تفسير سورة يونس

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة يونس من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قوله عز وجل :﴿ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾. قيل في قوله تعالى :﴿ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ﴾ وجهان، أحدهما : لا يخافون عقابنا ؛ لأن الرجاء يقام مقام الخوف، ومثله قوله :﴿ ما لكم لا ترجون لله وقاراً ﴾ [ نوح : ١٣ ] قيل : معناه لا تخافون لله عظمة.
والوجه الآخر : لا تطمعون في ثوابنا ؛ كقولهم تاب رجاءً لثواب الله وخوفاً من عقابه. والفرق بين الإتيان بغيره وبين تبديله أن الإتيان بغيره لا يقتضي رفعه بل يجوز بقاؤه معه، وتبديلُهُ لا يكون إلا برفعه ووضع آخر مكانه أو شيء منه. وكان سؤالهم لذلك على وجه التعنت والتحكم، إذ لم يجدوا سبباً آخر يتعلقون به، ولم يَجُزْ أن يكون الأمر موقوفاً على اختيارهم وتحكمهم لأنهم غير عالمين بالمصالح، ولو جاز أن يأتي بغيره أو يبدّله بقولهم لقالوا في الثاني مثله في الأول وفي الثالث مثله في الثاني فكان يصير دلائل الله تعالى تابعة لمقاصد السفهاء، وقد قامت الحجة عليهم بهذا القرآن، فإن لم يكن يقنعهم ذلك مع عجزهم فالثاني والثالث مثله.
وربما احتجّ بهذه الآية بعض من يأبَى جواز نسخ القرآن بالسنة ؛ لأنه قال :﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ﴾ ومُجِيزُ نسخ القرآن بالسنة مجيزٌ لتبديله من تلقاء نفسه. وليس هذا كما ظنوا ؛ وذلك لأنه ليس في وُسْعِ النبي صلى الله عليه وسلم تبديل القرآن بقرآن مثله ولا الإتيان بقرآن غيره، وهذا الذي سأله المشركون ولم يسألوه تبديل الحكم دون اللفظ، والمستدلّ بمثله في هذا الباب مغفل. وأيضاً فإن نَسْخَ القرآن لا يجوز عندنا إلا بسنّة هي وَحْيٌ من قِبَلِ الله تعالى، قال الله عز وجل :﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يُوحَى ﴾ [ النجم : ٣ و ٤ ] فنَسْخُ حكم القرآن بالسنة إنما هو نسخٌ بوحي الله لا من قِبَلِ النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ الله لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وحَلالاً قُلْ آلله أَذِنَ لَكُمْ ﴾ الآية. ربما احتج بعض الأغبياء من نُفَاةِ القياس بهذه الآية في إبطاله ؛ لأنه زعم أن القائِسَ يحرم بقياسه ويحلّ. وهذا جهل من قائله ؛ لأن القياس دليل الله تعالى كما أن حجة العقل دليل الله تعالى وكالنصوص والسنن كل هذه دلائل الله تعالى، فالقائس إنما يتّبع موضع الدلالة على الحكم فيكون الله هو المحلّل والمحرم بنَصْبه الدليل عليه، فإن خالف في أن القياس دليل الله عز وجل فليكن كلامه معنا في إثباته، فإذا ثبت ذلك سقط سؤاله، وإن لم يقم الدليل على إثباته فقد اكتفى في إيجاب بطلانه بعدم دلالة صحته، فلا يعتقد أحد صحة القياس إلا وهو يرى أنه دليل الله تعالى، وقد قامت بصحته ضروب من الشواهد ولا تعلُّق للآية في نفي القياس ولا إثباته.
وربما احتجّوا أيضاً في نفيه بقوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ [ الحشر : ٧ ]، وهذا شبيه بما قبله ؛ لأن القائسين يقولون القول بالقياس مما آتانا الرسول به وأقام الله الحجة عليه من دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فليس لهذه الآية تعلق بنفي القياس.
قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ﴾. قيل فيه وجهان، أحدهما : أنها لام العاقبة، كقوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً ﴾ [ القصص : ٨ ] والآخر : لئلا يضلوا عن سبيلك، فحذفت " لا " كقوله تعالى :﴿ ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] أي لئلا تضل، وقوله :﴿ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] أي لئلا تقولوا، وقوله :﴿ يبين الله لكم أن تضلوا ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] معناه أن لا تضلوا.
قوله تعالى :﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ﴾. أضاف الدعاء إليهما، وقال أبو العالية وعكرمة ومحمد بن كعب والربيع بن موسى :" كان موسى يدعو وهارون يؤمّن فسماهما الله داعيين ". وهذا يدل على أن آمين دعاء، وإذا ثبت أنه دعاء فإخفاؤه أفضل من الجهر به لقوله تعالى :﴿ ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ﴾ [ الأعراف : ٥٥ ].
Icon