا نفى للظلم نفيا مؤكدا بالتعبير بالجملة الاسمية، إذ المعنى انهم ليس من شانهم ان يظلموا ؛ لن الله تعالى خالقهم والله تعالى لا يظلم مطلقا ؛ لأنه لا يليق بكماله تعالى، ولأنه كتب العدل على نفسه، كما ورد في الحديث القدسي٥.
٢ جمع محرس، اسم مكان من"حرس"، والجمع محارس، أي: أماكن الحراسة..
٣ رواه البخاري بنحوه: الجهاد والسير- الغلول وقول الله عز وجل﴿ومن يغلل يأت بما غل﴾(٢٨٤٤). ورواه مسلم: ك الإمارة-غلظ تحريم الغلول(١٨٣١)..
٤ متفق عليه؛ وقد رواه بألفاظ متقاربة البخاري: الأحكام- هدايا العمال(٦٦٣٩)، ومسلم: الإمارة (١٨٣٢)، كما رواه أبو داود: الخراج والإمارة والفئ(٢٥٥٧)، واحمد: باقي مسند الأنصار(٢٢٤٩٢)، والدارمي: الزكاة(١٦٠٩). تيعر، من اليعار وهو صوت الشاة. والعفرة: بياض غير ناصع مشرب بحمرة او سمرة..
٥ إشارة إلى الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه: البر والصلة- تحريم الظلم(٢٥٧٧) عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى انه قال:" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" الحديث..
هذا هو القانون السامي الذي وضعه سبحانه، وهو التساوي بين العمل وجزائه، وأنهم لا يتساوون في ذات انفسهم، وفي الجزاء إذا اختلفت أعمالهم، ويفيد النص أن الجزاء يتحد إذا اتحد العمل، ويختلف إذا اختلف العمل، وفي النص الكريم عدة إشارات بيانية :
الأولى : انه ساق الكلام مساق الاستفهام الإنكاري الذي يفيد النفي أي إنكار الوقوع، وهذا يفيد ان ذلك القانون بدهي لا تختلف فيه العقول، بحيث لو سئل كل واحد من الناس عن ذلك لأجاب بأنه لا يستوي من اتبع رضوان الله، مع من يبوء بغضب الله.
والثانية : ان الله سبحانه وتعالى سمى الأمناء الذين لا يغلون ولا يخونون في أي شيء، وخصوصا في الغنائم : يتبعون رضوان الله تعالى، وذلك لنهم يخرجون مجاهدين في سبيل الحق ورفع كلمة الله وقد قدموا انفسهم لمرضاته، وكانوا ممن شروا انفسهم لله، ومن المؤمنين الذين اشترى الله سبحانه وتعالى انفسهم، وفي ذلك رضوان الله تعالى، وهو أعظم جزاء في الدنيا والآخرة.
والثالثة : انه عبر عن الذين يغلون ويخونون بأنهم يبوءون أي يعودون على انفسهم بسخط الله تعالى، والسخط ليس هو الغضب المجرد، بل هو الغضب الذي يصحبه أو يترتب عليه العقاب، وفرق بين عملين : احدهما يجلب أبلغ الرضا، وثانيهما يجلب أبلغ الغضب وأشد العقاب، وإن ذكر هذه المقابلة ليعرف الذين يغلون بالغنائم انهم لا يكسبون ما يخسرونه أضعاف ما يكسبون من عرض لا بقاء له، والعبرة بفاضل ما بين الكسبين، اما الذين قد اختاروا الأمانة سبيلا، فإنهم لا يخسرون شيئا، لأن مال الخيانة لا يعد كسبا، بل هو سحت لا كسب فيه، ومع انهم لا يخسرون شيئا، وكسبهم عظيم لا حد له، وهو رضوان الله تعالى.
والرابعة : انه سبحانه عبر عن إتباع أوامر الله ونواهيه باتباع رضوانه، لأن الطاعة المخلصة تؤدي إلى رضوانه سبحانه وتعالى، فطلب رضا الله في طاعته.
ولقد عقب سبحانه سخطه بذكر عقابه ؛ لأن السخط والعقاب متلازمان، كما اشرنا ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ ومأواه جهنم وبئس المصير ﴾ أي أن عودتهم بغضب الله الشديد يتبعه حتما ذلك المصير يوم القيامة، وهو ان يكون المستقر الذي يستقرون فيه وينتهون إليه، هو جهنم، وهي الهاوية التي يهوون إليها في النار، جزاء هاوية الخيانة التي أصابتهم في الدنيا، وبئس ذلك المصير الذي صاروا إليه، وكان لهم نهاية، وإن لم يريدوه لهم غاية.
وإن نتيجة عدم التساوي بين من يتبع رضوان الله تعالى ويطلبه بإقامة الطاعات على وجهها الأكمل، ومن يختارون الشر سبيلا- هي ان يكون الناس درجات بحسب مقدار طلب الرضوان، ومقدار إتباع السخط، ولذا قال سبحانه :﴿ هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون ﴾.
والضمير في قوله تعالى :﴿ هم درجات ﴾ يعود على الفريقين الذين اتبعوا رضوان الله تعالى، والذين اتبعوا سخطه سبحانه، وإطلاق"درجات" على الفريقين وفيهم الأشرار من قبيل التغليب، وهو تغليب له مغزاه ؛ إذ هو تغليب الخير على الشر، وتغليب رضا الله على سخطه، وتغليب الأبرار على الفجار، وإن الآية الكريمة تشير إلى معنى جليل، وهو تفاوت درجات الأبرار، وتفاوت دركات الأشرار، فالذين يسيرون في الخط الذي رسمه الله تعالى لطاعته متفاوتون في مقدار ما يقطعونه من ذلك الطريق النوراني الذي ينتهي بطاعته سبحانه وهم بذلك درجات عند الله تعالى بمقدار أتباعهم ما فيه رضوانه، وهو الأوامر والنواهي، والآخرون متفاوتون في مقدار انهوائهم في الشر بمقدار ما يخالفون امر الله ونواهيه، وإن تلك الدرجات المتفاوتة هي نتيجة العمل، ولذا قال سبحانه :﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ أي ان الله سبحانه وتعالى يعلم عمل كل إنسان علم من يراه ويبصره، فلا يغيب عنه سبحانه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، وغنه سبحانه سيجزي كل نفس بما كسبت، على مقتضى علمه الكامل، وغن هذه الدرجات التي يضع الناس فيها هي بمقتضى علمه سبحانه.
﴿ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من انفسهم ﴾ لقد من الله تعالى، ونعمه على المؤمنين كثيرة، باختيار رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والله اعلم حيث يجعل رسالته، فلقد كان حكيما أمينا فيهم من قبل الرسالة، وكان رفيقا بهم لا يعنتهم بعد الرسالة، لن لهم، ولم يكن فظا غليظا بهم، وفي هذا النص السامي يبين ان ذات رسالته نعمة، فقال :﴿ لقد من ﴾، انعم وأعطى ووهب، وأكد عظيم المنة والعطاء باللام، ولقد كانت منته في بعث الرسول من انفسهم، ومعنى﴿ من انفسهم ﴾ يصح تخريجها تخريجين :
الأول : ان يكون من نفس العرب، ومن قومهم، ويكون كلمة المؤمنين خاصة بمؤمني العرب.
والثاني : ان يكون من انفسهم، أي انه بشر مثل سائر البشر آتاه الحكم والنبوة، وكان رسول رب العالمين ليرسم لهم طريق الهداية ويكون لهم أسوة حسنة ؛ إذ لا يمكن أن يكون أسوة حسنة لهم إلا إذا كان من جنسهم، وكان بشرا مثلهم، يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون، وما يأتيه من خير يكون جنسه في طاقة البشر، وإن كان مقام النبي صلى الله عليه وسلم فيه أعلى وأزكى وأوفر خيرا، وقد بين سبحانه وجه النعم في هذا البعث المحمدي فقال :
﴿ يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ﴾ التلاوة القراءة المتابعة المرتلة التي يكون بعضها تلو بعض، أي يعقبه في نظام محكم دقيق، والتلاوة في أكثر أحوالها لا تكون إلا في آيات مقروءة، والآيات تطلق على الآيات الكونية باعتبارها أمارة وشاهدا على قدرة الله تعالى ووحدانيته، وتطلق على الآيات المتلوة باعتبار ان كل آية من كتاب الله تعالى دليل على انه من عند الله، وظاهر السياق ان الآيات التي تتلى هنا هي الآيات القرآنية، والمعنى في ذلك ان الله سبحانه يلقى على نبيه القرآن الكريم فيتلوه عليهم متحديا العرب أن يأتوا بمثله، وقيل : إن المراد بالآيات.. الكونية، ومعنى تلاوتها تلاوة القرآن المشتمل على أنبائها، وعلى توجيه الأنظار إليها، وإن الظاهر هو الأول، ولا يخلو الرأي الثاني من تكلف، وإنه من أعظم منن الله ان يخاطب المؤمنون بكتاب يتلى عليهم من السماء، وان يوجه إليهم الخطاب مباشرة من الله تعالى.
والتزكية هي العمل الثاني من عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تطهير نفوس المؤمنين من أدران الجاهلية، وتنميتهم وتقويتهم، فالرسالة المحمدية كان آثارها في المؤمنين تتجه إلى ثلاث نواح : تهذيب نفوسهم آحادا، والربط بين قلوبهم جماعات، والعمل على رفع شأنهم والتمكين لهم في الأرض بأسباب القوة، كما قال تعالى :﴿ ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين٥ ﴾ [ القصص ]. والكلمة"﴿ ويزكيهم ﴾ تشتمل على كل هذه المعاني التي ترفع من شان اهل الإيمان.
وتعليم الكتاب هو تعليمهم ما اشتمل عليه من أحكامه ببيان ما عساه يكون فيه من نصوص تعلو على مداركهم، وتفصيل المجمل فيه، وتطبيقه عليهم، فتعليم علم الكتاب غير تلاوته قراءته مرتلا مفهوما، وتعليمه بيان أحكامه، فقد امر بالصلاة، والنبي صلى اله عليه وسلم علمها، وأمر بالحج، والنبي صلى الله عليه وسلم علمه، وهكذا، وقيل : عن تعليم الكتاب هو تعليم المؤمنين الكتابة ونقلهم من الأمية إلى العلم، فتعليم العلم في ذاته غاية من غايات الإسلام، ولذا كانت أولى آيات القرآن :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق١ خلق الإنسان من علق٢ اقرأ وربك الأكرم٣ الذي علم بالقلم٤ علم الإنسان ما لم يعلم٥ ﴾ [ العلق ].
وتعليم الحكمة، فسره الشافعي بأنه تعليم السنن العملية، ويصح ان تفسر الحكمة بما هو اعم من ذلك واشمل، فتشمل العلم بأسرار الكون، وأسرار النفوس، والسلوك القويم الذي يسدد الخطى في الدنيا، ويرضى الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.
﴿ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ﴾ أي إن حال الناس، وخصوصا العرب، انهم كانوا من قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم في ضلال واضح بين، تنفر منه العقول المستقيمة وتأباه الأذواق السليمة، ألم يكن العرب في عمياء من أمورهم متنابذين متدابرين يئدون بناتهم ؟ والم تكن فارس في اضطراب ونزاع وانحلال ؟ وألم يكن الرومان ومن أخضعوهم في طغيان واضطراب عقائد ؟ كل ذلك كان وقت ان بزغ فجر الإسلام، اللهم أتم علينا نعمة الهداية والتوفيق.
الكلام إلى الآن موصول في غزوة احد وأعقابها، وفي هذه الآيات يبين سبحانه انه ما كان يليق بالمترددين الذين أصاب اليأس قلوبهم، ان يعجبوا لماذا كانت الهزيمة، وإنه لا يصح ان تأخذهم روح الانهزام إلى هذا الحد ؛ لأنهم إذا كانوا قد أصيبوا في هذه الواقعة بقتلى فقد أصيب أعداؤهم بضعف ما أصيبوا، ولأنه لا عجب في ان يهزموا لأنهم خالفوا قائدهم، والله سبحانه وتعالى قدر لهم تلك الهزيمة لكي يعتبروا، ويحسنوا التدبير، ويحسنوا الطاعة، ويحترموا حق القيادة الحكيمة الرشيدة، ولكي يتخذوا من الهزيمة علاجا للأخطاء التي سببتها وتوقيا في المستقبل لها، ولكي يبث في نفوس اهل الإيمان ان الحرب ليست نصرا مستمرا، ولكن العاقبة في النهاية لهل الحق والعدل والرشاد، وهناك فائدة للهزيمة انها تبين الصادق الإيمان من المنافق الذي لا يؤمن بشيء ففي المحنة يتميز الخبيث من الطيب، وإذا كان النصر في بدر قد فتح باب النفاق، فدخل في الإسلام من لم يؤمنوا به، وأعلنوا الاعتقاد من يبطنون خلافه، ويخفون ما لا يبدون، فإن الهزيمة في احد قد كشفت النفاق والمنافقين، بل عن غزوة احد من اول أمرها قد كشفت النفاق، فقد اخذ المنافقون يثبطون، حتى همت طائفتان ان تفشلا والله وليهما، فلما كانت النتيجة أخذوا يبثون الأوهام الفاسدة، ليضعضعوا عزائم المؤمنين، ويشككوا ضعفاءهم في اعتمادهم على الله، فغزوة احد قد كشفت النفاق في أولها وفي آخرها، وحسبها ذلك فائدة.
﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم انى هذا ﴾ المصيبة أصلها في اللغة الرمية التي تصيب الهدف، ولا تخطئه، ثم أطلقت على النائبة التي تنزل، ولا تكاد تستعمل في القران في معنى الخير، وأما الفعل"أصاب" فيستعمل في الخير والشر، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك... ٧٩ ؛[ النساء ] وقوله تعالى :{ إن تصبك حسنة تسؤهم... ٥٠ ﴾[ التوبة ] والمثل هو المساوي، والمثلان هما ضعف المساوي، والمعنى : أولما أصابتكم مصيبة قد أنزلتم بالأعداء ضعفها أصابكم الشك والتردد وقلتم انى هذا ؟. وقد أصابوا من المشركين ضعف ما أصاب المشركون منهم، فقد قتلوا منهم مقتلة في بدر، قتلوا نحو سبعين، وأسروا مثلهم، وقتلوا منهم مقتلة في أول الحرب في أحد، والاستفهام هنا إنكاري للتوبيخ، وموضع التوبيخ هو قولهم :"انى هذا" ؛ لأن ذلك يدل على التردد والشك او تسربه إلى قلوبهم، ومعنى"انى هذا" : من أين هذا، أي من أين جاءت هذه الهزيمة، وهذا لا يقوله إلا ضعاف الإيمان ؛ لأن المؤمنين الصادقين يدركون خطأهم، ويعرفون تقصيرهم، ويغلبون إسناد عيبهم إليهم على إسناد العيب إلى غيرهم، فكأن حل النسق البياني الرائع هو هكذا : أقلتم من أين هذه الهزيمة لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها، بالمقتلة العظيمة فيهم في بدر، والمقتلة العظيمة في اول الغزوة في احد، ويصح ان يقال : إن الذين قالوا من أقوياء الإيمان ؛ لأنهم يستعجلون نصر الله تعالى لإعزاز دينه، ويخشون ان يكون الله تعالى تخلى عن نصرتهم لعيوب فيهم، وقد امر الله تعالى ان يجيبهم، ويزيل تعجبهم، فقال :﴿ قل هو من عند أنفسكم ﴾.
أي ان سبب المصيبة منكم انتم، وقد أكد انه منهم بإبراز الضمير في الإجابة١، وبالإتيان بالظرف وهو عند، وبالتعبير ب" أنفسكم" التي تدل على التوكيد، وكان سبب الهزيمة منهم لنهم لم ينتظروا في المدينة حتى يجئ إليهم الأعداء ويقضوا عليهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة نزولا على حكم الشورى، وعلى رأيهم، فعليهم ان يتحملوا تبعته، وهم فوق ذلك هموا بأن يفشلوا، ولأنهم عندما رتب النبي صلى الله عليه وسلم جيشه ترتيبا حكيما، وأخذ المقاتلون ينفذون الخطة بإحكام، والرماة يحمون ظهورهم، حتى اخذوا يحسونهم بإذنه، وقتلوا من المشركين مقتلة عظيمة، وفروا أمامهم، ترك الرماة أماكنهم، فكان الاضطراب في جيش الحق، وفوق ذلك فإن الشك قد أصاب القلوب الواهنة، حتى أخذ يضرب بعضهم رقاب بعض، وضعف صوت الهادي الرشيد، وانطلق المنافقون يعلنون قتل النبي صلى اله عليه وسلم، فبسبب ذلك كله كانت الهزيمة.
بيد ان هذه الهزيمة كانت إرادة الله سبحانه وتعالى ليمحص المؤمنين، وليبين لهم بالعمل ان طاعة القائد الرشيد سبب النصر، وان قدرة الله تعالى فوق كل شيء، فهو قادر على كل شيء، كان يستطيع ان ينصركم في هذا المضطرب، وقد فعل فإنه صرف المشركين عن ان يعودوا إلى المدينة وقد أثخنتكم الجراح وأثقلكم الاضطراب، ولكن الله خوفهم فرضوا من الغنيمة بالإياب، ولذا قال سبحانه مؤكدا قدرته :
﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ وهذا رد على ضعفاء الإيمان الذين يقولون كيف ننهزم والله معنا، فبين سبحانه ان قدرته فوق كل شيء، وانه سبحانه أراد لكم تلك النتيجة وحماكم من ان تؤثر في مجرى تاريخكم فصرفكم ذلك الصرف، حتى كأنهم المهزومون وانتم المنصورون، وقد أكد سبحانه قدرته بلفظ "إن"، وبذكر لفظ الجلالة الذي يربي المهابة من الخلاق العليم في قلب المؤمن، وبعموم قدرته سبحانه على كل شيء وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير.
﴿ وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ﴾ أي إن ما أصابكم يوم التقى الجمعان في أحد وكلاهما قد أصر على ان يكون الموقف حاسما لمصلحته، قد كان بإذن الله تعالى، أي بإرادته الأزلية، وتقديره الحكيم، وقضائه المحكم، فما كان بغير إرادته : بل كان على مقتضى حكمته، ذلك ان الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها والمقدمات بنتائجها، فمن سلك طريق النصر ينتصر إن خلصت نيته، واستقامت إرادته، وتوكل على الله تعالى، ولا يبغي إلا وجهه سبحانه، وإن طريق النصر أوله انصراف عن المادة لأنها تضعف العزيمة، ثم تنظيم محكم ووضع لكل شخص في موضعه الذي يحكم القيام به، ثم طاعة وإصرار وعزيمة على امتثال الخطة المثلى، ثم ثبات جنان وتصرف في الشديدة، ولم تكونوا كذلك في هذه المعركة الطاحنة التي اختبرتم فيها اختبارا شديدا، وهو سبيل النصر عن انتفعتم به، فقد شابت نفوس بعضكم المادة وهمت طائفتان ان تفشلا فلم تكن النية المحتسبة. وخالفتم القائد الرشيد، وأفسدتم النظام المحكم، وذهب الهلع بنفوس أكثركم إذ اشتدت الشديدة وقوي البلاء.
وهنا بحثان لفظيان : احدهما : ان الله تعالى عبر في غزوة احد عن الموقعة بقوله :"التقى الجمعان } وفي ذلك إشارة إلى قوة التجمع في الفريقين، وذلك يدل على ان كل فريق مصر على القتال، مريد للنصر فيه، فهزيمة بدر جمعت المشركين في احد وجعلت لهم عزيمة مريدة ماضية، وإيمان المؤمنين جعل في أقويائهم رغبة في النصر او الاستشهاد.
أي ليعلم الله سبحانه وتعالى وقوع ما قدره في علمه الأزلي، فيعلم المؤمنين الثابتين الأقوياء الذين لا يبغون مادة، بل يبغون إعلاء كلمة الله تعالى، وجعلها هي العليا، وكلمة الشرك هي السفلى، وليعلم وقوع ما قدره في علمه الأزلي وهو ظهور المنافقين في هذه الشدة، ولتقريب المعاني نقول : إن الله تعالى يعلم ما يقع في المستقبل علما أزليا كما قال سبحانه :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت... ٣٤ ﴾ [ لقمان ] فإذا وقع ما قدره علمه سبحانه واقعا، وما يتغير بذلك علم الله تعالى، بل الذي يتغير هو المعلوم من انه سيقع إلى انه واقع، وعلم الله واحد.
ويصح ان يقال : عن معنى علم الله تعالى في هذه الآية الكريمة وما يشبهها من آيات هو ظهور ما قدره سبحانه وتعالى بحيث يعلمه الناس، وهو من قبل في علم الله المكنون، ولوحه المحفوظ.
ومرمى النص الكريم ان تلك الشدة التي نزلت تميز بها الصادقون من اهل الإيمان من المنافقين الذين كانوا يبثون روح الهزيمة في أوساط المؤمنين كما قال تعالى :﴿ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب... ١٧٩ ﴾ [ آل عمران ] لقد دخل المنافقون صفوف المؤمنين بعد غزوة بدر، فكان لا بد ان يميزوا ويعرفوا ليتوقى المؤمنون شرهم، ولا يكاد ذلك إلا بتجربة تعرك فيها النفوس، وتلك التجربة كانت في غزوة احد، فعلم امر اهل النفاق من بعدها، حتى صاروا يعرفون بسيماهم وأقوالهم وأفعالهم، وقد عبر الله سبحانه عن المنافقين بقوله :﴿ وليعلم الذين نافقوا ﴾ لبيان ان النفاق حدث جديد، قد وجد في صفوف المؤمنين، ولم يكن قبل بدر الكبرى، فالقوة في بدر قد أوجدته، والتجربة القاسية في أحد قد كشفته.
ولقد قال سبحانه وتعالى في مظاهر المنافقين، وأوصافهم، وأحوالهم، وإعراضهم عن الجماعة في الشدة :
﴿ وقيل لهم تعالوا في سبيل الله او ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ﴾ هذه الجملة السامية فيها بيان حال أولئك المنافقين، وعدم مجاوبتهم نفسيا مع المؤمنين، وقد أشار سبحانه بهذا إلى انهم كانوا معوقين١ في ابتداء القتال، قيل لهم من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الذين يعاشرونهم ويجاورونهم، ومن أهليهم وعشيرتهم : تعالوا، أي تساموا بأنفسكم وارتفعوا لتقاتلوا في سبيل الله تعالى مجاهدين مبتغين مرضاته بالدفاع عن الحق، فإن لم تسم نفوسكم إلى حد القتال طلبا لمرضاة الله، فلتقاتلوا دفاعا عن الوطن والعشيرة، فالمعنى : قاتلوا لرضا الله، او ادفعوا عن أنفسكم عار الذل وعار سيطرة قريش عليكم عن لم تقاتلوا، وقيل عن معنى ادفعوا ان يكثروا سواد المسلمين، فيلقى ذلك الرعب في قلوب العداء فيعرفوهم بهذا التكثير، وعن سهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره قال : لو أمكنني لبعث داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين، فكنت بينهم وبين عدوهم، قيل : كيف وقد كف بصرك ؟ قال : لقوله تعالى :﴿ أو ادفعوا ﴾ وعبر بالمجهول في قوله تعالى :﴿ وقيل لهم تعالوا ﴾ للإشارة إلى كثرة القائلين فقيل لهم من النبي، ومن الأصحاب، ومن أهلهم وعشيرتهم المؤمنين، ولكنهم امتنعوا لامتلاء قلوبهم بالنفاق.﴿ قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ﴾.
و ظاهر المعنى انهم يوهمون دعاتهم للخروج معهم انهم لا يعتقدون ان قتالا يقع، وان الأمر ينتهي بغير قتال، ولكن الزمخشري فسر بغير هذا الظاهر، فقرر ان معنى أننا لو نعلم أنكم تخرجون لقتال رتبت أسبابه واخذ فيه بالاحتياط، ولكنه زلل، وإلقاء بالتهلكة، وكان خيرا ان تبقوا بالمدينة، حتى يجئ العدو إليكم، وكأنهم بهذا يرجحون الرأي الأول، وهو البقاء في المدينة، ولو بقوا في المدينة لوجدوا معهم، ولكنهم قبل ان يصلوا إلى احد رجعوا فرجع كبيرهم عبد الله بن ابي بن سلول في ثلاثمائة ممن على شاكلته ليخذلوا المؤمنين.
﴿ وهم للكفر يومئذ اقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ﴾ تضمن ذلك النص حكما على أعمال المنافقين، وبيانا لحقيقتهم، فأما الحكم فهو انهم في هذا اليوم المشهود الجليل الذي ميزهم وعرف بهم- كانوا أقرب إلى الكفر من الإيمان، وأما الوصف فهو انهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم مغررين مظهرين الإيمان، وكاتمين الكفر، ويذكرون لبث روح الهزيمة بين المؤمنين أمورا يعرفون كذبها، وينشرون أراجيف يعلمون بطلانها.
والحكم الذي حكم الله به عليهم، وهو انهم في هذا اليوم، أقرب للكفر منهم للإيمان، ظهرت بوادره فقد كانوا يتمنون نصر المشركين ويعملون لبث روح الهزيمة في صفوف المسلمين، فهم بلا شك كانوا أقرب للكافرين منهم للمؤمنين بإرادة نصر الأولين، وهزيمة الآخرين، مع انهم عشراؤهم وخلطاؤهم، ومنهم من تربطه ببعض المؤمنين قرابة قريبة فمنهم من كان ابا لبعض المؤمنين او أخا، ولكن نفاقهم جعلهم ينسون تلك الوشائج من القربى، فكانوا يقطعون ما امر الله به ان يوصل. فالمراد ب "الكفر" أهله، وكما في قوله تعالى :﴿ فليدع ناديه١٧ ﴾ [ العلق ]، ويصح ان يقال : إن المراد من قربهم إلى الكفر هو بالنسبة لأقوالهم وأفعالهم، فأفعالهم وأقوالهم في يوم أحد كانت تدل بظواهرها على قربهم إلى الكفر وبعدهم عن الإيمان، وإن كانت لا تدل على كل حقيقتهم ؛ وذلك لأن تلك الحوادث قد كشفتهم، وبينت قربهم من الكفر ؛ إذ حرصهم على ألا يظهروا بحقيقتهم جعلهم لا يعلنون كل أمرهم، ولكن الجزء الذي ظهر، وإن لم يكن الكل، دل على حقيقة النفاق الذي يسكن قلوبهم، وكان مظهرهم به أقرب إلى الكفر، وأما الوصف الذي وصفهم الله سبحانه وتعالى به وهو انهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فتلك طبيعة النفاق دائما فهو ستر للباطن، وإعلان ما يناقضه، وقد أظهروا انهم يريدون مصلحة المسلمين، وهم يريدون خذلانهم واظهروا انهم يقولون الحق عندما كانوا يثبطون المؤمنين، وهم لا ينطقون بالحق، ولا يريدونه.
ثم ختم الله سبحانه النص الكريم بقوله :﴿ والله اعلم بما يكتمون ﴾.
أي أنهم يخادعون المؤمنين، ويبدون ما لا يخفون، ويحسبون انهم يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا انفسهم وما يشعرون، فالله سبحانه وتعالى عليم بالسرائر وما يبيتونه للمؤمنين، وقد كشف الله تعالى بعض شئونهم، ليحترس المؤمنون منهم، ولكيلا ينخدعوا بهم، ولكي يتجنبوهم في الشدائد حتى لا يحدث لهم بسببهم محنة، وإن أولئك قد كتموا الرغبة الشديدة في الكيد للنبي وأصحابه، وأنهم كلما ثار حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم ازداد كيدهم، وما كان يثير حقدهم إلا نصر يؤيد الله تعالى به نبيه، وقد كتموا موالاتهم لأعداء الإسلام من اليهود وغيرهم، وإن أولئك المنافقين لا يكتفون بتخذيلهم والمعركة قد ابتدأت، بل يظهرون الشماتة بعد ان وقعت، لكي يثبطوا المؤمنين عما يكون من قتال من بعد،
﴿ الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ﴾ في هذا النص قولهم بعد انتهاء الحرب، وقد قالوه ليبعثوا الريب في جماهير المؤمنين، وليعلنوا تخلي الله عن نصرتهم، والمعنى : هؤلاء قالوا لإخوانهم الذين هم مثلهم لو أطاعنا المؤمنون ما قتلوا، فقد دعوناهم إلى العودة إلى المدينة والامتناع عن الخروج ولكنهم خالفونا، فانتهوا إلى القتل، فالتقاول كان بين المنافقين انفسهم، او نقول : إن إخوانهم هم ذوو رحمهم وعشائرهم من المؤمنين الذين استشهدوا في أحد، والمعنى على هذا ان الذي قالوه لأجل او في شأن إخوانهم، فاللام للتعليل وبيان الباعث على القول، فهم لا يتألمون لإخوانهم وذوي رحمهم، ولكن يلقون باللوم عليهم.
وخلاصة القول : إنهم فرحون بأنهم لم يقتلوا لنهم لم يخرجوا، ولائمون لمن خرجوا وقتلوا، شامتون فيهم، وهم بهذا يقررون ان موتهم سببه الخروج للقتال، وقد رد الله سبحانه وتعالى ذلك عليهم ببيان ان الموت مكتوب على الإنسان، وتقدير أسبابه، فقد يكون قتال ولا موت، وقد يكون موت من غير قتال، فقال سبحانه :﴿ قل فادرءوا عن أنفسكم الموت عن كنتم صادقين ﴾.
الفاء هنا هي التي تسمى فاء الإفصاح وهي تفصح عن شرط مقدر، والمعنى : إذا كنتم تظنون أنكم دفعتم عن أنفسكم الموت بامتناعكم عن الذهاب إلى الميدان وقعودكم في الديار، فادرءوا أي ادفعوا عن أنفسكم الموت المكتوب الذي لا تفرون منه أبدا وهذا كقوله تعالى :﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة... ٧٨ ﴾[ النساء ] والمرمى في هذا النص انهم يعتقدون انهم نجوا من الموت بقعودهم، فهل يعتقدون انهم نجوا منه نهائيا ؟. إنه ملاحقهم، مادام ملاحقهم وهو حقيقة مقررة يثبتها الحس المستمر، فلماذا تفرون من القتال ؟ والتعليق في قوله تعالى :﴿ إن كنتم صادقين ﴾ لإفادة كذب حسهم، وكذب قولهم في زعمهم إن القعود سبب للنجاة، فغن الله سبحانه وتعالى يذكر لهم انهم إن كانوا صادقين في ان القعود سبب للنجاة فليدفعوا عن انفسهم الموت ؛ لن الموت لا يدفعه قعود ولا يستعجله خروج، ولتوضيح هذا الذي نقصده نقول : إن كلام هؤلاء المنافقين ككلام الكافرين الذي حكاه الله تعالى آنفا في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض او كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم... ١٥٦ ﴾[ آل عمران ].
وإن هؤلاء قد زعموا ان القعود دافع للموت مانع من نزوله، فإن كان في إمكانهم بقعود او نحوه ان يدفعوه فليدفعوه إذا جاء إن كانوا صادقين في هذا الزعم الذي زعموه، والمؤدي أن الموت إذا جاء الأجل ليس له من دفاع، فلا ينجي منه القعود، ولا ينزله الخروج، فزعمهم بأنهم كانوا ينجون لو لم يخرجوا زعم باطل، وغن كانوا صادقين فليدفعوه إذا نزل.
اللهم اجعل لنا في الموت عبرة، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك يا رب العالمين.
ما زالت النصوص الكريمة في ذكر أعقاب غزوة احد التي كانت ابلغ درس إسلامي للغزاة خاصة، وللمؤمنين عامة، وقد كانت المسبار١ الذي سبرت به النفوس، وتكشفت به قلوب المؤمنين، وأظهرت قلوب المنافقين، ولقد كانت عباراتهم فيها شماتة بأهل الإيمان، وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات ما ناله اهل الشهادة باستشهادهم، وما هم عليه من روح وريحان، وما يستقبلونه من جنات النعيم، وقد بين في هذه الآيات الكريمة ما أعده الله سبحانه للمؤمنين المجاهدين الذين استجابوا لله ورسوله من بعد ما أصابهم القرح، من اجر لا يضيع، وعمل صالح يرى، وقول طيب هدوا إليه يسمع، وقد قال تعالى :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء ﴾.
وفي هذا النص الكريم رد على شماتة المنافقين، وتحريض للمؤمنين، وتقرير لحقيقة إسلامية ثابتة، وهي ان الاستشهاد في سبيل الله تعالى ليس فناء، بل هو بقاء، وان الموت ليس إنهاء للحياة، ولكنه امتداد لها بصورة أكمل وأبقى، او بعبارة أخرى هو انتقال من دور الحياة المادية إلى دور الحياة الروحية حتى تكون القيامة، وتجزئ كل نفس بما كسبت، عن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
نهى الله سبحانه وتعالى نبيه الأمين عن ان يظن أي ظن بأن الذين قتلوا في سبيل الله تعالى أموات بل هم احياء، والتأكيد هنا تأكيد للنهي، أي ان الله تعالى ينهى نبيه نهيا مؤكدا عن ان يظن ذلك الظن، ف" نون التأكيد" ليست لتأكيد الظن المنهى عنه، بل هي لتأكيد النهي، كما يقال : لا تفعلن كذا، فليست النون لتأكيد الفعل، بل هي لتأكيد النهي، ولاشك ان نهي النبي صلى الله عليه وسلم نهى لغيره، وغيره أولى بهذا النهي منه وأجدر ؛لأن الناس منهم من ظنوا بالله الظنون، وقد أصابتهم حسرة شديدة، وبعضهم أصابتهم خيبة آمال، ومنهم من كان في ألم شديد للذين قتلوا منهم، وقد وجه النهي للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء ليكون انتهاء النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لهم، والنبي أقرب البشر إلى الله سبحانه، فنهيه فيه تأكيد النهي لغيره.
والذين قتلوا في سبيل الله تعالى هم الذين قتلوا في سبيل الحق والدعوة إليه، سواء أكان ذلك في ميدان القتال، ام كان في ميدان الدعوة إلى الله تعالى وعلى صراط مستقيم، وكل داع لله إذا قتل في سبيله او مات في طلبه فهو قد قتل في سبيل الله تعالى، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"٢ فمن قتل في هذه السبيل فقد قتل في سبيل الله تعالى.
وقد يقول قائل : كل ميت فهو حي بروحه ؛ لن الله تعالى قد بين في محكم آياته ان الموت ليس فناء، كما قال سبحانه :﴿ كل نفس ذائقة الموت وغنما توفون أجوركم يوم القيامة... ١٨٥ ﴾[ آل عمران ]. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بمخاطبته يوم بدر قتلى المشركين ان أرواحهم تسمع الكلام٣، فلماذا إذن اختص الذين قتلوا في سبيل الله تعالى بأنهم احياء ؟.
والجواب احد أمور ثلاثة :
( أولها ) ان هذا النص الكريم رد على شماتة الذين شمتوا من اليهود، وتطيب لقلوب الذين فقدوا أحبتهم من المؤمنين، وتشجيع للذين يحملون السيوف على عواتقهم لجعل كلمة الله تعالى هي العليا، وكلمة الشرك هي السفلى.
( ثانيها ) ان النص الكريم تذكير بحقيقة مقررة ثابتة وهي ان الموت ليس فناء، في وقت قد غامت فيه على النفوس غيمة من الألم المرير، وقد كان أقرب المتوفين ذكرا في هذا الوقت هم الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله تعالى.
( ثالثها ) ان الله تعالى قد ذكر لأولئك الشهداء حياة ليست كحياة غيرهم، بل هي حياة فيها تكريم واستبشار ورزق كريم، ونعيم وسعادة ورضا بما كان منهم، وأنهم قد نالوا جزاء كريما بمجرد الاستشهاد، وان هذه الحياة السعيدة لا يصح ان يطلق عليها اسم الموت، وإن كان يصح إطلاقها على غيرهم.
وما هذه الحياة التي ينالونها بعد الاستشهاد وما كيفها ؟ وإن كنا لا نشعر بها ولا نراها، كما قال تعالى :﴿ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل احياء ولكن لا تشعرون١٥٤ ﴾[ البقرة ] ؟. والجواب عن ذلك انه قد وردت احاديث كثيرة في هذا الباب تدل على حياة كريمة لهؤلاء الشهداء، فقد روى مسلم عن مسروق : إنا سألنا عبد الله بن عباس عن هذه الآية :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء عند ربهم يرزقون ﴾ فقال : إنا قد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :"أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم اطلاعه، فقال : هل تشتهون شيئا ؟ فقالوا : أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ففعل ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا انهم لن يتركوا من ان يسألوا قالوا يا رب نريد ان ترد أرواحنا إلى أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى ان ليس لهم سؤال تركوا"٤.
وهذا الحديث يدل على حياة كريمة، وهي حياة روحية لا جسدية، وأقصى ما يدل عليه التجسيد هو انها تكون في طيور خضر، وان هذه الآية تشير إلى الجزاء الأوفى الذي يستقبلهم في الحياة الآخرة، وإلى ان الأرواح بعد الموت إما في شقاء، وغما في نعيم، وان حياة أولئك الشهداء الأطهار في أحسن نعيم، وأكمله، ولذا قال سبحانه :﴿ عند ربهم يرزقون ﴾.
في هذا النص الكريم ما يثبت ان حياتهم في هذه الفترة التي تكون بين الاستشهاد والحساب والثواب حياة كريمة سعيدة هنيئة ؛ لن فيه التصريح بأنهم عند ربهم الذي خلق الكون وخلقهم، والذي جاهدوا في سبيله، وقاتلوا وقتلوا، وإذا كانوا عنده فهم عند من يكرمهم ومن يجازيهم جزاء عاجلا، حتى يكون الجزاء الأوفى والنعيم المقيم، عندما تتصل أرواحهم الطاهرة بأجسامهم التي يعيدها الله سبحانه وتعالى إليهم في سعادة وحبور.
والرزق الذي يرزقهم الله تعالى رزق معنوي من سعادة وهناءة، وطيب مثوى تشعر به أرواحهم ويرون مقدمات جزاءتهم، ولا نقول إنه في هذه الفترة مادي ؛ لأن الحياة في هذه الحال حياة أرواح قد انفصلت عن أجسادها، والرزق حينئذ يكون معنويا، وإن هذا معنى تقريبي ؛ لأن كل الأحاديث النبوية الواردة في هذه الفترة تشير إلى ان الحياة روحية، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مالك رضي الله عنه :"نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم مبعثه"٥.
ولقد قال النبي صلى اله عليه وسلم مخاطبا صحابته من اهل بدر واحد :"لما أصيب إخوانكم يوم احد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد انهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا في الحرب"٦.
وإن هذا الحديث وغن ذكر طعاما ماديا يتناوله الطير الخضر التي حلت فيها الأرواح هو يدل على ان الحياة روحية، إذ الأرواح ليست في أجسادها.
٢ سبق تخريجه..
٣ رواه بهذا اللفظ مسلم: الإمارة- بيان ان أرواح الشهداء في الجنة(١٨٨٧)، وقد سبق تخريجه..
٤ رواه بهذا اللفظ مسلم: الإمارة- بيان أرواح الشهداء في الجنة(١٨٨٨٧)، وقد سبق تخريجه..
٥ رواه الإمام مالك في الموطأ: الجنائز- حديث السيدة عائشة رضي الله عنها(٥٠٤)..
٦ رواه بهذا اللفظ الإمام أحمد: مسند بني هاشم(٢٢٦٧) عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما رواه أبو داود بنحوه: الجهاد- فضل الشهادة(٢١٥٨)..
أي انهم في هذه الحياة التي يحيونها يشعرون بسعادة عظيمة ؛ لأنهم يرون ثمرات أعمالهم من الجهاد في سبيل الله، ويشعرون برضا الله سبحانه وتعالى، وأنهم في تكريم، وقد آتاهم الله تعالى نعمة الطاعة ونعمة الجهاد، وأشعرهم بالسعادة المطلقة في حياتهم الروحية، ورحابه الكريم. وان الملائكة أولئك الأرواح الطاهرة تحفهم بالتكريم والترحيب، ويروى في ذلك البخاري ان جابرا، قال : لما قتل أبي جعلت أبكي واكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهونني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :" لا تبك، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع"١ فأرواح الشهداء في تكريم من الملائكة الأطهار، والله سبحانه وتعالى يتغمدها برضاه وتقريبها حتى عن النبي صلى الله عليه وسلم ليذكر ان الله تعالى يخاطبها كفاحا، أي مواجهة، وأي تكريم أعلى من ذلك وأسمى ؟ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وإن أرواح الشهداء الأبرار لترضى بجهاد الذين اعقبوهم في الميدان فلم يخلوه، ولذا قال سبحانه :﴿ ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
الاستبشار : طلب البشرى هي الأمر الذي يدخل السرور في النفس، لمر كان يتوقع منه مرهوبا او محبوبا فتجئ البشرى بالمحبوب دون المرهوب، وفي بيان استبشار أولئك الشهداء الأبرار تخريجان : أحدهما- ان يكون المراد طلبهم البشرى بأن الذين لم يلحقوا بهم في الاستشهاد وخلفوهم في الميدان، لا خوف عليهم من أن يستمكن العدو منهم ولا ينتصر عليهم، ولاهم في حزن أو غم بسبب انهم لم ينالوا ما يرغبون من نصرة كلمة الحق، ورفع كلمة الدين، فهم على اطلاع بما يجري للمؤمنين، ويريدون ان تجئ إليهم البشرى بالانتصار الباهر، والفوز الظاهر الذي يذهب معه الخزف ويكون بدله المن، ولا يكون حزن من هزيمته، او غم من قرح يصيبهم وتكون كلمة يستبشرون معناها يطلبون البشرى.
التخريج الثاني : ان يكون معنى الاستبشار طلب البشرى ونيلها، فالاستجابة معناها طلب الإجابة ونيلها، والمعنى انهم في سرور وحبور مما آتاهم الله تعالى من فضله، ولنهم جاءتهم البشرى بأن الذين لم يلحقوا بهم في الاستشهاد من غير خوف، ولا رهبة، ولا حزن، بل تلقيا لأسباب المنون بإيمان قوي ؛ لأنها إما الشهادة في عزة وكرامة، وإما الانتصار وإعلاء كلمة الله تعالى.
هذه الجملة بيان للاستبشار السابق، والتخريج في معنى كلمة الاستبشار الذي ذكرناه في النص السابق يجرى فيها.
والمعنى ان هؤلاء الشهداء يطلبون البشرى بنعمة من الله تعالى، وهي نعمة جزيلة كريمة فاضلة لأنها صادرة عن مانح النعم لهذا الوجود كله ومسديها لكل حي، والنعمة هنا هي نعمة الانتصار، والفضل هو ما يسبغه الله تعالى على أهل الحق من عزة، وطلب له شاعرين بان الموت في سبيل الله هو عين البقاء، والحياة في باطل هي عين الفناء، فالاستبشار من هؤلاء الأطهار استبشار بالعزة لدينهم وللحق الذي افتدوه بأجسامهم وخفقت من بعد ذلك أرواحهم، فهم يستبشرون بنعمة النصر وفضل العزة للذين جاءوا من بعدهم، فنعمتهم هم وفضل الله عليهم في نصرة الإسلام بعدهم، وكون الله تعالى لا يضيع اجر المؤمنين، بان يعطيهم النصر والعزة والكرامة جزاء جهادهم، وليس الاستبشار هنا بما ينالونه هم، بل بما ينال الإسلام والمؤمنين من بعدهم، والدليل على ذلك ان الاستبشار هنا بيان للاستبشار الذي سبقه، والاستبشار الذي سبقه كان لأن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأيضا فإن المؤمنين الذين لا يضيع جزاؤهم في الدنيا بالنصر، ولا في الآخرة بالنعيم المقيم، بينوا بأنهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وهم الذين قال الله تعالى فيهم :
﴿ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ﴾.
﴿ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ﴾.
أصل استجابوا : طلبوا الإجابة، والمعنى هنا انهم عالجوا انفسهم وطلبوا إجابة داعي الله إلى النصر، فأجابوا، فالاستجابة لن السين والتاء للطلب تدل على انهم راضوا نفسهم على إجابة الله تعالى، ونالوا ذلك الشرف العظيم ؛ إذ أجابوا داعي الله ورسوله من بعد ما أصابهم ذلك الجرح ولم ينهنه من قوتهم، بل استرسلوا في قوة وصبر وعزيمة، واستثارهم الجرح ولم يضعفهم، وأنهم أجابوا الداعي فور الواقعة، فإنه يروى في ذلك انه لما رجع المشركون قالوا( لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم١، بئسما صنعتم، ارجعوا ). فسمع رسول الله بذلك فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد، ولكن خذل الله المشركين، وقوى المؤمنين، فرجع المشركون من حيث جاءوا، ويروى ان النبي صلى الله عليه وسلم عندما ندب المؤمنين أذن مؤذن رسول الله بطلب العدو، وأذن مؤذنه" ألا يخرجن معنا إلا من حضر أحدا٢، فخرجوا فهؤلاء هم الذين استجابوا لله والرسول، لأنه لم تأخذ الهزيمة من نفوسهم، وإن أصيبوا بكلوم في أجسامهم، وقد قال سبحانه وتعالى في جزائهم.
﴿ للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ﴾ اختص سبحانه وتعالى من أولئك الذين جاهدوا ولم يستشهدوا بعد بان لهم أجرا عظيما، وهنا يلاحظ ثلاثة أمور :
( أولها ) ان الله لم يذكر الأجر لهم جميعا، لنهم كانوا احياء، والحي قد يغير ويبدل، فكان لا بد من التقييد بالإحسان والتقوى، أي يستمر على ما هو عليه.
( وثانيها ) ان الإحسان هنا غير التقوى ؛ إذ الإحسان هو إجادة الخطة، وإتباع المنهج المستقيم في القتال، وذلك لا بد منه في الانتصار، والطاعة المطلقة للقائد من إحكام الخطة.
( ثالثها ) ان التقوى- وهي وقاية النفس من الغرض والهوى والاتجاه إلى الله بإخلاص وقلي سليم خال من الشوائب- أساس الأجر العظيم، والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
٢ السيوطي: الدر المنثور ج٦ ص١٠٢، وعزاه لابن جرير عن عكرمة..
الكلام متصل بالكلام في أعقاب أحد، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابتهم الجراح، ولم تمنعهم هذه الجراح من ان يجيبوا داعي الله، ويستعدوا، ويتقدموا ؛ ويتغلبوا على روح التردد والهزيمة التي كان يبثها المنافقون، وترشح لها الجراح، وإن ابا سفيان قد هم ان يرجع إلى المدينة، فخرجوا للقائه، ولكن ثبطه الله، فعادوا، ولقد كان أولئك الذين استجابوا لداعي الجهاد، وهم في تلك الحال، لهم موقف آخر جليل ذو شأن في الجهاد، وأثر في الإسلام، ولقد ذكر الله ذلك الموقف بقوله تعالت كلماته :﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا ﴾.
وقوله تعالى :﴿ الذين قال لهم الناس ﴾ الموصول فيها بدل من الموصول في قوله تعالى :﴿ الذين استجابوا لله والرسول ﴾ فهم طائفة واحدة لم تتعدد، ولكن تعدد عملهم، فهم في الأول لم تثقلهم الجراح عن ان يجيبوا الرسول صلى اله عليه وسلم، وهم في الثاني لم ترهبهم أقوال الناس.. المتضافرة عن ان يتقدموا للقتال، وقد تكاثرت أسباب الرهبة، وأخبار الاستعداد، فهذا موقف آخر، وإن كان الذين نالوا الفضلين طائفة واحدة، وذلك الموقف هو ان أبا سفيان ومن معه لما رجعوا لا يلوون على شيء، قال للنبي صلى الله عليه وسلم : موعدكم بدر القابل فقبل النبي ذلك التهديد، وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة، وكان تجار قريش يقدمون إلى بدر في ذي القعدة، ويسمون ذلك بدرا الصغرى، فاستعد النبي صلى الله عليه وسلم للقائهم بعد نحو شهر من أحد، وخرج أبو سفيان في أهل مكة ولكن ألقى الله الرعب في قلوبهم، فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا، فقال : يا نعيم إني أوعدت محمدا ان نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي، ولكن إن خرج محمد لم أخرج زاده ذلك جرأة فالحق بالمدينة فثبطهم و لك عندي عشرة من الإبل، ويروى ان الذين دسهم أبو سفيان ليبثوا الهزيمة في قلوبهم هم ركب عبد القيس، ويظهر انه تكرر ذلك الدس من أبي سفيان، ولذلك قال الله تعالى :﴿ الذين قال لهم الناس ﴾ أي تضافرت الأخبار من هؤلاء الناس الذين اندفعوا يثبطون، ويقولون إن الناس- أي مشركي مكة- قد جمعوا لكم، وكانوا يقولون في أخبارهم المثبطة الملقية بالرعب لمن لا يعتمد على الله تعالى وقد وجدوا المؤمنين يتجهزون للمعركة( ما هذا برأي، آتوكم في دياركم وقراركم، فلم يفلت منك احد إلا شريدا، أفتريدون ان تخرجوا، وقد جمعوا لكم عند الموسم ؟ فوالله لا يفلت منكم احد ) فقال صلى الله عليه وسلم :"والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد"١ فخرج في سبعين راكبا، وقيل ألف راكب.
وقوله تعالى حكاية عنهم :﴿ قد جمعوا لكم ﴾ قد حذف فيه المفعول، فلم يقل جمعوا جيشا، وذلك ليذهب الخيال كل مذهب في مقدار ما جمعوا من أسلحة، ومقدار من جمعوا من الرجال وأموالهم، فيكون ذلك أشد تخويفا، ولكن لم يثبط ذلك من عزيمة المسلمين وإرادتهم القتال، وقد حكى سبحانه حال المؤمنين بقوله تعالى :﴿ فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله وتعم الوكيل ﴾.
أولئك المثبطون الدساسون قالوا ما قالوا، وقالوا : اخشوهم، أي قدروا انهم سينزلقون بكم الأذى الشديد والقتل الذريع إن خرجتم، فهو إفزاع عن المستقبل، والفرق بين الخوف والخشية ان الخوف يكون من امر حاضر، والخشية من امر متوقع، وهي إن كانت في الحاضر تكون خشية من قوي لما يكون منه في القابل.
وكان أثر ذلك الدس المرهب أمرين :
أحدهما : زيادة الإيمان، والثاني التفويض إلى الله تعالى.
فأما زيادة الإيمان هنا فمعناها قوة اليقين وعدم تضعضع الثقة في الله تعالى.
والأمر الثاني الذي كان أثرا لذلك الكلام المدسوس المثبط انهم قالوا :﴿ حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾ ومعنى حسبنا أي كافينا، أي إذا كانوا هم يستنصرون بقواتهم يحشدونها، وعددهم يستكثرون به، ويعدون ذلك كفايتهم، فنحن كفايتنا من الله تعالى، وقد وعدنا بالنصر، وهو نعم النصير المعاون، فالوكيل هنا معناه النصير الكفيل المعاون، والوكيل الذي يستعان به في الدنيا إنما يكون لفضل قوته أو خبرته او حكمته، فكيف يكون والمستعان هو الله سبحانه وتعالى، وهو نعم المولى ونعم النصير، فالوكيل هنا هو القادر الذي توكل إليه الأمور.
ويتكلم العلماء حول قوله تعالى :﴿ فزادهم إيمانا ﴾ فيقولون هل الإيمان يزيد وينقص ؟ لقد قال بعض العلماء إنه لا يزيد ولا ينقص لأنه اعتقاد وإذعان، وتلك حقيقة ثابتة إما ان توجد كاملة وإما ألا توجد، ويكون معنى الزيادة على هذا الرأي ليست زيادة أصل الإيمان، إنما زيادة الثقة بنصر الله تعالى وعونه، وذلك من ثمرات الإيمان، لا من أصله، وهو شعبة منه، وليس جوهره.
وقال آخرون وهم الأكثرون : إن الإيمان يزيد وينقص، وقد قال الزمخشري في تصوير ذلك الرأي من هذه الآية : لما أخلصوا النية والعزم على الجهاد، وأظهروا حمية الإسلام كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم، كما يزاد الإيقان بتنا صر الحجج، ولأن خروجهم على أثر التثبيط- إلى العدو طاعة عظيمة، والطاعات من جملة الإيمان لأن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل، وعن ابن عمر رضي الله عنه انه كان يأخذ بيد الرجل، فيقول : قم بنا نزدد إيمانا، وعنه :"لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح".
ولقد قالوا : إن قوة الإيمان بإشراقه في القلب، وشدة الإشراق، وروى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. عن النبي صلى الله عليه وسلم :"إن الإيمان ليبدو لمظة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة"٢. أي كثر الصفاء وأشرق البياض، وكان العمل الصالح.
والإيمان هو اليقين الجازم القاطع واليقين وهو من حيث أثره في النفس ثلاث مراتب :
أولاها : علم اليقين، وهي ان تتوافر الأدلة والاطمئنان حتى يكون اليقين الجازم القاطع الذي لا يكون معه شك ولا ريب، ولا إنكار أو جحود، بل تسليم وإذعان من غير مماراة.
وثانيها : عين اليقين، وهو ان تكون أعماله كلها وفق ذلك الاعتقاد الجازم، فيكون اليقين قد رؤى عيانا في الجوارح والأعمال.
والثالثة، وهي المرتبة العليا : حقيقة اليقين، وهي أن يصل إلى درجة تشبه المشاهدة او تكون من جنسها وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم :"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"٣ وهذه مرتبة المشاهدة ولقد وصل إليها الأبرار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ولقد قال على كرم الله وجهه :( لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ) لأنه رضي الله عنه وصل إلى مرتبة المشاهدة. وفي الجملة فإننا نرى ان الإيمان يزيد وينقص والله سبحانه وتعالى عليم بذات الصدور.
٢ ذكره القرطبي في التفسير: آل عمران(١٧٣)، وأحسبه موقوفا على علي رضي الله عنه..
٣ سبق تخريجه..
وثالث الأمور- أنهم عادوا سالمين، وهذا معنى :﴿ لم يمسسهم سوء ﴾ أي لم تنزل بهم جراح، بل إنه حتى الأمر الذي يسوءهم لم يمسسهم بل قد عادوا فرحين مستبشرين، ورابع الأمور- انهم اتبعوا رضوان الله، أي اتبعوا امر الله تعالى، وساروا في الطريق الذي يكون فيه رضوانه تبارك وتعالى، ورضوان الله أعظم ما يناله المؤمن، وحسبه ان يكون في عمل فيه رضوان الله الذي هو أكبر النعم لينال حظي الدنيا والآخرة، وغن هذه النعم التي نالوها هي من فضل الله تعالى :
﴿ والله ذو فضل عظيم ﴾ ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بذلك النص السامي وهي تصف المولى العلي الكريم بأنه صاحب فضل عظيم لا تكتنه حقيقته، ولا يحده الحصر، وقد بدا فيما أسبغه الله تعالى من نعم على الناس أجمعين، وما أنقذ به عباده المؤمنين من شر الكافرين، وما وفقهم له من طلب رضوانه وما نصرهم به من نصر مؤزر، والتنكير في الفضل ووصفه لإفادة كثرته وقوة أثره.
٢ رواه البيهقي عن ابن عباس- في قول الله﴿فانقلبوا بنعمة من الله وفضل﴾ قال: النعمة انهم سلموا، والفضل: أن عيرا مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه..
﴿ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون ﴾ الخطاب في الآية للمؤمنين الأقوياء أي إن الإرهاب والإفزاع يكون من أولياء الشيطان١، وهو يخوف أولياءه ونصراءه بهذا التخويف وذلك الإفزاع، لأن أولئك لا يهمهم إلا الحياة الدنيا، ودائرة سلطان الشيطان في ان يحملهم على ألا يؤمنوا بالحياة الأخرى، ومادامت الدنيا همهم اللازم، فإنه لا يهمهم إلا الفوز الحاضر، ومن هنا يجد الشيطان موضع ثقته ووسوسته، فأولياء الشيطان إذا كانوا قد خوفوا المؤمنين بالكثرة والعدد والهزيمة القريبة، فذلك هو منطقهم ومنطق الشيطان، اما المؤمنون فهم أولياء الله ولا يعتمدون إلا عليه، ولهم إحدى الحسنيين إما النصر العاجل ومعه الجزاء، وإما الاستشهاد والثواب المقيم، ورضوان الله اكبر، وهو ثابت في الحالين، ولذلك لا يفزعهم مثل هذا التهديد الذي حملته رسل أبي سفيان، ويكون المعنى على هذا، إن تخويف الشيطان المبني على الإفزاع والإرهاب إنما يكون أثره في أوليائه من الكافرين والمنافقين، ولا يمكن ان يكون له أثر في قلوب المؤمنين، والإشارة في قوله تعالى :﴿ إنما ذلكم ﴾ هي للعمل الذي قام به أولئك الذين دسوا القول المفزع المثبط في النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، وجعل المسند إليه من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبب، فالمعنى : إنما ذلكم القول المدسوس هو الشيطان أي عمله وتدبيره، ولا يمكن ان يكون إلا في أوليائه، والله ولى الذين آمنوا، والشيطان على هذا هو إبليس اللعين الذي أضلهم ويخوفهم، هم ومن هم على شاكلتهم من المنافقين.
ولقد أكد الله سبحانه ولايته لهم، ونصرته لهم فقال تبارك وتعالى :﴿ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾ أي فلا تخافوا تهديدهم الذي هو تدبير الشيطان، فإنه إذا كنتم أولياء الله، ولا يهمكم إلا رضاه، ولستم أولياء الشيطان، ولا أثر له في قلوبكم، فلا يصح لكم ان تخافوا أولياء الشيطان، ولا تدبيره، والله معكم، ولذلك لا تخافوا سواه ما دام الإيمان شأنكم ووصفكم، فضعوا في نفوسكم ولاية الله ونصرته وتقواه، وضعوا أيضا في نفوسكم خشية عقابه ورجاء رضاه، فإن فعلتم خفتم الله وأرضيتموه، واتبعتم طريق السداد، وكنم في امن من الشيطان وأوليائه.
والخوف امر نفسي لا قدرة للإنسان على منعه، فكيف يكون النهي عنه ؟ والجواب عن ذلك ان النهي عن الخوف نهى عن أسبابه، ودعوة إلى رياضة النفس على الصبر ؛ وذلك لن سبب الخوف والجبن حب الدنيا وكراهية الموت، وعدم عمران القلب بذكر الله وعدم الإحساس بولاية الله تعالى، وضعف الثقة بالنفس وبالله، فالله سبحانه وتعالى إذ نهى المؤمنين عن الخوف من الشيطان فمعناه النهي عن أسباب الخوف والأخذ في أسباب القوة، بالتقوى وذكر الله تعالى، والاتكال عليه بعد الأخذ في الأسباب، والإيمان بأن الله تعالى ناصر دينه، وناصر من استمسك به واخذ بعروته ولم يتركها قط.
والمقابلة بين النهي عن الخوف من أولياء الشيطان، والأمر بالخوف منه سبحانه، فيها بيان علاج النفس إذا ضعفت وخافت من الشيطان وأوليائه، فدفع الخوف من أولياء الشيطان يكون بالخوف من الله تعالى، فمن خاف الله تعالى حق الخوف منه لا يخاف أحدا من العباد إذا عاندوا وحادوا الله ودينه، لا يخاف اهل الضلال من يخاف الله سبحانه وتعالى٢.
٢ أي فهما ضدان، والضدان لا يجتمعان..
والمعنى لا يحزنك ولا تكن في نفسك حسرة على الذين يسارعون في الكفر أي يوغلون فيه وينتقلون من درجة إلى درجة فينتقلون من الضلال والجحود على التضليل ومن التضليل إلى الفتنة ثم القتال، ثم التدبير الخبيث والمكر السيئ، ولقد فسر الزمخشري كلمة﴿ يسارعون في الكفر ﴾ بمعنى الوقوع فيه سريعا من غير تريث وتدبر وتفكير، والأول عندي أوضح ؛ لأن الكلام ليس في الذين وقعوا فيه من جديد، وغنما هو في الذين مردوا عليه وأوغلوا فيه واستمروا عليه، والنهي عن الحزن نهى عن الاسترسال فيه، ونهى عن أسبابه، وهو الظن بغلبة الضلال على اليقين والكفر والإيمان، ولقد طمأن الله تعالى نبيه تأكيدا للنهي، ونفيا لمبرراته، فقال سبحانه :
﴿ إنهم لن يضروا الله شيئا ﴾ أي إنهم مهما يتماد شرهم وطغيانهم وفتنتهم الناس عن دينهم، فلن يضروا الله شيئا من الضرر ولو صغيرا. فلن ينقص كفرهم من سلطان الله، ولن يزيد إيمانكم من سلطان الله تعالى، فالله غالب قاهر فوق عباده، فعظمة الله لا ينقصها كفر، وقد زكى سبحانه النهي عن الحزن بأمر آخر وهو بيان ان الله أراد لهؤلاء ما هم عليه، وإن كان باختبارهم، ولذا قال سبحانه :
﴿ يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ﴾ أي انه لا يصح ان تحزن لمسارعتهم في الكفر وانحدارهم في مهاويه ؛ لأن الله سبحانه هو الذي لم يجعل لهم حظا في الآخرة، فما عصوا الله تعالى غالبين لإرادته، بل عصوا بإرادتهم وإرادته سبحانه، وغن كان لا يرضى لعباده الكفر، وفرق ما بين الرضا والإرادة، فالله سبحانه وتعالى لم يرد ان يجعل لهم حظا في الآخرة، ولكنه لا يحب الكفر ولا يرضاه.
النص الكريم في بيان معاملة الله تعالى للذين تركوا الحق، ويتبعون الضلال، ويحادون الله ورسوله سرا وإعلانا، وقد بين سبحانه في الآية انه لا يصح ان تكون مسارعة الكفار في الكفر وتنقلهم من حال إلى حال فيه سببا في حزنك، وإلقاء الغم في قلبك، لنهم لا يضرون إلا انفسهم ولن يضروك شيئا ما دام الله سبحانه معك، ولن يتخلى عنك، وفي هذه الآيات يبين معاملة الله تعالى لهؤلاء الكافرين، واختباره سبحانه للمؤمنين، وانه سبحانه وتعالى قد قدر كل ذلك في علمه المكنون الذي لا يطلع علي أحد، وقد قال سبحانه في أوصاف الكافرين :﴿ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم ﴾.
هذه الآية تبين حال الذين عاندوا الرسول، ولم يخلصوا في طلب الحق، وهؤلاء أقبلوا على الكفر راغبين فيه طالبين له، حتى غنهم ليجعلون الإيمان الذي أودعه الله تعالى النفوس في تكوينها، وجعله موضع النور في كيانها- ثمنا يقدم في نظير الكفر الذي يأخذونه، وفي هذا دلالة على أمرين :
أولهما : ان الكافرين طمس على قلوبهم فاستبدلوا بفطرة الإيمان التي فطر الله الناس عليها كفرا قامت الدلائل على بطلانه فكان هذا دليلا على تمكن الضلال، وكل ما يقع منهم بعد ذلك من شر يجب ان يكون متوقعا، فيهون امره، ويضعف في النفس أثره.
ثانيهما : ان الإيمان في ملك كل إنسان، وهو الأصل الذي يجب ان يهتدي إليه عندما تلوح ظواهره وبيناته فإن الله تعالى قد ألهم كل نفس فجورها وتقواها، والبينات الشاهدة الواضحة المؤيدة الهادية تجعل الإيمان في قبضة يد طالب الحق، فإذا فتح قلبه للكفر، فقد باع أغلى شيء في الوجود، وهو الإيمان، بأحقر شيء في الوجود وهو الكفر، والكلام بعد ذلك فيه استعارة تمثيلية، وهي تصوير الكافر الذي يترك بينات الله وآياته، وغنها لكثيرة ويختار الضلال مع قيام الأدلة على بطلانه، بمن يكون في يده أجود بضاعة، ويبيعها بأرخص الأثمان، بل بشيء لا يفيد قط، وفيه إشارة إلى ان الكافرين يعلمون ان ما هم عليه هو الباطل، ولكنه العناد والطغيان، وقد ذكر ذلك سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم... ١٤ ﴾[ النمل ].
وقد بين سبحانه ان هؤلاء الذين اتجروا بإيمانهم وجعلوه سلعة تباع- مغبة فعلهم عليهم وحدهم دون سائر الناس، ولن يضروا المؤمنين إلا أذى والعاقبة للمتقين، ولذا قال سبحانه :﴿ لن يضروا الله شيئا ﴾ أي ليس في طولهم ولا في طاقتهم ان يضروا دين الله تعالى ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا المؤمنين بالله تعالى شيئا من الضرر الذي تكون عاقبته انتصارهم إلى النهاية، فإن الله تعالى ناصر دينه خاذل أعداء الحق، فإضافة إرادة الضرر إلى الله تعالى على حذف مضاف، أي وتقديره دين الله او رسوله او المؤمنين بالله، وفي حذف المضاف إشارة إلى ان ما يفعله المشركون ويوجهونه إلى المؤمنين إنما يوجهونه إلى الله تعالى رب العالمين، وذلك إعلاء للدين وللرسول وللمؤمنين.
وإذا كان أولئك لا يضرون الله فهم لا يضرون إلا انفسهم، وبين سبحانه الضرر الذي يلحقهم بقوله سبحانه :﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي عذاب مؤلم شديد الإيلام لهم في الدنيا وفي الآخرة، فآلامهم في الدنيا هزائم تتلوها هزائم، وخزي وسقوط لهم عن علياء طاغوتهم إلى الدرك الأسفل، وفعيل هنا بمعنى فاعل، ك﴿ بديع السموات والأرض... ١١٧ ﴾[ البقرة ] بمعنى مبدع.
ولقد يسأل سائل : لماذا يتمتع هؤلاء بالسلطان، ولماذا ينتصرون أحيانا ؟ فبين سبحانه ان ذلك إملاء لهم، فقال :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم ﴾.
قد يرد على الخاطر : إذا كان امر الله هو الغالب فلم يترك هؤلاء في هذا النعيم ؟ فقال سبحانه ذلك النص الكريم.
الإملاء : الإمهال والتخلية بين العامل والعمل ليبلغ مداه، من قولهم : أملي لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء، ويطلق الإملاء على طول العمر، وهو من أملى بمعنى أعطاه ملاوة او مهلة من الزمان. جاء في مفردات الراغب الأصفهاني :"الإملاء، ومنه قيل للمدة الطويلة ملاوة من الدهر، وملى من الدهر".
وهنا في النص الكريم قراءتان إحداهما بالياء أي :﴿ ولا يحسبن الذين ﴾ ويكون النهي عن الظن متجها للذين كفروا، والمعنى على هذا لا يجل بخواطر أولئك الكافرين أن إملاءنا لهم بإعطائهم نعيما في الدنيا، وإرخاء العنان لهم، وتمتيعهم وعدم القضاء عليهم دفعة واحدة- فيه خير لهم، ويكون مفعولا يحسب قد سد مسدهما"ان" المصدرية و"ما" بعدها فإن ذلك كثير في القرآن وكثير من كلام العرب، كقولك عن شخص : لا يحسب أنه عالم.
وعلى القراءة الثانية١، ﴿ ولا تحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم ﴾ يكون الخطاب بالنهي متجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون المفعول الأول هو﴿ الذين كفروا ﴾، و﴿ انما نملي لهم خير لأنفسهم ﴾ بدل من الذين كفروا، وسد مسد تظن يا محمد ولا يظن أحد من أمتك الذين كفروا قد أملي لهم لخير يأتيهم، ويكون توجيه الظن إلى الذين كفروا له فائدة ؛ لأن الظن قد سبق إلى المؤمنين من أشخاصهم، وما أوتوا من مال وقوة وعزة نفر، وبقاءهم على هذا أمدا طويلا.
وقد صرح سبحانه من بعد ذلك بنتيجة الإملاء فقال سبحانه :﴿ إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ﴾.
والمعنى أننا لا نملي للذين كفروا إلا لنتيجة واحدة مقررة ثابتة، وهي ان يزدادوا إثما، وينالهم عذاب مهين مذل لهم في الدنيا والآخرة، فإنهم عن كانوا قد نالوا في هذا الإملاء نعيما وعزا، فإنهم بعد ذلك سينالهم العذاب الأليم المهين الذي لا يكون لهم قبل بدفعه.
و"اللام" هنا لبيان العاقبة لا للتعليل والغاية وذلك كقوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون عدوا وحزنا... ٨ ﴾[ القصص ]، وذلك بيان للنتيجة ؛ لأن نتيجة الالتقاط كانت كذلك، وغن كان الباعث في الحقيقة هو ان يتخذوه لهم وليا وموضع سرور ؟، وبهذا تكون الآية مبينة لغاية عملهم، وان النتيجة شر لهم لا محالة.
وقد يقول قائل : إن من الكافرين من تكون زيادة الإملاء له سببا في زيادة خير يقوم به وإن كان كافرا، وغن من هؤلاء الكافرين من يؤمن ويحسن إيمانه، فكان حقا ان الإملاء أنتج خيرا إذ مكنهم من الإيمان.
ونقول في الإجابة عن الأول إن زيادة الإثم، لا تمنع وجود فعل خير، وهم يزداد إثمهم باستمرارهم على الكفر ومشاقة الله ورسوله على ان ما يفعلون من خير يحبطه جحودهم وإنكارهم ومعاندتهم لله سبحانه إذ تنقصهم عند فعل الخير النية الطيبة.
وعن الثاني نقول : عن زيادة الإثم مشروطة باستمرارهم على الكفر ؛ لأن الإملاء ينقطع بإيمانهم، وإن الإملاء إنما هو لأجل مشاقة الله ورسوله وإعلان الكفر ومحادة الحق، وبإيمانهم تنتهي هذه المشاقة فيزول سبب الإملاء، وإن زيادة الإثم إنما هي منوطة بوصف الكفر، فبانتهائه تزول الزيادة، بل يغفر الله سبحانه وتعالى ما سبق كما قال تعالى :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف... ٣٨ ﴾[ الأنفال ].
وقد وصف عذاب هؤلاء بأنه مهين ليتعزى المؤمنون عما يرون من عزة هؤلاء وسلطانهم ببيان انهم سيكونون من بعد في أشد الذلة ؛ لن عذاب الله سبحانه سيريهم الهوان الحقيقي الدائم الذي لا رفعة معه.
كانت هذه الشديدة التي نزلت بالمسلمين في غزوة احد سببا في ان عرف المؤمنون الصادقون من المنافقين وضعاف الإيمان، وقد بين سبحانه ان شان الله تعالى في عباده ان يختبرهم، ويصهر جماعتهم بالشدائد لينفصل عنهم الخبث، كما ينفصل الخبث عن الذهب بصهره، و"يذر" : معناها يترك، وقوله :﴿ على ما انتم عليه ﴾، من اليسر، وعدم التعرض للشدائد، ومعنى﴿ يميز ﴾ يفصل، وقرئ ( يميز )١ أي يحدد ويبين، والطيب هو الصادق الإيمان، والخبيث هو المنافق ومن يثق به من ضعاف الإيمان، ومعنى النص الكريم : ما كان من شأن الله تعالى وسنته في عباده، ومعاملته لأهل الإيمان والصدق ان يتركهم في حال من اليسر الذي لا صعوبة معه، فإن ذلك يجعلهم مختلطين لا مميز يميز من دخل في الإيمان واشرب قلبه حبه، ومن دخل في الإسلام ولم يذق حلاوته، ومن أضمر الكفر وأظهر الإيمان، وما كان الله تعالى ليتركهم غير متميزين حتى يبين الخبيث من طيب، وتنفصل الأقسام، وتتميز كل جماعة بحقيقتها. وهذا على ان قوله تعالى :﴿ على ما انتم ﴾ من نصر مستمر، لا مشقة، لا مشقة فيه ولا ابتلاء، وعلى ان قوله تعالى :﴿ على ما انتم عليه ﴾ بمعنى مختلطين غير متميزين يكون السياق واضحا، وقد بينه الزمخشري بقوله( لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله، فيكون عيارا على عقائدكم، وشاهدا بضمائركم، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها فإن ذلك مما استأثر به علم الله ).
وإن أولئك المنافقين الذين يتخذون من الهزيمة دليلا على عدم صدق الرسول لكاذبون ؛ لأن الله لا يطلع على غيبه أحد، وما كان لكم معشر المؤمنين ان تعلموا حقيقة المنافقين وضعاف الإيمان فإن ذلك من الغيب.
﴿ وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ﴾ الغيب ضد المشاهد، وهو ما غيب عنا مما لا نعلمه بطريق الحس ولا تصل عقولنا المجردة إلى معرفته، كالعلم بما يكون في المستقبل، وحقيقة الملائكة وذواتهم، وغير ذلك مما غيب الله عنا علمه، و"اجتبى" معناها اختار واصطفى، والمعنى : من شأن الله تعالى أن لا يطلع عباده المؤمنين على الغيب من الأمور، حتى يعرفوا ما يكون لهم في الغد، بل إنه يغيب المستقبل عنهم ليجدوا ويجتهدوا، ويعلموا، وسيرى الله عملهم ورسوله والمؤمنون، ومع ذلك يصطفى من رسله من يطلعهم على بعض الغيب، كما كان يطلع رسوله أحيانا على بعض ما يدبر له كاطلاعه على ما دبره اليهود لاغتياله، وكاطلاعه على من حملت رسالة إلى قريش تخبرهم بسر غزوته لهم، وكمكاشفته بالوحي لجبريل الأمين، وهكذا من شئون الغيب، ويستفاد من هذا ان الله سبحانه وتعالى قد اختص بعلم الغيب، كما فقال تعالى :﴿ وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو... ٥٩ ﴾[ الأنعام ] وان الأنبياء قد يصطفى الله منهم من يعطيه علم بعض المغيبات، فما يعطيهم يعلمونه، وغنه لنزر قليل لا يعد شيئا ولقد قال سبحانه على لسان نوح عليه السلام :﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول إني ملك... ٣١ ﴾[ هود ]، وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير... ١٨٨ ﴾[ الأعراف ].
﴿ فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ﴾ أي إذا علمتم ان الله تعالى لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يتعين ان تؤمنوا بالله حق الإيمان بأن تعرفوه متصفا بصفات الكمال منزها عن المشابهة للحوادث، ليس كمثله شيء، وان تؤمنوا برسله فتعرفوا حقيقة رسائلهم وان تؤمنوا بالله حق الإيمان، وبالرسل وما جاءوا به وتتقوا الله وتجعلوا وقاية لأنفسكم بالطاعات تقومون بها وتؤدونها على وجهها فلكم اجر عظيم.
بين الله سبحانه وتعالى العبر في غزوة احد وما كان فيها، وقد أشار سبحانه في آخر بيان العبر إلى ما عليه اهل الكفر من نعيم دنيوي، وتمكين من أسباب الحياة، وأشار سبحانه وتعالى بالشدائد، مع رؤية نعيم الكافرين، ليميز الله سبحانه وتعالى الخبيث من الطيب، وأشار سبحانه إلى ان هذا الإملاء للكافرين ليس خيرا لهم، بل إن عقباه سنكون شرا لهم ؛ لنهم بهذا العطاء سيستمرئون الشر، ويوغلون فيه إيغالا، ووراء ذلك العذاب الأليم، والخزي في الدنيا والآخرة، وفي هذه الآيات يصرح سبحانه بما سكون منهم في النعمة التي اختبرهم سبحانه وتعالى بها ؛ إذ إنهم لا يجعلونها سبيلا للخير، بل يحبسونها على انفسهم حبسا، فتكون شرا لا خير فيه لأحد، ولذا قال سبحانه :﴿ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم ﴾.
البخل هو الحرص الشديد فيما يملك الإنسان من مال او علم او أي ضرب من ضروب القدرة التي يستطيع ان يعين بها غيره، وعلى ذلك يشمل البخل كل شح، سواء أكان موضوعه المال، ام لم يكن موضوعه المال، وقد فسر بعض العلماء البخل في هذه الآية بكتمان العلم، ذلك ان اليهود كتموا أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وتبشير التوراة به، وضنوا بها فلم يعلنوها ليضلوا، او ليمنعوا الهداية.
وقد فسر الأكثرون البخل بمعناه الظاهر المتبادر، وهو البخل في المال، ويتفق هذا مع سياق الكلام، إذ إن الله سبحانه وتعالى قد حكى عن هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، ان منهم من يقول إن الله فقير ونحن أغنياء، ولأن الله سبحانه وتعالى ذكر بعد بيان بخلهم ان الله سبحانه وتعالى له ميراث السموات والأرض، والتعبير بكلمة ميراث يومئ إلى أن موضوع البخل هو المال.
والنهي عن الظن وان البخل المالي فيه خير في قوله تعالى :﴿ ولا يحسبن الذين يبخلون ﴾ يدل على النفي المؤكد، فالمعنى لا يصح لهم ان يظنوا بأي حال من الأحوال ان ذلك البخل فيه خير لهم، بل فيه شر لهم، وفي الآية الكريمة إشارة إلى ان سبب البخل نسيان أصل المال، إذ ان البخيل يحسب ان ما يأتي إليه من مال إنما هو بجهوده وكسبه فقط، ليس فضلا من الله، وينسى ان الله سبحانه وتعالى هو المعطي المانع، وانه يرزق من يشاء بغير حساب، وان الرجلين يسعيان ويتخذان الأسباب، فتاتي جائحة لهذا تأكل الأخضر واليابس، وينجو مال ذلك، والله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، ولذا بين الله سبحانه ان المال الذي يجئ إليهم غنما هو بفضل من الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال :﴿ يبخلون بما آتاهم الله من فضله ﴾، فهو يبين لهم ان المال مال الله تعالى، وان الله تعالى يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء.
والضمير في قوله تعالى :﴿ هو خيرا لهم ﴾ تأكيد لمعنى البخل المفهوم من قوله تعالى ﴿ يبخلون ﴾، ونرى ان الضمير ضمير الفصل لتأكيد نفي الظن في الخيرية.
وقد بين سبحانه انه شر لهم، فقال سبحانه :﴿ بل هو شر لهم ﴾ وفي إعادة الضمير، وذكر الجملة الاسمية تأكيد لمعنى الشر في البخل، والبخل شر في الدنيا وفي الآخرة ؛ وذلك لأنه يدفع إلى الحقد في الدنيا، والحقد في الآحاد يؤدي إلى النزاع المستمر، وتقطع العلاقات الأدبية، وهو في الجماعات يؤدي إلى الخراب والدمار. ولقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح اهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"١.
﴿ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ﴾ التطويق إما من الطاقة سيكلفون أقصى ما يطيقون ليخسروا المال الذي بخلوا به يوم القيامة، ولكنهم لا يملكون في هذا اليوم من أمرهم شيئا، فلا يستجيبون لنداء، ولا لكلام، لنهم لا يستطيعون، وذلك على حد قوله تعالى :﴿ يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون٤٢ ﴾[ القلم ].
وقد يكون وهو الأرجح من الطوق، والمعنى انه سيكون ما بخلوا به طوقا في أعناقهم، وغلا فيها بما كان منهم في الدنيا، وهو طوق مؤلم، مثله النبي صلى الله عليه وسلم بثعبان، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{ من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا٢ أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه٣ يقول : انا مالك انا كنزك ثم تلا قوله تعالى :﴿ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ﴾"٤.
والنص القرآني والحديث النبوي استعارة تمثيلية لإحاطة البخل بصاحبه يوم القيامة، وإنها إحاطة إيلام، وفيها بيان أن السعادة الوقتية للاكتناز والبخل في الدنيا ستكون يوم القيامة بؤسا شديدا، وشقوة وإيلاما.
بهذا النص الكريم تبين قيح البخل، ويتبين مقام الإنفاق في سبيل الله ولكن ما حد البخل ؟ وما حد السرف ؟ وبهذين الحدين يتبين الإنفاق الحلال والقصد.
لقد قرر العلماء أن الإنفاق في سبيل الله تعالى لا إسراف فيه قط، ولو كان بكل المال وأنه يروى ان عمر بن الخطاب تبرع في إحدى الغزوات بنصف ماله، وان ابا بكر الصديق تبرع بكل ماله، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم قائلا :"ما أبقيت لأهلك ؟" فقال صديق هذه الأمة :" الله ورسوله ؟٥ وقد كان ذو النورين عثمان بن عفان يجهز الجيش كله أحيانا، كما فعل في ساعة العسرة، ولم يعد ذلك إسرافا.
وقد اتفقوا أيضا على ان الامتناع عن الإنفاق في سبيل الله تعالى في عسرة الدولة، ومداهمة الأعداء لها، بخل بل هو أقبح وأشده، ولذلك أجاز الفقهاء فرض ضرائب إذا داهمت الأمة الإسلامية الأعداء وامتنع الأغنياء عن الإنفاق، وهذا النوع من البخل هو المقصود بهذا النص الكريم.
وقد اتفقوا أيضا على ان كل درهم ينفق في معصية هو إسراف، والخلاصة ان الحد ما بين الإسراف والبخل هو الإنفاق في غير ما امر الله تعالى، ولذلك يقول ابن عباس : إنفاق ألف في سبيل الله لا يكون إسرافا، وإنفاق درهم في معصية يكون إسرافا.
﴿ ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير ﴾ هذا النص الكريم يفيد أربعة معان تؤكد وجوب الإنفاق في سبيل الخير، والجهاد في سبيل الله تعالى :
المعنى الأول- ان المال كله لله تعالى، فهو الذي اعطى كما عبر سبحانه وتعالى :﴿ بما آتاهم الله من فضله ﴾، وان مآل المال إليه سبحانه وتعالى في ضمن ما يئول إليه كل شيء في هذا الوجود، بلا استثناء مطلقا، ومن يبخل لورثة يرثونه، فليعلم ان الميراث كله لله تعالى، وانه سيعطيهم إن أراد سبحانه، وإن لم يرد لهم عطاء فسينفقونه إسرافا وبدارا.
والمعنى الثاني- هو بيان سلطان الله تعالى على كل ما في الوجود، فهو ملكه، وهو الذي يئول إليه، وفي ذلك كمال سلطانه، وتأكيد لمعنى انه المعطى الوهاب، والقوى الرزاق المتين، ولذلك لم يعبر عن الميراث بأنه ميراث الموال التي نعرفها، بل ميراث كل ما حوته السماء وما حوته الأرض.
والمعنى الثالث – ان العطاء الذي يعطيه الله تعالى بعض عباده، ويختصهم به يوجب عليهم تكليفات مالية فيه، فإذا كان سبحانه وتعالى قد ابتلى الفقراء بالفقر، فقد ابتلى الأغنياء بالمال، واوجب عليهم ان يعطوا، وهم محاسبون على مالهم، ﴿ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون٩ ﴾[ الحشر ]، وقد فهم هذا من ذكر علم الله تعالى الدقيق العظيم، ولذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ والله بما تعلمون خبير ﴾.
والمعنى الرابع- ان الجزاء سيكون شاملا كاملا ؛ لأن علم الله دقيق لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره٧ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره٨ ﴾[ الزلزلة ].
ولذلك عبر سبحانه عن علمه بأعمالنا بأنه خبير، والخبرة هي العلم الدقيق الشامل.
٢ قال الإمام رحمه الله: الشجاع: هو الثعبان الذكر الذي يقوم على ذنبه ويوائب الراجل والفارس. والأقرع هو الذي يكون أملس الجلد كثير السم، والزبيبتان علامتان سوداوان فوق عينيه، وهما تكونان لأخبث الحيات..
٣ اللهزمتان بكسر اللام والزاي: شدقاه..
٤ رواه البخاري: الزكاة –إثم مانع الزكاة(١٣١٥). كما رواه النسائي: الزكاة –مانع زكاة ماله(٢٤٣٦)، واحمد: باقي مسند المكثرين(٧٣٠٧)كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٥ رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح: كتاب المناقب- في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما(٣٦٠٨). كما رواه أبو داود في الزكاة – في الرخصة في ذلك(١٤٢٩)، والدارمي: الرجل يتصدق بجميع ما عنده(١٦٠١)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح(باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى)..
لقد كان اليهود يحرضون المؤمنين على الشح وعدم الأنفاق في سبيل الله تعالى بطرق شتى، وكانوا يحاولون ان ينالوا من إيمان اهل الإيمان، فلما نزل قوله تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض قرضا حسنا... ١١ ﴾[ الحديد ] أخذوا يتهكمون على القرآن، وعلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصفون الله سبحانه بما لا يليق، وذلك ليوهنوا قلوب المؤمنين، ويشككوهم في دينهم، أو ليبعثوا فيهم روح الشح. ويروى في ذلك عن ابن عباس انه لما نزلت هذه الآية :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا... ١١ ﴾جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا : يا محمد ربك فقير يسأل عباده القرض١، ويظهر ان ذلك قد تكرر منهم، وتجرءوا به على ذات الله سبحانه، او اتجهوا إلى تكذيب ما في القرآن بالتهجم على ما اشتمل عليه في هذا المقام، ولقد بين سبحانه انه عليم بقولهم علم من يسمع القول، ولذلك قال سبحانه :﴿ لقد سمع الله قول الذين قالوا... ﴾ وفي هذا التعبير بيان ان الله تعالى مطلع عليهم، ومراقبة من يستمع إليهم، وفي ذلك من التهديد ما فيه، إذ إنه إشعار بأن ذا الجلال القوي القهار القادر على كل شيء والذي يملك الوجود ومن فيه وما فيه، مستمع لما يقال في شأنه، وما يتجرءون به عليه، كما يقول القائل لمن يجده يتجرأ على عظيم : غنه يسمع قولك ويعلم به، فارتقب عواقب ما تفعل، واستشعر الهيبة والخشية :﴿ ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم٦٠ ﴾[ النحل ] وقد عقب سبحانه ذلك بنتائج تلك المراقبة، وصرح بالتهديد الشديد في قوله تعالى :﴿ سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ﴾.
في هذا الكلام تهديد شديد لهم، وذلك لأن المعنى : سنثبت عليهم في سجل الله تعالى قولهم هذا وتجرؤهم عليه سبحانه، وليس المراد مجرد الكتابة، بل المراد نتيجتها وهو الحساب عليها، والجزاء من العذاب الأليم، والتعبير بالكتابة كناية عن العلم المستتر الثابت الذي تترتب عليه نتائجه وثمراته، لما تضمنته الكتابة من معنى العقاب الرادع الذي لا مناص منه عبر بالمضارع فقال سبحانه :"﴿ سنكتب ما قالوا ﴾ والتعبير ب﴿ ما قالوا ﴾ فيه إشارة إلى ما فيه من تجرؤ على الله تعالى، وتهجم على مقامه الأعلى سبحانه.
وقد فسر سبحانه ذلك القول الجرئ بعمل جرئ من أسلافهم، وقد ارتضوه، فكان من الحق ان ينسب إليهم، وهو ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وقتلهم الأنبياء بغير حق ﴾ وذلك لإثبات جرأتهم في الشر، واستهانتهم بالحقائق الدينية، وشرههم إلى الفساد، وقد أثبت الله سبحانه وتعالى بذلك فساد فعلهم بهذا القتل الشنيع، وفساد قولهم بذلك القول الفاسد الجرئ على الله سبحانه و تعالى.
وهنا تثار ثلاثة أمور نتكلم فيها بإيجاز :
أولها : في قرن هاتين الجريمتين، وقد أشرنا إلى أنهما من نوع واحد، وهو التجرؤ على الله سبحانه وتعالى، فالقديمة تجرؤ على رسالة الله، والثانية تجرؤ على ذات الله، وبذلك يكونون قد عتوا كبيرا، وضلوا ضلالا بعيدا.
ثانيها : ان نسبة القتل إلى الحاضرين صحيحة لنهم رضوا به، وغن لم يكونوا قد باشروه، ومن رضي بجريمة فقد فعلها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها من غاب عنها، ومن غاب غنها فرضيها كان كمن شهدها"٢.
وثالثها : انه وصف قتلهم للنبيين بأنه بغير حق – مع ان هذا النوع من الإجرام لا يمكن ان يكون بحق أبدا، وذلك للإشارة إلى شناعة أفعالهم، وعظم شرهم، وأنهم لا يبالون أكان فعلهم في موضعه ام في غير موضعه.
وقد قلنا عن هذه الكتابة هي للعقاب، وقد قال سبحانه بعد ذلك مصرحا بالعقاب :﴿ ذوقوا عذاب الحريق ﴾.
الذوق هو الإحساس، وهو هنا الإحساس بالألم، والتأصل في الذوق أن يكون في امر مرغوب في ذوقه وطلبه، وهو هنا للألم، فالتعبير فيه تهكم عليهم، كما قال تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم٢٤ ﴾[ الانشقاق[، والحريق النار الملتهبة، وهذا الكلام فيه إيجاز حذف، إذ ان السياق تضمن حذف كلمات دل فيها ما ظهر على ما طوي، إذا المعنى سنكتب ما قالوا وما فعلوا ونلقيهم في جهنم وبئس المصير، ونخاطبهم وهم يصلون نارها بقولنا : ذوقوا عذاب تلك النار الملتهبة وآلامها، وذلك مثواهم.
٢ رواه أبو داود: الملاحم – الأمر والنهي(٣٧٨٢) عن العرس بن عميرة الكندي..
أي ذلك العذاب الشديد الأليم بسبب ما قدمت أيدكم وما تكلمتم به، والتعبير ب﴿ بما قدمت ﴾، وتخصيص الأيدي بالذكر ؛ للدلالة على التمكن من الفعل وإرادته، ولن أكثر الشر يكون ببطش اليد، ولأن نسبة الفعل إلى اليد تفيد الالتصاق به، والاتصال بذاته.
وإذا كان ذلك العذاب لأجل هذا العمل، فهو لا ظلم فيه، وفوق ذلك فإنه لو أهمل حسابهم لكان الله ظلاما لعباده بتسوية المحسن بالمسئ، فكان العذاب لينفي عن ذات الله تعالى الظلم، وابلغه وأقصاه بأن يتساوى المحسن والمسئ، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن ذاته الكريمة تلك التسمية، كما قال تعالى :﴿ أم نجعل المتقين كالفجار٢٨ ﴾ [ ص ]. ربنا إننا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين.
الكلام مستمر في وصف اليهود وأخلاقهم واستيلاء المادة عليهم، وغلط قلوبهم وقسوتها، حتى لقد بلغ بهم الجحود ان يقولوا عن الله تعالى وقد سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم – أن من يتصدق يقرض الله قرضا حسنا – إن الله فقير ونحن أغنياء، وفي هذه الآيات يبين ان من نتائج جحودهم ان يطلبوا معجزة غير المعجزة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، فيطلبون دليلا غير الدليل الذي قام حجة عليهم، ولقد سألوا موسى من قبل اكبر من ذلك، فقالوا : أرنا الله جهرة، ومع انه قد جاء على يد موسى عليه السلام من المعجزات الحسية العدد الكثير كانوا يطلبون غيرها ؛ لنهم معاندون والمعاند لا يزيده الدليل البين إلا عنادا وكفرا وجحودا. لقد سألوا النبي معجزة، وكذبوا فيها فقال الله فيهم :﴿ الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ﴾.
تذكر كتب التفسير ان من معجزات بعض الرسل الذين جاءوا من قبل ان يقدم القربان، وهو الصدقة من النعم، فتكون أمارة قبوله ان تنزل نار من السماء بيضاء تأكله، وقد ادعى اليهود ان ذلك عهد من الله عهد إليهم، وهو ادعاء باطل، فهذا الأمر إذا كان معجزة لرسول لا يستلزم ان يكون معجزة لكل رسول، وآيات الله تعالى لإثبات رسالات الرسل متعددة النواحي، مختلفة المناهج، لكل امة منهاج من الإعجاز يناسبها، وكون هذا حجة من الحجج الدالة على الرسالة وصدق الرسول في زمن – لا يقتضي ان يكون حجة في كل الأزمان.
ولا شك ان ذلك النوع من الإعجاز قد وقع، وذلك لن الله تعالى يقول :﴿ قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ﴾، والذي قالوه هو ان يأتيهم بقربان تأكله النار.
ولتتميم الكلام في النص لا بد ان نتعرض لتفسيرات لفظية لبعض الكلمات ومن هذه الكلمات كلمة( نؤمن لرسول )، وكلمة( قربان )، وكلمة( يأتينا )، وكلمة ( تأكله ).
ومعنى﴿ نؤمن لرسول ﴾ : أي نذعن لما يدعو إليه ونخضع ؛ إذ المطلوب منهم هو الإذعان للحق والخضوع له والتسليم به، لا التصديق المجرد الذي يصوره مجرد إيمان، فالفرق بين الإيمان بالرسول والإيمان له ان الأول يتضمن معنى التصديق، وإن لم يكن معه إذعان والتسليم والخضوع لما يدعو إليه.
ومعنى﴿ يأتينا بقربان تأكله النار ﴾ ان الرسول هو الذي يأتي بالقربان من النعم وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى من النعم، ويقدمه هو، تنزل النار البيضاء من السماء فتأكله، فليسوا هم الذين يقدمون القربان الذي تأكله النار، بل الذي يفعل ذلك هو الرسول إعجازا، ولبيان انه رسول، ولا يقال حينئذ إنه إذا كان كل قربان تأكله النار لا تكون ثمة فائدة يستفيدها الفقراء من القرابين، بل هذه حال خاصة يأتيها النبي من الأنبياء، ويقوم بها فتكون تلك الأمارة التي على التأييد من السماء، كانقلاب العصا حية، وانبجاس الماء من الحجر، وانفلاق البحر اثنا عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم.
ولقد بين سبحانه وتعالى ان هؤلاء الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قوم يتعنتون والمتعنت لا يلتفت إلى مطالبه، وقد ذكر سبحانه الرد مع الدليل على تعنتهم، فقال :﴿ قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم عن كنتم صادقين ﴾ ؟.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم و"البينات" المراد منها الحجة المبينة المثبتة لرسالة الرسل، و"بالذي قلتم"، والمعنى بموضوع القول الذي قلتموه، وهو الإتيان بقربان تنزل عليه نار بيضاء من السماء فتأكله، وقد يطلق القول ويراد منه موضوع القول، كان يقول قائل : قلت لك إن المر سيكون على وجه كذا، وقد كان ما قلت، أي قد كان معنى القول الذي قلت وتحقق موضوعه.
والمعنى : إن عليك يا محمد ان تقول في محاجتهم ولبيان تعنتهم قد جاءكم رسل بالبينات من قبل، وتحقق من الأنبياء ما تطلبون، وهو انهم أتوا بقربان تأكله النار، فلم تؤمنوا ولم تصدقوا، وقد دل هذا المعنى بقوله تعالى :﴿ فلم قتلتموهم عن كنتم صادقين ﴾ إذ إن القتل لا يكون إلا أثرا من آثار التكذيب العنيد، والجحود الشديد، فيكون نسق القول الكريم هكذا : لقد كذبتم وأبلغتم في الكذب بادعائكم ان إيمانكم مرتبط بالقربان تأكله النار، فقد جاءكم هذا ولم تؤمنوا، بل كذبتم وأعنتم حتى بلغ بكم الأمر والاستهانة بالداعي ان قتلتموه، ولو كنتم صادقين في ادعائكم ارتباط الإيمان بالإتيان بقربان تأكله النار فلم كان القتل ؟. فالصدق المنفي هو صدق الارتباط بين الإيمان وتلك الحجة التي يطلبونها، والاستفهام إنكاري ينفى ان يكون ثمة مبرر للقتل على أي وجه كان المبرر، وينفى أيضا صدقهم.
وسياق الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم هو لبيان تعنتهم، وأنهم لا يطلبون حجة لنقص الدليل، بل يتعنتون، وأنهم فعلوا مع من أتوا لهم بهذا الدليل اشد مما فعلوا معك وهنا امر يجب التنبيه إليه، وهو ان القتل والتكذيب مع هذه الحجة كان من أسلافهم، والخطاب للذين حضروا عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يجئ بعده ممن على شاكلتهم، ولقد وجهت إليهم جريمة الماضين منهم ؛ لأن وصف التعنت الذي أدى إلى ما كان من الأسلاف قائم في الأخلاف، ولأنهم راضون عن أعمالهم، فكان حقا ان يخاطبوا بجريمتهم ؛ ولأنهم تكلموا عن الماضين منهم بأنهم منهم فقالوا : إن الله عهد إلينا، مع ان الأمر كان في هؤلاء الماضين لا فيهم، لذلك كان عليهم ان يتحملوا وصف الإجرام الذي وقع من الماضين حتى يتخلصوا من تلك الأمة الخاسرة، ويدخلوا في أمة الإيمان وأهل الإذعان.
﴿ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ﴾ البينات هي الآيات المبينة للحق، الموضحة له، وهي الأدلة التي يتحدى بها النبي من الأنبياء قومه ليثبت لهم رسالته، والزبر جمع زبور، وهو الصحيفة او الكتاب او هو جمع لزبر، وهو الأمر الشديد، وخص الزبور بالكتاب المنزل على داود عليه السلام وقال تعالى :﴿ وآتينا داود زبورا٥٥ ﴾[ الإسراء ] وقرئ﴿ زبورا ﴾بضم الزاي١ كقولهم في جمع ظريف ظروف، او يكون جمع زبر وزبر مصدر سمى به كالكتاب، ثم جمع على زبر كما جمع كتاب على كتب، وقيل بل الزبور كل كتاب صعب الوقوف عليه من الكتب الإلهية، وقال بعضهم : الزبور اسم للكتاب المقصور على الحكم العقلية دون الأحكام الشرعية، والكتاب اسم لما يتضمن الأحكام الشرعية.
وخلاصة القول ان الله تعالى يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم تكذيب أولئك الضالين الجاحدين فيبين ان الأنبياء قبله قد جاءوا بالمعجزات القاطعة المثبتة للرسالة، ومعهم الأوامر الإلهية المشددة الزاجرة، ومعهم الكتاب المبين التي اشتمل على ما فيه مصلحة الدنيا والآخرة، ومع ذلك كفروا بآيات ربهم، وأنكروا الرسالة مع قيام الأدلة التي لا مجال لإنكارها، ومع ان ما يدعو إليه معقول في ذاته، وفيه مصلحتهم في الدنيا والآخرة، وإذا كانت الطاعة في الدنيا غير ثابتة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الآخرة دار الطاعة والقرار، ودار الجزاء والثواب والعقاب، وما الحياة الدنيا إلا سبيل لما يكون يوم القيامة، ولذا قال سبحانه :﴿ كل نفس ذائقة الموت وغنما توفون أجوركم يوم القيامة ﴾.
ذكر سبحانه وتعالى هذه الكلية الثابتة لبيان الجمع الحاشد يوم القيامة الذي يتقدم فيه كل امرئ بما قدم من عمل، إن خيرا فجزاؤه خير، وإن شرا فجزاؤه شر، وهنا إشارات بيانية رائعة ككل إشارات القرآن ؛ وذلك لأنه عبر عن إقبال الموت بذوقه، للإشارة إلى انه عند ذوق الموت سيكون المذاق إما مرا حنظلا يومئ إلى ما يتبعه من عقاب، وإما ان يكون المذاق حلوا هنيئا، فيكون إيماء إلى ما يكون يوم القيامة من نعيم مقيم، والتعبير عن حلول الأجل في الدنيا بذوق الموت فيه استعارة بتشبيه الموت عند إقباله الرهيب او الرغيب بالأمر الذي يذاق فيؤلم، او يذاق فيسعد.
وهنا إشارة بيانية أخرى رائعة هي انه أسند ذوق الموت إلى النفس، ولم يسنده إلى الشخص ؛ لأن النفس روح، والشخص جزءان جسم ونفس، وإن النفس تبقى بعد مفارقة الجسم، فهي التي تذوق الموت، كما ذاقت الحياة، فإسناد الذوق إليها باقية، وقد تغيرت حياتها من حال إلى حال، فبعد ان كانت في غلاف من جسم من الطين، قد تجردت أبدا منه حتى تلتقي به يوم البعث والنشور.
وبعد ان تذوق النفس طعم تلك النقلة من متاع الدنيا الزائل إلى الآخرة، يكون الجزاء من نعيم او جحيم، ولذا قال سبحانه :﴿ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ﴾.
والأجر هو العطاء خيرا او شرا، والقيامة هي قيام الساعة لرب العالمين، وتقويم أعمالهم من خير وشر بالميزان الدقيق، والحساب الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. فيوم القيامة هو الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، وتقوم أعمالهم من بين أيديهم وتنطق بها جوارحهم، وتقوم تلك الأعمال بقيمتها الحقيقية، ويذهب الزيف ولا يكون إلا الحق الخالص، ومعنى توفية الأجور إعطاؤها كاملة لا نقص فيها، وإذا قلنا إن الأجر هو العطاء فإن مجازاة المسئ بقدر إساءته هو العطاء العدل.
والخطاب هنا للأشخاص لا للنفوس وحدها، فذوق الموت للنفوس، ولكن الجزاء للأشخاص إذ تلتقي الجسوم بالنفوس، ولذلك خاطب الأشخاص فقال سبحانه :﴿ وغنما توفون أجوركم ﴾.
وإن السياق الذي ذكرنا عليه أكثر المفسرين وهو ان توفية الأجر تشمل الثواب والعقاب، ولكن أرى ان روح الآية وما اقترن بها من بعد يدل على ان الجزاء هنا هو العطاء الصرف بنعيم يوم القيامة لمن يستحقونه، فالخطاب للمؤمنين تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عند تكذيب المكذبين، ولذا قال سبحانه عن أول عطاء هو البعد عن النار، فقال سبحانه :﴿ فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز ﴾.
الزحزحة عن النار الإبعاد عنها، والتنحية عنها، وهو تكرار الزح بمعنى الإبعاد، والمعنى ان من أبعد عن النار بعد تكرار التنحية عنها فقد فاز فوزا مطلقا، والنص يشير إلى ان أعمال الإنسان ترديه ولا تنجيه، وانه لكي يبعد عن النار ويتجنبها يكون كالمحتاج لمجهود، وتكرر الزح والتنحية كشيء ثابت ملازم لها، لا يبعد عنها إلا بمجهود، وذلك تصوير دقيق لعفو الله ورحمته وغفرانه، وان المرء لا يبعد عن النار إلا بعد تكرار الرحمة والمغفرة، وان البعد عن النار ثم دخول الجنة هو اكبر الفوز، وهذا كله على أساس ان الزحزحة والتنحية في الآخرة التي هي دار الجزاء، ويصح ان يكون المعنى في الدنيا، بالأخذ في أسباب التوقي من النار، ودخول الجنة، ويكون السياق هكذا : من غالب شهواته وجاهد أهواءه وإنها لصعبة المراس تحتاج إلى صبر وضبط، فإنما يزحزح نفسه عن النار بتوقي أسبابها، ويدخل نفسه الجنة، واتخاذ الوسائل الموصلة إليها، فالزحزحة هي جهاد الأهواء التي هي أسباب النار، وليس ذلك التفسير ببعيد، وإن كان الأول أوضح وأبين.
ولقد بين سبحانه ان سبب العذاب هو الغرور في الدنيا، ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾.
في هذا النص الكريم قصر الحياة الدنيا على حال واحدة، هي انها متاع يستمتع به الإنسان ويغريه حتى ينسيه متاع الآخرة، إن استولى عليه واستغرق حسه ونفسه، والمعنى ليست هذه الحياة القريبة منا التي نشاهدها ونراها، وهي في ذاتها الحد الأدنى للحياة، إلا متاعا يستمتع به المغتر بها الذي يظن انها كل شيء، وأما من يؤمن بأنها قنطرة الآخرة، فإنها تكون جهاد النفس، والسيطرة على الأهواء، ولقد قال الزمخشري في تفسير متاع الدنيا :"شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام١، ويغره حتى يشتريه، ثم يبين له فساده ورداءته، والمدلس هو الشيطان الغرور، وعن سعيد بن جبير : إنما هذا لمن آثرها على طلب الآخرة".
اللهم لا تغرنا بهذه الدنيا، ووفقنا لأن نطلب ما عندك، وامنحنا يا ذا الجلال ولإكرام رضوانك، فهو أعلى ما يبتغيه المؤمن ؛ إذ رضوانك أكبر من كل ما في الوجود يا رب الوجود.
لقد بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة ان محنة احد كانت فيها العبر، وكانت تمحيصا لقلوب المؤمنين وصقلا لنفوسهم، وبين الله سبحانه وتعالى في تلك الآيات أيضا انه سبحانه لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يتبين الخبيث من الطيب، وقوى الإيمان من ضعيفه، وذكر سبحانه ما كان يلقيه المشركون واليهود من أقوال جارحة، وبعضها يمس ذات الله تعالى، كقولهم –لعنهم الله – إن الله فقير ونحن أغنياء.
ولقد ذكر سبحانه من بعد ذلك ان المستقبل سيكون من جنس الماضي، وانه سينزل بالمؤمنين ضروب من البلاء كالتي نزلت أو أقوى، وان واجب التبليغ والإيمان يتقاضاهم ان يتحملوا ذلك بصبر وتقوى واحتياط، ولذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ﴾.
ففي هذا النص السامي إخبار لهم بأن البلاء الذي ذاقوا بعضه مستمر، وهو خير لهم، وذلك ليستعدوا لتلقيه من غير فزع ولا جزع، فإن الشدة المتوقعة يسهل احتمالها، اما الشدة التي تقع من غير توقع، فإنه يصعب احتمالها، وقد ذكر سبحانه وتعالى مواضع الابتلاء، وكلها عزيز يحرص عليه، وهذه المواضع هي المال والنفس، والدين.
والمال والنفي قال فيهما سبحانه وتعالى :﴿ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ﴾، وقد أكد سبحانه وقوع الابتلاء بالقسم، واللام الموطئة للقسم، ونون التوكيد الثقيلة، وقد أكد بهذه التأكيدات ليكون الوقوع مستقيما، وليسعدوا بالصبر والمجاهدة، والاعتماد على الله تعالى ؛ والابتلاء في المال بإنفاقه في سبيل الله تعالى، وتبديده بغارات الأعداء، وبالتكليفات الكثيرة المتعلقة به، وقد ابتدأ به لأنه أدنى الدرجات، فالترتيب في الابتلاء متدرج يبتدئ من الأدنى، وهو المال والاختبار فيه شديد قاس، والاحتمال يحتاج إلى صبر وعزم، وقد يكون الاختبار في المال بالجوائح تنزل به، فكل هذا اختبار بالمال، وإنه ليسمى نفسيا ؛ لأنه قرين النفس، وإن كان دونها، وهي أغلى منه، والمعنى : ليست أحوال المؤمن رخاء دائما، بل فيها شدة وبلاء يقتضي الصبر، وفيها نعمة وإحسان يقتضي الشكر.
والابتلاء في الأنفس يكون بالخوف من مساورة١ الأعداء، وتربصهم دائما، بالجوع، وبهلاك النفوس في الحروب، وبالشدائد فيها، والابتلاء في المال والأنفس قد ذكره سبحانه وتعالى بهذه الآية، وفي كثير من الآيات.
والدرجة العليا من الابتلاء هي ما يخص الدين، وقد خصها سبحانه وتعالى بالذكر المؤكد، فقال :﴿ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ﴾ والأذى الذي كانوا يسمعونه هو الافتراء على الله تعالى، والتهكم على القرآن، والسخرية من الشرع الإسلامي، من مثل قولهم :﴿ إن الله فقير ونحن أغنياء... ١٨١ ﴾ [ آل عمران ] ومثل قول المشركين :﴿ أنطعم من لو يشاء الله أطعمه... ٤٧ ﴾[ يس ]، وهكذا مما يمس الحقائق الدينية، وقد جعله الله سبحانه وتعالى في المرتبة العليا من الابتلاء ؛ لأن المؤمن يسهل عليه التأذي في ماله ونفسه، ولا يسهل عليه الأذى في دينه، وغنه يحتمل كل شيء في سبيل الدين، فإذا اتخذت الحقائق الدينية ذاتها هزوا ولعبا فإن ذلك فوق الاحتمال، ولذلك لم يحتمل أبو بكر الصديق كلام( فنحاص ) عندما تهجم على ذات الله فضربه وشج رأسه٢، مع ما اشتهر به الصديق من رقة وعطف، حتى شبهه النبي صلى الله عليه وسلم باللبن السائل للينه وسهولته.
وفي النص الكريم إشارات بيانية نبينها، فإن في بيانها ذكرا لمرامي النص الكريم :
أولها : انه عبر عن المخالفين الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بما يشير بأنهم قسمان : قسم أوتي علم الكتاب الذي نزل على بعض الأنبياء من قبل النبي صلى اله عليه وسلم، والقسم الثاني المشركون الذين لا يؤمنون بكتاب، ولا يهتدون بهدى، وقد جمع القرآن القسمين في امر واحد، وهو معاداة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد دفعتهم المعاداة إلى الجحود، وما كانت المعاداة لشخصه، بل كانت لما جاء به، وما يدعو إليه، وفي الجمع بين العالم بالكتاب والجاهل به إشارة إلى انه عند وجود المعاندة يستوي العالم والجاهل، فإن الجاهل يعمه في عمياء جهالته، والعالم يطمس الله تعالى على قلبه، فيكون هو والجاهل سواء.
والثاني : الإشارة إلى انه إذا كان سبب معاندة المشركين جهلا فسبب معاندة الكتابيين هو الحسد، إذ يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ذلك انهم بمقتضى كونهم أوتوا الكتاب من قبل ظنوا ذلك اختصاصا اختصوا به، وأنهم أولى ان تكون الرسالة فيهم دون غيرهم، ﴿ الله اعلم حيث يجعل رسالته... ١٢٤ ﴾[ الأنعام ] وبذلك سكن قلبهم الحقد والحسد، وحيث كان الحسد كانت العداوة وكان العمى عن إدراك الحقائق.
الثالث : التعبير عن نزول الأذى بسماعه، وقال سبحانه :﴿ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ﴾ والذي يسمع هو كلام، وعبر عنه بالأذى لأنه يؤدي إلى أذى، وموضوعه أذى، وهو في ذاته أذى، فكأن الأذى في ذات القول، ولذلك كان مفعولا للسماع، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه أذى كثير، وذلك ليبين لهم ما يوجب استعدادهم لسماعه، من أذى ليس بقليل في مقداره، ولا في نوعه، ولا في موضوعه، فالكثرة ليس المراد منها المقدار فقط، بل الكثرة تشمل المقدار والنوع، والطريقة والموضوع.
وقد بين سبحانه وتعالى العلاج في هذا البلاء :﴿ وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ﴾.
الصبر ضبط النفس وحبسها عن الجزع، وحبسها على العمل واتخاذ الأهبة، وحبسها أيضا مع اهل الإيمان كما قال تعالى :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... ٢٨ ﴾[ الكهف ] فالصبر يتضمن ضبط النفس عن الجزع، وقوة الاحتمال، والتضافر مع الجماعة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم صبر الأنصار فيما روى عنه من انه قال فيهم :"يقلون عند الطمع، ويكثرون عند الفزع"٣.
﴿ تتقوا ﴾ معناها ان تتخذوا الوقاية بطلب رضا الله تعالى، ورجاء ما عنده، وان تستعدوا، وتدفعوا الاعتداء بالحق وتعملوا على الخروج من المحنة، فليس شأن المؤمن استسلاما للمصائب تنزل به، بل شانه صبر من غير جزع، وعمل من غير طمع، وجد وجهاد ودفع للشر.
وقد بين سبحانه ان التقوى والصبر هما من الأمور التي امر الله تعالى بها لأنها تؤدى إلى النجاح، ولذلك قال سبحانه :﴿ فإن ذلك من عزم الأمور ﴾ أي إن ذلك مما يعقد الأمور ويربطها ويوثقها ويؤكدها، ويجعلها قوية منتجة مثمرة، فالصبر والتقوى بهما النجاح في الأمور.
. فالمعنى هنا مهاجمة الأعداء..
٢ سبق قريبا تخريج هذه الرواية..
٣ جزء من حديث رواه العسكري في الأمثال كما جاء في جامع الأحاديث والمراسيل ١٣٤٩٢ – ج١٩، ص٣٧..
الميثاق هو العهد الموثق المؤكد، وقد اخذ الله سبحانه وتعالى على الذين أوتوا الكتاب العهد المؤكد الذي لا يقبل تأويلا ولا احتمالا ان يبثوا علم الكتاب ويعلنوه، ولا يقصروا العلم به على طائفة من الناس خاصة، والضمير في﴿ لتبيننه ﴾ يعود إلى الميثاق، ويكون المراد من العهد الذي وثقه الله تعالى هو تعاليمه وشرعه ونوره، وعلى ذلك يكون ثمة احتمالان في عود الضمير، احدهما ان يعود إلى الكتاب، والثاني ان يعود إلى الميثاق نفسه، والأظهر انه يعود إلى الكتاب، والالتفات من الغائب إلى الخطاب ؛ إذ إنه كان متحدثا عنهم، ثم فسر الميثاق بالخطاب، لتأكيد اخذ الميثاق بإعلان انهم ما كانوا غائبين عند أخذه، بل كانوا حاضرين مخاطبين، فالعهد قد اخذ عليهم بألسنتهم، وقوله تعالى :﴿ ولا تكتمونه ﴾ معطوف على قوله تعالى :﴿ لتبيننه للناس ﴾ وهنا يسأل سائل : لماذا أكد قوله تعالى :﴿ لتبيننه للناس ﴾ بعدة توكيدات، بالقسم وبلامه، وبنون التوكيد الثقيلة، ولم يؤكد( ولا تكتمونه ) ؟ وذلك لأن طلب البيان مشدد ومؤكد، وبذلك يتأكد عدم الكتمان بتأكد طلب البيان، ولو ان أدوات التوكيد لحقت" ولا تكتمونه" لوهم الأسلوب ان المنفي هو الكتمان المؤكد المبالغ، اما غيره فلا ينفى، فلو قيل :"ولا تكتمنه" لأوهم الأسلوب ان المراد النهي عن المبالغة في الكتمان، فغير المبالغة في موضع الإباحة، وذلك غير معقول، ومع هذا العهد الموثق لم يبينوا ؛ ولذلك قال سبحانه :﴿ فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا ﴾.
النبذ الطرح، والتعبير بوراء ظهورهم كناية عن انهم لن يعودوا على ما نبذوه، والكلام تصوير لعملهم في عدم الوفاء بعهد الله الذي أخذه عليهم، إذ إنهم أهملوه، ولم يفكروا في العودة، وأهملوه إهمال استخفاف واستهانة، كما ينبذ الشيء الحقير.
والضمير في"نبذوه" على هذا يعود إلى الميثاق، باعتبار انه هو موضع الحديث ابتداء، ويصح ان يعود إلى الكتاب ؛ لأن الميثاق هو الشرائع والأحكام والكتاب وعاؤها، فنبذ الكتاب نبذ للعهد، فهم لم يكتفوا بالامتناع عن البيان لغيرهم، بل أضافوا إليه إهمال الكتاب إهمالا مطلقا.
وإن هذا النبذ للكتاب وتعاليمه، وللميثاق المؤكد وإعلانه- سببه الهوى الدنيوي، وحب السلطان والغلب، والاستطالة على الناس بما عندهم، والإدلال عليهم بالعلم من غير ان يعملوا به، ولذلك قال سبحانه :﴿ واشتروا به ثمنا قليلا ﴾ أي تركوا كتاب الله تعالى والعمل به وبشرائعه، وإعلانه، في نظير ثمن تافه قليل، وكل ثمن للإعراض عن كتاب الله تعالى والعمل به هو قليل مهما يكبر في نظر التاركين، ولذا قال سبحانه :﴿ فبئس ما يشترون ﴾ أي انه مذموم قبيح ما يطلبون من أعراض الدنيا في نظير إهمال الشريعة والعهد الموثق.
وإن هذا الكلام يدل على وجوب إعلان الحقائق الدينية والدعوة إليها، ومجابهو مخالفيها بإثم المخالفة، ومن أحسن ما قرأت في ذلك ما قاله الزمخشري في التعليق على هذا( كفى به دليلا على انه مأخوذ على العلماء ان يبينوا الحق للناس، وألا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد، من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، واستجلاب لمسارهم، او لجر منفعة وحطام دنيا، او لتقية، او لبخل بالعلم وغيره من ان ينسب إلى غيرهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :"من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار"١.
والنهي موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو نهى مؤكد عن حسبان الخير فيهم فالتأكيد في قوله تعالى :﴿ لا تحسبن الذين يفرحون ﴾ هو تأكيد للنهي، وليس بتوكيد للظن، فليس النهي منصبا على الظن المؤكد، وغيره لا يكون منهيا عنه، بل التوكيد هو لأصل النهي، أي ينهى الله سبحانه وتعالى نبيه نهيا مؤكدا عن ان يظن فيهم خيرا، او يصيبهم خير، و"تحسب" لها مفعولان أصلهما مبتدأ وخبر، والمفعول الأول هو ( الذين يفرحون بما أتوا ) إلى آخره، والمفعول الثاني محذوف دل عليه ما بعده، وتقدير الكلام هكذا : ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا موفقين او مهتدين، او صالحين، وحذف لدلالة ما بعده عليه، وهو انهم يزينون أعمالهم، ويرغبون في المدح الكاذب، فإن ذلك هو الضلال البعيد، وليترتب السامع عليه ما شاء من عدم الهداية وعدم التوفيق، والبعد عن الخير والنفع، فكل ذلك وغيره يتضمنه الكلام المحذوف.
وقد صرح سبحانه بهلاكهم، فقال سبحانه :﴿ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ﴾ أي إذا كانوا بهذا الوصف الذي وصفوا به، وهو الضلال المبين فلا تحسبنهم بمفازة أي بمنجاة من العذاب، والتعبير عن النجاة من العذاب الأليم بقوله تعالى :﴿ بمفازة ﴾ الإشارة إلى ان أقصى ما يكون لهم من فور ان ينجوا من العذاب الأليم أي المؤلم، ولكنهم لن ينجوا منه أبدا، ولذا أكد النهي بالخبر، فقال :﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي عذاب مؤلم أشد الإيلام، او بكل ما يتصور العقل من إيلام، ولذلك جاءت كلمة أليم نكرة، فذكر سبحانه عذابهم الأليم بالسلب والإيجاب، فنفى اولا انهم بمنجاة منه واخبر ثانيا بأنهم واقعون فيه.
وهنا بيان لطرق الشيطان إلى النفس. إنه يجعل الشخص يحمد كل ما يأتيه أي يصدر عنه، ويجعل نفسه هي مقياس الخير والشر، ويحبب إليه الثناء بغير الحق، وذلك هو الغرور، وهو الضلال، وهو الضعف النفسي، والفرح بما لم يفعل، وإن الثناء الكاذب ضار بمن يكون موضع الثناء، وضار بالمجتمع ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :"إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب"١، وقال صلى الله عليه وسلم :"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما انا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله"٢. اللهم اكفنا شر النفاق، وامنعنا من الغرور، وثبت قلوبنا وألسنتنا وأقلامنا على قول الحق، إنك سميع الدعاء.
٢ رواه البخاري: احاديث الأنبياء – قول الله تعالى:﴿واذكر في الكتاب مريم﴾(٣١٨٩)، واحمد مسند العشرة المبشرين –أول مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه(١٤٩)، والدارمي: الرقاق –لا تطروني(٢٦٦٥)..
أنذر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة وبشر، وارشد وزجر، وبين غرور الذين كفروا بزخارف الدنيا، والتمكين لهم فيها مما دلاهم بغرور، وجعلوا يعتقدون ان السلطان فيها دليل السلطان في الآخرة. وفي هذه الآية الكريمة يبين سلطانه سبحانه، وهو الذي وعد وأوعد، وهدد وحرض، ولذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ لله ملك السموات والأرض والله على كل شيء قدير ﴾.
أي لله وحده سبحانه ملك السموات والأرض بما فيهما ومن فيهما، وتقديم لفظ الجلالة لإفادة الاختصاص والانفراد، وفي ذلك إشارة إلى انه وحده المتصرف، وهو الذي يعطي ويمنع ويحاسب ويعاقب، وقد أعطى من أعطى في الدنيا ليتمتعوا حتى حين، وأبقى ما أبقى في الآخرة ليجزي الصابرين، وينال عهده المتقون، وإن عطاءه لحكمة، ومنعه لحكمة، وفيه إشارة إلى كمال قدرته، وانه إن أوعد بالعقاب، ووعد بالثواب فهو القدير على تنفيذ ما وعد وأوعد.
وقد قال فخر الدين الرازي في علاقة هذه الآيات بما قبلها :"اعلم ان المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معركة الحق، فلما أطال الكلام في تقرير الأحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والإلهية والكبرياء والجلال فذكر هذه الآيات".
وفي الحق، إن هذه الآيات تدعو إلى التدبر والتفكر في هذا الكون العظيم، وصانعه الحكيم ومبدعه ومنشئه من العدم، والآيات : ا الأمارات الواضحة الدالة على قدرة الصانع وسلطانه وكمال حكمته، واختلاف الليل والنهار هو تعاقبهما، مع تخالف مظاهرهما، فهذا نور ساطع، وذلك ظلام حالك، وفي النهار الشمس التي تمد الأرض بحرارتها وأشعتها، وبها يحيا النبات ويحيا الإنسان، وفي الليل النجوم الزاهرة، والقمر الباهر، و أولوا الألباب هم أهل العقول المدركة التي تنفذ إلى لب الأشياء، ولا تكتفي بظواهرها، وما أحسن ما قاله الزمخشري في وصف أولي الألباب :"الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار، ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عن عجائب الفطرة، وفي النصائح الصغار :"أملأ عينيك من زينة هذه الكواكب، وأجلها في جملة هذه العجائب متفكرا في قدرة مقدرها متدبرا في حكمة مدبرها، قبل أن يسافر بك القدر، ويحال بينك وبين النظر" وليس كل أولي الألباب يفهمون الآيات، بل لا بد من قلب خاشع، وعقل متفكر، ولذلك ذكر لأولي الألباب أوصافا أخرى لهم : أولها نوه إليه سبحانه بقوله﴿ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ﴾.
ذكر الله تعالى استحضار عظمته والإحساس بجلاله، واستشعار النفس بنعمه، وقد يدخل هذا في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم :" اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"١ فذكر الله يتضمن كل معاني العبودية والإحساس بالألوهية و النعم التي أسبغها على خلقه ظاهرة وباطنة، و ذكر الله لب كل عبادة، و غاية كل نسك، لذلك قال الله تعالى :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر و لذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون٤٥ ﴾ [ العنكبوت ] وقد وصف الله تعالى أولي الألباب الذاكرين بأنهم يذكرون الله تعالى في كل أحوالهم، فهم يذكرونه قائمين، وقاعدين، وهم على جنوبهم، فقوله تعالى :﴿ قياما وقعودا وعلى جنوبهم ﴾إشارة إلى أن الذكر يكون في عامة أحوال الإنسان في الحياة، وظن بعض المفسدين أن المراد بالذكر الصلاة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمران بن الحصين :" صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب"٢ والحق ان الذكر أعم من الصلاة، وأن الصلاة الحقيقية التي تثمر ثمراتها ضرب من ضروبه، وكل العبادات من مسالكه وقوله تعالى :{ قياما وقعودا مصدران وضعا موضع الوصف وموقعهما في الإعراب أنهما حالان.
وذكر الله تعالى على هذا النحو من أكمل العبادات، ولو ذكر المؤمن ربه في عامة أحواله لساد المجتمع الإنساني كله الوئام، وما كثر الخصام، وما امتشق الناس الحسام، بل ما تنازع اثنان، وفوق ذلك من يذكر الله يعلو عن آلام الحياة واضطرابها وما ينزعج له الناس ويتحيرون فيه، ولذا قال تعالى :﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم لذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ٢٨ ﴾[ الرعد ].
﴿ ويتفكرون في خلق السموات والأرض ﴾ هذا هو الوصف الثاني بعد أوصاف أولي الألباب الذين يدركون آيات الله الدالة على جلاله وعظمته في خلقه، والتفكر : ترداد الفكرة في النفس، لتصل إلى أقصى م تؤدي إليه، وقد جاء في مفردات الأصفهاني :"الفكرة قوة مطرقة للعلم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روي :" تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله، إذ كان الله منزها عن أن يوصف بصورة.." ٣قال بعض الأدباء :( الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها ).
والتفكر في السموات والأرض له ثلاث درجات بعضها أعلى من بعض، أدناها ان ننظر إلى السماء وما فيها من نجوم وكواكب وشمس وقمر وأبراج، وما فيها من نظام بديع محكم، وهذه هي النظرة العامة التي تكون لذوي الألباب وغيرهم ؛ لأن هذه النظرة أساس الحس وإشراق المحسوس.
والمرتبة الثانية التفكر في خلقها وأسرار وجودها ونواميسها وقوانينها، وهذا ما يفكر فيه علماء الكونيات الذين يعرفون ما اشتمل عليه الكون من قوى وما او دعها الخالق من إجرام وقوانين لسيرها.
المرتبة الثالثة وهي أعلاها، وهي النظرة التي تتجه إلى الخالق من وراء المخلوق، فيتدبر الكون وما فيه ليدرك عظمة المبدع، فيتعرف من جمال الصنعة جلال الصانع، وهذا النوع هو المذكور في هذه الآية وهو أعلى مراتب العبادة، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال :"لا عبادة كالتفكر"٤ وقد كان بعض الصحابة يقول :"إن ضياء الإيمان التفكر".
وإن هذا النوع الأخير من التفكر يجعل القلب يخضع واللسان يخشع فينطق مستشعرا عظمة الله قائلا :﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ﴾.
تلك الضراعة التي بدت على الألسنة هي أولى ثمرات التفكر، لقد وصلوا بتفكيرهم إلى إدراك ربهم فقالوا( ربنا ) ونادوه سبحانه بذلك النداء الخاضع الضارع الشاكر لنعمائه، وقد وصلوا بتفكيرهم وتدبرهم إلى أن هذا الكون لا يمكن ان يخلق باطلا، أي لا يكون لغير غاية، ولا لغير حكمة، فمعنى البطلان هنا العبث وعدم الغاية وغنهم ليعلمون ان ذلك مستحيل على الله تعالى، ولذا أردفوا هذا بقولهم( سبحانك )، أي تنزهت ذاتك وتقدست، وبذلك ارتفعوا إلى مقام التقديس وهو كمال العبودية والألوهية، ثم اعترتهم وقد وصلوا إلى هذا النوع من العلم خشية العلماء، مصدقا لقوله تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور٢٨ ﴾[ فاطر ]، ولذلك غلب عليهم الخوف من عذاب الله تعالى فقالوا مرتبين على تفكرهم ما أدى إليه :﴿ فقنا عذاب النار ﴾ فهذه ضراعة إلى الله تعالى ان يقيهم عذاب النار، والوقاية من عذاب النار تكون بأمرين : أولهما- ان يوفقهم لتجنب ما لا يرضيه، والثاني- أن يغفر لهم ما أفرطوا في جنبه سبحانه وتعالى.
وقد كان ترتيب الخوف على التفكر له موضعه لأن نهاية التفكر هو الخوف ؛ إذ ينتهي إلى أعلى درجات الشعور بالمهابة لله تعالى، وهو يجعل المؤمن يستصغر حسناته، ويستكثر سيئاته، وغن الصوفية الحق يبالغون في التفكر، حتى إنهم يفضلونه على صلوات النفل فهو من أفضل مقامات العبودية.
٢ رواه ا لبخاري: الجمعة ـ إذا لم يطق قاعدا(١٠٥٠)، والترمذي: الصلاة: ما جاء في صلة القاعد(٣٣٩)، وأبو داود: الصلاةـ صلاة القاعد(٨١٥)، وابن ماجة: إقامة الصلاة ألسنة فيها(١٢١٣)..
٣ جاء في الفتح الكبير(٥٤٣٠) ج٢، ص٣١٠: تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذلت الله تعالى فإن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك(أبو الشيخ في العظمة) عن ابن عباس وذكره الحافظ ابن حجر في الحجر(باب ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي الله): جاء في كتاب السنة لعبد الله بن أحمدـ من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس:" تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله؛ فإن بين السموات والأرض سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك موقوف وسنده جيد..
٤ رواه القضاعي في مسند الشهاب ج٢، ص٣٩(٨٣٨)..
أولها : أن أولئك سمعوا نداء المنادي، ولكن أسند السمع إلى الشخص لكمال الانتباه إليه، ولن شخص المنادى له أثر في حسن الاستماع لأنه رسول من عند الله، فما اقتنعوا بالحق لذات الحق فقط، بل لن الداعي صادق أمين.
ثانيها : انه أطلق المنادي، ثم ذكر بعد ذلك انه ينادي بالإيمان وذلك لما فيه من إبهام بعده بيان، فيكون البيان أكثر ثباتا، ولأن الإطلاق أعطى المنادي تفخيما وتكبيرا، ولأن النداء إلى الحق اعتبر كالعنوان له.
وثالثها : ان الإيمان ذكر مطلقا على انه إيمان بالرب، وذلك للدلالة على الإذعان المطلق لله وللحق والهدى.. اللهم هبنا إيمانا بالحق وإذعانا له، وقد أجابوا نداء الإيمان فقالوا( آمنا ).
وسماع النداء لا يلزم ان يكون من شخص المنادي، بل يعم السماع من شخصه وتتبع رسالته من بعده.
﴿ ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ﴾كان التفكر والتذكر لله سببا في قوة إحساسهم بهفواتهم ونسيانهم حسناتهم وتواضعهم امام ربهم خاضعين خاشعين، ولذلك طلبوا ثلاثة أمور : أولها : الغفران إحساسا بتقصيرهم وفضل ربهم. وثانيها : تكفير السيئات، أي الأمور التي تسئ في ذاتها، والفرق بين الذنب والسيئة، أن السيئة عصيان فيه إساءة، والذنب فيه تقصير وتبطؤ عن الخير والغفران، والتكفير كلاهما ستر، ولكن الأول يتضمن معنى عدم العقاب، والثاني يتضمن ذهاب أثر الإساءة. والمطلب الثالث الذي طلبوه هو ان الله يتوفاهم مع الأبرار، أي يميتهم مع الأبرار بأن يسلكوا طريق الاستقامة في الدنيا حتى يخرجوا منها مع المستقيمين الأبرار الأخيار.
هذا وننبه إلى أمرين :
أولهما : انهم كرروا في ضراعتهم كلمة( ربنا ) وذلك لن تفكيرهم وذكرهم أداهم إلى الاعتراف بكمال الربوبية.
ثانيهما : ان النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآيات، ثم قال :"اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا،
ومن بين يدي نورا، ومن خلفي نورا، ومن فوقي نورا، ومن تحتي نورا، وأعظم لي نورا يوم القيامة"١.
هذه إجابة الدعاء المتكرر الذي ابتهلوا به لربهم، وقد تكررت ضراعتهم لله تعالى بتكرار كلمة( ربنا )، إذ قد تكررت خمس مرات، وقد قال الحسن البصري( ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم ) وقال الإمام جعفر الصادق( من حزبه امر، فقال خمس مرات( ربنا ) أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد، قيل : وكيف كان ذلك ؟ قال : اقرءوا إن شئتم :﴿ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار١٩١ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من انصار١٩٢ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان ان آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار١٩٣ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد١٩٤ ﴾[ آل عمران ] والمراد من قول حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم ان نذكر( ربنا ) ضارعين خاضعين خاشعين، مدركين معنى الربوبية والألوهية، مذعنين لأحكامه.
﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر او أنثى ﴾ الفاء للترتيب، فالاستجابة معقبة لهذا الدعاء الضارع، والاستجابة معناها هنا الإجابة، وأصل معنى الاستجابة التحري والتهيؤ للجواب، وإذا كان معناها هنا الإجابة، فالمؤدى انها إجابة مهيأة معدة لهم قد محصوا قبلها، وإجابة الله لهم دليل على استحقاقهم لرحمته، وقد أجابهم سبحانه إجابة تدل على كمال عدله، فقد قال سبحانه :﴿ أني لا أضيع عمل عامل منكم ﴾ فإذا كان سيجزيهم الجزاء الأوفى فلأنهم عملوا خيرا، وسبحان الله الشاكر العليم، هم يطلبون الجنة منحة من الله، لنهم لا يعتقدون ان عملهم يدخلهم الجنة استصغارا لأعمالهم بجوار نعمة رب العالمين عليهم، والله الكريم المنان يبين لهم ان ما ينالون من خير من عملهم، وان الله إذا لم يثبهم لكان مضيعا لعمل الخير الذي قاموا به، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ففي الآية الكريمة إشارة إلى عدله ورحمته، وبيان القانون الأمثل للعدل، وهو ان يكون الجزاء من جنس العمل﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره٧ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره٨ ﴾[ الزلزلة ].
وبين سبحانه تعميم الجزاء لكل عامل بذكر النوعين اللذين خلقهما الله تعالى في هذا الوجود، فقال :﴿ من ذكر او أنثى ﴾ فلا فرق في الجزاء بين الذكر والأنثى. ويروى ان السيدة أم سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله ألا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى :﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر او أنثى ﴾١.
وفي التعبير باللفظ السامي ( ربهم ) إشارة إلى ان الذي يجزيهم هو خالقهم ومربيهم والمنعم عليهم، وفيه مشاكلة بين لفظ الدعاء والإجابة، ومعنى قوله تعالى :﴿ بعضكم من بعض ﴾ أي ان الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، فأنتم جنس واحد يتمم بعضه بعضا، فلا تحرم الأنثى جزاء ولا يحابى الذكر دونها، فهذا النص السامي فيه تعليل لمعنى التسوية في الجزاء بين الذكر والأنثى. وبعض العلماء فسر قوله تعالى :﴿ بعضكم من بعض لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا أسود ولا أبيض، فالجزاء من جنس العمل أيا كان العامل{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم... ١٣ ﴾[ الحجرات ] وهذا النص الكريم يشير إلى عدة معان سامية :
أولها : ان المراة ليست شيطانه ولا نجسا، بل لها كل ما للرجل وإن كان له درجة في الدنيا لتنظيم الحياة.
ثانيها : أن العمل له جزاؤه من غير نظر إلى قبيلة العامل او لونه.
ثالثها : ان استجابة الله ثابتة من وقت عمل العامل.
وقد بين سبحانه الأعمال التي استحقت الإجابة من هؤلاء الأبرار، فقال :﴿ فالذين هاجروا واخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ﴾.
في هذا النص تعداد للأعمال الصالحات التي قام بها هؤلاء المؤمنون الأولون، واستحقوا بها نعيم الجنة، وتوقوا بها عذاب النار، وهي أمور ثلاثة آخذ بعضها بحجز بعض، ومتلاقية في معناها ومغزاها.
أو ل هذه الأمور انهم هاجروا واخرجوا من ديارهم فهم هجروا مغانيهم التي تربوا فيها غير راغبين ولا محبين للخروج، بل ملجئين مضطرين، ولذلك روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مخاطبا مكة عندما خرجت"٢ يروى ان ورقة بن نوفل قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ليتني أكون جذعا إذ يخرجك قومك. فقال له عليه الصلاة والسلام :" أو مخرجي هم" قال : ما أوتي أحد بمثل ما أوتيت إلا عودى٣ والله تعالى يقول :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك أو يخرجوك... ٣٠ ﴾[ الأنفال ] فكان الإخراج سبب الهجرة.
ولقد جاء في التفسير الكبير للفخر الرازي ان كلمة هاجروا يراد بها الهجرة اختيارا، والإخراج هو الإخراج اضطرارا، وإني أقول : إن هذه التفرقة لم تكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وربما تكون من بعد ذلك، فمن الناس من يخرج اضطهادا وإيذاء، كما فعل كفار اليوم باللاجئين المسلمين.
والأمر الثاني الذي استحقوا به الجزاء الأوفى هو انهم تحملوا الأذى في سبيل الله تعالى، فهم أوذوا في مكة قبل الهجرة، واستمر الإيذاء بعدها، وكل ذلك في سبيل الله، وفي سبيل الحق وإعلائه، وجعل كلمته هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى، وإن هذا يزكي الخير فيهم، فإنهم ما اخرجوا من ديارهم، وهجروا أحباءهم وذويهم إلا في سبيل الله تعالى.
والأمر الثالث : انهم قاتلوا في سبيل الله تعالى فجاهدوا الأعداء واستشهدوا في هذا القتال، فلهم فضلان : فضل القتال والتقدم، وفضل الاستمرار فيه والشهادة في سبيل الحق، وقد بين سبحانه وتعالى الجزاء بقوله تعالت كلماته :﴿ ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله ﴾.
السيئات هي ما تسوء، ومعنى تكفيرها المبالغة في سترها، حتى تعتبر نسبيا منسيا، وهذا أولى الجزاء، والثاني : إدخالهم الجنة، وقد صورها بأقرب صور نراها للنعيم في الدنيا، وهي الجنة التي تجري النهار من تحتها. هذا، وإن نعيم الجنة حسي، وهو فوق ما نراه في الدنيا، وغن كان تصويره لا يكون إلا بنا نراه، فإن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفي تقديم تكفير السيئات على إدخال الجنة ما يسميه العلماء التخلية قبل التحلية، أي تطهيرهم مما كان منهم من سيئات، ثم تحليتهم بأعظم نعيم يكون في الآخرة.
وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك الجزاء ب"اللام" الدالة على القسم، و"بنون التوكيد" الثقيلة، وبتوكيد معنى الكلام كله بالمصدر﴿ ثوبا من عند الله ﴾ إذ هو مصدر لما تضمنه معنى﴿ لأكفرن عنهم سيئاتهم ﴾ ومعناه : لأثيبنهم ثوابا، وقد أكد ذلك الثواب بأنه من عند الله تعالى ذي الجلال والإكرام، وإذا كان من عند الله فهو يتضمن رضوانه، ورضوانه سبحانه وتعالى اكبر، كما قال تعالى :﴿ ورضوان من الله أكبر... ٧٢ ﴾ [ التوبة ].
والثواب أصله من رجوع الشيء إلى حالته، فكان الجزاء على العمل رجوع بالعمل إلى الحال التي يكون عليها او يستحقها، وقد قال الراغب في ذلك :"والثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله، فيسمى الجزاء تصورا انه هو ( أي ان الجزاء هو ذات العمل ) ألا ترى كيف جعل الله الجزاء نفس العمل :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره٧ ﴾ [ الزلزلة ] ولم يقل جزاه، والثواب يقال في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف في الخير، وعلى هذا قوله عز وجل :﴿ ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ﴾.
وقد ختم سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله تعالى :﴿ ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ﴾لبيان اختصاصه سبحانه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال في الدنيا لا يعد شيئا، وهذا تمهيد لقوله سبحانه :﴿ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع ﴾.
٢ رواه الترمذي: المناقب – فضل مكة(٣٨٦٠). ورواه احمد: أول مسند الكوفيين(١٧٩٦٦)، والدارمي: السير – إخراج النبي صلى الله عليه وسلم(٢٣٩٨)، كما رواه ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنه: المناسك – فضل مكة(٣٠٩٩)..
٣ متفق عليه، رواه في حديث طويل البخاري: بدء الوحي(٣)، ومسلم: الإيمان – بدء الوحي(٢٣١) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها..
والتقلب التصرف، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وتقلبك في الساجدين٢١٩ ﴾[ الشعراء ]، ومعنى تقلب هؤلاء الأعداء في البلاد تصرفهم فيها حاكمين مسيطرين أقوياء ينتقلون أحرارا من بلد إلى بلد، وجملة معنى النص الكريم : لا يصح ان يخدع احد بما عليه أولئك الناس من قوة وسطوة وتصريف في شئون البلاد، فغن هذا إلى أمد قصير، وهو متاع قليل، ولذا قال سبحانه :﴿ قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ﴾.
وفي هذا تعزية للمؤمنين أبلغ تعزية، وقد روى الترمذي ان رسول الله قال :"ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بما يرجع"١.
﴿ نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ﴾ "النزل" ما يعد للضيف لإكرامه والحفاوة به، ونصب ( نزلا ) على التمييز كما تقول كان لك هذا هبة، أي من نوع الهبة، وفي هذا بيان لمقدار عناية الرحمن الرحيم بهم، وإدخالهم مدخل صدق، وإنزالهم منزلا مباركا، وقد بين العطاء الروحي بعد العطاء المادي، فقال سبحانه :﴿ وما عند الله خير للأبرار ﴾، وقد حاول بعض المفسرين ان يقول إن الأبرار مرتبة أعلى من مرتبة المتقين، سيرا على قاعدة( حسنات الأبرار سيئات المقربين )، ويكون تفسير النص السامي على نظرهم، ومعناه ان ثمة للأبرار منزلة روحية، وتكريما رضوانيا هو خير من المذكور، ومع هذا لا مانع من ان نقول إن الذين اتقوا هم الأبرار، والمعنى عن الله اعد لهم شيئا خيرا من النزل، وهو الرضوان والنعيم الروحي مع النعيم المادي.
وفي هذا النص الكريم يبين الله سبحانه باب الرحمة المفتوح لهم، فذكر سبحانه مؤكدا القول ب"اللام" الدالة على القسم اهتداء فريق منهم، وذلك ان هؤلاء المهتدين قد تحلوا بخلال خمس : أولها انهم يؤمنون أقوى الإيمان وأخلصه، والإيمان يزيل العناد والغطرسة فيطلبون الحق لذات الحق. والثانية انهم يؤمنون بما انزل على النبي صلى الله عليه وسلم بان يعلموا انه آخر لبنة في صرح النبوة، وانه لو كان موسى حيا لآمن بمحمد. والثالثة ان يؤمنوا بحقيقة ما انزل إليهم، ويعرفوا ان الرؤساء حرفوا الكلم عن مواضعه، وان يعرفوا ان ما انزل إليهم او إلى أسلافهم
هو ما جاء به محمد مخبرا عنه. والرابعة الخشوع، وهو الخوف من الله تعالى مع الضراعة إليه وطلب رضاه دون سواه. والخامسة ألا يؤثروا شيئا على آيات الله تعالى هي أماراته البينات، وقد ذكرت هذه في آخر الآية بقوله سبحانه :﴿ لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ﴾ أي لا يتركون آيات الله المبينة لشرعه ودينه في نظير ثمن هو عرض من أعراض الدنيا فهو مهما يكن كثيرا في نظر الضالين، وهذه الأمور الخمسة يترتب بعضها على بعض، فيترتب على الإيمان الصادق بالله الإيمان بمحمد والإيمان بما نزل على النبيين الصادقين، ويترتب على هذا كله الخشوع، وأولى ثمرات الخشوع ألا يتركوا آيات الله تعالى لأي عرض من أعراض الدنيا، وهؤلاء ينالون جزاءهم، ولذا قال سبحانه :﴿ أولئك لهم أجرهم عند ربهم ﴾ أي أولئك المتصفون بهذه الصفات التي تدل على الخلوص لله لهم جزاءهم عند ربهم، وإنه عاجل لهم في الآخرة، كما ان العذاب لمن لم يؤمنوا عاجل، ولذلك قال سبحانه مؤكدا :﴿ إن الله سريع الحساب ﴾.
والمصابرة هي المغالبة بالصبر، وهي تكون في الجهاد مع العداء في الملحمة، او في المجادلة، او في أي مغالبة على أي لون كانت، والمرابطة هي القيام على الثغور الإسلامية لحمايتها من الأعداء، فهي استعداد ودفاع وحماية للديار الإسلامية، وقد قال عليه الصلاة والسلام :"رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما عليها"١، وكان كبار الزهاد يرابطون نصف السنة، ويطلبون قوتهم بالعمل في النصف الآخر : والتقوى هي لب كل عمل صالح، وهي النية المحتسبة للخير، فالمرابطة والمصابرة إن لم تكن منبعثة من التقوى لإرضاء الله تعالى فإنه لا خير فيها، وإن هذه الأمور الأربعة هي التي يرجى بها الفلاح، أي الفوز في الدنيا والآخرة، ولذا قال سبحانه :﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي رجاء ان يكتب لكم الفوز بالنصر في الدنيا والجزاء في الآخرة. اللهم اكتبنا برحمتك في عبادك الفائزين برضاك.