تفسير سورة يونس

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة يونس من كتاب زهرة التفاسير .
لمؤلفه أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ
تمهيد :
سورة مكية عدد آياتها ١٠٩، استثنى منها علماء القراءات أربع آيات قالوا إنها مدنية، هي الآيات ٤٠-٩٤-٩٥-٩٦.
ابتدئت بحروف مفردة للتنبيه على إعجاز القرآن، ووصف الكتاب بأنه الحكيم، وذكرت أن الناس كانت في عجب أن يوحي إلى رجل منهم، فذهبوا إلى تكذيبه وقالوا بسبب كفرهم : إنه ساحر مبين، وكان عليهم ألا يعجبوا ويغتروا ؛ لأن الوحي من عند الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر، وأنه وحده له الملك، وأنه لا شفيع عنده إلا من بعد إذنه.
﴿.... ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون٣ إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا... ٤ ﴾.
فأنتم سترجعون إليه فيحاسبكم، ولا عجب في رجوعكم فهو سبحانه يبدأ الخلق ثم يعيده.
﴿..... ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم.... ٤ ﴾.
﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون٥ ﴾ ويبين سبحانه وتعالى آياته في اختلاف الليل والنهار، ثم أشار إلى أولئك الذين ينكرون البعث ولا يرجون لقاء ربهم، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وغفلوا عن آيات الله سبحانه وتعالى، وبين أن مأواهم النار بما كسبوا من سيء الأعمال، وفي مقابل ذلك ذكر سبحانه الذين آمنوا بالله وآياته وعملوا الصالحات وجزاءهم من النعيم المقيم والسلام.
﴿ دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين١٠ ﴾.
وإن من سنة الله تعالى ألا يعجل الشر لمن أساء.
﴿ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون١١ ﴾ ويبين الله تعالى طبيعة الإنسان أنه إذا ضعف اتجه إلى الله ولجأ إليه.
﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون١٢ ﴾.
وبين حال الذين بعث لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله... ١٥ ﴾.
فأمره الله تعالى أن يقول :
{.... ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم١٥
قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون١٦ }.
وقد ذكر حالهم في شركهم بأنهم يعبدون ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا فيأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول لهم :
﴿... قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون١٨ ﴾.
وبين الله تعالى بعد ذلك أن الناس في أصل التكوين أمة واحدة،
﴿ وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون١٩ ﴾.
جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو أعظم آية أيد بها النبيون، و لكنهم لتعنتهم يريدون آية أخرى :
﴿ ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين٢٠ ﴾.
ولقد بين الله النفس الإنسانية المنحرفة عن الحق أنها إذا مسها الله تعالى بالخير بعد الشدة تصورت أن الخير لها ولم يكن لفضل الله ودبرت أمورها على ذلك، وذكر الله تعالى مثلا فقال :
﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجيرن بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين٢٢ فلما أنجاهم إذ هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون٢٣ ﴾.
ثم مثل سبحانه وتعالى الحياة الدنيا في زوال متاعها فقال :
﴿ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون٢٤ ﴾.
دعوة الحق
بعد ذلك بين الله تعالى مآل دعوة الحق إلى دار السلام والهداية إلى الصراط المستقيم يوم القيامة
﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون٢٦ ﴾.
وإنه في البعث يحشرهم الله جميعا ويفر الذين سول لهم الشيطان أن يعبدوهم - من الذين اتبعوهم.
ويسأل الذين أشركوا أين شركاؤكم :
﴿ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون٢٨ فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين٢٩ هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون٣٠ ﴾.
بعد ذلك بين الله تعالى إنعامه على عباده وآياته في خلقه.
﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون٣١ فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون٣٢ كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون٣٣ ﴾.
أخذ يبين سبحانه وتعالى عجز الأوثان أن تبدأ الخلق ثم تعيده، بل إنها تخلق، ثم إن أوثانهم لا تهدي ضالا وإن الله هو الهادي إلى الحق، وإن الذين يعبدون الأوثان لا إيمان لهم فهم لا يؤمنون بها.
﴿ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ان الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون٣٦ ﴾.
وإن القرآن حجة الله البالغة
﴿ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين٣٧ ﴾.
ثم يتحداهم سبحانه وتعالى أن يأتوا بسورة من مثله.
﴿.... وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين٣٨ ﴾.
وإن الأمر بالنسبة لهم ليس آخر دليل يطلبونه بل إنهم يكذبون قبل أن يطلبوا الدليل ؛ أي بادروا بالتكذيب
﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين٣٩ ﴾.
وأنه بعد مجيء القرآن فإن منهم
﴿ من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين ٤٠ وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون٤١ ﴾، ولاتابه لهم
ومنهم من يستمع إليك وقلوبهم معرضة
( ومنهم من يستمعون اليك افانت تسمع الصم ولو كانوا لايعقلون ٤٢ ) كما ان منهم من ينظر إليك غير مبصر
( ومنهم من ينظر اليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون٤٣ }.
ثم أشار سبحانه وتعالى إلى ما أعده للكافرين، وأنه أرسل إلى كل أمة رسولا يقضي بينهم بالقسط ولكنهم يقولون متى وعد الله
﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين٤٨ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله... ٤٩ ﴾.
ويبين سبحانه وتعالى أن له ما في السموات والأرض وأن وعده حق
﴿ ألا إن لله ما في السموات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون٥٥ ﴾.
كما يبين ان شرع الله تعالى فيه الموعظة وفيه شفاء لما في الصدور
( يايها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ٥٧ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون٥٨ ) كما بين سبحانه وتعالى فضله على الخليقة فيقول تعالى
( قل ارايتم ما انزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله اذن لكم ام على الله تفترون ٥٩ )أي تنزل النعمة حلالا طيبا ويفترون فيحرمون من غير بينة :
﴿ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون٦٠ ﴾.
كما يبين الله علمه بكل شئون الرسول ودعوته :
﴿ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين٦١ ﴾.
ثم يذكر أولياء الله
﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون٦٢ الذين آمنوا وكانوا يتقون٦٣ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم٦٤ ﴾.
وينهى الله النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن
﴿ ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم٦٥ ﴾.
إن الله مالك العزة يعز من يشاء ؛ لأن له ملك السموات والأرض، وأن الذين يعبدون الأوثان لا يستيقنون لها قدرة، وإن يتبعون إلا الظن :
﴿.... إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون٦٦ ﴾.
ثم يبين سبحانه كمال ملكه وتصريفه للكون وبطلان من اتخذ له ولدا وبطلان قول الذين يعبدون الأوثان وأن جميعهم لا يفلحون ؛ لأنهم يفترون على الله الكذب.
﴿ قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون٦٩ متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون٧٠ ﴾.
بعد ذلك يذكر سبحانه وتعالى الأنبياء الذين لقوا من أقوامهم مثل ما لقى النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ بذكر نوح الأب الثاني للبشرية، وما قاله لقومه وقد كبر عليهم مقامه فيهم وتذكيرهم بآيات الله وتوكله عليه وما رأى منهم من عنت وقد أخذهم بالحسنى﴿... فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون٧١ فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين٧٢ ﴾.
فكذبه قومه وصدقه الضعفاء- كما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم- ثم نجاه الله ومن معه في الفلك المشحون.
وبعث الله –كما تدل الآيات – رسلا من بعده فكذبوا ثم بعث موسى وأخاه هارون إلى فرعون، وأيده بآيات التي تثبت رسالته فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين، ثم جاء لهم موسى وأتاهم بتسع آيات بينات وكانت إحدى الحجج المنزلة من بينها عصا موسى.
﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين٧٦ قالوا موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون٧٧ ﴾.
وقد آمن السحرة وذرية من قومه
﴿ ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون٨٢ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين٨٣ ﴾.
ثم أخذ موسى من آمن ودعاهم إلى التوكل على الله الذي آمنوا به وأن يقولوا : ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.
﴿ وأوحينا الى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين٨٧ ﴾.
ودعا موسى على فرعون وملئه الذين لم يؤمنوا :﴿.... ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم٨٨ قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون٨٩ ﴾.
ولقد جاوز موسى بأمر الله البحر حيث انشق فكان كل فرق كالطود العظيم واتبعهم فرعون في اجتيازهم البحر فانطبق عليه هو وجنده حتى إذا أدركه الغرق قال :
﴿... آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين٩٠ ﴾.
وبعد ذلك بين سبحانه وتعالى ما أنعم به على بني إسرائيل فبوأ لهم مبوأ صدق ورزقهم من الطيبات ولكن اختلفوا لما جاءهم العلم.
بعد هذه العبرة من أخبار الرسل وأولى العزم بين سبحانه لنبيه وجوب الاطمئنان إلى ما يدعو إليه من الحق.
{ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ف

معاني السورة الكريمة
آلر تلك آيات الكتاب الحكيم١ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ٢ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون٣ إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون٤
ابتدأ الله تعالى السورة الكريمة بالحروف الصوتية المفردة، وهي من المتشابه الذي اختصه الله تعالى بعلمه، وإن تفسيرنا لها رجم بالغيب إذ لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها برواية صحيحة بينة، فليس لنا أن نتعرف معناها ما دامت قد أبهمت علينا، وتركها الله تعالى من غير بيان ولكن علينا أن نؤمن بحقيقتين :
أولاهما – أن الله تعالى لم يضع هذه الحروف إلا لغاية أرادها وحكمة، وعلينا أن نتحراها.
ثانيتهما- أن نتلمس الحكمة وقد تلمسها المفسرون فوجدوها في أمرين :
* إن كبار المشركين لما رأوا أن من يسمع منهم القرآن يؤثر فيه ويصغي إليه فؤاده فدفعهم العناد والمكابرة إلى أن قالوا كما أخبر تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون٢٦ ﴾( فصلت ).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفجؤهم بتلاوة القرآن بهذه الحروف الصوتية فينقضون اتفاقهم ويحنون إليه تباعا، وروى أنهم في ليلة اتفقوا على هذا الموقف السلبي ولكن كل واحد منهم نقض ما اتفق عليه وذهب إلى المكان الذي يستمع منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هم يلتقون حيث كانوا يتفقون على البعد عن الاستماع.
* الأمر الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، والأمي يعرف الكلمات ولا يعرف الحروف بمجيء هذه الحروف على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب فيه غرابة، وفوق ذلك فإن هذا من التحدي كأنه يقال لهم : هذا الكلام الحكيم مركب من الحروف التي ركب منها كلامكم فكيف تعجزون عن أن تأتوا بمثله، وفي ذلك دليل على أنه ليس بنوع كلامكم ولا هو مما في إمكانكم أو طاقتكم، والله سبحانه وتعالى هو وحده الذي نزله عليه نبيه تنزيلا وهو العزيز الحكيم.
وقد يبدو أن هذه الحروف مساقة في أكثر الآيات المبتدأة بهذه الحروف للإشارة إلى القرآن الكريم وآياته ؛ لذا قال :﴿ تلك آيات الكتاب الحكيم ﴾ إشارة إلى هذه الحروف أو إشارة إلى ما يأتي بعد ذلك من الذكر الحكيم.
والإضافة هنا بمعنى ( من ) أي تلك الآيات التي تتلى عليك من آيات الكتاب الحكيم وهي بذاتها تدل على قدرة الله تعالى الذي أنزلها وعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وإنه﴿ الكتاب ﴾ الكامل الجدير بأن يسمى كتابا، و﴿ الحكيم ﴾ لاشتماله على الحكمة إذ إنه جمع التكليفات كلها والشرائع المصلحة للبشرية والمنظمة للعلاقات الإنسانية، ثم إنها نزلت كلها على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب ؛ لم يجلس إلى معلم ولم يكن ببلد تدرس فيه العلوم الإنسانية أو الكونية فقد كان أميا من بلد أمي، وجاء بكتاب فيه أصول وفروع الشريعة وهي إحدى دلائل إعجازه بين الكتب حقا وصدقا.
وكان خليقا بالمشركين أن يؤمنوا إذا تحداهم وأعجزهم، ولكن لم يدفعهم العجز إلى الإيمان بل دفعهم إلى الجحود والعناد، ليس لحجة عندهم بل لأنه كان غريبا لم يألفوه أو يعرفوه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ﴾.
﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ﴾.
والاستفهام هنا لإنكار الواقع وهو بمعنى التعجب من عجبهم، والتوبيخ على أنهم اتخذوا إرسال رجل منهم موضعا للعجب، فالرسول لا يمكن أن يكون إلا رجلا منهم فلا يصح أن يكون ملكا من الملائكة كما قال تعالى :
﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون٩ ﴾( الأنعام ).
وقد كان تعجبهم لأمور ثلاثة :
أولها- أنه أوحي إلى رجل، وما كانوا يفهمون أن الرسالات تكون لرجال منهم.
ثانيها- أنه يتيم فقير، كان يسمى يتيم أبي طالب، وأنه ليس من الأغنياء وكانوا هم الظلماء.
﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٣١ ﴾( الزخرف ).
ثالثها – أنه فوق هذا جاء للإنذار بالبعث فكان قولهم :
﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين٣٧ ﴾ ( المؤمنون ).
وفي هذا أشد العجب من أمرهم كما يقول تعالى :
﴿ وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد.... ٥ ﴾( الرعد ).
هذا تعجبهم، والإنكار التعجبي من عجبهم لتلك الحقائق الثابتة، والإرسال لا يكون إلا لرجل كما تلونا ولقوله تعالى :
﴿ فل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنبن لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا٩٥ ﴾( الإسراء ).
وأنكروا أنه يتيم فقير وهم يعلمون أنه من بيت الذروة من قريش، وإذا كان يتيم أبي طالب، فأبو طالب كان شيخ البطحاء وتدين قريش كلها له، كما تدين لأبيه عبد المطلب ولجده هاشم، وأن النبوة لا تختار بالغنى ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكان محمد صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة تدين له قريش كلها بالخلق الكريم والصدق والأمانة حتى سمي بالأمين ولا يمكن أن يكون المال والولد مقومات النبوة إنما الصدق والأمانة، والله هو الذي يختار كقوله تعالى :
﴿ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى... ٣٧ ﴾( سبأ ).
ولا ينبغي أن يعجبوا من الإنذار بالبعث والحساب والجزاء فإن هذه الدنيا متاعها قليل والعاقبة عند ربك للمتقين، وإن الله تعالى لم يخلق الإنسان سدى بل جعل حياته في الدنيا عاملا للخير أو عاملا لغيره، وفي الآخرة يكون الجزاء الأوفى.
ولننظر بعض نظرات إلى النسق السامي.
١- قوله تعالى :﴿ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل مهنم ﴾ أكان للناس – ولهم عقول ومدارك- أن يتعجبوا من هذه الأمور.
٢- ﴿ أن أنذر الناس ﴾ ( أن ) تفسيرية، وأنذر الناس هي لإيحاء الذي أوحاه الله تعالى لنبيه، والإنذار هو بيان ما يكون للكافرين من عذاب أليم، والبشرى بما يكون للمؤمنين من نعيم مقيم.
٣- وقوله تعالى :﴿ أكان للناس عجبا ﴾ يقول الزمخشري عن معنى( اللام ) :
( وما الفرق أن تقول"أكان عند الناس عجبا" : أنهم جعلوه أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه علما يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم ) ولعل المعنى الذي يريده الزمخشري أن اللام تفيد هنا أن كان للناس عجبا أن يعجبوا من أنه أوحي إلى رجل منهم، وأن اللام تفيد الملك، أو الاختصاص أو الحق أي متى حق أن يتخذوا الرسول بالحق موضع تعجب واستغراب ثم استهزاء، وقال في بشارة المؤمنين وهو الجزء الأكبر من عمل النبي المبعوث﴿ وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ﴾ وقد بينا معنى البشارة والنذارة، ولم تذكر الجنان ولا النعيم المقيم كما ذكر سبحانه في آيات كثيرة، ولكن ذكر ما يوجبه ويتأدى إليه لا محالة وهو أن لهم قدم صدق عند ربهم وهي سبقهم إلى الإيمان والتصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا أمران بيانيان يجب أن نشير إليهما بمقدار ما ندرك.
أولهما- عبر عن السبق إلى الإيمان بقوله تعالى :﴿ قدم صدق ﴾ ونقول : إن هذا مجاز عبر فيه باسم الجزء، وأريد الكل وذلك لأن المراد أن لهم السبق بالصدق، ولكن لأن السبق يكون بالقدم فهي التي يكون السير السريع أو البطيء فقد عبر عن ذلك ب﴿ قدم ﴾، كما يقال في النعم :" لفلان أياد علي" ؛ لأن الإعطاء يكون باليد عادة".
الأمر الثاني- قوله تعالى :﴿ صدق ﴾ نقول أنه وعد، ووعد الله صدق دائما ولكن المؤمنين أيضا قدموا بالصدق وهو الإيمان بالحق، فصدقوا الرسول وصدقوا ما عاهدوا الله عليه.
يقول الزمخشري :( فإن قلت لم سمي السابقة قدما، قلت لما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة قدما كما سميت النعمة يدا لأنها تعطي باليد ).
وإضافة القدم إلى ﴿ صدق ﴾ دلالة على زيادة فضل وإنه من السوابق العظيمة.
هذا ما قاله تعالى بالنسبة للمؤمنين وهو يدل على أنهم بقلوبهم الطاهرة سبقوا إلى التصديق والصدق، أما الكافرون فقالوا تحت تأثير استغرابهم وتعجبهم إن هذا لساحر مبين، هذا صوت الاستغراب، من غير موجبه، وبدل أن يقولوا آمنا﴿ قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ﴾، أي بين واضح. حكموا بأنه ساحر مسترسلين في استغرابهم وأكدوا أنه ساحر بالجملة الاسمية، وبإن المؤكدة وباللام، والإشارة في هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسوغ لاستغرابهم، وعجبوا من إرسال رسول منهم ومن قدرة الله تعالى، ولذا قال تعالى : إن ربكم الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه }.
إن ربكم الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه }.
والأيام الستة ليست هي الأيام التي نعرفها ؛ لأن ذلك مستحيل ؛ لأن هذه الأيام التي نعرفها من دوران الأرض حول الشمس وما كانت الأرض ولا السموات بما فيهما من شمس وقمر وسائر الكواكب والنجوم، ولذلك نقول إن الأيام الستة هي أدوار التكوين الذي أنشأ الله به السموات والأرض، ذكرها الله في سورة أخرى :
﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين٩ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين١٠ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتنا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين١١ فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ١٢ ﴾( فصلت ).
ونرى من هذا النص السامي أن الأرض أخذت ستة أدوار ومثلها السموات حتى كانت الأرض بطبقاتها وتكوينها، وكانت السماء بأبراجها ومصابيحها، وكانت الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لنعلم عدد السنين والحساب.
أنشأ الله تعالى السموات والأرض في هذه الأدوار التكوينية بتدبيره سبحانه وبإحكامه وإرادته وهو الفاعل المختار، وليس كل دور انتقالا من الدور الذي سبق فيتوهم أن كل دور خلق ما بعده بل إن ذلك بإرادة المنشيء المختار ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ثم استولى على العرش يدبر الأمر ﴾ والمعنى استولى على السلطان والعرش كناية عن كمال السلطان فهو صاحب الملك قد استولى على كرسي ملكه الذي خلقه وأنشأه على غير مثال سبق، وأنه يدبر شئون ذلك الكون الذي أبدعه﴿ بديع السماوات والأرض... ١١٧ ﴾ ( البقرة )، ويدبر أي يتحكم فيه ويقدر ويضع كل شيء في موضعه الذي يلتئم مع ما يناسبه فخلق الماء في الأرض وجعل منه كل شيء حي وخلق المطر الذي يكون غيثا وينبت منه كل شيء وجعل الأرض فراشا والسماء بناء.
وأصل التدبير معرفة أدبار الأمور، والمدبر يعرف حاضر الأمور ويعلم القابل والحاضر والدابر منها والعواقب، لا يغيب عن علمه شيء وقد أحاط بكل شيء علما وفي قوله :﴿ يدبر الأمر ﴾ الأمر هو أمر الخلق والتكوين ومن يعيش في السموات والأرض وحالهما- تبارك الله.
﴿ ما من شفيع إلا من بعد إذنه ﴾ هذا إنذار للذين يعصون من خلقه بأنهم عند العذاب لا تنفعهم شفاعة الشافعين وما لهم من شفيع يشفع ولا قربة يفتدون بها أنفسهم فإنه لا شفيع إلا من بعد إذنه، والتعبير بقوله تعالى :﴿ من بعد إذنه ﴾ إشارة إلى أنه محكوم بسلطان الله تعالى غير خارج عن ملكه لا يفرض عليه.
وهنا إشارتان بيانيتان :
الأولى- قوله تعالى :﴿ يدبر الأمر ﴾ جملة مستأنفة لبيان كمال السلطان، وهي أثر للخلق والتكوين ؛ لأنه إذا كان الخالق كان المدبر وتدل على أنه فاعل مختار.
الثانية – قوله تعالى :﴿ استوى على العرش ﴾ تدل على كمال السلطان، وأنه لا يخرج عن سلطانه شيء في الأرض ولا في السماء، فالأرض باتساعها من جبال ووهاد ويابس وماء وأحياء وزرع وغراس كلها بتدبيره وسلطانه.
ثم قال سبحانه :﴿ ذلكم الله ربكم ﴾ إشارة إلى خالق السماء والأرض وما فيهن ومدبر أمرهما وذو السلطان المستولي على كل شيء، والخطاب للإنسانية كلها لأنه رب العالمين.
ويلاحظ المتتبع لآيات الله تعالى أن الإشارة تقترن بحرف الكاف ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بالتبع، وضمير الجمع كما في هذا النص﴿ ذلكم ﴾ يكون إما للناس أجمعين، وإما للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته ابتداء. وهذا الخطاب للناس أجمعين، وذكر لفظ الجلالة فيه إشارة إلى أنه المستحق وحده بلا شريك وأنه المنشيء والمشرف على كونكم وقد ربكم ورباكم وتعهدكم﴿ فاعبدوه ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه يعبد لأنه الله المنشيء جل جلاله ؛ ولأنه رب الوجود ولا يعبد إلا وحده فاعبدوه عبادة تقتضي بطلان الشريك.
﴿ أفلا تتذكرون ﴾ الاستفهام للتعزيز وطلب التذكر، و( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي مؤخرة عن تقديم ؛ لأن الاستفهام له الصدارة دائما، وهمزة الاستفهام داخلة على ( لا ) والاستفهام لإنكار الوقوع بمعنى النفي ونفى النفي إثبات، والمعنى حض على التذكر، والتذكر أدنى التفكير، والمعنى تفكروا بأدنى التفكير فإنكم حينئذ تجدون الله هو الذي يعبد وحده ولا يعبد سواه.
ثم بشر الله بعد ذلك المؤمنين وأنذر الكافرين، فقال تعالى كلماته :
إليه مرجعكم جميعا وعد حقا انه يبدؤ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون٤ }.
بعد أن بين الله تعالى أنه خالق السموات والأرض ومن فيهن ذكر سبحانه وتعالى أنه لم يخلقهم عبثا، بل إنه خلقهم ليعمروا الأرض ويقوموا فيها بالأعمال الصالحة وأنه سيعيدهم ويجزيهم بالإحسان إحسانا، ومن كفر فله عذاب أليم، وقوله تعالى :﴿ إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا ﴾ قدم الجار والمجرور على المبتدأ ﴿ مرجعكم ﴾ لإفادة القصر، أي إليه وحده المرجع والمآب كما أنه وحده الخالق المنشيء فالمرجع إليه وحده، ثم ذكر إمكان ذلك وتقريب قدرته تعالى على رجعهم إليه وحده فقال :﴿ يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾ فهذه الجملة في مقام التعليل لقوله –سبحانه- :﴿ إليه مرجعكم ﴾ وتقريب وقوع ذلك وقدرته سبحانه وتعالى على الإعادة كما بدأ كما قال تعالى :﴿.... كما بدأكم تعودون٢٩ ﴾( الأعراف )، وكقوله :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه... ٢٧ ﴾( الروم ).
وقد بين الله تعالى أن ذلك هو النظام الذي سنه سبحانه وتعالى واختاره لخلقه فقال :﴿ وعد الله حقا ﴾ أي إن ذلك وعد وعده الله تعالى عندما خلق الإنسان الأول وعاداه إبليس اللعين وأنزله من جنته. وقال سبحانه :
﴿ قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٣٨ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون٣٩ ﴾( البقرة ).
وقوله تعالى :﴿ جميعا ﴾ ذكرت لبيان عموم من يعيدهم سبحانه، فسيعود إليه البر والفاجر والمطيع والعاصي والمفسد والمصلح، ثم ذكر سبحانه وتعالى غاية ذلك﴿ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ﴾ : اللام للتعليل، أي لتعليل الرجوع إليه والإعادة بعد البدء، وفي التعليل بيان الغاية والمآب ويتحقق وعد الله تعالى الحق الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل، وقد ذكر الإيمان والأعمال الصالحة كشأن بيان الله تعالى عند ذكر الثواب ولم يذكر سبحانه وتعالى الجنة والنعيم المقيم، ولكن ذكر ما يتضمنها وزيادة فقال تعالى :﴿ بالقسط ﴾ أي الجزاء بالقسط فهو عدل من الله تعالى، وعدله وفضله يوجبان الجنة وما فيها.
والرضوان والسعادة التي يتضمنها أداء الواجب هو الثواب العدل للمؤمنين الصالحين، فهم شكروا النعمة ولم يكفروها وقابلوا فضل الله بالقيام بالواجب واعتدال النفوس وحالهم هي العدل والقسط، ويقول البيضاوي في تفسيره ﴿ بالقسط ﴾ أي بعدله أو عدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، ونرى أن هذا كله تشمله كلمة( القسط ) وليس ثمة ترديد بين واحد منها.
وبعد أن ذكر سبحانه جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ذكر جزاء الذين يكفرون فقال سبحانه :
﴿ والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم ﴾- ذكر القسط في جزاء الذين آمنوا على أنه مقابلة بين عمل صالح قويم مستقيم وجزاء عدل قويم، وذكر ما يستحقه المنحرفون من غير أن يذكر ما يدل على أنه جزاء، وذلك للدلالة على أن الجزاء مع عدله تفضل من الله، وأن الكافرين حرموا من هذا الفضل ونالهم ما يستحقون، ولبيان أن الرجوع إلى الله يقترن بالجزاء الذي هو عدل، وأن الناس خلقوا ليقوموا بالإصلاح، وإن الإعادة ليجازوا على هذا الإصلاح، أما المنحرفون المفسدون فإنهم ينالون ما يستحقون بسبب انحرافهم عن الفطرة التي فطر عليها الناس. وابتدأ سبحانه بالجملة الاسمية ﴿ والذين كفروا ﴾ وذلك فيه أمور ثلاثة مؤكدة لشدة العقاب :
الأولى – الجملة الاسمية المؤكدة للحميم.
الثانية – التعبير بالموصول الذي يعتبر أن الكفر علة الحكم.
الثالثة – اللام في قوله تعالى :﴿ لهم شراب ﴾ فإن اللام تفيد أنه أمر مختص بهم وليس لهم غيره.
والحميم : الحار الشديد الذي يقطع الأمعاء، فيقال : حممت الماء أي أحمه فهو حميم أي محموم، بمعنى مفعول إذا كان حارا حرارة شديدة تزيد عما يطيقه الجسم ؛ ولذا قال تعالى :
﴿ هذا فليذوقوه حميم وغساق٥٧ وآخر من شكله أزواج٥٨ ﴾( ص )، وقال :﴿ يطوفون بينها وبين حميم آن٤٤ ﴾( الرحمن ).
وذكر سبحانه سبب هذا الذي ينالهم فقال :﴿ بما كانوا يكفرون ﴾ جمع هنا بين الماضي والمستقبل، ودل هذا على استمرارهم في الكفر الذي فعلوه أولا ثم استمروا مجددين للكفر آن بعد آن، وقانا الله تعالى شر الضلال وانحراف العقول.
قال تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون٥ إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون٦ إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون٧ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون٨ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم٩ دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين١٠
يبين سبحانه وتعالى أنه خالق السموات والأرض وأنه ما خلقهما عبثا، بل سخرهما للإنسان ليشكر أو يكفر، وأن المرجع إليه سبحانه وتعالى يحاسب كل امرئ بما كسب، وأنه الحكم العدل الذي يجزي به كل نفس بما كسبت.
وفي هذه الآيات فصل نعمته على مخلوقاته وكيف هي مسخرة لهم، فجعل الشمس ضياء والقمر نورا، جعل الشمس ذاتها ضياء، فكتلة كلها ضوء، ويقول بعض المفسرين : ذات ضياء، ونحن نقول : إن الشمس ذاتها ضياء، والقمر نور، أي ذا نور، وقلنا في القمر ذو نور ؛ لأن ضياءه ليس من ذاته إنما هو من توسطه بين الأرض والشمس، ونوره عرضي وليس ذاته نورا كالشمس في أن ذاتها ضياء، ولقد أدرك هذا بعض المفسرين الأقدمين الذين لم يعنوا بدراسة الأجرام السماوية. فقد قال البيضاوي : أنه سمي "نورا" للقمر للمبالغة، فهو أعم من الضوء، وقيل ما بالذات ضوء وما بالعرض نور، وقد بينه سبحانه وتعالى بذلك أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها والقمر نيرا بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها، وهذا ما يقرره علماء الكون، وفي الواقع أن ضياء الشمس حقيقي، فهي كالمصباح والنور ينبثق منه، والقمر لا ضياء فيه وإنما نوره نسبي في انعكاس ضوء الشمس عليه ؛ ولذا كان له منازل، وقد ينطمس على الأرض قال تعالى :﴿ وقدره منازل ﴾ فهو يبتدئ هلالا يكبر شيئا فشيئا حتى يصير بدرا ثم يعود يصغر شيئا فشيئا حتى يكون المحاق.
ولذا قال تعالى :﴿ والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ﴾ وقال بعض المفسرين : إن ما قدر منازل ليس هو الفمر وحده بل الشمس والقمر، والمعنى : قدرهما منازل ؛ فالشمس منازل كالقمر، ولكن منازل القمر سريعة يومية ومنازل الشمس ليست كذلك، وإن كان لها أثرها فالتقدير نسب إلىا لقمر ابتداء والمراد هما، كعود الضمير على التجارة في قوله تعالى :﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوكا قائما... ١١ ﴾( الجمعة )، ونحن نرى أن المنازل للقمر ؛ لأنها الظاهرة ولأنها التي نعلم بها الأيام والأشهر والسنين القمرية، وبعض المفسرين يقول : منازل أي ذا منازل، ونحن لا نرى أنه لا حاجة إلى تقدير ( ذا ) ؛ لأن المنازل في ذات رؤية القمر يبدو صغيرا ثم يكبر وبعد أن يصير بدرا يعود صغيرا كما بدأ﴿ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم٣٩ ﴾( يس )، ويبين سبحانه أن الحكمة في هذا أن تعلموا عد السنين والحساب، أي عدد السنين بعدد الأشهر والأيام والحساب، وقالوا إن العدد في السنين والحساب في الأوقات، فيعلم عدد السنين
بدوران القمر وابتداء كل شهر والأيام برؤية القمر ليلا، والعربي كان يعرف اليوم في الشهر برؤية مقدار الهلال فيعرف أنه في الليلة الأولى أو الثانية أو الثالثة إلى العاشرة في سماء العرب الصافية.
وإن ذلك بنظام ثابت لا يتغير ولا يتحول، وإحكام في الخلق والتكوين ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ ما خلق الله ذلك إلا بالحق ﴾ الأمر الثابت الذي يسير على سنة محكمة هي سنة الله ولن تجد لسنة الله تحويلا.
ثم يبين سبحانه وتعالى أن ذلك كله من آيات الله تعالى التي بينها فقال تعالى :﴿ يفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ والجملة مستأنفة، لبيان خلق الله تعالى – يفصل، أي يبين الآيات الدالة على كمال خلقه ووحدانيته﴿ لقوم يعلمون ﴾ ويدركون الحق ويؤمنون به ويذعنون لفاطر السموات والأرض، ومدبرهما.
وإن اتصال الأرض والشمس والقمر يكون منهما الليل والنهار، كما أن اتصال الشمس بالقمر والأرض يوجد منه نور القمر، وتوجد منه منازله ويكون منه العلم بعدد السنين والحساب، وقد بين سبحانه أثر اتصال الشمس بالأرض فقال تعالى :﴿ إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون٦ ﴾.
واختلاف اللليل والنهار بمعنى تعاقبهما بأن يكون كل خلفة للآخر، فالليل يعقب النهار، والنهار يعقب الليل، تشرق الشمس على الأرض في دورانها فيكون النهار، ويكون ذلك الإشراق في جزء من الأرض، وفي دورانها تخفي الأرض نصفا منها فيكون ليلا وفي النصف الآخر النهار، وهكذا تتعاقب الأيام والليالي وهكذا النظام الذي ابتدعه منشيء الوجود رب العالمين، وهناك اختلاف بين الليل والنهار تشير إليه الآية أيضا وهو الاختلاف طولا وقصرا ؛ فأحيانا يطول النهار ويقصر الليل، وأحيانا يطول الليل ويقصر النهار، وأحيانا يستويان ؛ وذلك من تحرك الشمس في فلكها وحسب قربها من الأرض قربا نسبيا وبعدها عنها نسبيا، ويشير سبحانه إلى ذلك في قوله :﴿ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون٤٠ ﴾( يس )، فالشمس تدور في فلكها والقمر يدور حول الأرض في فلكها، والأرض فراش الإنسان مهدما له العلي القدير.
ولقد قال تعالى :﴿ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ١٩٠ ﴾( آل عمران )، أي العقول المدركة، وهكذا كان الكون وما يجري فيه من الآيات والنذر، ولكن ما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون.
ويقول سبحانه وتعالى :﴿ وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون ﴾ هذا توجيه النظر لما في السموات والأرض من نجوم وكواكب.
﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج٦ والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج٧ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ٨ ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد٩ والنخل باسقات لها طلع نضيد١٠ رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج١١ ﴾( ق ).
فأشار سبحانه وتعالى إلى الكون في إنشائه وتنوعه وتفاوته وتدبيره وإحكامه وتماسكه وأنه لا فروج بين كواكبه ونجومه وأنها متماسكة بالجاذبية.
﴿ لآيات لقوم يتقون ﴾هذا اسم إن في قوله تعالى :﴿ إن في اختلاف الليل النهار ﴾وإن( اللام )لام( التوكيد )، والآيات جمع آية، وهي الأمر الكوني الدال على وحدانية الله وكمال قدرته وإبداع الكون على غير مثال سبق، وأنه سبحانه منشيء الكون بإرادته.
وهذه الآيات لا يدرك مغزاها وما توحي به إلا القوم المتقون، الذين امتلأت فلوبهم بالإدراك ومراقبة أنفسهم، يخافون العواقب ويقدرون الأمور تحت سلطان التقوى، يعلمون أن الله الواحد الأحد منشيء الكون وحده هو المعبود وحده لا معبود سواه.
وقد ذكر سبحانه من يدركون بأنهم الذين( يعلمون )، ومرة أنهم( يؤمنون ) وأخرى أنهم ( يوقنون )، ومرة رابعة انهم يتقون وهم الذين يدركون ما تدل عليه الآيات، ومن لا يدركها ليس عنده علم ولا إيمان ولا يقين ولا تقوى، وعدم إدراكهم ناشيء عن ظنهم أن الحياة الدنيا هي كل شيء فلا يتدبرون ما بعدها وينكرون البعث ؛ولذا قال تعالى :﴿ إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون ٧أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون٨ ﴾.
﴿ إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون ٧أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون٨ ﴾.
ذكر سبحانه آياته الكبرى في خلق السماوات والأرض الدالة على أنه أنشأ كل شيء وأن من أنشأه ابتداء يستطيع أن يعيد ما أنشأ، كما قال :﴿.... كما بدأكم تعودون٢٩ فريقا هدى وفرقا حق عليهم الضلالة... ٣٠ ﴾( الأعراف ).
وبعد ذلك ذكر الذين ينكرون البعث والنشور والقيامة والحساب، وأنهم لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا لانغماسهم في الأهواء والشهوات، وفسدت مداركهم فلا يفكرون في عواقب أمورهم، وكلما غلبتم الشهوات ألهتهم عن التفكير في خلق الله تعالى وما يدل عليه، وعن التفكير في الآيات والنذر وما تدعو إليه من إيمان ثابتة دلائله.
اليوم الآخر، هو ما يكون من بعث وحساب وجزاء، وقد قال سبحانه :﴿ الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ إشارة إلى استهانتهم بأنفسهم وخالقهم، ولبيان المهابة في لقاء هذا اليوم والإشعار بأنه يوم خطير على الكافرين عسير.
كما أضاف سبحانه لحال إنكارهم الرضا بالفانية ومتعها بدل الحياة الأخرى الباقية بنعيمها الباقي، ورضوا بالقليل الحاضر عن الكثير المقيم ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ﴾.
أي أنهم رضوا وقنعوا بها لم تمتد أنظارهم إلى ما وراءها فشغلوا بالطريق وما به من منافع قصيرة عن المرتجي والمنتهي ؛ لأن الحس استغرقهم ولم يجعل في نفوسهم مكانا للنور يدرك به الحق، واطمأنوا وسكنوا لملذاتهم وشهواتهم وقالوا في ذات أنفسهم :﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين٣٧ ﴾( المؤمنون ).
وقد وصفهم الله بالغفلة عن آياته :﴿ هم عن آياتنا غافلون ﴾ وهذه جملة معطوفة على ما قبلها.
الوصفان متغايران وإن كان متلازمين.
أولا – وصفهم بعدم توقع لقاء الله وأنهم قنعوا بالحياة الدنيا وما فيها واطمأنوا إلى ذلك واكتفوا به.
ثانيا – وصفهم بالغفلة، وأن الرضا بالحياة الدنيا والاقتناع بها لا يكون إلا من غير المدركين المنتبهين لحقيقة الحياة وما بعدها.
وقد أكد سبحانه وتعالى غفلتهم بسبب انغماسهم في الأهواء والشهوات بالجملة الاسمية.
وفي ذلك أبلغ تأكيد لغفلتهم عن آيات الله الكونية والأحكام التكليفية فكفروا وفسقوا عن أمر ربهم، وقد حكم الله حكما صارما قاطعا فقال :﴿ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون٨ ﴾ فهذه الآية الكريمة في مقام خبر﴿ إن الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ وهي خبر( إن ) بمقتضى السياق، ويكون الخبر مؤكدا ب( إن ) ويتضمن اسمها ( أي اسم إن ) سبب الحكم وهو الخبر ؛ لأن اسم الموصول تضمنت صلته أنهم لم يتوقعوا لقاء الله فانهمكوا في الشهوات وقنعوا بالدنيا وغفلوا عن آيات الله، وكل ذلك تأكيد لسبب الحكم وهو أن يكون مأواهم النار.
وهنا نجد أسبابا تضافرت وأوجبت عقابهم :
أولا- اغتروا فلم يتوقعوا لقاء الله.
ثانيا- رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وهووا في اللذات مرتعا.
ثالثا- غفلوا عن آيات الله القرآنية الكونية والتكليفية.
وهذه أسباب متتابعة بعضها يتبع بعضا وكلها آثام، وقد قال تعالى :﴿ أولئك مأواهم النار ﴾ والإشارة إلى الأوصاف السابقة واستحضارها إشعار بأنها السبب في هذا الجزاء.
﴿ مأواهم النار ﴾ معناه المكان الذي يأوون وينتهون للإقامة فيه وكان القصد من المآوى الاستراحة لا العذاب.
وقد علل الله العقاب بقوله :﴿ بما كانوا يكسبون ﴾ والباء للجزاء والمقابلة بين ما فعلوا وما انتهوا إليه، والجمع بين الماضي في ﴿ كانوا ﴾ والمستقبل في ﴿ يكسبون ﴾ دليل على الدوام والاستمرار فكانوا في غي مستمر، وبعد أن بين سبحانه حال وجزاء الذين لا يرجون لقاءه ذكر في مقابله الذين آمنوا
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ٩دعواهم فيها سبحانك الله وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ١٠ ﴾( يونس ).
هذا جزاء الذين يرجون لقاء الله ويتوقعونه مستيقنين به ؛ لأنهم آمنوا فيخافون العذاب ويرجون الثواب﴿ يهديهم ربهم بإيمانهم ﴾ ذكر الله لهم جزاءين أولهما – أنهم بسبب الإيمان والعمل الصالح يهديهم ربهم إلى الحق دائما فلا تغمرهم الشهوات ولا يرتعون في المفاسد ؛ لأن الإيمان نور في قلب المؤمن، به لا يفكر إلا في الحق، ولا يقول إلا الحق، ولا يعمل إلا الحق وسيره بين الناس لا يكون إلا بالحق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم"١ ذلك أن النور يهدي فيزداد المؤمن بإيمانه إيمانا.
والعمل السيئ تظلم به النفس فتضل، تبدأ في طريق الضلالة وتنتهي إلى الضلال البعيد، وقال صلى الله عليه وسلم :" يتلقى المؤمن عمله في أحسن صورة فيؤنسه ويهديه، ويتلقى الكافر عمله في أقبح صورة فيوحشه ويضله"٢، وفي قوله تعالى :﴿ يهديهم ربهم بإيمانهم ﴾إشارتان :
أولاهما- أن ذلك من الربوبية فهو يربي نفوس المؤمنين بما يهيئها للخير والحق دائما، كما قال تعالى :﴿ ونفس ما سواها ٧ فألهمها فجورها وتقواها ٨ ﴾( الشمس )، فإذا ألهمت التقوى سارت في طريقها تبلغ غايته، وهذا أمر معنوي تطيب به النفوس المؤمنة وترضاه وتطمئن به.
ثانيتهما- جزاء مادي في اليوم الآخر، وهو روح وريحان﴿ تجري من تحتهم الأنهار ﴾ أي أنهم يدخلون الجنة تجري من تحتها الأنهار.
وهنا إشارتان بيانيتنا :
الأولى- أنه إذا كان ثمة جزاءان فإنه يعطف بينهما بالواو ولكن لا عطف، وذكر منفصلين فما حكمة ذلك ؟ نجيب قائلين : إن الانفصال هو الأولى ؛ لأن زيادة الإيمان في الدنيا وجريان الأنهار تحت الجنان في الآخرة. هو جزاء للأول وثمرة له فكان مقتضى ذلك أن يذكر منفصلا عنه، وتجري من تحتهم هو جريانها من تحت المستقر الذي استقروا عليه تعطيهم منظرا يسر الناظرين وتنعم به النفس والقلب والعين، وتكون الراحة الخالدة.
الثانية- أنه سبحانه قدم جريان الأنهار من تحتهم على جنة النعيم، للمبادرة بذكر المتعة النفسية والروحية، ولبيان أنها تحتهم هم، وذكر بعد ذلك أن هذا في جنات النعيم، أي في الجنات التي خصصت للنعيم أو هي النعيم ذاته، وفي قوله تعالى :﴿ يهديهم ربهم بإيمانهم ﴾ اقتصرت الهداية على أنها بالإيمان مع أنه ذكر الإيمان والعمل الصالح، فلماذا اختص الإيمان بالذكر هنا ؟ نقول عن ذلك أمرين :
أولهما – أن العمل الصالح ثمرة من ثمرات الإيمان الذي هو النور الهادي والمصباح المضيء فذكر الإيمان استتبع ذكر ما هو أثر له.
ثانيهما – أن الإيمان وحده هو الذي يهدي.
١ سبق تخريجه..
٢ ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج٨/٣١٢ بنحوه..
وبعد ذلك ذكر سبحانه نعيم الجنة المادي والنعيم الروحي وهو تسبيح وسلام وحمد لله رب العالمين، فقال تعالى :﴿ دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ١٠ ﴾.
الدعوى هي مصدر دعا- يدعو، كالشكوى، في شكا- يشكو. والدعوى في الدنيا طلب الحق والطلب من الله تعالى.
ودعاؤهم لله تعالى هو تقديسه وتسبيحه وتنزيهه ؛ لأنهم وصلوا إلى أقصى الغايات والمنى فلم يبق إلا أن يسبحوه ويقدسوه وينزهوه، و( اللهم ) : هو نداء لفظ الجلالة، أي سبحانه يا إله العالمين ويا رب هذا الوجود وخالقه.
﴿ وتحيتهم فيها سلام ﴾ أى ا من ودعة واطمئنان، وهذه التحية تتبادل بينهم بالأمن والسلام والاستقرار وتحية الملائكة المقربين لهم سلام، كما قال تعالى :﴿... والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ٢٣ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ٢٤ ﴾( الرعد )، وتحية من ربهم ورب هذا الوجود كما قال تعالى :﴿ سلام قولا من رب رحيم٥٨ ﴾( يس ).
فحياتهم في الجنة تقديس لله وتنزيه وتحيات مباركة وأمن دائم.
﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾ أي آخر دعائهم حمد لله سبحانه وتعالى ؛ لأن ما سبق نعم ؛ التقديس نعمة والتحيات نعمة وكلاهما يستحق الحمد. يقول الزمخشري :"أن" هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن.
ويقول البيضاوي : لعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله تعالى وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة بالسلامة من الآفات والفوز بأصناف الكرامات، فحمدوا الله وأثنوا عليه بصفات الإكرام. ابتدأوا بالتقديس وانتهوا بالحمد. فاللهم اجعلنا منهم وإن لم نعمل عملهم ولكنك غفور رحيم.
النفس الإنسانية في ضرائها وسرائها
قال تعالى : ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون١١ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ١٢ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وماكانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين١٣ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ١٤
في هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه وتعالى لطفه بعباده وإجابته لهم عند الاستغاثة به، وبيان الذين لا يرجون لقاء الله تعالى، وأنه أمهلهم ليتدبروا إن كان فيهم من يفقه ويدرك، وابتدأ سبحانه ببيان أنه يعجل الخير ولا يعجل الشر.
وفي قوله :﴿ ولو يعجل الله للناس الشر ﴾-"لو" هنا حرف امتناع فهي تتضمن النفي، ينفي الله أن يجعل وينفي سبحانه جواب الشرط أيضا وهو﴿ لقضي إليهم أجلهم ﴾ أي ينهي أجلهم لأنه سبحانه لا يستعجل الشر ولا يعجله كاستعجالهم للخير.
وليس الشر هنا ما يفسد أو يضر إنما يراد به ما يسوؤهم ولو كان عدلا وجزاء وفاقا لما يفعلون، والمعنى ولو كان الله يعجل لهم ما يسوؤهم ويهددهم به وينذر من عذاب أليم –كالرجفة أو ريح فيها عذاب أليم أو يجعل عالي الأرض سافلها أو يغرق كغرق قوم نوح- لانتهت آجالهم، وهذا معنى ﴿ لقضي إليهم ﴾، وكانت –إلى – بدل اللام للدلالة على أن قضاء الأجل هو إنهاؤه ويتحقق فيهم قوله تعالى :﴿ خلق الإنسان من عجل... ٣٧ ﴾( الأنبياء ) والخير الذي يستعجلون الله وأنفسهم فيه ليس هو الخير في ذاته ولكنه الخير لأنفسهم – سواء أكان حلالا أو كان حراما، وإن الله لا يعجل السيئة التي تسوؤهم أو النازلة التي تنزل بهم إملاء لهم، عسى أن يكون من ظهورهم من يعبد الله، ولذا قال سبحانه لمشركي العرب :
﴿.... سنستدرجهم من حيث لا يعلمون١٨٢ وأملي لهم إن كيدي متين١٨٣ ﴾( الأعراف ).
فالإهمال ليس إهمال ولكنه أولا : لتمكينهم من أن يعملوا صالحا إن أرادوا وثانيا : ليكون الجزاء الأوفى إذا استمروا في ضلالهم، وثالثا : ليعرفوا العبر.
وفي قوله :﴿ فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون ﴾ ( الفاء ) للإفصاح عن شرط مقدم، أي إذا كنا لم نعجل لهم العذاب الدنيوي- نذرهم في طغيانهم.
( نذرهم )، أي نتركهم لاهين عامين عن الحق وعن البعث غير مدركين، وعبر سبحانه بالموصول :﴿ الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ للإشارة إلى أن السبب في استمرار طغيانهم وتجاوزهم أنهم لا يتوقعون لقاء الله تعالى وتلقى الجزاء فيخافون، أو تلقى الثواب فلا يطغون، ولكن المناسب هنا هو جزاء الطغيان إذ هو المذكور.
والطغيان هو تجاوز الحد والاعتداء على الأشخاص فيسيرون وراء أهوائهم وشهواتهم وطغيانهم لا يقفون عند حد من الحدود فيرتكبون ما شاءت لهم أهواؤهم بعد أن جعلوا هواهم.
﴿ يعمهون ﴾ أي يتخبطون ويتحيرون، ومنشأ الحيرة أن فطرهم تدعوهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم ولكنهم يطمسونها بأهوائهم وملذاتهم وسلوكهم، فهم في حيرة نفسية، وإن من الحيرة إيمانهم بأن الله خالق كل شيء وأنه المستعان عند الشدائد، وهو إذا أغاثهم عادوا كما بدأوا، كما يقول تعالى :﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ١٢ ﴾
﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ١٢ ﴾
ذكرنا في مواضع كثيرة أن العرب كانوا يعرفون الله ولكن يشركون معه عبادة الأوثان، وغيرهم ما كان يعرف الله إلا مع ثلاثة، أو يعرفونه حالا في بعض خلقه، أو لا يعرفونه قط، فالعرب كانوا خيرا منهم إن كان في الشر خيار، فكانوا يعرفون أن الله وحده خالق الكون وأنه يلجأ إليه في الشدة، وأنه ليس مثله أحد من خلقه، ولكنهم يشركون في عبادته وبذلك ضلوا ضلالا بعيدا.
ومما يدل على التجائهم في الشدة الالتجاء إليه في المرض الذي لا يعرفون سببه وتعدد أحواله، كما تذكرنا الآية الكريمة ﴿ وإذا مس الإنسان الضر ﴾ وهنا بيان الحقيقة وكمالها، أي الضر الذي بلغ حدا لا يعرفون له علاجا ولا دواء، وأن الإنسان بإنسانيته المفطورة على الضعف يلجأ إلى ربه﴿ دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ﴾ واللام في﴿ لجنبه ﴾ بمعنى( على ) وهي حال كونه مضطجعا على جنبه أو ملقى على جنبه لا يستطيع حراكا لا يملك أن يقعد، ﴿ أو قاعدا ﴾ لا يستطيع أن يقوم﴿ أو قائما ﴾ لا يمشي كما اعتاد.
وتعدد هذه الأحوال للدلالة على أنه يدعو كلها لا في بعضها، وهذا دليل على شدة الالتجاء إلى الله وكثرة الالتجاء.
أو يدعو في كل أحوال الأمراض ومنها ما يلقيه في الأرض، أو مرض يقعد فيه ولا يستطيع غيره أو يقوم من غير قدرة على السير، والمراد في كل الأحوال كثرة الدعاء لله وذلك مثل قوله :﴿... وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض٥١ ﴾( فصلت ).
هذا حال الإنسان إذا مسه الضر فإذا كشف عنه الضر نسى ولم يفكر في حاله الذي كان عليه وضراعته إلى ربه وأنه الملجأ والملاذ ؛ نسى ذلك نسيانا تاما، وطغت عليه وعلى تفكيره حال الصحة ونسى الله ضعفه، وأنه لا يمكنه العيش دون رعاية الله وتدبيره، يقول سبحانه :﴿ فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ﴾ ( الفاء ) عاطفة حال كشف الضر على حال الضعف والالتجاء إلى الله، وهما حالان متباينان في ظاهرهما وإن كان متوافقين في الدلالة على ضعف الإنسان، كما قال تعالى :﴿... وخلق الإنسان ضعيفا٢٨ ﴾( النساء ) ولكن الغرور هو الذي يوهمه بالقوة ويطغيه.
﴿ فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ﴾( الفاء ) عاطفة جملة الاستجابة على جملة الاستغاثة والضراعة، والعطف يقتضي المغايرة، وكانت المغايرة بين حال الإنسان في ضعفه واستكانته وحال قوته وتمكنه، ففي الأولى ضراعة واستغاثة، وفي الثانية غرور واستهانة.
﴿ كشفنا عنه ضره ﴾، معناها أزلنا عنه حال الضر وكأنها كانت غشاء أخفي كفره فلما زال الغشاء عادت حقيقته كما كانت.
وقوله :﴿ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ﴾ فيه( أن ) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، أي كان الشأن أنه لم يدع الله إلى ضر مسه وذلك شأن اللئام من بني الإنسان، ينسى الإحسان في وقت القوة وكهؤلاء اللؤماء الكافرين في نفوسهم، كذلك قال الله تعالى :﴿ كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ﴾ أي كهذه الحال التي عليها المريض الضعيف الذي كشف الله تعالى عنه الضر فنسى في عافيته ما كان في مرضه، كهذه الحال زين للمسرفين ما كانوا يعملون، أي أنهم نسوا حال خلقهم وتكوينهم والإيمان بربهم وزين لهم الغرور والإسراف فيه ما كانوا حال فيه ما كانوا يعملونه من شرور وآثام وظلم للعباد وطغيان في أنفسهم، وإسرافهم في الشر يجترعونه اجتراعا، وعبر الله عن الجاحدين المنكرين الذين لا يرجون لقاءه بالمسرفين ؛ لأنهم أسرفوا على أنفسهم فاعتقدوا الباطل واعتقدوا أن الحياة الدنيا هي الوجود كله وأسرفوا على الناس فطغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد.
ويسوق الله العبر في آياته فلا يعتبرون ؛ لأنه قد زين لهم ما كانوا يعملون، أي ما استمروا على عمله ؛ لأنه بالجمع بين الماضي في﴿ كانوا ﴾، والمستقبل في ﴿ يعملون ﴾. يسوق الله تعالى العبر ولا معتبر ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين١٣ ﴾.
﴿ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين١٣ ﴾.
القرن : الجيل، والقرون : الأجيال، وليس هلاك هذه الأجيال إهلاكها كلها وإنما الإهلاك للمكذبين منهم، فأهلك قوم نوح وأبقى المؤمنين ولما أهلك عادا وثمودا، أبقى المؤمنين، وأهلك من قوم لوط المفسدين وأبقى المؤمنين وهكذا، وفي قوله تعالى :﴿ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم ﴾ إشارة إلى وجوب الاعتبار بهم، كما قال سبحانه :﴿ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين٦٩ ﴾( النمل ).
﴿ لما ظلموا ﴾ أي أن الهلاك كان عند ظلمهم وبسببه، وأن ظلمهم كان سببه الشرك وإن الشرك لظلم عظيم، حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرمه، وكانوا طغاة كفرعون وأمثاله، فطغوا في البلاد، وظلموا العباد، واستغلوا قوى الناس بغير مبرر إلا أهوائهم.
ظلموا الرسل بتكذيبهم- قال تعالى :﴿ وجاءتهم رسلهم بالبينات ﴾ أي بالمعجزات الواضحة الدالة على الرسالة الإلهية التي حملوها فما طغى المجرمون عن غير بينة :﴿... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا١٥ ﴾( الإسراء )، ﴿.... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير٢٤ ﴾( فاطر ).
تكاثفت ظلماتهم وتوالي شرهم وفسدت نفوسهم حتى اسودت وما عاد للحق فيها موضع، فبين سبحانه أنه لا إيمان لهم بعد أن أظلمت قلوبهم، قال تعالى :﴿ وما كانوا ليؤمنوا ﴾ أي ما استقام لهم ليؤمنوا، و( اللام ) هي التي تسمى بلام الجحود، ولا يستقيم لهم الإيمان لاسوداد قلوبهم وطمس نورها فلا يدخلها نور الحق، فهي في ظلمات دائمة مستمرة﴿ كذلك نجزي القوم المجرمين ﴾، أي كهذا الجزاء الذي جزيناهم به من الهلاك الذي نزل بهم وكطمس قلوبهم فلا يؤمنوا نجزي المعاندين، وقد وصفهم سبحانه وتعالى بالإجرام وأن ذلك هو الذي أدى إلى هلاكهم، وإجرامهم كان في كفرهم وطغيانهم وفسادهم في الأرض وهذه عبرة ساقها القرآن لمن يعتبر،
وخاطب بها المشركين الذين يعبدون الأوثان ليعتبروا فقال تعالى :﴿ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ١٤ ﴾.
﴿ ثم ﴾ هنا لمعناها من الترتيب والتراخي، وأن التراخي فيها يدل على تعدد الأجيال وكثرتها وما تركته من عبر وآثار تدل على عاقبة أمرهم، وهم على مقربة منهم يسيرون في أرضهم، و﴿ خلائف ﴾ جمع خليفة وهم الذين يسكنون في مساكنهم كما قال تعالى :
﴿ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال٤٥ ﴾( إبراهيم ).
إن هذه الخلافة في الأرض التي فيها العبر والرسوم الدالة على مآل الذين ظلموا فيها وقاوموا الأنبياء وكذبوهم، وهي كافية لاعتبارهم واهتدائهم إن غلبت عليهم الهداية، أو ضلالهم إن غلبت عليهم الشقوة ؛ ولذا قال تعالى :﴿ لننظر كيف تعملون ﴾، ( اللام ) للتعليل أو الغاية، وهي هنا للغاية، وضمير المتكلم وهو الله ذى الجلال والإكرام، والنظر من الله تعالى لأمور أنها واقعة لا أنها متوقعة، فهو يعلم الأمور كلها ما حضر وما غاب وما كان وما يكون، والنظر هنا إلى ما هو واقع أهو الهداية أو الاهتداء أو هو الضلالة والابتعاد ؟، و( كيف ) استفهام عن حالهم وواقعهم هدى أو ضلال.
القرآن معجزة الله الكبرى طلبوا غيره
قال تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحي إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ١٥ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم وما أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون١٦ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياتنا إنه لا يفلح المجرمون١٧ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون١٨
المعجزة الكبرى والحجة الباقية الخالدة إلى يوم القيامة، ما كانت عظمتها في أنها تقرع الحس قرعا لتنقضي بانقضاء عهدها كالمعجزات الحسية للأنبياء، والتي انتهت بانتهاء وقتها، وإنما عظمة هذه المعجزة الكبرى في خلودها، فيجيء الناس خلقا بعد خلق، وجيلا بعد جيل، وهي قائمة باقية بقاء النبوة المحمدية، تحاج الجاحدين لها في كل العصور ؛ لأنها معجزة خاتم النبيين الذي لا نبي بعده حتى يوم الدين. وإن المشركين يتبرأون في إشراكهم بإنكار نبوة رسولهم، فكان لا بد من أن ينكروا رسالة محمد ليسوغوا كفرهم وعنادهم، مع أن الله تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، ثم جاءوا يجادلون في أمره وكانوا قوما خصمين ؛ يجادلون في كل شيء حتى القرآن بل يجادلون في الله وهو شديد المحال.
جادلوا في القرآن وقد عجزوا عن أن يأتوا بمثله فقال تعالى عن ذلك :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ﴾ والذين يجادلون في الآيات هم الذين لا يتوقعون لقاء الله أي يكفرون بالبعث والنشور ويقولون :﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ٣٧ ﴾( المؤمنون )، وفي هذا إشارة إلى أن فيصل التفرقة بين الإيمان والكفر هو الإيمان بالغيب. والإيمان بالبعث والنشور، فإن الذين لا يؤمنون بالغيب لا يؤمنون بالله ؛ لأن الله سبحانه لا نراه إنما هو القوة التي أنشأت الوجود وسيطرت عليه جل جلاله، فمن لم يؤمن بالغيب لا يؤمن بالله العلي القدير، ومن لا يؤمن باليوم الآخر لا يمكنه الإيمان بالتكليف الإلهي ؛ لأن الجزاء على ما يعمل الإنسان، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فهو يحسب أن الله ترك الإنسان سدي، يموت ويحيى من غير تبعات يتحملها، ولا غاية يرجوها، بل يأكل ويشرب كالأنعام بل أضل سبيلا، فأساس الهداية الإيمان باليوم الآخر والحساب والثواب والعقاب، يقول تعالى :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ﴾ الآيات البينات القرآن، وتلاوته مرتلا قال تعالى :﴿ كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا٣٢ ﴾( الفرقان ).
فالتلاوة قراءة القرآن كما أقرأ جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فالقرآن محفوظ بذاته وروايته وترتيله عن الله تعالى ومتواترة بلفظه وقراءته، وإن المشركين الذين لا يرجون لقاء الله مع تحديهم وعجزهم عن أن يأتوا بمثله، يقولون كافرين متدللين : ائت بقرآن غير هذا، وفي قولهم هذا لا يحتجون على أن المعجزة قرآن يتلى، وإنما يطلبون غيره من غير حكمة يقدرونها، ولا أمر يتعلق بالقرآن يريدون خلافه، كأنهم لا يريدون تكليفاته ولا يريدون ما فيه من محاربة عقائدهم وشركهم، وهل إذ جاء غيره لن يكفروا به أيضا، وإن هؤلاء المشركين حسبوا أن محمدا هو الذي أتى بهذا القرآن أو ادعوا ذلك، مع أن بلغاؤهم المتمرسين بالبيان قالوا : إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلوا ولا يعلى عليه ما يقول هذا بشر، ومع هذا طالبوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأتي بغيره أو يبدله، فإن جاء لامته الحجة بأنه ليس من عند الله بل هو من عنده، وقولهم : ائت بقرآن غير هذا أو بدله } ففي التغيير تسليم بأن المعجزة تكون قرآنا ولكن يريدون غيره، أما التبديل فهو يكون بإتيان معجزة عدا القرآن كعصا موسى، أو إبراء الأكمة والأبرص أو إحياء الموتى بإذن الله لعيسى أو غير ذلك من المعجزات الحسية... وقد طلبوها كما قال تعالى :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ٩٠ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ٩١ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا٩٢ أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا٩٣ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا٩٤ ﴾( الإسراء ).
هذا فيما نحسب هو التبديل الذي أرادوه بأن يستبدل المعجزة القرآنية بمعجزة حسية مادية لأنهم لا يؤمنون، ولقد رد عليهم النبي يقول الله تعالى :﴿ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ وهذا الرد كان على التبديل ؛ ولذلك نقول : أن الجواب أحد أمرين :
الأمر الأول – أن يكون إغفالا لطلب الإتيان بقرآن غير هذا باعتباره كلاما عابثا ؛ إذ ما داموا قد سلموا بالمعجزة القرآنية، فلا فرق بين قرآن وقرآن، ما داموا قد عجزوا عن الإتيان بمثله.
ثاني الأمرين- الذي يحتمل أن يكون فيه الجواب، أن التبديل للمعجزة يشمل تغيير القرآن والإتيان بمعجزة أخرى فكان الرد على التبديل شاملا الاعتراضين، وفي رد النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ﴾ أي ليس لي أن أختار المعجزة من تلقاء نفسي إنما الاختيار لله سبحانه وتعالى ؛ ولذا قصر عمل الرسالة على اتباع ما يوحي الله به فقال لما أمره ربه :﴿ إن أتبع إلى ما يوحى إلي ﴾( إن ) نافية أي : لا أتبع إلى ما يوحى إلي، وما يجئ من ربي فهذه المعجزة قدرها سبحانه لا أخالفه ولا أعصيه، ليس لي ولا لأحد أن يعترض عليها ما دامت مثبتة للرسالة وما داموا عاجزين عن الإتيان بمثلها، وإن في ذلك العصيان وعاقبته، وبهذا قال صلى الله عليه وسلم كأمر ربه :﴿ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ﴾وفي هذا إنذار لعصيانهم واعتراضهم.
﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ١٦ ﴾ وفي هذا تأكيد أنه من عند الله تعالى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبدله من تلقاء نفسه وإنما الذي يبدله هو الله تعالى كقوله :﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ﴾ مفعول المشيئة محذوف دل عليه ما بعده- أي لو شاء الله تعالى ألا أتلوه ما تلوته، وذكر قوله تعالى :﴿ عليكم ﴾ للإشارة إلى أنهم المقصودون بالتلاوة ليدركوا مغزاها وما فيها من إعجاز وتكليف، ثم قال تعالى : ولا أدراكم } أدراكم أفعل من ( درى ) بمعنى علم، أي : ولا أعلمكم به، ولكنه اختار تلك الحجة لكم لبلاغة كلامها الذي يبقى مسجلا تتلقاه الأجيال جيلا بعد جيل إلى يوم الدين، فالمعجزات الحسية واقعات تنتهي بانتهاء زمانها، أما هذا الكتاب فباق إلى يوم القيامة ؛ لأنه معجزة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم الذي يقول :" ما من نبي إلا أوتى ما مثله آمن عليه البشر وإن ما أوتيته وحيا أوحى إلي وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"١﴿ ولا أدراكم ﴾ قرأه ابن كثير بلام التوكيد وليس بلا النافية، فيكون المعنى ولو شاء لأعلمكم به وجعلكم تؤمنون بصدقه، والواو عاطفة على نية تكرار الفاعل ثم بين سبحانه صفات النبي صلى الله عليه وسلم في الصدق والأمانة وشرف النفس مما يوجب تصديقه فقال تعالى :﴿ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ﴾ أميا صادقا لا أقول شعرا، ولا كنت خطيبا فيكم، ولقد علمتم قولي وكيف اختلف عما أتلوه عليكم، وقد كنت وإياكم في بلد أمي لا علم فيه ولا درس، لم أمارس علما أو ألق عالما، ثم قرأت عليكم كتابا أعجزكم بيانه وفصاحته وما فيه من علم غزير بالحلال والحرام والأخبار الصادقة، وقصص فيها العبرة لمن يعتبر، هكذا كان عمري فيكم قبل البعث.
﴿ أفلا تعقلون ﴾ أفلا توازنون بين الحاضر، وبين ماض لا يتفق وما جئتكم به.
وإن توجيههم إلى الماضي النبوي الكريم يدل على أمرين :
أولهما – أنه صادق شريف ينبغي الإيمان بقوله، وأنه لا يدعي باطلا وأولى به ألا يكذب على الله إذ كان لم يكذب قط قبل.
ثانيهما- أنهم عرفوا كلامه وأنه كان بليغا، وأنه لم يقرض شعرا، ولم يرق منيرا، فهذا الذي يتلى ليس من نوع كلامه ولا يمكن أن يكون من كلام أحد.
وقوله تعالى :﴿ أفلا تعقلون ﴾( الفاء ) متأخرة عن تقديم، مترتبة على ما قبلها وأخرت لمكان الاستفهام من الصدارة، والاستفهام إنكاري بمعنى نفي الوقوع، داخل على نفى، وهو ( لا ) ونفي النفي إثبات، فهو تحريض على التفكير والتدبر وألا يركب الشيطان رءوسهم فيهملوا عقولهم ويكونوا قوما بورا.
وهكذا كل من أهمل القرآن وتركه يريد معجزة أخرى :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون٢١ ﴾( الحشر ).
١ سبق تخريجه..
ثم أشار سبحانه إلى ظلم من كذب على الله أو كذب بآياته فقال تعالى :﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون١٧ ﴾.
"الفاء" للإفصاح عن شرط مقدر، تقديره : إذا كان من عندي كما تدعون وكما تفترون، ﴿ فمن أظلم ﴾ والاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا بأنه من عند الله وما هو من عند الله، وهنا يبين سبحانه أن نبيه لا يمكن أن يكذب على الله ؛ لأن ذلك أشد الظلم وأقبحه، وأن الله لا يختار لنبوته كذابا كقوله تعالى :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل مثل ما انزل الله... ٩٣ ﴾( الأنعام ).
ويكون النص على هذا إثبات أن القرآن الذي تلاه عليهم هو من عند الله ؛ لأنه ليس بظالم، فضلا عن أن يكون أظلم الناس، إذ هو الصادق الأمين الذي عرفتموه، وهو تنديد بالمشركين ؛ فهم أظلم الناس ؛ لأنهم افتروا على الله تعالى إذ أشركوا به غيره، وأي افتراء أكبر من ذلك، ثم هم قد سفهوا النبي صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه الكذب.
وقد بين سبحانه شعبة أخرى من ظلم المشركين الذي لا يماثله ظلم، وهو تكذيب القرآن الكريم وإنكار نسبته إلى الله تعالى، وكذبوا الدلائل الواضحات في الخلق والتكوين فأشركوا بالله ؛ لأن هذه الآيات الكونية تدل على أن الله واحد أحد ليس له ولد ولم يكن له كفوا أحد.
﴿ إنه لا يفلح المجرمون ﴾ الضمير هو ضمير الشأن، أي أن الحال والشأن أنه لا يفلح أي لا يفوز ولا ينجح، وقد أكد نفي فلاحهم : أولا : بالجملة الاسمية، ثانيا : ب( إن ) الدالة على التأكيد، ثالثا- أنه وصفهم بالإجرام وهو الشرك وكسب الفساد.
ولقد بين الله تعالى جرمهم الأكبر وهو الشرك فقال سبحانه :﴿ و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم و يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ١٨ ﴾.
"الواو" واصلة ما بعدها بما قبلها، والضمير في ﴿ يعبدون ﴾ يعود إلى المشركين، والذين لا يرجون لقاء الله، وينكرون البعث والنشور، ويحسبون أنهم خلقوا عبثا وأنهم إلى الله لا يرجعون، جعلهم ذلك الإنكار يسيرون في متاهات من الضلال تكاثف بعضها فوق بعض، فينقلبون في دركات الضلال دركة بعد دركة حتى ينتهوا إلى الشرك وهو الضلال.
﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ﴾، ﴿ من ﴾ بيانية، أي أن معبودهم غير الله تعالى الخالق لكل شيء مالك كل شيئ الذي يدعونه مستغيثين في الشدائد ولا يلجأون إلى غيره فيما يروعهم في السماء والأرض، وأنهم يستبدلون بعبادته حجرا لا يضر ولا ينفع، لا يضرهم فيخافوا أذاه، ولا ينفعهم فيعبدوه رجاء خيره ونفعه.
( لا ) في قوله تعالى :﴿ ولا ينفعهم ﴾ لتأكيد النفي السابق، فالعبادة تكون رهبة من الضرر أو رجاء للنفع، وهؤلاء ضلوا ضلالا بعيدا فعبدوا ما لا يخاف ولا يرجى.
وهكذا ركبهم الوهم والشرك كله أوهام في أوهام، ليس لهم عقل مدرك ولا بصيرة تميز الحق من الباطل، وهم في عمى وغفلة عن الحقائق، وإن الديانات التي تقوم على الأوهام كالنصرانية الحديثة تقوم على أوهام ليس لها منطق عقلي يدركها.
ولقد زينت لهم الأوهام عبادة الأحجار، ثم زينت لهم أمرا آخر هو ظنهم أن لها شفاعة عند الله، وهذا جمع غريب بين الشرك وبين العلم بأن الله وحده الخالق، هم يزعمون أن الأوثان تقربهم إلى الله، ويبين سبحانه قوله :﴿.... ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى... ٣ ﴾( الزمر ).
يرد سبحانه وتعالى :﴿ أتنبئون الله بما لا يعلم ما في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾.
الاستفهام هنا للتقريع واللوم والتهكم، ﴿ أتنبئون ﴾ "أتخبرون" الله بما لا يعلم له أصلا في السموات ولا في الأرض، فالشفاعة علاقة بين المشفوع والشفيع، فإذا كانت حقيقية فلا بد أن يعلم المشفوع بها.
﴿.... وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد٣٣ ﴾( الرعد ).
﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ أي تقدس وتنزه وتعالى عما يشركون.
الناس أمة واحدة
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ١٩ ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين ٢٠ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ٢١ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجينا من هذه لنكونن من الشاكرين٢٢ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ٢٣
ذكر سبحانه الفطرة الإنسانية واتحاد الناس فيها، كما أن انبثاق الاختلاف كان من أصل الوحدة في التكوين، ﴿ وما كان الناس إلا أمة واحدة ﴾.
﴿ كان ﴾ هنا بمعنى "وجد" أي ما وجد الناس إلا أمة واحدة، أي واحدة في كل منازعها وغرائزها وكيانها الإنساني، فحب النفس واحد وحب السلطان والغلب وهذه المنازع في النفوس من شأنها أن تتغالب، وإذا تغالبت بين الآحاد اختلفت فكان الاختلاف في أصل الوحدة.
إن الوحدة في الطبائع أوجدت الاختلاف في المنازع ؛ ولذلك ترتب الاختلاف على أصل الوحدة.
فوحدة الإنسانية ليست كوحدة الملائكة- وحدة الطاعة- لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإنما وحدة الإنسانية هي وحدة الطبائع التي يمتد بعضها إلى أصلها الحيواني، ولذا رتب الله سبحانه وتعالى الاختلاف على الوحدة ﴿ فاخلفوا ﴾ ( الفاء ) عاطفة لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فالغرائز تتناحر فمن يغلب عقله على هواه يهتدي، ومن غلب لذاته عبدا لشهواته فيضل ويشقى، فمن الناس من يغالب للشر ويقاوم الخير فيفتري، ومنهم من يناصر الحق ويدفع الاعتداء فيهتدي.
إن الله تعالى هو الذي يحكم وهو خير الفاصلين، ولكنه أخر قضاءه الذي يقضي به في الدنيا، إلا إذا طم الشر وبغي وخشي على الحق من سطوته فيمنعه كما حدث لقوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ﴾.
﴿ لولا ﴾ حرف امتناع لوجود، أي امتنع قضاء الله، أي حكمه فيما بينهم ﴿ لولا كلمة سبقت ﴾، وكلمة الله السابقة وهي التأجيل ليوم الحساب وتركهم في الدنيا- دار البلاء والاختبار- ليصل كل إلى أقصى ما تتأدى به نزوعه، فيكون حكمه بعد الأعمال كلها، ويفتح الله باب الرجوع إليه سبحانه فإنه تواب رحيم وما داموا في الدنيا فباب التوبة مفتوح إنه هو التواب الرحيم.
وأحد منازع الشر عند الضالين أنهم لا يؤمنون بالحق إذ جاءهم ؛ ولذلك لا يؤمنون بإعجاز القرآن وإن بدا الحق فيه، ولما عجزوا إذ تحداهم الله أن يأتوا بسورة من مثله طلب آية أخرى غيره
﴿ ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين ٢٠ ﴾
أرادوا إعنات الرسول صلى الله عليه وسلم مع قيام الحجة ووضوح الدليل وقد لبث فيهم صلى الله عليه وسلم عمرا طويلا، أمينا صادقا عاقلا رزينا، حكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ومع هذا طلبوا آية أخرى غير القرآن.
وإذا ذكر لهم قصص أمم أهلكها الله إذ كفروا وبغوا على أنبيائهم تحدوا الرسول وطلبوا آية تهلكهم كما هلك عاد وثمود وقوم تبع وقوم نوح.
﴿ ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه ﴾ – آية حسية أو آية مهلكة- التعبير بالمضارع يفيد تكرارهم ذلك القول آنا بعد آن، وهو الموقف السلبي لمن يريد جعل الوقت في صالحه فالمحاورة مستمرة وطلب الدليل بعد الدليل يحسبون أنهم بذلك قد فازوا بالوقت.
﴿ لولا ﴾ بمعنى "هلا" للتحضيض، كأن الحجة التي ساقها النبي غير كافية وكأنهم يتحدونه صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم مثل ما نزل بغيرهم ممن قص قصصهم، فالمطلوب إذن آية حسية تقنعهم- في زعمهم- أو تهلكهم.
ومعنى إنزالها –إتيانها- تشبيها بالقرآن إذ نزل على قلبه الأمين، ولكن المعجزات الحسية قد جاءت للأنبياء السابقين وكذبوا، فما الجدوى من التغيير ؟ يقول تعالى :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون.... ٥٩ ﴾( الإسراء ).
﴿ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ٩٦ ولو جاءتهم كل آية.... ٩٧ ﴾( يونس ).
﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين٧ ﴾( الأنعام ).
إنهم كانوا ليستعجلون العذاب الذي نزل بالمكذبين قبلهم مبالغة في التحدي والإعنات، بل طلبوا الآية المهلكة.
يقول تعالى :﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ٦ ﴾( الرعد ).
وقد أجابهم صلى الله عليه وسلم بأمر ربه :﴿ فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين ﴾.
"الفاء" تدل على أن ما بعدها مترتب على قولهم الذي قالوه :﴿ فقل إنما الغيب ﴾ أي إن ما تطلبون معجزة كان أم هلاكا هو أمر يغيب عني ومفوض لربكم ؛ ولذلك جاءت العبارة القرآنية مصدرة ب"إنما" الدالة على القصر، وفي هذا إشعار بأمرين :
أولهما : أن المعجزة الكبرى ( القرآن ) هي من عند الله اختارها لكم في غيبه المكنون، وأنه أمهلكم لا ينزل عليكم الآيات المهلكة لحكمة يعلمها ؛ لأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم تخاطب الأجيال كلها، وعسى أن يخرج من أصلابكم من يعبد الله.
ثانيهما : أن محمد صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وهو بشر مثلكم بعث فيكم رسولا منكم ؛ ولذا يقول سبحانه :﴿ فانتظروا إني معكم من المنتظرين ﴾.
"الفاء" للدلالة على أن ما بعدها مترتب على ما قبلها ؛ لأنه إذا كان علم الغيب عند الله تعالى وحده فإنه صلى الله عليه وسلم عليه انتظار ما غيب عنهم.
كما أن قوله هذا سبحانه وتعالى يومئ إلى المساواة بينهم وبين رسوله صلى الله عليه وسلم في علم الغيب، وأكد هذه المعية إدماجه صلى الله عليه وسلم في المنتظرين وأنه معهم.
ليس في ذلك تصغير لمقام النبوة، ولكنه بيان لمنزلة النبي البشر، وتأكيد بأنه يتكلم عن الله سبحانه.
ثم يبين سبحانه الطبيعة الإنسانية التي تخرج عن الفطرة، تمسها الضراء فتهن، وتذوق النعماء فتبطر، وينسيها الترف ما كان في ضرائها. يقول تعالى :﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون٢١ ﴾.
وتلك هي الطبيعة الإنسانية غير الصابرة، تذوق النعمة فتبطر معيشتها، وتمسها الضراء فإذا بها في ضعف وخور ويأس، تلجأ إلى الله فإذا أذاقها الرحمة عادت إلى طغوائها.
الضراء : هي الضرر فقد تكون مرضا يصيب الجسم أو جوعا وقحطا، فالضراء هنا تشمل السقام وتشمل القلة في الطعام والرزق، وقد أصاب قريش القحط سبع سنين دأبا حتى جاءهم الغيث فكان رحمة بهم بعد القحط وقلة الغذاء، وقد عبر سبحانه بالإذاقة في قوله تعالى :﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء ﴾ للإشارة إلى التمكن من الرحمة والدلالة على أنهم تمتعوا بعد الحرمان.
﴿ رحمة ﴾ هذا تأكيد على أن الرحمة مصدرها الله تعالى، إشارة إلى وجوب اختصاصه بالعبادة وحده ؛ لأن الرحمة كانت ولم تكن من غيره مما سموه واتخذوه أنداد لله تعالى.
﴿ إذا لهم مكر في آياتنا ﴾ هذا جواب الشرط ﴿ إذا أدقنا ﴾ وصدر الجواب ب﴿ إذا ﴾ التي هي للفجاءة، ودلالتها في هذا المقام أنهم بأسائهم كان ينخفض وراء خضوعهم الظاهر جحود قد استنبطوه، سترته الشدة وكشفته الرحمة، فظهر مكنون نفوسهم وهو مكرهم في آياتنا، يقولون إنها سحر مبين أو بهتان وإفك، أو يقولون : إنما يعلمه بشر، والله راد كيدهم بتدبيره الحكيم. ﴿ مكر ﴾ المكر هو الكيد الخفي، وقد قال سبحانه :﴿ قل الله أسرع مكرا ﴾ فإذا بدا المكر السيئ الذي أخفته الضراء، فإن تدبير الله ورده عليهم أقوى وأحد.
ثم يبين سبحانه علمه بما يبدون وما يخفون وما يسرون ويعلنون، فقال سبحانه﴿ إن رسلنا يكتبنا ما تمكرون ﴾ وهم الكرام الحفظة الكاتبون من الملائكة. وفي هذا إشارة إلى دقة ما يعلمه عنهم، وإلى أن ما يدبرون يعلمه- سبحانه وتعالى – في وقته فيكتبه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى حال الإنسان في ضعفه، وكيف يلجأ إلى ربه مخلصا واعدا بالشكر وعدا مؤكدا فإذا خرج من شدته كفر أو ظل على كفره، فقال تعالى :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ٢٢ ﴾.
صورة للنفس الكافرة تصيبها الشديدة ويحيط بها ما تكره فتذعن وتخلص وتلجأ إلى قوة الله تعالى خالق كل شيء واعدة وعدا مؤكدا بالشكر إذا نجت، فإذا نجاهم عادوا كما بدأوا كافرين.
﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر ﴾الضمير يعود على الله جل جلاله الذي أوجد لهم القوى التي يسيرون بها في البر والبحر، وبسط لهم الأرض، وسخر لهم ما يركبون في البر والبحر، وقد نسب التسيير إلى نفسه ؛ لأنه سبحانه خالق الأسباب والمسببات، وممهد المهاد إنه القاهر فوق عباده وعلى كل شيء قدير.
بعد ذلك سبحانه هول البحار بالنسبة للصحراء، وقد كان العرب يعدون البحر مركب الأهوال، وكانوا يخافونه لأنهم لم يألفوه، والذين عرفوه وألفوه كانوا يتعرضون لمخاطره وشدائده ؛ ولذا خصه سبحانه وتعالى بالذكر﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها ﴾.
﴿ حتى ﴾جاءت كناية للإشارة إلى خوفهم ركوب الفلك، أي حتى إذا أقدمتم مع خوفكم وركبتم الفلك، والفلك تكون جمعا أو مفردا وهي هنا جمع بدليل﴿ جرين ﴾ فإن الضمير يعود على الجمع ما لا يعقل مثل بهن فلول من قراع الكتائب.
والخطاب إلى الغيبة ؛لكي يتمكنوا من رؤية العبرة كأنها في غيرهم وليست فيهم، وقوله تعالى :﴿ بريح طيبة وفرحوا بها ﴾ طيبة أي رخاء لينة وكأنها متعة للمسافرين في البحار، فرأوا في البحر غير ما توقعوه وخافوه، ثم لم يلبثوا حتى جاءهم ما يرهبون.
﴿ جاءتها ريح عاصف ﴾ –الضمير يعود إلى الريح الطيبة – المعنى أن الريح الطيبة أعقبتها ريح عاصف بصريرها واضطراب البحر، وجاءهم الموج من كل مكان يرتفع كالجبال متراكما بالأذى وصاروا في ظلمات، كقوله تعالى :﴿ أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض... ٤٠ ﴾( النور ).
فالسماء فوقهم معتمة والأمواج حولهم متراكمة، لا منجاة لهم، وظنوا أنهم قد أحيط بهم، والظن هنا بمعنى العلم بما هو مخوف مرهوب، وهو علم يتوهمون معه أملا في منجاة –﴿ أحيط بهم ﴾ كناية عن الهلاك وفي ظنهم بأنه لا منجاة، دعو الله مخلصين له الدين، أي اتجهوا إليه بالطاعة والتأليه والعبادة، وقد أخلصوا وخلصوا نفوسهم من الشرك، وقالوا :﴿ ليئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ أكدوا وعدهم لله تعالى بالقسم الذي تدل عليه – اللام- الأولى الموطئة للقسم واللام الثانية في الجواب ونون التوكيد الثقيلة﴿ لنكونن ﴾ وأكدوا بدخولهم صفوف المؤمنين الشاكرين، والشكر هنا هو الطاعة لله وإخلاص العبادة والخضوع له وحده.
﴿ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ٢٣ ﴾.
لكن الإنسان ما أكفره ! إنه كان في حال ضعفه وقد أحيط به يتضرع إلى ربه طائعا خاضعا، فإذا خرج من شدته طغى وبغى ونسى ضراعته، وكان شديدا على الناس وهو الضعيف البادي ضعفه.
﴿ فلما أنجاهم ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه بعد الشكر والذي أقسموا عليه إذا نجاهم بطاعته والقيام بالعمل الصالح، إذا هم يبغون.
﴿ إذا ﴾ المفاجئة تدل على أمرين :
أولهما – سرعة البغي كأنه مستكن في صدورهم لم قد تدحضه الشدة ؛ لأن معدنهم خبيث لم يتأثر إلا في ظاهر الأمر حال ضعفهم ثم يستولي عليهم غرورهم كما كانوا.
ثانيهما – أنها تدل على نقيض ما كان ينبغي أن يكون منهم إذ كان قسمهم يوجب عليهم أن يكونوا بعد النجاة طائعين مدركين قدرة الله وسلطانه، وأنه قادر على ردهم إليه كما كان قادرا على إغاثتهم في كربهم.
( البغي ) هو الخروج عن الجادة وسلوك طريق الفساد، فيشمل كل المعاصي من زنى وخمر وشرك واعتداء على الآحاد والجماعات والسعي في الأرض، فيشمل فساد النفوس في الاعتداء والعمل كقوله تعالى :﴿ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ﴾ وذكر الأرض يؤكد أن هذا البغي فساد يعم الأرض ويشمل كل ما فيها من اعتداء على الآحاد واقتراف المعاصي والسعي بين الناس وارتكاب كل ما يكون من تخريب وهدم للقائم.
وفي قوله تعالى :﴿ بغير الحق ﴾ بيان أنهم لم يكن لهم مبرر فيما يعملون أيا كان هذا الذي يزعمونه مبررا، وإظهار لحقيقة البغي وأنه لا يمكن أن يكون له مسوغ، وعلينا هنا أن نفرق بين القصاص والبغي، فلا يصح القول بأن ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم مع بني النضير وقريظة بغيا، إنما هو قصاص لشرهم ولا يكون القصاص بغيا لكن رد لاعتدائهم المنكر، ولا يصح أن يقال عن رد الاعتداء المتكرر والخيانة بغيا، إنما هو العدالة الحقيقية في هذه الأرض﴿ يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ﴾ اتجه سبحانه وتعالى إلى مخاطبة الباغين فكان الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتنبيه الشديد بالمواجهة والتصدي لبيان شرهم، وكان النداء﴿ يا أيها الناس ﴾ لكمال هذا التنبيه الزاجر وللردع ولبيان سوء العاقبة ﴿ إنما بغيكم على أنفسكم ﴾ أي أن البغي على أنفسكم وحدكم لا يتجاوزكم إلى غيركم، ذلكم أنكم إن أشعتم البغي فيما بينكم عم الفساد فيكم ولم تكن منكم جماعة فاضلة ذات حقوق وواجبات بل جماعة متحللة متقاطعة متدابرة تعمها الرذيلة ويسودها الشر يتجرد فيها الإنسان عن إنسانيته والمرء عن مروءته وفوق ذلك عقوبة يوم الدين.
﴿ بغيكم على أنفسكم ﴾ مبتدأ وخبر، وفي قوله﴿ متاع الحياة ﴾ إن البغي تتمتعون به متاع الحياة الدنيا، هذا بالنصب على قراءة حفص، وفي قراءة الرفع يكون المعنى أن البغي هو متاع الحياة الدنيا١.
وفي النص الكريم أن متاع الحياة الدنيا دون الآخرة هو البغي الدائم المستمر، فيه يأكل القوي الضعيف والمرذول الكريم، ويتصارع الناس كوحوش الغابة ثم يكون الرجوع إلى الله تعالى فينال كل امرئ ما كسب.
﴿ ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ﴾، ﴿ ثم ﴾ تفيد الترتيب والتراخي، لاستطالتهم الحياة الدنيا وكثرة فسادهم وهنا إشارات بيانية :
أولها : تقديم الجار والمجرور على ﴿ مرجعكم ﴾ فهذا يفيد التخصيص، أي إلينا وحدنا مآلكم ومرجعكم.
ثانيها : إضافة مآلهم إلى الذات العليا ففيه تهديد أي تهديد، ومؤداه إن كنتم قد كذبتم في قسمكم في الدنيا فحسابكم على ذلكم عندنا في الآخرة وهي أبقى وأدوم.
ثالثهما : بيان أن العقاب من جنس العمل وأن كل عمل يحمل في ذاته عقابه في الآخرة ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ فننبئكم بما كنتم تعملون ﴾ والإنباء هو الإخبار بالأمر الخطير الشأن، وكان الإنباء بالعمل مقرونا بالعقاب الشديد من الله سبحانه وتعالى، وقد تكلم الزمخشري في هذا المكان عن الظلم ومرتعه، فقد عاش مثل زماننا، وقد تعاقبت عهود الظلم على المسلمين حتى صار أمرهم بورا، وذكر- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم شدد في النهي عن المكر والبغي والنكوث وأنه صلى الله عليه وسلم قال :" أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة، وأنه اثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين"٢.
وكان المأمور يتمثل بهذين البيتين :
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة فارتع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغي جبل يوما على جبل لاندك أعلاه وأسفله
وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه : البغي والنكث والمكر.
إذا كان البغي هو متاع الدنيا للباغين، فقد بين سبحانه أنه متاع الدنيا ينتهي إلى حطام وأن متاع الآخرة إلى دوام.
قال تعالى :
١ (متاع) بالنصب: حفص، وقرأ الباقون برفع العين. غاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار: ج٢/٥١٥. التوعية الإسلامية..
٢ تاريخ الطبري، عن أبي بكرة رضي الله عنه، وبنحوه الترمذي وابن ماجه، وكذا أيو يعلى عن عائشة رضي الله عنهما. وانظر ما جاء في فيض القدير: ج١/٢٩٩..
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون٢٤ والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ٢٥ * للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ٢٦
شغلتهم الدنيا عن الآخرة وزينت لهم فحسبوا أنها الحياة وحدها وأنه لا آخرة بعدها، فأنكروا البعث والحساب، وكان هذا ذريعة لأن ينكروا كل مغيب فكفروا ؛ ولذلك يبين الله تعالى لهم أن الدنيا متاع قليل بزينتها وزخرفها وأنها تذهب عندما يظنون أنهم قادرون عليها فتزول وإذا هم لا يقدرون على شيء كالقابض بيده على الهواء، فقال سبحانه :﴿ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام ﴾.
هذا تشبيه تمثيلي جار مجرى الأمثال، كما قال تعالى :﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ٤٥ ﴾( الكهف ).
شبه حال الدنيا في سرعة انقضائها وانخداع المغرور بها، كزرع نبت في الأرض من اختلاط ماء السماء بها وسريانه في نباتها حتى إذا أخذت زخرفها ولمعت لمعان الذهب وازينت بالغروس من كل لون، وفرحوا بها وظنوا أنهم تمكنوا فيها- أتاها أمر الله فأزال زرعها بوباء أو بآفة فصارت كأنها قد حصدت بمنجل، وأصبحت قفرا خاليا كأن لم يكن فيها زرع نبت ردحا من الزمان، وهذا مثلهم في الدنيا لا يبقى لهم منها إلا الحسرة والندامة، مثل ما بقى من الزرع الذي فنى حيث يرتقبون منه الانتفاع.
هذه خلاصة التمثيل القرآني وما نحسب أننا وصلنا إلى غاية بيانه فله إشارات بيانية نعيا عن بلوغها، وأطياف نورانية يعيا المصور عن تصويرها﴿ إنما مثل الحياة الدنيا ﴾ أي حالها في سرعة انقضائها وقت زينتها والاغترار بها.
﴿ إنما ﴾ دالة على القصر، وخصصت بهذا الحال لبيان حقيقتها، وهي أنها فانية عند ازدهارها، أي ليست بها صورة بقاء قط إنما حقيقتها الفناء.
﴿ كماء أنزلناه من السماء ﴾ قصد بالسماء هنا ما علا الأرض وأحاط بها، والماء هو المطر وقد يكون عينا تنبت الزرع والكلأ وغراس الأرض.
﴿ فاختلط ﴾ هناك قراءة بالوقف عليها، والمعنى أنه نزل على الأرض ماء اختلط بترابها فأخصبه للزرع والنبات وإثمار الغراس، وقوله تعالى بعد ذلك :﴿ مما يأكل الناس والأنعام ﴾ ( من ) بيانية، لبيان نتيجة الاختلاط.
والقراءة الأخرى بغير وقف عند "فاختلط" فيكون المعنى هو الاختلاط بنبات الأرض دلالة على أن البذر يلقى في الأرض ويرجى من الله إثمارها، ويكون اسم النبات قد استعمل فيما هو إضافة باعتبار ما يكون، وتلك علاقة من علاقات المجاز المرسل كأن يسمى العنب خمرا باعتبار ما يكون، كقوله تعالى في منام أحد صاحبي يوسف عليه السلام﴿... إني أراني أعصر خمرا.... ٣٦ ﴾( يوسف ).
﴿ مما يأكل الناس والأنعام ﴾ لبيان نعم الله وتوفيره الغذاء للناس والأنعام، وفي جمعهما معا إشارة إلى أن الدنيا لهم وللأنعام وفضلهم عنها بأنهم يعقلون فلا ينبغي الاغترار بالدنيا وأن يعرفوا ما وراء هذه الحياة وأنهم لم يخلقوا عبثا، كما قال تعالى :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ١١٥ ﴾( المؤمنون ).
وأشار سبحانه إلى أسباب الاغترار بالدنيا وذكر أن ما يسبب الاغترار سريع الزوال، لا يوجد إلا ليزول كالبرق ولا يلمع إلا ليختفي.
﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ﴾.﴿ زخرفها ﴾ الزخرف كمال الحسن، وقيل للذهب زخرف ؛ لأنه بلمعانه وزينته يكون كمال الحسن. ﴿ وازينت ﴾ أي تزينت، وأعلت فقلبت التاء زايا، وكان الإدغام، ثم كانت همزة للتوصل بها إلى النطق بالساكن، وقرئ ( تزينت ) من غير إعلال والمعنى واحد، أي إذا كان ذلك﴿ وظن أهلها أنهم قادرون عليها ﴾ أي متمكنون، وقال العلماء أن الظن هنا بمعنى العلم في زعمهم، ولكن لأنه غرور وضلال عبر عنه بالظن.
وجملة القول أنهم لما رأوا بريق الزخرف والزينة بالخضرة النضرة وحسن تنسيق الخالق، والحياة المملوءة بها السوق والعيدان وجمالها، ثم فوق ذلك الأمل المأمول من ترقب الغلات، فوجئوا بأمر الله المكتوب وقدره المحترم، وأضاف الأمر إليه سبحانه لبيان أنه لا يقبل التخلف قط.
﴿ أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ﴾ أتاها ذلك ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم قائمون، فأصابتها ريح حطمتها أو آفة أكلتها.
﴿ فجعلناها حصيدا ﴾الحصيد فعيل بمعنى مفعول، أي جعلناها كأنها محصودة بآلة الحصاد وصارت الأرض كأن لم يكن فيها زرع ولا حشائش مما يأكل الناس والأنعام.﴿ كأن لم تغن بالأمس ﴾ أي كأن لم يكن فيها شيء في الزمن القريب( الأمس ) ولا مانع أن تدل على الأمس القريب.﴿ كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ﴾ أي كذلك التمثيل نفصل الآيات فنبينها لقوم يتدبرون.
هذه دار الفناء وقد قابلها سبحانه بدار البقاء التي أعدها للمتقين.
﴿ والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ٢٥ ﴾.
السلام هو الأمن الذي لا انزعاج فيه، وفيه الأمن من الفناء وعوامله من الآفات، وقد قال الحسن البصري- رضي الله عنه- إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة كما قال عز من قائل :﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام... ٤٤ ﴾ ( الأحزاب ).
وقد قال بعض الصوفية :" يا ابن آدم دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه، فإن أجبته في دنياك دخلتها وإن أجبته في قبرك منعتها".
ودعوة الله إلى دار السلام هي ما يدعو إليه من الإيمان به وباليوم الآخر وبما جاء من تكليف على ألسنة الرسل الكرام فإن ذلك هو السبيل إليها، وإن الدعوة إلى دار السلام تعم كل الناس ؛ لأن الباب إلى الجنة مفتوح لهم جميعا، وهنا يتبين من اهتدى وأجاب الداعي ممن ضل وأصم أذنيه عن الحق، وقد ذكر سبحانه وتعالى من اهتدى، أي سلك سبيل الهداية فأخذه إليها وهداه الصراط الموصل إلى الحق من أقرب الطرق، ولذا قال سبحانه :﴿ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾ والصراط هو الطريق المستقيم الموصل إلى الجزاء الحق وهو طريق الله تعالى ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.... ١٥٣ ﴾( الأنعام ).
فسبيله خط مستقيم هاد مرشد إلى الحق الذي لا ريب فيه، والسبل الأخرى هي مسارات الشيطان ومضطرب أهوائه.
وهنا أمران يجب الإشارة إليهما :
أولهما- أن الله تعالى نسب إلى ذاته الدعوة إلى دار السلام، وهي الجنة دار الأمن الباقية التي لا إزعاج فيها ولا عذاب.
ثانيهما – أن الله تعالى يهدي من يشاء، وأن من سلك طريق الهداية أوصله إليها، ومن سلك طريق الضلالة سار إلى الضلال البعيد.
لم يذكر الله سبحانه وتعالى أنه يشاء الضلالة لعباده، بل هم الذين يسيرون فيها، وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى هداية الذين استجابوا لله ولرسوله ذكر جزاءهم.
﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ الذين أحسنوا هم المؤمنون الذين آمنوا بالبعث والنشور والجزاء من الثواب والعقاب وآمنوا أولا بلقاء الله.
﴿ للذين أحسنوا ﴾، ( اللام ) للملك أو الاختصاص، أي يعطيهم الله الجزاء عطاء موفورا لأجل إحسانهم.﴿ الحسنى ﴾ مؤنث أحسن، أي يعطيهم الله الجزاء الأحسن، أي الذي بلغ أعلى درجات الكمال.﴿ وزيادة ﴾ للإشارة إلى أن عطاءهم ليس بمقدار إحسانهم ؛ لأنه سبحانه المتفضل المكرم الذي لا يعطي بمقدار ما قدم بل إنه كما قال تعالى :﴿..... ويزيدهم من فضله... ١٧٣ ﴾( النساء ).
والزيادة بغفران بعض السيئات ﴿..... إن الحسنات يذهبن السيئات.... ١١٤ ﴾ ( هود )، ثم بالرضوان وهو أكبر ما يعطي الله تعالى، وقد قال أهل السنة في ذلك أنهم يرون ربهم، كما قال تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة٢٢ إلى ربها ناظرة ٢٣ ﴾( القيامة )، وهذا جزاء مادي ومعنوي إيجابي وهناك جزاء معنوي سلبي قال فيه تعالى :﴿ ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ﴾، ﴿ يرهق ﴾ معناها يغشي، ﴿ قتر ﴾ معناها سواد، وكلمة يرهق تتضمن في معناها الألم والتأذي.
والمعنى أن وجوههم ناضرة مشرقة بالعزة والسعادة والرضا بأنفسهم وبالله سبحانه ثم ذكر الجزاء الكامل، فقال سبحانه :﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾أشار إليهم سبحانه بالإحسان ومن قبله بالهداية، والإشارة إلى موصوف يفيد أن الصفة سبب الحكم، ﴿ أصحاب الجنة ﴾ وأصحابها أي الذين يقيمون فيها إقامة الملاك في ملكهم يلازمونها ولا يخرجون منها.
﴿ هم فيها خالدون ﴾ ذكر الضمير وقدم فيها لبيان قصرهم عليها لا يدخلون غيرها جزاء من كسب السيئات.
قال تعالى :
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ٢٧ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ٢٨ فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين٢٩ هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون ٣٠ قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ٣١ فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ٣٢ كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ٣٣ قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون ٣٤ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون٣٥ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون ٣٦
﴿ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ٢٧ ﴾.
يبين سبحانه جزاء الذين كسبوا السيئات- بعد أن بين جزاء الذين أحسنوا :﴿ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ﴾ ( الواو ) تعطف هذه الجملة على ما قبلها وهو جزاء المحسنين ؛وتقدير القول وجزاء الذين كسبوا السيئات سيئة بمثلها ( الباء ) للمقابلة فإذا كان المحسنون يجازون بالحسنى وزيادة، فحسب المشركين أن تجازي السيئة بمثلها، كما يقول تعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها... ١٦٠ ﴾( الأنعام ).
والمثل كثير إزاء ما ارتكبوا ؛ فالشرك مثله من الجزاء كبير فلا حاجة إلى الزيادة، وقد ذكر سبحانه وتعالى هنا كلمتين نرى فيهما :
أولا :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها وهم لا يظلمون ١٦٠ ﴾ الكلمة لا تدل على مجرد ارتكاب الذنوب، بل تدل على أن هذه الذنوب أشربت بها نفوسهم وكسبتها قلوبهم حتى صارت وكأنها كالجبلة لهم إن لم تكن كالفطرة منهم.
وفي اكتساب السيئات قال سبحانه :{ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ٨١{ ( البقرة ).
ثانيا : كلمة ﴿ بمثلها ﴾ أي بمثل السيئة، وهذا في المقابلة والمشاكلة اللفظية فالجزاء ليس سيئة إنما هو العدالة التي ليست في ذاتها، كقوله تعالى :﴿.... فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم... ١٩٤ ﴾( البقرة ).
ولكثرة سيئاتهم وتضافرها أظلمت بها نقوسهم، ويوم الحساب تظهر ظلمة القلوب ظلاما في وجوههم، ولذا قال تعالى :﴿ وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ﴾.
هنا تشبيه واستعارة، أما الاستعارة فهي قوله تعالى :﴿ قطعا من الليل مظلما ﴾ وفيها يبدو الليل كأنه الثوب الأسود الذي قطع قطعا.
وأما التشبيه في قوله تعالى :﴿ كأنما أغشيت ﴾ أي البست وأغطيت بقطع مظلمة، وهذا تصوير لسواد وجوههم بما اقترفوا، فقلوبهم المظلمة تكسو وجوههم بالظلام، وفي هذا التصوير الحسي تصوير معنوي لنفوسهم.
ثم ختم الله تعالى بعذابهم فقال :﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ أولئك الذين أشركوا وظلموا وهم أصحاب النار يلازموها ملازمة الصاحب لصاحبه وهم خالدون فيها، وقد تأكد خلودهم بضمير الفعل، كما تأكد اختصاصهم بها بتقديم الجار والمجرور على ﴿ خالدون ﴾، أي هم وحدهم الخالدون فيها.
﴿ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ٢٨ ﴾( يونس ).
الكلام في بيان اليوم الذي أنكروه :﴿ قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ٨٢ ﴾( المؤمنون ) ولتذكيرهم بما يكون في هذا اليوم من حساب وعذاب وما هو جدير بأن يعلموه، وهو تبرؤ معبوديهم الذين أتخذوهم أندادا لله منهم ومعبوديهم هؤلاء هم عقلاء ينطقون كالملائكة والأنبياء الذين عبدوهم مع الله كالنصارى أو الأحجار التي لا تضر ولا تنفع.
﴿ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم ﴾، ﴿ ثم ﴾ عاطفة تدل على الترتيب والتراخي الزماني والمعنوي، أما الزماني فهو أن ذلك القول بعد الحشر وبعد أن ارتكبوا في الدنيا ما ارتكبوا وطغوا وما بغوا وأفسدوا، وأما المعنوي فهو البعد بين حالهم وما كانوا فيه من إنكار وطغيان، وحالهم وقد تبين لهم ما أنكروه واقعا ونطق الذين عبدوهم بالحق وتبرءوا منهم.
وقوله تعالى :﴿ مكانكم ﴾ مفعول لفعل محذوف معناه الزموا مكانكم وقفوا حيث أنتم وكانوا هم وشركاؤهم مجتمعين حسا ومفترقين نفسا، ولذا قال تعالى :﴿ فزيلنا بينهم ﴾ وهناك قراءة "فزايلنا بينهم" وهما من زال فزيل مضاف زال- وزايلنا – مفاعلة من زال، أي فرقنا بينهم وجعلنا ما كان بينهم في الدنيا يزول وافترق العابد على المعبود كقوله تعالى :﴿ وامتازوا اليوم أيها المجرمون٥٩ ﴾( يس )، وكقوله تعالى :﴿ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون١٤ ﴾( الروم )، وقوله تعالى :﴿... يومئذ يصدعون٤٣ ﴾( الروم ).
﴿ وقال شركاؤهم ﴾ الشركاء هم الأنداد التي عبدوها أو غيرهم، وسموا شركاؤهم ؛ لأنهم انتحلوا لهم الشركة فعلا، وإن لم يقولوها قولا.
وقال هؤلاء نافين نفيا باتا :﴿ ما كنتم إيانا تعبدون ﴾ أي ما كنتم تسمونه عبادة ليس عبادة، فما عبدتمونا ولكن عبدتم أوهامكم وما حسبتوهم آلهة بإيعاز الشيطان، كما جاء على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام :
﴿..... قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ١١٦ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد١١٧ ﴾( المائدة ).
وفي قوله تعالى :﴿ ما كنتم إيانا تعبدون ﴾ النفي مؤكد قاطع ؛ لأنه نفي في الماضي والمستقبل، وأن ما كانوا يسمونه عبادة ليس عبادة مطلقة وأن من خصوهم بالعبادة ينكرونها فليسوا أهلا لأية عبادة.
وقد يسأل سائل : كيف كانت الحجارة التي تمثلوها آلهة تنطق بذلك النفي ؟ فنقول : إن ما عبدوهم من الأنبياء كعيسى يقول ذلك، أما الحجارة فينطقها الله فتقوله، أو هو تصوير لحالها في أمرها وأمرهم والله تعالى شاهد.
يقول تعالى :
﴿ فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين٢٩ ﴾.
هنا يوثق المعبودون قولهم بشهادة الله تعالى :( الفاء ) في قوله تعالى :﴿ فكفى ﴾ عاطفة لتأكيد قولهم، والباء في قوله تعالى :﴿ بالله ﴾ زائدة مقوية لمعنى الشهادة، أي كفانا الله تعالى شاهدا في بطلان ما تدعوه من أنكم كنتم تعبدوننا ثم أكدوا بأنهم كانوا لا يعلمون﴿ إن كنا عن عبادتكم لغافلين ﴾.
﴿ إن ﴾ هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف، ويدل عليه الخبر، وهو﴿ كنا عن عبادتكم لغافلين ﴾.
( اللام ) مؤكدة، وتفرق بين خبر( كان ) المجرد، وخبر ( إن )، فهي تدل على أن الخبر هو خبر ( كان )، وبتوكيدها تومئ إلى أن الجملة خبر ( إن ).
وقد أكدوا بهذا أنهم ما كانوا يعلمون عبادتهم لهم، وأنهم برآء من هذه العبادة، وأنهم ما كانوا يشعرون بهم ولا بما ارتكبوا من إثم مبين وهو الإشراك بالله تعالى، وهذا بيان لسوء عملهم وفساد اعتقادهم وضلالهم الواضح المبين، وقد أرسل الله تعالى رسله فبينوه لهم، وكذبوهم حتى حقت عليهم كلمة العذاب والله بكل شيء عليم.
وقد بين سبحانه وتعالى أن الدنيا دار الابتلاء، والآخرة دار الجزاء فقال عز من قائل :﴿ هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون ٣٠ ﴾.
﴿ هنالك ﴾ إشارة إلى ذلك الموقف الرهيب والمكان الرفيع، وهو الحشر أمام الله تعالى، وكانت الإشارة بالبعيد ؛ لرفعه الوقف أمام الله وشرفه، ولأنهم كانوا يستبعدونه ويظنونه مستحيلا.
﴿ تبلو كل نفس ما أسلفت ﴾ فيها ثلاث قراءات، قراءة بالتاء﴿ تبلو ﴾ وقراءاتان بالنون ( نبلو )إحداهما بنصب( كل )، أي النفوس كلها هي المختبرة، والثانية برفع( كل ).
وفي الأولى ﴿ تبلو ﴾ أي تتلو كل نفس ما أسلفته من أعمال في كتابها الذي تحمله بيمينها أو شمالها فتقرأ عملها محضرا، كما قال تعالى في سورة الإسراء :﴿.... ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ١٣ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا١٤ ﴾( الإسراء ).
أما في القراءة بالنون برفع كل " نبلو كل" أي نعاملهم معاملة التعرف لما وقوله :﴿ ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وآخر١٣ ﴾( القيامة ) فالاختبار هنا يكشفه الله ويستحضر لهم فيه ما أسلفوا.
أما القراءة بالنون مع نصب"كل" أي( نبلو كل ) فهي نصب في المعنى السابق والاختلاف في الإعراب ولا اختلاف في المعنى.
ومن هنا نجد أن الاختلاف الحقيقي يكون بين القراءتين بالتاء والنون وكله من عند الله تعالى.
﴿ وردوا إلى الله مولاهم الحق ﴾ المولى بمعنى الناصر وبمعنى الخالق وبمعنى المالك، أي مالكهم الحق، أي الثابت ملكيته، وسلطانه والحق للاحتراز عما ادعوا من أوثان وأنداد اتخذوها، ففي هذا اليوم يبتدي سلطان الله تعالى حقا وتتبدد أوهامهم عن أولياء الشيطان وما زعموه.
ولذا قال سبحانه :﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ أي غاب عنهم وبعد عن عقولهم ما كانوا يفترونه في عبادات باطلة وافتراء كاذب كانوا مستمرين عليه يكررونه ليلا نهارا، وفي قوله تعالى :﴿ ما كانوا ﴾ يدل على الاستمرار وذلك بالجمع بين الماضي في﴿ كانوا ﴾ والمستقبل في ﴿ يفترون ﴾ فالجمع بين الماضي والمستقبل يدل على استمرار الفعل.
يقول تعالى :
﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ٣١ ﴾.
قلنا في أكثر من موضع : إن العرب كانوا على علم بالخلق والتكوين وأنهم يؤمنون يوحدانية الخالق، ولكنهم في العبادة يشركون ويزعمون استحقاق الأوثان للعبادة على أن يكونوا شفعاء لهم، فبين الله بطلان عبادتهم وقد كانوا لضلالهم يربطون بين وحدة الخالق للكون وبين ما يعبدون، فبين لهم سبحانه في كثير من الآيات أن وحدة الخلق تقتضي وحدة العبادة، وهذا هو ما آمن به أبوهم إبراهيم وغيره من الرسل الكرام، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم لإحياء ملة إبراهيم وهي الإسلام﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض ﴾ الاستفهام للتنبيه إلى الحقائق الثابتة وتوجيه النظر، فهو استفهام تقريري لتقرير الحقائق، وعبر بالاستفهام لأنه موجه وفيه حمل لهم على الإقرار بما يعرفون ويشاهدون فهم يعلمون علم اليقين بالمشاهدة والحس أن الله تعالى هو الذي ينزل الأمطار من السماء ليختلط بالأرض يشقها شقا، وما أوجده الله تعالى فيها من خصب ومواد مختلفة يتكون منها نبات به حب متراكب وأشجار فيها ثمار دانية القطوف، كما قال تعالى :﴿ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون٩٩ ﴾( الأنعام ).
وقد عبر سبحانه عن ذلك بالرزق الذي هو الغاية المرجوة وهو النعمة الظاهرة التي أنعم بها سبحانه وتعالى على عباده في حياتهم من غذاء ولباس ومأوى، وكل ذلك كان في اختلاط ماء السماء بالأرض.
ثم ذكر سبحانه بعد ذلك أصل خلقهم ودقيق صنعه في أنفسهم وكيف أوجد القوى فيهم، وأن هذا وإن اختفى عليهم خلقه لا يختفي عليهم أثره، فهم يسمعون ويبصرون ويدركون بأي شيء كان ذلك.
﴿ أمن يملك السمع والأبصار ﴾فهو الذي أنشأهما حتى أن الإنسان الذي مد له الله تعالى الكون من سماء وأرضين، واستطاع بإذن الله أن يرتفع إلى القمر وغيره- لا يملك أن يوجد قوة من قوى الله.
﴿ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ﴾ يبين الله تعالى أمرا يشاهده الإنسان كل يوم وهو الموت والحياة فيجيء الموت بدل الحياة، والحياة بدل الموت، بل إنه سبحانه يخلق الحياة في الميت، كما أنه يجعل النواة الجامدة كأنها لا حياة فيها شجرة وارفة الظلال، ومن الماء المهين إنسانا سويا، ثم يكون الزرع حطاما والإنسان ميتا مقبورا، ولقد قال تعالى في تصوير ذلك :﴿ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ٩٥ ﴾( الأنعام ).
هو سبحانه خالق كل شيء ولم يخلقه ويتركه من غير تدبير، بل إنه سبحانه وتعالى القائم عليه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ يدبر الأمر ﴾ كما أنه سبحانه يمسك السماء والأرض أن تزولا، ويدبر الأرزاق.
ثم نعود لصيغة الاستفهام القرآنية ﴿ أمن ﴾ فصيغة القرآن استفهام ويطلب منهم الجواب ليكون جوابهم إقرارا أو تقريرا، وكذلك قال تعالى :﴿ فسيقولون الله ﴾ فإذا قالوها وهي الحق أجيبوا :﴿ أفلا تتقون ﴾، ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فترتب على إقرارهم دعوتهم إلى تقوى الله والإحساس بجلاله وتجنب ما لا يرضيه.
بعد أن أخذ سبحانه وتعالى منهم إقرارا بأنه خالق الكون ومدبره والقائم عليه وحده، بين سبحانه وتعالى أنه هو الرب وحده وأشار إلى أنه المستحق للعبادة وحده، فقال عز من قائل :﴿ فذالكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون٣٢ ﴾.
( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا كان الله الخالق وحده المدبر للكون وخالق القوى الإنسانية وغيرها وحده فهو الرب حقا وصدقا، و﴿ الحق ﴾ تأكيد لمعنى الربوبية، والربوبية والعبادة متلازمتان تلازما لا يقبل الانفصال، فالرب حقا هو المعبود وحده المنفرد بالخلق، وهو المنفرد بالعبودية فلا إله غيره.
الخطاب في اسم الإشارة للجمع ؛ لأنه لا يخاطب به النبي وحده إنما يخاطب به الناس أجمعين وخصوصا المشركين ؛ لأنهم الذين أقروا بالخلق وضلوا في العبادة.
وقد كانوا يقولون عن معبودهم"الرب" فاللات والعزى كانتا إلهان، وهبل كان رب قريش، والنصارى المثلثون قالوا عن المسيح الرب، فالآية تشير إلى أن هذه الأرباب الكاذبة ادعاؤها انحراف في الفكر وبطلان في الاعتقاد، فالرب حقا وصدقا هو الله تعالى وحده.
وقد أشار سبحانه في قوله :﴿ فذلكم الله ربكم ﴾ أي أنه الذي يرزق من السماء والأرض ويدبر الأمر ويقدر كل ما في الوجود، وهو الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فهو الرب المعبود حقا وصدقا وغيره باطل ؛ ولذلك قال سبحانه :﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال ﴾.
( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه يترتب على أن الله تعالى هو الرب لا رب سواه من حجر أو نبي أو ملك.
﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال ﴾ الاستفهام هنا إنكاري بمعنى نفي الوقوع وأن ذلك فكر لا يتصوره ويستنكره العقلاء، والمعنى أنه ليس بعد الحق- وهو أن الرب المعبود هو الله وحده- إلا الضلال، فالأمر إما حق أو باطل ولا توسط بينهما مما تدعون من أوهام بأنهم شفعاء لله، فإن ذلك باطل في ذاته، وأنه سبحانه لا يتخذ عنده شفعاء لا ينفعون ولا يضرون، وإن لم يكونوا حجارة فإن منزلتهم من الله هي منزلة غيرهم على سواء.
﴿ فأنى تصرفون ﴾( الفاء ) مثل التي قبلها﴿ فأنى ﴾ بمعنى كيف والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع، وفيه توبيخ، والمعنى كيف تصرفون عن ذلك المعنى المستقيم وهو أن الخالق وحده هو الرب المعبود ولا معبود سواه ؟ ! ولكن هكذا تضل الأفهام وتعمى القلوب التي في الصدور.
﴿ كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون٣٣ ﴾.
بعد أن بين سبحانه في الخلق ما يدل على التوحيد وأن كفر من كفر عجيب وغريب ذكر أنه قد سجل عليهم.﴿ كذلك ﴾، ( الكاف ) للتشبيه إشارة إلى ضلالهم بعد أن أقامت البينات القاطعة في الخلق والتكوين وإقرارهم بأن الله الخالق وحده لا خالق سواه، ثم بعد ذلك ينحرفون من غير سبب للانحرافهم إلا ضلالهم.
أي أنه كهذه الحال التي رأيتموها ﴿ حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ﴾، أي أنهم ينحرفون عن الأمر الذي يقرونه ويقره العقلاء.
أي أنهم ينظرون إلى الأشياء نظرا منحرفا كما ينظر من رمد أو حول، ثم ينغمرون في طريق الانحراف حتى يبلغوا في ضلالهم أقصاه.
فمثل هذا هو الذي حقت به، أي ثبتت به كلمة الله التي لا تختلف ولا تتغير، على الذين فسقوا وانحرفوا وتمردوا على الحق، وأظهر في موضع الإضمار للإشارة إلى أن فسقهم وتمردهم أدى بهم إلى ما حق عليهم.
﴿ أنهم لا يؤمنون ﴾، ﴿ أنهم ﴾ : بدل بيان من﴿ كلمت ربك ﴾، أي أنهم لا يؤمنون فهو نفي للإيمان ذلك لأنهم سلكوا طريق الباطل.
أي كذلك حقت على الذين فسقوا كلمة ربك التي هي﴿ لا يؤمنون ﴾.
بعد أن بين سبحانه أنه الخالق للكون والأرزاق، والمدبر للوجود وحده أخذ يبين عجز من اتخذوهم أربابا من دونه، فقال تعالى :﴿ قل هل من شركائكم من يبدؤ الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون٣٤ ﴾.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتولى جدالهم وإفحامهم وأن يسألهم ﴿ هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾، وشركاؤهم : الأوثان والأحجار والأناسي التي ادعوا أنها شركاء لله في العبادة، أي هل في الأوثان التي تعبدونها أو غيرها مما زعمتم من يبدأ الخلق ثم يعيده.
والتعبير بالمضارع لإفادة استمرار البدء والإعادة، كالزرع في خلقه وتكوينه ثم يصير حطاما، ثم يعاد مرة أخرى.
وفي النص الكريم إشارة إلى القدرة على الإعادة كالقدرة على الابتداء، كما قال في آية أخرى :﴿.... كما بدأكم تعودون٢٩ ﴾( الأعراف )، فالإشارة واضحة إلى إمكان البعث بل وجوبه وقد أنكروه ولأنهم لا يؤمنون بالإعادة وينكرونها أمر الله تعالى نبيه بأن يتولى الإجابة على إنكارهم، وللإشارة الى أن ذلك موضع تسليم لا امتراء عند أهل العقول المستقيمة، وأيضا لمنع لجاجتهم ولإرشادهم إلى القح :﴿ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾وإذا كانوا ينكرون الإعادة من الله فأولى أن ينكروها من أحجار لا تضر ولا تنفع، بل إنهم يعلمون أنها لا تستطيع الإنشاء فأولى ألا تستطيع الإعادة.
ولذلك تولى النبي صلى الله عليه وسلم الإجابة ليقيم الحجة عليهم بأن ما بدأ يستطيع الإعادة﴿ فأنى تؤفكون ﴾ أي تصرفون عن الحق إلى الباطل.
( الفاء ) لترتيب الاستفهام الإنكاري على إنكارهم المستمر والموقف السلبي الذي يقفونه لا يتحركون بخطوة إيجابية إلا في الإيذاء والاستهزاء والفتنة في الدين، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، فالله تعالى ينكر انصرافهم عن الحق ولجاجتهم في الانصراف والاستمرار في غيهم﴿ فأنى ﴾بمعنى"كيف".
ثم بين سبحانه أنه الذي يهديهم، وأن الأوثان لا تهدي بل يضلون بها، فقال تعالى :﴿ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون٣٥ ﴾.
يخاطبهم سبحانه على أنهم عقلاء مدركون لمعنى الهداية والرشاد ويسألهم إذا كان هؤلاء على ما ترون ؟ فهل يهدونكم إلى الحق كشأن التابع للمتبوع.
إن الهداية هي المقياس الإنساني لعلو الإنسان وقد كان في المشركين ذوو رشد ينطقون بالقول الطيب كما ينطق الحكماء منهم : أكثم بن صيفي وعيره، فهل الأوثان وغيرها يعلونهم بفضل الإرشاد والتوجيه للعمل الصالح فتعبدوها أو تتبعوها لهذا ؟ وحيث لا شيء من ذلك فلا مسوغ للعبادة إلا الضلال.
ولذلك قال تعالى :﴿ هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ﴾ الاستفهام داخل على فعل محذوف، والمعنى هل وجد من شركائكم أي من المعبودات التي زعمتم أنها شركاء لله في العبادة، من يهدي إلى الحق كما يهدي الله حتى تجعلوه كالله تعالى، يقال هدي إلى الحق وهدي للحق، و﴿ إلى ﴾ تتضمن معنى الانتهاء في الهداية إلى الحق، أي هدي منتهيا في هدايته إلى الحق.
والإجابة عن هذا السؤال ستكون بالسلب لأنها أحجار نحتوها بأيديهم لا تضر ولا تنفع، فكيف تهدي وترشد ؟ ولذا فرض أن الإجابة بالسلب كما هو شأن من له أعين تبصر وأذان تسمع، وقد ترتب على هذا الفرض الواقع سؤال آخر فيقول سبحانه :
﴿ أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي ﴾.
( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وحقها التقديم ؛ لأن السؤال مترتب على الإجابة المفروضة في السؤال السابق، ولكن لأن الاستفهام له الصدارة أخرت عن تقديم، والاستفهام هنا للإقحام وفيه الفرض الأول ثم بيان أنه لا مساواة بين الفرضين، أي أن من يهدي إلى الحق احق احق ان يتبع فالاستفهام في هذه الناحية هو انه لا مساواة بين من يهدي الى الحق ومن لا يهدي إلا إذا وجد من يهديه، فالاستفهام لبيان أحقية الاتباع لمن يرشد ويصلح بدلا ممن لا يستطيع الإرشاد ويحتاج كغيره لهديه، فمن لا يحتاج أحق ممن يحتاج لإرشاد غيره وهدايته، وهذا في قوله تعالى :
﴿ أمن لا يهدي إلا أن يهدي ﴾.
الكلمة﴿ يهدي ﴾ فيها إعلال أصلها ( يهتدي ) وقلبت التاء دالا لقربها من حروف الإطباق، وأدغمت التاء في الدال وكسرت الهاء للتخلص من الساكنين، والأصل في التخلص من النطق بالساكنين يكون بالسكر ؛ وهناك قراءة أخرى وهي فتح الهاء ؛ لأن حركة التاء قبل الإدغام كانت الفتح فكان الفتح رمزا للأصل.
وإن هذه الصيغة تفيد أنه لا يهتدي إلا بصعوبة بل لا يهتدي أصلا، ولكن كان الفرض أن يكون اهتداء بعد أن توجد الهداية الداعية المرشدة، وكل هذا فيه توبيخ وتبكيت لهم وهم عقلاء، فيهم من نطق بالحكمة وأرادها، ثم يتبعون من لا يرشد ولا يهدي.
إن العاقل إذا رأى هاديا مرشدا يدعوه ومعه الأدلة المتضافرة والآيات المبينة ورأى بجواره أصم لا يهدي ولا يرشد فأيهما يتبع، ولذا قال تعالى :﴿ فما لكم ﴾وهذا استفهام إنكاري عن حالهم المضطربة الحائرة، ثم أردفها سبحانه باستفهام يوضح اضطراب فكرهم وفساد تقديرهم فقال تعالى :﴿ كيف تحكمون ﴾.
وهذا للاستنكار، فبأي أحوال النفس العاقلة تحكمون على تصرفاتكم هذه !تتركون الهادي المرشد وتتبعون من لا يضر ولا ينفع، ويصعب أن يهتدي بل لا يمكن أن يهتدي ولو جاءه أهدى الهدي.
وقد بين سبحانه أنهم لا يتبعون الأصنام وغيرها مستيقنين، بل يظنون ظنا بأوهامهم أن لهذه الأصنام وأشباهها قوة وأنها تستحق العبادة، ولذا قال تعالى :﴿ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون ٣٦ ﴾.
أي أن أكثرهم غلبت عليهم خيالات وأوهام شاعت في جمعهم وانتشرت بينهم واتبعوها جميعا، فالأفكار الفاسدة الضالة تنبعث من بعض الجماعة وتكثر فيها وتشيع في آحادها فتصير فكرا عاما مضللا، وعلى العقلاء أن يصدوا هذه الأفكار الباطلة في أول نشوئها حتى لا تصير هي الغالبة، وبعض المفسرين يقول : إن الأكثر يراد به الجميع، ونحن نقول على هذا المعنى، ويقول البيضاوي :" إن أكثرهم ما يتبع في اعتقادهم إلا ظنا مستندا إلى خيالات فارغة فاسدة".
الناس صنفان أحدهما : له عقل مستقيم يدرك، والثاني : غلبت وسيطرت عليه الخيالات، فأما الذي آتاه الله تعالى عقلا يدرك فإنه يفكر في خلق السموات والأرض وما بينهما ويأخذ دليلا على وجود خالقهما من الأثر وقوة المؤثر، ثم يجيء الرسل فيهتدي بهديهم ويتبع ما يدعون إليه، وهو الذي ينطبق عليه الوصف القرآني الكريم.
﴿.... ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى٥٠ ﴾( طه )، فالهداية ثمرة العلم بالخلق. والصنف الثاني يقع في أخيلة وهمية تسيطر عليه فلا يأخذ الهداية من الخلق والتكوين، بل تسيطر عليه الأوهام ؛ فيتوهم في حجر قوة، ويتوهم في شخص ربوبية، ولو نادى ليلا نهارا بأنه عبد من عباد الله لا يستنكف عن عبادة الله ولا يستكبر، وهؤلاء يظنون القوة في غير القوى، والقدرة في عاجز، وتكون عقولهم دائما حائرة مضطربة، ولا يكون منهم اعتقاد ولا يقين قط وكلها ظنون يتصورونها اعتقادا، ولسان حالهم يقول :﴿.... إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ٣٢ ﴾( الجاثية ).
هذا بيان لعلمهم الذي يتجاوز الظن ولا يزيد عليه، ويخيل لهم أنهم يعتقدون ثم يتعصبون له ويعاندون أهل الحق به.
وقد بين سبحانه وتعالى أن الاعتقاد لا يبنى على ظن بل يجب أن يكون على يقين، ولذا قال تعالى :﴿ إن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾ أي لا يغني بدل الحق، ﴿ من ﴾ هنا بمعنى "بدل" فالحق وهو الأمر الثابت الذي لا ريب فيه لا يطلب بأدلة ظنية بل لا يطلب إلا ببينات قاطعة، فمعنى﴿ إن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾ أن الظن لا يغني شيئا بدل الأدلة الحق القطعية.
هذه الآية الكريمة تؤكد حقيقتين ثابتتين :
أولهما : أن ما ينتحله أهل الكتاب والمشركون- بشكل عام- والوثنيون مبني على أوهام أوجدت ظنونا جعلوا منها عقائد تعقبوا لها وكأنها حقائق لها براهين أذعنوا لها فما ظنوا إلا ظنا.
ثانيهما : أن التعصب قد يبنى على أوهام وظنون بل إنه سيطرة أوهام وضغف في النفوس وليس بإيمان صادق.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله :﴿ إن الله عليم بما يفعلون ﴾، وفي هذا تأكيد لعلم الله بهم في ظنونهم وأعمالهم وحركات نفوسهم، وقد أكد هذا سبحانه أولا : بالجملة الاسمية، وثانيا : ب"إن" المؤكدة، وثالثا : بالصفة.
القرآن هو المعجزة الكبرى
يقول تعالى :
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين٣٧ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين٣٨ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين٣٩ ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين ٤٠
بعد أن ذكر سبحانه أوهام المشركين وأخيلتهم التي جعلتهم يهيمون في أودية الظن بغير علم، بين سبحانه الحق والدليل القاطع على صدق محمد صلى الله عليه وسلم في حديثه عن الله تعالى، وانه جاء بالمعجزة الكبرى الباقية الخالدة إلى يوم القيامة، وأن غيره من المعجزات ما استمر باقيا إلا ؛ لأنه ذكرها وسجل وقوعها في آياته التي كفر بها من كفر وآمن بها من آمن، وقد قال تعالى في المعجزة الكبرى :
﴿ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ٣٧ ﴾ والإشارة هنا للقرآن الذي يتلى عليهم، وتخيرهم عباراته وتعجزهم بلاغته وفصاحة كلماته.
وقوله﴿ أن يفترى ﴾ المصدر من( أن وما بعدها ) خبر﴿ كان ﴾، أي وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله، أي من عند غير الله سبحانه، وعبر بالفعل دون المصدر لتصوير قبح أن يصنع اصطناعا من عند غير الله، وبيان أن ذلك غير متصور وقوله تعالى :﴿ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ﴾معناه : ما استقام وما ينبغي أن يكون هذا القرآن افتراء من دون الله تعالى ؛ لأنه أعجز العرب عن أن يأتوا بمثله، ولأنه اشتمل على علوم ما كان لهذا الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب أن يعلمها، ولأنه اشتمل على شرائع فيها مصلحة الدنيا والآخرة، ولأنه اشتمل على قصص الأمم، كما قال علي- كرم الله وجهه- فيما رواه عنه الحارث الأعور" فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم"١ معنى هذا : أن هذا القرآن بذاته ينفي أن يكون مفترى، والقرآن صادق من شهادة غيره بعد أن أثبت أن معجزته ذاتية فيقول تعالى :﴿ ولكن تصديق الذي بين يديه ﴾، أي الكتب التي سبقته، وعبر بأنها﴿ بين يديه ﴾ للإشارة إلى أنها حاضرة شاهدة بصدقه.
وقد ذكر سبحانه دلائل صدقه من أمور أربعة :
الأمر الأول- أنه تصديق الذي بين يديه في الكتب السابقة الصادقة، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ أو يكتب ونشأ في قوم أميين لا يعرفون علم الكتابة ولم يختلط صلى الله عليه وسلم بأحد من أهل الكتاب، أو يلتق بأحد من الأحبار والرهبان إلا مرتين، واحدة وهو غلام في الثانية عشر، والأخرى وهو في الخامسة والعشرين وكلتاهما كان فيهما عابر سبيل، وأن التوافق بين ما جاء بالقرآن وما جاء بالكتب السابقة دليل على أنه ليس افتراء بل هو من عند الله سبحانه وتعالى، والاستدراك معناه الانتقال من نفي الافتراء إلى الإيجاب بذكر الدليل الخارجي من نفس ما سبقه من كتب، وفي التعبير بكلمات :﴿ تصديق الذي بين يديه ﴾ إشارة إلى أنه شاهد لها بالصدق، وإن كان التوافق دليل على أنه ليس به افتراء وهو مشتمل مع ذلك في ذاته على الإعجاز، فالكتب ليست معجزة بذاتها، ولكن اقترن بها ما يدل على صدق الرسل من بينات شاهدة : كعصا موسى وغيرها، وكإبراء الأكمة والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله ونزول المائدة بأمر الله تعالى.
الأمر الثاني – مما اشتمل عليه القرآن الكريم أنه"تفصيل الكتاب" أي بيان ما كتبه الله تعالىعلى خلقه من فرائض ونظم وأحكام فيها صلاح العباد في الدنيا والآخرة من صلاح معاشهم وتنظيم حياتهم وتكوين مجتمع فاضل يكون الخير فيه شائعا ظاهرا، وتكون الرذيلة مختفية مغمورة.
الأمر الثالث – من دلائل صدقه- انه لا ريب فيه لمن تدبر وتأمل، فهو ثابت بذاته وبما اشتمل عليه من تصديق ما بين يديه في الكتب وتفصيل الأحكام والشرائع فلا مجال للريب، كقوله تعالى :﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ٢ ﴾( البقرة ).
الأمر الرابع- انه من رب العالمين الذي كون العالمين ورباهم ودبر أمورهم وأقام الحق والعدل فيهم، وذلك كله في القرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
١ سبق تخريجه..
وبعد أن بين سبحانه بالأدلة الذاتية صدقه، أخذ سبحانه يدفع افتراء المفترين فقال تعالى : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ٣٨ }.
وصف الله سبحانه وتعالى القرآن أوصافا تنفي الافتراء، وبين مقامه في الكتب السابقة وأنه مصدق شاهد بها، وبعد ذلك أخذ يبين مقام المشركين منه وهو ادعاء افترائهم الذي هو منفى عن القرآن لذاته فقال سبحانه :﴿ أم يقولون افتراه ﴾.
﴿ أم ﴾ يقول بعض المفسرين : أنها هنا في معنى الهمزة للاستفهام. والأولى إن تقول أن"أم" تتضمن معنى الاستفهام كما تتضمن الانتقال من الحقائق المقررة الثابتة التي لا ريب فيها إلى الاتجاه إلى المشركين وأوهامهم بالنسبة للقرآن العظيم﴿ أم يقولون افتراه ﴾ أي ننتقل من الحق الجلي إلى أوهامهم فنسألهم : أتقولون افتراه ؟ !والاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الواقع، فهو توبيخ لهم على ادعاء الافتراء، وقد قامت أدلة الصدق، ووقع الحكم بأنهم مبطلون في ادعائهم وافترائهم، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله ليظهر كذبهم وأنهم المفترون على الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم والحق ؛ ولذا أمر سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم لأن يأتوا بسورة من مثله، أي مما ترون أنه مثله، فأتوا بسورة منه، فهم يدعون أنه مفترى افتراه محمد صلى الله عليه وسلم فليأتوا بسورة من مثله إن كان له مثل.
إن محمدا بشر مثلهم فإذا كان قد افتراه فأنتم بشر مثله فأتوا بسورة من مثله، ويصح ن نقول أن ﴿ من ﴾ بيانية ويكون المعنى ائتوا بسورة منه، أي من جنسه، ولعل ذلك أظهر.
وقد تحداهم الله أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات فعجزوا، ثم نزل فتحداهم أن يأتوا بسورة فعجزوا.
ولكمال التحدي أمر الله نبيه أن يدعو من يناصرونهم ومن يستطيعون نصرهم، فقال في سياق أمره- سبحانه-لنبيه :﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ فدعوة هؤلاء النصراء لأمرين :
أولهما – ليشهدوا كذبهم في ادعائهم.
ثانيهما – لينتصروا بهم ويكونوا قوة معهم يظاهرونهم فيما يدعون، ولكنهم مع ذلك لا يمكنهم أن يأتوا بقرآن مثله كقوله تعالى :
﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا٨٨ ﴾( الإسراء ).
وقوله تعالى :﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي في ادعائكم الافتراء وإن محمدا كذب على الله تعالى ولكنكم عاجزون فيبطل ادعاؤكم الافتراء.
وفي كلمة﴿ قل فأتوا ﴾ – الفاء للإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر تقديره : إذا كنتم تدعون أن محمدا افتراه فمحمد بشر عربي مثلكم، فأتوا بسورة من مثله.
هم لا يؤمنون أنه افتراء ويؤمنون أنه كلام لا ينطق البشر بمثله، ولكن لأنهم سارعوا بتكذيب الرسالة المحمدية لجوا في التكذيب وتورطوا في الإنكار حتى وقعوا فيما لم يقع فيه عربي يعرف معنى البلاغة في القول، لذا قال تعالى :﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين٣٩ ﴾.
﴿ بل ﴾ للإضراب عما حوى ما قبلها، والإضراب عن ادعاء الافتراء، معناه أنهم لم يقفوا في دعوى الافتراء إلا بأمر سبقه، وهو أنهم سارعوا بالتكذيب من غير أن يتأملوا. وهذا هو قوله تعالى :﴿ بما لم يحيطوا بعلمه ﴾ أي بما لم يعلموه علم إحاطة وفحص لحقائقه ومدى ما فيه من إعجاز بياني وما حوى من شرائع توائم العقل وتواكبه ومدى ما فيه من إنذار لمن كفر وثواب لمن آمن، وذلك لمن يخاطب بأمر غريب لم يألفه فإنه يسارع إلى إنكاره بادي الرأي، ثم إذا شرد عقله عن الطريق المستقيم ضل في السبل وأصبح لا يسمع منادي الصواب إذ يناديه، وداعي الهداية إلى الحق وهو يدعوه.
وهذا نراه في أصحاب المذاهب المنحرفة إذا فوجئوا بما يخالفها أنكروه ثم حاولوا أن يجمعوا ما يؤيد ما جنحوا إليه من المنكر، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء إليهم على فترة من الرسل في الأرض العربية وقد عمتهم جهالة دينية، فجاءهم بأنه رسول من عند الله تعالى وكان ذلك غريبا فيهم، وجاءهم بقرآن هو معجزته فلم يتدبروه ويفهموه فجعلوا برده، ثم ساروا من بعد في سبل الضلال.
﴿ ولما يأتهم تأويله ﴾ التأويل هو التفسير والفهم وفقه الكلام ومراميه ويطلق بمعنى معرفة المآل ومن ذلك قوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل فد جاءت رسل بنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا... ٥٣ ﴾( الأعراف ).
والنص القرآني يقبل تفسيرين، بل لا مانع من الجمع بينهما :
أولهما – أنهم كذبوا ولم يحيطوا بعلمه، والحال أنهم لما يأتهم في مداركهم وأفهامهم فقهه وما فيه من إنذار وتبشير، وسيأتيهم لا محالة إذا تأملوه.
ثانيهما – أنهم لم يأتهم مآله، وأنه آت لا محالة، وأنهم كذبوا القرآن بما فيه من بعث ونشور وحساب وثواب بالجنة وعقاب بالنار وأنه سيأتيهم، وقد وعد سبحانه، وإنه منجز وعده.
وإن هذه الحال من المشركين هي الحال التي كانت في الأمم السابقة الذين بعث فيهم الرسل وسارعوا بتكذيبهم قبل أن يتأملوا ما أتوا به وقبل أن يعرفوا قوة المعجزة، ثم لجوا في تكذيبهم حتى نفذ الله تعالى أمره فيهم كقوله تعالى :﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم ﴾ كهذه الحال التي كان عليها المشركون من العرب في مسارعتهم إلى التكذيب واللجاجة فيه ثم المعاندة والمقاومة بالعنف من غير إدراك سليم، وهذه الحال هي حال الذين من قبلهم فإذا تشابهت الحال فلا بد أن تتشابه النتيجة أو الأثر ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾ أي فانظر على أي حال كانت عاقبة الظالمين كانت ريحا صرصرا عاتيا، أو ريحا فيها عذاب شديد، أو جعل أرضهم دكا سافلها عاليها أو خسف بهم الأرض أو غير ذلك من آيات الله الكبرى في الذين يظلمون أنفسهم ويظلمون الحق معهم، وإذا كان الله قد أمهل المشركين ولم ينزل بهم ما أنزل بالذين من قبلهم ؛ فلكي يستمر اختيارهم وعسى أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده.
وفي قوله تعالى :﴿ كيف كان عاقبة الظالمين ﴾إظهار في موضع الإضمار ؛ لبيان أنهم ظلموا أنفسهم وظلموا الأنبياء الذين أرسلوا إليهم وأنكروا حقائق ثابتة قد خلت فيمن ظلموا.
وإن الحق حق في ذاته، سواء أكثر من آمنوا به أم قلوا، وسواء خضع له أو لم يخضع، والثواب لمن آمن واهتدى والعذاب لمن كفر.
ولذا قال تعالى :﴿ ومنهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين٤٠ ﴾.
الضمير في كلمه ﴿ منهم ﴾ يعود على المشركين في قريش، أما الضمير في كلمة﴿ به ﴾فيعود على القرآن الكريم.
وإنه من نعم الله على الخلق أن لم يجعلهم جميعا على كلمة الشرك أو الإنكار، بل منهم من يذعن للحق فيسارع إليه كما يسارع المشرك إلى الإنكار.
وهذا الكلام فيه تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه مع هذه الحال الحالكة المظلمة سيكون من يؤمن ومن يجدد إيمانكم في كل الأزمان ويصدق بالقرآن ويذعن له، فالقرآن باق خالد محفوظ، ونور يهدي ما بقى الإنسان في هذه الأرض.
ومنهم من يبتلي الله به المؤمنين بإنكارهم ولجهم في الإنكار ومعاندتهم للحق وحربهم لأهله، والتعبير بالمضارع لبيان تجديد الإيمان واستمراره وأن الكفر باق ليكن ذلك ابتلاء المؤمنين وتثبيتا لإيمانهم، ثم يقول تعالى :﴿ وربك أعلم بالمفسدين ﴾ علما دقيقا محيطا بالذين لا يؤمنون، وعبر عنهم بالمفسدين ؛ لبيان أن في طلبهم الإفساد في الأرض ومنه الإصلاح فيها، فمنهم المنافقون الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ومنهم المعاندون الذين يحاربون الإيمان ويحاولون أن يسدوا مسالك الهداية، وذكر العلم بالمفسدين إنذار بالعقاب من الله تعالى الذي لا يغيب عن علمه كبيرة ولا صغيرة في السماء ولا في الأرض.
إن عليك إلا البلاغ
قال تعالى :
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ٤١ ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ٤٢ ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ٤٣ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون٤٤ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ٤٥ وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون٤٦
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هدايتهم، كما قال تعالى :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾( الشعراء )، فبين الله سبحانه أنه لا يهدي وإنما ينذر ويبشر كما قال تعالى :﴿ إنما أنت منذر... ٤٥ ﴾( النازعات ).
في هذه الآية يآمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحملهم إن كذبوا تبعات أعمالهم في الكفر فقال تعالى :﴿ وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل ﴾ مغبة عملكم عليكم، ومثوبة عملي لي وإني بريء مما تعملون وتكررون عمله آنا بعد آن وتجددونه تجددا مستمرا، وقد أعذر من أنذر وقد أنذرتكم وشددت النذير ووعظتكم أحسن الوعظ وتلوت عليكم آيات بينات فيها سبيل العمل الصالح وتكوين الجماعة الفاضلة فإن استجبتم فقد أحسنتم لأنفسكم، وإن كذبتم فعليكم تبعات ما تعملون، كما قال الله تعالى :﴿ لا أعبد ما تعبدون ٢ ولا أنتم عابدون ما أعبد٣ ولا أنا عابد ما عبتدتم٤ ولا أنتم عابدون ما أعبد ٥ لكم دينكم ولي دين ٦ ﴾( الكافرون )، ﴿ وأنا بريء مما تعملون ﴾ كل إنسان وما يعمله، لا يؤاخذ صلى الله عليه وسلم في كفرهم هو بريء منهم ومن أعمالهم، ومع هذا يبرأ إلى الله من أعمالهم تنزيها لنفسه عن أن يشرك أو يرضى عن شركهم المستمر المتجدد، وقد عبر بالمضارع ؛ لأن أعمالهم الفاسدة متجددة مستمرة التجديد.
في المسلك الذي أمر الله تعالى نبيه أن يسلكه إرشاد حكيم للعصاة وإيئاس لهم من أن يكون معهم، بل فيه دعوة إلى الاقتداء به في عمله، وفيه إشارة إلى فساد أعمالهم، والمفسد إذا رأى عمل المصلح تأثر بعمله، بل إن ذلك أشد تأثيرا من قوله وأفعل في النفس وأدعى للتأمل، واتجاه النفس إلى ما في ثناياها، وربما اهتدت، وأنها لو فرض أمرها إليها قد يكون الخوف فيها، وأنه إذا داخل الجاحد الخوف من مغيب عنه سار في طريق الهداية.
إن هؤلاء المشركين عقولهم غائبة عن الحق سائرة في الضلال غافلة عن دعوة الداعي إلى النور، وقد قال تعالى في بيان غفلتهم :﴿ ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون٤٢ ﴾.
إن السمع لا يعتبر وحده ولا يدرك وحده، بل لا بد من السمع والإدراك، والبصر لا يدرك ما يشاهد ومغزاه وعبره، بل لا بد من أن يرى الرائي ويدرك العبر، وإن هؤلاء أهل جهنم الذين طمس على بصائرهم، كما قال تعالى :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون١٧٩ ﴾( الأعراف )، ﴿ ومنهم من يستمعون إليك ﴾ : ومنهم أي المشركين الذين يعرضون عن الحق، من يستمعون إليك بظاهر حسهم، وتحسبهم مستمعين للقول فيتبعون أحسنه ويفكرون متدبرين مميزين بين الحق والباطل، ولكنهم كالأصم من حيث الهداية ؛ وذلك لأنهم يستمعون إلى الألفاظ تتردد ولا يفقهون معناها ولا يذوقون الحق ويدركونه، وهم كالصم في آذانهم وقر، قد ماتت عقولهم وصاروا في عدم إدراكهم معنى الكلام ومرماه وغاياته وجماله وكماله كمن لا يسمع أصلا ؛ لأنه لا ثمرة لسمعه ؛ لأنه يسمع جرس الكلام ولا يفقهه ولا يذوق بيانه. ومن مواضع العجب أن يطلب ممن هذا شأنه- الإدراك والاعتبار بما يسمع من قصص وعظات، ولذا قال تعالى :﴿ أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ﴾.
الاستفهام للتعجب والنفي، ( الفاء ) لترتيب التعجب على حالهم، والمعنى أنه لا فائدة في استماعهم ودعوتهم، والعجب من رجاء الاستجابة منهم، فهم قد اجتمعت فيهم صفتان تمنعان الاستجابة :
الأولى- الصمم النفسي، وهو يكون بإعراضهم واستنكافهم كأن بهم وقرا.
الثانية- أنهم لا يعقلون، فلا يستجيبون لدعوة الحق.
وانا نظرهم كسمعهم، ولذا قال تعالى : ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون٤٣ }.
إنهم ينظرون إلى السماء وما فيها من أبراج وإلى الأرض وما تخرج من طيبات الرزق ولكنهم عمون عن عجائب الوجود، كما قال تعالى :﴿ أفلم ينظرون إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج٦ والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج٧ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ٨ ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد٩ والنخل باسقات لها طلع نضيد ١٠ رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج١١ ﴾( ق ).
ينظرون في الكون ولكن لا يدركون ما يهدي إليه النظر فكأنهم عمى لا يدركون ؛ لأن النظر من غير إدراك لما يدل عليه المنظور من آيات بينات، شأنه كعدم النظر سواء ؛ إذ ثمرة النظر مفقودة في الحالين.
ولذلك قال تعالى :﴿ ومنهم من ينظر إليك ﴾ ولكنهم غير ناظرين ؛ لأنهم غير مدركين ما في الوجود من آيات بينات، وقال سبحانه :﴿ إليك ﴾ وفي الآية السابقة ﴿ يستمعون إليك ﴾ إشارة إلى أنهم يكونون مع النبي بحسهم و ليس بعقولهم، ثم قال تعالى :﴿ أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ﴾ وشبههم بالعمي لعدم الثمرة في نظرهم، وهم معرضون عن آيات الله تعالى، والاستفهام للتعجب.
ولقد قال الزمخشري في هذه الآية والتي قبلها :" ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، وناس ينظرون ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون، أفتطمع أن تسمع الصم ولو انضم إلى صمهم عدم عقولهم ؛ لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل، ولكن إذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعا فلا فائدة في استماعهم ودعوتهم، أتحسب أنك تقدر على هداية الأعمى ولو انضم إلى العمى، وهو فقد البصر فقد البصيرة ؛ لأن الأعمى له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، وأما العمي مع الحمق فجهد البلاء، وذلك أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا كالصم والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول".
إن الله تعالى قد أنزل آياته وشرائعه يهدي بها من يهتدي، ومن ضل فإنما يضل عليها، ووصفها أمام الأعين البصيرة والآذان المستمعة والقلوب المستقيمة، وأنه يؤاخذ الناس بما كسبوا فإن استقاموا على الطريقة كانت الهداية وإن لم يستقيموا كان الضلال، ولذا قال تعالى :﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ٤٤ ﴾.
إن الله وضع كل أسباب الهداية أمام الناس وأرسل الرسل مبشرين، وما كان ليعذبهم إلا إذا أرسل إليهم من ينذرهم بالعذاب الأليم، إن لم يسلكوا سبيل الحق واختاروا سبيل الضلال وأفسدوا في الأرض بعد أن أضلوا عقولهم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ﴾.
أصل"ظلم" بمعنى أنقص، وأطلقت على ما هو ضد العدل والاستقامة، وأطلقت على الشرك ؛ لأنه انحراف بالعقل عن الاستقامة والطريق السوي، وقال تعالى :﴿... إن الشرك لظلم عظيم١٣ ﴾( لقمان ).
والظلم هنا إما أن نفسره بمعنى النقص ويكون المعنى أن الله لا ينقص الناس شيئا بل يوفر لهم أسباب الهداية والإرشاد من : إرسال الرسل، وإقامة الشرائع وآيات الله والتنبيه إليها، ومنحهم العقول التي تدرك، وحرية الاختيار فيما يفعلون، ويوجد سبحانه فيهم قوي الإدراك. كما قال تعالى :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلككم تشكرون ٧٨ ﴾( النحل )، وإما أن نقول : إن الظلم المنفي هنا هو عدم العدل، ويكون المعنى على ذلك أن الله تعالى لا يظلم الناس شيئا في الظلم مهما قل ؛ لأنه أوجد فيهم الاختيار والإدراك وجعل تحت أيديهم أسباب الهداية، فإن ضلوا فعن بينة وإرادة حرة مختارة، والله تعالى يحصي أعمالهم ويجزيهم عليها، كما ورد برواية مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي عن ربه :" يا عبدي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه"١.
وإذا كان الله تعالى لا يظلم أي قدر من الظلم قل أو جل فإن نزول العذاب بالناس بظلمهم لأنفسهم ؛ولذا قال تعالى :﴿ ولكن الناس أنفسهم يظلمون ﴾.
وهذا استدراك من النفي السابق، وإذا كان الله لا يظلمهم فهم يظلمون أنفسهم، وقدم المفعول على الفعل للاختصاص أو القصر، أي هم يظلمون أنفسهم ولا يظلمون سواها، كما سبق قوله تعالى :﴿... إنما بغيكم على أنفسكم.... ٢٣ ﴾ وذلك ؛ لأن الظالم يقع ظلمه على نفسه ابتداء ؛ لأنه يفسد فطرته وتكون غشاوة على قلبه فتنقص مدراكه وتسوء معاملته، ويسئ إلى نفسه ثم يتردي في أسباب الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة.
يقول تعالى :
١ سبق تخريجه..
﴿ ويوم يحشرهم كان لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ٤٥ ﴾.
وإن العذاب يجيء إليهم في الآخرة كما ذكر سبحانه :
﴿ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ﴾ أي جزء من الزمان قليلا من النهار، وذكر النهار ؛ لأن الليل قد يستطيل الإنسان وقته، ولأن الحشر وكأنه يجيء من غير ظلام بل في إشراق ليستبين المهتدي من الضال، كما قال تعالى :﴿.... كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من النهار... ٣٥ ﴾( الأحقاف )، وقوله تعالى :﴿ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ٤٦ ﴾( النازعات )، والمراد أن يوم الحشر لا يحسون فيه بفاصل زمني بينهم وبين ما كانوا عليه في الدنيا، فيحسون أن الدنيا بطولها ليست إلا زمنا قصيرا قضوه فيها، وفي ذلك إشارة إلى قصر الدنيا مهما طالت فلا يحسون إلا زمنا قصيرا، وقد قال تعالى في بيان ظنونهم نحوها﴿ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون٥٥ ﴾( الروم ).
كما يقول سبحانه :﴿ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ١٠٢ يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا ١٠٣ نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما١٠٤ ﴾( طه )، وكل ذلك يصور إحساسهم بقصر الدنيا يوم تقوم الساعة.
وفي قوله تعالى :﴿ لم يلبثوا إلا ساعة ﴾ الدليل على أنه سبحانه يحشرهم بأقل ما يمكن من الزمن وأن حشرهم ليس عسيرا حتى يأخذ زمنا عند الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهم يحسون الدنيا الفانية شيئا قصير الأمد، ساعة من نهار، أو يوم في تقدير أمثلهم طريقة.
ثم يقول تعالى :﴿ يتعارفون بينهم ﴾ التابعون والمتبوعون، الذين ضلوا والذين أضلوا الفقراء، الذين سخروا منهم والساخرون.
عندئذ يدرك الذين كذبوا بلقاء ربهم ما خسروه بسبب طغيانهم في الدنيا واستهزائهم وقولهم ولكل نبي مانراك اتبعك الا اراذلنا ولذلك بين سبحانه انهم راوا وعاينوا مقام التابعين للحق كما عاينوا دركهم في الجحيم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله خسرو لانهم ظلوا واشتروا الضلالة بالهدى والحياة الدنيا بالآخرة، لم يقدموا لأنفسهم فخسروا خسرانا مبينا، ختم الله الآية بالخسارة العظمى التي أدت إلى الخسائر كلها بقوله تعالى :﴿ وما كانوا مهتدين ﴾ فنفي عنهم الاهتداء نفيا مؤكدا وبقي الضلال المؤكد.
ثم يذكر سبحانه وتعالى ما ينزل بهم :﴿ وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ٤٦ ﴾.
﴿ إما ﴾ هي"إن" الشرطية المدغمة في "ما" و"ما" لتقوية الشرط، وجاءت بعهد نون التوكيد الثقيلة.
وأن نريك الذي نعدهم من الدنيا في خذلان وإعلاء لكلمة الحق وجعل النصر للمؤمنين، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الحق هي العليا وضياع سلطانهم وجعل السلطان في بلاد العرب لله ولرسوله، إن نريك هكذا تكن العزة، فجواب الشرط محذوف تؤخذ دلالته من الشرط نفسه، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما وعده ربه وما أوعدهم به.
﴿ أو نتوفينك ﴾ هو الغرض الثاني وهو معطوف على الشرط السابق، أي يتوفاك الله الذي خلقك ونصرك وأعزك﴿ فإلينا مرجعهم ﴾، أي إن تحضر النصر على الكافرين جميعا وكان منهم من بقي على كفره أو كان إسلامه على نفاق كالأعراب الذين ارتدوا أوممن لم تبلغهم الدعوة في حياتك ثم بلغهم الإسلام بعد وفاتك﴿ فإلينا مرجعهم ﴾، وقدم الجار والمجرور على﴿ مرجعهم ﴾ للإشارة إلى أن لله وحده المرجع والمآب، وهو الرقيب عليهم في الدنيا والمحاسب لهم في الآخرة، ينزل العقاب لمن كفر، والثواب لمن آمن واهتدى وآثر الآخرة الباقية على الدنيا الفانية.
وإن الله شهيد على ما يفعلون ويعطي الثواب والعقاب ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ثم الله شهيد على ما يفعلون ﴾ كلمة﴿ ثم ﴾ للترتيب والتراخي، والترتيب ترتيب معنوي فالله تعالى شهيد على ما فعلوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وما يفعلون بعده، ولكنه فرق بين رؤية النبي فيما يقع حسا، وبين ما ينزل بهم إلى علم الله عالم الغيب والشهادة الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض.
والبعد الذي تدل عليه كلمة﴿ ثم ﴾ هو البعد المعنوي بين رؤية الإنسان وشهادة الله تعالى﴿ الله شهيد ﴾أي عالم علم من يشهد ويرى كرؤيتك المؤكدة، فهو عالم علم المشاهدة بما يفعلون آنا بعد آن، أي بما يتجدد في فعلهم وهو سبحانه يحاسبهم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وإليه المآب.
لكل أمة رسول
قال تعالى :
ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ٤٧ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ٤٨ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجلهم فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون ٤٩ قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ٥٠ أثم إذا ما وقع آمنتم به ألآن وقد كنتم به تستعجلون ٥١ ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ٥٢
إن الله تعالىلا يظلم الناس فيما كان ليعاقب إلا بعد أن يبين الحق ويدعو إلى الرشاد، وينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، ولذلك كان لكل أمة رسول كما قال سبحانه :﴿.... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير٢٤ ﴾( فاطر ).
وقد اتجه المفسرون في قوله تعالى لكل أمة رسول اتجاهين :
الاتجاه الأول – أن ذلك يوم القيامة حيث يجيء كل رسول يشهد لأمته بما كسبت ويشهد عليها بما اكتسبت فيقضي بينهم بالقسط، أي بالعدل الموزون بميزان الحق وهم لا يظلمون، أي أن القضاء يكون الإنصاف فلا ظلم قط.
والاتجاه الثاني – أن هذا نظام الله تعالى الذي سنه في الدنيا يرسل لكل أمة رسولا، ونكر كلمة ﴿ رسول ﴾ فلم يأت به معرفة لتعدد الرسالات وتنوعها فمنهم من جاء لتربية القوة والعزة كما هي شريعة التوراة التي نزلت على موسى، ومنهم من جاء لتربية الروح والنفس كما هي شريعة عيسى لبني إسرائيل الذين غلظت أكبادهم.
وقوله تعالى :﴿ فإذا جاء رسولهم ﴾ أي جاء في وسطهم يدعوهم إلى سواء السبيل، كان من أجاب منهم له ثوابه ومن أعرض ونأى بجانبه حق عليه عقابه، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ﴾.
ونرى أنه لا تعارض بين الاتجاهين، ويمكن الجمع بينهما، فيكون الرسول داعيا في الدنيا، ويكون في إجابته المهتدي والضال، ثم يكون يوم القيامة شاهدا على الفريقين، والله أعلم.
﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين٤٨ ﴾.
وإن المشركين في إنكارهم للبعث يستعجلونه
إن الأساس في رد دعوات النبيين إلى الرسالة الإلهية وهو إنكارهم البعث والنشور وكفرهم بما يغيب عنهم، ولذا يكون استغرابهم من دعوة الرسل وإجابتهم واحدة﴿ متى هذا الوعد ﴾ والخطاب في هذه الآية للرسل، والقائلون هم المشركون، فالضمير في كلمة ﴿ يقولون ﴾ للمشركين لأنهم الذين يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ متى هذا الوعد ﴾ الاستفهام هنا للتعجب والاستهزاء، وللاستفهام عن الزمن البعيد عن الوعد الذي يكون وراء البعث، والوعد هو الإنذار الشديد بالعذاب الأليم فيقولون ساخرين : متى يكون ذلك الوعيد ؟ ويكررون ذلك الاستفهام المستهزئ الذي ينم عن الاستهانة وعدم الاهتمام غرورا بأنفسهم وانغمارا في لذاتهم.
وأعقبوا الاستهانة والاستهتار بقولهم :﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي أنهم يردفون الاستهزاء بتكذيب الرسل، ولا بد من الإشارة إلى أن ذلك يتكرر في خطاب كل الرسل، وأن الكفر بلسان واحد في الاستنكار والاستهزاء ؛ ولذا جاء الخطاب للرسل أجمعين لا لمحمد صلى الله عليه وسلم وحده ؛ لأن دعوتهم واحدة، ورد المشركين واحد، وإن كان المتحدث عنهم مشركو العرب ؛ لأنهم صورة منهم بل أوضح صورة عند محمد صلى الله عليه وسلم – طلبوا منكرين ومستهزئين، وكرروا الطلب متى هذا الوعد ؟ وهو العذاب الذي أوعدت، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم :
﴿ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون ٤٩ ﴾.
طلبوا مستهزئين غير مبالين أن يحل بهم ما وعد الله من عذاب فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم أنه لا يملك ذلك وإنما يملكه الله تعالى وحده، ويقول لهم صلى الله عليه وسلم أنه إنسان مثلهم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، وبالأولى لا يملك لغيره ثم بالأولى لا يملك ضررا عاما يعم المشركين جميعا كما يطلبون.
﴿ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ﴾ وقدم الضر على النفع ؛ لأنهم يطلبون أن ينزل بهم ما يضرهم فكان الرد بنفيه أولا، فإذا كان لا يملك أن يضر نفسه فلا يملك أن يضر غيره.
وقوله تعالى :﴿ إلا ما شاء الله ﴾ استثناء يبين كمال سلطان الله وأنه وحده الذي يشاء ويختار وينفذ في الوجود الكوني ما يشاء هو، لا ما يشاء غيره، والمعنى هنا ان شاء فالذي يملك سبحانه وإن لم يشأ فلا أملك، والاستثناء بقوله :﴿ إلا ما شاء الله ﴾ حيث الإرادة والاختيار المطلق لله تعالى وحده كقوله سبحانه :﴿ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك... ١٠٧ ﴾( هود )، فهي دالة على اختياره المطلق ومدلول هذا الاختيار أنه لو شاء لضر، فليس أمر هذا الكون أو الإنسان يقع بغير اختياره، وهذه إجابة فيها بيان أنه صلى الله عليه وسلم ليس مغترا كاغترارهم وأن قوته محدودة ولا يدعى ما ليس له مثله، ومع هذه الإجابة إجابة أخرى هي قوله تعالى :﴿ لكل أمة أجل ﴾ أي زمن محدود تنتهي عنده، والأمم السابقة كان أجلها بما ينزل عليها من عذاب ساحق مبيد للكافرين كالغرق لقوم نوح، والهلاك بسبب سماوي كما كان لقوم لوط وعاد وثمود.
لم يقدر لكم الله تعالى الهلاك كهذه الأمم، بل إنه لا يزال يرتجي الخير لبعضكم أو أن بكون من أصلابكم، وفي هذا ما يفيد أن الوعد في الآية السابقة ما كان مقصورا على الكافرين بعذاب الآخرة بل يشمل ما كان في الدنيا من إهلاك الكافرين المفسدين، كما تقص القصص الصادقة في القرآن.
﴿ إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾ أي إذا أحل أجلهم في زمانه المعين الذي قدره الله تعالى لا يستطيعون طلب تأخيره أو تقديمه ( السين، والتاء ) للطلب أي أنهم ليس لهم تأخيره أو تقديمه كما يتوهم المشركون ويطلبونه مستهزئين أو جادين.
وقد أشار سبحانه من بعد ذلك إلى أن عذابهم قد يقع في الدنيا كما وقع لغيرهم، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ليقول لهم :﴿ قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ٥٠ ﴾.
﴿ أرأيتم ﴾ استفهام داخل على رأيتم وهو لتصوير حالهم، والمعنى أرأيتم وتصورتم حالكم إذا أتاكم عذابه بياتا وأنتم نائمون بريح عاصف أو هدمت عليكم دياركم وجعل الله عليها سافلها وأنتم نائمون، أو جاءكم نهارا ورأيتم الهول الكاسح، كقوله تعالى :﴿ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ٩٧ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ٩٨ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ٩٩ ﴾( الأعراف ).
هذا تصوير العذاب الذي يطلبونه فيقول سبحانه :﴿ ماذا يستعجل منه المجرمون ﴾ هنا إضراب انتقالي في القول، والمعنى أرأيتم إن ينزل بكم العذاب بياتا أو نهارا، وتصوروه واقعا بكم، أم ماذا تريدون، أو ما الجزء الذي تريدونه، وهو لا يتجزأ أو يتجزأ وجزؤه ككله، وفي النص القرآني بعض الألفاظ :
أولا – قوله﴿ أرأيتم ﴾ هو استفهام عن الرؤية البصرية أو القلبية، وقد قلنا : إن الكلام يتضمن تصوير العذاب الذي يستهزؤون به أنه لم يقع، والزمخشري يقول :﴿ أرايتم ﴾ تدل على طلب الإخبار، أي أخبروني ما هي حالكم إذا نزل بكم العذاب بياتا أو نهارا.
ثانيا- عبر سبحانه عن نزوله ليلا بقوله :﴿ بياتا ﴾ للدلالة على السكون والاطمئنان وأنه يجيئهم وقت اطمئنانهم وسكونهم فيكون أشد وقعا.
ثالثا- إن جواب الشرط في قوله تعالى :﴿ إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ﴾ محذوف وهو الندم على الاستعجال والإحساس بالهول الشديد.
رابعا- قوله تعالى :﴿ ماذا يستعجل منه المجرمون ﴾ وصفهم بالإجرام، أولا والإشارة إلى سبب إنكار البعث وعذاب الله الذي يستحقونه وهو إيغالهم في الجريمة للتوبيخ على فعلتهم، وقد قال في ذلك الزمخشري :" إن في حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه وإن أبطأ فضلا عن أن يستعجله". فيشير بهذا إلى أنهم كان يجب عليهم أن يشعروا بالجريمة وأنها تستدعي عقابا لا محالة ؛ وذلك يوجب عليهم أن يتوقعوه لا أن يستعجلوه.
إن وعد الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم آت لا محالة يوم لا ينفع نفس إيمانها بعد أن كفرت، ولذا قال تعالى :﴿ أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون٥١ ﴾.
﴿ ثم ﴾ عاطفة وهي للترتيب والتراخي، والترتيب هو ترتيب الاستفهام بعد الاستفهام، والاستفهام السابق كان لتصور العذاب وحالهم عنده ليعتبروا ولا يستعجلوا، وجاء الاستفهام الذي يليه وقد وقع العذاب فعلا ؛ فالأول كان لتصوير العذاب متوقعا، والثاني لوقوعه بهم والتفاوت بينهم كالتفاوت بين المتوقع والواقع والتصور والحقيقة، وفيه الإشارة إلى أنهم لماديتهم لا يؤمنون إلا بما يرون.
والتوقع هو ما يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوقعوه ويتصوروه، وإلا فهم مكذبون مستهزؤون.
و﴿ ثم ﴾ متأخرة والتقديم للاستفهام ؛ لأن له الصدارة وتقدير القول أنه إذا ما وقع ورأيتموه رأي العين في الآخرة آمنتم به وصدقتموه، وقد قضى زمن التكليف وانتهت دار الابتلاء وجاءت دار الجزاء، إنه إيمان لا ينفع.
ثم أردف سبحانه ذلك بتوبيخهم على تأخرهم في الإيمان واستعجالهم العذاب فقال سبحانه :﴿ آلآن وقد كنتم به تستعجلون ﴾ أي تؤمنون به في هذا الوقت المتأخر وقد كنتم مكذبين وتستعجلون متحدين أو متهكمين أو ساخرين، فالاستفهام إنكاري توبيخي، والتوبيخ من نواح ثلاث :
أولاها- من ناحية إنكارهم البعث.
ثانيتهما- من ناحية تهكمهم على من ينذرهم.
ثالثتها – أنهم لا يؤمنون إلا في الوقت الذي لا ينفع النفس إيمانها.
وقوله تعالى :﴿ وقد كنتم به تستعجلون ﴾ يقول كثير من المفسرين التابعين للزمخشري :﴿ تستعجلون ﴾ معناها تكذبون، وإني أقول أنهم كانوا مكذبين حقيقة ولكن كانوا يستعجلون فعلا ولو بظاهر القول، ويكون ذكر الاستعجال تهكما بهم وتوبيخا لهم في قوله تعالى :﴿ وقد كنتم به تستعجلون ﴾ جمع بين الماضي والحاضر، وهو دليل على استمرار استعجالهم التهكمي وتكذيبهم باليوم الآخر ووعد الله تعالى بالجزاء.
هذه حال المكذبين وإيمانهم بعد وقوع العذاب وإنكارهم لتوقعه ثم إيمانهم به بعد أن يروه، ثم يبين سبحانه وقوع العذاب وتمكنه منهم فيقول تعالى :
﴿ ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ٥٢ ﴾.
﴿ ثم ﴾ للعطف والترتيب والتراخي، والعطف هنا يكون على الاستفهام السابق وما تضمن من توبيخ وتهكم بهم، كما تهكموا على أوامر الله تعالى ونواهيه من قبل، ودعوتهم إلي الإيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب، والتراخي في الانتقال من مرتبة التوبيخ على الكفر إلى مرتية العذاب العتيد الحاضر المهيأ.
قوله تعالى :﴿ قيل للذين ظلموا ﴾ بني للمجهول للإشارة إلى أنه استخفاف منطقي يقال بحكم المنطق والوقوع لكفرهم، وعبر عنهم بالموصول ﴿ للذين ﴾ للإشارة إلى سبب العقاب وهو ظلمهم بالشرك وقصد الضلال والإفساد في الأرض وأشاعه زور القول وبهتانه، وإفراطهم في الأخذ بالماديات التي سيطرت على أفهامهم وصاروا لا يؤمنون إلا بها.
﴿ ذوقوا عذاب الخلد ﴾ فيه إضافة العذاب إلي بيان له هو أنه خالد دائم ما دامت السموات والأرض، وفي قوله تعالى :﴿ ذوقوا ﴾ تشبيه للعذاب بالشيء الذي يذاق فيصيب إحساسهم، حتى أنهم يذوقونه كما يذاق الشيء المؤلم المرير.
﴿ هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ﴾ فيه أن العذاب بسبب ما كنتم تكسبون من أعمال خبيثة فيها إيذاء للناس وإفساد لعقائدهم فهو جزاء وفاق، والجمع بين الماضي والمستقبل دليل على أنهم يكسبون الشر دائما لا ينأون عنه ولا يقصرون.
والاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، والمعنى لاتجزون إلا ما كنتم تكسبون، فجعل سبحانه الجزاء كأنه العمل الذي استوجبه أصلا، وذلك مبالغة في العدالة فالجزاء والعمل متساويان.
الجزاء شديد
ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ٥٣ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ٥٤ ألا إن لله ما في السماوت والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ٥٥ هو يحي ويميت وإليه ترجعون ٥٦
ذكر لحالهم يوم القيامة عندما ينزل بهم ما كانوا يستعجلون به ويرونه حقا وصدقا وعيانا، وقد كانوا من قبل ينكرون وقوعه ويعجبون ويستهزئون ممن يذكرهم، وقد ذكر سبحانه صورة من القول الذي كان على ألسنتهم.
﴿ يستنبئونك ﴾ النبأ هو الخبر ذو الشأن، والسين والتاء للطلب وهي، هنا لطلب البيان، فالمعنى يستخبرونك عن النبأ العظيم وهو أن الناس يحيون بعد أن يموتوا، وتجمع أجسامهم بعد أن صارت رفاتا وعظاما، وقد أمر الله تعالى أن يجيبهم بتأكيد الوقوع مقسما. فقال سبحانه :﴿ قل إي وربي إنه لحق ﴾.
﴿ إي ﴾ معناها "نعم" إنه حق ثابت واقع لا محالة، وقد قدر علماء البيان أن كلمة﴿ إي ﴾ التي تكون بمعنى نعم، لا تكون إلا ومعها قسم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره ربه :﴿ وربي ﴾ أي الذي خلقني فبرأني ورباني، وفيه إشارة إلى تقريب تحقق ذلك الأمر الذي عجبوا منه واستنكروه واستهزءوا به، والقسم عليه ﴿ إنه لحق ﴾ أكد أنه حق بالجملة الاسمية وب"إن" التي للتوكيد وباللام.
أكد القسم أنه في قدرة الله وفي إمكانه ولا يخرج عن قدرة القاهر لكل شيء فقال سبحانه :﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ أي لستم معجزين لله تعالى عن إعادتكم وحسابكم على ما قدمتم وأخذ المجرم بما اكتسب وإعطاء المحسن ما استحق من ثواب، والاستفهام في﴿ أحق هو ﴾ حقيقي منهم لأنهم جاهلون باليوم الآخر غلبت عليهم الحياة الدنيا، وأنه قد يكون تعجبا واستغرابا واستنكارا، وتومئ إلى هذه صيغته﴿ أحق هو ﴾ وهو لعجبهم الذي بينه الله تعالى في قوله :﴿ وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد... ٥ ﴾( الرعد ).
قال ابن كثير :" لم يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بإجابة المشركين بالقسم إلا في ثلاث مواضع هذه أولها. والثانية : في قوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم.... ٣ ﴾( سبأ )، والثالثة : في قوله تعالى :﴿ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ٧ ﴾( التغابن )..
كان أمر الله بالقسم في هذا المقام ليزيل غرابتهم أولا، وليؤكده في ذات نفسه ثانيا، وليحملهم على الاستعداد له ثالثا.
﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ فيه بيان للإمكان ثم التحقق، وتأكيد لإزالة الاستغراب، وهو نفي مستغرق للإعجاز، فالله تعالى خالق كل شيء لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير.
إن ما يكون في يوم الجزاء من عقاب للآثمين يساوي كل ما في الدنيا بحذافيرها من متاع، ولذا قال تعالى :
﴿ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ٥٤ ﴾.
إن الهول سيكون فوق ما تدركه عقول من كفروا بذلك اليوم واستهانوا واستهزءوا به، وأنه لو تحقق لكل نفس ظلمت بالشرك والعناد والاعتداء والشهوات وغير ذلك من الظلم وهو ظلمات يوم القيامة، لو ثبت أن لها ما في الأرض من معادن وزروع وحدائق وجنات ونعيم ثابت وعارض تملكه وما في الأرض جميعا لافتدت به وقدمته كله فداء، وهذا بيان لتضاؤل الدنيا بنعيمها وما فيها إلى جانب عذاب الله تعالى، وأن كل نفس أن تتوقاه في هذه الدنيا.
﴿ وأسروا الندامة ﴾ عندما يرون هول يوم القيامة اعترتهم الندامة وأسروها لا يستطيعون إبداءها من ذهولهم بما راوا، وقد قال في ذلك الزمخشري قولا حسنا :﴿ أسروا الندامة ﴾ لما رأوا العذاب ؛ لأنهم بهتوا برؤية ما لم يحسبوا ولم يخطر ببالهم، وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم وبهرهم فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ولا ما يفعله الجازع سوى إسرارهم الندم والحسرة في القلوب، كما ترى المقدم للصلب فإنه من فظاعة الخطب لا ينبس بكلمة ويبقى جامدا مبهوتا، وقيل أسر رؤساؤهم وسفلتهم، أسروا الندامة حياء منهم ومن فعلتهم وخوفا من توبيخهم. وقيل أسروها، أي أخلصوا إما لأن إخفاءها إخلاصها، وإما من قولهم أسر بالشيء لخالصه، وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة".
وإن الآية الكريمة تشمل كل هذه المعاني مع أن أولها المتبادر، ولكنه كلام الله يحمل المعاني التي ندركها وغيرها، والله تعالى وحده أعلم.
﴿ أسروا الندامة ﴾ الضمير يعود على كل الظالمين ظلمت نفوسهم وودوا أن يكون في ملكهم الأرض وما فيها، والضمير بلفظ الجمع يعني الجمع في قوله :﴿ ولو أن لكل نفس ظلمت ﴾.
وإن الله يقضي بينهم بالقسط، أي بالحق الذي يوزن فيه بميزان دقيق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وهم لا يظلمون، أي لا ينقصون شيئا لأنهم يحاكمون أمام الحكم العدل اللطيف الخبير.
إن البعث وما بعده من حساب هو في قدرة الله ؛ لأنه مالك الوجود بما فيه ومن فيه.
﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ٥٥ ﴾.
﴿ ألا ﴾ للتنبيه إلى عظم ما يجيئ بعدها لدلالته على القدرة القاهرة والسلطان الظاهر.
﴿ إن لله ما في السماوات والأرض ﴾ من نجوم ذات أبراج، وأرض ذات جبال، ومعادن، وأحياء غير ذلك، وأن من يملك شيئا يحكمه ويكون في قبضة يده ينظمه بحكمته وعدالته، وأنه يبدأ الخلق ثم يعيده وإن الحساب أمر ثابت، وإن الله لا يخلف الميعاد، وإن موعده حق لا يقبل التخلف. وفي الكلام إخبار مؤكد من الله تعالى وعده حق، فقال سبحانه بعد بيان ملكيته المطلقة للكون وما فيه وقدرته :﴿ إن وعد الله حق ﴾ وهذا تأكيد من الله تعالى مؤكد بإضافته إلى الله تعالى العلي الأعلى.
﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ الاستدراك هنا لمخالفة المخالفين بعد تأكد الخبر من فم الأمين الصادق ومن الله تعالى، وذلك يوجب التصديق والإذعان والإيمان وحكم على الكثرة لا على الجميع ؛ لأن الذين لا يعلمون الحق وأخذوا بالمادة هم الأكثرون كقوله تعالى :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله.... ١١٦ ﴾( الأنعام ).
ولقد قرب الله تعالى البعث بأمر يرونه كل يوم، فقال تعالى :
﴿ هو يحيي ويميت وإليه ترجعون ٥٦ ﴾.
الضمير في كلمة﴿ هو ﴾ يعود إلى لفظ الجلالة مالك السموات والأرض والمدبر لهما﴿ يحيي ويميت ﴾ يخلق من الميت حيا، ويخرج من النواة الجامدة حبا ناميا، يأتي بالزرع حبه متراكب ثم يصير غثاء أحوى فيكون في ذلك حطام، ويميت الإنسان فيصير ترابا، وهكذا المثل المستمر في الوجود بين إحياء وإفناء، وأن من يفعل ذلك قادر أن يعيد الأموات أحياء ويبعثهم.
ثم يبين سبحانه النتيجة منذرا﴿ وإليه ترجعون ﴾ أي أن الرجوع إليه وحده لا محالة، وإن جزاء الإحسان إحسانا، وأما الإساءة فعاقبتها عذاب يوم عظيم والله يتولى كل شيء.
شرع الله رحمة وشفاء
يقول تعالى :
يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ٥٧ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ٥٨ قل أرأيتم ما أنزل الله لكل من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ألله أذن لكم أم على الله تفترون ٥٩ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ٦٠
النداء للناس جميعا عربا كانوا أم عجما ؛ لأن شريعة الله للناس كافة كما قال سبحانه :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا... ٢٨ ﴾( سبأ ).
ولذا كان النداء بالبعيد لقوله تعالى :﴿ يا أيها الناس ﴾.
تبين هذه الآية أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم قد اجتمعت فيه عناصر أربعة هي أقسام القرآن الكريم وهدايته :
القسم الأول – الدعوة إلى كل خير والإبعاد عن الشر والزجر، وضرب الأمثال في القصص القرآني الحكيم، والتربية النفسية بالعظة والاعتبار، كما قال تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب... ١١١ ﴾( يوسف ).
ونسب سبحانه الموعظة إلى نفسه فقال :﴿ من ربكم ﴾ وذكر الرب في هذا المقام إشعار بأنها في التربية الربانية الحكيمة لمن اتعظ واعتبر وأدرك وفقهت نفسه إلى الحقائق ووعاها.
القسم الثاني – أنه مما اشتمل عليه القرآن أنه شفاء لما في الصدور، كما قال تعالى :﴿ وشفاء لما في الصدور ﴾ فإذا كانت الموعظة تقتضي واجبا إيجابيا هو تربية وتهذيب وإنشاء، فالشفاء كشف وإزالة لأدران الأمراض النفسية من حسد وحقد وتباغض وتنازع وخوف تبتدئ في الصدور وتنتهي إلى أن تكون أسقاما في المجتمع البشري تفسد بناءه وتقوضه، وكل هذا داء يحتاج إلى دواء، وفي القرآن الكريم ذلك الدواء الذي يكون به الشفاء.
القسم الثالث- هو الهداية فقال سبحانه :﴿ وهدى ﴾ أي أن فيه الهداية إلى الطريق المستقيم، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم فسلكوا الطريق الأقوم وبعدوا عن الشرك والضلال والاعوجاج، وساروا على هدى من الله استقامت به قلوبهم وألسنتهم وكان منهم المجتمع الكامل القويم لا عوج فيه ولا التواء عن القصد السوي.
القسم الرابع- ﴿ ورحمة للمؤمنين ﴾ هو ما في القرآن الكريم من رحمة، والرحمة هنا هي الشريعة المنظمة لمجتمع المؤمنين الذي يأخذ بها كل ذي حق حقه، ويرتدع بها الظالم، ففي شرائعها الإيجابية رحمة بالناس وكل نظمها رحمة وفي شرائعها الناهية رحمة ؛ لأنها تنقية من الفساد ودفع لظلم الآحاد، وإذا كان الظلم شقاء فدفعه رحمة وسعادة، وإن العقوبات الزاجرة التي شرعها الكتاب الحكيم رحمة، وإنه من الرحمة أن يؤخذ المجرمون بجرائمهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم :"من لا يرحم لا يرحم"١ ودفع الظلم والقصاص رحمة ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب... ١٧٩ ﴾( لبقرة ).
ودفع اعتداء المعتدين رحمة وذلك من قوله تعالى :﴿... ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض... ٢٥١ ﴾( البقرة ).
وإن الموعظة والشفاء والهدى والرحمة للمؤمنين ؛ لأنهم يتعظون بموعظه ويستشفون بشفائه ويهتدون بهدايته وتنالهم رحمته.
قال البيضاوي في مغزى هذه الآية :" قد جاء كتاب جامع للحكمة العملية الكاشفة عن محاسن الأعمال ومقابحها، المرغبة في المحاسن والزاجرة عن المقابح، والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد وهدي إلى الحق واليقين ورحمة للمؤمنين، حيث أنزلت عليهم، نجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران إلى مصاعد من درجات الجنان".
إن في فضل الله على عباده نزول القرآن الكريم المشتمل على هذا الفضل العظيم الذي يقول فيه سبحانه :
١ متفق عليه، وقد سبق تخريجه..
﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ٥٨ ﴾.
أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول :﴿ بفضل الله وبرحمته ﴾ أي أن هذا القرآن الذي نزل جامعا للموعظة المبينة وشفاء القلوب وهدايتها، والشريعة هي من فضل الله على خلقه الذي يختص بها من يشاء، وبرحمته على عباده الذين أنقذهم من الضلال، وفي هذا بيان بأن تنزيل القرآن وما فيه هو بفضل الله ورحمته، وتكرار حرف الجر( الباء ) ؛ لبيان أن كليهما مراد الله تعالى من تنزيل الكتاب، ثم يبين سبحانه أن هذا القرآن بما فيه هو أساس للسعادة والسرور والفرح لقوله تعالى :
﴿ فبذلك فليفرحوا ﴾ والفاء الثانية واقعة في جواب الشرط المقدر المطوي في قوله تعالى :﴿ فبذلك ﴾ أي فإن ذلك النزول إذا كان من فضل الله ورحمته فليفرحوا، وتكررت( الباء ) لتأكيد أن ذلك الفضل وتلك الرحمة من أسباب الفرح وهو يزيد على كل خير الدنيا ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ هو خير مما يجمعون ﴾ الضمير في ﴿ هو ﴾ يعود إلى القرآن بما فيه من موعظة وهداية وشفاء لأسقام القلوب، ﴿ خير مما يجمعون ﴾ أي من أموال ورخاء في الدنيا وأسباب القوة وغير ذلك مما هم حريصون على جمعه راغبين فيه، فإنه إن كان يفرح زمنا فإنه يكون وبالا على صاحبه، والمفاضلة هنا هي بين منافع مادية عاجلة ومنافع روحية، وكلمة خير تدل على أنه بلغ إلى الدرجات عن هذا الذي يجمعونه.
إن الشريعة الرحيمة التي تشمل الحلال والحرام يخرج الكافرون عن نطاقها ولهذا قال تعالى :
﴿ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ٥٩ ﴾.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم عن الرزق الذي أنزل إليهم إذ يجعلونه حراما وحلالا من غير أمر إلهي يحل لهم ويحرم. وقد بين الله تعالى في الآية السابقة كيف هداهم وأرشدهم، وفي هذه الآية الكريمة كيف يتقون رحمة الله إذا انحرفت نفوسهم بالشرك.
﴿ أرأيتم ﴾ استفهام إنكاري والإنكار منصب على الرؤية وما بعدها من جعلهم بعضه حراما وبعضه حلالا، والاستفهام الإنكاري هنا إنكار للواقع، أي بمعنى التوبيخ فالله تعالى يوبخهم على أن جعلوا منه حراما وحلالا.
وكلمة﴿ أنزل ﴾ معناها خلق وأنشأ، وعبر بالنزول باعتبار أن الرزق رحمة نازلة من الله تعالى، أنزل سبحانه من السماء مطرا أنبت به من ثمرات كل شيء مما يأكل الناس والأنعام وهو بمقتضى أصل الخلق والتكوين حلال بالإباحة الأصلية الثابتة، يقول تعالى :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا... ٢٩ ﴾ ( البقرة ) إلا ما كان من الخبائث التي حرمها الله تعالى، ويقول سبحانه :﴿ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا... ١٣٦ ﴾( الأنعام ).
أي للأحجار التي جعلوها بزعمهم شركاء لله.
وحرموا السائبة والوصيلة والحام وغير ذلك كفرا بالنعمة وشركا بالله وعبثا برحمته.
﴿ فجعلتم منه حراما وحلالا ﴾ أي صيرتم منه حراما على أنفسكم، ولم يكن كذلك بل كان حلالا بمقتضى أن الله لم يحرمه. ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم﴿ قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ﴾، وهنا الاستفهام داخل على لفظ الجلالة وموضوعه الإذن وهو فاعل لفعل محذوف دل عليه "أذن" بعد ذلك، كالشرط إذا دخل على الاسم كما في قوله :﴿ إذا السماء انشقت١ ﴾( الانشقاق ).
الاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع لهذا التحريم، و﴿ أم ﴾ التالية لإضراب عن الاستفهام السابق ؛ لأن المستفهم عنه منفي وقوعه، فهو انتقال من الاستفهام الإنكاري النافي إلى استفهام توبيخي ناف للواقع، فقد حكم سبحانه مع التعجب التوبيخي بنفي أن يكون ذلك بإذن الله، والاستفهام ممحص للتوبيخ على ما وقع منهم، وهو الافتراء على الله تعالى :﴿ أم على الله تفترون ﴾.
وقدم قوله تعالى :﴿ على الله ﴾ للتخصيص، أي أنتم بهذا تفترون على الله لا على غيره، وأي فساد في التفكير أن يكون افتراؤهم على الله خالقهم وخالق الوجود كله، وأنهم يعترفون بالخالق وأنه لا شريك له في خلقه ولكن يعبدون الأحجار لتكون شافعة عنده، فكانوا سخفاء في شركهم وفي تبريره. تعالى الله عما يشركون.
بعد أن أكد سبحانه أنهم يفترون سألهم عما يتوقعه الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة.
﴿ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون٦٠ ﴾.
الظن هنا هو التوقع المبني على الظن الذي اختاروه لأنفسهم سبيلا بدل أن يتحروا مستيقنين، والاستفهام توبيخي إنكاري وطلب لأن يفكروا فيما يتوقعون يوم القيامة، هل يتوقعون مع افترائهم على الله أن يدخلوا جنات النعيم ؟ أم يتوقعون جزاء وفاقا لما صنعوا في جنب الله تعالى من عصيان وتمرد على أوامره، بل إنهم ساروا في عصيانهم إلى أبعد أنواع الضلال فافتروا على الله في الحلال والحرام، فحرموا على أنفسهم نعمه ونسبوا التحريم إليه، وحللوا ما حرم الله وافتروا كما كانوا يفعلون من الطواف عرايا.
وقد بين سبحانه أنه أنعم عليهم، وهم الذين غيروا وبدلوا وحرموا طيبات أحلت لهم ولم يشركوا بالطاعة والحمد على ما تفضل به عليهم سبحانه، فقال تعالت كلماته :﴿ إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ﴾ في قوله تعالى تأكيد لفضله ب﴿ إن ﴾ المؤكدة وبالجملة الاسمية، وبأن الفضل يصحب كل تصريفه لأمور العباد تعالى، فقال سبحانه :﴿ لذو فضل ﴾ مؤكد ذلك باللام.
﴿ ولكن أكثرهم لا يشكرون ﴾ الاستدراك هنا معناه أنه كان حقا عليهم أن يشكروا فاستدرك سبحانه على هذه النتيجة المنطقية وقرر أن أكثرهم عدلوا عنها وانحرفوا عن مسلكها إلى الضلال فكانوا لا يشكرون وجحدوا، وكان التعبير بالمضارع ؛ لدوام عدم شكرهم وتكرر جحودهم وتجدده آنا بعد آن.
الله تعالى رقيب على العباد
قال تعالى :
وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين٦١
إن أكثر الناس لا يشكرون نعمة الله ويكفرونها، وإذ يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم يناله أذاهم واستهزائهم والتعذيب لبعض أتباعه ومقاومة الدعوة وفتنة من يتبعونها من الضعفاء وغيرهم، والله تعالى يبين علمه بذلك وإمهاله لهم رجاء إجابتهم.
﴿ وما تكون في شأن ﴾ الشأن هو القصد والحال من قولهم شأنت شأنه، أي قصدت قصده، والله تعالى يعلم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومقاصده وما يقوله من إرشاد وتوجيه وبيان لحججه، والله سبحانه عليم بجهاده في دعوته إلى ربه﴿ وما تتلو منه من قرآن ﴾ أي ما تتلوه عليهم من أجل هذا الشأن، ولتحقيق الرسالة في القرآن فالضمير في قوله تعالى :﴿ وما تتلو منه ﴾ يعود على الشأن، أي ما تتلو من أجله عليهم في بيان هذا الشأن لتكذيبهم، فتتحداهم لإثبات الحق كالآيات التي يتحداهم فيها أن يأتوا بمثله.
﴿ ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا ﴾ التفت الخطاب الكريم إلى الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم، كما هو شأن الخطاب في قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس... ٢١ ﴾( البقرة )، وكان هذا الخطاب العام للناس لبيان علمه سبحانه بكل ما يعملون، وفي ذلك إنذار وتبشير﴿ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا ﴾، ﴿ ما ﴾نافية وكلمة﴿ إلا ﴾للاستثناء من النفي، أي ما كان عمل النبي معهم ولا عملهم معه إلا كنا عليه شهودا، ضمير المتكلم لله سبحانه، وجاء بضمير الجماعة تعظيما وإجلالا، وجاء هكذا لمناسبة ضمير الجماعة في﴿ كنا ﴾ ؛ولأن﴿ شهودا ﴾تتضمن تعدد الشهادة بعدد حوادثها، فالله تعالى يعلم علم المشاهدة والمعاينة لكل واقعة وكأنه شاهد عليها، وبتعدد الحوادث يتعدد العلم بالمشاهد، وكان علمه سبحانه- وله المثل الأعلى – علم شهود.
والشهادة تتضمن هنا معنى المراقبة والإحصاء والتتبع والاستقراء، ولذا قال تعالى في بيان أنه يعلم كل شأن وكل عمل في وقت وقوعه﴿ إذ تفيضون فيه ﴾ أفاض بمعنى اندفع واسترسل، والضمير في كلمة﴿ فيه ﴾ يعود إلى كلمة﴿ عمل ﴾أي لا تعملون عملا، ويشمل العمل القول، إلا يعلمه سبحانه وقت أن تندفعوا فيه مسترسلين سواء كان خيرا أم كان شرا، دق أو جل ؛ ولذا قال سبحانه في بيان علمه لكل شيء مهما صغر :﴿ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ﴾، ﴿ يعزب ﴾ أي يغيب فالمعنى أنه لا يغيب ولا يبعد فهو حاضر دائما مهيأ عند الحساب، ﴿ مثقال ذرة ﴾ أي وزن ذرة وهي أصغر جزء لفتات الأشياء، وقد أثبت العلم أن بالذرة نواة ذات ثقل والله تعالى أعلم بما فيها، وقال العلماء : إن في قوتها مجتمعة ومنفردة دليل لقدرة المنشيء لكل شيء في الوجود الفاعل المريد المختار.
ثم يقول سبحانه في بيان عموم علمه :﴿ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ﴾ كلمة﴿ لا ﴾هنا هي تأكيد للنفي في ﴿ ما يعزب ﴾ وكل هذا مكتوب في كتاب مبين، أي بين واضح يبرز يوم القيامة منشورا معلما كل ما فيه، ولقد ذكر سبحانه عموم علمه بالأشياء﴿ وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ٥٩ ﴾( الأنعام ).
ثم يقو سبحانه :﴿..... لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض... ٣ ﴾( سبأ ).
وقد تساءل الزمخشري عن تقديم السموات على الأرض في هذه الآية ؛ لأنه سبحانه قدم الأرض في الآية من سورة يونس، فقال الزمخشري :" من حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه سبحانه لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم فلزم تقديم الأرض، وفوق ذلك أن التكليف والحساب والإنذار والتبشير على أهل الأرض ولا يعرف لأهل السماء إلا في علم التكليف، ولأن الأرض خلق منها الذين يحاسبون وإليها يعودون والله تعالى عليكم بكل ما في الوجود".
أولياء الله
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٦٢ الذين آمنوا وكانوا يتقون ٦٣ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ٦٤ ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا وهو السميع العليم٦٥
ذكر سبحانه وتعالى أنه ناصر أولياءه، وأن مآلهم النعيم لا يخافون ولا يحزنون :{ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون٦٢ الدين امنوا وكانوا يتقون ٦٣
ولي الله هو المحب لله المطيع لأوامره المجتنب نواهيه، ويكون الله تعالى في قلبه دائما، لا يتحرك إلا في حب الله رجاء رضاه أولا، ورحمته ثانيا، واتقاء عذابه ثالثا، وإن المشركين الكافرين كانوا يعادونهم ويستكبرون عليهم فبين الله تعالى أنهم إذا كانوا فقدوا ولاء الكافرين فقد استبدلوه بأن الله مولاهم، وأولياء الله يتحابون فيما بينهم ولا يوادون من يحادد الله ورسوله، كما جاء في قوله تعالى :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أوعشيرتهم... ٢٢ ﴾( المجادلة ).
﴿ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ لا خوف عليهم من عذاب يترقبونه ولا هم يحزنون لخير فاتهم، وأكد نفي الحزن عنهم ؛ لأن قلوبهم عامرة بالله سبحانه
﴿ الذين آمنوا وكانوا يتقون ٦٣ ﴾آمنوا بالله حق الإيمان يعبدونه كأنهم يرونه فإن لم يكونوا يرونه يحسون في عبادتهم كأنهم في حضرته العلية سبحانه، وهذا هو الإحسان، كما قال صلى الله عليه وسلم :" اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"١. ﴿ وكانوا يتقون ﴾ أي يخافون غضب الله تعالى ويتقون عذابه.
وإنهم إذ يؤمنون ذلك الإيمان ويحسنون ويتقون الله حق تقاته، تكون قلوبهم عامرة بذكر الله تعالى فلا يخافون من مستقبلهم، وقد فوضوا أمورهم لله تعالى وتوكلوا عليه سبحانه حق توكله بعد أخذهم بالأسباب، وتركوا لله تعالى مؤمنين أن يوفق ويربط الأسباب بمسبباتها.
وهنا عبارتان لهما مغزاهما :
العبارة الأولى – قوله تعالى :﴿ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أي أنهم يرجون ما يرجوه المؤمن من ربه فالله تعالى يلقي في قلوبهم الاطمئنان إلى المستقبل، وفي قوله تعالى :﴿ ولا هم يحزنون ﴾ تأكيد لعدم الحزن :
أولا : بتكرار كلمة﴿ لا ﴾النافية، فإنها مؤكدة للنفي المذكور في ﴿ لا خوف عليهم ﴾.
ثانيا : بذكر الضمير﴿ هم ﴾ فذلك مؤكد من مؤكدات الحكم.
ثالثا : في التعبير بالمضارع الذي يصور الاستمرار فإنهم لا يداخلهم الحزن ؛ لأن قلوبهم عامرة دائما بذكر الله فامتلأت طمأنينة، والاطمئنان يطرد الحزن كقوله تعالى :﴿.... ألا بذكر الله تطمئن القلوب ٢٨ ﴾( الرعد ).
العبارة الثانية – قوله تعالى :﴿ وكانوا يتقون ﴾ وفيه جمع بين الماضي والمضارع، والماضي في﴿ كانوا ﴾ والمضارع في﴿ يتقون ﴾، وهذا يفيد استمرار التقوى، قلوبهم ممتلئة دائما بخشية الله تعالى، وهم بذلك يستصغرون أعمالهم بجوار حق الله ويشعرون أنهم لم يؤدوا حق الله فيرجون رحمته ويخافون عذابه، وذلك مقام الصديقين القريبين من الله دائما.
عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن لله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قيل : يا رسول الله أخبرنا من هم، وما أعمالهم ؟ قال : هم قوم تحابوا في الله من غير ارحام بينهم ولااموال يتعاطونها فوالله ان وجوههم لنور وانهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس٢، ثم قرأ الآية :﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٦٢ الذين آمنوا وكانوا يتقون ٦٣ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ﴾.
وقبل أن تترك الكلام في معنى الولاية وقد عرفها سبحانه بأنها الإيمان الخالص والإحسان الكامل وامتلاء النفس بالتقوى، لا بد أن نتكلم حول خوارق للعادات، يقولون أنها تجري على أيدي من يسمونهم أولياء، وبعض علماء الكلام يقولون : إنها تسمى كرامة، وذلك خلاف لما جاء على يد الرسل وسميت معجزات.
ويذهب البعض إلى وجوب الإيمان بكرامة الأولياء، ونحن نقول : لا نزيد على الذين ركنا من أركان الإيمان، فمن رأى خوارق جرت على يد رجل ليست سحرا فليسر بما رأى، ومن لم ير شيئا من ذلك فليس له أن يؤمن بما لم يكلفه الله تعالى الإيمان به.
وقد ذكر سبحانه ما ينال أولياء الله تعالى من خير بقوله :
١ متفق عليه، وقد سبق تخريجه..
٢ أخرجه أحمد: باقي مسند الأنصار- مسند أبي مالك الأشعري رضي الله عنه(٢٢٣٩٩)..
﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ٦٤ ﴾.
﴿ لهم ﴾ الضمير يعود على أولياء الله، البشرى هي التبشير بما يلقي السرور في أنفسهم، وقد حكم الله تعالى لهم بالبشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وذلك وعد حق، ولذا قال سبحانه :﴿ لا تبديل لكلمات الله ﴾ وهي ما قرره سبحانه من عذاب ونعيم وبعث ونشور فهي لا خلاف فيها ولا تبديل لكلمات الله الأزلية الباقية ومن ذا الذي يبدل أو يغير في كلمات الله التي كتبها لعباده المتقين.
والبشرى في الحياة الدنيا تكون بما ذكره الله لعباده المتقين في كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى :﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ٣٠ نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون ٣١ ﴾( فصلت ).
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن البشرى هي الرؤيا الصادقة تبشره بالخير"١، وروى أن البشرى تكون الثناء على علمه والرضا بما يفعل. روى عن أبي ذر أنه قيل : يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل يحمده الناس ويثنون عليه، فقال صلى الله عليه وسلم :" تلك عاجل بشرى المؤمن"٢.
إن المؤمنين الصافية نفوسهم والذين أخلصوا وجوههم لله تعالى تميل إليهم قلوب المخلصين، وكان بعض الأعراب يؤمنون بمجرد رؤيتهم لوجه النبي صلى الله عليه وسلم رآه مرة أعرابي فسأله : أأنت الذي تقول قريش أنك كذاب، ما هذا بوجه كذاب ثم أسلم. ذلك صفاء النفس المحمدية بدا نورا في وجهه فآمن الأعرابي.
وأما بشرى الآخرة فهي لقاء الملائكة لهم بالبشرى، كما قال تعالى :﴿ لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ١٠٣ ﴾( الأنبياء ).
كما يقول سبحانه :﴿ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ١٢ ﴾( الحديد ).
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولي الله وهو أول الأولياء وهاديهم فلا يلتفت إلى قول الذين يناوئونه ؛ لأنه ولي العزيز الحكيم ؛ ولذلك قال سبحانه :
١ رواه البخاري بنحو عن أبي هريرة رضي الله عنه: التعبير- المبشرات(٦٩٩٠). كما رواه مسلم: الصلاة –النهي عن قراءة القرآن في الركوع (٤٧٩)، والنسائي: التطبيق(١٠٤٥)، وأبو داود: الصلاة (٨٧٦)، وابن ماجه: تعبير الرؤيا(٣٨٩٩)، وأحمد: مسند بني هاشم (١٩٠٣)، والدارمي: الصلاة(١٣٢٥)..
٢ هذا لفظ أحمد: مسند الأنصار(٢٠٨٧٢)، والحديث رواه مسلم: البر والصلة- إذا أثنى على الصالح فهي بشرى لا تضره (٢٦٤٢) عن أبي ذر رضي الله عنه..
﴿ ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم ٦٥ ﴾.
﴿ ولا يحزنك قولهم ﴾ هذا نهى له صلى الله عليه وسلم لا يبالي بهم ولا يأبه أو يحزن لما يقولون من تكذيب وتهديد من استهزاء وسخرية ومعاندة وإصرار على الكفر وطلبهم لعشيرته أن يسلموه لهم ليقتلوه، والنهي عن الحزن نهى عن الاستسلام له والانشغال به بل يستمر في دعوته، فالله عاصمه من الناس، وقد علل ذلك النهي بما يبين أن الغلب في النهاية له، فقال﴿ إن العزة لله جميعا ﴾، وهذا استئناف في مقام التعليل للنهي السابق، والعزة في الغلبة والسلطان وجميعها لله فلا عزة لهم وإن استكبروا واستعلوا بالباطل وحاولوا إيذاء النبي ومن معه، ولم يذكر عزة للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن عزته سبحانه وتعالى هي عزة للنبي صلى الله عليه وسلم إذ هو وليه والله ناصره إذ يدعو ؛ إلى سبيله ويناله ما يناله بسبب دعوته إلى الله ووحدانيته وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى.
وقد طمأن الله نبيه، وهدد معانديه بقوله تعالى في ختام الآية :﴿ هو السميع العليم ﴾.
والضمير يعود إلى لفظ الجلالة وهذان وصفان، يؤكدان أولا- عزة الله تعالى وأنه وحده العزيز الغالب ؛ لأنه سميع، أي عالم علم من يسمع، عليم بكل أحوالهم ما خفى منها وما ظهر ومن كان كذلك فهو العزيز وحده، ثانيا- إنذار لهؤلاء المستهزئين بعاقبة ما يقولون ؛ لأنه يحاسبهم على ما يقولون ويستهزئون والله هو الولي وهو الناصر القادر على كل شيء.
الله هو الخالق وحده
يقول تعالى :
ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون٦٦ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ٦٧ قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما تعملون ٦٨ قل إن الذين يفترون على الله الكدب لا يفلحون٦٩ متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ٨٠
﴿ ألا ﴾ للتنبيه إلى ما يقوله سبحانه وما يمكن أن يكون دليلا على قدرته القاهرة الموجبة لعبادته وحده، والأمر الجدير بالتنبيه أنه سبحانه وتعالى له من في السموات ومن في الأرض، وكلمة﴿ من ﴾للعقلاء، أي أن الله تعالى يملك العقلاء في السموات والأرض من ملائكة وجن وإنس، وإن كان يملكهم فهم عبيده، كما قال تعالى :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون... ١٧٢ ﴾( النساء ) وكقوله تعالى :﴿ إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا٩٣ ﴾( مريم )، وإذا كان هؤلاء لحكم الملكية عبيدا فغير العقلاء مثل الأحجار والأبقار أولي بأن يكونوا عبيدا ؛ إذ للعقلاء حرية وإرادة واختيار وعقول وفكر ومع ذلك هم عبيد الله بحكم أن خلقهم وملكهم فليس بجائز أن يكون معبود غير الله تعالى ؛ ولذلك قال سبحانه :﴿ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ﴾ ومؤدى النص الكريم أن الذين يدعونهم، أي يعبدونهم على أنهم شركاء لله تعالى ليسوا شركاء لله تعالى في شيء من الشركة التي تقتضي أن للشريك ملكا وأن الشريك نظير لشريكه، وكيف تتحقق هذه الشركة بين خالق كل شيء وبين حجر لا يضر ولا ينفع، أو بين عبد من عباده هو سبحانه خالقه ومالكه، وكلمة﴿ ما ﴾ نافية، أي لا يتبع الذين يعبدون غير الله شركاء الله تعالى، وكلمة﴿ من ﴾ بمعنى بدل، وذلك إذ إنهم أشركوا عبادة غير الله مع الله فقد كفروا بالله ولم يعبدوه.
فالشركة منفية بلا ريب، ولا حقيقة لها، فإذا كانت غير موجودة فلا يصح أن يقولها من يعرف أن الله وحده هو خالق السموات والأرض.
أشار سبحانه إلى أن أوهامهم وظنونهم هي التي زينت لهم أن يجعلوا شركاء، ولذا قال تعالى :﴿ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ﴾، ﴿ إن ﴾ هنا نافية، فهم لا يتبعون إلا الظن وليس الظن هو العلم الراجح وإنما هو الأوهام والهواجس تتوهمها عقولهم ثم تلج فيها وتستولي عليها بحكم التزيين، حتى تكون كالظن بل حتى تكون كالعلم في عقولهم التي عششت فيها الأوهام وأيقنت بها، فيقول سبحانه :﴿ وإن هم إلا يخرصون ﴾، أي يتوهمون ثم يظنون ثم يعتقدون وما لهم من حجة ولا دليل، ثم أكد سبحانه عموم خلقه فهو لم يخلق العقلاء وحدهم بل خلق الوجود كله.
يقول تعالى :
﴿ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون٦٧ ﴾.
أنعم الله تعالى على خلقه العقلاء بنعمتي الليل والنهار، ليل ليسكنوا فيه ويقروا مع أهليهم وذرياتهم قرة أعينهم وليطمئنوا، وجعل النهار مبصرا ليعلموا في الأرض يعمروها ويصلحوها، وفي قوله تعالى :﴿ والنهار مبصرا ﴾ مجاز لأن المبصر هو الحي الذي رزق نعمة البصر ووصف به الزمان للمبالغة في وصف نوره وضياه، وفي هذا إشارة إلى أصل خلق الكون ؛ فاختلاف الليل والنهار حال موقع الشمس من الأرض، وذكر هذا فيه دلالة بالاقتضاء على نعمة الله في خلق الكون كله من السماء ببروجها والأرض برواسيها ومهادها وآكامها وطبقات معادنها وأطيارها وأسماكها وكل ما فيها من نعم، ﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها... ١٨ ﴾( النحل )، وأن الكون كله وما فيه من آيات تدل على أنه الواحد الأحد وأنه لا معبود سواه ؛ لأنه الإله وحده، وأن ما يسمونه لهم عبادة ليس بعبادة إنما هي أوهام سيطرت عليهم خضعوا لها ولأهوائهم، ولذلك قال تعالى :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ﴾ إشارة إلى الدلائل البينة الواضحة لخلق الليل والنهار لقوم يسمعون الحق ويستجيبون له ويهتدون به، وكأن الله تعالى ينفي السماع عمن يسمعون ولا يفقهون، كقوله تعالى :﴿.... ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها.... ١٧٩ ﴾( الأعراف ).
ولكن في هذه الآية ذكر سبحانه السمع دون البصر ؛ لأن القرآن يتلى عليهم والآيات تقرع حسهم فلا يعتبرون، فهم لا يسمعون دعاء القرآن لهم بعبادة الله تعالى وحده ولو كانوا يعتبرون بالآيات لسمعوا القرآن واعتبروا به.
﴿ قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون٦٨ ﴾.
إذا كان كل من في الأرض ملكا لله تعالى وعبيدا له، فالمسيح مملوك لله تعالى ؛ لأنه سبحانه خالقه، ومن يستنكف أن يكون عبدا لله تعالى، وإذا كان الوثنيون قد اتخذوا الأحجار آلهة، فإنه لا يقل شركا عنهم من قال إن الله اتخذ ولدا ؛ ذلك أن كليهما أشرك، والوثنيون لم يمسوا الذات الإلهية وإن كانوا ضلوا ضلالا بعيدا، أما من قالوا اتخذ الله ولدا فقد وافقوهم في الشرك ومسوا الذات العلية.
﴿ قالوا اتخذ الله ولدا ﴾ لم يبين سبحانه من قال هذا، والنصارى ليسوا وحدهم ؛ ذلك لأن الذين قالوه كثيرون- غيرهم- قبلهم، فالبراهمة قالوا : أن كرشنة ابن الله، وعن الأخيرة أخذت النصرانية بعد أن بدلت وحرفت عن مواضعها وكذبوا على المسيح عليه السلام.
وكل هؤلاء مشركون والفرق بينهم وبين المشركين من العرب، أن مشركي العرب عبدوا الأوثان بعد أن قالوا : إن الله خالق السموات والأرض واحد في ذاته وصفاته، وإشراكهم كان في عبادة غيره معه، أما هؤلاء الذين ادعوا أن الله اتخذ ولدا فانهم لا ينزهون ذات الله تعالى ويشركون الولد كما أشرك غيرهم.
وفي قوله تعالى : قالوا اتخذ الله ولدا } تصوير صادق لقولهم فهم يقولون إن الله تعالى أراد أن يكفر عن سيئة آدم التي لحقت الخليقة فأنزل ولده إلى الأرض ليكفر عن خطيئة الخليقة بصلبه فداء عنهم، وقوله تعالى يشير إلى ذلك إشارة بينة واضحة، وإنهم بذلك القول الأحمق الغريب يمسون الذات العلية فيحسبون أن الله يحتاج إلى الولد كما يحتاج البشر، ولذا قال سبحانه ردا لقولهم :﴿ سبحانه ﴾، أي تنزهت ذاته العلية، ﴿ هو الغني ﴾ إشارة إلى بطلان أقوال هؤلاء الذين لم يقولوا أن الله فاعل مختار، وقد بين سبحانه أن كلامهم ادعاء لا دليل عليه وافتراضات فرضتها الوثنية الرومانية والفلسفة اليونانية، ولذا قال سبحانه :﴿ إن عندكم من سلطان بهذا ﴾ والسلطان هو الحجة، والقرآن الكريم يستعمل كلمة السلطان في معنى الحجة ؛ لأن الحجة الباهرة توجد بسلطان من الحق على الباطل، وسلطة الحق أقوى وأبعد من سلطة الطغاة الظالمين وإن كان ذلك مجاز من أبلغ الكلام.
وإذا كانوا لا حجة لهم فقد قال تعالى في قولهم هذا﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ والاستفهام للتوبيخ ورميهم بالجهل أولا، وبالكذب على الله ثانيا، وبمخالفتهم لكل منطق وعقلا ثالثا، وقد جاء في قوله في نفي الولد :﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا٨٨ لقد جئتم شيئا إدا ٨٩ تكاد السموات يتفطرون منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا٩٠ أن دعوا للرحمن ولدا ٩١ وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ٩٢ إن كل من في السمات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ٩٣ لقد أحصاهم وعدهم عدا ٩٤ وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ٩٥ ﴾( مريم ).
إنهم يقولون على الله ما لا يعلمون ويصفونه بما لا يليق ويفترون على الله تعالى الكذب، وقد ذكر سبحانه عاقبة ذلك فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالرد.
﴿ قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ٦٩ ﴾.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ليبين لهم مغبة من يفتري الكذب في قولهم اتخذ الله ولدا، وأن الأصنام شفعاء لله بقولهم ما نعبدهم إلا ليقربوا إلى الله زلفى، وهم في ذلك كاذبون، ومعنى يفترون الكذب، أي يقطعون من الكذب قطعا وينسلون إلى الله ما لا برهان له.
وعد سبحانه بالموصول للدلالة على أنه السبب في الحكم عليهم بعدم الفوز وما يفوزون به في الدنيا إنما هو الأمد القصير، وليس بفوز ما تكون عاقبته عذابا شديدا وندما كبيرا.
والافتراء يكبر ويكبر المفتري عليه، وهؤلاء افتروا على خالق الوجود وهو الله جل جلاله، وأكد سبحانه عدم فلاحهم بكلمة﴿ إن ﴾، والتعبير بالمضارع في كلمة لا يفلحون يدل على الاستمرار، وإن من شأن الكاذب على الله تعالى ألا يفلح، ولذا قدمت كلمة﴿ على الله ﴾ على كلمة﴿ الكذب ﴾ لبيان شناعة الافتراء وأنه على رب الوجود ومنشئه وبارئه.
وقد يقول قائل : إننا نرى هؤلاء المفترين الكاذبين ينالون متعا يفوزون بها، فبين الله تعالى أن ذلك متاع الدنيا وأمدها القصير.
يقول تعالى :
﴿ متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ٧٠ ﴾.
أي أن ما ينالوه في الدنيا ليس الفوز العظيم الذي يفوز به المتقون ولا الفلاح الذي يناله أهل الحق، وأن من يضحكون قليلا و يبكون كثيرا لا يعدون فائزين، بل متعجلين لأدنى النفع طاردون للمنفعة الباقية بالمنفعة العاجلة، والتنكير في كلمة﴿ متاع ﴾ للتحقير والتصغير، والتعبير بمتاع يومئ إلى أنه قليل غير جليل، وقد حدد بأنه في الدنيا، ويرتضيه من يقبل الدنيا بدل الآخرة، ومن يطلبها ويطرح وراءها الآخرة.
ثم يقول سبحانه في عاقبة من يكذبون على الله ويتحدون الأنبياء :﴿ ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ﴾. كلمة﴿ ثم ﴾، في موضعها من الترتيب والتراخي، والتراخي زمني ومعنوي، أما الزمني خلاف الرجوع إلى الله بعد البعث والنشور وقيام الساعة، أما المعنوي فما بين متعة الدنيا الفانية وعذاب الآخرة الباقي﴿ إلينا مرجعهم ﴾ فيه تقديم كلمة﴿ إلينا ﴾ على مرجع وفي ذلك معنى الاختصاص وراءه الإنذار الشديد، أي إلينا وحدنا رجوعكم وقد افتريتم الكذب وعبدتم غير الله فلا بد أن تنالوا الجزاء الوفاق على ما قدمتم من قول باطل وعقيدة فاسدة وشرك بين، ولذا قال سبحانه :﴿ ثم نذيقهم العذاب الشديد ﴾ وكلمة﴿ ثم ﴾ على موضعها كأختها التي قبلها. وعبر الله تعالى عن العذاب بقوله "نذيقهم" للإشارة إلى أن يصيب مشاعرهم وأحاسيسهم، يشعرون به، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله تعالى جلودا غيرها، ثم بين سبحانه أن ذلك﴿ بما كانوا يكفرون ﴾، حيث يدل الفعل الماضي والمضارع على الاستمرار على كفرهم يجددونه آنا بعد آن.
نوح عليه السلام وقومه
قال تعالى :
واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ٧١ فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ٧٢ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ٧٣ ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين ٧٤ }
تجيء القصة في القرآن للعبرة كما قال تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.... ١١١ ﴾( يوسف ) فكل قصة هي موضع عبرة وكل جزء من قصة هو لعبرة في هذا الجزء تناسب وضعه ولا تكاد تجيء قصة كاملة في موضع إلا قصة يوسف عليه السلام فهي متكاملة في موضوعها وهي بيان لحال الأسرة المصرية في عهد فرعون أو عهد الفراعنة- كما سنبين عند الكلام في معانيها إن شاء الله تعالى، إن امتد الأجل إليها في موضعها. نجد في قصة نوح- غليه السلام- ومن يليه من الأنبياء مواقف متشابهة لتلك التي كانت تلقي بالحزن والألم الشديد في قلب النبي صلى الله عليه وسلم من كبراء قريش وخصوصا من كانوا يقفون موقف الزعامة الوثنية فيها، حتى لقد قال الله تعالى مخاطبا نبيه :﴿ ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا... ٦٥ ﴾فكان من المناسب ذكر جزء من قصة نوح- عليه السلام- مع قومه وكيف صبر وصابرهم ثم بيان ما نزل بهم من غرق، وكذلك قصة موسى مع طاغية التاريخ الإنساني فرعون وما لقيه منه موسى- عليه السلام- وما قاوم به ثم ما آل إليه أمره من الغرق في اليم بعد أن نجا بنو إسرائيل بعد أن انفلق البحر لهم اثنى عشر فرقا، وكل فرق كالطود العظيم. فكان هلاك الظالمين من قوم نوح وقوم موسى بالغرق وإن اختلف نوعه، فهلاك قوم نوح كان بسيل منهمر وينابيع، أما هلاك فرعون وجيشه فكان بسيرهم في البحر الذي فتح لبني إسرائيل مع موسى عليه السلام ثم انطبق على فرعون وجنوده.
﴿ واتل عليهم نبأ نوح ﴾ أي الخبر العظيم الشأن الذي اتصل بنوح- عليه السلام- ولم يبتدئ بقومه، بل ابتدأ به ؛ لأنه الذي نزل البلاء وكانت المحاربة بينه وبين قومه الذين عتوا وبغوا في الأرض وأصروا على عبادة الأوثان بإصرار.
﴿ يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت ﴾ ناداهم نوح- عليه السلام- بما يقربه إليهم، وهو أنهم قومه الذي نشأ بينهم وتربى فيهم وكان الأولى بهم أن يستجيبوا له بدل أن يناوئوه ويكونوا حربا عليه، ﴿ إن كان كبر عليكم مقامي ﴾ مؤيدا من الله، والمقام هو مقام الرسالة الذي كرمه الله تعالى به، وعظم عن أن تدرك عقولهم تذكيره بآيات الله- فإنهم بهم لا يبالي فقد توكل على الله تعالى ولم يعد يحزنه قولهم، وبلغ عدم الاهتمام بهم أن قال لهم﴿ فأجمعوا أمركم وشركاءكم ﴾، ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنه يترتب على التوكل على الله أن يواجههم معتزما إمضاء كلمة الله تعالى، ﴿ فأجمعوا أمركم ﴾، أي اعتزموا ما اعتزمتم، يقال جمع أمره إذا عقد عزمه ووثقه، ﴿ وشركاءكم ﴾، الشركاء : هي الأوثان التي اتخذوها بزعمهم شركاء الله تعالى في عبادته، سبحانه وتعالى عما يشركون، وهو بهذا يتحداهم معتمدا على الله متوكلا عليه حق توكله.﴿ ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ﴾ أي لا يكون أمركم مستورا، وهذا معنى ﴿ غمة ﴾، بل يكون ظاهرا مكشوفا بينا، أي ائتوا بكل قوتكم ظاهرة. ﴿ ثم اقضوا إلي ﴾ أي افعلوا بي ذلك الأمر الذي تدبرون، من إهلاك أو طرد أو ما ترونه أنفسكم.﴿ ولا تنظرون ﴾ أي عجلوا أمركم لا تؤجلون، فإني مؤيد من الله وهو معي ولن يضيرني ما اعتزمتم وقد اعتمدت عليه سبحانه.
﴿ فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين٧٢ ﴾.
﴿ توليتم ﴾ أي أعرضتم عن الآيات وعن دعوة التوحيد التي أدعوكم إليها فإنكم تعرضون عن قول رسول أمين وناصح رشيد لا يريد منكم أجرا من مال أو جاه أو سلطان إنما يريد الحق لذاته.﴿ إن أجري إلا على الله ﴾ ؛ أي لا أريد منكم أجرا فقد كفاني الله أجري وهو شرف الرسالة لا شرفكم ولا جاهكم ولا سلطانكم﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾ الذين أسلموا وجوههم وهم مخلصون لا يريدون إلا ما عند الله.
هذه دعوة لينة إلى الحق بعد التحدي الذي قدمه وبعد أن بين لهم أنهم ضغفاء أمام الحق فإنه استمالهم اليه الا انهم عادوا فكدبوه
﴿ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ٧٣ ﴾.
ذكر سبحانه نجاة المؤمنين مع نوح- عليه السلام- ابتداء، وذكرت القصة تسرية للنبي صلى الله عليه وسلم وذكرى للعالمين وبيان أن العاقبة ستكون له صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أمران :
الأمر الأول – أنه سبحانه جعل نوحا- عليه السلام- وأتباعه خلائف في الأرض، وخلائف جمع خليفة أي الذين يعيشون في الأرض خلفاء لأبناء آدم، أي انحصرت ذرية آدم حال ذلك في نوح عليه السلام والذين آمنوا معه.
والأمر الثاني – أنه سبحانه أغرق الآخرين، ثم قال سبحانه مبينا العبرة من قصة نوح عليه السلام وقومه﴿ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ﴾ الذين أنذرناهم فلم يفطنوا ولم يعتبروا، ولم يذكر سبحانه جزاء للمؤمنين ؛ لأنه بين منجاتهم، أما الجزاء الأوفى يكون يوم الحساب وهو يوم الدين.
وقد ذكر سبحانه الإغراق إذ قال تعالى :﴿ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ﴾ فعبر بالموصول دليل على أن الصلة هي السبب في الغرق، والصلة كانت التكذيب بآيات الله تعالى التي ساقها لهم نوح-عليه السلام- فلم يؤمنوا وأصروا واستكبروا استكبارا.
قال تعالى :
﴿ ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطيع على قلوب المعتدين ٧٤ ﴾.
أشار سبحانه إلى الأنبياء من بعد نوح مثل هود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط عليهم السلام وغيرهم، وكلهم كذبوا مع ما جاءوا به من الآيات، وجاء ذكر الرسل بعد نوح- عليه السلام- بالإجمال، فلم يذكرهم سبحانه نبيا نبيا، كما جاء في سور أخرى وكما سيجيء في سورة هود ولكن الله تعالى أثبت أمرين :
الأمر الأول – أن كل رسول جاء بالبينة الدالة على رسالته صارفا أنظارهم إلى الكون وما فيه، والضمير في قوله تعالى :﴿ فجاءوهم بالبينات ﴾ يعود على الكافرين بكل الرسل وكأنهم مع اختلاف أجيالهم قبيل واحد يجمعهم الجحود والعصيان والكفر بآيات الله تعالى ؛ فالناس أبناء الناس ويجمع الأخلاف صفات الأسلاف، ويجمع المؤمنين صفات الأذعان للدليل والتصديق للحق، ويجمع المكذبين صفات الجحود بالآيات ولو كانت بينة تستيقنها نفوسهم.
الأمر الثاني – سبب الكفر الذي تتوارثه الأجيال التي كتب الله عليها شقوتها فقال جلت كلماته :﴿ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ﴾ أي أن شأن الذين يكفرون أن يبادروا عند دعوة الحق الذي يجيء به نبي من الأنبياء بالتكذيب قبل أن يمنعوا في دعوته وقبل أن يستمعوا إلى الدليل ويتأملوه ويتعرفوه، فإذا سارعوا بالتكذيب نأوا عن الحق وجادلوا عن كفرهم وأمعنوا في الباطل إمعانا وضلوا ضلال بعيدا فلا يستقيم لهم إيمان بعد ذلك ويطبع الكفر على قلوبهم وتنغلق على الكفر، كما جاء في آيات أخرى مثل قوله تعالى :﴿.... وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ٨٧ ﴾( التوبة )، وكقوله :﴿ كذلك نطبع على قلوب المعتدين ﴾ فهم يبادرون بالإنكار معتدين، ثم يلج بهم العناد فيكرروا الاعتداء المرة بعد الأخرى حتى يصير والاعتداء وصفا ملازما لهم، لا يقفون عند حد فيكون اعتداء على الحقائق وعلى آيات الله وعلى العباد.
من قصة موسى وفرعون
ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملإيه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ٧٥ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين ٧٦ قال موسى أتقولون للحق ما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون ٧٧ قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ٧٨ وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم ٧٩ فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ٨٠ فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ٨١ ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ٨٢ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملإيهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين ٨٣ وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ٨٤ فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ٨٥ ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ٨٦ وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءالقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ٨٧ وقال موسى ربنا انك ءاتيت فرعون وملاه زينة واموالا في الحيوةالدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم٨٨ قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ٨٩
بعد ذلك ذكر الله تعالى قصة موسى وفرعون، وذكرها في هذا المقام :
أولا- فرعون أكبر طاغية عرف في تاريخ الإنسانية وطغيان الكبراء من العرب دونه، وقد أعز الله موسى وبني إسرائيل وأهلكه فكان حقا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطمئن إلى عزة الله تعالى إذ يقول :﴿ إن العزة لله جميعا ﴾.
ثانيا- أن فرعون كان مسيطرا جبارا على قومه يراهم ملكا له، وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم بأنه لا مالك إلا الله وأن الناس جميعا عباد له سبحانه.
ثالثا- كان فرعون يتحكم في عقول قومه ويقول لهم :﴿.... ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد٢٩ ﴾ [ "غافر ]، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم بحرية النفس والفكر والعقل.
﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين٧٥ ﴾.
جاء موسى بالبينة الدالة على رسالته، وجاء بالعصا التي ألقاها فإذا هي حية تسعى، وكان قومه على علم بالسحر، فإذا عرفوا أنها ليست سحرا قامت عليهم الحجة. وكلمة﴿ ثم ﴾ للترتيب والتراخي، أي أنه بعد أزمان متعاقبة ومتطاولة بعث الله موسى وهارون، ذلك أن موسى سأل الله تعالى أن يرسل معه أخاه ﴿ اشدد به أزري٣١ وأشركه في أمري٣٢ ﴾( طه ). أرسلهما الله إلى فرعون وملئه، أي كبراء قومه والذين يحرضون على الفسق في مصر، ويمالئونه على ما يدعيه ولم يذكر شعب مصر أي الكثرة الغالبة وكانوا مهملين لا رأي لهم ؛ كما وصفهم عمرو بن العاص في ذكره مصر"هي لمن غلب"، وقد بادروا بالتكذيب وعجلوا فيه دون أن يتفكروا ويتدبرون حقيقة الدعوة إلى الحق والبينات الشاهدة بأن موسى وهارون مبعوثان من الله تعالى، ولذا قال سبحانه :﴿ فاستكبروا ﴾ وكان العطف بالفاء للدلالة على المبادرة والاستكبار، وفيه تكذيب وعلة للتكذيب، أي فكذبوا واستكبروا عن الاستماع إلى الحق وأصموا آذانهم ووصفهم الله تعالى بقوله :﴿ وكانوا قوما مجرمين ﴾ وكلمة﴿ وكانوا ﴾ تدل على أنهم كانوا كذلك في الماضي، والوصف بالإجرام﴿ مجرمين ﴾ يدل على استمرارهم فلم تكن دعوة الحق فيهم مستجابة.
لذا قال تعالى في شأنهم مع رسولهم :
﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين٧٦ ﴾.
الفاء للترتيب والتعقيب، والحق هو الدعوة إلى التوحيد وإلى الله وحده، وقال سبحانه :﴿ من عندنا ﴾ تكبيرا لذلك الحق ؛ لأنه من عند الله تعالى مالك الملك ذى الجلال والإكرام فوصفه سبحانه بالحق، ووصفه بأنه الحق شرف ذاتي له وبكونه من عند الله تعالى شرف إضافي له، وكلمة الحق تتضمن الدلالة على أنه حق لا ريب فيه. وقد آتى الله تعالى موسى تسع آيات بينات ويظهر أنه ابتدأ بتقديم العصا، ولذا قالوا :﴿ إن هذا لسحر مبين ﴾، بادروا فأكدوا أنه سحر مبين، أي سحر واضح بين﴿ إن ﴾ تدل على التوكيد وباللام وبالجملة الاسمية، ذلك من مسارعتهم بالتكذيب ثم الانغمار فيه إلى آخر مداه، ولقد تولى موسى عليه السلام المجاوبة وتركه فرعون يدافع عن دعوته.
﴿ قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون٧٧ ﴾
أي أتقولون للحق لما جاءكم إنه لسحر، جاهلين حقيقة الأمر فالاستفهام لإنكار قولهم وتوبيخهم عليه، وكرر الاستفهام فقال :﴿ أسحر هذا ﴾ فكان الإنكار للجحود وقولهم الجاحد للحق والحقيقة، والاستفهام للتوبيخ على قولهم وهو لإنكار الوقوع، أي ليس بسحر، وقد أكد سبحانه وتعالى بقوله :﴿ ولا يفلح الساحرون ﴾ أي لا يفوز الساحرون في معركة الاستدلال والمنازلة، وإذا لم يفلحوا فإنه يجب أن تؤمنوا ولكنهم لجوا في العناد وتمسكوا بما هم عليه.
﴿ قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكم الكبرياء في الأرض وما نحن لكم بمؤمنين٧٨ ﴾.
ذكر الله تعالى قولهم :﴿ أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ﴾، أي لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا من عبادة فرعون والآلهة التي يحل فيها، ومن عبادة الشمس وإله الزرع وعبادة البقر. ﴿ وتكون لكما الكبرياء في الأرض ﴾ أي السلطان والسيطرة والحكم في الأرض وهي أرض مصر ؛ وعبر عن الحكم والسلطان بالكبرياء ؛ لأن المصريين كانوا لا يفهمون في الحكم إلا الاستعلاء والتحكم والاستكبار، وأن تكون طبقة الحاكمين العالية وطبقة المحكومين المرذولين، وعبادة المحكوم للحاكم.
ثم أكدوا كفرهم بالحق لما جاءهم فقالوا :﴿ وما نحن لكما بمؤمنين ﴾ نفوا عن أنفسهم صفة الإيمان نفيا مؤكدا وكان ذلك :
أولا- بذكر الضمير الدال على التعظيم.
ثانيا- بالجملة الاسمية، وقوله :﴿ لكما ﴾ لامتناع التسليم، بل إنهم مناوثون غير مستسلمين، بل هم منصرفون.
﴿ وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم٧٩ فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون٨٠ ﴾.
جاء فرعون وتولى المنازلة فقال ائتوني بكل ساحر عليم، أي عليم بالسحر وأفانينه، وكان للسحرة مكانة ومنزلة في مصر، وكانوا كثيرين مشهود لهم بالسحر ولهم مكانة فيه،
فلما جاء السحرة قال لهم موسى :﴿ ألقوا ما أنتم ملقون ﴾. وفي هذه الآية نجد موسى- عليه السلام- عندما التقى بهم طلب إليهم أن يلقوا، وفي الآية التالية ما يدل على أنهم ألقوا وتشير إلى ابتدائهم، ولكن في سورة الأعراف ما يدل على أنه قد حدثت مجاوبة بينه وبين السحرة قالوا فيها :﴿... إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين١١٥ قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم١١٦ ﴾( الأعراف ). وأنه لا تعارض بين الآيات بل توافق تام ولكن ما في سورة الأعراف يفصل بعض التفصيل، وهنا يجمل كل الإجمال ؛ إذ إن نتيجة المجاوبة كانت أن طلب موسى أن يلقوا هم، وأدرك موسى وهو المؤمن بحجته أن فعلهم سحر كقوله تعالى :
﴿ فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ٨١ ﴾.
﴿ ما جئتم به السحر ﴾ إنه هو السحر وحده، لا ما سيقدمه، والاختصاص ثبت بتعريف الطرفين، وأكد أن الله سيبطله وأنه فساد بين الناس، وقد جاء في سورة الأعراف :﴿ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ١١٧ ﴾.
وختم الله أمر السحر ببطلانه حيث قال تعالى :
﴿ ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون٨٢ ﴾.
يثبت الله الحق ويؤيده وينصره بكلماته وأمره الذي يكون بكلمة، وبآياته الآمرة والناهية المثبتة لحق المحكومين على الحاكمين والمبطلة لظلم الظالمين ولو كانوا من الفارعين، ﴿ ولو كره المجرمون ﴾الذين أشركوا فأجرموا وطغوا وبغوا وغرهم الغرور.
قال تعالى :
﴿ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين٨٣ ﴾.
مع هذه الدعوة الصادعة إلى الحق لم يستجب إلا القليل وفي كلمة﴿ قومه ﴾ يعود الضمير إلى فرعون، وما آمن شيوخ كبار منهم بل آمنت ذرية، أي جيل جديد ممن لم يتمرسوا بذل الفرعونية، والشباب إنما يكونون أكثر مسارعة إلى الحق وأقل تمسكا من آبائهم بأهداب القديم، خاصة إذا كان ذليلا، ويقول قائل : إن الضمير في﴿ قومه ﴾ يعود إلى موسى، وقوم موسى هم بنو إسرائيل وذكر الذرية دون عمومهم ؛ لأن الذرية تطلب الحرية وتبتغيها، وشيوخهم غرست في نفوسهم العادات والعبادات المصرية القديمة ورضوا بالدون من الحياة كما يبدو ذلك في قصصهم مع موسى، وفي قولهم له :﴿.... اجعل لنا إلها... ١٣٨ ﴾ ( الأعراف )، ومن عبادتهم العجل، ومن امتناعهم عن دخول الأرض المقدسة، وقد رأى ذلك ابن جرير ونحن نتبعه في رأيه. وقد كان إيمان هذه الذرية على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، ولكمة﴿ على ﴾ بمعنى( مع )، أي أنهم في إيمانهم كانوا وجلين خائفين من فرعون وملئهم، والضمير في كلمة﴿ ملئهم ﴾ يعود إلى فرعون والمراد به فرعون وملئه، والذي راى ان يعود الضمير على ملأ بني إسرائيل أن تلك الذرية المؤمنة كانت على خوف من قومهم الذين تأثروا بالعقائد المصرية من تقديس فرعون وعبادة العجل كما سيبدو من حالهم مع موسى بعد اجتيازهم البحر ورؤية المعجزات الباهرة ونعموا بها، أي إن أولئك الذرية الذين آمنوا بما جاء به موسى كانوا على وجل من فرعون وقومه وعلى وجل من قومهم أنفسهم ومنهم الشيوخ الذين تمرسوا بالخنوع والكفر.
( الفاء ) في قوله تعالى :﴿ فما آمن ﴾ للترتيب، أي بسبب أنهم عتاة في الضلالة ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، وقد وصف الله تعالى فرعون بما يمنع إيمانه فقالت تعالت كلماته :﴿ وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين ﴾ وفي هذا وصفان كلاهما يمنع الاستجابة لدعوة موسى عليه السلام :
الوصف الأول – أنه عال في الأرض ينظر إلى الناس كأنهم جميعا دونه وأنه ليس من طينتهم، ومن كان كذلك يغره الغرور فيقول للناس ما أريكم إلا ما رأى.
والوصف الثاني – أنه مسرف، أي مغال في كل شيء، أسرف على نفسه وأسرف على الناس وأسرف في العتو والفساد.
أكد لله الوصفين ب﴿ إن ﴾واللام، وبالجملة الاسمية، و﴿ يفتنهم ﴾ بمعنى يضطهدهم في دينهم، وذكر الضمير بالمفرد عودا على فرعون أولا بالذات، فهو قطع أيدي المؤمنين وصلبهم في جذوع النخل فنسبت الفتنة إليه دون ملئهم.
﴿ وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين٨٤ ﴾.
اتجه موسى عليه السلام إلى قومه الذين جاء لإنقاذهم وقد رآهم يخافون فرعون ويخشونه فقال لهم :﴿ إن كنتم آمنتم بالله ﴾ حق الإيمان فلا تخشوا فرعون وطاغوته بل توكلوا على الله }، ﴿ فعليه توكلوا ﴾، ( الفاء ) واقعة في جواب الشرط، يليه الفعل للاختصاص، أي توكلوا عليه وحده.﴿ إن كنتم مسلمين ﴾ أي إن استمررتم على وضعكم وهو إسلام الوجه والإخلاص لله سبحانه. ولقد استجاب قوم موسى فتوكلوا على الله لا يرهبون فرعون وطاغوته.
﴿ فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ٨٥ ونجنا برحمتك من القوم الكافرين٨٦ ﴾.
أي عليه وحده توكلنا، ومن يتوكل على الله لا ترهبه قوة في الأرض، ثم اتجهوا إليه سبحانه﴿ ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ﴾، أي لا تجعلنا موضع فتنة واضطهاد وإيذاء للقوم الذين تضافروا على الظلم واتباع الطاغية فرعون، أي ربنا اصرف عنا أذاهم، ثم أردفوا دعاءهم بطلب الإنقاذ فقالوا :
﴿ ونجنا برحمتك من القوم الكافرين٨٦ ﴾وهم فرعون وملئه.
كان الذين آمنوا هم الذرية، ولكن القوم جميعا شعروا بأن موسى جاء لاستنقاذهم فأسلموا وسلموا له، وإن كان لا يزال منهم من فيه بقية من ذل فرعون كامنة ستبدو بعد أن يطمئنوا لخروجهم من ذل فرعون.
كان بنو إسرائيل مختلطين بالمصريين الذين يسومونهم سوء العذاب، فأوحى الله تعالى إلى نبيه موسى- عليه السلام- أن يفصلهم عن المصريين، وأن يتحيزوا حيزا دونهم ليكون ذلك خطوة للنجاة.
﴿ وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين٨٧ ﴾.
﴿ تبوأ ﴾، من باء يبوء بمعنى رجع واطمأن، أي اختاروا بيوتا لقومكما يبوءون إليها وتكون نائية عن بيوت الفرعونيين، لأنكم ستتخذونها لعبادة الله تعالى وحده وتقيمون فيها الصلاة، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى :﴿ واجعلوا بيوتكم قبلة ﴾ أي مصلي ؛ ولذا قال سبحانه بعد ذلك :﴿ وأقيموا الصلاة ﴾، أما إلى أية جهة يتجهون، فلم تعرض الآية لذلك، وقيل : كانوا يتجهون إلى الكعبة وبعضهم قال : إلى بيت القدس.
وإني أرى أن المراد بأن تكون بيوتهم قبلة هو أن يعلمها بقية بني إسرائيل فيتجهون إليها ويأرزون نحوها فيجتمعون فيها وتكون حوزة يتحيزون إليها. والجميع أمروا بإقامة الصلاة، ثم قال تعالى :﴿ وبشر المؤمنين ﴾، أي أن من يؤمن منهم له البشرى في الدنيا والآخرة وأن الله ولي المؤمنين.
﴿ وقال موسى ربنا انك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم٨٨ ﴾.
علم نبي الله موسى- عليه السلام- أن بني إسرائيل تبهرهم المادة وتستهويهم زخارف الدنيا ووافقه على رأيه أخوه وردفه هارون، ورأيا أن طغيان فرعون كان سببه ما في يده من أموال وزخارف وما تحت سلطانه من كنوز الأرض، فقد كان ملكه يمتد إلى الحبشة وما فيها من جبال ووهاد قد ضمنت في بطونها معادن وذهبا وفلزات الأرض، فقال موسى :﴿ ربنا إنك آتيت ﴾ أعطيت فرعون وأشرافه الذين يعاونونه ويمالئونه في ظلمه وبغيه، زينة وأموالا في الحياة الدنيا﴿ ربنا ليضلوا عن سبيلك ﴾، اللام هنا لام العاقبة، أي كانت عاقبة هذا الإيتاء وذلك التمكين في الأرض أن يضلوا عن سبيلك بالكفر والظلم والعتو والطغيان، وألا يراعوا حقا، وأن يدعي فرعون أن له ملك مصر، وأن هذه الأنهار تجري من تحته، ويرجو موسى ربه ضارعا أن يزول عنهم ما سبب طغيانهم.﴿ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ﴾ الطمس هو المحق، أي امحق أموالهم لا تجعلها صالحة لأن ينتفعوا بها﴿ واشدد على قلوبهم ﴾ أي اجعل قلوبهم تذوق الشدة المريرة فمن صخرة الشدة قد تنبع المعرفة فيعرفون ضعفه أمام قوة الله تعالى فيذهب طغيانهم.﴿ فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ﴾ في ذهان أموالهم وفراغ نفوسهم وذوق قلوبهم للقسوة الشديدة، و( الفاء ) فاء السببية.
﴿ قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ٨٩ ﴾.
وقد أنزل الله تعالى بهم ما طلب موسى أخوه، والدعوة هنا الدعاء وتطلق على كل ما طلب، والاستقامة هي الإيمان بالحق والإخلاص في القول والعمل وصدق الاتجاه إلى الله تعالى، وأكد الله تعالى طلب الاستقامة بقوله :﴿ ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ﴾ فإن مسلكهم ليس فيه استقامة بل هو الاعوجاج والعدول عن طريق المستقيم. ولقد قال تعالى في معنى الاستجابة لموسى :﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون١٣٠ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ١٣١ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ١٣٢ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ١٣٣ ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشف عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل١٣٤ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون١٣٥ فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين١٣٦ ﴾( الأعراف ).
نجاة بني إسارئيل وإغراق فرعون
قال تعالى :
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بني إسرائيل وأنا من المسلمين ٩٠ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ٩١ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ٩٦ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ٩٣
ضاق فرعون ذرنا ببني إسرائيل، ومع أن الآيات توالت عليه حتى بلغت تسعا، ومع كل هذا أراد الفتك ببني إسرائيل، وكان موسى قد تبوأ لقومه مكانا يقيمون فيه شعائر دين التوحيد فأمر الله نبيه- عليه السلام- أن يضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وكانت الفروق اثنى عشر فرقا بقدر عدد أسباطهم فاجتازوه وأتبعهم أي أدركهم ولاحقهم وقد أعد العدة لإبادتهم، وحسب أنه ناج مثلهم من الغرق فانطبق البحر عليه فأغرقه ومن معه.
﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ﴾ أي اجتازوه بأمر الله تعالى وعنايته بهم﴿ فأتبعهم فرعون وجنود ه بغيا وعدوا ﴾ أي لاحقوهم بغيا من عند أنفسهم وعدوا﴿ حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ﴾ذهب عنه غروره ساعة أن أدركه الغرق وبان ضعفه وتكاثرت عليه آيات الله التي جاءت على يد موسى وأخيه فآمن ساعة الموت حيث لا يقبل الإيمان :﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما١٨ ﴾( النساء ).
وقد بين الله تعالى لفرعون أن إيمانه غير مقبول
﴿ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين٩١ ﴾الاستفهام للتوبيخ على تأخره وقد آمن حيث لا ينفع نفس إيمانها، والاستفهام منصب على ﴿ آلآن ﴾، والتوبيخ على تأخر الإيمان إلى وقت الغرق ولذا يقول سبحانه :﴿ وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ﴾، وقد أشار سبحانه إلى أمرين :
الأمر الأول – يتعلق فرعون نفسه وقد عصى من قبل وادعى الألوهية وكفر بالوحدانية واصطناعه العصاة مثله وخضوعه للسحر والكهانة.
الأمر الثاني – يتعلق بعمله﴿ وكنت من المفسدين ﴾ أرهقت الناس بظلمك وأضعفت إرادتهم وقتلت نخوتهم وجعلتهم عبيدا، ولا فساد في أمة أكثر من فناء آحاد ها حتى يكونوا كالآلات يحركها ويدفعها، ووصف سبحانه فساده بالاستمرار طول حياته وحياة أمثاله، فعبر ب﴿ كنت ﴾ التي تدل على الاستمرار، ووضعه في صف المفسدين في الأرض وقد كان أشدهم عتوا وطغيانا.
لقد نجاه الله ببدنه ليكون آية دالة على قدرة الله تعالى وليراه الناس مثلا واضحا لمن أرهق شعبه وظلم وطغى وبغى وأكثر الفساد، ونرى ذلك دائما فيمن يحاكونه وكأنه على مقربة منا.
﴿ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون٩٢ ﴾.
( الفاء ) للإفصاح عن شرط مقدر، تقديره إذا كنت قد غرقت وضعفت واستخذيت في آخر لحظة- اليوم ننجيك ببدنك، وذكر اليوم للإشارة إلى أنه ينجو ببدنه في ذلك اليوم، وأضاف الإنجاء إليه سبحانه وجعله واقعا على فرعون باعتبار أنه صاحب البدن ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ببدنك لتكون لمن خلفك آية ﴾، أي دلالة أولا على عظيم قدرة الله تعالى التي قهر بها طاغوت عصره، وثانيا للاعتبار لأن مآل الطغاة هو الفناء، وثالثا يبان أن الله تعالى القادر على بقاء الأبدان، هو قادر على إعادة الأموات، ورابعا بيان أن العدالة هي الخير الباقي وأن الظلم هو الشر يذكر الطغاة بسببه بأنهم مفسدون.
ولقد بقي ببدنه وهو آية القدرة الإلهية، يتخذه المفسدون لنشر الفساد والإتجار به في العالم.
﴿ وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ﴾ غافلون عن آيات الله تعالى في الكون والناس ولولا أنهم غافلون لأقاموا العدل واعتبروا بفرعون ولأبعدوا الغرور عن أنفسهم وما استبدوا بمن يماثلونهم في الخلق والتكوين من الناس وقد يزيدون عليهم في المواهب التي أنعم الله بها على بعض عباده الأبرار، ولو لم يكونوا غافلين لآمنوا بقدرة الله تعالى على البعث والنشور.
وقد أكد الله غفلة الكثيرين من الناس بكلمة ( إن ) وبالجملة الاسمية وباللام في قوله تعالى :﴿ لغافلون ﴾.
هذا أمر فرعون ونهايته، أما أمر بني إسرائيل فقد ذكره الله تعالى في قوله :
﴿ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ٩٣ ﴾.
كان بنو إسرائيل في أرض فرعون في منزل دون ومكان هون، فكانوا في ذلة ومهانة فخرجوا وجاوزوا البحر في عزة ورأوا فرعون وملئه يغرقون﴿ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ﴾ أي مكنا لهم مكانا يطمئنون فيه ويبوءون مستريحين أعزة فيما بينهم مستقلين عن التبعية والذل.
وقوله :﴿ مبوأ صدق ﴾ أي مقاما مطمئنا فاضلا يبعد عن السحر والكهانة وغيرها من أوهام فرعون. وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني أنه يضاف إلى الصدق الفعل الذي يوصف به نحو قوله :﴿ في مقعد صدق... ٥٥ ﴾( القمر )، و﴿.... قدم صدق... ٢ ﴾ فالصدق هو عنوان الفضائل ؛ لأنه يتضمن صدق القول وصدق النفس والضمير، وهو عنوان لكل عامل فاضل ومكان طيب.
وفي هذه الإقامة الطيبة الفاضلة الكريمة العزيزة رزقهم الله تعالى لمن والسلوى، وقد سجل الله اختلافهم بعد أن جاءهم العلم بالحق، ورأوا المبينات الواضحة الدلالة القاطعة في إثبات الوحدانية والرسالات الإلهية، ومع ذلك لما اختلفوا، كانت الذلة جامعة بينهم موحدة مؤلفة، كما جاءهم العلم ومعه العزة اختلفوا على فرق والله سبحانه يحكم بينهم يوم القيامة.
العبرة في القصص
يقول تعالى :
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ٩٤ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ٩٥ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ٩٦ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم٩٧ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ٩٨ ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ٩٩ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ١٠٠ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ١٠١ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ١٠٢ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين ١٠٣ قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين ١٠٤ وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ١٠٥ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ١٠٦ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ١٠٧ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل١٠٨ واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين١٠٩
﴿ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين٩٤ ﴾.
الشك هو الضيق، ثم أطلق على التردد في الحكم بين اليقين والإنكار ؛ لأنه يحدث في النفس ضيقا، وسياق القول في هذه الآيات وما قبلها هو بيان القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم أنه أصاب أولى العزم من الرسل ما أصابه من قومه ونزل بهم من الشدائد والإعراض والاستهزاء والسخرية ما نزل به صلى الله عليه وسلم، وأنه سبحانه ينبه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى صدق ما أخبره ويثبت فؤاده، وفي النهي عن الشك أمر بالتثبت واليقين والاطمئنان إلى أنه الحق. فقوله تعالى :﴿ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ﴾ هو فرض غير واقع والغرض منه :
أولا – تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيا – بيان أن الكتب السابقة ثابت فيها هدا.
ثالثا –تدكير النبي صلى الله عليه وسلم بما حدث للنبيين قبله.
رابعا- بيان أن القصص الصادق يربي اليقين.
والدليل على أن النص لا يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك، أن أداة الشرط هي"إن" وهي تدل على أن فعل الشرط ليس بواقع ولا محقق.
والشك- كما قال الغزالي – هو طريق الوصول إلى الحق، وقد ذكر الله تعالى في القرآن أن المشركون يسارعون بالتكذيب ولا يتروون فيتفكروا ويصلوا إلى الحق البين، والله سبحانه وتعالى يفرض الشك الذي لم يقع كأنه واقع ليسوق الأدلة المثبتة وهي شهادة الكتب السابقة لهذه الأخبار الصادقة، التي تزيل كل أوهام المشركين على أن الخطاب في قوله تعالى :﴿ فإن كنت في شك ﴾ هو لأهل الخطاب الذين يعلمون القرآن أو يتلونه بأن يسألوا الذين أوتوا الكتاب من قبل.
وقوله تعالى :﴿ مما أنزلنا إليك ﴾ فيها ما يفيد نفي الشك لأنه من عند الله تعالى الذي بعثك رحمة للعالمين فلا ريب ولا يمكن أن يكون ريا ؛ ب لأنه عاين الوحي الذي خاطبه به الروح الأمين جبريل عليه السلام نزل به على قلبك وأن ﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.... ١٤٦ ﴾( البقرة )، ﴿ الحق من ربك فلا تكن من الممترين ٦٠ ﴾( آل عمران ).
الامتراء هو الشك بعد اليقين، فالنهي عن الامتراء هو للاستمرار على اليقين والإيمان، وألا يتزلزل ذلك اليقين بفعل المشركين، وأن مؤدى ذلك القول هو تأكيد الحق وتثبيته لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولتثبيت فؤاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإيمانه الراسخ كالجبال أو أشد، فكثرة الدلائل تثبت اليقين كقول إبراهيم- عليه السلام :﴿ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموت قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي.... ٢٦٠ ﴾( البقرة ).
وقوله تعالى :﴿ لقد جاءك الحق من ربك ﴾ نص يوجب اليقين، فالحق وحده نور يجلو اليقين قد أكده سبحانه وتعالى بكلمه" قد" وباللام قبلها، وقال :﴿ من ربك ﴾ أي الذي خلقك ورباك، ولذا رتب عليه النهي عن الافتراء.
( الفاء ) في قوله :﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها والنهي موجه في ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو موجه للناس عامة وأهل مكة خاصة.
﴿ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ٩٥ ﴾.
لقد جاء قوله تعالى بعد النهي عن الامتراء. وهذه الجملة القرآنية معطوفة على قوله تعالى :﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ والنهي كالنهي السابق مؤكد بنون التوكيد الثقيلة وهو موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بظاهر القول وموجه للناس كافة، ومع ذلك فيه إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم سواسية في الخطاب بالحق مثلهم، وفي قوله تعالى :﴿ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله ﴾ نهي عن الامتراء، وأن الامتراء بعد الإيمان يؤدي إلى تكذيب آيات الله تعالى، ولذا نهى عنه صلى الله عليه وسلم بسياق القول وظاهر الخطاب، النهي للناس أجمعين، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم أسوة لهم في الخطاب كما هو أسوة لهم في الإيمان والنهي الموجه له يكون بالأولى نهي لغيره، ذلك ليفتشوا قلوبهم ويبعدوها عن الامتراء في الحق حتى لا يؤدي ذلك إلى التكذيب بآيات الله.
﴿ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله ﴾ في قوله تعالى نهي مؤكد لأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم في صفوف الكثرة الضالة التي خير منها القلة المؤمنة، فلا يقاس الحق بالعدد والكثرة ولكن بالإيمان وقوة الدليل، ونكرر أن الخطاب للناس فلا يصح أن ينساق أحد وراء الكثرة المبطلة تاركا القلة المحقة، وعبر سبحانه بقوله تعالى﴿ كذبوا بآيات الله ﴾ لبيان أن صلة الموصول سبب لانغمارهم في الضلالة، إذ الآيات الكونية واضحة وآياته القرآنية تحدي بها العرب أن يأتوا بمثلها فعجزوا، وقد رتب الله تعالى على تكذيب الآيات الكونية والقرآنية الخسارة﴿ فتكون من الخاسرين ﴾، ( الفاء ) لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أي أنه يترتب على تكذيب آيات الله أن تكون في صفوف الخاسرين الذين خسروا الإيمان، وهذا أساس الخسران فخسروا الإيمان باليوم الآخر وما فيه من جزاء بعد الحساب، وخسروا فزعموا أن الحياة الدنيا وحدها هي الحياة وهذا هو الخسران المبين.
﴿ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ٩٦ ولو جاءتهم آية حتى يروا العذاب الأليم ٩٧ ﴾.
بين سبحانه أن الذين كفروا حقت عليهم كلمت ربك بالكفر فلا يؤمنون بأية آية مهما تكن واضحة.
تبين الآية حال المشركين فهم لا يؤمنون لنقص في المعجزة الكبرى ولكن لأنهم سبقوا إلى الرد وأصروا عليه إصرار ونفروا من الحق لا يردهم إليه معجزة، هم يطلبون معجزات مادية ولو جاءتهم لأنكروها وتنكروا لها بعد فترة من الزمان، وقد كانت التجربة مصدقة في فرعون وملئه فمع الآيات التسع التي جاءت ما آمنوا.
﴿ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ٩٦ ﴾ يؤكد سبحانه أن الذين ثبتت عليهم كلمة الله تعالى أنهم في سجل الكافرين، لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ولو كانت مما يطلبون، أي لو تضافرت الآيات معجزات كلها وجاءت مجتمعة لا يؤمنون، وأقرب القول أن يقولوا سحرت أعيننا فالجحود ملازم لهم لا يزايلهم أبدا. كان التأكيد في هذا الحكم ب﴿ إن ﴾ المؤكدة بقوله تعالى :﴿ لا يؤمنون ﴾ تعبيرا بالمضارع دليلا على أن الإيمان ليس من شأنهم، وأنهم لا يذعنون وليس من طبعهم أن يؤمنوا بشيء بل الجحود شأنهم.
إن الكفر ينمي بعضه بعضا، فالكافر يبدأ جاحدا ثم يعاند ثم يؤذي المؤمنين ويحاربهم ثم يسير في طريق الفساد حتى يتمكن الكفر منه فلا يؤمن.
وإذا كانوا كذلك فلن يؤمنوا بآيات الله مهما وضحت وبهرت الأنظار، وتستمر لجاجتهم في الكفر حتى يروا العذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فقد كانت في الماضي بالآيات المدمرة، أما بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فبالمقاومة لشركهم بالحرب، وجند لهم أبطالهم، ذلك لأن النفس الجاحدة تغريهم النصرة بالمخالفة والفساد، والسيف قد ينبهها فيهتدي من يهتدي. وفي الآخرة فالعذاب في جهنم وبئس المصير.
﴿ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ٩٦ ولو جاءتهم آية حتى يروا العذاب الأليم ٩٧ ﴾.
بين سبحانه أن الذين كفروا حقت عليهم كلمت ربك بالكفر فلا يؤمنون بأية آية مهما تكن واضحة.
تبين الآية حال المشركين فهم لا يؤمنون لنقص في المعجزة الكبرى ولكن لأنهم سبقوا إلى الرد وأصروا عليه إصرار ونفروا من الحق لا يردهم إليه معجزة، هم يطلبون معجزات مادية ولو جاءتهم لأنكروها وتنكروا لها بعد فترة من الزمان، وقد كانت التجربة مصدقة في فرعون وملئه فمع الآيات التسع التي جاءت ما آمنوا.
﴿ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ٩٦ ﴾ يؤكد سبحانه أن الذين ثبتت عليهم كلمة الله تعالى أنهم في سجل الكافرين، لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ولو كانت مما يطلبون، أي لو تضافرت الآيات معجزات كلها وجاءت مجتمعة لا يؤمنون، وأقرب القول أن يقولوا سحرت أعيننا فالجحود ملازم لهم لا يزايلهم أبدا. كان التأكيد في هذا الحكم ب﴿ إن ﴾ المؤكدة بقوله تعالى :﴿ لا يؤمنون ﴾ تعبيرا بالمضارع دليلا على أن الإيمان ليس من شأنهم، وأنهم لا يذعنون وليس من طبعهم أن يؤمنوا بشيء بل الجحود شأنهم.
إن الكفر ينمي بعضه بعضا، فالكافر يبدأ جاحدا ثم يعاند ثم يؤذي المؤمنين ويحاربهم ثم يسير في طريق الفساد حتى يتمكن الكفر منه فلا يؤمن.
وإذا كانوا كذلك فلن يؤمنوا بآيات الله مهما وضحت وبهرت الأنظار، وتستمر لجاجتهم في الكفر حتى يروا العذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فقد كانت في الماضي بالآيات المدمرة، أما بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فبالمقاومة لشركهم بالحرب، وجند لهم أبطالهم، ذلك لأن النفس الجاحدة تغريهم النصرة بالمخالفة والفساد، والسيف قد ينبهها فيهتدي من يهتدي. وفي الآخرة فالعذاب في جهنم وبئس المصير.
﴿ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ٩٨ ﴾.
عندما أدرك فرعون الغرق قال :﴿ آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ﴾ كان ذلك بعد أن سبقته الأحداث ولم تعد له توبة، وقد قص الله تعالى أمر قوم يونس وقد أجدى فيهم الإنذار وصدقوا رسولهم وهم على اختيار من أمرهم.
﴿ فلولا كانت قرية آمنت ﴾ كلمة( لولا ) للحض على الإيمان مع ذكر أثره، والقرية هي المدينة العظيمة التي يجتمع فيها الناس، ﴿ فنفعها إيمانها ﴾ طهر نفوسها ومنع أهلها من الظلم وقربهم من ربهم، وجواب لولا محذوف إذا قلنا إنها شرطية، كقوله تعالى :﴿.... لولا أنتم لكنا مؤمنين ٣١ ﴾ ( سبأ )، ودل عليه أو قام مقامه فنفعها إيمانها. وإذا قلنا إنها لمجرد الحض على الإيمان فإنها لا تحتاج إلى جواب، ومهما يكن فالكلمات ﴿ فنفعها إيمانها ﴾. بيان لأثر الإيمان وهو أن النفوس تتطهر وتقترب إلى الله تعالى ويكون لها الثواب والنعيم المقيم، ونفع الإيمان أيضا كان في سعة من الوقت وليس كإيمان فرعون.
﴿ إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ﴾ الاستثناء منقطع بمعنى لكن، وفيه بيان نفع الإيمان، والمعنى ألا كانت قرية آمنت فنعها إيمانها، لكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي، وجوزالنحويون ان يكون   الاستثناء متصلا ؛ لأن كلمة( لولا ) حرف امتناع تدل في مضمونها على النفي فيكون المضمون- ما قرية آمنت فنفعها إيمانها، إلا قوم يونس فإنهم آمنوا وقت السعة والاختيار فنفعهم إيمانهم، وذلك كقوله تعالى :﴿ لما آمنوا كشفنا عنهم ﴾ أي حين آمنوا مختارين أزلنا عنهم، وعبر بكلمة﴿ كشفنا ﴾ إشارة إلى أن الخزي غمة وهلاك فإزالته كشف للغمة ومنع لها، وأبقيناها ممتعين مرهفين في الحلال إلى حين قضاء أجلهم. وقد روى أن يونس –عليه السلام- قد بعث نبينا في مدينة "نينوى" من الموصل وكانت مدينة عظيمة، وقصة الآشوريين في حكمهم- وهي مدينة قديمة دأب أهلها على تحصينها، وقويت شوكة حكامها حتى خضع لهم الكثير من ممالك آسيا، والملك الواسع يوصي بالتجبر كما كان من آل فرعون، وقد أغار قوم يونس كثيرا على من جاورهم، وكلما أغاروا أكثروا الفساد وسلبوا ونهبوا وارتكبوا الكثير من المظالم، أنذرهم يونس بالعذاب ينزل بهم لا محالة، وهم يعلمونه صادقا أمينا فيهم فلم يعبأوا ابتداء، ويروى أنه أخبرهم أن العذاب نازل بهم بعد أربعين ليلة فقالوا في أنفسهم لو بقي فينا فنحن في أمن وإن غادرنا لا نكون آمنين، لكنه غاب عنهم فقذف الله في قلوبهم الرعب وفي قلب أميرهم الإيمان، ورأوا مقدمات العذاب تقترب منهم وتغشاهم وغامت السماء غيما أسود، فآمنوا واستغفروا وأنابوا إلى ربهم.
وإن هذا المثل يضرب بعد فرعون الذي آمن بعد فوات الأوان، وهو مثل لإدراك قوم يونس بعد أن غشيهم ما جعلهم يتوقعون ما أنذروا به فسارعوا بالنجاة وأزالوا آثار ما اقترفوا.
﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ٩٩ ﴾.
إن كفر من كفر وهداية من اهتدى يكون بتقدير الله تعالى في كتابه المكنون.
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان قومه ومن بعث إليهم جميعا ؛ لأن الحجة قائمة والحق بين والهدى مرشد، فيبين الله تعالى له أنه سبحانه لو شاء لهداهم أجمعين، ولكن تركهم يختارون عن بينة، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها. فقد خلق فيهم العقل الذي يختار ووضع فيهم النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة فكانت الإرادة حرة، وثم الاختبار ليكون الثواب والعقاب والله أعدل الحاكمين.
﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ﴾، ﴿ كلهم ﴾ تأكيد، و﴿ جميعا ﴾ حال. لو شاء الله أن يكون الناس كلهم مجتمعين على الهداية والإيمان لكانوا جميعا كذلك، ولكن لم يشأ ليكون الاختيار ويتميز المؤمن من الكافر، وقد قال تعالى :﴿ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها.... ١٣ ﴾( السجدة )، ولكنه سبحانه أودع النفوس القدرة على الاهتداء، وبعث الرسل لكيلا يكون للناس على الله حجة وهدى الإنسان النجدين ليكون الاختيار﴿.... ونبلوكم بالشر والخير فتنة... ٣٥ ﴾( الأنبياء )، ذلك ليكون التنازع بين الفضيلة والرذيلة وليكون من آمن عن بينة ومن كفر عن بينة، وكلمة﴿ كلهم ﴾ تأكيد لفظي وجميعا حال، والمعنى مجتمعين على الإيمان لا يشذ من بينهم أحد.
ولقد قال تعالى في تقرير الاختيار :﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالوا مختلفين ١١٨ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ١١٩ ﴾( هود ).
وإذا كانت تلك مشيئة الله تعالى وإرادته أن ترك لهم الاختيار، فليس لك أن تريد منهم ما لم يرده الله لهم.
﴿ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾ أيكون الإيمان بإكراههم والله تعالى أراد لهم الاختيار في الاعتقاد والإيمان، و( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ لأنه إذا كان الله تعالى يريد لهم الاختيار فلا تكرههم، الاستفهام للإنكار بمعنى النفي، أي ليس لك أن تكره الناس على أن يكونوا مؤمنين، وقدم( أنت ) على الفعل لأن موضع النفي أن تكون أنت أيها النبي مكرههم، وقد قرر الله تعالى لهم الاختيار.
﴿ حتى يكونوا مؤمنين ﴾وهذا يفيد أن الإكراه موضع استنكار لأنه إيجاد للإيمان حيث لا تكون إرادة وقوله تعالى :﴿ حتى يكونوا مؤمنين ﴾ فيه ما يدل على أنه ينشيء مؤمنين، وليس له ذلك، إنما هو لله تعالى الذي يقول :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء... ٢٧٢ ﴾( البقرة ).
﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله لا يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين٥٦ ﴾( القصص ).
﴿ فذكر إنما أنت مذكر ٢١ لست عليهم بمسيطر٢٢ ﴾( الغاشية ).
ثم يقول تعالى :
﴿ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون١٠٠ ﴾.
أي ما استقام لنفس أن تؤمن بالله وباليوم الآخر والرسل الذين جاءوا بالأدلة الحاسمة إلا بإذن الله تعالى توجيها وتصريفا وتوفيقا فهو سبحانه وتعالى الملهم خلق النفس فسواها ألهمها فجورها وتقواها، فمن سلك سبيل الهداية والرشاد واتبع ما جاء به الرسل واستمع إليهم أخذ الله تعالى بيده إلى الإيمان، ومن سلك سبيل الغواية أمعن في طريق الضلال، وكلاهما بإذن الله تعالى وإرادته.
﴿ ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ﴾ الرجس هو الأمر المستقذر في العقل والإدراك والحس، كقوله تعالى :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به... ١٤٥ ﴾ ( الأنعام )، أي أنه قذر حسا، والكفر يعد قذارة معنوية يصيب الفكر كما يصيب لحم الخنزير المعدة بالقذارة، فإطلاقه على الكفر والتخاذل والبعد عن الله تعالى من قبيل المجاز بالاستعارة.
وفي قوله تعالى : أنه يجعل الرجس على الذين لا يدركون بعقولهم الفرق بين الحق والباطل، ولا يعملون بقلوبهم، بل يقولون نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ولا يديرون الأمور بميزان العقل فهم في ضلال بعيد.
﴿ قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون١٠١ ﴾.
أمر الله نبيه أن ينهيهم إلى خلق السموات والأرض، وما يدل عليه، وأن يذكرهم بالوجود وما فيه، وأن العالم المرئي هو السموات والأرض وما فيهما من عجائب ونظم ونواميس يدبر أمرها ويقوم على وجودها ويسيرها بإرادته، لا تتحرك حركة عن حركة إلا بإذنه سبحانه بديع السموات والأرض.
﴿ قل انظروا ما ذا في السموات والأرض ﴾، ﴿ ماذا ﴾ استفهام وتنبيه إلى عجائب السموات وارتباط نجومها وأبراجها برباط محكم لا يمكن أن يسير نجم في غير مساره، ﴿ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ٤٠ ﴾( يس )، وكل ما في الكون سخره الله للإنسان من ثروات سائلة وجامدة، وما في البحار من كنوز وأحياء، وله الجواري تجري في البحر، بإذنه والرياح العظيمة والناقلة للماء واللقاح.
انظروا ما ذا في الأرض والسماء، هل من إله غير الله يسيرها.
إن ذلك دليل على اللطيف الخبير المنشيء المبدع بإرادته السرمدية قائم على الكون ممسكا له من الزوال. كل ذلك أقره العرب ثم أشركوا، فتعالى الله عما يشركون.
﴿ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ﴾، ﴿ ما ﴾ نافية، والآيات هي الدلائل التي أشرنا إلى بعضها، والنذر جمع نذير وهو الرسول﴿... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير٢٤ ﴾( فاطر ).
والمعنى أنه لا تنفع الآيات والنذر نفعا فيه غناء عن قوم لا يؤمنون، أي أن الله سبحانه أقام الآيات كافية وأردفها بالرسل مبشرين ومنذرين ولا ينفع هذا كله قوما لا يؤمنون، أي قوما ضلوا سواء السبيل وسلكوا طرائق الشيطان، ﴿ لا يؤمنون ﴾ ليس من شأنهم الإيمان بل اضطربت عقولهم وقلوبهم ونفوسهم وأنهم لا يفقهم إلا قارعة تنزل بهم فهل ينتظرونها.
﴿ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل انتظروا إني معكم من المنتظرين ١٠٢ ﴾.
يراد بالأيام هنا الوقائع، وما نزل بالأمم قبلهم من خسف وريح وحاجب من السماء، و( الفاء ) في كلمة﴿ فهل ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه يترتب على استمرارها في غوايتهم وضلالهم أنهم لا يتنظرون إلا قارعة مثل الذين مضوا قبلهم. والاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع بمعنى النفي، أي لا ينتظرون إلا أن يقع مثل ما وقع للذين مضوا من قبلهم ممن عاندوا في الحق وحاربوه وفتنوا أهله ﴿ قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ﴾ أمر الله نبيه أن يخاطبهم منذرا مهددا.
إن كل نبي بعث في قومه، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعث للناس كافة الأحمر والأسود، ومن عاصروه والاجيال من بعدهم وهو خاتم المرسلين. والنص في الآية الكريمة يستدل منه إلى أنه سينزل بهم مثل ما نزل بمن قبلهم كريح أو خسف أو غرق، ولكن الآية التي قرعت حسهم وأذهلتهم في باطلهم هي الحرب العادلة منعا للفتنة وفتحا للدعوة حتى صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
﴿ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين١٠٣ ﴾
فبعد أن أشار الله تعالى إلى ما ينزل بالكافرين من نوازل الدنيا مثل الذين خلوا من قبلهم، ذكر أنه ينجو من ذلك الرسل ومن يؤمنون.
كلمة﴿ ثم ﴾ للتراخي والبعد الزمني والمعنوي، لأن ما ينزل بهم يكون بعد إمهال يتمادون فيه ثم يكون الهلاك ثم تكون النجاة، والبعد الفارق بين أن ينزل البلاء وبين النجاة من عذاب يعم ولايخص، وأضاف سبحانه الرسل إليه تشريفا لمكانتهم ولبيان أنهم ينطقون عن الله تعالى ولا يأتون ببهتان يفترونه ثم كانت المفارقة بين الذين آمنوا والذين كفروا بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين.
وقوله تعالى :﴿ ثم ننجي رسلنا ﴾ فيه كلمة﴿ ثم ﴾ عاطفة على محذوف دلت عليه الإشارة إلى أنهم ينتظرون إلى أن يهلكوا مثل الذين خلوا من قبلهم.
وقوله تعالى :﴿ ننجي ﴾ بتشديد الجيم قرئت كذلك عند الأكثرين، وقرئت بالتخفيف، والتعدية بالهمزة والتضعيف، غير إني أرى في التضعيف معنى تأكيد النجاة والسلامة، فقد قال سبحانه :﴿ كذلك حقا علينا ننج المؤمنين ﴾تأكيد بعد تأكيد. وفي ذلك تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بأن العاقبة للمتقين، وأن الظالمين مهما أرعدوا وأبرقوا فأمرهم إلى زوال، وأنه صلى الله عليه وسلم ناج من كيدهم وتدبيرهم وغالب هو ومن معه في هذا الميدان الدنيوي بين الخير والشر والإيمان والكفر.
وقوله تعالى :﴿ حقا علينا ﴾ جملة معترضة بين متلازمين وهما﴿ كذلك ﴾ ﴿ ننج المؤمنين ﴾، وأن قوله تعالى﴿ حقا علينا ﴾ معترضة لتأكيد وعد الله تعالى للمؤمنين وأنه لن يختلف فسماه سبحانه حقا عليه وهو الذي لا واجب عليه ولا يسأل عما يفعل، و﴿ حقا علينا ﴾ مصدر لفعل محذوف، والله ذو الفضل والمنة على عباده.
﴿ قل يا أيها الناس إن كنتم في شك في ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين ١٠٤ ﴾.
قد بين سبحانه أن المشركين في قبضته ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجعل نفسه أسوة في الإيمان.
الخطاب لأهل مكة ومن يكون مثلهم كافة، ولذا نادى سبحانه ﴿ يا أيها الناس ﴾ والنداء للبعيد، لبعد نفوسهم عن نفسه صلى الله عليه وسلم ومجافاتهم للحق وهو يتبعه.
﴿ إن كنتم في شك من ديني ﴾ إن كنتم في ريب مع ما قدمت لكم من براهين وأدلة قاطعة على الدين الذي أؤمن به و أعتقده لأنه الحق في ذاته والعقول تتلقى ما فيه بالقبول.
إن كنتم كذلك فلا تطمعوا أن أكون مثلكم أحيد عن الحق وأجافيه، وأعبد مثلكم الذين تعبدون من دون الله وهي الأوثان، وعبر عنها بما يدل على العقل بكلمة﴿ الذين ﴾ مجاراة لتفكيرهم إذ يعدونها من العقلاء ويعبدها كبراؤهم من المشركين والضالين.
وفي مجاراة الضال من غير اعتناق لما ضل به أفضل تنبيه، وحمل له على التفكير.
﴿ تعبدون من دون الله ﴾ في هذا دليل وبيان للسبب الذي دعاه صلى الله عليه وسلم لئلا يعبدها وهي أنها غير الله الذي لا يعبد إلا هو وحده لا شريك له.
ولقد صرح صلى الله عليه وسلم بمن يعبده في قوله تعالى :﴿ ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ﴾ والاستدراك ؛ لنفي أن أوثانهم تحيي اوتميت، وهو يتضمن إثبات عبادة الله وحده لا شريك له متجاوزا عباداتهم مبتعدا عنها، وفي الكلمة القرآنية﴿ الذي يتوفاكم ﴾ إشارة إلى استحقاقه للعبادة لأنه الذي يتوفى الأنفس حين موتها فهو يحيي ويميت وهم يرون ذلك ويشاهدونه.
وقد ذكر سبحانه الوفاة ولم يذكر الإحياء ؛ لأن الوفاة لا تكون إلا للحي فذكرها يتضمن ذكر للإحياء، وإشارة إلى أنهم ليسوا مخلدين وأنهم ضعفاء يموتون، وذكر الموت يذهب بغرورهم وفي ذهابه تقريب لهم إلى الإيمان، كما أن آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع، لا تميت ولا تحيي.
﴿ وأمرت أن أكون من المؤمنين ﴾ جاء ذكر الأمر ولم يذكر الآمر سبحانه وتعالى الذي يعرفون أنه الخالق وحده ؛ لأنه حاضر في النفس دائما ؛ لأن الأمر من الله يكون معه أمر العقل والإدراك المستقيم، والبرهان الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالأمر إذا جاء من الله الخالق الواحد الأحد جاء من العقل المدرك وجاء من الآيات البينات.
وقوله تعالى :﴿ أن أكون من المؤمنين ﴾ فيه﴿ أن ﴾ مصدرية، والأمر بالكينونة بهذه الصفة يفيد أن يكون مندمجا بها في المؤمنين في جمعهم الطاهر البعيد عن الوثنية.
﴿ وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ١٠٥ ﴾.
بعد أمر الاندماج وتضافر صفوف المؤمنين، أمر نفسي في قوله تعالى :﴿ وأن أقم وجهك ﴾.
قوله تعالى :﴿ وأن أقم ﴾ معطوف على قوله :﴿ وأمرت أن أكون من المؤمنين ﴾ الذي جاء في الآية السابقة، وجاء بصيغة الأمر من الله تعالى ومن آياته البينات الدالة على وحدانيته واستحقاقه للعبادة وحده، وكلمة :﴿ وأن ﴾مصدرية هي وما بعدها مصدر، أي أمرت بالقيام لله وحده، وفي قوله تعالى :﴿ وجهك ﴾إشارة إلى الاتجاه إلى الله تعالى بنفسه كلها لا يكون فيه شيء لغير الله، فالوجه كناية عن الذات كلها، فيكون حبه وبغضه لله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله تعالى"١.
وقوله تعالى :﴿ حنيفا ﴾ معناه مستقيما في اتجاهه بلا انحراف ولا اعوجاج ولا ميل لباطل أبدا.
ثم صرح سبحانه ببطلان الشرك وأنه منهي عنه في قوله تعالى :﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾ فإنك إذا أمرت بأن نكون من المؤمنين فقد نهيت عن أن تكون من المشركين، وقوله تعالى :﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾ معطوف على قوله تعالى :﴿ وأن أقم وجهك للدين حنيفا ﴾.
وهكذا كان النهي عن الشرك بعد الأمر بالإيمان وإقامة الوجه لله بلا ميل، ذلك لأن الشرك يدخل إلى النفس من مسارب شيطانية كثيرة يحسبها الناس صغائر وهي كبائر، فالمرآة في العبادات شرك، والخضوع للحكام والأمراء في معاصيهم شرك، وقد قال صلى الله عليه وسلم :" من تصدق يرائي فقد أشرك، ومن صلى يرائي فقد أشرك"٢.
وقال تعالى :﴿ فويل للمصلين ٤ الذين هم عن صلاتهم ساهون ٥ الذين هم يراءون ٦ ويمنعون الماعون ٧ ﴾( الماعون ).
وقد كان تأكيد النهي عن الشرك بنون التوكيد الثقيلة وقد عطف على ذلك قوله تعالى :
١ سبق تخريجه..
٢ رواه أحمد، وقد سبق تخريجه..
﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين١٠٦ ﴾.
﴿ تدع ﴾ الدعاء هنا العبادة والضراعة وهذا معطوف على ﴿ وأن أقم وجهك للدين حنيفا ﴾، ﴿ من دون الله ﴾، أي غير الله تعالى وهي الأوثان التي جعلتموها أندادا لله مستحقة للعبادة، وقد وصفها سبحانه بحقيقتها الثابتة فقال :﴿ ما لا ينفعك ولا يضرك ﴾ أي أنها في ذاتها لا تنفعه ولا تضره، وجعل الخطاب النفع والضرر لمن يدعوها إشارة إلى أنهم تركوا ما ينفع و يضر الى ما لا ينفع ولا يضر، وذكر هذه الحقيقة فيه تعليل للنهي عن عبادتها ؛ لأنه انما يعبد الجدير بالعبادة ويوفي الشكر لمن ينفع ويخشى عذابه، أما الأوثان فلا نفع فيها يرتجي ولا ضرر منها يتقي.
إن عبادة الأوثان واتخاذها أندادا لله تعالى والشرك به سبحانه، ظلم بين، ولذا قال تعالى :﴿ فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ﴾، ( الفاء ) في مقام التعليل للنهي، أي أن عبادة ما لا ينفع ولا يضر- ظلم، وقد جاء ذلك بصيغة الشرط والجزاء ليبين ارتباط الفعل بوصف الظلم، أي أن هذا الفعل مترتب عليه وصف الظلم لا محالة. وقد ذكر ذلك بالشرط الدال على الارتباط أولا، والإيماء إلى الارتباط بقوله :﴿ إذا ﴾، أي أنه إذا كان الأمر كذلك فإنك من الظالمين لا محالة، و( الفاء ) الثانية للدلالة على الجزاء.
﴿ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم١٠٧ ﴾.
بين الله تعالى أن من الإثم البالغ والضلال البعيد عبادة ما لا يضر ولا ينفع من جماد وغيره، ثم يبين سبحانه في هذه الآية أنه هو الذي ينفع ويضر والنفع يشاؤه لعباده والضرر يكتبه عليهم.
﴿ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ﴾. المس إصابة الإحساس بالألم والانزعاج، وأنه لا كاشف له إلا الله، أي رافعه ومزيله، وقد عبر سبحانه عن إزالته بالكشف ؛ لأنه يكون كالغمة تصيب النفس وتستولي عليها ولا تنحسر إلا بأمر من الله تعالى. والضمير﴿ هو ﴾ يعود على الله سبحانه وتعالى ذى الجلال والإكرام وهو يجب أن يكون مذكورا في النفس حاضرا في القلب دائما، فالضمير يعود إلى معلوم في النفوس والقلوب.
ويقول سبحانه :﴿ وإن يردك بخير فلا راد لفضله ﴾، وهنا نجد إشارتين بيانيتين :
الإشارة الأولى – التعبير باسم الفاعل في قوله تعالى :﴿ فلا راد لفضله ﴾ وهذا يفيد أنه لا يوجد من يستطيع رده فليس الكلام لمجرد الرد، بل هو نفى لوجود من يستطيع الرد ويقدر عليه.
والإشارة الثانية – قوله تعالى :﴿ لفضله ﴾، فيها إظهار في موضع الإضمار، ذلك لبيان أنه لفضل من الله ورحمة منه سبحانه وأنه واجب الشكر على هذه النعمة، وجاء التعبير هنا بقوله تعالى :﴿ وإن يردك بخير ﴾ للإشارة إلى أن الخير مراد لله تعالى مقصود إنزاله بالشخص، وفي التعبير إبهام ثم بيان للتوكيد قال تعالى :﴿ وإن يدرك ﴾ثم قال سبحانه :﴿ بخير ﴾ فكان الأخير بيانا لإرادة الله تعالى بالعبد، ثم قال تعالى :﴿ يصيب به من يشاء من عباده ﴾ أي يصيب بهذا الفضل من تتعلق به مشيئته الله من عباده.
وتتعلق مشيئة الله بمن يسير في طريق الخير كما كتبه الله تعالى فيوصله إلى غايته، والخير المذكور في الآية هو النفع والهداية والاتجاه إلى الله ورجاء رحمته، ثم يختم الله تعالى هذه الآية بقوله :﴿ وهو الغفور الرحيم ﴾ أي أن مغفرته تعالى وقبوله التوبة هو الخير الذي يشاؤه لعباده، ومغفرته من رحمته ؛ لأنه سبحانه يريد لهم الخير برحمته وفضله، والشيطان يسول لهم الشر، فالذين مكنوا الشيطان من نفوسهم حرموا من الخير، ومن أبعدوا وساوسه فقد اتجهوا إلى الله، وكل شيء بعلمه وتقديره سبحانه، كل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
وقد أوضح الله الحق وبينه فقال تعالى :
﴿ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وماأنا عليكم بوكيل ١٠٨ ﴾.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وقد بشر وأنذر أن يبين لهم أن الحق قد جاءهم بدلائله وقامت أعلامه، وقد علموا طريق الغواية وما فيه من اعوجاج، وطريق الهداية وما فيه من استقامة، فمن شاء سلك طريق الهداية وأصاب فيه الخير، ومن شاء سار في طريق والضلال، أصابه الشر، ويكون في ضلاله عائدا بالضرر على نفسه.
ولذا قال سبحانه :﴿ قل أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ﴾، أي جاءكم الأمر الثابت في ذاته وبأدلته وبراهينه من رسول منذر ومبشر وقرآن مبين فيه تكليفات الله تعالى الهادية إلى سواء السبيل والداعية إلى الخير المبينة لطريقه والتي هي في ذاتها رشاد لمن أرادها طريقا مستقيما لا عوج فيه، فمن اهتدى بهدي هذا الحق فسمع وأطاع فإنما يهتدي لنفسه، أي نفع بالهداية نفسه إذ هي الخير كله، والله غني عن عباده، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا عمل عليه إلا أن يبشر، ومن ضل فإنما يضل على نفسه بسلكه الغواية وتركه طريق الهداية بعد أن بدت الأعلام واضحة هادية، وعاقبة الضلال تعود عليه إذ يسير في متاهة الباطل والفساد ومغبة ذلك عليه وحده.
ويقول صلى الله عليه وسلم بأمر ربه :﴿ وما أنا عليكم بوكيل ﴾ فينفي أنه وكيل وقد وكل إليه أمر المحافظة عليهم.
والباء في قوله :﴿ بوكيل ﴾ لاستغراق النفي، أي لست عليكم حفيظا قد وكل إلي أمركم – بأي حال من الأحوال- إنما أنا مرشد.
كما قال تعالى :﴿.... إن عليك إلا البلاغ... ٤٨ ﴾( الشورى )، وقد بلغت، وكما قال تعالى :﴿.... إنما أنت منذر ولكل قوم هاد٧ ﴾( الرعد ).
﴿ واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين١٠٩ ﴾.
جعله الله قدوة في اتباع الوحي وهو له ابتداء ولمن اتبعه من المؤمنين، ولقد أمرهم سبحانه وتعالى بأمرين هما : خلاصة الحكمة، والدعوة المحمدية، ونوه سبحانه بأمر ثالث هو الخضوع لحكم الله تعالى وإليه المآل.
الأمر في قوله تعالى :﴿ واتبع ما يوحى إليك ﴾ هو التكليفات الشرعية كلها والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ومن التكليفات قيامه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ وهو لا يقصر، كما قال تعالى :﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين٦٧ ﴾( المائدة ).
إن الدعوة ليست أمرا هينا لينا ولكن يكتنفها المشاق والصعاب، فعلاج النفوس ليس أمرا قريب المنال، وإنما يتعرض له أهل الحق من سفاهة السفهاء وأذى الأقوياء وغطرسة العتاة الظالمين.
ولذا جاء الله تعالى بالأمر الثاني وهو الصبر فقال تعالى :﴿ واصبر حتى يحكم الله ﴾ أي اصبر على ذات ما يوحى إليك من تكليف، هو في ذاته شاق على النفوس، واصبر على أذى من تدعوهم، واصبر على الدعوة وجهاد الظالمين، الذين يفتنون الناس عن دينهم، وإن لذلك منتهي، هو حكم الله.
وإن الله تعالى ناصر الحق وهو الهادي المرشد، ﴿ وهو خير الحاكمين ﴾.
Icon