تفسير سورة يونس

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة يونس من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ﴾ خبر اسم الإشارة. قوله: (والإضافة) أي في قوله: ﴿ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ﴾ والمعنى تلك آيات من الكتاب، لأن المشار إليه بعض القرآن. قوله: (المحكم) أشار بذلك إلى أن فعيلاً بمعنى مفعول، ومعناه: الذي لا يتطرق إليه الفساد، ولا تغيره الدهور، ولا يعتريه الكذب ولا التناقض، ويصح أن يكون بمعنى فاعل، أي الحاكم، أي ذو الحكم، لاشتماله على الأحكام الدينية المتعبد بها. قوله: (استفهام إنكاري) أي والمعنى لا يليق، ولا ينبغي لأهل مكة أن يتعجبوا من إرساله صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: العجب أن الله لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب.
قوله: ﴿ عَجَباً ﴾ العجب استعظام أمر خفي سببه. قوله: (خبر كان) أي المقدم عليها. قوله: (بالرفع اسمها) هذه القراءة شاذة، فكان المناسب للمفسر أن ينبه عليها. قوله: (والخبر) مبتدأ، وجملة ﴿ أَنْ أَوْحَيْنَآ ﴾ خبره، قوله: (وهو اسمها على الأولى) اعتراض من بين المبتدأ والخبر. قوله: (مفسرة) أي بمعنى (أي) وضابطها أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه. قوله: ﴿ أَنذِرِ ﴾ (الناس) أي إن استمروا على الكفر. قوله: ﴿ قَدَمَ صِدْقٍ ﴾ من إضافة الموصوف للصفة، وسمي الأجر الحسن ﴿ قَدَمَ صِدْقٍ ﴾ لأن الخير قد سبق لهم عند الله، والشأن أن السعي يكون بالقدم، فسمي المسبب باسم السبب، كما سميت النعمة يداً، لأنها تعطى بها. قوله: (أجراً حسناً) هذا أحد أقوال في تفسير قوله: ﴿ قَدَمَ صِدْقٍ ﴾ وهو لابن عباس، وقيل هو الأعمال الصالحة، وقيل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل السعادة المكتوبة لهم أزلاً في اللوح المحفوظ، وقيل منزلة رفيعة في الجنة، وكل هذه التفاسير ترجع إلى ما قاله المفسر. قوله: ﴿ قَالَ ٱلْكَافِرُونَ ﴾ أي حيث رد عليهم في تعجبهم بأبلغ رد. قوله: (المشتمل على ذلك) أي الإنذار والتبشير. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (المشار إليه) أي من القراءة الثانية.
قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ﴾ هذا رد عليهم في تعجبهم، والمعنى لا ينبغي لكم التعجب من إرسال الرسول. لأن ﴿ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ ﴾ إلخ، فمن كان قادراً على ذلك، فلا يستغرب عليه إرسال رسول. قوله: (أي في قدرها) جواب عن قوله: (لم يكن ثم شمس) إلخ. قوله: (لتعليم خلقه التثبت) أي التأني والتمهل في الأمور، وتخصيص الستة بذلك، ولم تكن أقل ولا أكثر مما استأثر الله بعلمه. قوله: (استواء يليق به) هذه طريقة السلف في تفويض علم المتشابه إلى الله تعالى، وطريقة الخلف، يؤولونه بالاستيلاء والقهر والتصرف، وإلى هاتين الطريقتين أشار صاحب الجوهرة بقوله: وكل نص أوهم التشبيها   أوله أو فوض ورم تنزيهافالاستواء كما يطلق على الركوب، يطلق على الاستيلاء، وهو المراد هنا، ومنه قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق   من غير سيف ودم مهراققوله: ﴿ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ ﴾ أي يتصرف في الخلائق بأسرها، ولا يشغله شأن عن شأن. قوله: ﴿ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ﴾ أي لا يشفع أحد عنده، إلا أن يأذن له في الشفاعة. قوله: ﴿ رَبَّكُمُ ﴾ أي خالقكم ومربيكم. قوله: (بإدغام التاء في الأصل) أي فأصله تتذكرون، قلبت التاء ذالاً، وأدغمت في الذال. قوله: ﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ﴾ رد على منكري البعث قالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر. قوله: (بفعلهما المقدر) أي وعدكم وعداً، وحقه حقاً. قوله: (بالكسر) أي وهي القراءة السبعية. قوله: (والفتح) أي وهي شاذة، فكان عليه أن ينبه عليها. قوله: ﴿ بِٱلْقِسْطِ ﴾ أي العدل المصحوب بالفضل، أو المراد بالقسط: عدل العبيد، بامتثالهم المأمورات، واجتنابهم المنهيات، فتكون الباء سببية. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ غاير الأسلوب، إشارة إلى أنهم مستحقون العذاب بسبب أعمالهم، وأما المؤمنون فثوابهم بفضل الله، وإلى أن المقصود من البدء والإعادة إنما هو الثواب، وأما العقاب، فكأنه عرض للكفار من سوء اعتقادهم وأفعالهم. قوله: ﴿ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي غير الشراب. قوله: (أي بسبب كفرهم) أشار بذلك إلى أن الباء سببية، وما مصدرية.
قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً ﴾ هذا من جملة أدلة توحيده. قوله: (ذات ضياء) أشار بذلك إلى أن ضياء مصدر، ويحتمل أنه جمع ضوء، والمعنى ذات أضواء كثيرة، والضوء النور القوي العظيم، فهو أخص من مطلق نور، وقيل الضياء ما كان ذاتياً، والنور ما كان مكتسباً من غيره، فما قام بالشمس يقال له ضياء، وما قام بالقمر يقال له نور. اعلم أن الشعاع الفائض من الشمس: قيل جوهر، وقيل عرض، والحق أنه عرض لقيامه بالإجرام. قوله: ﴿ وَٱلْقَمَرَ ﴾ معطوف على ﴿ ٱلشَّمْسَ ﴾، و ﴿ نُوراً ﴾ على ﴿ ضِيَآءً ﴾ ففيه العطف على معمولي عامل واحد، وهو جائز بلا خلاف. قوله: ﴿ وَقَدَّرَهُ ﴾ الضمير عائد على ﴿ وَٱلْقَمَرَ ﴾ فقط، وخص بالذكر وإن كانت الشمس لها منازل أيضاً، لأن سير القمر في المنازل أسرع، وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين، لأن المعتبر في مثل الصيام والحج السنة القمرية، ويحتمل أن الضمير عائد على كل من الشمس والقمر، وأفرد باعتبار ما ذكر، والأقرب الأول. قوله: (ثمانية وعشرون منزلاً) أي وهي منقسمة على اثني عشر برجاً، وهي: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، لكل برج منزلان وثلث، فيكون إقامته في كل برج ستة وخمسين ساعة، وانتقالات الشمس في هذه الأبراج مرتبة على الشهور القبطية، لكن الشهر: نصفه الأول من آخر برج، ونصفه الآخر من أول برج آخر، فيكون نصفه الأول من نصف السنبلة الأخيرة، ونصفه الأخير من نصف الميزان الأول، وهكذا. قوله: (ويستتر ليلتين) أي لا يرى، وإن كان سائراً. قوله: ﴿ لِتَعْلَمُواْ ﴾ هذا هو حكمة التقدير: قوله: ﴿ وَٱلْحِسَابَ ﴾ معطوف على عدد مسلط عليه تعلموا، ولا يجوز جره عطفاً على السنين، لأن الحساب لا يعلم عدده، ولذا سئل أبو عمرو عن الحساب، أتنصبه أم تجره؟ فقال: ومن يدري ما عدد الحساب؟ كناية عن كونه لا يجوز جره. قوله: (المذكور) أي من كونه ﴿ جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً ﴾.
قوله: (بالياء والنون) أي فهما قراءتان سبعيتان، وعلى النون فيه التفات من الغيبة إلى التكلم. قوله: ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ خصوا بالذكر، لأنهم هو المنتفعون بذلك. قوله: ﴿ إِنَّ فِي ٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ ﴾ أي في كون أحدهما يخلف الآخر ويعقبه. قوله: (بالذهاب والمجيء) تصوير للاختلاف. قوله: (والزيادة والنقصان) اي فكل واحد يزيد بقدر ما نقص من الآخر. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ﴾ أي لا يخافونه ولا يؤمنون به. قوله: ﴿ وَٱطْمَأَنُّواْ بِهَا ﴾ أي فعلوا فعل المخلدين فيها. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ، و ﴿ مَأْوَاهُمُ ﴾ مبتدأ ثان، و ﴿ ٱلنَّارُ ﴾ خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، والجملة خبر ﴿ إِنَّ ﴾.
قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ أي بسبب كسبهم. قوله: (من الشرك والمعاصي) بيان لقوله: ﴿ يَكْسِبُونَ ﴾.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ هذا مقابل قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ﴾ إلخ. و ﴿ إِنَّ ﴾ حرف توكيد ونصب، و ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ اسمها، و ﴿ آمَنُواْ ﴾ صلته، وجملة ﴿ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ ﴾ خبر ﴿ إِنَّ ﴾ قوله: ﴿ آمَنُواْ ﴾ أي صدقوا بالله ورسوله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، حلوه ومره. قوله: ﴿ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ أي الأعمال المرضية لله ورسوله. قوله: ﴿ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ ﴾ أي يوصلهم لدار السعادة وحذف المعمول للعلم به. قوله: ﴿ بِإِيمَانِهِمْ ﴾ أي بسبب تصديقهم بالله ورسله، أي وبسبب أعمالهم الصالحة أيضاً، فالإيمان والأعمال الصالحة، سببان موصلان لدار السعادة، أو المراد بالإيمان الكامل، ليشمل الأعمال. قوله: (بأن يجعل لهم نوراً يهتدون) أي وتصور لهم الأعمال الصالحة بصورة حسنة، عند خروجهم من القبور، وتقول لصاحبها: كنت أسهرك في الدنيا، وأتعبك فيها، فاركب على ظهري، وذلك قوله تعالى: و﴿ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً ﴾[مريم: ٨٥] بخلاف الكافر، فيحشر يوم القيامة أعمى، لا يهتدي إلى مقصوده، ويأتيه عمله السيىء فيقول له: كنت متلذذاً بي في الدنيا، فأنا أركبك اليوم، وذلك قوله تعالى:﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ﴾[الأنعام: ٣١].
قوله: ﴿ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ ﴾ أي بساتين التنعيم، وهذا الاسم يطلق على جميع الجنات، والمعنى أن المؤمنين العاملين للصالحات يوصلهم ربهم لدار كرامته ومحل سعادته، تجري الأنهار بجانب قصورهم، ينظرون إليها من أعلى أماكنهم. قوله: (طلبهم لما يشتهونه في الجنة أن يقولوا) إلخ، أي فهذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في جميع ما يطلبونه، فإذا أرادوا الأكل مثلاً قالوا سبحانك اللهم، فيأتونهم بالطعام على الموائد، كل مائدة ميل في ميل، في كل مائدة سبعون ألف صحفة، في كل صحفة لون من الطعام، لا يشبه بعضها بعضاً، فإذا فرغوا من الطعام، وحمدوا الله على ما أعطاهم، وذلك قوله: ﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ والمراد بما يشتهونه في الجنة، ما كان محموداً في الدنيا، فلا يقال: إن نفوس الفساق قد تشتهي اللواط مثلاً فيفيد أنه يحصل في الجنة، لأنه يقال: المراد بما يشتهونه، ما ليس بشهوات شيطانية لأنهم عصموا منا بالموت، فلا تخطر ببالهم في الجنة، ولا يميل إليهم طبعهم، وكذلك يقال في شهوة المحارم، كالأم والبنت، وأيضاً أهل الجنة، لا أدبار لهم، ولا يتغوطون فيها، لما في الحديث:" أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتمخطون، قالوا فما بال الطعام؟ قال: جشاء، ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس ". قوله: ﴿ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾ التحية ما يحيا به الإنسان من الكلام الطيب. قوله: (فيما بينهم) أي أو تحية الملائكة لهم. قال تعالى:﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾[الرعد: ٢٣-٢٤] أو تحية الله لهم. قال تعالى:﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾[يس: ٥٨].
قوله: ﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ ﴾ أي خاتمة تسبيحهم في كل مجلس أن يقولوا: ﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ وليس معناه انقطاع الحمد، فإن أقوال أهل الجنة وأحوالها لا آخر لها. قوله: (مفسرة) اعترض بأن ضابط المفسرة مفقودة هنا، إذ ضابطها أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه، وهنا تقدمها مفرد، فكان المناسب أن يقول مخففة من الثقيلة، ويكون اسمها ضمير الشأن، وجملة ﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ خبرها. قوله: ﴿ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ أي فأهل الجنة يبتدئون مطالبهم بالتسبيح، ويختمونها بالتحميد. فتلذذهم بالأكل والشرب وسائر النعيم لا يشغلهم عن ذكر الله وشكره. قوله: (ونزل لما استعجل المشركون العذاب) أي لما بين الله سبحانه وتعالى، أن يجيب الداعي بالخير. أدب عباده بأنهم لا يطلبون الشر، بل يطلبون الخير فيعطون، وقوله: (لما استعجل المشركون) قيل: النضر بن الحرث وغيره حيث قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء.
قوله: ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ﴾ أي الذي طلبوه لأنفسهم. قوله: (أي كاستعجالهم) أشار بذلك إلى أن استعجالهم مصدر، والأصل استعجالاً مثل استعجالهم، حذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. قوله: ﴿ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ أي لهلكوا جميعاً، والمعنى أن الناس عند الغضب والضجر، قد يدعون على أنفسهم وأهليهم وأولادهم بالموت، وتعجيل البلاء كما يدعونه بالرزق والرحمة، فلو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلونه به مثل ما يجيبهم إذا دعوه بالخير، لأهلكهم، ولكنه من فضله وكرمة يستجيب للداعي بالخير، ولا يستجيب له بالشر، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، قوله: (بالبناء للمفعول وللفاعل) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (بالرفع والنصب) لف ونشر مرتب، فالرفع نائب فاعل، والنصب مفعول به. قوله: (بأن يهلكهم) أي قبل قوتهم. قوله: (ولكن يمهلهم) أي فضلاً منه وكرماً إلى أن يأتي أجلهم، فإذا جاء لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، فالمؤمن يلقى النعيم الدائم، والكافر يلقى العذاب الدائم. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ﴾ أي الذين لا يخافون عقابنا، ولا يؤمنون بالبعث بعد الموت. قوله: ﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾ أي الذي هو انكار البعث والمقالات الشنيعة. قوله: ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ حال على فاعل ﴿ يَرْجُونَ ﴾.
قوله: (يترددون متحيرين) أي في الفرار من العذاب، فلا يجدون لهم مفراً. قوله: ﴿ وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ ﴾ وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه لما وبخهم على الدعاء بالشر لأنفسهم، بين هنا غاية عجزهم وضعفهم، وأنهم لا يقدرون على إيجاد شيء ولا إعدامه. قوله: (الكافر) مثله ناقص الإيمان، المنهمك في المعاصي. قوله: ﴿ لِجَنبِهِ ﴾ حال من فاعل ﴿ دَعَانَا ﴾، واللام بمعنى على. قوله: ﴿ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً ﴾ يحتمل أن أو على بابها، لأن المضار، إما ثقيلة تمنعه القيام والقعود، أو خفيفة لا تمنع ذلك، أو متوسطة تمنعه القيام دون القعود. ويتحمل أن أو بمعنى الواو، فهو إشارة لتوزيع الأحوال، وإلى هذا أشار المفسر بقوله: أي في جميع الأحوال. قوله: ﴿ مَرَّ ﴾ (على كفره) أي استمر عليه. قوله: ﴿ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ ﴾ الجملة في محل نصب حال من فاعل ﴿ مَرَّ ﴾ والمعنى استمر هو على كفره، مشبهاً بمن لم يدعنا أصلاً أي رجع إلى حالته الأولى، وترك الالتجاء إلى ربه. قوله: ﴿ لِلْمُسْرِفِينَ ﴾ أي المتجاوزين الحد. قوله: ﴿ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي عملهم فالواجب على الإنسان، دوام الدعاء والتضرع والالتجاء لجانب الله في كل حال، سيما في حال الصحة والغنى، لأنه يشدد عليه فيهما، ما لا يشدد عليه في غيرهما.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ أي كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. قوله: ﴿ لَمَّا ظَلَمُوا ﴾ أي حين ظلمهم. قوله: ﴿ وَجَآءَتْهُمْ ﴾ قدره المفسر إشارة إلى أن الجملة حالية من فاعل ﴿ ظَلَمُوا ﴾.
قوله: (عطف على ظلموا) أي كأنه قيل: حين ظلموا، وحين لم يكونوا مؤمنين. والمعنى أن سبب إهلاكهم شيئان: ظلمهم وعدم إيمانهم. قوله: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ ﴾ عطف على ﴿ أَهْلَكْنَا ﴾.
قوله: أي متخلفين من بعد القرون، بسبب أن الله أورثكم أرضهم وديارهم، فمن يوم بعث الله محمداً فجميع الخلق الموجودون من يؤمئذ إلى يوم القيامة من أمته مسلمهم وكافرهم، وهم خلفاء الأرض. قوله: ﴿ لِنَنظُرَ ﴾ أي ليظهر متعلق علمنا، ونعاملهم معاملة من ينظر، وفي الكلام استعارة تمثيلية، حيث شبه حال العباد مع ربهم، بحال رعية مع سلطانها في إمهالهم لنظر ماذا تفعل، واستعير الاسم الدال على المشبه به للمشبه، على سبيل التمثيل والتقريب، ولله المثل الأعلى. قوله: ﴿ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ أي فهل تصدقون رسلنا أو تكذبونهم. قوله: ﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ﴾ فيه التفات من الخطاب للغيبة. قوله: ﴿ ٱئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَآ ﴾ أي من عند ربك، إن كنت صادقاً في أنه من عند الله. قوله: ﴿ أَوْ بَدِّلْهُ ﴾ أي بأن تجعل مكان سب آلهتنا مدحهم، ومكان الحرام حلالاً، وهذا الكلام من الكفار، يحتمل أن يكون على سبيل الاستهزاء والسخرية، ويحتمل أنه على سبيل الامتحان، ليعلموا كونه من عند الله فلا يقدر على تغييره ولا تبديله أو من تلقاء نفسه فيقدر على ذلك، والأول هو المتبادر من حالهم. قوله: ﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ ﴾ إلخ. أي لا يليق مني ولا يصح. قوله: ﴿ إِنِّيۤ أَخَافُ ﴾ تعليل لما قبله.
قوله: ﴿ قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ مفعول شاء محذوف، أي عدم إنزاله. قوله: ﴿ وَلاَ أَدْرَاكُمْ ﴾ أدرى فعل ماض، وفاعله مستتر يعود على الله، والكاف مفعول به. قوله: (ولا نافية) أي وجملة ﴿ أَدْرَاكُمْ ﴾ مؤكدة لما قبلها، عطف عام على خاص، والمعنى لو شاء الله عدم إنزاله ما تلوته عليكم ولا أعلمكم به مني ولا من غيري. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (بلام) أي وهي للتأكيد، والمعنى لو شاء الله عدم تلاوتي ما تلوته عليكم ولا أعلمكم به غيري، بأن ينزله على لسان نبي غيري، ونتيجة هذا القياس محذوفة، تقديره لكن شاء الله إنزاله علي، فأنا أتلوه عليكم، وأنا أعلمكم به. قوله: ﴿ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً ﴾ هذا وهو وجه الاحتجاج عليهم، والمعنى أن كفار مكة شاهدوا رسول الله قبل مبعثه، وعلموا أحواله، وأنه كان أمياً لم يقرأ كتابا ولا تعلم من أحد. وذلك مدة أربعين سنة، ثم بعدها جاءهم بكتاب عظيم الشأن، مشتمل على نفائس العلوم والأحكام والآداب ومكارم الأخلاق، فكل من له عقل سليم وفهم ثابت، يعلم أن هذا القرآن من عند الله. لا من نفسه. قوله: (سنينا) منصوب بفتحة ظاهرة، وقد مر المفسر على طريقة من يجعله مثل حين. ومنه حديث:" اللهم اجعلنا عليهم سنيناً كسنين يوسف "في احدى الروايتين. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أي أعميتم عن الحق، فلا تعقلونه. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: (بنسبة الشريك إليه) أشار المفسر إلى أن الخطاب متوجه لهم. والمعنى على ذلك: أنكم افتريتم على الله الكذب، فزعمتم أن له شريكاً والله منزه عنه، وثبت عندكم صدقي بالقرآن، فكذبتم بآياته. قوله: ﴿ وَيَعْبُدُونَ ﴾ عطف على ما تقدم، عطف قصة على قصة، بيان لقبائحهم، وفي الحقيقة عبادتهم غير الله، تسبب عنه ما تقدم من افترائهم وتكذيبهم بالآيات. قوله: ﴿ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾ ما اسم موصول أو نكرة موصوفة، ونفي الضر والنفع هنا باعتبار ذواتهم وإثباتهما في قوله تعالى:﴿ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ﴾[الحج: ١٣] باعتبار السبب. قوله: (وهو الأصنام) بيان لما. قوله: ﴿ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ ﴾ قال أهل المعاني: توهموا أن عبادتها أشد في تعظيم الله من عبادتهم إياه. وقالوا: لسنا بأهل أن نعبد الله ولكن نشتغل بعبادة هذه الأصنام، فإنها تكون شافعة لنا عند الله، قال تعالى إخباراً عنهم﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ ﴾[الزمر: ٣].
إن قلت إنهم ينكرون البعث ففي أي وقت يشفعون لهم على زعمهم؟ أجيب: بأنهم يرجون شفاعتهم في الدنيا في إصلاح معايشهم. قوله: ﴿ بِمَا لاَ يَعْلَمُ ﴾ المقصود نفي وجود الشريك بنفي لازمه، لأن علمه تعالى محيط بكل شيء، فلو كان موجوداً لعلمه الله، وحيث كان غير معلوم لله وجب أن لا يكون موجوداً، وهذا مثل مشهور، فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء وقع منه، يقول ما علم الله ذلك مني، أي لم يحصل ذلك مني قط. قوله: ﴿ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ حال من العائد المحذوف في يعلم. قوله: (استفهام انكار) أي بمعنى النفي.
قوله: ﴿ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف. قوله: (من لدن آدم إلى نوح) إلخ. ويجمع بينهما بأن عبادة الله وحده، استمرت من آدم إلى نوح، فظهر في أمة نوح من يعبد غير الله، قال تعالى في شأنهم﴿ وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً ﴾[نوح: ٢٣] الآية، فأخذوا بالطوفان، واستمر من يعبد الله وحده إلى زمن إبراهيم، فظهر في أمته من يعبد غير الله، فأهلكوا بالبعوض، واستمر من يعبد الله وحده، إلى أن ظهر عمرو بن لخي، وهو أول من بحر البحائر، وسيب السوائب في الجاهلية، إلى أن ظهر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ ﴾ المراد بها حكمه الأزلي، بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة. قوله: ﴿ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ أي في الدين الذي يختلفون بسببه. قوله: (بتعذب الكافرين) متعلق بقضى. قوله: (هلا) أشار بذلك إلى أن ﴿ لَوْلاَ ﴾ تحضيضية. قوله: ﴿ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ أي معجزة كما كان للأنبياء، قال تعالى حكاية عنهم﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾[الإسراء: ٩٠] الآية. قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ للَّهِ ﴾ أي مختص به لا يقدر على الإتيان بشيء منه إلا الله، وإنما لم يجابوا بعين مطلوبهم، لعلمه بقاء هذه الأمة وهذا الدين إلى يوم القيامة، وقد جرت عادته سبحانه وتعالى، أن القوم الذين يطلبون الآيات، إذا جاءت ولم يؤمنوا بها، يعجل لهم الهلاك، فعدم إجابتهم على طبق ما طلبوا رحمة بهم. قوله: ﴿ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ ﴾ أي لما يفعله بكم. قوله: ﴿ وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً ﴾ هذا جواب آخر عن قول أهل مكة ﴿ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾، ذلك أنه لما اشتد من أهل مكة العناد وعدم الإذعان، ابتلاهم الله بالقحط سبع سنين، ثم رحمهم بعد ذلك بإنزال المطر الخصب، فجعلوا ذلك هزواً وسخرية، واضافوا المنافع إلى الأصنام. قوله: لو كان القحط بسبب ذنوبنا كما يقول محمد، ما حصل لنا بعد ذلك الخصب لأنا لم نتب، فإذا كان كذلك فعلى تقدير أن يعطوا ما سألوا من إنزال ما طلبوه لا يؤمنون. قوله: (بالاستهزاء) إلخ تفسير للمكر. قوله: ﴿ أَسْرَعُ مَكْراً ﴾ أي أعجل عقوبة من سرعة مكرهم، وتسمية عقوبة الله مكراً مشاكلة. قوله: ﴿ إِنَّ رُسُلَنَا ﴾ تعليل لأسرعية مكره، وتنبيه على أن ما دبروه غير خاف على الحفظة، فضلاً عن العليم الخبير. قوله: (بالتاء والياء) أي لكن الأولى سبعية والثانية عشرية.
قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ ﴾ الجملة المعرفة الطرفين تفيد الحصر، أي لا مسير لكم في البر والبحر إلا هو، وهذا من جملة أدلة توحيده. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية ايضاً من النشر، وهو البث والتفريق، المعنى يفرقكم ويبثكم في البر والبحر. والرسم متقارب، لكن طولت السنة الثانية وهي النون في القراءة الثانية، وطولت السنة التي قبل الراء وهي الياء على القراءة الأول. قوله: ﴿ فِي ٱلْبَرِّ ﴾ أي مشاة وركباناً. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ﴾ غاية للسير في البحر، والفلك يستعمل مفرداً وجمعاً، فحركته في المفرد كحركة قفل، وحركته في الجمع كحركة بدن، وهنا مستعمل في الجمع بدليل وجرين، وفي آية في الفلك المشحون مستعمل مفرداً. قوله: (فيه التفات عن الخطاب) أي إلى الغيبة، وحكمته زيادة التقبيح على الكفار، لأن شأنهم عدم شكر النعمة، وأما الخطاب أولاً فهو لكل شخص مسلم أو كافر بتعداد النعم عليهم. قوله: ﴿ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ﴾ أي يحصل المقصود بلطف. قوله: ﴿ وَفَرِحُواْ بِهَا ﴾ الجملة حالية من ضمير ﴿ بِهِم ﴾ وقد مقدرة. قوله: ﴿ وَظَنُّوۤاْ ﴾ أي أيقنوا. قوله: (أي اهلكوا) أي ظنوا الهلاك، لقيام الأسباب بهم. قوله: ﴿ مُخْلِصِينَ ﴾ أي غير مشركين معه شيئاً من آلهتهم. قوله: ﴿ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا ﴾ هذا مقول لقول محذوف بيان لمحصل الدعاء والتقدير قائلين: وعزتك وجلالك لئن أنجيتنا. قوله: ﴿ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ ﴾ أي على نعمائك الموحدين لك. قوله: ﴿ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ ﴾ إذ للمفاجأة، والمعنى فحين انجاهم فاجؤوا الفساد وبادروا إليه. قوله: ﴿ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾ إما وصف كاشف، أو احترز به عن البغي بحق، كاستيلاء المسلمين على الكفار، وتخريب دورهم، وإتلاف أموالهم، كما فعل رسول الله بقريظة. قوله: ﴿ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ ﴾ الكلام على حذف مضاف، أي إثم بغيكم كما يشير له المفسر بقوله: (لأن إثمه عليها) والمعنى أن وبال بغيكم راجع لأنفسكم، لا يضر الله منه شيء، كما لا تنفعه طاعة المطيع، قال تعالى:﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾[الإسراء: ٧] وقال العارف: ماذا يضرك وهو عاص، أو يفيدك وهو طائع، فإشراك المشرك لا يثبت لله شريكاً، بل هو محض افتراء وكذب، ووباله على صاحبه، وتوحيد الموحد لا يثبت لله وحدة، بل هي ثابتة أزلاً وأبداً، بل معنى وحدت ربي، قامت وحدته بقلبي وامتزجت بلبي، وليس المعنى أنه أثبت له وحدة لم تكن، فإن هذا هو الكفر بعينه، وفي ذلك قال العارف: ما وحد الواحد من واحد   إذ كل من وحده جاحد
قوله: ﴿ مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ قدر المفسر هو إشارة إلى أنه بالرفع خبر لمحذوف. قوله: (تمتعون فيها قليلاً) أي زمناً قليلاً. قوله:﴿ ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ ﴾[يونس: ٢٣] أي لا مفر لهم من ذلك، وإنما إمهالهم وتأخيرهم من حلمه سبحانه وتعالى. قوله: (فنجازيكم عليه) أي على ما عملتم من خير وشر. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (بنصب متاع) أي مفعول لفعل محذوف، قدره المفسر بقوله أي تمتعون. قوله: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ بيان لشأن الدنيا، وأن مدتها قصيرة، والمعنى صفتها في سرعة انقضائها، وكونكم متعززين بها كماء إلخ. قوله: ﴿ كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ حكمة تشبيهها بماء السماء دون ماء الأرض، إشارة إلى أن الدنيا تأتي بلا كسب من صاحبها، ولا تعان منه كماء السماء بخلاف ماء الأرض فينال بالآلات. قوله: (وغيرهما) أي كالذرة والحمص واللوبياء والفول ونحو ذلك. قوله: (من الكلأ) هو العشب رطباً أو يابساً. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا ﴾ غاية لمحذوف أي ما زال ينمو ويزهو حتى إلخ. والمعنى استوفت واستكملت الأرض زخرفها من النبات، وتم سرور أهلها بها أتاها أمرنا إلخ. قوله: (بالزهر) أي أنواعه من أحمر وأصفر وأبيض وأخضر وغير ذلك. قوله: (وأدغمت في الزاي) أي بعد تسكينها وأتى بهمزة الوصل لأجل النطق بالساكن، فلما دخلت الواو حذفت للاستغناء عنها. قوله: (متمكنون من تحصيل ثمارها) أي من أخذ ما أنبتته من ثمار وزروع وبقول. قوله: ﴿ أَتَاهَآ أَمْرُنَا ﴾ جواب إذا. قوله: (كالمحصود) أي المقطوع. قوله: ﴿ كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ ﴾ أي كأن لم تكن تلك الأشجار والنباتات والزروع ثابتة قائمة على ظهر الأرض، وهذا مثل للراغب في زهرة الدنيا وبهجتها، الراكن لها، المعرض عن الآخرة، فكما أن النبات الذي عظم الرجاء فيه، والانتفاع به؛ أتته المتلفات بغتة ويئس منه، كذلك المتمسك بالدنيا، إذا افتخر بها وتعزز، يأتيه الموت بغتة فيسلب ما كان فيه من نعيم الدنيا ولذتها. قوله: ﴿ بِٱلأَمْسِ ﴾ المراد به الزمن الماضي، لا خصوص اليوم الذي قبل يومك. قوله: ﴿ كَذٰلِكَ ﴾ أي كما فصلنا في ضرب المثل. قوله: ﴿ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي فليس هذا المثل قاصراً على شخص دون شخص، بل هو عبرة لمن كان له بصيرة وتدبر، فينبغي للإنسان أن ينزل القرآن في خطاباته على نفسه، ويتأمل فيها ويتدبر، ليأتمر بأوامره، وينتهي بنواهيه. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ ﴾ لما ذكر سبحانه وتعالى صفة الدنيا، ورغب في الزهد فيها، والتجنب لزخارفها، رغب في الآخرة ونعيمها، حيث أخبر أنه بعظمته وجلاله وكبريائه، يدعو إلى دار السلام، والسلام اسم من اسمائه تعالى، ومعناه المنزه عن كل نقص، المتصف بكل كمال، وأضيفت الدار للسلام، لأنها سالمة من الآفات والكدرات، كما أن معنى السلام السالم من كل نقص، وقيل المراد بالسلام السلامة من الآفات والنقائص، وعليه درج المفسر. قوله: (وهي الجنة) أشار بذلك إلى أن المراد بهذا الاسم، ما يشمل جميع الجنات، لا خصوص المسماة بهذا الاسم، من باب تسمية الكل باسم البعض، وكذا يقال في باقي دورها، كدار الجلال، وجنة النعيم، وجنة الخلد، وجنة المأوى، والفردوس، وجنة عدن، فهذه الأسماء كما تطلق على مسمياتها، يطلق كل اسم منها على جميع دورها، لصدق الاسم على المسمى في كل. قوله: (بالدعاء والإيمان) أي فهو سبب لدخول الجنة، وإن كان صاحبه عاصياً، فالمدار في استحقاق الجنة على مجرد الإيمان. قوله: ﴿ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ أي يوصله إلى السعادة الكاملة. قوله: (هدايته) هذا هو مفعول يشاء. قوله: ﴿ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي طريق قويم لا اعوجاج فيه، وحذف مقابل ﴿ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ إلخ. تقديره ويضل من يشاء عنه، فالضلال والهدى بيد الله، يعطي أيهما شاء لمن شاء.
قوله: ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ مبتدأ مؤخر. قوله: (بالإيمان) أي ولو صحبه ذنوب، فعصاة المؤمنين لهم الحسنى وزيادة، وإن كانت مراتب أهل الجنة متفاوتة، فليس المنهمكون في طاعة الله كغيرهم. قوله: (هي النظر إليه تعالى) هذا قول جمهور الصحابة والتابعين، وقيل المراد بالزيادة رضوان الله الأكبر، وقيل مضاعفة الحسنات، وقيل الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب، ولكن القول الأول هو الذي عليه المعول، لأن النظر إليه تعالى يستلزم جميع ذلك، ويدل له على ما ورد" إذ دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تعالى: تريدون شيئاً أزيدكم، فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما يعطون شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى "زاد في رواية: ثم تلا ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ﴾.
واعلم أن الناس جميعاً في الجنة، ينظرون إليه سبحانه وتعالى، في مثل يوم الجمعة من الإسبوع، وفي مثل يوم العيد من السنة، وهذه هي الرؤية العامة لجميع أهل الجنة، وللخواص مراتب متفاوتة، فمنهم من يراه في كل صباح ومساء، ومنهم من يراه في مثل أوقات الصلوات الخمسة، ومنهم من لا يحجب عن الرؤية أبداً لما قيل: إن لله رجالاً لو حجبوا عن الرؤية طرفة عين، لتمنوا الخروج من الجنة. قوله: ﴿ وَلاَ يَرْهَقُ ﴾ الجملة مستأنفة. قوله: (سواد) أي وغبار، فأهل الجنة بيض الوجوه في غاية من البسط والجمال، فلا يعتريهم نكد ولا كدر، قال تعالى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾.
قوله:﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ﴾[عبس: ٣٨-٣٩] أي المحدث عنهم أن لهم الحسنى وزيادة. قوله: ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ أي لا يخرجون منها أبداً.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ شروع في ذكر صفات أهل النار، إثر ذكر صفات أهل الجنة، قوله: (عطف على الذين أحسنوا) أي ويكون فيه العطف على معمولي عاملين مختلفين، لأن ﴿ وَٱلَّذِينَ ﴾ معطوف على ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ الأول، والعامل فيه الابتداء الذي هو الحسنى، وقوله: ﴿ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ ﴾ معطوف على﴿ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾[يونس: ٢٦] والعامل فيه الابتداء، وهذا الوجه فيه خلاف بين النحويين، ولذا حاول بعضهم إعراب الآية، حتى ذكر فيه سبعة أوجه، أحسنها إن قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ مبتدأ أول، و ﴿ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ ﴾ مبتدأ ثان، و ﴿ بِمِثْلِهَا ﴾ خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، والباء زائدة، ويدل لزيادتها قوله تعالى:﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ ﴾[الشورى: ٤٠].
قوله: ﴿ بِمِثْلِهَا ﴾ أشار بذلك إلى الفرق بين الحسنات والسيئات فالحسنات مضاعفة بفضل الله والسيئات جزاؤها مثلها، عدلاً منه سبحانه وتعالى، قال صاحب الجوهرة: فالسيئات عنده بالمثل، والحسنات ضوعفت بالفضل. قوله: ﴿ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ أي يغشاهم الذل والكآبة. قوله: ﴿ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ أي من عذابه وسخطه. قوله: ﴿ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ ﴾ أي غطيت. قوله: (وإسكانها) أي فهما قراءتان سبعيتان، والمعنى على الأولى، كأن أجزاء الليل غطتهم ولبستهم، وعلى الثانية: كأن جزءاً من الليل غشيتهم وغطى وجوههم، وهذه الآية الأخرى، وهي قوله تعالى:﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ ﴾[عبس: ٤٠-٤٢] وما مشى عليه المفسر من أن القطع بالسكون الجزء هو أحد أقوال في تفسيره، وقيل هو سواد الليل، وقيل هو ظلمة آخر الليل. قوله: ﴿ مُظْلِماً ﴾ حال من الليل. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ أي الموصوفون بما ذكر. قوله: ﴿ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ ﴾ أي المستحقون لها. قوله: ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ أي ماكثون على سبيل الخلود والتأبيد. قوله: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ﴾ شروع في ذكر محاجة أهل الشرك مع معبوداتهم، إثر بيان أصحاب النار.
﴿ وَيَوْمَ ﴾ ظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله: (اذكر). قوله: (نصب بالزموا) أي على أنه مفعول به، والمعنى الزموا هذا المكان ولا تبرحوا عنه، أو ظرف يجعل الزموا بعنى قفوا. قوله: (تأكيد للضمير المستتر) أي الذي هو الواو، وتسميته مستتراً فيه مسامحة، إذا الواو من الضمائر البارزة، وقد يجاب بأن المراد بالاستتار عدم الذكر بالفعل. قوله: (المقدر) أي الذي هو الزموا، والإخبار بهذا الأمر للتهديد يصدر من الله على لسان ملك لا مباشرة. لقوله تعالى:﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾[البقرة: ١٧٤].
قوله: ﴿ فَزَيَّلْنَا ﴾ من التزييل وهو التفريق والتمييز، يقال زيَّل ضأنك من معزك أي فرق بينها وميز هذا من هذا، ووزنه فعل بالتضعيف، فهو من باب ذوات الياء، أو فعيل وأصله زيول، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، قلبت الواو ياء، وادغمت في الياء فهو من باب ذوات الواو. قوله: ﴿ بَيْنَهُمْ ﴾ (وبين المؤمنين) هكذا فهم المفسر، وهو بعيد من سابق الكلام ولاحقه، وقيل ميزنا بينهم وبين معبوداتهم وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا وهو الأقرب، لأن الكلام فيه. قوله: ﴿ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ ﴾ إنما أضيفت الشركاء لهم، لأنهم اتخذوها شركاء لله في العبادة. قوله: ﴿ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴾ قال مجاهد: تكون في القيامة ساعة فيها شدة، تنصب لهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله، فتقول الآلهة: والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا، فيقولون: والله إياكم كنا نعبد، فتقول الآلهة لهم: ﴿ فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴾.
قوله: (للفاصلة) أي تناسب رؤوس الآي. قوله: ﴿ لَغَافِلِينَ ﴾ أي لا علم لنا بذلك.
قوله: ﴿ هُنَالِكَ ﴾ إشارة للمكان البعيد، وهو الموقف الذي يدهش العقول. قوله: ﴿ تَبْلُواْ ﴾ أي تختبر وتعلم. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً من التلاوة، أي تقرأ ما أسلفته وقدمته، فتجده مسطراً في صحف الملائكة. قال تعالى:﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ﴾[الإسراء: ١٣]، أو من التلو، أي تتبع وتطلب ما أسلفته من أعمالها، وفي قراءة أيضاً: نبلو بالنون بعدها باء موحدة، أم نختبر نحن، وكل بالنصب مفعول به عليها وهي شاذة. قوله: ﴿ وَرُدُّوۤاْ ﴾ أي المشركون. قوله: (الثابت الدائم) أي الذي لا يقبل الزوال أزلاً ولا أبداً. قوله: ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي غاب عنهم افتراؤهم بظهور الحق، فلا ينافي أنهم معهم في النار، وهكذا كل من اعتمد على غير الله يقال له: ﴿ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ ﴾ الآية، فينبغي للإنسان أن يسعى في خلاص قلبه من الوهم الذي يلجئه إلى الاعتماد على غير الله، من جاه أو مال أو علم أو عمل أو غير ذلك، ليرى الحق حقاً، والباطل باطلاً، فيتبع الحق، ويجتنب الباطل. وبهذا الأمر يتبين الولي من العامي. فالولي يرى الأشياء كلها ظاهراً وباطناً من الله، فهو دائماً مطمئن ساكن مسلم لله في كل ما يفعله، والعامي يعتقد ذلك بقلبه، غير أن الوهم يخيل له أن لغير الله ضراً أو نفعاً، فيكون دائماً في تعب ونصب، وقد أشار العارف لذلك بقوله: وما الخلق في التمثال إلا كثلجة   لها صورة لكن تبدت عن الماءفذو الكشف لم يشهد سوى الماء وحده   تبدى بوصف الثلج من غير إخفاءومن حجبته صورة الثلج جاهل   تغطى عليه الأمر من لمع أضواءقوله: ﴿ قُلْ ﴾ (لهم) ﴿ مَن يَرْزُقُكُم ﴾ إلخ، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقيم الحجة على المشركين، ويبطل ما هم عليه من الإشراك، بأسئلة ثمانية، أجاب المشركون عن الخمسة الأولى، وأجاب رسول الله عن الاثنين بعدها بتعليم الله له، وجواب الأخير لم يذكر للعلم به، وقد صرح به المفسر. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي رزقاً مبتدأ من السماء والأرض. قوله: (بالمطر) أي فهو سبب لإخراج نبات الأرض، فصح كون الرزق من السماء. قوله: ﴿ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ ﴾ أي يخلقه ويحفظه من الآفات في كل لحظة، إذ هو معرض للزوال، لولا حفظ الله ما ثبت. قوله: (بمعنى الإسماع) إنما قال ذلك ليوافق الأبصار. قوله: ﴿ وٱلأَبْصَارَ ﴾ جمع بصر، والمعنى أن الله تعالى هو الخالق للأبصار، الواضع للنور فيها، الذي به الأبصار، وهو الحافظ له. قوله: ﴿ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ ﴾ إلخ. تقدم أن المراد بالحي الإنسان والطير، وبالميت النطفة والبيضة. قوله: ﴿ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ ﴾ عطف عام على خاص، لأن تدبير الأمر عام في كل شيء. قوله: ﴿ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ ﴾ أي جواباً لمن تقدم. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ أي أدمتم على الشرك فلا تتقونه، ويؤخذ من هذا، أن المعرفة ليست هي الإيمان، إذ لو كانت هي الإيمان، لكان إقرارهم بأن الله هو الفعال لهذه الأشياء، توحيداً وإيماناً، بل الإيمان هو حديث للنفس التابع للمعرفة، أي قول النفس: آمنت وصدقت على التحقيق. قوله: (الثابت) أي الذي لا يقبل الزوال أزلاً ولا أبداً. قوله: (استفهام تقرير) المناسب إنكار بدليل قوله: (أي ليس بعده غيره). قوله: (وقع في الضلال) أي الباطل وهو الشرك، لأنه لا واسطة بين الحق والباطل.
قوله: ﴿ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ﴾ أي تمنعون، وهو استفهام تعجبي. قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ الكاف في محل نصب نعت لمصدر محذوف، والتقدير مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به ﴿ حَقَّتْ ﴾ إلخ. قوله: (وهي)﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾[هود: ١١٩] أي فالمراد نفذ القضاء والقدر، بأن جهنم تمتلىء من الجن والإنس، حتى تقول قط قط. قوله: (وهي) ﴿ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أو لتنويع الخلاف، أي فالمراد بكلمة الله على هذا القول، نفوذ قضاء الله وقدره بعدم إيمانهم. قوله: ﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ ﴾ إلخ. هذا هو السؤال السادس. قوله: ﴿ مَّن يَبْدَؤُاْ ﴾ أي ينشىء الخلق من العدم. قوله: ﴿ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ أي الخلق في القيامة للحساب والجزاء، وإنما لم يجيبوا عن هذا السؤال، وتولى الله الجواب عنه، لأنهم منكرون للبعض، فلو أجابوا لكان ذلك إقراراً منهم بالبعث، وصح أن يكون حجة عليهم، لقيام الأدلة والبراهين عليه، فلا يستطيعون أن ينازعوا في ذلك.
قوله: ﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ ﴾ هذا هو السؤال السابع. والمعنى: هل من شركائكم من يقيم الحجج، ويرسل الرسل، ويوفق العبيد لرشادهم؟ ولما لم يكونوا مسلمين ذلك تولى الله جوابه أيضاً. قوله: ﴿ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ﴾ أي فهو أحق بالإتباع، لا هذه الأصنام التي لا تهتدي بنفسها. قوله: ﴿ أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ ﴾ هذه هو السؤال الثامن، وقد ذكر المفسر جوابه بقوله الأول (أحق). قوله: ﴿ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ ﴾ خبر قوله: ﴿ أَفَمَن يَهْدِيۤ ﴾ والمعنى: أفمن يهدي إلى الحق حقيق بالإتباع، أم من لا يهدي إليه. قوله: ﴿ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ ﴾ أصله يهتدي، نقلت فتحة التاء إلى الهاء، وأبدلت التاء دالاً، وادغمت في الدال، ويهدي بفتح الهاء وكسرها، وبكسر الياء والهاء معاً، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية، فكسر الهاء للتخلص من التقاء الساكنين، وكسر الياء اتباعاً لكسر الهاء. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ ﴾ استثناء من أعم الأحوال. والمعنى لا يهتدي في حال من الأحوال، إلا في حال إهداء الغير إياه. ومعنى الأصنام، كونها تنقل من مكان لآخر، فالمعنى لا تنتقل من مكان لآخر، إلا أن تحمل وتنقل، وهذا ظاهر في الأصنام، وأما مثل عيسى والعزيز، فمن لا يهدي لا يخلق الهدى، لا في نفسه ولا في غيره، فالخلق كلهم عاجزون، إذ لا يملكون لأنفسهم شيئاً فضلاً عن غيرهم. قوله: ﴿ فَمَا لَكُمْ ﴾ أي أي شيء ثبت لكم في هذه الحالة؟ قوله: ﴿ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ أي بالباطل، وتجعلون لله شركاء. قوله: ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ ﴾ يفيد أن الأقل يعرفون أن الله منزه عن كل نقص متصف بكل كمال، غير أنهم يكفرون عناداً. قوله: (حيث قلدوا فيه آباءهم) أي فقالوا﴿ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾[الزخرف: ٢٣].
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً ﴾ المراد بالظن خلاف التحقيق، فيشمل الشك والوهم، وهذا الكلام في حق الكفار، الذين اتبعوا غيرهم في الكفر وقلدوهم فيه، فلا عذر لهم في التقليد دنيا ولا أخرى، وأما المؤمن الخالص، الذي امتلأ قلبه بالإيمان حيث عجز عن قيام الأدلة على التوحيد، وقلد العارف فيه، فليس من هذا القبيل، بل هو مؤمن جزماً لأنه ليس عنده ظن، بل جزم مطابق للواقع، وربما إن دام على الصدق، ومتابعة من يقلده، يرتقي في التوحيد إلى مقام أعلى وأجل من مقام من قلده، وأما القول بأنه كافر، فإنما يعرف لأبي هاشم الجبائي من المعتزلة، فلا يعول عليه. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ هذا تهديد لهم، على ما وقع منهم من الأفعال الشنيعة والأحوال القبيحة.
قوله: ﴿ وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ ﴾ المقصود من هذا الكلام، الرد على من كذب القرآن، وزعم أن ليس من عند الله، والمعنى: لا ينبغي لهذا القرآن أن يختلق ويفتعل، لأن تراكيبه الحسنة أعجزت العالمين، وذلك لأن حسن الكلام على حسب سعة علم المتكلم واطلاعه، ولا أحد أعلم من رب العالمين فلذلك أعجز الخلائق جميعاً لكونه في أعلى طبقات البلاغة، ولذلك قال صاحب الهمزية: أعجز الإنس آية منه   والجن فهلا أتى به البلغاءإلى أن قال: سور منه أشبهت صوراً   منا ومثل النظائر النظراءقوله: (أي افتراء) أشار بذلك إلى أن خبر كان ﴿ أَن ﴾ وما دخلت عليه في تأويل مصدر. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ هذا الاستدراك وقع أحسن موقع، لأنه وقع بين نقيضين: الكذب والصدق، وتصديق بالنصب خبر لكان مقدره، والتقدير ولكن مكان تصديق إلخ، أو مفعول لأجله بفعل محذوف، قدره المفسر بقوله: (أنزل)، و ﴿ تَصْدِيقَ ﴾ بمعنى مصدق، أو بولغ فيه، حتى جعل نفس التصديق على حد زيد عدل، وكذا يقال في قوله: ﴿ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ ﴾.
قوله: (من الكتب) أي السماوية المنزلة على الأنبياء. قوله: ﴿ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي مفصل لما في الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، فالقرآن مفصل لما كتب في اللوح المحفوظ، من علم ما كان وما يكون، وما هو كائن في الدنيا والآخرة، فمن أعطي شيئاً من أسرار القرآن، فلا يحتاج للإطلاع على اللوح المحفوظ، بل يأخذ منه ما أراده. قوله: (وغيرها) أي المغيبات. قوله: ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ حال من التصديق والتفصيل، وهذا هو الأظهر. قوله: (متعلق بتصديق أو بإنزال) أي يكون قوله: ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ معترضاً بين المتعلق والمتعلق. قوله: (وقرىء) أي شاذاً. قوله: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ ﴾ أم منقطعة وتفسر ببل والهمزة، والمعنى أنهم أصروا على تلك المقالة، ولم يذعنوا للحق. قوله: (اختلقه محمد) أي افتعله وليس من عند الله. قوله: ﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ ﴾ هذا تبكيت لمقالتهم الفاسدة، وهي جواب الشرط مقدر، والتقدير إن كان الأمر كما تزعمون، فأتوا بسورة مثله. واعلم أن مراتب تحدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن أربعة. أولها: أنه تحداهم بجميع القرآن. قال تعالى: و﴿ لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ ﴾[الإسراء: ٨٨].
ثانيها: أنه تحداهم بعشر سور. قال تعالى:﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٍ ﴾[هود: ١٣] ثالثها: أنه تحداهم بسورة واحدة. قال تعالى: ﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ﴾ رابعها: أنه تحداهم بحديث مثله كما قال تعالى:﴿ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾[الطور: ٣٤].
قوله: ﴿ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ أي من آلهتكم وغيرها من جميع المخلوقات. قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، أي فأتوا بسورة وادعوا، إلخ. قوله: ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ ﴾ أي بفهم ألفاظه ومعانية العظيمة، فتكذيبهم لعدم فهمهم معناه، وجهلهم بفضله، ففي المثل: من جهل شيئاً عاداه، وقال البوصيري: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد   وينكر الفم طعم الماء من سقمقوله: ﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ أي لم ينزل بهم الوعيد، فيحملهم على التصديق قهراً، فتكذيبهم لأمرين جهلهم بفضله، وعدم إتيان الوعيد لهم. قوله: (من الوعيد) وهو العذاب الموعود به. قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ (لتكذيب) أشار بذلك إلى أن الكاف بمعنى مثل، نعت لمصدر محذوف، أي مثل ذلك التكذيب كذبوا رسلهم. قوله: (فكذلك نهلك هؤلاء) أي بأن نسلطكم عليهم لتقتلوهم وليس المراد الهلاك العام بالخسف والمسخ مثلاً، فإن ذلك مرفوع ببركته صلى الله عليه وسلم.
قوله: ﴿ وَمِنهُمْ ﴾ أي من أهل مكة المكذبين. قوله: ﴿ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ أي في المستقبل، والمعنى أن أهل مكة المكذبين للقرآن، اقتسموا قسمين: قسم آمن بعد، وقسم لم يؤمن. قوله: ﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل ﴾ أي داموا على تكذيبك. قوله: (أي لكل جزاء عمله) أي جزاء ما عمله من خير أو شر. قوله: (وهذا منسوخ بآية السيف) أي فبعد نزولها لم يقل ذلك، وفيه أن شرط الناسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخ، ومدلول الآية ثابت لم ترفعه آية السيف، إذ مدلول هذه الآية اختصاص كل بعمله وبراءة كل من عمل الآخر، وهذا حاصل مطلقاً، فالوجه أنه لا نسخ في هذه الآية. قوله: ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ أي من كفار مكة المكذبين للقرآن، فريق يصغون إلى قراءتك بآذانهم ولم بقلوبهم، فلا تطمع في إيمانهم، لوجود الختم على قلوبهم، فلا يفقهوا الحق ولا يتبعوه، وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم، كأن الله يقول له لا تحزن على عدم إيمانهم، فإنك لا تقدر أن تسمع الصم، ولو كانوا لا يعقلون. قوله: ﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ﴾ الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، المعنى أنت لا تقدر أن تسمع من سلبه الله السمع. قوله: (شبههم) أي الكفار، وقوله: (بهم) أي بالصم، وقوله: (في عدم الانتفاع) هذا هو وجه الشبه، أي فكما أن معدم السمع لا ينتفع بالأصوات، فكذلك الكفار لا ينتفعون بسماع القرآن، لوجود الحجاب على قلوبهم. قوله: ﴿ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ أي لو كان مع الصمم عدم العقل، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، وجملة الشرط معطوفة على محذوف تقديره أأنت تسمع الصم إن عقلوا، بل ولو كانوا لا يعقلون، فأنت لا تسمعهم، فيكون المعنى أنت لا تسمع الصم عقلوا أو لم يعقلوا، فهم مالأنعام بل هم أضل. قوله: ﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ﴾ أي يبصرك بعينه. قوله: ﴿ أَفَأَنْتَ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ ﴾ يقال فيه ما قيل فيما قبله. قوله: ﴿ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ أي لا يتأملون ولا يتفكرون بقلوبهم، فيما جئت به من الدلائل العظيمة والشمائل الفخيمة، والمعنى أنت لا تهدي عمي القلوب، أبصروا أو لم يبصروا. قوله: (بل أعظم) قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً ﴾ هذه الآية سيقت لدفع توهم أن الله حيث سلبهم العقل والسمع والبصر، فتعذيبهم على عدم الهدى ظلم، فدفع ذلك بأن الظلم هو التصرف في ملك الغير، ولا ملك لأحد معه سبحانه وتعالى، فتقديره الشقاوة على أهلها ليس بظلم منه، لأنه هو المالك الحقيقي، وهو يتصرف في ملكه كيف يشاء. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ إنما قال ذلك، لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب الاختياري، فالله سبحانه وتعالى يعذب الشقي على ما لقترفه بالنظر للكسب الاختياري. فإن قيل: هو الخالق لذلك الكسب، يقال: لا يسأل عما يفعل.
قوله: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ﴾ أي نجمعهم للحساب، والضمير عائد على المشركين المنكرين للبعث، والمعنى ويوم نجمع المشركين في القيامة، ويعرف بعضهم بعضاً، حال كونهم في وقت حشرهم، مشبهين بمن لم يلبثوا إلا زمناً قليلاً من النهار. قوله: (لهول ما رأوا) أي فسبب ذلك، يعد الزمن السابق عليه يسيراً، إن كان في نفسه طويلاً. قوله: (حال من الضمير) أي في ﴿ يَحْشُرُهُمْ ﴾.
قوله: (إذا بعثوا) دفع بذلك ما يقال: إن هذا معارض لقوله فلا أنساب بينهم. وحاصل الجواب: أنهم يتعارفون أولاً، فإذا اشتد الهول نسي بعضهم بعضاً. قوله: (والجملة حال) أي من الواو في ﴿ يَلْبَثُوۤاْ ﴾ أو من الضمير في ﴿ يَحْشُرُهُمْ ﴾ وعلى هذا فالظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر. قوله: (أو متعلق الظرف) أي فهو معمول له، والتقدير يتعارفون وقت حشرهم. قوله: ﴿ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ ﴾ هذا إخبار من الله بحالهم الشنيع. قوله: ﴿ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ معطوف على جملة ﴿ قَدْ خَسِرَ ﴾ المعنى وما كانوا واصلين للجنة أبداً. قوله: ﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ ﴾ هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم، كأن الله يقول له: لا تحزن، فإما نرينك عقوبتهم في حياتك، أو نؤخرهم إلى يوم القيامة، فهم لا يفلتون من عذابنا على كل حال، فاصبر ولا تضيق، فإن الأمر لنا فيهم. قوله: (فذاك) أي هو المراد، وقد حصل ذلك؛ بأن بلغ الله نبيه الآمال فيمن عاداه، بسبب تسليمه الأمر فيهم لمالكهم، وهكذا يفعل الله بالظالم، إذا سلم المظلوم أمره لسيده، ولم يعترض على افعاله، وصبر على أحكامه، فبهذا ينال رضا الله، ويظفر بمطلوبه ممن ظلمه. وفي هذا المعنى قلت: أرح قلبك العاني وسلم له القضا   تفز بالرضا فالأصل لا يتحولعلامة أهل الله فينا ثلاثة   إيمان وتسليم وصبر مجملقوله: ﴿ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾ هذا هو جواب الشرط. قوله: ﴿ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ ﴾ ثم لترتيب الأخبار، لا للترتيب الزماني. قوله: ﴿ رَّسُولٌ ﴾ أي أرسله الله لهم. قوله: (فكذبوه) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ ﴾ مرتب على محذوف لا على قوله: ﴿ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ ﴾.
قوله: ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ أي لأن تعذيبهم بسبب كسبهم، لما تقدم أن الرحمة تأتي من غير سابقة تقتضيها، وأما العذاب فلا بد وأن يكون بسبب فعل يقتضيه. قوله: ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ أي كفار مكة. قوله: ﴿ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ ﴾ أي الذي تعدنا به، وهذا القول منهم على سبيل الاستهزاء والسخرية، قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ خطاب للنبي والمؤمنين.
قوله: ﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ﴾ إلخ. أي لا استطيع أن أدفع الضر، إن أراد الله نزوله بي، ولا أستطيع جلب نفع أراد الله منعه عني. قوله: ﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ يحتمل أن يكون متصلاً، والتقدير إلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه، أو منقطعاً، والتقدير لكن ما شاء الله من ذلك، فإني أملك لكم الضر وأجلب العذاب. قوله: ﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ هذا من جملة ما أجابهم به، والمعنى حيث كان لكل أمة أجل محدود لا تتعداه، فلا معنى لاستعجالكم العذاب. قوله: (يتأخرون) إلخ. أشار بذلك إلى أن السين في ﴿ يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ و ﴿ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ زائدة، والمعنى ورد أن الصدقة تزيد في العمر، فالجواب: أن المراد بالزيادة البركة، لأن الأجل الذي سبق في علم الله لا يتغير. قوله: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ ﴾ أي قل للذين يستعجلون العذاب. قوله: (موضع المضمر) أي وهو الواو التي مع تاء المخاطب، والتقدير ماذا تستعجلون، وعدل عنه لأجل الوصف بالإجرام تبكيتاً عليهم. قوله: (وجملة الاستفهام جواب الشرط) أي تقدير الفاء، لأن الجملة اسمية. قوله: (والمراد به) أي الاستفهام. قوله: (لإنكار التأخير) أي المستفاد من ثم، والتقدير أأخرتم ثم آمنتم به إذا وقع. والمعنى لا ينبغي هذا التأخير، لأن الإيمان في هذه الحالة غير نافع.
قوله: ﴿ الآنَ ﴾ منصوب على الظرفية، والعامل فيه محذوف قدره المفسر بقوله: (تؤمنون) والفعل المقدر معمول على إضمار القول، وهو يقال لكم آلآن بهمزتين، الأولى همزة الاستفهام، والثانية همزة أل المعرفة، فإذا اجتمع هاتان الهمزتان وجيب في الثانية، إما تسهيلها أو مدها بقدر ثلاث ألفات، وهما قراءتان سبعيتان، وقد وقع ذلك في القرآن في ستة مواضع: اثنان في الانعام﴿ ءَآلذَّكَرَيْنِ ﴾[الأنعام: ١٤٣] مرتين، وثلاثة في هذه السورة ﴿ الآنَ ﴾ مرتين، و﴿ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾[يونس: ٥٩]، وواحد في النمل﴿ ءَآللَّهُ خَيْرٌ ﴾[النمل: ٥٩]، وأما تحقيق الهمزتين فلا يجوز. قوله: ﴿ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ آمَنْتُمْ ﴾.
قوله: (استهزاء) أي تستعجلون على سبيل الاستهزاء. قوله: ﴿ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ إخبار عما يقع لهم في القيامة. قوله: ﴿ هَلْ تُجْزَوْنَ ﴾ الواو نائب الفاعل مفعول أول، وقوله: ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ مفعول ثان، وقوله: ﴿ إِلاَّ ﴾ (جزاء) مفعول مطلق لتجزون. والمعنى لا تجزون إلا جزاء الذي كنتم تكسبونه من الكفر والتكفير. قوله: ﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ ﴾ السين والتاء للطلب، والمعنى يسألونك أن تخبرهم عما وعدتهم به من العذاب: أحق هو؟ الخ. ﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ ﴾ فعل مضارع، والواو فاعل، والكاف مفعول أول، وجملة ﴿ أَحَقٌّ هُوَ ﴾ في محل المفعول الثاني، وحق مبتدأ وهو خبر أو بالعكس، أو هو فاعل بحق أغنى عن الخبر، والشرط موجود، وهو اعتماد المبتدأ على الاستفهام. قوله: ﴿ إِي وَرَبِّيۤ ﴾ إلخ. هذا أمر من الله لرسوله بأن يجيبهم بثلاثة أشياء.
﴿ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾.
قوله: (نعم) أشار المفسر بذلك إلى أن ﴿ إِي ﴾ من أحرف الجواب، ولكنها مختصة بالقسم لا تستعمل في غيره، ومنه قول الناس إي والله، وقولهم إيوه، فالواو للقسم، والهاء مأخوذة من الله، ويحتمل أن الهاء للسكت، والمقسم به محذوف للعلم به، تقديره إي والله، وهذا هو الأقرب، لأن تقطيع اسم الجلالة غير لائق، قوله: ﴿ إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ جواب القسم. قوله: ﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾.
يصح أن يكون معطوفاً على إي، فيكون من جملة مقول القول، ويصح أن يكون جملة مستأنفة، خطاباً من الله لهم، وليس من جملة مقول القول، وما يحتمل أنه حجازية، فاسمها الضمير، وبمعجزين خبرها، أو تميمية وما بعدها مبتدأ وخبر. قوله: (بفائتين العذاب) أي فارين منه، بل هو مدرككم لا محالة.
قوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ﴾ إلخ. المعنى امتنع افتداء كل نفس من العذاب لامتناع ملكها لما تفتدى به، وهو جميع ما في الأرض. قوله: (كفرت) أي وماتت على كفرها. قوله: ﴿ لاَفْتَدَتْ بِهِ ﴾ أي لجعلته فداء لها من العذاب، لكنه لا يحصل ذلك. قوله: ﴿ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ ﴾ الضمير عائد على الرؤساء، والأسرار على حقيقته. والمعنى أن الرؤساء حين يرون العذاب يخفون الندامة خوف التعبير، وهذا ما مشى عليه المفسر، وقيل إن أسروا بمعنى أظهروا، من تسمية الأضداد، ولعل هذا هو الأقرب. قال تعالى:﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ ﴾[الزمر: ٥٦] الآية. قوله: ﴿ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ ﴾ ظرف لأسروا بمعنى حين، أو شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه. قوله: (مخافة التعبير) أي التوبيخ الواقع من الأتباع لهم. قوله: (بين الخلائق) أي فيقضى للمسلمين بالجنة، وللكفار بالنار، ويصح أن يكون المعنى بين الظالمين المظلومين. قوله: (العدل) أي وهو عدم الجوز والظلم. قوله: ﴿ أَلاۤ ﴾ أداة تنبيه، يؤتى بها للاعتناء بما بعدها، ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه لما ذكر أن كل نفس كافرة، تتمنى أنها لو تملك ما في الأرض لافتدت به، بين هنا أنه لا يملك ذلك لعدم ملكها، فإن لله ما في السموات والأرض. قوله: ﴿ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ﴾ أي لا محيص عنه، بل هو واقع ولا بد. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي لقصور عقولهم بسبب استيلاء الغفلة عليهم فينكرون ذلك، والتعبير بأكثر، إشارة إلى أن الأقل يعلم ذلك، وهو واحد من ألف، لما تقدم في الحديث:" يا آدم أخرج بعث النار من ذريتك، فيخرج من كل ألف واحداً للجنة والباقي للنار "قوله: (فيجازيكم بأعمالكم) أي خيرها وشرها. قوله: (أي أهل مكة) أشار بذلك إلى أن الخطاب لهم، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله: ﴿ مَّوْعِظَةٌ ﴾ مصدر وعظ بمعنى ذكر وأرشد لما ينفع من محاسن الأعمال، وزجر عما يضر من قبائحها. قوله: ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ صفة لموعظة، وفي هذا تنزل من الله لعباده، كأن الله يقول: الفداء في الآخرة لا ينفع، وأما في الدنيا فذلك نافع. قوله: ﴿ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ ﴾ المراد بها القلوب، من باب تسمية الحال باسم المحل، والمعنى أن القرآن مذكر وواعظ، وبه الشفاء لما في القلوب من الحقد والحسد والبغض والعقائد الفاسدة. قوله: ﴿ وَهُدًى ﴾ أي نور يقذف في قلوب الكاملين، يميزون به الحق والباطل، وفي هذه الآية إشارة إلى الشريعة والطريقة والحقيقة، فأشار للشريعة بقوله: ﴿ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ لأن الشريعة بها تطهير الظواهر، وأشار للطريقة بقوله: ﴿ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ ﴾ لأن الطريقة بها تطهير البواطن عن كل ما لا ينبغي، وأشار للحقيقة بقوله: ﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ لأن بالحقيقة التجلي بالأنوار الساطعة في القلوب التي يرى بها الأشياء على ما هي عليه فعند ذلك يرى الله في كل شيء، وأقرب إليه من كل شيء، علماً ذوقياً، لا علماً يقينياً، فالحقيقة ثمرة الطريقة ولا تحصل إلا بعد التخلق بالطريقة والشريعة، ولذا قيل: حقيقة بلا شريعة باطلة، وشريعة بلا حقيقة عاطلة.
قوله: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ ﴾ إلخ، متعلق بمحذوف دل عليه ما بعده، والأصل ليفرحوا.
﴿ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ﴾ ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة الحصر، ثم دخلت الفاء لإفادة السببية، والمعنى أن من اتصف بهذه الصفات المتقدمة، ينبغي له أن يفرح ويشكر ما أنعم الله به عليه، ويجود بروحه وجسمه في خدمة ربه ولا يتوانى، فمن قذف الله في قلبه نور محبته، فالواجب عليه إفناء جسمه في خدمته، كي يتم له ذلك النور ويزداد السرور، وهذه المحبة هي التي يعبر عنها العارفون بالخمرة والشراب والحميا، لأن بها السكر والفناء عما سوى الله تعالى، قال العارف رضي الله عنه: شربنا على ذكر الحبيب مدامة   سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرموقال العارف: ولا تنظر لجسمي يا عذولي   فإن الجسم مطلوبي سلاهولا تنكر شراب حمى قلبي   فإن القلب محبوبي سقاهوقال العارف موضحاً لهذه الخمرة: فتلك خمر الشهود تدعى   لا خمرة الكرم والدنانمن ذلك المعنى قوله تعالى:﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً * لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾[الجن: ١٦-١٧] فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل محبته، وأن يحشرنا في زمرة أهل قربه ومودته. قوله: ﴿ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ أي من الدنيا وزخارفها وأبهمها إشارة إلى أنه خسيسة لا تساوي جناح بعوضة. قوله: (بالياء والتاء) راجع لقوله: ﴿ يَجْمَعُونَ ﴾ وأما ﴿ فَلْيَفْرَحُواْ ﴾ فالتاء عشرية والياء سبعية. قوله: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ ﴾ أشار المفسر إلى أن ﴿ أَرَأَيْتُمْ ﴾ بمعنى (أخبروني) وحينئذ فتنصب مفعولين: الأول الموصول وصلته، والثاني جملة ﴿ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ﴾ و ﴿ قُلْ ﴾ تأكيد للأولى، وليست من جملة المفعول الثاني. قوله: (كالبحيرة والسائبة) مثالان للحرام، وتقدم أن البحائر والسوائب نعم يوقفونها على الأصنام، يحرمون ظهورها ونتاجها وألبانها ولحومها، وقوله: (والميتة) مثال للحلال. قوله: (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ أَمْ ﴾ (بل) أشار المفسر إلى أنها منقطعة بمعنى (بل) ويصح أن تكون متصلة معادلة للهمزة، والمعنى أخبروني أحصل إذن من الله لكم، أم ذلك افتراء منكم وكذب، فهو استفهام لطلب التعيين وهو الأولى.
قوله: ﴿ وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ ﴾ ﴿ وَمَا ﴾ اسم استفهام مبتدأ، و ﴿ ظَنُّ ﴾ خبره، و ﴿ يَوْمَ ﴾ ظرف متعلق بظن، والمعنى أي شيء ظنهم بالله يوم القيامة. قوله: (أيحسبون) إلخ. قدر المفسر هذه الجملة، إشارة إلى أن مفعولي الظن محذوفان فهذه الجملة سدت مسدّهما. قوله: (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري أي لا ينبغي هذا الظن، ولا يليق ولا ينفع، وأما قوله في الحديث:" أنا عند ظن عبدي بي "فذلك في حق المؤمن، فظن الخير بالله ينفع المؤمن، وأما الكافر فلا ينفعه ذلك ما دام على كفره. قوله: ﴿ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾ أي الطائع منهم والعاصي، وذلك في الدنيا، فنعم الدنيا ليست تابعة للتقوى، بل هي ثابتة بالقسمة الأزلية للمؤمن والكافر. قوله: (بإمهالهم) أي تأخير عذابهم. قوله: (والإنعام عليهم) أي بأنواع النعم، كالعقل والسمع والبصر وغير ذلك. قوله: ﴿ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ أي لا يصرفون النعم في مصارفها، وحينئذ فلا تنفعهم تلك النعم، إلاّ إذا صحبها الإيمان والشكر، فإن عدموا الإيمان صارت النعم نقماً، وقوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ ﴾ يفيد أن القليل هو الشاكر وهو كذلك. قال تعالى:﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ ﴾[سبأ: ١٣].
قوله: ﴿ وَمَا تَتْلُواْ ﴾ الضمير إما عائد على الشأن أو على الله، كما قال المفسر. فعلى الأول تكون من للتعليل، وعلى الثاني تكون ابتدائية، وقوله: ﴿ مِن قُرْآنٍ ﴾ من صلة، والمعنى وما تتلو من أجل هذا الشأن قرآناً، أو وما تتلوا قرآناً مبتدأ وصادر من الله. قوله: ﴿ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ﴾ استثناء من أعم الأحوال، والمعنى ما تتلبسون بشيء من هذه الثلاثة في حال من الأحوال، إلا في حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له. إذا علمت ذلك، فكان المناسب للمفسر أن يعيد الضمير في فيه لكل من الثلاثة، وقد يجاب بأنه أعاده على الفعل لعمومه وشموله لباقي الثلاثة. قوله: ﴿ إِذْ تُفِيضُونَ ﴾ ظرف لقوله شهوداً. قوله: ﴿ وَمَا يَعْزُبُ ﴾ بضم الزاي وكسرها، قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ عَن رَّبِّكَ ﴾ أي عن علمه. قوله: (أصغر نملة) وقيل هو الهباء، وقيل أصغر بعوضة. قوله: ﴿ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ ﴾ أي في سائر الموجودات، وعبر عنه في السماء والأرض لمشاهدة الخلق لهما. واعلم أن عالم الملك ما يشاهده الخلق، كالأرض وما حوته، وما ظهر من السماء، وعالم الملكوت ما لا يشاهد، كما فوق السماء من العرش والكرسي والملائكة وغير ذلك، وعالم الجبروت هو عالم الأسرار، وعالم العزة هو ما استأثر الله بعلمه، كعلم ذاته وصفاته ومراداته. قوله: ﴿ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ ﴾ بالرفع والنصب، قراءتان سبعيتان، فالرفع إما على الابتداء والخبر، أو على أن ﴿ وَلاَ ﴾ عاملة عمل ليس، والخبر على كلا الإعرابين. قوله: ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾.
فتكون الجملة مستأنفة منقطعة عما قبلها، والنصب على أنها عاملة عمل إن، لأن أصغر وأكبر شبيهان بالمضاف، تعلق بهما شيء من تمام معناهما، وهو العمل في الجار والمجرور، وهاتان القراءاتان هنا فقط، وأما في سبأ فبالرفع باتفاق السبعة. قوله: ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ الاستثناء منقطع، والمعنى لكن جميع الأشياء في كتاب مبين، فهو استدراج على ما يتوهم نفيه لأن قوله لا يعزب عن ربك الخ. ربما يتوهم منه أنه لم يحط بها غير علم الله، فدفع ذلك بقوله: ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ أي لكن جميع الأشياء مثبتة في كتاب مبين أيضاً، ولا يصح أن يكون متصلاً، لأنه يصير المعنى لا يغيب عن علمه عن علم الله وذلك باطل، وهذا الإشكال لا يرد إلا على جعل قوله ولا أصغر ولا أكبر، معطوفاً على مثقال، وأما إن جعل مستأنفاً كما تقرر، فلا يرد الإشكال فتأمل. قوله: ﴿ أَلاۤ ﴾ أداة تنبيه، يؤتى بها ليتنبه السامع لما بعدها، ويعتني بها لعظمه. قوله: ﴿ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ ﴾ جمع ولي من الولاء، وهو العز والنصر، سموا بذلك لأنهم هم المنصورون بالله المعزوزون به، لا يطمعون في شيء سوى القرب منه، وولي فعيل، إما بمعنى فاعل، أي متولي خدمة ربه بكل ما أمكنه، بروحه وجسمه ودنياه، أو بمعنى مفعول، أي تولى الله إكرامه وعطاياه ونفحاته، فلم يكله لشيء سواه، فحيث تولى الخدمة، تولاه الله بالنعمة والنفحة، وهو سر قوله في الحديث:" يا دنيا من خدمني فاخدميه "فحينئذ صار معنى الولي المنهمك في طاعة ربه، الذي أفيضت عليه الأنوار والأسرار؛ لما ورد" من تقرب مني شبراً، تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً، تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة "وعلامة الولي كما في الحديث:" سئل رسول الله عن علامة الأولياء فقال: هم الذين ادارؤوا ذكر الله تعالى "وسبب ذلك ظهور أنوار المعرفة الكائنة في قلوبهم على ظواهرهم وذلك سر قوله تعالى:﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ﴾[الفتح: ٢٩] وقال أبو بكر الأصم: أولياء الله هم الذين تولى الله هدايتهم، وتولوا القيام بحق العبودية لله تعالى والدعوة إليه، والولي من الولاء، وهو القرب والنصرة فولي الله هو الذي يتقرب إلى الله بكل ما افترض الله عليه، ويكون مشتغلاً بالله، مستغرق القلب في نور معرفة جلال الله تعالى، فإن رأى، رأى دلائل قدرة الله، وإن سمع، سمع آيات الله، وإن نطق، نطق بالثناء على الله، وإن تحرك، تحرك في طاعة الله، وإن اجتهد اجتهد فيما يقربه إلى الله، لا يفتر عن ذكر الله، ولا يرى بقلبه غير الله، فهذه صفات أولياء الله، وإذ كان العبد كذلك، كان الله وليه وناصره ومعينه، قال تعالى:﴿ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾[البقرة: ٢٥٧].
وروي عن ابن مالك الأشعري قال:" كنت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لله عباداً، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة، قال: وفي ناحية القوم أعرابي، فجثا على ركبته ورمى بيديه ثم قال: حدثنا يا رسول الله عنهم، من هم؟ قال: فرأيت في وجه رسول الله البشرى، فقال: هم عباد من عباد الله، ومن بلدان شتى، لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها، ولا دنيا يتباذلون بها، يتحابون بروح الله، يجعل الله وجوهه نوراً، وجعل له منابر من لؤلؤة قدام الرحمن، يفزع الناس ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون "وروي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن من عباد الله أناساً، ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله، قالوا: يا رسول الله تخبرنا بأمرهم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية ﴿ أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ "وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" قال الله تعالى: (إن أوليائي من عبادي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهكم) ". قوله: ﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ لحفظ الله لهم في الدنيا من الأسباب التي توجب الخوف والحزن في الآخرة. قوله: (في الآخرة) أي لما في الحديث:" لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس "قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ قدر المفسر (هم) إشارة إلى أن الاسم الموصول خبر لمبتدأ محذوف، وهذه الجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره ما صفات أولياء الله؟ فأجاب: بأنهم الذين اتصفوا بالإيمان والتقوى، والمعنى أن أولياء الله هم الذين اتصفوا بالإيمان، وهو الاعتقاد الصحيح المبني على الدلائل القطعية والتقوى، وهي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات على طبق الشرع، ولذا قال القشيري: شرط الولي أن يكون محفوظاً، كما أن من شرط النبي أن يكون معصوماً، فكل من كان للشرع عليه اعتراض، فهو مغرور مخادع، وقال الإمام الشافعي وأبو حنيفة: إذا لم تكن العلماء أولياء الله، فليس لله ولي، وذلك في العالم العامل بعلمه. قوله: (فسرت في حديث صححه الحاكم بالرؤيا الصالحة) إلخ. أي لأنه لم يبقَ من النبوة إلا المبشرات، وهي الرؤيا الصالحة. وفي الحديث:" الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة "وقيل: المراد بالبشرى في الحياة الدنيا، نزول الملائكة بالبشارة من عند الله عند الموت، ويدل عليه قوله تعالى:﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾[فصلت: ٣٠] وقيل: البشرى في الحياة الدنيا الثناء الحسن، ومحبة الخلق لهم،" لما ورد عن أبي ذر: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه، قال: " عاجل بشرى المؤمن "وورد أيضاً" إذا أحب الله عبداً نادى جبريل فيقول له: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض "قال بعض المحققين: إذا اشتغل العبد بالله عز وجل استنار قلبه وامتلأ نوراً فيفيض من ذلك النور الذي في قلبه على وجهه، فيظهر عليه آثار الخشوع والخضوع، فيحبه الناس ويثنون عليه، فتلك عاجل بشراه، بمحبة الله له ورضوانه عليه، وقيل: البشرى في الحياة الدنيا ظهور الكرامات وقضاء الحوائج بسهولة، فكلما توجه العبد المحبوب لشيء من أموره قضى عاجلاً، والأحسن أن يراد بالبشرى في الدنيا جميع ما تقدم وأعظمها التوفيق لخدمة الله، وراحة الجسد في طاعة الله، وانشراح الصدر لذلك، وأما البشرى في الآخرة فالجنة وما فيها من النعيم الدائم، قال تعالى:﴿ يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾[الحديد: ١٢].
قوله: (لا خلف لمواعيده) أي التي وعد الله بها أولياءه وأهل طاعته، في كتابه وعلى ألسنة رسله، والمعنى لا تغيير لذلك الوعد. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ أي الوعد المتقدم من كونهم ﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ و ﴿ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ ﴾ وكون هذا الوعد لا يتغير ولا يتبدل. قوله: ﴿ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ أي الظفر بالمقصود الكامل الذي لا يضاهى.
قوله: ﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ ﴾ إما بفتح الياء وضم الزاي من باب نصر، أو بضم الياء وكسر الزاي من باب أكرم، قراءتان سبعيتان، والمعنى لا تهتم بأقوالهم ولا تحزن لها، فإن الله معزك وناصرك، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذاهم، وتبشير له بالنصر والظفر بالمقصود. قوله: (استئناف) أشار بذلك إلى أن الوقف تم عند قوله: ﴿ قَوْلُهُمْ ﴾ وقوله: ﴿ إِنَّ ٱلْعِزَّةَ ﴾ إلخ. كلام مستأنف من كلام الله تعالى في قوة التعليل لقوله: ﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾ أو واقع في جواب سؤال مقدر تقديره: إن الله أمره بعدم الحزن من أجل قولهم، مع أن أقوالهم توجب الحزن، فأجاب الله تعالى: بأن العزة لله يعطيها لمن يشاء، فأقوالهم لا تفيد شيئاً، فحينئذ لا يبالي بهم ولا بقولهم. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلَّهِ ﴾ أي الغلبة والسلطنة الكاملة ثابتة لله، يخلعها على من يشاء، ولذا قال في سورة المنافقون﴿ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾[المنافقون: ٨] قوله: ﴿ جَمِيعاً ﴾ حال من العزة. قوله: (فيجازيهم) أي على ما قدموا من خير وشر. قوله: (وينصرك) أي على من عاداك، وهذا يقال لكل من سلك طريقة سيد المرسلين وعمل بمقتضاها، وتعرض له الحساد بالإيذاء، فيقال له يحزنك قولهم وعيبهم وحسدهم، لأن العزة مملوكة وثابتة لله يعطيها لمن أراد، فلا تنزعج منهم ولا تلتفت لهم.
قوله: ﴿ أَلاۤ ﴾ أداة تنبيه. قوله: ﴿ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰت وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من واقعة على العاقل، فالمراد بمن في السموات والملائكة، وبمن في الأرض الإنس والجن، وخصهم بالذكر لشرفهم، وليعلم أن غيرهم من باقي المخلوقات، مملوكون لله بالطريق الأولى، وهذا هو الحكمة في تعبيره في الآية الأولى بما وفي هذه الآية بمن، أو يقال في الحكمة: إن التغاير إشارة إلى أن الخلق جميعاً في قبضته، ومملوكون له سبحانه وتعالى، فإن ما مستعملة في غير العاقل كثيراً، ومن بالعكس، فأفاد أن جميع ما في السموات وما في الأرض، مملوكون له حقيقة. قوله: ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ ٱلَّذِينَ ﴾ ﴿ وَمَا ﴾ نافية، وَ ﴿ يَتَّبِعُ ﴾ فعل مضارع، و ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ فاعل، و ﴿ يَدْعُونَ ﴾ صلته، و ﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ متعلق بيدعون، و ﴿ شُرَكَآءَ ﴾ مفعول ﴿ يَتَّبِعُ ﴾ ومفعول ﴿ يَدْعُونَ ﴾ محذوف قدره المفسر بقوله: (أصناناً) والمعنى لا يتبع الذين يعبدون غير الله أصناماً شركاء حقيقة، فالمنفي كونها شركاء حقيقة، وأما ادعاؤهم الشركة لله فثابت، وهذا نتيجة قوله: ﴿ أَلاۤ إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰت وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ فيصير المعنى حيث ثبت أن له جميع ما في السموات وما في الأرض عقلاء وغيرهم، تحقق وثبت أنه ليس له شريك أصلاً، إذ ليس شيء مما جعلوه إلهاً خارجاً عن السموات والأرض، فكيف يكون المملوك شريكاً تعالى الله عن ذلك. قوله: ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ ﴾ أي لأنهم مقلدون لآبائهم، حيث قالوا:﴿ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾[الزخرف: ٢٣].
قوله: ﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ هذا من حصر الموصوف في الصفة، أي ليس لهم صفة إلا الكذب، والخرص في الأصل الحرز والتخمين، والمراد منه هنا الكذب، كما أفاده المفسر. قوله: (يكذبون في ذلك) أي اتباعهم الظن. قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ هذا من جملة الأدلة القطعية، على أنه واحد لا شريك له، وفي هذه الآية احتباك، حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر، فحذف من الأول وصف الليل وهو مظلماً وذكر حكمته، وحذف من الثاني الحكمة وذكر وصفه، والأصل هو الذي جعل لكم الليل مظلماً لتسكنوا فيه، والنهار مبصراً لتبتغوا وتتحركوا فيه. قوله: ﴿ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ أي لتستريحوا من تعب النهار. قوله: (مجاز) أي عقلي من الإسناد للظرف. قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ ﴾ أي الجعل المذكور. قوله: ﴿ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك. قوله: (أي اليهود) أي حيث قالوا:﴿ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ ﴾[التوبة: ٣٠]، وقوله: (والنصارى) أي قالوا:﴿ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ﴾[التوبة: ٣٠] (ومن زعم) أي وهم مشركوا العرب.
قوله: ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾ أي تقدس وتنزه عن ذلك، قال تعالى:﴿ تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ﴾[مريم: ٩٠-٩٢] الآية. قوله: ﴿ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ﴾ أي المستغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، وهو دليل لما قبله. قوله: ﴿ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰت ﴾ إلخ. دليل لقوله: ﴿ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ﴾.
قوله: (استفهام توبيخ) أي تقريع وتهديد لهم، قوله: ﴿ قُلْ ﴾ أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، أن ينبههم على سوء عاقبتهم، لعلهم ينزجرون عما هم عليه. قوله: (لا يسعدون) أي لا يفوزون بمطلوبهم، بل هم خائبون خاسرون، وإن تكاثرت عليهم النعم فمآلها للزوال. قوله: ﴿ مَتَاعٌ ﴾ مبتدأ خبره محذوف، قدره المفسر بقوله: (لهم) وحينئذ فالوقف على قوله: ﴿ لاَ يُفْلِحُونَ ﴾ وهذا جواب عما يقال: إنا نراهم في حظوظ كثيرة، وسعة عيش وسلامة بدن، وغير ذلك من أنواع النعم الدنيوية، فدفع ذلك بقوله: ﴿ مَتَاعٌ ﴾ (قليل) فلا يستمر، وليس بنافع في الآخرة. قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ أي بسبب كفرهم.
قوله: ﴿ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ ﴾ لما ذكر سبحانه وتعالى، أحوال كفار قريش، وما كانوا عليه من القبائح، وما وعظهم الله به على لسانه صلى الله عليه وسلم، شرع في ذكر ما وقع للأنبياء مع أممهم، ليكون ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم، وعبرة للكفار لعلهم يؤمنون. قوله: ﴿ نَبَأَ نُوحٍ ﴾ أي بعض نبئه، إذ لم يذكر جميع خبره، وتقدم أن اسمه عبد الغفار بن لمك بن متوشلخ بن إدريس، ونوح لقبه، وبينه وبين إدريس ألف سنة، وقدم قصة قوم نوح، لأنهم أول الأمم هلاكاً، وأشدهم كفراً. قوله: ﴿ كَبُرَ ﴾ بضم الباء في المعاني، وأما في الأجسام فهو بكسر الباء. قوله: ﴿ مَّقَامِي ﴾ بفتح الميم باتفاق السبعة، وقرىء شذوذاً بضمها، فالأول ثلاثي، والثاني رباعي، وهو من باب الإسناد المجازي، وحق الإسناد أن يكون للذات، نظير ثقل عليَّ ظله. قوله: (لبثي فيكم) أي مكثي بينكم. قوله: ﴿ وَتَذْكِيرِي ﴾ إلخ. الواو بمعنى مع، والمعنى إن كان عظم عليكم مكثي بينكم، مع تذكيري بآيات الله، فأجمعوا أمركم إلخ، وذلك لأنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى توحيد الله، ففي الحقيقة الذي شق عليهم، إنما هو دعاؤه إلى التوحيد، ونصيحته لهم، لأن النصيحة لا يقبلها إلا الطبع السليم. قوله: ﴿ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ أي وثقت به لا بغيره، وفوضت أموري إليه. قوله: ﴿ فَأَجْمِعُوۤاْ ﴾ هذا هو جواب الشرط، وجملة ﴿ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ اعتراض بين الشرط وجوابه، ولا يصح أن تكون جواباً، لأن لا يحسن ترتبها على الشرط، إذ هو متوكل على الله دائماً، وأجمعوا بهمزة القطع هنا باتفاق السبعة، وهو يتعدى بنفسه وبحرف الجر، وأما ما يأتي في طه في قوله: (فأجمعوا كيدكم) فبهمزة الوصل والقطع قراءتان سبعيتان، فأجمع بهمزة القطع، مستعمل في المعاني كثيراً، وبهمزة الوصل في الأجسام كثيراً، يقال: أجمعت أمري، وجمعت جيشي. قوله: (اعزموا) أي صمموا ولا تترددوا. قوله: (على أمر تفعلونه) أي كهلاكي. قوله: (الواو بمعنى مع) أي فشركاءكم منصوب على المعية، لا معطوف على أمركم، لأن الشركاء ذوات، لا يتسلط عليه أجمعوا إلا بقلة، ويصح النصب بإضمار فعل لائق، والتقدير فأجمعوا أمركم، واجمعوا شركاءكم، بهمزة الوصل على حد: علفتها تبناً وماء بارداً   ، أو بقدر مضاف في المعطوف، والتقدير أمر شركاءكم. قوله: ﴿ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ﴾ أي لا يكن أمركم مخفياً، بل أظهروا ما في ضمائركم، فإني لست مبالياً بكم، لأن توكلي على ربي، فالغمة مأخوذة من قولهم: غم الهلاك إذا خفي على الناس. قوله: ﴿ ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ ﴾ أي أدوا إلي ما اردتموه وأوصلوه لي، وقرىء شذوذاً ثم أفضوا إلي بقطع الهمزة وبالفاء، من أفضى بالشيء، إذا انتهى إليه وأسرع، والمعنى ثم أسرعوا إلي بما عزمتم عليه. قوله: ﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أي دمتم على التولي والكفر، وجواب الشرط محذوف تقديره فلا ضرر على، وقوله: ﴿ فَمَا سَأَلْتُكُمْ ﴾ إلخ، تعليل لذلك المحذوف. قوله: (ثواب عليه) أي على التذكير. قوله: (فتولوا) منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية، وفيه حذف إحدى التاءين، والأصل فتولوا. قوله: ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ ﴾ أي ثوابي عليه لا على غيره، فأطلبه منه، قوله: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾ أي المنقادين لامتثال أوامره واجتناب نواهيه، في نفسي وتبليغ غيري. قوله: ﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ أي داموا واستمروا على تكذيبه. قوله: ﴿ فَنَجَّيْنَاهُ ﴾ أي أعقبنا تكذيبه النجاة له ولمن آمن معه. قوله: ﴿ وَمَن مَّعَهُ ﴾ أي من الإنس، وكانوا أربعين رجلاً، وأربعين امرأة. قوله: ﴿ فِي ٱلْفُلْكِ ﴾ تقدم أنه يستعمل مفرداً وجمعاً. قوله: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ ﴾ أي صيرناهم قوله: ﴿ وَأَغْرَقْنَا ﴾ إنما أخره ذكره، والإنجاء إشارة إلى أن الرحمة سابقة على الغضب، ولتعجيل المسرة لمن يمتثل الأمر. قوله: (فكذلك نفعل بمن كذبك) هذا هو المقصود من ذكر هذه القصص،
قوله: ﴿ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ ﴾ أي فكل رسول بعث إلى قومه. قوله: (كإبراهيم) أي فكذبوه وآذوه، حتى رموه في النار. قوله: (وهو) أي فكذبوه وآذوه، فأهلكهم الله. قوله: ﴿ فَجَآءُوهُمْ ﴾ أي جاء الأنبياء لأقوامهم ملتبسين بالآيات. قوله: ﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ﴾ أي لا يصح ولا يستقيم لهؤلاء الإيمان، فالمراد بعدم الإيمان، الإصرار على الكفر والتكذيب. قوله: ﴿ كَذَٰلِكَ ﴾ أي مثل هذا الطبع. قوله: (فلا تقبل الإيمان) أي لوجود الحجاب المانع منه، ففي الحقيقة لا يمكنهم الإيمان، إن كانوا في الظاهر مختارين. قوله: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ ﴾ هذا عطف قصة على قصة، وخاص على عام، لمزيد الغرابة في وقائع موسى مع فرعون، وكل هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ مُّوسَىٰ وَهَـٰرُونَ ﴾ أي فكل منهما رسول إلى فرعون وقومه، لكن هارون وزير لموسى ومعين له، قال تعالى حكاية عن موسى:﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ﴾[القصص: ٣٤] الآية. وهذا لا ينافي أن كلاً منهما رسول من عند الله، فمن أنكر رسالة واحد منهما كفر. قوله: ﴿ وَمَلإِيْهِ ﴾ تقدم أن الملأ بالقصر والهمز، الأشراف الذين يملؤون العيون بمهابتهم، والمجالس بأجسامهم، والقلوب بجلالهم، ولكن المفسر فسرهم هنا بالقوم، فحينئذ يكون المراد بهم ما يشمل الأتباع، وقيل المراد بالملإ خصوص الأشراف، وخصوا بالذكر لأن غيرهم تبع لهم، فإذا آمن الرؤساء آمن الأتباع، وإذا كفروا كفر الأتباع. قوله: (التسع) تقدم منها في الأعراف ثمانية: العصا واليد والسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وستأتي التاسعة هنا في قوله:﴿ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ ﴾[يونس: ٨٨] الآية. قوله: ﴿ فَٱسْتَكْبَرُواْ ﴾ الاستكبار ادعاء الكبر من غير استحقاق له. قوله: (عن الإيمان بها) أي بتلك الآيات التسع، وفي نسخة بهما، أي موسى وهارون. قوله: ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ ﴾ أي الآيات التسع، ففيه إظهار في مقام الإضمار، وفي الحقيقة أصل نزاعهم ودعواهم، أن ما جاء به سحر، إنما هو في اليد والعصا. قوله: ﴿ إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ هذه المقالة وقعت منهم بعد مجيء السحرة، وابتلاع العصا حبال السحرة وعصيهم. قوله: ﴿ قَالَ مُوسَىٰ ﴾ أي رداً عليهم بثلاث جمل، الأولى: ﴿ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ ﴾ (إنه لسحر) الثانية: ﴿ أَسِحْرٌ هَـٰذَا ﴾.
الثالثة: ﴿ وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ ﴾.
قوله: (إنه لسحر) مقول لقوله: ﴿ أَتقُولُونَ ﴾ حذف لدلالة ما قبله عليه، ولأنه لا ينبغي أن يذكر. قوله: (وقد أفلح من أتى به) الجملة حالية. قوله: ﴿ وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ ﴾ أي لا يفوزون بمطلوبهم، والجملة حالية من فاعل ﴿ أَتقُولُونَ ﴾.
قوله: (للإنكار) أي فالمعنى لا يليق، ولا ينبغي أن يقال هذا الكلام.
قوله: ﴿ قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا ﴾ لما لم يجدوا حجة يعارضونه بها، رجعوا للتقليد المحض، فقالوا ما ذكر قوله: ﴿ عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ أي من عبادة الأصنام. قوله: ﴿ وَتَكُونَ ﴾ معطوف على تلفتنا، أي ولتكون. قوله: (الملك) أي وسمي بالكبرياء، لأنه أكبر ما يطلب من أمور الدنيا، ولأنه يورث الكبرياء والعز. قوله: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ﴾ ليس هذا مرتباً على ما تقدم، فإن هذا القول وقع في ابتداء القصة، فالمقصود هنا بيان ذكر القصة لا بقيد ترتبها، فإن الواو لا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً. قوله: ﴿ فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ ﴾ عطف على محذوف تقديره فأتوا بالسحرة. قوله: (بعدما قالوا له) إلخ. أشار بذلك إلى أنه معطوف على محذوف، وأصل الكلام، فلما جاء السحرة، وجمعوا حبالهم وعصيهم، وقالوا لموسى: إما أن تلقي، وإما أن نكون نحن الملقين، قال موسى الخ. قوله: ﴿ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ ﴾ أبهمه إشارة إلى تحقيره. قوله: ﴿ فَلَمَّآ أَلْقَواْ ﴾ أي السحرة، وتقدم أنهم كانوا ثمانين ألفاً. قوله: (حبالهم وعصيهم) أي وتقدم أنه كانت حمل ثلاثمائة بعير. قوله: (استفهامية) أيْ شيء جئتم به؟ وهو للتوبيخ والتحقير. قوله: (بدل) أي من ما الاستفهامية، وأعيدت همزة الاستفهام، لتكشف استفهام المبدل منه، على حد قول ابن مالك: وبدل المضمن الهمز يلي   همزاً كمن ذا أسعيد أم عليقوله: (بهمزة واحدة إخبار) أي بإسقاط همزة الاستفهام، ووجهت هذه القراءة، بأن ما اسم موصول مبتدأ، وصلتها ﴿ جِئْتُمْ بِهِ ﴾ والخبر ﴿ ٱلسِّحْرُ ﴾، والحاصل: أن في همزة السحر الثانية وجهين، التسهيل والمد اللازم بقدر ثلاث ألفات، وهاتان القراءتان على جعل ما استفهامية، وخبرها ﴿ جِئْتُمْ بِهِ ٱلسِّحْرُ ﴾ بدل من ماء، وأما على إسقاطها فالجملة خبرية، وما اسم موصول مبتدأ.
﴿ جِئْتُمْ بِهِ ﴾ صلته، و ﴿ ٱلسِّحْرُ ﴾ خبر، وتحذف همزة أل عند الدرج. قوله: (سيمحقه) أي فلا يبقى له أثر أصلاً. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ﴾ إلخ. تعليل لقوله: ﴿ سَيُبْطِلُهُ ﴾.
قوله: ﴿ وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ ﴾ عطف على قوله: ﴿ سَيُبْطِلُهُ ﴾.
قوله: ﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ ﴾ أي الكافرون.
قوله: ﴿ فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ ﴾ الذرية اسم يقع على القليل من القوم. قوله: (أي فرعون) أشار بذلك إلى أن الضمير في قومه، عائد على فرعون، والمراد بذرية قومه، ناس يسير، منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون، وخازنه وأولاد خازنه، وما شطته، وقيل: إن الضمير عائد على موسى، وهم ناس من بني إسرائيل نجوا من قتل فرعون، وذلك أن فرعون لما أمر بقتل بني إسرائيل، كانت المرأة من بني إسرائيل، إذا ولدت ابناً وهبته لقبطية، خوفاً عليه من القتل، فنشأوا بين القبط، فلما كان اليوم الذي غلب موسى فيه السحرة آمنوا به، وقيل: هم بنو إسرائيل وهو الأقرب. قوله: ﴿ عَلَىٰ خَوْفٍ ﴾ أي مع خوف. قوله: ﴿ وَمَلَئِهِمْ ﴾ أي يملأ الذرية التي نشأوا بينهم، على التفسير الثاني، وأقاربهم حقيقة، على التفسير الأول الذي ذكره المفسر. قوله: ﴿ أَن يَفْتِنَهُمْ ﴾ أي فرعون، وأفرد لأنه هو المباشر للفتنة والخوف من الملأ كان بواسطته هو. قوله: ﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ ﴾ أي تطميناً لقلوبهم، وهذا يؤيد أن الضمير في قومه عائد على موسى، وقد يجاب عن المفسر بأنه سماهم قومه من حيث إنه مرسل لهم. قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ ﴾ جوابه ﴿ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ ﴾ وقوله: ﴿ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، والتقدير توكلتم عليه، أو هو شرط في الشرط، لأن الشرطين متى لم يترتبا في الوجود، فالشرط الثاني شرط في الأول. قوله: ﴿ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴾ أي منقادين لأحكام الله. قوله: ﴿ فَقَالُواْ ﴾ أي جواباً لموسى. قوله: ﴿ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا ﴾ إلخ، دعاء منهم لله سبحانه وتعالى. قوله: (أي لا تظهرهم علينا) أي لا تجعلهم ظاهرين علينا، وغالبين لنا. قوله: ﴿ وَنَجِّنَا ﴾ أي خلصنا. قوله: ﴿ بِرَحْمَتِكَ ﴾ أي إحسانك وإنعامك. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي الجاحدين لآياتك. قوله: ﴿ أَن تَبَوَّءَا ﴾ يحتمل أن أن تفسيرية لوجود ضابطها، وهو أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه، ويحتمل أنها مصدرية، أي أوحينا التبوء، والمعنى أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى وأخيه، أن يتخذا لقومهما مساكن بأرض مصر يتوطنون بها ويعبدون الله فيها، رغماً عن أنف عدوهم فرعون، وهذا طمأنينة للقوم، فإنهم كانوا خائفين من فرعون. قوله: ﴿ لِقَوْمِكُمَا ﴾ الأقرب أن اللام زائدة في المفعول الأول، وبيوتاً مفعول ثان. قوله: ﴿ بِمِصْرَ ﴾ متعلق بتبوآ، والمراد بمصر القديمة. قوله: ﴿ وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ﴾ أي اجعلوا مساكنكم مصلى، والمراد بالقبلة مكان التوجه لله، لا خصوص الفجوة المعلومة، واختلف في قبلتهم، قيل: هي الكعبة، وقيل بيت المقدس. قوله: (وكان فرعون منعهم من الصلاة) أي في أول أمرهم، فأمر الله موسى ومن معه، أن يصلوا في بيوتهم خفية، لئلا يظهروا عليهم ويؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، وذلك كما كان عليه المسلمون في أول الإسلام بمكة. قوله: (أتموها) أي بشروطها وأركانها المعلومة عندهم. قوله: ﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي قومك الذين آمنوا بك، وهذا خطاب لموسى وحده، لأن البشارة على لسانه، وما قبله من قوله: واجعلوا، وأقيموا، خطاب لموسى وقومه لاشتراكهم في ذلك.
قوله: ﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ ﴾ أي لما رأى فرعون وقومه، طغوا وبغوا، ولم ينقادوا للإسلام، واستمروا على الكفر والعناد، جاءه الإذن من الله بالدعاء عليهم، وقدم سبب الدعاء، وهو بطر النعم، إذ هو من أعظم المعاصي الموجبة لغضب الله وسلب النعم. قوله: ﴿ زِينَةً ﴾ هي عبارة عما يتزين به من اللباس والمال والأمور الجميلة، قال ابن عباس: كان من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة، جبال فيها ذهب وفضة وزبرجد وياقوت. قوله: ﴿ رَبَّنَآ ﴾ كرره تأكيداً للأول، وتلذذاً بخطاب الله. قوله: ﴿ لِيُضِلُّواْ ﴾ متعلق بآتيت في كلام الله، وأما قول المفسر (آتيتهم ذلك) إنما هو تتميم للجملة المؤكدة، واللام للعاقبة والصيرورة، وإلى هذا أشار المفسر بقوله: (في عاقبته). قوله: ﴿ عَن سَبِيلِكَ ﴾ أي طاعتك وتوحيدك. قوله: ﴿ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ ﴾ أي أزل صورها وهيئاتها، قال قتادة: بلغنا أن أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم صارت حجارة، ودنانيرهم ودراهمهم صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً أو أنصافاً أو أثلاثاً، وهذا الطمس آخر الآيات التسع. قوله: ﴿ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ﴾ أي أربط عليها، حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان، وإنما دعا بذلك، لما علم أن سابق قضاء الله وقدره فيهما أنهم لا يؤمنون، فوافق دعاء موسى ما قدر وقضى عليهم، فكان ترجماناً عن الله، وأما الدعاء على الكافر المجهول العاقبة بموته على الكفر فلا يحل. قوله: ﴿ فَلاَ يُؤْمِنُواْ ﴾ عطف على ﴿ لِيُضِلُّواْ ﴾ فيكون منصوباً، أو هو مجزوم بجعل لا دعائية. قوله: (دعاء عليهم) الأقرب لأنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره هذا دعاء عليهم. أي قوله: ﴿ فَلاَ يُؤْمِنُواْ ﴾ إلخ، ودفع بذلك ما قيل إنه خبر، وليس من جملة الدعاء فتأمل. قوله: (وأمن هارون على دعائه) أي المؤمن أحد الداعيين، فصحت التثنية في قوله: ﴿ دَّعْوَتُكُمَا ﴾ وهو جواب عما يقال إن الداعي موسى، فلم ثنى الضمير في دعوتكما. قوله: (فمسخت أموالهم) أي الدنانير والدراهم والنخيل والزروع والثمار والخبز والبيض وغير ذلك، وقيل: مسخت صورهم أيضاً، فكان الرجل مع أهله فصارا حجرين، والمرأة قائمة تخبر صارت حجراً، وهذا قول ضعيف، لأن موسى دعا على أموالهم، ولم يدع على أنفسهم بالمسخ. قوله: ﴿ فَٱسْتَقِيمَا ﴾ أي دوما على الاستقامة. قوله: ﴿ وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ خطاب لموسى وهارون، والمراد غيرهما على حد حد: لئن أشركت ليحبطن عملك، والمعنى لا تسلكا طريق الجاهلين، الذين يظنون أنه متى دعا الإنسان، أجيب بعين مطلوبة في الحال، لأن الإجابة على مراد الله، فربما يجاب الشخص بغير مطلوبه، أو تتأخر إجابته، لحكم يعلمها الله، وفي ﴿ تَتَّبِعَآنِّ ﴾ ثلاث قراءات سبعيات، تشديد النون مع تشديد التاء فقط، وتخفيفها مع تشديد التاء وتخفيفها. فعلى الأولى: تكون النون للتوكيد الثقيلة، وكسرت تشبيهاً بنون المثنى، والفعل مجزوم بحذف النون. وعلى الثانية والثالثة تكون الجملة اسمية، والنون نون الرفع، والتقدير وأنتما لا تتبعان. قوله: (روي أنه) أي نزول العذاب بهم، مكث أربعين سنة من حين الدعوة، وهذا التأخير لحكمة يعلمها الله.
قوله: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ ﴾ إلخ لما استجاب الله دعاء موسى وهارون، بالطمس على أموالهم، والربط على قلوبهم، أوحى الله إلى موسى وهارون، أن أسر بعبادي، واخرج بهم من أرض مصر، وورد أن يعقوب لما دخل مصر مع ذريته، لاجتماعهم بيوسف، كانوا اثنين وسبعين، فلما خرج موسى بهم، كانوا ستمائة الف، وكان فرعون غافلاً عن ذلك، فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته، خرج في عقبهم، فلما أدركهم قالوا لموسى: أين المخلص، والبحر أمامنا والعدو وراءنا، فلما قربوا، أوحى الله إليه أن أضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق، فقطعه موسى وبنو إسرائيل، فلحقهم فرعون وكان على حصان أدهم، وكان معه ثمانمائة الف حصان على لون حصانه، سوى سائر الألوان، وكان يقدمهم جبريل على فرس أنثى، وميكائيل يسوقهم حتى لا يبقى منهم أحد، فدنا جبريل بفرسه، فلما وجد الحصان ريح الأنثى، لم يتمالك فرعون نفسه، فنزل البحر وتبعه جنوده، حتى إذا اكتملوا جميعاً في البحر، وهم أولهم بالخروج، انطبق عليهم، وحصان بوزن كتاب، وجمعه حصن ككتب، كذا في القاموس. قوله: ﴿ وَجَاوَزْنَا ﴾ من المجاوزة وهي التخطية والتعدية، والمعنى جعلناهم مجاوزين البحر، بأن جعلناه يبساً وحفظناهم حتى بلغوا الشط. قوله: ﴿ ٱلْبَحْرَ ﴾ أي بحر السويس. قوله: (لحقهم) أي مشى خلفهم. قوله: ﴿ بَغْياً ﴾ أي في الأقوال ﴿ وَعَدْو ﴾، أي في الأفعال ففرعون متعد على بني إسرائيل، بالأقوال الكاذبة والأفعال الجائرة. قوله: (مفعول له) أي لأجله، ويصح نصبهما على الحال، أي باغين ومتعدين. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ ﴾ غاية لاتباعه. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (استئنافاً) أي واقعاً في جواب سؤال مقدر، أو على إضمار القول، والتقدير قائلاً إنه إلخ. قوله: (كرره ليقبل منه) أي كرر الإقرار بالإيمان ثلاث مرات. قوله: ﴿ آمَنتُ ﴾، وقوله: ﴿ أَنَّهُ ﴾ إلخ، وقوله: ﴿ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾.
قوله: (فلم يقبل) أي فمات على كره، وهذا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما قيل من أنه مات مؤمناً، فلا يلتفت له. قوله: (ودس جبريل) أي بأمر من الله، وهو لا يسأل عما يفعل، وذلك نظير أمرنا بقتل الكفار، وبهذا تعلم جواب إشكال الفخر الرازي في هذا المقام. قوله: (من حمأة البحر) بسكون الميم وتحريكها، وهي الطين الأسود. قوله: (مخافة أن تناله الرحمة) أي وليس من أهلها لسابق علم الله بعدم إيمانه. إن قلت: ما الحكمة في عدم قبوله مع كون الإيمان وقع منه ثلاث مرات؟ أجيب بأجوبة، منها: أنه إنما آمن عند نزول العذاب، وهو حينئذ غير نافع، قال تعالى:﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾[غافر: ٨٥] ومنها: أن الإيمان بالله، من غير إقرار للرسول بالرسالة غير نافع، وفرعون لم يقر برسالة موسى عليه السلام، فلم يصح إيمانه. ومنها: أن قوله: ﴿ آمَنَتْ ﴾ ليس قاصداً به الإيمان حقيقة، بل قصد به النجاة من البحر على حكم عادته، إذا أصابته مصيبة رجع واستجار. وحكي أن جبريل عليه السلام، أتى لفروعون بفتوى: ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته، فكفر نعمته، وجحد حقه، وادعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه. يقول أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده، الكافر نعمته، أو يغرق في البحر، فلما غرق، رفع جبريل إليه خطه. قوله: (وقال له) معطوف على قوله ودس، وقدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ آلآنَ ﴾ ظرف لمحذوف، والجملة مقول لذلك القول المقدر. قوله: ﴿ آلآنَ ﴾ استفهام توبيخ وتقريع. قوله: ﴿ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾ الجملة الحالية، والمعنى آلآن تتوب، وقد ضيعت الإيمان في وقته الذي يقبل فيه، وهو غير وقت العذاب.
قوله: ﴿ فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ﴾ بالتشديد والتخفيف، قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ بِبَدَنِكَ ﴾ حال من الضمير في ﴿ نُنَجِّيكَ ﴾ والمعنى فاليوم نخرجك من البحر، ملتبساً ببدنك فقط، لا مع روحك كما هو مطلوب، وقيل المراد بالبدن الدرع، لأن له درعاً كان يعرف بها، فلما ألقي على وجه الأرض وعليه درعه عرفوه. قوله: (فيعرفوا عبوديتك) أي ويبطلوا دعوى ألوهيتك، لأن الإله لا يموت ولا يتغير. قوله: (شكوا في موته) إنما وقع منهم الشك، لشدة ما حصل في قلوبهم من الرعب منه، فأمر الله البحر فألقاه على الساحل أحمر قصيراً كأنه ثور، فرآه بنو إسرائيل فعرفوه، فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتاً أبداً. قوله: ﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ هذا امتنان من الله تعالى على بني إسرائيل بنعم عظيمة. قوله: ﴿ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ﴾ أي أنزلناهم منزلاً حميداً صالحاً وإنما وصف المكان بالصدق لأن عادة العرب إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق يقولون هذا قدم صدق ورجل صدق. قوله: (وهو الشام ومصر) أي وقيل مصر فقط لأنها التي كانت تحت أيدي فرعون وقومه. قوله: ﴿ فَمَا ٱخْتَلَفُواْ ﴾ أي من فعلنا بهم هذا الفعل من بني اسرئيل وذلك أنهم قبل مبعث النبي مؤمنين به غير مختلفين في نبوته لما يجدونه مكتوباً عندهم فلما بعث اختلفوا فيه فآمن بعضهم كعبد الله بن سلام وأضرابه وكفر بعض. قوله: ﴿ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ ﴾ أي القرآن وذلك أن اليهود كانوا يخبرون بمبعثه وصفته ويفتخرون بذلك على المشركين فلما بعث اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر. قوله: (فرضاً) جواب عما يقال إن الشك محال على رسول الله فأجاب بأنه على فرض المحال، وأجيب أيضاً بأن الخطاب له والمراد غيره، وهذا هو الأتم في تلك الآيات.
قوله: ﴿ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ﴾ إلخ أي فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم. قوله: (يخبروك) محزوم في جواب الأمر وهو اسأل. قوله: ﴿ لَقَدْ جَآءَكَ ٱلْحَقُّ ﴾ أي اليقين من الخبر بأنك رسول الله حقاً، وهذا كلام منقطع عما قبله وفيه معنى القسم تقديره والله لقد جاءك الحق إلخ. قوله: ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ ﴾ أي دم على ما أنت عليه من عدم الشك والإمتراء قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ﴾ أي ثبت حكمه وقضاؤه بموتهم على الكفر فلا يأتي منهم الإيمان أصلاً إذ لا معقب لحكمه سبحانه وتعالى. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ﴾ غاية في النفي. قوله: (فلا ينفعهم حينئذ) أي كفرعون وأضرابه.
قوله: ﴿ فَلَوْلاَ ﴾ أشار بقوله: (هلا) إلى أنها تحضيضية، وهو للتوبيخ مع النفي، وكان فعل ماض تام، و ﴿ قَرْيَةٌ ﴾ فاعلها، و ﴿ آمَنَتْ ﴾ صفة قرية، وقوله: ﴿ فَنَفَعَهَآ ﴾ معطوف على ﴿ آمَنَتْ ﴾ عطف مسبب على سبب، والمعنى لم تكن قرية من تلك القرى التي تقدمت قوم يونس كقوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى آمنت، فيتسبب على إيمانها كونه نافعاً لها، والحاصل: أن الآية تضمنت تحضيضاً وتوبيخاً ونفياً، فالنفي راجع لمن مضى، والتوبيخ والتحضيض راجعان لمن يسمع. قوله: (أريد أهلها) أشار بذلك إلى أن في الكلمة مجازاً مرسلاً من باب تسمية الحال باسم المحل، لا مجازاً بالحذف. قوله: ﴿ إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ ﴾ أشار المفسر إلى أن الاستثناء منقطع، حيث عبر بلكن، وضابط الاستدراك موجود، وهو رفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه، فأتى به هنا لدفع توهم أنهم كغيرهم لم يؤمنوا حتى نزل بهم العذاب، فرفع ذلك التوهم، بأن قوم يونس آمنوا قبل نزول العذاب، بل عند حضور أماراته، ولذلك نفعهم إيمانهم، وأما غيرهم، فلم يؤمن قبل نزوله، أعم من أن يكون آمن وقت نزوله، أو لم يؤمن أصلاً. قوله: (ولم يؤخروا إلى حلوله) أي بل عجلوا الإيمان عند ظهور أماراته وحاصل قصتهم، على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ووهب وغيرهم، قالوا: إن قوم يونس كانوا بقرية تسمى نينوى من أرض الموصل، وكانوا أهل كفر وشرك، فأرسل الله عز وجل إليهم يونس عليه السلام، يدعوهم إلى الإيمان بالله، وترك عبادة الأصنام، فدعاهم فأبوا عليه، فقيل له أخبرهم أن العذاب يصحبهم إلى ثلاث، فأخبرهم بذلك، فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذاباً قط، فانظروا، فإن بات فيكم فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم؛ فلما كان جوف الليل، خرج يونس من بين أظهرهم، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب، فكان فوق رؤوسهم. قال ابن عباس: إن العذاب كان أهبط على قوم يونس، حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، فلما دعوا كشفه الله عنهم، وقال قتادة: قدر ميل، وقال سعيد بن جبير: غشى قوم يونس العذاب، كما يغشى الثوب الغبر، وقال وهب: غامت السماء غيماً أسود هائلاً، يدخن دخاناً شديداً، فهبط حتى غشى مدينتهم واسودت أسطحتهم، فلما رأوا العذاب أيقنوا بالهلاك، فطلبوا نبيهم يونس فلم يجدوه، فقذف الله في قلوبهم التوبة، فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، ولبسوا المسوح، وأظهروا الإيمان والتوبة، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والدواب، فحن البعض للبعض، فحنت الأولاد إلى الأمهات، والأمهات إلى الأولاد، وعلت الأصوات، ولجؤوا جميعاً إلى الله تعالى، وتضرعوا إليه وقالوا آمنا بما جاء به يونس، وتابوا إلى الله وأخلصوا النية، فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم وكشف ما نزل بهم من العذاب بدما أظلهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء، وكان يوم الجمعة، قال ابن مسعود: بلغ من توبتهم، أنهم ردوا المظالم فيما بينهم، حتى انه كان الرجل يأتي إلى الحجر، وقد وضع عليع أساس بنائه فيقلعه فيرده، وروى الطبراني بسنده قال: لما غشي قوم يوس العذاب، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له: إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ قال: قولوا يا حي حين لا حي، ويا حي يحيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت. فقالوها فكشف الله عنهم العذاب، ومتعوا إلى حين، وقال الفضيل بن عياض: إنهم قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم وأجل، فافعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله، فلما خرج يونس جعل ينتظر العذاب، فلم ير شيئاً، فقيل له: ارجع إلى قومك، قال: وكيف أرجع إليهم فيجدوني كذاباً؟ وكان كل من كذب ولا بينة له قتل، فانصرف عنهم مغاضباً فنزل في سفينة فلما بلغت وسط البحر وقفت، وكان من عادتهم أن السفينة لا تقف إلا إذا كان فيها عبد أبق، فضربوا القرعة فخرجت على يونس، فألقوه في البحر فالتقمه الحوت، فنادى في الظلمات: أن لا إله إلا أنت سبحانك، إن كنت من الظالمين، فاستجاب الله نداءه، وأخرجه من بطن الحوت ضعيفاً فأنبت الله شجر القرع، ورجع إلى قومه وكانوا يزيدون عن مائة الف، ففرحوا به وأحبوه وآمنوا به، فهنيئاً لمن رجع إلى مولاه، وندم على ما جناه فإن الله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات. قوله: (انقضاء آجالهم) تفسير للحين، ودفع بذلك ما قيل: إن قوم يونس من المنظرين لا يموتون إلا عند النفخة الأولى، فأجاب المفسر: بأن معنى الحين انقضاء آجالهم. قوله: ﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ ﴾ مفعول شاء محذوف، أي إيمان جميع الناس. قوله: ﴿ كُلُّهُمْ ﴾ توكيد لمن، و ﴿ جَمِيعاً ﴾ حال منها، والمعنى لو أراد الله إيمان من في الأرض لآمنوا كلهم، حال كونهم مجتمعين. قوله: ﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف والتقدير أتحزن على عدم إيمانهم وتتأسف عليه، أفأنت تكره إلخ. قوله: (لا) أي لست بمكره للناس على الإيمان، والمعنى ليس عليك إلا البلاغ، لا خلق الإيمان في قلوبهم وإكراههم عليه، فإن الأمر لله لا خالق سواه.
قوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ ﴾، إلخ، بيان وتعليل لما قبله، والمعنى ما ثبت لنفس من الأنفس أن تؤمن في حال من الأحوال، إلا في حال إرادة الله الإيمان لها. قوله: ﴿ وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ ﴾ معطوف على محذوف، والتقدير فيريد الله الإيمان للبعض ويجعل الرجس، إلخ. قوله: ﴿ قُلِ ٱنظُرُواْ ﴾ بضم اللام وكسرها، قراءتان سبعيتان، فالضم على نقل ضمة الهمزة إلى اللام، والكسر على أصل التخلص، والمعنى تفكروا وتأملوا واتعظوا. قوله: (من الآيات) بيان لما. قوله: ﴿ وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ ﴾ أي المذكورة في قوله: ﴿ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ ففي الكلام إظهار في مقام الإضمار، والمعنى لا تنفع الآيات والنذر قوماً لا يؤمنون. قوله: (أي مثل وقائعهم من العذاب) أي وهو القتل بالسيف. قوله: ﴿ فَٱنْتَظِرُوۤاْ ﴾ (ذلك) أي مثل وقائع الأمم السابقة. قوله: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي ﴾ بالتشديد باتفاق العشرة، وثبوت الياء لفظاً وخطاً. قوله: ﴿ رُسُلَنَا ﴾ أي على سبق على محمد. قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ صفة لمصدر محذوف، أي إنجاء مثل ذلك الإنجاء، والعامل فيه ﴿ نُنجِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ و ﴿ حَقّاً عَلَيْنَا ﴾ جملة معترضة بين العامل والمعمول. قوله: ﴿ نُنجِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ بالتخفيف والتشديد، تحذف منه الياء لفظاً وخطاً. قوله: (حين تعذيب المشركين) أي في الدنيا والآخرة. قوله: (أي أهل مكة) أي كفار المعارضون. قوله: ﴿ مِّن دِينِي ﴾ أي الذي جئت به عن ربي قوله: (إنه حق) بدل من ديني، والمعنى إن كنتم في شك من حقية ديني وصحته، فلا أعبد الخ. قوله: (لشككم فيه) أي في دين الحق، أي فالحامل لكم على عبادة غير الله، شككم في حقيقة ديني، وأما أنا فليس عندي شك في حقّيته فلذلك لا أعبد غير الله، فكفرهم بالشك لأنه لا يأتي منهم إنكار كون الله حقاً، ودين الإسلام حقاً، على سبيل الجزم بذلك، لقيام الأدلة العقلية على ذلك. قوله: ﴿ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ﴾ خص هذا الوصف بالذكر، تهديداً وتخويفاً لهم. قوله: ﴿ أَنْ أَكُونَ ﴾ أن مصدرية مجرورة بالباء المقدرة كما قال المفسر، أي بكوني من المؤمنين المصدقين بما جاء من عند الله، لأنه مرسل لنفسه، فهو واجب عليه الإيمان بما أرسل به.
قوله: ﴿ وَأَنْ أَقِمْ ﴾ قدر المفسر القول إشارة إلى أن ﴿ وَأَنْ ﴾ وما دخلت عليه، في محل نصب مقول لذلك القول. قوله: (مائلاً إليه) أي مخلصاً له العمل ظاهراً وباطناً، فعلى المكلف أن يتخلق بخلق رسول الله، بأن لا يميل لغير الله ظاهراً وباطناً، يكون كله لله، فلا يشرك معه غيره أصلاً، لا في الظاهر، ولا في الباطن، فكما أن الخالق لا شريك له فيما خلقه، كذلك ينبغي للمخلوق أن لا يشرك في عبادته غيره. قوله: ﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ أي غيره. قوله: (فرضاً) جواب عما يقال: إن عبادة النبي غير الله مستحيلة، فكيف يخاطب بذلك، أجاب المفسر: بأن ذلك على سبيل الفرض التقدير وأجيب أيضاً: بأن الخطاب له والمراد غيره. قوله: ﴿ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ﴾ أي لا دافع ولا مانع له، إلا الله حقيقة، فنسبة النفع أو الضر لغير الله، باعتبار أن الله أجرى على أيديهم ذلك، لا باعتبار أنهم الخالقون له، فإن ذلك لهم من هذه الحيثية كفر. قوله: ﴿ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ ﴾ عبر في جانب الخير بالإرادة دون المس، إشارة إلى أن الخير، لا يتوقف إتيانه على سبب وتهيىء من العبد، بخلاف الضرر، فلا بد من تقدم سببه، قال تعالى:﴿ وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾[الشورى: ٣٠].
قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ﴾ أي الستار للذنوب الماحي لها. قوله: ﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾ أي المنعم الغفور المنجي من النار، بسبب محو الذنوب، والرحيم المدخل للجنة بسبب الإنعام والإحسان. قوله: ﴿ ٱلْحَقُّ ﴾ أي القرآن ومن جاء به، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (لأن ثواب اهتدائه له) أي فلا يصل لله ممن كفر ضر، ولا ممن نفع، تنزه سبحانه وتعالى عن أن يتكمل بمخلوق. قوله: (لأن وبال ضلاله عليها) أي عذاب ذلابه على نفسه، فلا يشاركه أحد في هداية نفسه، ولا في ضلاله، بل كل امرىء بما كسب رهين. قوله: ﴿ بِوَكِيلٍ ﴾ أي بحفيظ موكول إلى أمركم، وإنما أنا بشير. قوله: (فأخبركم على الهدى) أي أكرهكم عليه. قوله: ﴿ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ ﴾ أي من القرآن. قوله: (على الدعوة) أي دعائك إياهم للإيمان. قوله: (وأذاهم) أي لك، فكان رسول الله يسمع سبه بأذنه ولا يتكلم قوله: (أعدلهم) أي فلا يخطىء في حكمه أصلاً، وأما غيره فتارة يخطىء في حكمه، وتارة يعدل، فأفعاله سبحانه وتعالى دائرة بين الفضل والعدل، فإثابته المؤمن بالفضل، وتعذيبه العاصي بالعدل. قوله: (بالقتال) أي الجهاد، وأشار المفسر بذلك إلى قول ابن عباس: إن هذه الآية منسوخة بآية القتال، والله أعلم.
Icon